الفصل الحادي والستون

سعيد وهواجسه

خرجت عابدة من عند سعيد، وعادت إليه هواجسه بأشد مما كانت عليه، فتصور كيف أنه يخادع هذه الفتاة المخلصة ويغريها على المخاطرة بنفسها، بمواعيد كاذبة، ويراها شديدة الثقة به وهو ينوي خيانتها، فرجع إلى تعقُّله فرأى أنه يفعل أفعالًا لا يرتكب مثلها إلا المجانين؛ إنه سيرتكب جريمة قتل تحت أشد الأخطار. وعاد إلى التفكير في مهمته السياسية الأصلية، وكيف أنه كاد يفوز بها لو لم يُلهِه عنها حب الزهراء، ولما تذكَّرها خفق قلبه وأعمل فكره في أمرها، وقال: «قد يكون سعيد من قلب الزهراء مثل عابدة من قلب سعيد، فأنا أداجي عابدة وأعدها، فهل الزهراء تداجيني؟ ولكن سعيدًا غير عابدة. إن من يرتكب ما ارتكبته ويعمل ما عملته لا يشقُّ عليه أن ينتقم من تلك الجارية، إني أريها العذاب ألوانًا، لا، لا، لا أفعل ذلك مع الزهراء؛ إنها حبيبتي، لماذا أنا مستسلم لها! أتركها وشأنها والنساء كثيرات، وهذه عابدة المسكينة تتمنى رضاي. إن حب الزهراء سبب بلائي، وسيكون سببًا في ضياع أمة برمَّتها. ألم يضع الإمام العبيدي ثقته فيَّ، وأهل إفريقية ينتظرون نتيجة سعيي؟» وحين فكر في ذلك هبَّ من فراشه كالمجنون، ووضع كفَّيه على عينيه كأنه يستحث قريحته لإعمال الفكر في حقيقة حاله، ووقف لحظة ثم عاد فجلس على الفراش، وقد تمثلت له الزهراء في أشهى ما يتمناه فقال: «إن نظرة إلى حسناء تساوي العالم برمَّته، وما لذة الإنسان من المناصب والمراتب إذا لم يكن له حبيب يحبه؟! الزهراء تساوي كل شيء، ولا بد من المخاطرة في سبيل تحقيق الأماني، وما فاز باللذات غير الجسور. أما عابدة فإني أشغلها بسواي وأرضيها.»

قضى بقية ذلك الليل في مثل هذه الهواجس ولم ينم إلا قليلًا، واستيقظ في الصباح على نقر الباب ففتح عينيه، فرأى ياسرًا داخلًا فجلس له وحياه ورحب به، فقال ياسر: «أظنني أقلقتك من نومك؟»

قال سعيد: «كلا، بل أنا في شوق إلى رؤيتك؟»

قال ياسر: «وأنا أيضًا، وقد استبطأتك وكنت أحسبك تبعث إليَّ مبكرًا لتقص عليَّ ما جرى أمس.»

فعلم أنه يعني ما جرى بينه وبين الزهراء؛ لأن ياسرًا يكرهها ويريد أن يوقعها في شر يحقِّرها في عيني الناصر انتقامًا منها لما يتوهَّمه من عقوقها ونكرانها للجميل، وهو يعتقد أنه كان السبب في إدخالها بلاط الناصر، فلم تقدِّر له هذا الجميل. وظهر له من حديثه مع سعيد مرةً أنه يوافقه على ذلك، وكان يظن أنه يستطيع بالتنجيم معرفة سبب اجتماعها بعبد الله ويفشيه للناصر فيغضب عليها وربما طردها، وأدرك سعيد كل ما كان يجول في خاطر ياسر فقال: «إن أمر هذه الجارية حيَّرني ولم أستطع كشف سرِّها تمامًا، مع أنني قضيت ليلتي الماضية ساهرًا ولم أنم إلا قليلًا، وأنا أفكر في أمرها، ولما رأيتك داخلًا ظننتك أتيت لتدعوني إلى أمير المؤمنين لأنه أكثر الناس تطلُّعًا إلى ذلك.»

قال ياسر: «إنه لم يعد من قرطبة.»

قال سعيد: «هل قضى ليلته هناك؟ ولماذا؟»

قال ياسر: «لأنه ذهب لمقابلة بعض وفود ملوك فرنسا، وإيطاليا، وهو يفضِّل أن يستقبلهم في قصر قرطبة، فلما أبطأ في الرجوع بات هناك، وقد أوصاني قبل ذهابه أن أفتح عينيَّ وأراقب كل حركة.»

فضحك سعيد وقال: «يظهر أنك لم تكن ساهرًا.»

ففهم مراده، فقال: «كنت ساهرًا، وقد رأيت ساهرًا يدخل القصر بملابس بعض الوصفاء، فسهلت له الدخول على أن تتورط هي فتقع وقعة لا قيام منها.»

فأطرق سعيد، وفكر في نتيجة وقوع الزهراء في الذنب، فرأى أن الناصر يغضب عليها، فيتوسط هو في الصلح فيكون له فضل عليها يزيد رضاءها عليه، ويحب من الجهة الأخرى — إذا كان بينها وبين عبد الله توادٌّ — أن يكون قصاصها على يد الناصر. فقال سعيد: «ومتى يعود الخليفة من قرطبة؟»

قال ياسر: «لا أدري، ولعله يعود في هذا المساء، وقد يبيت هناك الليلة أيضًا ويأتي غدًا، وعلى كل حال فأنا أنتظر رجوعه بفارغ الصبر.»

فقال سعيد: «ترى ماذا يفعل الناصر إذا تحقق مما بين الزهراء وبين ابنه من هوًى؟»

قال ياسر: «أظن أنه يطردها، إذا لم يقتلها.»

فسكت وأظهر أنه يهم بالنهوض، فنهض ياسر وخرج وهو يقول: «وفق الله مسعانا.»

فلما خلا سعيد بنفسه أعمل فكره، فرأى أن سعي ياسر ضد الزهراء يفيده طالما كان حائزًا على ثقة الخليفة يديره كيف يشاء، فقرر أن يترقب الفرص.

أما ياسر فجعل همه في ذلك اليوم مراقبة الأبواب، لعله يرى عبد الله داخلًا ليشي به إلى الخليفة وهو مجتمع بالزهراء، ولكنه كان يخشى أن يأتي عبد الله ويعود قبل رجوع أبيه من قرطبة، فبعث أحد الخصيان يسأل في قرطبة عن موعد رجوع الخليفة متى يكون، فعلم أنه سيعود بعد الغروب، فأعطى الأوامر ليكون القصر في تأهب لاستقبال صاحبه، وعاد إلى مراقبة الأبواب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤