الفصل السادس

عتاب

فتظاهر الفقيه ابن عبد البر بالتواضع، وأسرع فوضع أوراقه في جيبه وخرج، فشيَّعه سعيد إلى الباب، ثم أمر خادمه جوهرًا أن يغلق الباب وراءه، فلما سمع إغلاق الباب تنهد طويلًا وعاد إلى الجارية، فإذا هي لا تزال واقفة في انتظاره، فلما استقبلها نظرت إليه بعينين برَّاقتين تكادان تنطقان وقالت: «هل تأذن لي بالانصراف؟»

فأشار إليها سعيد أن تجلس، وتلفَّت حوله حتى يتحقق من خلوِّ المكان من الرُّقباء، فجلست عابدة على وسادة في غرفة ليس فيها غير بساط ومناضد صغيرة لوضع الأقلام، أو الكتب، أو أدوات الكتابة، وسراج قائم على مسرجة يخفق لهبه فيتطاير سِنَاجه في تلك الغرفة همسًا، كما تتصاعد زفرات عابدة ولا يشعر بها سعيد أو لعله يشعر ويتجاهل.

فلما جلست عابدة جلس سعيد أمامها وكانت تنظر إليه، فلما وقع بصرها على بصره بادرت إلى الإطراق لأنها لا تطيق التفرُّس في عينيه لحظة، فإذا فعلت أحست كأنَّ سهامًا تخترق بصرها إلى أحشائها، أو أن تيارًا كهربائيًّا يسري في جسمها، فتنتفض له جوارحها، ولم يكن سعيد يجهل ذلك، ولكن مطلبه غير مطلبها، فلما أطرقت عابدة، قال لها: «ما بالك لا تنظرين إليَّ يا عابدة؟»

قالت عابدة: «ألم تعلم أني لا أستطيع التطلع في عينيك؟!»

قال سعيد: «كنت أظن أنك تفعلين ذلك حياءً!»

قالت عابدة: «لم يبقَ ثمة باعث على الحياء بيننا، وقد أطلعتك على خفايا قلبي وتفاهمنا مليًّا.»

قال سعيد: «يسرني أنك فهمت مرادي وذهب سوء الظن.»

قالت عابدة: «نعم فهمت، ولكن يظهر لي أن هذا الانتظار لا حد له، وأنت قابع ببيع الكتب ونسخها ومقابلة الناس والعمل على راحتهم.» قالت ذلك وأبرقت عيناها وظهر الارتباك على شفتيها كأنها تخفي شيئًا تريد أن يفهمه سعيد دون أن تقوله.

أما سعيد فأحس بحدَّة ذلك التصريح فتغيرت سحنته، وقال: «لست ورَّاقًا، ولا ناسخًا كما تعلمين، وإنما أنا …» والتفت حوله خشية أن يسمعه أحد، وسكت وهو يصرُّ على أسنانه.

فقالت عابدة: «لا تغضب يا سعيد، ولا تحسبني أعاتبك، ولكني أستبطئ النجاح. إن زهرة عمرنا كادت تنقضي في هذه الديار مختبئَين.»

فرفع سعيد بصره إليها وقال: «يعجبني فيك حماستك في سبيل الأمر الذي جئنا من أجله إلى هذه الديار، ولا تظني أنني أجهل قصدك؛ فأنا أعلم أنك أرفع نفسًا من أن يكون طلبك مني مثل مطلب سائر النساء الجاهلات، وقد تعاقدنا وتعاهدنا على ذلك. وأما استبطاؤك النجاح، فقد تكونين محقَّة فيه، وقد تكونين مخطئة، فالأمور مرهونة بأوقاتها. وهل تحسبينني غافلًا؟! ولكن اعلمي يا عابدة أن الساعة دنت وفُتح باب الفرج الآن، وأصبح إتمام العمل عليك.» قال ذلك وتفرَّس في وجهها.

فتحمست عابدة وقالت: «عليَّ أنا! إني رهن إشارتك يا سعيد، وإذا كان قضاء الأمر متوقفًا عليَّ، فاعتبر أنه انقضى.»

فأُعجب سعيد بهذا القول الدال على قوة العزيمة والحزم، وقال: «هل تطيعينني؟» فتنهدت عابدة وقالت: «وهل أستطيع أن أعصاك يا سعيد؟! لست أعلم ماذا في عينيك يؤثر على خاطري. إن بصري لا يكاد يتركز على بصرك حتى أشعر كأنك غلبتني على أمري وربطت إرادتي بإرادتك، وأُحس كأنني جزء منك، خضع لإرادتك أنت ويعصاني أنا، فكيف تسألني إذا كنت أطيعك!» قالت عابدة ذلك وأطرقت حياءً.

فقال سعيد: «هل تطيعينني حتى الموت؟»

قالت عابدة: «حتى الموت، وبعده.»

قال سعيد: «لا أعني أن تعرِّضي نفسك للموت. بل أعني إذا اقتضت الحال أن تقتلي أحدًا بيدك، هل تفعلين؟»

قالت عابدة: «إذا كان ذلك في استطاعتي فعلته.» قالت ذلك وقد أحست بقشعريرة خفيفة وسكتت.

فتحفز للوقوف وهو يقول: «إني ذاهب الآن إلى الاجتماع.»

فتنهدت عابدة وقالت: «ألا يزال القوم يجتمعون كالعادة؟»

قال سعيد: «نعم، وهم يزدادون عددًا وقوة حتى دخل في جمعيتنا هذه كل رؤساء القبائل الناقمة على عبد الرحمن الناصر، وفيهم آل حصفون الذين غلبهم على أمرهم، وجماعات كتامة، وغيرهم من البربر، وإنما نحن ننتهز الفرص.»

قالت عابدة: «وهل يعتقدون حتى الآن أنهم يجتمعون لإصلاح حال بلادهم.»

قال سعيد: «إن المفهوم من أغراض هذه الجمعية عند أعضائها أنها تشكو من تفضيل عبد الرحمن الناصر للخصيان الصقالبة على أبناء العرب أو غيرهم من الأحرار، وتنتقد بذخه وإسرافه، هذا كل ما يفهمونه من الأغراض، وليس في هذه البلاد من يفهم حقيقة الغرض الأصلي إلا أنا وأنت، فاجعليه في طي الكتمان.»

فأطرقت عابدة لحظة، وقد بدا الاهتمام على جبينها، وقالت: «دعني أذهب معك يا سعيد.»

قال سعيد: «ولماذا؟»

قالت عابدة: «أفعل كما تفعلون؛ لعلِّي أستحثُّ القوم على العمل.»

قال سعيد: «أحسنت. هيا بنا» ونهض سعيد، ونهضت عابدة معه، وقد التفَّت بردائها، فأمسك سعيد بيدها وخرج من باب آخر في المنزل، وسارا في الظلام وعابدة لا ترى شيئًا، ولو سار بها سعيد إلى الجحيم وهو قابض على يدها لسارت ولم تبالِ؛ لأنها أسيرة إرادته، مثلها في ذلك كمن يخضع للتنويم المغناطيسي.

سارا مدة بين صعود وهبوط، وقد بعدا عن الأبنية حتى وقف بها سعيد في مكان سمعت فيه أنين ساقية وخرير ماء فقال لها: «وصلنا يا عابدة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤