الفصل الحادي والثلاثون

طارق

وبينما كان سعيد في ذلك، إذ جاءه رسول الأمير يستقدمه إليه فأسرع، وقبل وصوله إلى باب القصر لاحظ أن بالباب رسولًا صقلبيًّا من صقالبة الناصر، وتأكد من ذلك حين أقبل على الباب، فرأى الرسول واقفًا هناك وقد ترجَّل عن جواده، وبجانب الجواد هودج عليه ستائر. كأنَّ فيه امرأة.

فلما أقبل على الباب تقدم الحاجب ساهر واستقبله، وأشار إليه أن يدخل على الأمير، فدخل توًّا فرآه لا يزال في فراشه، وقد نزع عمامته ولبس قبعة النوم، ورأى الفقيه بين يديه وكلاهما ساكت، وفي يد الأمير رَقٌّ عرف من العلامة التي على ظهره أنه كتاب من أمير المؤمنين، فتجاهل وحيَّا وهو يبتسم وينظر إلى الأمير نظرة مستفهم عما هو فيه، وابتدره قائلًا: «كيف أصبح مولانا؟»

قال عبد الله: «أصبحت بخير من فضل الله، وقد فارقتني الحمَّى، لكنني لا أظنها إلا عائدة إليَّ قريبًا.»

قال سعيد: «لا تخف يا سيدي. إنها لا تعود بعد ذهابها. وماذا أرى؟» وأشار إلى الرَّقِّ.

فأشار عبد الله إلى الفقيه أن يغلق الباب، ومد يده وناول الرَّقَّ إلى سعيد.

فتناوله سعيد وقرأه وأعاد قراءته، ثم نظر إلى الفقيه فرآه ينظر إليه وينتظر ما يبدو منه، فتلفَّت سعيد حوله، ثم وجه كلامه إلى الأمير عبد الله قائلًا: «هذا شأن آخر. لم يخطر لي على بال.»

قال الفقيه: «لم يخطر لك ولا لمولاي ولكنه خطر لي، وقلته ولم تصدقوني.»

قال سعيد: «لم يخطر لي أن أمير المؤمنين يمالئ ولي العهد على طلبه.»

فقال الفقيه: «أستغرب كيف لم يخطر لك ذلك وأنت الحكيم العاقل الذي لا يفوته شيء! ألا تعلم أن الرجل إذا انغمس في الترف والقصف طلب الزيادة منهما؟ وإذا تعوَّد الاستبداد هان عليه الظلم؟»

وكان عبد الله مطرقًا يفكر فرفع رأسه وقال: «يهون عليه أن يظلم ابنه أيضًا؟!»

فقال الفقيه: «هو لم يظلم ابنه، ولكنه ظلم الأمير عبد الله التقي الزاهد انتصارًا لابنه العامل على رأيه في كل شيء. انتصر لولي عهده.»

فقطع سعيد كلامه قائلًا: «إنه لم ينصر ولي العهد، وإنما يطلب عابدة إلى قصره.»

قال عبد الله: «يطلبها إليه ليعطيها لولي عهده.» قال ذلك وصرَّ على أسنانه واستلقى على الفراش وتنهد.

فقال سعيد: «لا تغضب يا سيدي. كن على يقين أن ولي العهد لن ينالها، وقد سمعت من عابدة نفسها في الأمس أنها لن تذهب إليه ولو قطَّعوها إربًا.»

قال عبد الله: «ولكن هل نعصي أمر والدي في إرسالها؟ ألا ترى أنه يطلب إنفاذها إليه في هودج القصر؟ ألم ترَ الهودج في الحديقة؟»

قال سعيد: «نعم رأيته، وإذا ذهبت إلى القصر فهو قصر الزهراء، لا يقيم فيه ولي العهد كما تعلم.»

قال الفقيه: «ولكنه يحتال هذه الحيلة علينا لعلمه أن الأمير عبد الله لا يمكن أن يعصي أمر والده، فيرسل الفتاة حالًا، ومتي صارت في قصر الخليفة سلمها الخليفة إلى ولي عهده.»

فأطرق سعيد هنيهة وهو يفكر. ثم أعاد النظر إلى الرَّقِّ وقرأه ثانية وقال: «لا يمكن أن يفعل ما تقول؛ فإنه يطلب إرسال عابدة ليراها بعد أن سمع بأدبها ورخامة صوتها. نعم هو يقول إنه سمع ذلك من ولي العهد، ولكنه إذا رآها لا يعطيها له.»

قال الفقيه: «وهل تظن أن ولي العهد يسكت عنها ولا يطلبها من أبيه؟ وإذا طلبها منه هل تظن أن أمير المؤمنين يغضبه ويحول بينه وبينها؟»

قال سعيد: «أظن أنه يغضبه، ولا يسلمها له.»

فقال الفقيه: «وهل يرضى الحكم بذلك؟ ويرضخ كما يفعل مولانا الأمير؟»

فقطع الأمير كلامه قائلًا: «إن طاعة والدي فرض عليَّ وعليه، فإذا لم يرضَ أو إذا آثره والدي عليَّ بهذه الجارية …» ولما وصل إلى هنا اعتدل في مجلسه، وقد تملَّكه الغضب، وجعل يحك أنفه ويهز رأسه. متشاغلًا عما جال في خاطره.

فقال الفقيه: «اسمع يا مولاي. إذا امتنع أمير المؤمنين عن تسليمها لأخيك، وغضب هذا وتنافرا، كان ذلك غاية ما نرجوه؛ لأن الخليفة يرجع عند ذلك عن قراره ويجعل ولاية العهد إليك. ولكن ما قولك إذا لم يتغاضبا عليها؟»

وكان الأمير عبد الله قد اشتد حنقه حتى عجز عن كظمه وخاصة لانحراف مزاجه، والرجل أثناء المرض تبدو له الأمور غير ما تظهر في حال صحته، وكثيرًا ما تهون عليه وهو في اعتدال مزاجه وتمام صحته أمور لا تهون عليه وهو مريض، وذلك أمرٌ مشاهَد لا ريب فيه. حتى التوعك البسيط، يبعث صاحبه على حدَّة الطبع والخروج عن الاعتدال، فيخونه الصبر ويعصاه الكظم، فيقول ما لا يرضاه لنفسه وهو في صحته، فالأمير عبد الله كان يحمِّل نفسه مضض الكظم خوفًا من الفشل، وكان يرجو نصرة أبيه. فلما رأى أباه يطلب نفس ما طلبه أخوه غضب وهان عليه الخروج عن طاعته. فلما سمع سؤال الفقيه: «وإذا لم يتغاضبا؟» صاح: «إذا لم يتغاضبا سوف أغضب أنا.»

فقال الفقيه: «وهل تعرف الغضب يا سيدي؟!»

فنظر سعيد إلى الفقيه شزرًا وقال: «أراك لا تحسن التعبير يا فقيه! إن العاقل لا يغضب إلا قليلًا، وإذا غضب كان غضبه عظيمًا. ألا تذكر ما كان من صبر مولانا وطول أناته، وكم أردت إغضابه ولم يغضب؛ لأنه كان يتوقع بابًا للفرج محافظة على كرامة أمير المؤمنين، ومراعاة لحقوق أخيه، فلما لم يفِد الصبر غضِب، وليس غضب مثله يجوز في كل حال؛ لأنه لا يغضب ويرضى في كل ساعة كالأطفال، وإنما يصبر ويكظم، حتى إذا يئس من المسألة غضب، فتغضب لغضبه الأمة برمَّتها، ولا ترضيه عند ذلك كلمة لطيفة، وإنما يرضيه أن يعود إليه حقه بعد ضياعه.» وكان يتكلم بلهجة الجد، فلما وصل إلى هنا تراجع وأظهر أنه صرَّح بما لم يكن يريد التصريح به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤