الفصل الخامس

عابدة

فشكر الفقيه له اختصاصه بهذا الإكرام، وظل جالسًا يكتب، وقد انتهت الضوضاء، وبينما هو في ذلك، إذ سمع وقع أقدام خارج غرفته، فالتفت فلمح شبحًا مر ببالها يكاد أن يكون امرأة حاسرة الوجه جميلة الطلعة، فاستغرب الفقيه ذلك وأنصت لعله يستطلع شيئًا، فسمع سعيدًا يرحِّب بالقادم بصيغة التأنيث، فدفعه حب الاطلاع إلى رؤية القادم، فنهض وأطلَّ من الباب وهو يتجاهل، فإذا به يرى فتاة على جانب كبير من الجمال تخاطب سعيدًا بلسان فصيح يدل على علم وأدب، وسعيد يقول لها: «أتيت أهلًا ووطئت سهلًا يا عابدة. لقد طال انتظاري لحضورك.»

فقالت عابدة: «لم يكن تأخري عن عمدٍ، ولكنني شُغلت بمطالعة كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، ونسخه؛ فإن هذا الرجل قد جمع فيه ما لا مثيل له في سواه من العروض، والشعر، والأخبار، والأمثال، والتاريخ، ناهيك بالفوائد الصحية، والعظات الدينية. وقد نظم أعمال أمير المؤمنين شعرًا، وتُوفي وهو ينظمها منذ ثماني سنوات (فقد توفي ابن عبد ربه سنة ٣٢٨ﻫ).» قالت عابدة ذلك وأخرجت من تحت ثيابها صرَّة كبيرة وقالت: «وهذه هي النسخة التي نسختها.»

فتناولها سعيد منها وهو يقول: «أنتِ التي نسختها بيدك؟»

قالت عابدة: «نعم، أنا التي نسختها بيدي، وأرجو أن تعجبك.»

فأخذ سعيد يقلِّب النسخة ويتصفحها وهو يقول: «إن هذا الكتاب نادر المثال. ومع أن صاحبه توفي في هذه المدينة منذ تسعة أعوام فإني لم أجد نسخة منه بمثل هذا الخط وهذا الضبط.» قال سعيد ذلك وهمَّ بالمسير نحو غرفة الفقيه ابن عبد البر وهو يقول: «أظن أن هذه النسخة تليق بمكتبة الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين.»

فلما رأي الفقيه ابن عبد البر أن سعيدًا يتقدم نحوه عاد إلى مجلسه، وتظاهر بأنه كان مشتغلًا بالكتابة، فلما وصل سعيد إلى الباب قال: «هل يأذن لي الفقيه بالدخول؟»

قال الفقيه: «تفضل، ادخل.»

فدخل سعيد والكتاب بيده، وأشار إلى الفتاة أن تدخل، فدخلت وهي حاسرة الوجه، والذكاء يتجلى في عينيها، فدُهش الفقيه لرؤيتها واستغرب كشف وجهها على هذه الصورة، وتوسم لأول وهلة أن تكون نصرانية أو يهودية؛ لأن اليهود كانوا يُعنَون بالأدب العربي، والتفت إلى سعيد وهو ينتظر ما يبدو منه، فإذا هو يقدم له الكتاب ويقول: «جاءتني هذه الأديبة بهذا الكتاب مكتوبًا بخط يدها، وهو كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، وأظن أن في مكتبة مولانا الأمير عبد الله عدة نسخ مثله!»

فتناول الفقيه الكتاب وهو ضخم، وأخذ يقلِّبه على ضوء السراج ويُعجب بجمال خطه وضبطه، وقال: «نعم، فيها منه عدة نسخ، ولكن لا شبيه بينها لهذه النسخة، وأظن أن مولانا الأمير يرغب في اقتنائها إذا أرادت هذه الحسناء بيعها، وهل هذا هو خط يدها؟» ورفع بصره إليها.

قال سعيد: «نعم، وهل تستغرب ذلك؟ فكيف إذا عرفت أنها تعي هذا الكتاب وعشرات مثله في ذهنها، فلا تسألها عن شعر جاهلي أو إسلامي إلا ذكرته.»

فقال الفقيه: «ما شاء الله. إن ذلك نادر بين النساء.»

فقال سعيد: «هذا إلى أنها تُحسن الغناء والعزف على العود.»

فدهش الفقيه وجلس يفكر فيما سمعه، وقال: «وأغرب من ذلك أنها نصرانية، أو يهودية على ما أظن!»

قال سعيد: «كلا، بل هي مسلمة.»

قال الفقيه: «ولكني أراها سافرة الوجه! وأضنُّ بهذا الجمال أن تبتذله العيون.»

فالتفت سعيد إلى الفتاة كأنه يطلب إليها أن تجيب عن نفسها، فقالت بألفاظ رخيمة لها وقع على النفس أشد من وقع معانيها: «لا أرى مبررًا لتغطية الوجه إلا ضعف النفس، وإني على رأي عائشة بنت طلحة؛ فقد كانت تجالس الرجال، ولا تحجب وجهها عنهم، ولمَّا سُئلت عن ذلك قالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمالٍ أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما بي وصمةٌ يستطيع أن يذكرني بها أحد.»

فلما سمع الفقيه كلام الفتاة زادت دهشته، والتفت إلى سعيد وقال هامسًا: «من هي؟»

figure
فقالت عابدة بألفاظ رخيمة لها وقع على النفس أشد من وقع معانيها: لا أرى مبررًا لتغطية الوجه إلا ضعف النفس، وإني على رأي عائشة بنت طلحة.

قال سعيد: «هي جارية من مولَّدات بغداد.»

فهز الفقيه رأسه إعجابًا وقال: «لله درُّ بغدادكم وما يخرج منها! إن مثل هذه الجارية جديرة بأن تكون في دُور الخلفاء أو الأمراء.»

فقطع سعيد كلام الفقيه قائلًا: «ألا تظن أن مولانا الأمير يحب اقتناء هذه النسخة من كتاب العقد الفريد؟» وأشار سعيد إلى الكتاب بيده.

ففهم الفقيه أن سعيدًا لا يحب أن يذكر خبر اقتناء الجارية بين يديها، فأجابه: «لا شك في ذلك، فإذا قدَّمته إليه بعد الفراغ من الاحتفال القادم أخذه وأكرمك، وأنا أذكر له خبرك قبل مجيئك، وإذا رأيت أن تأخذ هذه الفتاة معك ليراها ويسمع حديثها كان ذلك باعثًا على رضاه وسروره.»

قال سعيد: «سأفعل، والآن متى يكون الاحتفال باستقبال رسل القسطنطينية؟»

قال الفقيه: «أظنه لا يكون قبل بضعة عشر يومًا على عادة أمير المؤمنين، من تأجيل المقابلة زيادةً في الإرهاب.»

قال سعيد: «إني شديد الرغبة في حضور هذا الاحتفال.»

قال الفقيه: «سأصحبك معي، ومتى حان الوقت أخبرتك وذهبنا معًا.»

فشكر له سعيد وهمَّ بالخروج، فقال الفقيه: «قد آن لي أن أنصرف، فأذن لي إذا شئت.»

قال سعيد: «لك الخيار يا سيدي، ولا بأس عندي من بقائك هنا في عملك، وإذا أردت كتبًا أخرى غير «البيان والتبيين» قدمته مع السرور. وهذا كتاب «العقد الفريد» بين يديك، ولعله يفيدك فيما تحتاج إليه في خطبتك من المشاهد التاريخية، أو الأمثال. تفضل، اجلس.»

فشكر الفقيه ابن عبد البر لسعيد احتفاءه، وقال: «يكفي ما قرأته الآن.»

قال سعيد: «أظن خطبتك ستكون جامعة واعية، وأرجو أن تستفيد منها، فإذا استفدت عاد ذلك بالنفع على أصحابك، ولكن لا أدري إذا كنت تعدُّني من الأصحاب، أم لا؟»

فخجل الفقيه ابن عبد البر من هذا المديح، وقال: «إنك من أعز الأصدقاء يا سعيد. وإذا وفقني الله وظفرت بالمنصب الذي أتوقعه بعد هذا الاحتفال، رأيتَ مني ما يرضيك، فادع لي.»

قال سعيد: «إني أدعو لك بكل خير، وأراك أهلًا لأكبر المناصب العلمية، فمَن أولى منك برئاسة القضاة أو الخطباء؟!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤