الفصل الحادي والسبعون

الفخ

أما سعيد فقد تركناه على ظهر السفينة ومعه الزهراء، وقد تولاها الخوف وأوشكت أن تيأس من النجاة، لكنها صبَّرت نفسها لترى عاقبة الصبر، وقد سارت السفينة بهم ساعة والريح خفيفة، وسعيد يحاول استرضاء الزهراء وهي لا تزداد إلا اضطرابًا، تنتقل في السفينة من جانب إلى جانب، وتتطلع إلى الشاطئ والظلام يحجب الشاطئين عنها. لولا ما تراه من بصيص الأنوار في بعض الأماكن.

وكان جوهر في أثناء ذلك متشاغلًا لا يتكلم، فرأت سعيدًا يغافل جوهرًا ويدور من ورائه وبيده كيس معلَّق بحبل قد حمله سعيد، ومشى الهوينى وجوهر مشتغل بربط حبل الشراع إلى السارية، وقد وقف على حافة السفينة والظلام حالك والرجل في غفلة، فاستغربت الزهراء ذلك التلصص ولم تفقه له معنى. على أنها لم يُطِل نظرها في الأمر حتى رأت سعيدًا قد وثب على جوهر، فجعل ذلك الحبل حول عنقه ورفسه برجله فسقط في الماء إلى قاع النهر، فصاحت الزهراء: «ويلك! ماذا فعلت؟» ووقفت وركبتاها ترتجفان وهي تنظر إلى الماء تتوقع أن يسبح جوهر، فلم يفعل لأنه كان في الكيس حجر هبط به إلى القاع، فصاحت: «ما هذا؟» فتجاهل سعيد ثم قال: «لعل جوهرًا سقط في الماء.»

فقالت الزهراء: «تقول ذلك وأنت الذي أغرقته؟!»

قال سعيد: «ما لنا وله! دعينا وحدنا.»

قأيقنت عند ذلك بوقوع الخطر، فصاحت فيه: «ويلك يا خائن! كيف قتلت الرجل وهو خادمك الأمين؟! ما أسهل القتل عليك!»

وكان سعيد قد قبض على الدفة وجعل يديرها نحو الشاطئ، فلم يُجبها حتى رست السفينة، فنهض إليها وتناولها بيده وقال: «اطلعي إلى البر.»

فتراجعت وقالت: «إلى أين؟ لا، لا أطلع.»

قال سعيد: «أتريدين البقاء في السفينة؟»

قالت الزهراء: «بل ألقي بنفسي في الماء، الموت خير لي من رفقتك.» واجتذبت يدها من يده، وهمَّت أن تلقي بنفسها في النهر فمنعها وهو يقول: «ألا تريدين أن تلاقي أخاك؟ قد وصلنا إلى مكانه وتخلصنا من التعب.»

فلما سمعت قوله عاد إليها أملها وأطاعته فنزلت إلى البر، وقد بان الفجر فالتفتت إلى ما حولها، فإذا هي في بستان في وسطه بيت كالذي كانت فيه منذ هنيهة، ورأت البغال هناك أيضًا، ثم شاهدت الكلب الذي رأته بالأمس، وإذا بسعيد قد تناول المفتاح وفتح الباب، وأشار إليها أن تدخل فتحققت أنها في البيت الذي كانت فيه منذ بضع ساعات، وأن سعيدًا لم يركب السفينة إلا ليغرق جوهرًا في الماء، فأصبحت ترتعد من فظاعة ذلك العمل، ولما دعاها للدخول أبت، وقالت: «لا أدخل إلا إذا قلت لي أين أخي؟»

قال سعيد: «يظهر أن أخاك وسائر رجالنا فرُّوا من هذه الديار حين بلغهم مقتل الأمير عبد الله، والغالب أنهم رجعوا إلى القيروان حيث كان موعدنا من أول الأمر، فقد اتفقنا على أننا إذا أحسسنا بالفشل ونحن في أي مكان رجعنا إلى القيروان، فما علينا الآن إلا أن نذهب إلى هناك.»

قالت الزهراء: «ألا تزال تخدعني؟ لقد انكشفت لي خيانتك، ولكن ويلاه! بعد أن ضاعت حيلتي.» قالت ذلك وجلست على الأرض وأخذت تبكي وتلطم وجهها.

فأمسكها سعيد وأراد إنهاضها وهو يقول لها: «لا تستسلمي إلى الظنون. ما أنا والله بخائن، وإنما محب عاشق. أقلعي عن هذا الجنون وتعالي معي إلى القيروان فتشاهدي أخاك، وبعد ذلك إذا شئت رجعنا به إلى قرطبة، وإلا بقينا هناك في أرغد عيش.»

قالت الزهراء: «ألا تزال تذكر الحب والغرام وقد ظهرت خيانتك؟»

فأمسك بيدها وقال: «ادخلي إلى البيت وافعلي ما شئت. لا فائدة من بقائك هنا. قومي ادخلي.»

فأطاعته ونهضت حتى دخلت البيت وعرجت إلى أقرب الغرف فوقفت إلى الحائط وهي في غاية الاضطراب.

فجثا أمامها جثو المتضرع وقال: «آه يا حسناء! والله إني أحبك، أحبك، وتحبك كل جارحة من جوارحي. قد تعرضت للأخطار واقترفت الذنوب وأتيت الفظائع طمعًا في الوصول إليك، فهل يُعقل أني أخونك؟ سترين مني ما ينسيك هذا العذاب. نعم إني أسأت إلى كثيرين، ولكنني فعلت ذلك في سبيل حبك، ارحمي متيمًا لا يطلب من الدنيا سواك.» قال ذلك في تذلل ويكاد الدمع يتناثر من عينيه وهو شاخص إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤