الفصل السادس

الحب واليأس

في أعماقي حنين مكبوت لشيء بلا اسم، لم تعد الأسماء المتداولة تصلح، كلمة الحب قاصرة عاجزة محملة بالتحريمات، بالإباحات، بالقيم المعكوسة.

في الليل أحلم به، في النهار أبحث عنه، عنها، عنهم، عنهن، بالمفرد، بالجمع، بالمذكر، بالمؤنث، فهو يتجاوز هذه التصنيفات، مصنوع من مادة ليست الروح وليست الجسد وليست العقل، هي مزيج الثلاثة في تكوين جديد لا يشبه أحدًا من البشر، ليس له لحية ولا شارب، ولا أثداء ولا أرداف ولا رحم ولا قضيب، مع ذلك له ملامح الإنسان، العينان لا أرى فيهما إلا الضوء، الذراعان لا يحوطاني إلا بالحنان، اليدان لا تحملان أساور ولا خواتم ولا سلاسل، يدان مفتوحتان لا تحملان من الهدايا إلا الحب.

وأنا أمشي ألمح وجهًا يشبهه، أتوقف فجأة كأنما أصحو من الحلم، أو أسقط في غيبوبة النوم، نظرة العينين تذكرني، حركة الجسم وهو يمشي، الطريقة التي يحمل بها رأسه وتدوس قدماه الأرض، رنين صوته في أذني، لم أسمعه من قبل وسمعته قبل أن أُولد، يختلف عن أصوات الرجال والنساء، مع ذلك يبدو مألوفًا، يهمس في أذني كل ليلة، يناديني نوال، يعرفني، يلتقطني من بلايين الأجرام السابحة في الكون، يحوطني، لا أدرك من كيانه إلا العناق، تغرقني اللذة كالمياه الدافئة في بحر الإسكندرية، منذ طفولتي يراودني هذا الحلم، أكثر من ستين عامًا يراودني في النوم واليقظة، هو الوحيد بين الكائنات الحية يعرف كيف يعانقني، كيف يذوب كيانه في كياني، بلا ألم بلا أسى بلا إثم بلا توبة، بلا إذن، ولا مأذون، ولا استئذان، أستجيب له كالسماء تحن إلى الأرض، كالصحراء لم تعرف المطر، كالطير يندفع تجاه البحر، كالفراشة تنجذب إلى اللهب، تنحرق تصير رمادًا، مع ذلك لا تكف عن الانجذاب والاحتراق حتى الموت والحياة من جديد دون توقف.

أهي اللذة المستحيلة إلا في الخيال؟! في طفولتي كنت أسمع النسوة يتهامسن بها، يقربن رءوسهن، يسري بينهن الهسيس، الشبق المحترق في عيونهن، الشهوة المكبوتة في أعماق الجسد، والروح والعقل، يتزوجن وينجبن ويبلغن سن اليأس وهي مكبوتة، يعشن ويمتن ويُدفن في القبور وهن عذراوات، لماذا يعجز رجال العالم عن فض بكار النساء في الحياة الدنيا؟! أهي مشكلة تاريخية منذ انفصال الروح عن الجسد والسماء عن الأرض؟! ألهذا ليس للرجال عمل في جنة عدن إلا فض بكارة العذراوات؟

لكل واحد منهم اثنتان وتسعون عذراء، ويعود الغشاء سليمًا ليتمزق ثم يعود سليمًا ليتمزق وهكذا إلى ما لا نهاية؟!

•••

عام ١٩٥٨م قضيته في مستشفى الأمراض الصدرية بالعباسية، أركب الأتوبيس من الجيزة إلى ميدان التحرير، ثم الترام إلى العباسية، أهبط في نهاية الخط، أمشي في الصحراء مسافة الساعة بخطوة سريعة، أمر في الطريق بمستشفى الأمراض العقلية، الأشجار الكثيفة الأوراق تطل من وراء السور العالي، رءوس المرضى المنكوشة، يقفز أحدهم من فوق السور، يقبل نحوي داخل مريلته البيضاء مربوطة بحزام رفيع حول الوسط، يقهقه باندهاش إنتي مجنونة ولا إيه؟!

أمي اشتد عليها المرض، أسمع أنينها طول الليل، أبي كالجمل المنهوك يحمل العبء، أخي الأكبر تخرَّج واشتغل في مديرية التحرير، مشروع جديد بدأته الثورة لزراعة الصحراء، بقية الأخوة والأخوات في المدارس والجامعات، وأنا أصابني الهزال، أخرج كل صباح في السادسة لأصلَ المستشفى في الثامنة، ساعتان أقضيهما في الطريق، ساعة داخل الأتوبيس والترام، وساعة أمشيها في الصحراء، أصابتني ضربة شمس، تهب العاصفة فيغرقني الرمل، يدخل تحت ملابسي، بين القدم والحذاء، بين الجفن والعين، العرق يغرقني وأنا أمشي، أحمي رأسي من الشمس بحقيبتي، عيناي حمراوان، أصابع قدمي تسلخت، أصل إلى المستشفى منهوكة الجسد، هياكل بشرية تتحرك داخل العنابر، كالأشباح معلقة بين الحياة والموت، لا يكفون عن السعال، لكلٍّ منهم كوز من الصاج الصدئ مملوء بالدم والبصاق، بعضهم لا كوز ولا سرير ولا مرتبة، يرقدون على الأرض في الممرات، يبصقون على البلاط، بقع الدم كاللطع الحمراء، أدوس عليها وأمشي، أنفاسي محبوسة، الهواء معدوم والرائحة غير محتملة.

وجهي أصبح طويلًا نحيلًا، عيناي السوداوان اشتد سوادهما، علامة المرض بالسل، فالدرن الرئوي يضفي على العيون بريقًا كالضوء، الاقتراب من الموت يشعل الرغبة في الحياة، والرموش تزداد غزارة، وشعر الرأس يزداد نعومة وكثافة، يضفي الدرن على الإنسان جاذبية خاصة، رهافة الحواس مع الألم واليأس، والسير على الحافة بين الحقيقة والوهم.

في هذه الحالة تصير الكتابة هي الملاذ الوحيد، تتحول الحياة إلى حروف فوق الورق، المرض والموت والحب، الثالوث المترابط يصبح الإنسان فريسة له، يلتقط العدوى لأقل نفس، ينزف حتى الموت بلا صوت، ويسقط في الحب دون أن يكون هناك أحد.

كتبت قصة بعنوان: «الحرباء والحب»، لم ينشرها أحمد بهاء الدين في مجلة صباح الخير: «أرجوك يا نوال ابعدي عن الموضوعات الحساسة.»

– «وإيه هي الموضوعات الحساسة يا بهاء؟»

– «الثالوث إياه مش عارفاه؟» عارفة اتنين بس: ربنا وعبد الناصر، والثالث مش عارفاه؟

– «الثالث هو الجنس يا دكتورة.»

– «لكن القصة دي مافيهاش جنس خالص!»

كانت القصة تدور حول حرباء بلون الرمال، ألتقي بها في الصحراء كل يوم وأنا في طريقي إلى المستشفى، تهز ذيلها فرحًا حين تراني، أخاف منها، أتصور أنها حية، في خيالي منذ الطفولة خوف من الحية، أراها في الحلم تسعى كالأفعى، ألم تكن هي الشيطان الذي أخرج آدم وحواء من الجنة؟ لكن هذه الحية تفرح بلقائي، تقفز فوق تل الرمل رافعة ذيلها، عيناها الصغيرتان تلمعان في ابتسامة، أتفاءل بها، أفرح بوجودها، كانت صديقة لحواء، أليست هي الحية التي دلتها على شجرة المعرفة؟! قالت حواء في كتاب الله التوراة:

«قال الله لا تأكلا من ثمر هذه الشجرة ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت حواء أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل، فانفتحت أعينهما، وسأل الله آدم: هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها، فقال آدم: المرأة أعطتني من الشجرة فأكلت، فقال الله لحواء: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت: الحية أغرتني فأكلت، فقال الله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت، على بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وقال للمرأة: تكثيرًا أكثر أتعاب حملك بالوجع تلدين أولادًا وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي، وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فطرده الله من الجنة، وأقام آدم وحواء شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.»

لم تكن الحية عدوة المرأة، الرب هو الذي وضع العداوة بينهما، وهو يؤكد هذه الحقيقة في سورة البقرة: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وفي سورة طه فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى.

ترن كلمة «عدو» في أذني، أتوقف عندها، لماذا خلق الله العداوة بين حواء والحية وبين آدم وحواء؟ ألأنهم أكلوا من شجرة المعرفة؟ هل يمكن أن تكون المعرفة هي الإثم؟!

كل صباح، الحرباء تبتسم لي، أتوقف أبادلها الابتسام، إن لم أجدها فوق التل أبحث عنها، عيناي تفتشان عن جسمها النحيل الأصفر، إن لم تظهر ينتابني القلق، هل أصابها شيء؟ هل ضربها أحد وماتت؟ أنادي عليها بلا صوت، تحس خطوتي على الأرض، تخرج من تحت الرمل، ترقص حول نفسها بالفرح، ترفع ذيلها في الهواء علامة التحية.

في الطريق إلى المستشفى أمشي بنشاط، تخفف قلبي من العداوة، عصيت تعاليم الرب وأحببت الحية، ينتابني الإحساس بالذنب، يعود إليَّ الخوف، أيعاقبني الله على هذا الحب الآثم؟

•••

– اكتبي طلب للوزير يا نوال تطلبي فيه النقل من مستشفى الأمراض الصدرية.

صوت أبي يتردد في أذني قبل موته بشهر واحد، كنت أسعل طول الليل كالمرضى بالسل، يسمعني أبي فيصحو من النوم، ينهض يسقيني الدواء ويغطيني، لم أذهب إلى طبيب ليكشف على صدري، كنت أكره الأطباء وأريد الموت، يسقيني أبي الدواء كالطفلة رغم أنفي: «دكتورة إزاي ومش عارفة تعالج نفسها، باب النجار مخلع!» أكتم السعال في الوسادة حتى لا يسمعني، تصحو أم إبراهيم قرب الفجر، تناولني الكوب يتصاعد منه البخار: «اشربيه ع الريق يا ضكطورة اللبان الدكر المغلي أحسن من ميت دوا؛ اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.» يوم الجمعة تأخذني أشم الهواء في الخلاء، شاطئ ترعة الزمر يمتد وراء حي العمرانية، الحقول الخضراء الممدودة حتى الأهرامات، تمسك أم إبراهيم يدي وتمشي بين المزارع، تنقلني رائحة الفول الحراتي إلى القرية والطفولة، أفك يدي من يدها وأجري في المساحات الواسعة، عيناي تشربان الخضرة كالروح الظمأى، مسام جسدي تتفتح تحت أشعة الشمس، أفرد ذراعي أعانق الهواء الطلق، أحركهما كالجناحين أكاد أطير كما يحدث في الحلم: «الله يا أم إبراهيم الدنيا حلوة أوي.»

– «أيوه يا ضكطورة اضحكي كده زي زمان لما بتضحكي الشمس بتطلع.»

تحوطني بذراعيها كالطفلة في حضن الأم، أبكي فوق صدرها، أطلق سراح الدموع المكبوتة منذ ولدتني أمي حتى ماتت: «فضفضي عن نفسك يا ضنايا أنا أمك.» تتربع وسط الزرع داخل جلبابها الواسع، تحكي لي الحكايات بصوت جدتي، تستعيد وجه ابنها المفقود في الحرب، وابنتها المريضة في القرية، تمسح دموعها بكفها الكبيرة، تتطلع نحو الشمس وتضحك: «ما حدش واخد منها حاجة يا ضكطورة.» تمد يدها إلى الزرع، تقطف الفول الحراتي، تفصصه بأصابعها السمراء الطويلة، تناولني الحبة وراء الحبة، أقضمها بأسناني، وصوتها يسري في أذني تغني:

في البحر لم فتكم في البر فتوني … بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني … آه يا ليل يا عين.

انتقلت إلى مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة، كان أقرب إلى بيتي من مستشفى العباسية، وسط الحقول في نهاية حي العمرانية، لم أعد أُضيِّع في الطريق أربع ساعات، أسير من باب البيت إلى باب المستشفى على القدمين، مسافة أقطعها بالخطوة السريعة في ساعة واحدة رياضة يومية في الصباح الباكر على شاطئ الترعة، أستنشق رائحة الزرع والماء، لم يكن أبي مطمئنًا على صحتي، ما إن يسمعني أسعل حتى يقول: «اكتبي طلب للوزير، سيبي الأمراض الصدرية يا نوال، وافتحي العيادة في ميدان الجيزة.»

كانت العيادة حلم أبي وأمي، ماتت أمي قبل أن أحقق لها الحلم، فهل أحققه قبل أن يموت أبي؟ لم يكن معي ما يكفي لفتح عيادة، راتبي من الحكومة أربعة عشر جنيهًا، أنفقها كلها في البيت، أبي بلغ الستين وأحيل إلى المعاش، انخفض راتبه إلى النصف، الأسرة عددها بعد موت أمي عشرة أفراد، أنا وابنتي وأم إبراهيم والأخوان وأخواتي البنات الأربع، أختي ليلى تزوجت وتركت البيت، وأخي الأكبر طلعت سافر إلى مديرية التحرير.

•••

أول مبلغ أحصل عليه من الكتابة كان ثلاثة جنيهات، مكافأة عن قصة قصيرة، لم أعرف أن الأدباء يتقاضون رواتب ومكافآت، الكتابة عندي كالحب لا تنتمي إلى عالم الماديات.

أمسكت الجنيهات الثلاثة في يدي، قبضت عليها بأصابعي الخمسة، لأول مرة أدرك الترابط بين المادة والروح، لأول مرة ترتفع قيمة الفلوس في نظري، منذ الطفولة أسمع أبي ينطق الكلمة بازدراء «فلوس» يلفظها من فمه كالبصقة، لا يحب الفلوس إلا التجار، أصحاب الذمم الخربة، لا يقرءون الكتب، لا يشاركون في المظاهرات الوطنية، يضعون المليم على المليم ويكسبون الملايين، أصبحت محصنة ضد الثراء، كلمة تاجر تملؤني بالنفور.

وضعت الجنيهات الثلاثة في يد أبي ونظرت في عينيه، عادت إليهما اللمعة القديمة كالدمعة الشفافة المحبوسة، لم يكن لنجاحي معنى إذا غابت هذه اللمعة، كنت أضع شهادة المدرسة في يده وأنا تلميذة أنظر في عينيه، أنتظر ظهور الضوء، إن لم يظهر انقلب النجاح سقوطًا.

– التلاتة جنيه دول عن قصتي اللي نشروها في المجلة!

– مبروك يا نوال عقبال ما تفتحي العيادة في ميدان الجيزة.

هل أجهض أبي فرحتي بهذه العبارة؟ في أحلامه كان يراني طبيبة، مع أنه يعشق الأدب والشعر، هو الذي جعلني أحب اللغة العربية، منذ الطفولة يقرأ علينا أبيات المتنبي وأبي العلاء المعري وبشار بن برد والعقاد وحافظ وشوقي.

– الأدب عندي أهم من الطب يا بابا.

– الأدباء بيموتوا من الجوع في بلدنا ويدخلوا سجون، خليكي في الطب يا نوال وافتحي العيادة.

في أحلامي لم أكن أرى نفسي طبيبة، لم تجذبني مهنة الطب، مهنة عاجزة أمام مآسي البشر، في قريتي يموت الأطفال في الشتاء قبل بلوغ الثانية من العمر، مثل الكتاكيت يرتعشون بالبرد ويسقط عنهم ريشهم، في الصيف يموتون قبل بلوغ الخامسة من العمر، النزلات المعوية والإسهال يسمونها أمراض الصيف، إذا نجا الطفل من الموت حتى سن العاشرة أصابته دودة البلهارسيا، تأكل كبده وطحاله، يموت في العشرين من العمر، إن عاش فهو ينزف الدم في البول، يتضخم الكبد والطحال، يمتلئ البطن بالماء، يسمى في الطب «استسقا»، إن عاش الفلاح بعد الثلاثين فهو ناحل شاحب ممصوص الوجه، تشاركه في دمه الديدان والعمدة والحكومة، يشتغل طول العام دون عائد إلا الخبز المقدد وقطعة من الجبن الحادق مع المخلل، زوجة الفلاح هي عبدة العبد، تأكل ما يبقى منه، يشغلها كالجاموسة في الحقل والدار، يضربها كالحمارة بالعصا إن عصت الأوامر، يطردها من البيت بعبارة واحدة ينطقها ثلاث مرات: إنت طالق إنت طالق إنت طالق، تصبح الزوجة في الشارع، تدخل طابور الشحاذات إن كانت عجوزًا أو المومسات إن كانت شابة.

أبي كل يوم يلح عليَّ: «افتحي العيادة يا نوال! تحرري من وظيفة الحكومة، الوظيفة مقبرة وإن كنت وزيرة، يصنعونك بقرار ويخلعونك بقرار، في عيادتك الطبية لا أحد يصنعك ولا أحد يخلعك.»

لم تكن العيادة حلم حياتي، وليس معي ما يكفي لفتحها، كنت في حاجة إلى سبعين جنيهًا، ثمن الأجهزة الطبية والأدوات والأثاث وإيجار الشقة في العمارة العالية بميدان الجيزة، كانت شقة صغيرة في الدور الأول، قال لي صاحب العمارة وهو يفرجني عليها: إذا كانت التكاليف عليك كثيرة يا دكتورة هناك طبيب أسنان في الدور الثاني يبحث عن طبيب آخر يشاركه العيادة.

كنت أريد عيادة لا يشاركني فيها أحد، لم تكن الجنيهات معي تكفي، عيادة دكتور الأسنان يدخلها الضوء أكثر من الشقة الأرضية، الصالة واسعة فيها كراسي أنيقة ملونة زرقاء وحمراء وخضراء وصفراء، الجدران مطلية بالزيت تبرق، دورة المياه نظيفة لامعة، التمورجي يرتدي مريلة بيضاء ناصعة البياض، ينحني لي: «أهلًا بالست الدكتورة»، دكتور الأسنان عيناه فيهما نظرة مستقيمة، حركته نشيطة مليئة بالحماس: «أهلًا وسهلًا يا دكتورة نوال، ممكن تاخدي الأوضة الجوانية أوسع من الأوضة بتاعتي وبعيدة أكثر عن دوشة العيانين في الصالة.»

انخفض المبلغ المطلوب للعيادة إلى النصف، أدفع نصف إيجار الشقة، نصف راتب التمورجي، الأثاث لغرفتي بسيط، طاقم مكتب ومكتبة صغيرة، منضدة للفحص الطبي والعمليات الجراحية، جهاز تعقيم وأدوات طبية بالتقسيط عن طريق نقابة الأطباء، وافتتاح العيادة بحفل صغير، حضره أبي، والأصدقاء والزملاء من الأطباء والطبيبات، والزملاء الجدد من الأدباء والأديبات، والشريك في العيادة طبيب الأسنان وزوجته، وأطباء آخرون لهم عيادات في العمارة، صاحب العمارة أيضًا حضر الحفل، ولأول مرة في حياتي أسمع أبي يضحك بصوت عالٍ، يلقي رأسه إلى الوراء مقهقهًا، كانت بطة كعادتها تحكي آخر النكت.

بالأمس كانت الليلة الأخيرة من عام ١٩٥٨م، أقامت بطة حفلًا كبيرًا في بيتها بالزمالك، رقصنا بالأطواق الهولا هوب، أنا وبطة وصفية، رقصة جديدة انتشرت في مصر بين الشباب في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كان لي طوق من البلاستيك لونه أخضر، أتدرب عليه في البيت، لم تشاركنا سامية الرقص، انهمكت في الحديث مع الدكتور حمدي زوج بطة، أصدر جمال عبد الناصر أمرًا باعتقال الشيوعيين، في الصباح صحوت على صوت سامية عبر التليفون: «رفاعة مسكوه امبارح يا نوال بعد نص الليل، مش حاقدر أحكي في التليفون، حافوت عليكي في العيادة.»

زوجة طبيب الأسنان اسمها سعدية عثمان، تعرفت على صديقتي سامية، تميل سعدية عثمان إلى الفلسفة الماركسية، زوجها الدكتور عزت عبد الغفور يتحدث بحماس عن المادية الجدلية، وكتاب أصل العائلة لفردريك إنجلز «الزوجة في البيت هي البروليتاريا زي العمال في المصنع» تكركر بطة بالضحك: «والبغوليتاغيا يعني إيه يا دكتوغ عزت؟ … باين عليها كلمة شيوعية.» تتقلص ملامح صفية، يشحب لونها: «هي الشيوعية ورانا ورانا، الجمعة اللي فاتت بابا جت له أزمة قلبية، أخويا أسعد أخدوه زوار الفجر لسجن أبو زعبل.» أرادت بطة أن تُرَوِّح عن صفية: «سمعتوا آخر نكتة عن جمال عبد الناصر؟» كركرت بالضحك قبل أن تحكي النكتة، منذ صدور قانون الإصلاح الزراعي تقول إنه «دكتاتوغ»، بعد صدور القرارات الاشتراكية أصبحت تقول عنه «شيوعي»، «إيه هي النكتة يا بطة؟» «كان فيه واحد ماشي في الشارع بيزعق ويقول الله ياخدك يا راجل طلعت روحنا، جه البوليس مسكوه وحطوه في السجن، قالهم تمسكوني ليه يا ناس؟ قالوا له أنت شتمت جمال عبد الناصر، قالهم أنا قلت يا راجل ما جبتش سيرة عبد الناصر يا ناس، قالوا له هو فيه راجل غيره في البلد مطلع روحنا؟!»

كان هو أول يناير ١٩٥٩م وأول يوم في عيادتي بميدان الجيزة، التمورجي داخل المريلة البيضاء يروح ويجيء، حاملًا أكواب الشربات والشاي بالنعناع أو السحلب الساخن باللبن، فوق الجدار علقت صورة كاريكاتير رسمها لي صلاح جاهين، واقفة داخل معطفي الأبيض، السماعة تتدلى من جيب المعطف، فوق سرير الكشف يرقد صلاح جاهين بجسمه الضخم، كان هو أول فنان مريض يدخل عيادتي، نهض أبي من مكانه فوق الكنبة الجلدية، سار بقامته الفارعة نحو الصورة، وقف يتأملها، إلى جواره وقف صلاح جاهين: «خطوطك يا أستاذ صلاح تدل على موهبة كبيرة في فن الكاريكاتير.» ضحكت بطة وكركرت: «الكايغاتيغ فن جميل فعلًا، لكن أجمل لوحة هي لوحة الأسعاغ، فين هي يا نوال؟!»

– لا يمكن يا بطة أعلق في عيادتي لوحة الأسعار، هي دكانة أبيع فيها الصحة للناس؟

– حتبقى عيادة مجانية يا ست نوال هانم؟!

كانت الأفكار الجديدة تغزو عقولنا نحن الشباب، في مجال الطب كانت الاشتراكية تعني أن الصحة حق للإنسان، إذا مرض لا بد أن يحظى بالعلاج والشفاء دون قيد أو شرط، اتسع مفهوم الصحة وشمل الجسد والعقل والحياة الاجتماعية والثقافية، الفقر مرض اجتماعي سياسي وإن جاءني مريض فقير فهل أطرده من العيادة لمجرد أنه لا يملك ثمن الكشف؟

كان أبي لا يزال واقفًا يتأمل صورتي فوق الجدار، يدور بعينيه على الأجهزة الطبية، أدوات الجراحة تلمع كالفضة داخل دولاب صغير من الزجاج، جهاز التعقيم منتصب في الركن كالإله البرونزي الصغير، منضدة العمليات يعلوها مشمع أحمر يوحي بالرهبة، مكتب كبير تعلوه بنورة لامعة، لوحة نحاسية مستطيلة فوق المكتب، منقوش عليها الاسم واللقب، دكتورة نوال السعداوي، يتأمل أبي اسم «السعداوي» طويلًا، يبتسم لنفسه في زهو، كأنما هي عيادته أو عيادة المرحوم جده السعداوي.

كانت المرة الأولى التي يزور فيها أبي عيادتي وكانت أيضًا الزيارة الأخيرة، مات بعدها وهو واقف، كالشجرة تسقط فجأة وهي منتصبة.

•••

أرمق نفسي داخل معطف الأطباء، لست أنا هذه الواقفة داخل المرأة، إنها الدكتورة السعداوي، ابنة أبيها، فتحت العيادة من أجله، دخلت كلية الطب من أجله، نجحت وحصلت على الشهادة من أجله، تضعها داخل صندوق من خشب الزان المبطن بالجوخ ترقد فيه الشهادة كالتابوت أو النعش.

اكتبي طلب للوزير اطلبي النقل من القسم الموبوء ده!

صوت أبي يرن في أذني، أجلسني في يوم أمامه وجعلني أكتب الطلب، سلمته لمدير مكتب الوزير في وزارة الصحة، مات أبي ومضت ثلاثة أعوام لم يأتني الرد، كنت في مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة، انتقلت من القسم الباطني إلى قسم الجراحة، أحب الجراحة والمشرط في يدي كالقلم، في الدرن الرئوي لا يكون العلاج الباطني شافيًا، يظل المرض كامنًا في الرئة، يصحو فجأة ويقضي على المريض، في إحدى الغرف الخاصة كان يرقد شاب في الثالثة والعشرين من عمره، تخرج منذ عامين من قسم الفلسفة بكلية الآداب، لم يشتغل بسبب المرض، اسمه حنا سليمان، يجلس في شرفته المطلة على الحقول الممدودة حتى الأهرامات، في يده كتاب، عيناه شاردتان سوداوان يشتد سوادهما وبريقهما باشتداد المرض، رموشه تزداد غزارة وشعره الأسود، خصلة سوداء فوق جبهته العالية، عظام وجهه بارزة منحوتة في رأس تمثال من البرونز، جسمه نحيف يزداد نحافة يكاد يتلاشى، قميصه أبيض واسع يملؤه الهواء، كالروح تحلق فوق الأرض بلا جسد.

كنت مسئولة عنه ضمن مرضى آخرين كثيرين، حالته كانت متأخرة، صورة الأشعة تكشف الدرن في الرئتين، الأمل معدوم في الشفاء، لا أستطيع التحديق في الصورة، هل يمكن التحديق في الموت بالعينين المفتوحتين؟ مع ذلك كنت أنظر، لا أكف النظر، أحاول أن أعرف كيف تعمل جرثومة الدرن، كيف تكف الحياة في الخلايا الحية، عقلي مشدود إلى المعرفة، ظاهرة الموت تبدو معقدة، السر المغلق على نفسه، تعودت رؤية الموتى كل يوم، أصبح الموت جزءًا من الحياة، مع ذلك أندهش حين يموت أمامي إنسان، كأنها المرة الأولى في حياتي، كيف تنسحب الروح من الجسد وإلى أين تذهب؟ وهل هناك شيء اسمه روح؟ من اخترع هذه الكلمة في اللغة؟!

كان الحوار يدور بيننا في شرفته المطلة على المزارع: «هناك أشياء يا دكتورة لا يمكن أن يدركها العقل، مثلًا الروح، نحن لا نفهم ما هي الروح، مع ذلك نؤمن بوجودها، إذا لم يكن للإنسان روح فهو لا يعرف اليأس، الحيوان لا ييأس، اليأس صفة إنسانية، كيركجارد يقول عدم الوعي باليأس نوع من اليأس، حين أقول لست يائسًا فهذا يعني أنني قهرت اليأس وأعيش في هدوء، لكن هذا الهدوء هو اليأس أو الاستسلام الكامل لليأس.»

كنت أستمع إليه، أَحَبُّ الموضوعات إليه هو اليأس، أهو تأثير كيركجارد عليه أو الدرن الرئوي.

– أتؤمنين بوجود الله يا دكتورة نوال؟

– منذ الطفولة، كنت أفكر كثيرًا.

– الإنسان يحتاج لوجود الله من أجل التوبة!

– لكن هل هناك توبة بدون خطيئة؟

– لا أعرف، هل نولد ومعنا الخطيئة؟

•••

كنت أقاوم فكرة اليأس والموت، الأرض لم تعد مسطحة بل كروية، الحياة لم تعد خطًّا مستقيمًا له بداية ونهاية، إنها أقرب إلى شكل الدائرة، تذوب البداية في النهاية بلا فاصل، كنت في التاسعة والعشرين من عمري، أقترب من الثلاثين، الرقم «ثلاثون» يبدو لي كبيرًا، كأنما بلغت نهاية العمر، ماتت أمي ومات أبي، أصبحت الوصية على أخواتي القاصرات الأربع، وابنتي الطفلة، وأم إبراهيم أصبحت بديل الأم، ترعى أمور البيت وأخذت أنا دور الأب، واجبي الإنفاق والعمل خارج البيت في العيادة والمستشفى، ليالي النوبتشية كانت مرتين في الأسبوع، أقضيها في جناح الطبيبات داخل المستشفى، لنا غرف خاصة للنوم، الصالة وقاعة الطعام مشتركة مع الأطباء، كان معي زملاء وزميلات لا أذكر منهم أحدًا، ملامحهم ممسوحة في ذاكرتي، كنت أشاركهم العشاء ثم أنسحب إلى غرفتي لأقرأ، ليالي النوبتشية لا أنام، أتمشى في الحديقة حول المستشفى، أخرج إلى شاطئ الترعة، الطريق المظلم يمتد بي عبر الأشجار، أمشي فوق العشب الأخضر دون أن أسمع وقعًا لخطواتي، القمر في الأفق والنجوم ساكنة، مشيت إلى حافة الترعة وجلست، كان الصمت يدخل مسام جسمي كالهواء، يملؤني بحزن غامض يشبه الفرح، مرت دقائق وأنا أحدق في النجمة الثابتة لا يقهرها ضوء القمر، ثم تحرك الهواء ببطء ومعه الزمن، تحركت معه السماء والنجوم والأرض، كل شيء في الكون يتحرك يتمدد إلى ما لانهاية، ثم يتقلص ليصبح نجمتي الوحيدة الساهرة معي، وجسدي الوحيد الممدود على الأرض، عقلي يتساءل … أتكون الأرض والسماء شيئًا واحدًا؟ أيكون المكان هو الزمان ولا فاصل بينهما؟

في طفولتي قال أبي إن الزمن هو الله وهو خالد إلى الأبد وموجود منذ الأزل في السماء، الله هو الثابت المطلق في حالة سكون دائم لا يتغير مثل الزمن، الأرض هي المكان المتحرك المتغير، هي الجسد الفاني الزائل، في مصر القديمة كانت «نوت» إلهة السماء، زوجها جيب كان إله الأرض، كيف انقلبت الأوضاع واصبحت الإلهة الأنثى ترمز إلى الأرض والجسد، وزوجها الإله يرمز إلى السماء والروح؟

– يا نوااااااال، يا يا نواااااال.

صوت يناديني من السماء من بطن الأرض يشبه صوت أمي، ينقلب فجأة ليصبح صوت أبي، عيناه مملوءتان بالدموع، لم أر في حياتي أبي يبكي، أيكون هو أمي؟ تختفي الدموع المحبوسة، يدها باردة ميتة، أعرف أنها ماتت، مع ذلك أمسك يدها في يدي.

ألمح الضوء في نافذة حنا، لم يكن ينام مثلي، أراه جالسًا في سريره كأنما هي آخر ليلة في حياتي، التوهج الأخير قبل الانطفاءة، كالطير الحبيس في القفص، هالة من الحزن تحوطه لها رهبة، لا أستطيع الحملقة في عينيه، لا أقوى على النظر في الموت، أخشى إن نظرت إليه أن يكف عن النظر، عيناه تنظران إلى خارج سياج العقل، تنطلق عيناه من القيود جميعًا بما فيها العينان ذاتهما، أحرك يدي نحوه لأمسك يده، تتجمد ذراعي في منتصف الطريق، لا تفصلني عنه إلا مسافة نصف ذراع أجتازها في الحلم بسهولة، تصبح في الواقع كالبحر الواسع يفصلنا.

أمسك بأصابعه النحيفة القلم، كتب شيئًا على قطعة من الورق، طواها وناولها لي: «الإنسان يعطي حياته للحب ثم عليه أن يموت، كان الموت ضروريًّا فلماذا لا أقول الحقيقة وأمضي؟ لا شيء يبدد الوهم إلا الموت، اليأس أحتضنه بين ذراعي كالأمل، والخطيئة في الحب هي الفضيلة، لا تمسحها إلا التوبة، إن راحت الخطيئة راح الله، آه يا ربي من كشف الحقيقة.»

كنت أجلس على طرف سريره وهو راقد، عيناه تتأججان بالبريق، كالنهار يولد من الظلمة، قلبي يرفرف تحت الضلوع، الحزن والفرح يذوبان في إحساس واحد، يتجاوزان قواعد المنطق، كنت حبيسة المخاوف الثلاثة: الله والخطيئة وعدوى الدرن، تضاءلت الثلاثة إلى جوار الموت، لا يرقى إلى مرتبة الموت إلا الحب، وهو مستغرق في الكتابة، أصابعه حول القلم كالوتر المشدود، كأنما هي آخر حروف يكتبها، يسعل وهو يكتب، ينساب الدم الأحمر فوق الورقة البيضاء، لا تتوقف أصابعه عن الحركة حتى يصيبه الإغماء، في ذاكرتي غرام مشبوب لفنان ينزف، يعزف البيانو وهو يموت، أكان هو شوبان؟ الملامح واحدة، خداه البارزان تكسوهما حمرة خفيفة، علامة المرض بالسل وعلامة الحب، عيناه سوداوان يكسوهما البريق، رموشه سوداء غزيرة، شعر رأسه أسود كثيف، خصلة أمامية تسقط فوق وجهه وهو يكتب، قميصه أبيض واسع يملؤه الهواء، كالروح بلا جسد، كالحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، يعزف لحن الحلم المستحيل، أهناك علاقة بين المستحيل والحب؟!

كان معي في المستشفى زملاء أطباء، رجال أشداء متوردو الوجوه، أجسادهم قوية ممتلئة، بعضهم يحمل الدكتوراه، ودرجة الأستاذ، وعربة وعيادة وعزبة أو عمارة، ملامحهم خالية من التعبير، عيونهم بلا بريق، جفونهم بلا رموش، يهرولون من المستشفى إلى العيادة، المرضى في نظرهم أرقام في الملفات أو حالات داخل العنابر، لا أحد فيهم يقرأ الأدب أو الفلسفة أو يسمع الموسيقى، لا حديث لهم إلا عن أنواع الجراثيم وماركات السيارات، أتفادى الجلوس معهم في غرفة الأطباء، أربعة أعوام قضيتها في هذا المستشفى ليس في ذاكرتي إلا صورة هذا الشاب، أجلس على طرف سريره وهو راقد، النافذة العريضة تطل على الحقول الخضراء، تشبه الحقول أمام بيتنا في الطفولة، اللحن يسري في أذني يشبه لحن الحب الأول، الشمس تنحدر في الأفق عند الغروب، أرقب الغسق الأحمر ينتشر في السماء، تتصاعد الدقات تحت ضلوعي، أقضي الليل إلى جواره ساهرة، عند الفجر أرقب الشفق بلون الغسق، عيناي مشدودتان إلى قرص الشمس، كيف يسقط في بطن الأرض وكيف يظهر؟ يرفرف قلبي كجناحي الحمام، أفرد ذراعي عن آخرهما كالجناحين وأكاد أحلق في الجو.

من السهل جدًّا أن نحب، ومن الصعب جدًّا أن نحب، فالحب مثل الكتابة فيه السهل الممتنع أو السهل المستحيل، لم يكن في مقدوري أن أمد يدي وأمسك يده، مع أن الروح تعانق الروح، على طرف سريره كنت أجلس وهو راقد، أسمع صرير الهواء في رئتيه، لولا هذا الصرير لأفلتت مني اللحظة الحاضرة، أمسكها بيدي لأمسك الحقيقة، بيدي الأخرى أمسك جسمي قبل أن يتلاشى وأنا جالسة على طرف سريره، وجهه النحيل الشاحب ضارب إلى البياض، عيناه شاخصتان إلى السقف تلمعان، يداعب بأصابعه النحيلة القلم، يبتسم بالفرح ثم يغرقه اليأس، أنفاسه تتأرجح كالسفينة فوق أمواج البحر، أثبت عيني المفتوحتين في الجدار، أخشى إن لم أثبتهما أن يسقط جسدي من طرف السرير، أو أسقط أنا من فوق جسدي، لم يكن في مقدوري إغلاق جفوني، عيناي كالنافذة المفتوحة في مهب الرياح، والسماء كالصحراء السوداء، تلقي ظلها الثقيل على الأرض، المستشفى كالمحطة بين السماء والأرض، يعيش داخلها أحياء أموات، وجودهم معلق بين الحلم والحقيقة، نشوة الأمل واليأس، والبصاق الممزوج بالدم، يأتون ويذهبون كالمسافرين، أشعة الصدر متشابهة والسعال، والعدوى تجعل البشر كالجراثيم، والأطباء كالمرضى، والدخول كالخروج، والفضيلة كالرذيلة، لا توجد حسنات ولا سيئات، هنا تتساوى كل الأشياء، يتحقق العدل المستحيل، ينفتح القلب للحب كالزهر في الربيع.

في ساعة متأخرة من الليل قلبه يواصل النبض، لا يريد التوقف، جفوني لا تريد السقوط فوق عيني، إن سقطت جفوني أترنح كأنما أسقط في بئر، أسمعه يقول شيئًا، يحرك شفتيه لينطق، كلمات لا يمكن سماعها، يلفظها في مواجهة المجهول، بعد لحظة يفتح عينيه ويسترد الحياة كأنما من أجلي فقط، يجاهد ليفتح جفونه يرفع عنها جبلًا، يغدر بالموت ويفتح عينيه، يبتسم لي بزهو المنتصر، كان أملي أن يعيش وكان أملي ألا يعيش، حين استطعت الوقوف على قدمي شعرت بالانتعاش، الدم يجري في جسدي كالضوء يُولد من الظلمة، خلعت معطفي الأبيض وانطلقت إلى الهواء الطلق، كنت أنجو بنفسي، أعانق الحياة بفرح لأني أعيش، تلوح لي صورته في ذاكرتي فأشعر بالإثم، تركته وحده يموت وهربت، أليست هي الخيانة للحب؟

•••

داخل الميكروسكوب أتأمل جرثومة الدرن، ألا يمكن أن أكتشف شيئًا يقتل هذه الدودة الصغيرة؟! أتلفت حولي في معمل المستشفى، رفوف خالية يعلوها التراب، تشبه الرفوف في مكتبة المدرسة الثانوية، الكتب القديمة الصفراء الورق غلافها مقطوع، كالبرطمانات المشروخة الزجاج بلا غطاء، الموظف يرتدي مريلة بيضاء مبقعة بجميع الألوان، عيناه صفراوان كالمصابين بداء الوباء الكبدي: «عاوزة حاجة يا ست الدكتورة؟!»

– «أيوه عاوزة أعمل بحث.»

كلمة «بحث» لم تكن واردة حينئذ، الأطباء يعالجون الأمراض، لا علاقة لهم بالبحث، قابلت مدير المستشفى يجلس وراء مكتب ضخم، لا أرى منه إلا الرأس الأصلع، تعلوه صورة رئيس الدولة داخل برواز ذهبي عريض، عيناه تتسعان تحت النظارة الزجاجية والحاجبان يرتفعان: بحث إيه يا دكتورة نوال؟ المعمل عندنا يا دكتورة يا دوب للتحاليل، والبحوث الطبية يلزمها عقول وإمكانيات مش موجودة، وعاوزة تعملي بحث عشان إيه؟

– «عشان أكتشف علاج للدرن الرئوي.»

هل نطقت شيئًا خارج حدود العقل؟ لماذا يرمقني بهذه النظرة الساخرة؟

– الاكتشافات يا دكتورة تحدث في أوروبا مش في مصر، باستير في فرنسا، كوخ في ألمانيا، دارون في إنجلترا، بافلوف في روسيا، حتى البلهارسيا المرض المتوطن في مصر من مئات السنين لم يكتشفه طبيب مصري، عارفة اكتشفه مين؟ خواجة اسمه «بلهارس».

صوته يرن في أذني كنعيق البوم، ملامحه تبدو صلعاء مثل رأسه، يؤمن بتفوق العقل الأوروبي على العقل المصري، درس الجراثيم فقط ولم يدرس التاريخ: «يا دكتورة الطب في العالم بدأ في مصر، التشريح والتحنيط، ورئيسة الأطباء كانت امرأة هي الإلهة «سخمت»، الأطباء العرب معروفون في التاريخ منهم «ابن سينا» والطبيب «الرازي»، وأنا عندي عقل وممكن أكتشف شيء في الطب، إذا كنت مُصرة على حكاية البحث يا دكتورة نوال اكتبي طلب على عرضحال وحطي عليه الدمغة وأنا أحوله لوكيل الوزارة، يمكن يكون لك حظ وتسافرين فرنسا، هناك معهد «باستير» تقدري تكتشفي فيه علاج للسل والسرطان وكل حاجة، يعني أنت أقل من الست مدام كوري اللي اكتشفت الراديوم؟»

كتبت الطلب وبدأت أحلم بالسفر، في الليل أحرك ذراعي وأطير فوق البحر المتوسط، أجتاز اليونان وإيطاليا وأهبط في فرنسا، لا أعرف كيف أهبط، ربما أنا داخل الطائرة، لم أركب طائرة من قبل، أراها فقط في الجو، لا يزيد حجمها عن الحمامة، كيف يدخل جسمي الفارع الطويل داخلها؟! كيف أتحول إلى نقطة سوداء داخل السحب البيضاء تذوب شيئًا فشيئًا؟!

لم أعرف أن وزارة الصحة مثل المستشفى، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، لم تكن الطلبات فوق العرضحالات تخرج من الوزارة، إنها تدخل ولا أحد يعرف مصيرها إلا عفاريت الجن: «أصل السيد الوزير لازم يؤشر على الطلب يا دكتورة نوال.»

– «طيب، والطلب فين دلوقتي يا أستاذ؟»

– «مش عارف، المهم أنه مشي من عندي يا دكتورة، جايز يكون راح مكتب السيد المدير العام، أصله لازم يروح الأول للسيد المدير العام، بعدين يطلع للسيد الوكيل، بعد كده يروح لمكتب السيد الوزير.»

أخذت إجازة مرضية من المستشفى، الوجع في صدري يمتد من الرئة إلى القلب إلى الروح، أشعر بالتعب حين أصحو من النوم، لا يضيع الوجع إلا في الحلم، إنه طفلي المقدس، أهدهده وأنا نائمة، يتحول بين ذراعي إلى جسد دافئ ذراعاه تلتفان حولي كمياه النهر، إن هبت العاصفة يصبح شلالًا يبتلعني، أفتح جفوني في الظلمة قبل أن يدمرني، أمد يدي تحت الوسادة أتحسس القلم والكشكول، دون أن أضيء اللمبة أكتب، أدفع اليأس بالكتابة، أثبت سن القلم فوق الورقة كأنما أثبت حياتي، إن لم أثبتها تفلت من يدي، يأخذها مني إله العدم، كالمحمومة ألهث وأنا أكتب، كأنما سأموت قبل أن أكمل العبارة، أريد أن أكملها وأمضي، لا يمكن أن أذهب دون أن أقولها، ما دمت موجودة فالموت غير موجود، وحين يحل بي الموت لن أكون موجودة، فلماذا لا أكتب ما أريد؟

لتذهب وزارة الصحة إلى الجحيم، لا أريد أن أبقى فيها ولا أريد السفر، كل ما أريد هو أن أحاجج الرب كما حاججه سيدنا أيوب، عندي من الصبر ما كان عنده ويزيد، فأنا ميتة والموتى خالدون، لم أدرك موت أمي إلا بعد موتها بوقت طويل، يعجز العقل عن إدراك الموت إلا بعد رحيله، أم إبراهيم كانت تقول: «السكينة سارقاكي يا ضكطورة.» الدجاجة المذبوحة لا تحس بالسكين، الموت أنواع ودرجات كالحب، كلها مصنوعة من الوهم ما عدا موت الأم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤