الفصل الثامن

المناجاة

انصرفت عابدة وسعيد يشيِّعها ببصره، ثم وقف برهة وهو غارق في بحار الهواجس ينظر إلى الأرض، تارة يحك ذقنه بسبَّابته، وتارة أخرى يتشاغل بإصلاح قبعة كان يلبسها على رأسه. والخادم واقف وبيده المصباح ينتظر أمره، ولا يجسر على أن يخاطبه تهيُّبًا مما كان يبدو على وجهه من مظاهر الاهتمام والارتباك. ثم انتبه سعيد لنفسه وسار إلى غرفة النوم، وأشار إلى الخادم أن يضع المصباح هناك وينصرف.

ثم نهض سعيد، وأغلق باب الغرفة واستلقى على فراشه، ولم يبدِّل شيئًا من ثيابه، كأنه لا ينوي النوم في تلك الساعة لمَا قام في خاطره من الذكريات. وظل مستلقيًا برهة وهو غارق في التفكير، ثم جلس فجأة، وأخذ يناجي نفسه قائلًا: «ماذا أفعل؟ إنها تحبني كثيرًا، ولكنني لا أشعر أني أحبها، بل لا أستطيع أن أحبها؛ مع أنها جميلة وذكية و… لماذا لا أحبها ويستريح قلبي من التفكير في سواها!» وضرب جبينه بكفه وصرَّ على أسنانه، ونهض وأخذ يمشي في الغرفة، ثم وقف وقال: «مسكينة عابدة! إنها جميلة، وأديبة، وذكية، وهي تحبني، بل هي تهيم بي وتتفانى في سبيل رضاي، فلماذا لا أحبها! لماذا لا أحبها وأنزع صورة تلك القاسية القلب، الشامخة الأنف من ذهني! نعم، ينبغي لي أن أبغض هذه وأرذلها وأطرد طيفها من ذهني. آه! إني إذا فعلت ذلك فأنا سعيد البطل الحازم، وأكون أهلًا للأمر الذي يحسبني هؤلاء القوم أسعى إليه، وأني إنما قمت هنا لنصرة المظلومين، ولدفع الظلم عن المظلومين. نعم، ينبغي أن يكون هذا غرضي الوحيد. نعم، إذا طردت ذلك الخيال من ذهني؛ خيال تلك المتكبرة القاسية، إذا نزعتها من فكري وأحببت عابدة، إذا فعلت ذلك يرتاح قلبي وأتفرَّغ للعمل العظيم الذي يتوقعه الناس مني. نعم، هكذا يجب أن أعمل. هكذا يجب أن يكون سعيد القائد الحكيم الحازم.»

قال سعيد ذلك وأخذ يخلع ثيابه، فخلع الفراجية وعلقها على وتد في الحائط، ثم نزع قبعته من على رأسه ودار وهو لا يدري أين يضعها لاضطراب ذهنه، فرمي بها إلى الأرض، وأطفأ المصباح، واستلقى، فعادت إليه هواجسه، وهجره النوم، وتراكمت عليه الخيالات، فوضع الغطاء فوق رأسه كأنه يختبئ من هذه الخيالات فلم يرها إلا تزداد، وازداد انتباهه حتى سمع دقات قلبه بأذنيه. فصبر حتى أخذته سِنَة من النوم برهة، فرأي حلمًا أزعجه، فوثب من فراشه كالمجنون وهو يقول: «لا لا، يجب أن أحب عابدة التي تكاد تعبدني، وأنزع تلك الصورة من ذهني، وإلا فما أنا سعيد كما يسمونني. ما بالي لا أشعر أني أستطيع ذلك! ما هذا الخيال الذي يتردد أمام عيني! اذهب عني، دعني وشأني، إني قد عزمت على السلوان، كيف لا! إني أشعر بقوةٍ أزيح بها الجبال، وأغالب أعقل الناس وأدهاهم، فكيف لا أستطيع امتلاك قلبي؟ ماذا أرى؟ هذا خيالها.» وأطبق كفَّيه على عينيه، كأنَّ أمامه شبحًا لا يريد أن يراه وقال: «اذهبي عني، دعيني وشأني، قد آن لي أن أرجع إلى رشدي، وقد بلغت الأربعين من عمري، فيجب أن أنسى عواطف أبناء العشرين والثلاثين. نعم، يجب أن أنساها لأنها نسيتني وتعلَّقت بسواي. تعلقت بسواي؟ إذن هي احتقرتني فيجب أن أنتقم منها. انتقم منها؟ لا، لا، لعلها معذورة، وإذا رأتني تتذكر الماضي وتعود إليَّ! هل يكون ذلك! وا فرحتاه! إني أراها تبتسم لي وتهمُّ بمعانقتي. آه! ما أجمل رضاها! إنه ينسيني عابدة وسائر العباد. هل يجود عليَّ الزمان بذلك! نعم، لا بد أن يجود. سأجعله يجود رغم أنفه. سأضحي بكل شيء في سبيل الوصول إلى تلك الحبيبة، فإما أن أنالها أو أنتقم منها ومن …» وسكت لأنه سمع حركة فتوهَّم أن عابدة قادمة نحوه، فوقف، والظلام حالك، وهو يتوقع أن يسمع قرع الباب فلم يسمعه، فعلم أنه واهم، ولكنه عاد إلى تذكر عابدة فقال: «عابدة المسكينة! هل أهملها؟ لا، بل أجعلها سعيدة مع سواي. أو … ولكن بعد أن تخدمني في تحقيق غرضي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤