الفصل التاسع والأربعون

الحيرة

فتأثر الناصر من عتابها، ولكنه أصرَّ على استطلاع سرها فقال: «أصبتِ؛ أنك لم تتعودي مني هذا الجفاء لأني لم أرَ منك ما يبعث عليه. أما الآن فقد خرجت عن عهدي فيك.»

قالت الزهراء: «بماذا؟ ألأني خاطبت ابنك؟»

قال الناصر: «ليست مخاطبته مما تؤاخذين عليه، ولكنك فعلت ذلك سرًّا وأتيت لعبد الله بثياب امرأة. لا أدري كيف أطاعك هو على ذلك؟! إنه خائن.» وأحس الناصر أن الغضب يكاد يخرجه عن هدوئه فتماسك وسكت.

فقالت الزهراء: «إذا غضب أمير المؤمنين مما حدث، فأنا صاحبة الذنب وليس ابنه الأمير عبد الله، فلا داعي لاتهامه بشيء، وسوف تظهر براءته.»

فقال الناصر: «والآن قولي، ألا تخبرينني عن سبب تلك الخلوة بعبد الله؟»

قالت الزهراء: «لا أقول ذلك الآن. لا تغضب يا مولاي؛ إني لا أستطيع أن أقوله، ولكن المستقبل كفيل بكشفه.»

فلما يئس من إقناعها بالتصريح بالحقيقة، حدَّثته نفسه أن يحملها على الإقرار قهرًا، ثم رأى أن ذلك يحط من كرامتها وهو يحبها ويحب المحافظة على منزلتها؛ لكثرة حسادها في بلاطه، وكثيرًا ما جاءته الوشايات في حقها وهو يدافع عنها ويُظهر حسن ظنه بها، فرأى أن حملها على الإقرار بالقوة يحط من كرامته لدي أهل دولته فضلًا عن شغفه بها، فهو يميل بعواطفه إلى تبرئتها لئلَّا يئول الغضب إلى تركها، أو قتلها، وهو يرى بقاءها لازمًا له، ويعدُّ وجودها فألًا حسنًا على دولته؛ لأنه منذ أن عرفها والسعد حليفه في الحروب والإدارة السياسية. على أن المحب كثير الظنون قريب الشكوك، فلما تذكر كيف رآها في خلوة مع ابنه على تلك الصورة ثارت غيرته، فرأى من الحكمة أن يتمهل في الحكم واستطلاع السر بالحسنى، وأخذ يفكر في طريقة لتحقيق هدفه.

فلاحظت هي تفكيره، فجثت بين يديه وقالت: «كيف يظن مولاي السوء بي وقد غمرني بنعمه ورفع منزلتي، وجعلني موضوع حبه وأقرب الناس إليه ومحل ثقته!»

فلما سمع هذه العبارة تذكر قولًا سمعه من سعيد أول يوم لقيه في قصره، وطلب إليه أن يستطلع طالعه فقال له يومئذٍ: «إن الخوف يأتيك من أكثر الناس ثقة عندك.» فعاد إلى الارتياب، ولكنه صمم على الصبر فوقف وهو يقول: «أنا ذاهب، وينبغي لك أن تقدري سكوتي الآن بالرغم مما يحيط بي من أسباب الشكوك.»

قالت الزهراء: «إنني مقدرة ذلك، وهو من جملة أفضالك، وسترى أني موضع ثقتك.» ومشت في أثره ولاحظت أنه يمشي الهوينى كأنه يتوقع أن تدعوه للرجوع، أو أن قلبه لم يطاوعه على الخروج وهو لم يصل إلى نتيجة، فكان يخطو خطوتين ويقف هنيهة، ثم يخطو وهي تمشي في أثره لتشيعه إلى باب الغرفة، فلما وصل إلى الباب وقف والتفت إليها فرآها مطرقة إطراق التفكير، فتبادر إلى ذهنه أنها عدلت عن الكتمان، فتحول نحوها وقال: «ألا تغيرين رأيك فتطلعيني على الحقيقة؟»

قالت الزهراء: «قلت لمولاي ما يمكنني أن أقوله، وأنا أعلم أن حياتي وموتي بين شفتيه، ولكن …»

قال الناصر ولم ينتظر إتمام كلامها: «أسألك سؤالًا واحدًا، أجيبيني عليه بالصدق.»

قالت الزهراء: «اسأل يا سيدي، فإني لا أقول غير الصدق.»

قال الناصر: «أتحبين ابني عبد الله؟»

قالت الزهراء: «نعم أحبه.» ولم يتلجلج لسانها ولا تغير وجهها.

فبُغت لهذه الجسارة ونظر في وجهها وأجال نظره فيها، وهي لا تبالي، فقال لها: «تقولين ذلك بكل جسارة؟!»

قالت الزهراء: «ألم تشترط عليَّ الصدق؟ إني أحب الأمير عبد الله. كيف لا أحبه وهو ابن سيدي أمير المؤمنين؟»

فرأى في هذا التعبير ما يخفف الغضب، وندم على رجوعه للسؤال فسكت، ومشى إلى غرفته، وعادت هي إلى غرفتها واستلقت على سريرها، وتنهدت كأنها أطلقت نفسًا كان محبوسًا في صدرها ويكاد يخنقها، فأتاها جوهر، وأخذ يماجنها التماسًا لتسليتها، فأشارت إليه أن يتركها وحدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤