الفصل الخامس والعشرون

الجواب

ثم جاء الحاجب ووقف بجانب الستارة، فتذكَّر الأمير عبد الله أنه ينبغي أن يجيب الرسول على كتابه، فقال: «لعل الرسول ينتظر مني جوابًا؟»

فأشار ساهر برأسه أن: «نعم.»

فقال الأمير عبد الله: «قل له ليس عندي جواب.» قال ذلك بنغمة التهديد.

فخرج ساهر وفعل ما أمره به الأمير عبد الله، ولكنه تلطَّف في الأسلوب، فبدلًا من أن يقول: «ليس عند الأمير جواب.» قال: «سيجيب على الكتاب بعد الآن.»

فقال الرسول: «إنني مكلَّف بأن أعود بالجواب في هذه الساعة.»

فرأي ساهر ألا يبلغ الأمير كلام الرسول على تلك الصورة فاستمهله، وهمَّ بالرجوع، وكانت الشمس قد قاربت الغروب، فسمع وقع حوافر بغلة في الحديقة، ثم رأى الفقيه قادمًا على بغلته حتى إذا وصل ترجَّل وهمَّ بالدخول، فرأى رسول الحكم بالباب فعرفه، فتقدَّم الرسول وسلَّم على الفقيه، فسأله عن سبب وجوده هناك فقال: «جئت برسالة من مولانا ولي العهد وأنا واقف ألتمس الجواب.»

فدخل الفقيه وهو يقول في نفسه: «ماذا عسى أن تكون تلك الرسالة؟» حتى أقبل على مجلس الأمير وعابدة، فاستأذن ودخل، فدعاه الأمير عبد الله إلى الجلوس والغضبُ بادٍ على محيَّاه، فعلم الفقيه أن سبب غضبه متعلق برسالة ولي العهد، فسرَّه ذلك لأنه يساعده على تحقيق غرضه، فقال: «مالي أرى مولاي الأمير غاضبًا؟»

قال الأمير عبد الله: «لا شيء.» وأراد أن يتظاهر بعدم الاكتراث.

فقال الفقيه: «رأيت رسول ولي العهد الحكم بالباب. هل بلغك خبر مجيئه؟»

قال الأمير عبد الله: «نعم، وقد أخليت سبيله. ألم ينصرف؟»

قال الفقيه: «رأيته لا يزال واقفًا.»

فصفق الأمير عبد الله فدخل ساهر الحاجب، فابتدره قائلًا: «ألم تصرف الرسول؟»

قال ساهر: «بلَّغته أمر مولاي، فقال إنه يريد الجواب الآن.»

فلم يتمالك الأمير عبد الله عن التحفز للوثوب، ثم تراجع وقال: «أخبره بأن ليس عندي جواب. ولينصرف.»

قال ساهر: «قلت له يا مولاي، ولكنه لم ينصرف.»

فأظهر الفقيه مشاركته للأمير في غضبه، فقال: «عجبًا من هؤلاء! أيأمره الأمير بالانصراف ولا ينصرف؟! وهل هو إلا رسول مكلَّف؟!» والتفت إلى الأمير عبد الله وقال: «هل يأذن مولاي أن أعرف رسالة هذا الرسول وأنا أصرفه حالًا.»

فمد الأمير عبد الله يده إلى الكتاب وأخرجه من تحت الوسادة ودفع به إلى الفقيه وقال: «هذا هو الكتاب. اطلع عليه.»

فتناوله الفقيه وقرأه، وهذا ما جاء فيه:

من الحكم ولي العهد إلى أخيه الأمير عبد الله

أما بعد، فقد بلغنا أن جارية أديبة تحفظ الشعر وتُحسن الغناء جاءتك، فأحببنا أن نراها، فإذا جاءك كتابي فأرسلها إليَّ مع رسولي، ودمت يا أخي بخير وعافية.

ثم رفع الفقيه بصره إلى الأمير عبد الله، فرآه ينظر إليه ويتوقع رأيه فقال: «قد قرأت الرسالة يا سيدي، فماذا ترى؟»

قال الأمير عبد الله: «قد علمت رأيي، وهل ترى أن أجيبه إلى طلبه؟!»

فرأى الفقيه أن يغتنم تلك الفرصة لإثارة نقمة الأمير عبد الله على أخيه الحكم، فقال: «قد رأيتَ الصواب، ولا أظن الحكم يعني بطلبه هذا إلا الاستئثار لنفسه بكل شيء، كأنه يرى ذلك من حقوق ولاية العهد.»

فاغتصب الأمير عبد الله ضحكة وقال: «نعم من حقوق ولاية العهد. ألم يكفِه سكوتي عن تلك الولاية حتى يعتدي إلى هذا الحدِّ؟!»

فقال الفقيه: «ومع ذلك فإن هذا الأمر يتعلق بسعيد، وله فيه الرأي الأول بعد أمر مولاي الأمير.»

قال الأمير عبد الله: «مهما يكن من ذلك فليس لرسالة أخي جواب.»

قال الفقيه: «لا أرى بأسًا من الإجابة على رسالته بما تراه.»

قال الأمير عبد الله: «وماذا أكتب إليه؟»

قال الفقيه: «اكتب ما شئت. اعتذر له بأنك لا تستطيع أن تجيبه على طلبه لأسباب عندك لا تستطيع بيانها.»

فنادى الأمير عبد الله الحاجب، فدخل فقال له: «أحضر لي دواة وقرطاسًا!» فجاءه الحاجب بهما، فتناول القلم وكتب:

من عبد الله إلى أخيه الحكم ولي العهد

أما بعد، فقد جاءني كتابك فتأملته وعلمت ما به، ولكني لا أستطيع إجابة طلبك. فأرجو قبول عذري، والسلام.

وختم الأمير عبد الله الكتاب ودفعه إلى ساهر الحاجب وقال له: «سلِّم هذا الكتاب إلى الرسول.» فخرج وسلمه إليه.

وعاد الأمير عبد الله إلى ما كان فيه، وأشار إلى عابدة أن تغني، وكانت قد لاحظت شيئًا يهمها عندما سمعت ذكر اسم سعيد في أثناء الحديث، فراحت تغني:

ستعلم في الحساب إذا التقينا
غدًا يوم القيام مَن الظَّلومُ
وينقطع التلذُّذ عن أناسٍ
من الدنيا وتنقطع الهمومُ
إلى ديَّان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصومُ

فكانت تغني والأمير عبد الله مطرق يهز رأسه، وقد جاشت فيه عاطفة الاعتبار، ولما فرغت من البيت الأخير ردد قولها: «وعند الله تجتمع الخصوم» ثم قال: «رحم الله أبا العتاهية.»

واغتنم الفقيه تلك الفرصة وجعل يمدح عابدة وصوتها، وهي تجوِّد في الغناء، وأحس الأمير عبد الله بحاجة إلى سعيد فقال: «هل تظن يا ابن عبد البر أن سعيدًا سيأتي الليلة؟» ثم نادى ساهرًا الحاجب فتقدَّم إليه، فقال له: «أضيئوا السراج.»

فخرج الحاجب، ثم جاء أحد الخدم بالسراج، وفي أثناء ذلك أجاب الفقيه على سؤال الأمير عبد الله قائلًا: «أظن أن سعيدًا لا يلبث أن يأتي، وقد أصبح مجيئه ضروريًّا الآن على ما أظن.»

قال الأمير عبد الله: «لا بد من حضوره؛ فإنه صاحب رأي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤