الفصل الثاني والخمسون

سبب الفراق

فغصَّت بريقها وسكتت، وهي تتلهى بمسح دمعتين انحدرتا على خديها، وقالت: «لم أبقَ لأني كنت أطلب النجاة من رجل هناك يزعم أنه رئيس تلك السفينة، وما برح منذ أقلعنا من صقلية وهو يتقرب إليَّ وأنا أشعر بنفور منه لا أدري سببه، وهو يدنو مني ويعدني ويمنِّيني ويُظهر أنه يحب أخي ويلاطفه، فأظهرت لأخي نفوري من ذلك الرجل وتواعدنا على أننا إذا وصلنا إلى شاطئ إفريقية شكوناه إلى ملكه، وكان قد أدرك غرضنا فجعل يضيِّق علينا، فلما هاجمنا القرصان خطر لي — من شدة كرهي لذلك الرئيس — أنَّ انتقالنا إلى سفينة القرصان ينجينا منه. ونحن في كل حال غنيمة للقوي، فلم ندافع كثيرًا ولم تكن نجاتنا في أيدينا، فما شعرت إلا وأنا على سفينة القرصان، وقد أقلعت بنا، وكنت أحسبهم قد خطفوا أخي معي، فلم أجده، فبكيت وصرخت وما من سميع، فأخذت أشعر بالتعاسة منذ ذلك الحين. وحملني القرصان إلى شاطئ الأندلس فباعوني إلى لصوص آخرين، وهؤلاء باعوني إلى رجل حملني إلى قرطبة، فلما رآني ياسر رئيس الخصيان اشتراني لسيده أمير المؤمنين، فشُغلت في بادئ الأمر بمصائبي، ثم بالانتقال إلى هذه النعمة، وما لبثت أن عدت إلى أمر أخي، ويكاد الندم يأكلني لأني أشعر أني كنت سببًا في هذا الفراق.» ولما بلغت إلى هنا لم تتمالك عن البكاء، وهي لا تجسر أن تجهر به لئلَّا يظن من يسمعها أنها تبكي خوفًا من غضب الخليفة.

وكانت الوصيفة تسمع كلامها وتعجب لشدة تعلقها بأخيها لأنها لو كانت هي في مكانها، وصارت بهذه المنزلة من الجاه والنعم، لم تعد تذكر أحدًا من أهلها، ولكن الناس يتفاوتون في أحاسيسهم ومشاعرهم، ففيهم المحب الذي إذ أحب تعشق وارتسم حبيبه في كل جارحة من جوارحه، ولا يجد له عنه صبرًا ولا تغيِّره طوارق الحدثان، ومن الناس من يُخلق مطبوعًا على الألفة، إذا تعوَّد شيئًا شقَّ عليه فراقه ولو كان مكروهًا، وإلى ذلك أشار المتنبي بقوله عن نفسه:

خلقتُ أَلُوفًا لو رجعت إلى الصِّبَا
لفارقت شيبي موجَع القلبِ باكيًا

ويغلب فيمن يحب كثيرًا أن يكره كثيرًا، فيكون حبه كلفًا وبغضه تلفًا، ومن الناس من لا يعرف من الحب إلا اسمه، وإنما يكون الحب في نظره قضاء لمصلحة أو طمعًا في غرض، فإذا تجرد عن المنفعة لم يبقَ له أثر.

وكانت الزهراء شديدة الحب إذا أحبت، مع تعقُّل وإخلاص، شديدة البغض إذا أبغضت، وكانت قد تعشَّقت أخاها، وتجد الحياة مرة بدونه، وهما في أشقى الأحوال، وقد أبغضت رئيس تلك السفينة حتى لم تعد تستطيع أن تتصوره، فلما صارت إلى تلك النعمة صارت تحب أن يكون أخوها معها ليشاركها سرورها، وهي مع ذلك لا تعرف مصيره، أحي هو أم ميت؟

أما الوصيفة فلما رأت يأس الزهراء، أرادت أن تشغلها عن ذلك الحديث بسواه — ولم يكن يشغلها شيء عنه — فقالت: «احمدي الله أنك نجوت من شخص تكرهينه، و…»

فابتدرتها قائلة: «نعم نجوت، وليتني ما نجوت!» وكفَّت عن الكلام كأنها ندمت على ما فرط منها، فساعدتها الوصيفة على تغيير الموضوع فقالت: «إن تفكيرك يا سيدتي في أخيك لا فائدة منه، وقلبي يحدثني بأنك ستلتقين به. ألم تسألي المنجمين عنه؟»

فقطعت الزهراء كلامها قائلة: «إني لا أصدق المنجمين، ولا أثق إذا سألتهم أن لا يُبلغوا الخبر إلى الناصر، ولا أريد أن يعرف أني مشغولة عنه بأحد؛ لأنه لم يشغل عني بسواي.»

figure
فقالت الوصيفة: «إن تفكيرك يا سيدتي في أخيك لا فائدة منه، وقلبي يحدثني بأنك ستلتقين به. ألم تسألي المنجمين عنه؟»

فقالت الوصيفة: «أحسنت»، واقتربت من أذنها وقالت همسًا: «ولكنني علمت أن الرجل الذي أمره مولانا الناصر أن يعلمك الغناء بارع في التنجيم لا مثيل له فيه.»

قالت الزهراء: «تعنين سعيدًا الوراق؟ هل يعرف التنجيم؟»

قالت الوصيفة: «أنا على ثقة من ذلك، وعلمت أن مولانا يعوِّل عليه سرًّا في استطلاع الغيب، وله فيه ثقة كبرى. فإذا جاء لتعليمك الغناء فاسأليه لعله يفيدك، ولا ضرر من ذلك.»

قالت الزهراء: «ولكن سؤاله في هذا الشأن يقتضي … لا بأس سأرى.» وأحست من تلك الساعة براحة أذهبت قلقها، فأظهرت أنها تميل إلى النوم، فساعدتها الوصيفة في إرسال الكلَّة (الناموسية) ونامت وهي تُعمل فكرها فيما تفعله.

أما سعيد فذهب في تلك الليلة إلى غرفته ينتظر أن يأتيه جوهر بما دار بين الناصر والزهراء، ولم يفت جوهر شيء مما دار بينهما، فجاء إلى سعيد وقص عليه ما سمعه، فبات تلك الليلة وهو يتوقع أن يبعث الخليفة في طلبه في الغد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤