الفصل الثاني والثلاثون

إلى أمير المؤمنين

فتأثر الأمير عبد الله من قوله، ورأى أن الحق في جانبه، وحاول مع ذلك أن يمسك نفسه فلم يجد له مسوغًا بعد أن رأى أباه قد ساند أخاه على سلبه تلك الجارية، فلاح له عند ذلك أن يتثبَّت من المساعدة التي يرجو أن ينالها إذا ناهض أباه، لكنه تهيَّب أن يطلب ذلك من تلقاء نفسه، ونظر سعيد في عينيه نظرة اكتشف بها مكنونات قلبه، وأدرك ما يجول في خاطره، فعلم أن النبتة أوشكت أن تؤتي أكُلها، فأراد أن يتعجَّل نضجها، فدنا من مجلس الأمير ونظر إليه نظرة الجد والاهتمام وقال: «اعلم يا مولاي أنك لم تدخر وسعًا في مجاملة أخيك، وأنت الآن ينبغي لك أن تجامل أباك، على شرط أن لا يقلل من منزلتك ولا يميِّز أخاك عنك، فإذا أنصفك فهو أمير المؤمنين، وإلا، فلا يعدم الحق أنصارًا.»

قال الأمير: «ترى إذن أن أرسل إليه عابدة؟»

قال سعيد: «ألا يقول في كتابه أنه يحب أن يراها ثم يعيدها؟ وأنا سأكون معها كما أنا معها هنا لأعلِّمها وأفقِّهها، فلا تخف أن يضيع شيء من حقك.»

فتصدى الفقيه قائلًا: «إذا دخلت عابدة قصر الزهراء، فإنها لن تعود إلينا. اعلم هذا من الآن.»

فقال عبد الله: «إذن لا أُخرجها من منزلي إلا بالقوة.»

فقال سعيد: «ليس هذا من حسن السياسة في شيء. سنذهب الآن وإذا مضى يومان ولم يؤذَن برجوعنا حُقَّ لك كل ما تريد.»

وكان الفقيه يفكر في الأمر، ولا يرى أن هذه الطريقة تحقق غرضه، فقد يُحبس سعيد هناك، ولا يبقى له من يعوِّل عليه في نصرة الأمير للقيام ضد أبيه، فقال: «لا نأمن إذا دخلت قصر الزهراء أن تُحجز فيه.»

فقطع كلامه قائلًا: «لا تخف.»

وبينما هم في ذلك إذ جاء ساهر وقال: «إن الرسول يطلب الجواب حالًا.»

فالتفت سعيد إلى الأمير فرآه ينظر إليه فقال: «اكتب إلى أبيك أنك أطعت أمره وأرسلت الجارية مع أستاذها، واطلب إليه أن يعيدها إليك بعد يومين. هل أكتب عنك لأنك مجهد بسبب الحمَّى؟»

قال عبد الله: «افعل.»

فتناول سعيد قرطاسًا وقلمًا وكتب:

إلى أمير المؤمنين الناصر من ولده عبد الله

أما بعد، فقد أخذتُ كتاب سيدي الوالد الذي يطلب فيه الجارية الأديبة التي كان أخي الحكم قد طلبها لنفسه، فدفعته بالحسنى، على أن يكتفي بما مُنح من نعم الله وفضل أمير المؤمنين، ويترك لي هذه الجارية أتمتَّع بأدبها وغنائها في وحدتي وانقطاعي. ثم جاءني كتاب مولاي بإرسالها إليه ليراها ثم يعيدها، فأطعت وفعلت، وقد أرسلتها مع أستاذها سعيد الوراق، وهو الذي جاءني بها واشترط أن يكون في صحبتها ليُقرئها الأدب ويُحفظها الشعر، وهو أهل لثقة أمير المؤمنين، وعهدي بالوالد — حفظه الله — أن يعمل بما قال، وعنده ألوف من الجواري الحسان على اختلاف الأصناف، فلا يبخل عليَّ بهذه وقد استأنست بأدبها، وهو فاعل إن شاء الله.

ودفع الكتاب إلى الأمير عبد الله، فقرأه ووقَّع عليه باسمه ودفعه إلى ساهر ليعطيه للرسول، واستأذن في الذهاب إلى عابدة، وكانت في غرفتها تنتظر أمر عبد الله في الخروج إليه، فلما رأت سعيدًا قادمًا إليها خفق قلبها فرحًا برؤيته، فهش لها وسلَّم عليها ومد يده لمصافحتها، فصافحته وقلبها يرقص فرحًا، ولبثت تنتظر ما يقول.

فأجلسها وجلس إلى جانبها وهو ينظر في عينيها، فلم تتمالك إلا الإطراق فقال: «قد وفِّقت إلى ما يسرُّكِ.»

فأجفلت وقالت: «هل آن لنا أن نجتمع؟»

قال سعيد: «نعم.»

فضحكت فرحًا وقالت: «أين؟»

قال سعيد: «في قصر الزهراء.»

فدهشت ولم تفهم مراده، وظهر الاستغراب على وجهها وقالت: «مالي ولذلك القصر؟»

قال سعيد: «إن المهمة التي جئت من أجلها لا تتم إلا هناك.»

قالت عابدة: «إني لا أطلب القصور.»

فقال سعيد: «ألا يسرُّك أن نكون معًا هناك؟»

قالت عابدة: «كلا؛ لأني هناك لا أكون لك.»

قال سعيد: «لا يتم لنا ما نريده إلا بعد الذهاب إلى ذلك القصر، وستكونين هناك جاريةَ منادمةٍ وأدبٍ إلى أجل مسمى.»

فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا أريد القصور. أفضِّل أن أكون معك في كوخ حقير على أن أكون …»

فقطع كلامها وقال وهو قابض على يدها ينظر في عينيها: «أريد أن نكون معًا هناك. وقد وعدتِ أن تساعديني في تحقيق الغرض الذي قمنا من أجله.»

فأحست بقشعريرة ذهبت بإرادتها، وشعرت أنها طوع إرادته، ولم تتمالك أن قالت: «افعل ما تريد. إذا كان ذلك يسرُّك.»

قال سعيد: «لا يسرُّني فقط، ولكنه واجب لا بد من قضائه، فإذا فرغنا من هذه المهمة تفرغنا للحياة معًا. هل أنت على وعدك بأن تفعلي ما أوصيك به؟»

قالت عابدة: «نعم.»

فمد يده إلى جيبه وأخرج حُقًّا فيه مسحوق وقال: «احتفظي بهذا العقار لأنبئك بما يلزم أن تعملي به.»

فتناولت الحُقَّ وجعلت تنظر فيه فقال: «لا تنظري فيه طويلًا، سوف تعلمين ماذا تفعلين به. خبئيه بين ثيابك وانهضي لنذهب معًا، إن الهودج في انتظارك خارجًا.»

فنهضت وأصلحت من شأنها وهي مسرورة بأنها تفعل ما أُمرت به، ونسيت نفسها وتغاضت عن أمنيتها كأنها نُوِّمت تنويمًا مغناطيسيًّا.

خرجت وركبت في الهودج، وتوجه هو إلى الأمير عبد الله فودَّعه وودَّع الفقيه وطمأنها، وركب بغلته وسار في أثر الهودج يطلبون قصر الزهراء.

ولم يكن لهم بد من المرور على القنطرة فوق الوادي الكبير، فتجاوزوها والرسول يتقدمهم وهم يسيرون في أثره، وسعيد يهيئ ما يقوله، وعابدة داخل الهودج تسترق النظر إليه من خلال أستاره، كلما سنحت لها الفرصة، وكلما رأته تتنهد وتقول كأنها تخاطبه: «ما لنا وللملوك وللدول! دعنا من هذه المطامع ولنعش معًا في رغد وهناء، وليس في صحبة الملوك غير العناء، ولكن أبت مطامعك إلا أن تشقى وأشقى أنا معك، ولا تدري مصيرنا أين يكون؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤