الفصل الثاني والعشرون

المؤامرة

فلما جلسا، قال الفقيه لسعيد: «إننا قمنا بأشياء كثيرة في هذا اليوم.»

قال سعيد: «ولكنه انتهي بخير. إن الأمير عبد الله رجل فاضل عاقل، وأظنك تتردد عليه كثيرًا، فليتك تقيم عندنا، فنسكن معًا ونتعاون على الدرس، وتتفرغ لخدمته. إني أشعر بميل شديد إليه، ولا أدخر وسعًا في تحقيق كل ما يرضيه لما آنسته من لطفه وتواضعه.»

فقال الفقيه: «كثيرًا ما دعاني للإقامة في قصره، وأنا أتردد، وأما الآن فإني سأستجيب لرغبته وأنتقل إليه.» ثم اعتدل في مجلسه والتفت إلى سعيد والسراج خلف ظهره، فوقع ضوءه على عيني سعيد فزادهما لمعانًا وإشراقًا، وتخيل فيهما قوة كادت تسيطر عليه فقال: «إن من يحب الأمير عبد الله ينبغي أن يدعه يعرف حقيقة مركزه.»

فقال سعيد: «ظهر لي أنه كثير التواضع راغب في العزلة والابتعاد عن السياسة، ولولا ذلك ما ظننت أن أخاه الحكم ينال الخلافة دونه.»

فأشرقت أسارير الفقيه فرحًا بهذا التصريح وقال: «وقد تعبت وأنا أشرح له ذلك وهو ينكره عليَّ، فإذا ساعدتني أقنعناه، فإني أرى في عينيك قوة الإقناع.»

قال سعيد: «أنا لا ألتمس إقناعه بالقوة، ولا أظنه يحتاج إلى إقناع بأنه أفضل من أخيه. ولكنه يخشى إظهار ذلك، فإذا كان واثقًا من محدثه صرَّح بما يدور في خلده. ثم هو لا يكفيه أن يفضِّل نفسه على أخيه بالقول، وإنما لا بد من العمل؟»

فقال الفقيه: «نبدأ أولًا بالقول. هل تقنعه أنه أولى بالخلافة من أخيه؟»

قال سعيد: «يجب أن تبدأ أنت بذلك. أقنعه أولًا بأن أخاه الحكم متكبر، يتوهم أنه فوق إخوته وسائر أهله، وأظهر له أن في قرطبة وسائر الأندلس أحزابًا كبيرة ليسوا راضين عن بذخ الخليفة عبد الرحمن الناصر وإسرافه في بناء القصور وغيرها، وأنهم ناقمون على الحالة الحاضرة، وربما بايعوا واحدًا من غير أبناء عبد الرحمن الناصر، وهو أولى بهذه المبايعة. ولا شك في أن هذا يهوِّن عليه القبول.»

وكان الفقيه مصغيًا بكليته إلى ما يقوله سعيد، وقد أدهشه دهاؤه، وشعر بالفرق العظيم بين رأييهما، وتحقق أنه إذا أتى الأمير عبد الله من هذه الناحية أقنعه، ولكن كبرياءه منعته من التصريح بفضل سعيد في إبداء هذا الرأي، فقال: «بورك فيك من رجل عاقل، وهذا ما خطر لي أن أقوله للأمير عبد الله، ولكنني أخشى إن سألني أين هذه الأحزاب أن أعجز عن الجواب.»

فأشار سعيد بأصبعه السبابة إلى صدره وقال: «اسألني عند الحاجة فأرشدك، واحذر إذا ذكرت ما تقدم للأمير عبد الله أن تشير إليَّ أو تذكر اسمي، إلا إذا سألك عن الأحزاب فقل له: «سنسأل سعيدًا الوراق لعله يعرف؛ لأنه كان كثير الاختلاط بالناس.» هل فهمت؟»

فأعجب الفقيه برأي سعيد بأن لا يذكر اسمه في ذلك، فيحسب الأمير عبد الله أنه هو صاحب تلك الآراء فيعلوا قدرًا في عينيه، فقال: «فهمت. أنت لا تريد أن أروي شيئًا من ذلك عنك.»

قال سعيد: «نعم؛ لأن الغرض تقديم النصيحة للأمير عبد الله، ولا عبرة فيمن يقدمها.»

ففرح الفقيه بذلك، وأراد أن يختتم الحديث فقال: «سأفعل كما أمرت. أظنك في حاجة إلى النوم الآن. أستودعك الله إلى صباح غد.»

وصفق الفقيه فجاء الخادم فقال له: «أخرج هذا السراج من هذه القاعة.» فأخرجه وتهيأ للنوم.

فنام كلاهما ملء عينيه، والآمال ملء صدره، وأكثرهما رجاءً الفقيه، فإنه تصور أن الفوز طوع إرادته، وأنه متى غضب الأمير عبد الله على أخيه ملك ناصية الدولة، ولم يفكر فيما يعترض ذلك من العوائق، وما يقتضيه تغلُّب عبد الله من المشقة؛ إذ كان من أصحاب الأوهام الذين يقنعهم الخيال، ويكتفون بالقشور الظاهرة أو التمنيات القلبية، وقلَّما يدرسون المسائل من الوجهة العملية، فيغلب الفشل على مشاريعهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤