الفصل السابع والستون

الفرار

أما سعيد فمكث بعد ذهاب عابدة مدة صامتًا، يفكر في خطورة الأمر الذي كلفها به، وكيف أنها طاوعته بلا تردد، فلم يبقَ عليه إلا أن يفر بالزهراء، وأراد أن يقتل الناصر مخافة أن يبعث في طلبه بعد فراره بأحب جواريه إليه، وأن يقتل عابدة ليبقى أمره خفيًّا.

فذهب إلى الزهراء في غرفتها، فقابله جوهر بالباب فسأله عنها فقال: «إنها ما فتئت منذ علمت بمقتل الأمير عبد الله ورفيقيه وهي منقبضة النفس لا تكلم أحدًا.» فعلم سعيد أن سبب اضطرابها أنها قرأت اسم أخيها على لوح الإعلان بإعدام هؤلاء، فقال: «استأذن لي في مشاهدتها.» فأجاب مطيعًا، وكانت قد علمت أنه من رجال سعيد، وقد أدخله في بلاط الناصر جاسوسًا، فهو يتفانى في خدمته ويحتفظ بسره.

عاد جوهر وأشار إلى سعيد بأن يدخل، فدخل وهو يمشي الهوينى كأنه يفكر في شيء شغل خاطره، فوجد الزهراء جالسة على وسادة وقد أسندت خدها بكفها واستغرقت في التفكير، فلما شعرت بدخوله رفعت رأسها إليه، فتفرست فيه لحظة ثم عادت إلى الإطراق.

فتقدم سعيد نحوها وقال: «هل تحققت من صدقي؟» فلم تجبه.

فقال سعيد: «يا حسناء قولي، هل علمت أني قلت لك الصدق عن أخيك، وأخلصت لك النصح في كيفية إنقاذه؟»

فرفعت بصرها إليه، وقد تلألأ الدمع في عينيها، وبدت مظاهر العتاب والأسف على محيَّاها، وقالت: «آه! ليتك لم تقل شيئًا، ولو أنني بقيت جاهلةً أمر أخي لكان خيرًا لي من أن أرتكب في سبيل إنقاذه خيانة سيدي وولي نعمتي.»

قال سعيد: «أراك تزدادين حبًّا له؟»

قالت الزهراء: «كيف لا ولم أرَ منه شرًّا، بل لم أسمع منه كلمة تسوءني، وقد رفع منزلتي وقدمني على سائر نسائه، وبنى هذه القصور حبًّا فيَّ. كيف لا أحبه؟ بل كيف لا أعبده؟ هذه هي المحبة الخالصة و…» وسكتت كأنها همت أن تقول شيئًا وأمسكت نفسها حياء.

ولم يفته أنها كانت تشير إلى محبته غير الخالصة فقال: «تعيِّرينني بمحبة الناصر يا حسناء؟ لماذا لا يحبك وأنت تتفانين في خدمته؟ وأما القصور فقد بناها لنفسه وحاشيته، وأما المحب الصادق فهو الذي يرى نفورك ويأبى السعادة بعيدًا عنك، يرفض المُلك ويحترف التنجيم والتعليم للوصول إليك، يعرِّض حياته للخطر من أجل حبك. هذه هي المحبة الخالصة، وهذا هو المحب الصادق. دعينا من هذا الآن وقولي هل أنت عازمة على إنقاذ أخيك أم لا؟ وقد عرفت اليوم بنفسك مقدار غضب الناصر عليه.»

فأجفلت وقالت في ذلة وانكسار: «نعم عرفت.»

قال سعيد: «إذا كانت نجاته لا تهمك، فذلك أمر آخر.»

قالت الزهراء: «أنت تعلم أن نجاته تهمني كثيرًا، ولكن الطريق وعر.»

قال سعيد: «ولا بد دون الشهد من إبر النحل، ومع ذلك فإني لا أرى مشقة عليك في الخروج من هذا القصر ليلة واحدة وتعودين في الصباح وأخوك معك، وتستعطفين الناصر عليه ثم تستقدمينه كما تشائين. إذا كنت عازمة على الخروج معي فقولي وإلا فأنا ذاهب.» قال ذلك وأظهر أنه يريد الخروج فابتدرته قائلة: «وتهددني أيضًا؟! أهكذا تكون الأريحية؟! ألأني في حاجة إلى خدمتك تنتهرني؟!» واغرورقت عيناها بالدموع.

فجثا بين يديها وتظاهر بالتأثر من قولها وقال: «حاشا لله أن أهددك، فإني إنما ألتمس رضاك وأبذل حياتي في سبيل حبك. أنت صاحبة الأمر، قولي، قولي وأنا أفعل ما تريدين حتى الموت، وأنا مستعد لاستقباله باسمك. آه لو كان لك قلب مثل قلبي فتدركين مقدار حبي لك! ولكنك قاسية القلب، وطالما وصفتك بهذا الوصف.»

فتنهدت تنهدًا عميقًا وقالت: «سامحك الله على هذه التهمة، إني أكاد أكون مجبولة بالحب. وإذا أحببت فإلى حدٍّ لا يتصوره العقل، ولك من حديثي بالأمس عن قتيل النهار أحسن مثال!»

فقطع حديثها قائلًا: «يظهر أنك لم تبغضي أحدًا سواي؟»

قالت الزهراء: «أعترف لك يا سيدي أني لم أحبك، ولكن إذا صدقت الخدمة في إنقاذ أخي فإني أحبك ولو على سبيل الشكر.»

فنظر إليها شذرًا وقال: «أقول إني ميت في حبك، وقد ركبت كل مركب خشن في سبيلك، وأنت تشترطين في حبي ألف شرط؟! آه! إنك ترغمينني على أن أبوح لك بذنب ارتكبته في هذا النهار من أجل حبك.»

قالت الزهراء: «وما هو؟»

قال سعيد: «أنت تعلمين حبي للأمير عبد الله، وقد كنت عنده معززًا مكرمًا، ولكنني أعلم أنه يعرف مقر أخيك، وقد خشيت إذا استجوبه الخليفة أن يدله عليه فيقتله، فأشرت على الناصر بأن يبادر إلى قتل عبد الله وقتل رفيقه دون مواجهتهم، وقد فعل. ألا تعدِّين ذلك فضلًا لي؟»

فانطلت حيلته عليها وصدقته وقالت: «صدقت.»

قال سعيد: «وتقولين إنك ربما تحبينني إذا أنقذت أخاك؟»

قالت الزهراء: «أتريد أن أخدعك؟! هذا ما أشعر به، وسنرى!»

قال سعيد: «لا أفعل شيئًا لا يرضيك، وسترين، وأنا راضٍ بتأجيل الحب حتى تتأكدي من خدماتي. فقولي الآن هل تذهبين؟»

قالت الزهراء: «إلى أين؟ ومتى؟»

قال سعيد: «تذهبين معي الليلة إلى أرباض قرطبة حيث تلاقين أخاك كما قلت لك.»

فرفعت نظرها إليه وقالت: «كيف أذهب؟»

فحدق في عينيها تحديقًا شديدًا وقال: «تذهبين متنكرة على بغلة بثياب صاحب البريد ومعك جوهر الخادم، وأنا ألاقيك خارج هذا القصر ونذهب معًا، وسترين أني صديق صادق. قولي: نعم، قولي، لا تخافي، فما فاز باللذات غير الجسور!»

فأحست بضعف الإرادة، فنهضت وهي تتنهد وكأنها تتأهب للخروج وقالت: «متى أخرج؟»

قال سعيد: «اخرجي بعد الغروب، وفي ركابك جوهر.»

قالت الزهراء: «وبعدئذ؟»

قال سعيد: «وبعد ذلك أخرج أنا من باب آخر، ونلتقي معًا خارج هذه القصور في الطريق المؤدي إلى قرطبة، ثم نذهب معًا إلى أخيك.»

قالت الزهراء: «هل أنت واثق أني أجده هناك؟»

قال سعيد: «نعم.»

قالت الزهراء: «هذا آخر اجتماع لنا هنا؟»

قال سعيد: «لا حاجة إلى اجتماع بعده، فقد تم الاتفاق بيننا، اخرجي أنت مع جوهر، ألا تثقين بأمانته؟»

قالت الزهراء: «نعم.»

قال سعيد: «أخبريه بعزمك على الخروج الليلة لمشاهدة أمر يهمك، وأنك لا تحبين أن يعلم أهل القصر بخروجك، وقولي له إنك سوف تتنكرين في ثوب صاحب البريد، فإن صاحب البريد لا يُسأل عن خروجه ودخوله، وخصوصًا إذا كان معه أحد غلمان الزهراء، واطلبي إليه أن يهيء لك الثياب والبغلة.»

فوقفت هنيهة وهي مطرقة تُعمل فكرها كأنها تتردد، فخشي أن تعدل عن عزمها فقال: «إذا كنت تخافين من الخروج، فلستِ أهلًا لإنقاذ أخيك.»

فلما ذكر أخاها عادت إليها جسارتها وقالت: «نعم أذهب، وسنلتقي بعد العشاء في الموقف الثاني في الطريق بين الزهراء وقرطبة.»

فقال سعيد: «بارك الله فيك، وأنا ذاهب لنلتقي هناك.» وخرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤