الفصل الخمسون

الهواجس

ثم أمرت إحدى وصيفاتها أن تهيئ لها الفراش، وجاءت وصيفة أخرى لتساعدها على تبديل ثيابها وهي مستغرقة في الأفكار، فلما فرغت من تبديل الثياب أمرت بإطفاء الأنوار إلا ضوءًا ضعيفًا. وأرخت الكلَّة (الناموسية) على سريرها تلتمس النوم ولكن عبثًا.

فما أن استلقت حتى تراكمت عليها الهواجس، وأخذت تفكر في حالها وما يبدو عليها من سعادة يحسدها عليها الناس، وما يعتور تلك السعادة من أسباب الشقاء، فعادت بذاكرتها إلى صباها منذ حملها النخاسون من جبال الصقالبة وهي طفلة ومعها أخوها، ولما تذكرت أخاها تنهدت وتقلبت على جنبها الأيمن تريد أن تنسى تلك الذكرى، فلم تزدها هذه الرغبة إلا تذكيرًا، فتذكرت كيف حُملت مع أخيها إلى إيطاليا وعليهما أطمار بالية لا تقيهما البرد، ولكن جمالها كان يلفت الأنظار، وقد وقعت في يد أحد تجار الرقيق من اليهود، وكان خبيرًا بخفايا التجارة، فعرف أن مثل هذه الجارية لا يدفع ثمنها إلا المسلمون في صقلية، وكانت جزيرة صقلية يومئذٍ في حوزة المسلمين تحت سيطرة دولة العبيديين في المغرب، وكان أمراؤها يتقربون إلى خلفاء تلك الدولة بأمثال هذه الهدايا، فأراد أن يبتاع الزهراء ليرسلها هدية، فأبت وتوسلت إلى التاجر أن لا يبيعها إلا مع أخيها؛ لأنها كانت شديدة التعلق به، ولم يكن لها تعزية في ذلك الأسر والفقر سوى وجود أخيها معها، فأطاعها التاجر واشترط مع أمير صقلية أن يشتري الاثنين معًا، فرضي وابتاعهما؛ لأن جمال الزهراء بهره، وأعجبه ما آنسه من لطفها وذكائها، وحدثته نفسه أن يستبقيها له، لكنه كان في حاجة إلى مهمة من الخليفة العبيدي صاحب إفريقية، وهو يومئذٍ المهدي، فاستقر رأيه على أن يرسلها إليه ويستبقي أخاها عنده يربيه في داره، ويدربه على الجندية على جاري عادتهم في استخدام المماليك، فأبت الزهراء عليه ذلك، وتوسلت إليه أن يرسل أخاها معها فيكون حيث تكون، فلم يطاوعه قلبه على رد طلبها بعد ما آنسه من لهفتها.

كانت الزهراء وهي نائمة على جنبها تتذكر أيام صباها في تلك الجزيرة، وكيف دهشت لما شاهدته هناك من مظاهر المدنية مما لم تكن عيناها قد وقعت على شيء مثله من قبل؛ لأنها نشأت بين الجبال والأودية ترعى الماشية أو تذهب للاحتطاب، ومع ذلك فقد كانت سعيدة هناك، وكانت أسعد الأوقات عندها عندما ترجع مع أخيها، وهما يتعاونان في نقل حمل من القش أو العيدان أو يسوقان بعض الماعز، وأبواهما ينتظرانهما في كوخ حقير، فيشعلون تلك العيدان ويحومون حولها للدفء. وكان يلذ لها أن تذكر ذلك الدفء مع الدخان المتصاعد حتى يكاد يعمي الأبصار، أكثر مما يلذ لها الاستلقاء على ذلك الفراش اللين مع ما يغشاه من الكِلَل المطرزة والستائر الموشَّاة، وما يتضوَّع في جو تلك الغرفة من الطيب.

فلما تذكرت ذلك تنهدت، وقد ضاق صدرها، فدفعت الغطاء عنها وتحولت إلى الجانب الآخر، وأخذت تناجي نفسها: «ويلاه ما هذه الهواجس! آه ما أجمل تلك الجبال الجرداء، وما أشهى رائحة دخان العيدان، وأنا بقرب أخي وحبيبي!» ولما ذكرت أخاها جلست على الفراش فجأة، والتفتت إلى ما حولها على ذلك النور الضعيف، فرأت الوصيفة التي تنام عند قدميها لا تزال جالسة كأنها شعرت أن الزهراء لم تنم بعد، فظلت جالسة لعلها تحتاج إليها في شيء.

أما الزهراء فلما رأتها أجفلت؛ لأنها كانت تود أن تكون وحدها لعلها تطلق لأشجانها العنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤