الفصل السادس والستون

الورقتان

فاستحسن الناصر هذا الرأي، وأشار إليه أن يمضي لتحضير العلاج وإرساله، وبعث أحد الغلمان إلى سعيد فأتى، فقص عليه ما أشار به الطبيب فأظهر موافقته على ذلك العلاج، واستأذن في الذهاب لاستقدامها، وقلبه يكاد يطير من الفرح لسنوح هذه الفرصة ليتم بها غرضه.

وكانت عابدة في غرفتها وعندها بعض الجواري يتحدثن بما هو مكتوب على ذلك اللوح، وهن يستغربن تنفيذ القتل بهذه السرعة، فلما رأت سعيدًا قادمًا أسرعت إليه، وقد زادت ضربات قلبها وعلت الحمرة وجنتيها وأبرقت أسرَّتها، فمشى هو أمامها إلى غرفته، فلما دخلت سلمت عليه فهش لها واستدناها فأجلسها إلى جانبه ولاطفها، ووضع ذراعه على كتفيها كأنه يضمها تحببًا، فأحست بقشعريرة لم تشعر بمثلها من قبل، فزاد تورد وجنتيها ولمعت عيناها وأطرقت خجلًا، وقلبها يخفق فرحًا وهيامًا فقال لها: «قد آن الوقت ودنت الساعة، وإنما تتوقف سعادتك عليك.»

فقالت عابدة: «تتوقف السعادة عليَّ؟ عليَّ أنا؟ إني رهينة ما تريد في سبيل هذه السعادة.» قالت ذلك بلهفة المحب المتفاني.

قال سعيد: «نعم عليك، أين الورقتان اللتان أودعتهما عندك؟ هل أنت محتفظة بهما؟»

فنظرت إليه نظر العاتب وهي تبتسم وقالت: «كيف لا أحتفظ بوديعتك! بل كيف أقدر على أن أخالف لك أمرًا!» ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت الورقتين في صرة ودفعتهما إليه.

فتناول الصرة وقال: «أتعلمين ما بداخل هذه الصرة؟»

قالت عابدة: «ورقتان.»

قال سعيد: «وما فيهما؟»

قالت عابدة: «أحسب أن فيهما سمًّا، فهل هذا صحيح؟»

قال سعيد: «الصحيح لا أقوله لك الآن» وحدَّق في عينيها فحولت بصرها عنه، وأحست كأنَّ سهمًا اخترق أحشاءها أو تيارًا كهربائيًّا تسرَّب في عروقها، فأطرقت وهي تنتفض.

فأتم سعيد كلامه قائلًا: «إن في هذه الأوراق مخدرًا ينام صاحبه نومًا طويلًا.»

فقالت عابدة: «نعم.»

قال سعيد: «فهمت؟ إن هذه الأوراق منومًا لا يقظة لنا بدونه.»

فرفعت بصرها إلى فمه ولم تجسر على أن تنظر في عينيه وقالت: «لم أفهم ما تريد يا سيدي.»

قال سعيد: «ألا تذكرين أني سألتك يومًا ونحن في الأرباض إذا كنت تتحملين خطر القتل من أجل الحب؟»

قالت عابدة: «نعم، وأذكر أني قبلت أن أتحمل كل خطر، وأنا الآن أعترف بذلك وأفتخر به.»

قال سعيد: «اعلمي أن الخليفة يشكو من أرقٍ وانقباض، وقد وصف له الطبيب من يسامره أو ينادمه بالغناء بألحان مطربة، وذكر الألحان التي استنبطها الفارابي للضحك والطرب، والخليفة يعرف أنك تُحسنين هذه الألحان، فطلب إليَّ أن أدعوك إليه وأُفهمك ما يلزم، فها أنا قلت لك.» وسكت.

فظلت ساكتة تنتظر تتمة الحديث، فرأته قد شُغل عنها بحكِّ أنفه فقالت: «وما علاقة هذا بالخطر؟»

فنهض سعيد وقال: «لا علاقة بينهما، صدقت، دعي هذه الأوراق معي وقومي لمنادمة الخليفة. فإني أخاف أن يستولي عليك الضعف.»

قالت عابدة: «لا تخف من شيء، فإن أوامرك تبثُّ فيَّ قوة وشجاعة.»

وكان يعلم أن أمره نافذ عندها ولو ضد إرادتها، وقد اختبر ذلك مرارًا، فإذا أمرها وشدَّد أمره ونظر في عينيها وهي تنظر في عينيه استهواها، فتعمل ما تؤمر به حرفيًّا، وهو ما يعبِّر عنه علماء اليوم بالتنويم المغناطيسي، ولم يكن تعليله معروفًا في ذلك العصر أو ربما عبَّروا عنه بالسحر، فلما قالت له ذلك أمسك يدها بين يديه وحدَّق في عينيها، وأمرها أن تنظر في عينيه ففعلت، فدفع إليها الورقتين وقال لها: «إني آمرك أن تسقي ما في هذه الورقة للخليفة الناصر في هذا اليوم.»

فارتعشت وغُلبت على أمرها، وقالت: «سأفعل ذلك يا سيدي.»

قال سعيد: «اسمعي يا عابدة، ضعي هذه الورقة في جيبك واذهبي الآن إلى الخليفة وهو في غرفته على فراشه ومعك القانون والعود، وغنِّيه وأطربيه واسقيه من الشراب الذي وصفه الطبيب. فهمت؟»

قالت عابدة: «نعم.» وهي تحدق في عينيه ويدها ترتعش بين يديه.

قال سعيد: «فإذا سمعت أذان نصف الليل فاعمدي إلى هذه الورقة فصبي ما فيها في كأس الشراب، وقدميها للخليفة، وبعد أن يتناولها ببضع دقائق يغلب عليه النوم ويبقى نائمًا إلى الأبد.»

قالت عابدة: «نعم، وماذا أفعل بعد ذلك؟»

قال وهو يُخرج الورقة الأخرى: «وبعد ذلك تأتين إلى هذه الغرفة، فإذا لم تجديني فيها فإنك تجدين قدحًا فيه ماء، فصبِّي فيه هذه الورقة واشربيه فتنامين ريثما آتيك، وقد أعددت كل ما يلزم للفرار إلى مكاننا حيث نكون قد قمنا بما علينا، وقد دبرت كل شيء.»

فتناولت الورقتين وخبأتهما في جيبها ولم يبدُ عليها اضطراب أو خوف. لكنها قالت: «هل هذا آخر سعي لنا في سبيل السعادة؟»

قال سعيد: «نعم، امضي وانتبهي لأذان نصف الليل.»

فنهضت وتناولت العود وسارت إلى غرفة الخليفة وأخذت تغنيه وتسقيه كما أوصاها الطبيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤