ماجدولين

(١) من ماجدولين إلى سوزان

سواء لَدي أَقَرَأْتِ كتابي هذا أم مزقته، خِلْوٌ من كل شيء يهمك العلم به أو النظر إليه.

كل ما يمكنني أن أُطرفك به من الأخبار أن أقول لك: إن أشجار الربيع قد بدأت تبتسم عن أزهارها، وإن النسيم العليل يجمع إليَّ في غرفتي في هذه الساعة التي أكتب إليك فيها شذى أول زهرة من زهرات البنفسج وأول عود من أعواد الزنبق.

ويمكنني أن أخبرك أيضًا — وإن كنت لا أعرف لمثل هذه الأخبار معنى — أن الغرفة التي كانت خالية في الدور الأعلى من منزلنا قد سكنها اليوم فتى اسمه «استيفن»، غريب الأطوار في وحشته ونفوره وانقباضه عن الناس، حتى يكاد يظن الناظر إليه أنه بائسٌ أو منكوب، فهو ينزل في صبيحة كل يوم إلى الحديقة وبيده كتاب واحد لا يغيره، فإذا جلس للقراءة فيه علق نظره بأول سطر يمر به ثم لا ينتقل عنه بعد ذلك، فهو في الحقيقة مطرق إلى الأرض من حيث يظن الرائي أنه يقرأ في كتاب، فإذا رآني مارة أمامه رفع رأسه إليَّ وحياني تحيةً وجيزة، ثم انتقل من مكانه وانساب بين الأشجار، أو صعد إلى غرفته؛ لذلك لم تصل بيني وبينه معرفة حتى اليوم، وربما لا يقع شيء من ذلك فيما بعد؛ لأني لا ألتمس السبيل إلى التعرف به ولا أُحب أنه يلتمسه، فإن كنت لا بد سائلة عما يتساءل عنه النساء في مثل هذا الموقف فأقول لك: إن الفتى ليس بجميلٍ ولا جذاب، بل إن في منظره من الخشونة والجمود ما ينفر نظر الناظر إليه، وأحسن ما فيه أني سمعته ليلةً — وكانت نافذة غرفتي مفتوحةً — يغني غناءً شجيًّا مؤثرًا، وإن كان لا يجري فيه على قاعدة من قواعد النغم، فهو يطرب البؤساء والمحزونين، ولا يعجب الموسيقيين المتفننين، ولقد تمكن أبي من مجالسته هنيهةً فحدثني عنه أنه من المتعلمين الأذكياء، وبعد: فأحسب أني أمللتك يا سوزان بحديث يتعلق أكثره بإنسان لا شأن لي ولا لك معه، فلا تعتبي عليَّ، فهذا كل ما تستطيع أن تملأ به صفحات كتابها فتاةٌ تعيش في قريتها الصغيرة عيشًا متشابه الصور والألوان، لا فرق بين ليله ونهاره، وصبحه ومسائه، لا تطلع الشمس فيه على مرأًى جديدٍ، ولا تغرب عن منظر غريب.

(٢) من ماجدولين إلى سوزان

الجو رائقٌ، والسماء مصحيةٌ، وقرص الشمس يلتهب التهابًا، والأرض تهتز فتنبت نباتًا حسنًا، والأشجار تنتفض عن أوراقها اللامعة الخضراء، والهواء الفاتر يترقرق فينبعث إلى الأجسام فيترك فيها أثرًا هادئًا لذيذًا، وكل ذلك لا قيمة له عندي، ولا أثر له في نفسي، فإني أشعر أن الحياة مظلمة قاتمة، وأن هذا الفضاء على سعته وانفراج ما بين أطرافه أضيق في عيني من كفة الحابل، وأن منظر العالم قد استحال إلى شيءٍ غريب لا أعرفه ولا عهد لي بمثله، فأظل أنتقل من مكان إلى مكان، وأفر من الحديقة إلى المنزل ومن المنزل إلى الحديقة، كأنني أفتش عن شيءٍ، وما أفتش إلا عن نفسي التي فقدتها ولا أزال أنشدها، فإذا نال مني التعب أويت إلى أشجار الزيزفون في الحديقة لأستريح في ظلالها قليلًا، فلا يكاد يعلق نظري بأول زهرة يروقني منظرها من بين أزهارها حتى أشعر كأني أنتقل من هذا العالم شيئًا فشيئًا إلى عالم جميل من عوالم الخيال، فأتغلغل فيه كما يتغلغل الطائر المحلق في غمار السحب وتمر بي على ذلك ساعات طوال لا أعود من بعدها إلى نفسي إلا إذا شعرت بسقوط الكتاب من يدي، فإذا استفقت وجدتني لا أزال في مكاني، ولا يزال نظري عالقًا بتلك الزهرة الجميلة التي وقفت عليها.

يقولون إن فصل الربيع فصل الحب، وإن العواطف تضطرم فيه اضطرامًا فتأنس النفوس بالنفوس، وتقترب القلوب من القلوب، وتمتلئ الحدائق والبساتين بجماعات الطير صادحةً فوق زواهر الأغصان وجماعات الناس، سانحة بين صفوف الأشجار، أما أنا فلا أصدق من كل هذا شيئًا، فإن أجمل الساعات عندي تلك الساعة التي أخلو فيها بنفسي فأناجيها بهمومي وأحزاني، وأذرف من العبرات ما أبرد به تلك الغلة التي تعتلج في صدري.

وأعجب ما أعجب له من أمر نفسي أنني أبكي على غير شيء، وأحزن لغير سبب، وأجد بين جنبي من الهموم والأشجان ما لا أعرف سبيله ولا مأتاه، حتى يُخيل إليَّ أن عارضًا من عوارض الجنون قد خالط عقلي، فيشتد خوفي واضطرابي.

إن الذين يعرفون أسباب آلامهم وأحزانهم غير أشقياء؛ لأنهم يعيشون بالأمل ويحيون بالرجاء، أما أنا فشقيةٌ؛ لأني لا أعرف لي دواءً فأعالجه، ولا يوم شفاء فأرجوه.

كل أسباب العيش حاضرة لدي، وأبي لا يعرف له سعادة في الحياة غير سعادتي، ولا هناء غير هنائي، ولا يعجبه منظرٌ من مناظر الجمال في العالم سوى أن يراني باسمة، ويرى أزهار حديقته ضاحكة، بل ربما أغفل أمر حديقته أحيانًا حتى تذبل أوراقها وتموت زهراتها في سبيل قضاء مرافقي وحاجاتي، فأنا إن شكوت فإنما أشكو بطرًا وأشرًا وكفرانًا بأنعم الله التي يسبغها عليَّ ويسديها إليَّ، فغفرانك اللهم ورحمتك، فإني ما اعترفت بجميلك، ولا أحسنت القيام بشكر أياديك.

إني لأذكر يا سوزان تلك الأيام التي قضيناها معًا، وتلك السعادة التي كنا نهصر أغصانها، ونجني ثمارها، ونطير في سمائها بأجنحةٍ من الآمال والأحلام؛ فأندبها وأبكي عليها، وأحن إليها حنين الليل إلى مطلع الفجر، والجدب إلى ديمة القطر.

(٣) من إدوار إلى استيفن

الآن عرفت أنك لا تثق بي ولا تعتمد عليَّ، وأنك لا تزال تنظر إليَّ بالعين التي تنظر بها إلى أولئك الذين أثرت مغاضبتهم والتبرم بهم من أفراد أسرتك، فقد كتمت عني ما كنت أرجو أن تقضي به إليَّ من ذات نفسك فيما اعتزمت عليه من رحلتك لأعرف ماذا تريد وأين تريد، ولكني لم أوثر أن أنزل بك في الود إلى المنزلة التي نزلت بي إليها، فلم أر بدًّا من أن أكتب إليك.

إنا نبتنا معا يا استيفن في تربة واحدة، تحت سماءٍ واحدة، يغدونا ماءٌ واحد وجو واحد، وما زلنا كذلك حتى شببنا فاختلفنا كما تختلف الشجرتان المتجاورتان في منبتهما ثمرة وشكلًا؛ لذلك أنت تفر مني الفرار كله وتنقبض عني، ولا تراني أسألك فجًّا من فجاج الأرض إلا سلكت فجًّا غيره؛ لأنك أصبحت تسعد بحياةٍ غير التي أسعد بها، وتهنأ بعيشٍ غير الذي أهنأ به، وتطرب لنغمة غير التي تسمعها مني، ولا تستطيع أن ترى في وجهي تلك المرآة التي تحب أن ترى فيها صورتك واضحة جليلة لا غموض فيها ولا إبهام.

إنك لا تبغضني يا استيفن، ولكنك لا تحب أن تراني؛ لأنك تعلم أن لي في الحياة رأيًا غير رأيك، وطريقًا غير طريقك، فأنت تخاف أن تسمع مني ما يفجعك في تصوراتك وأحلامك، ويكدر عليك لذائذك التي تجدها في العيش في ذلك العالم الخيالي المظلم، وتقنع بها فيه قناعة الشعراء المحزونين بالعيش بين أشباح خيالاتهم السوداء.

كن كما تشاء، وعش كما تريد، فستنقضي أيام شبابك وستنقضي بانقضائها أمانيك وأحلامك، وهنالك تنزل من سمائك التي تطير فيها إلى أرضي التي أسكنها، فنتعارف بعد التناكر، ونتواصل بعد التقاطع، ونلتقي كما كنا.

لا بد أن نفترق اليوم لأننا غير متفقين، ولا بد أن نجتمع بعد اليوم لأننا سنتفق، فلا بأس أن تكتب إليَّ وأكتب إليك، وأن نتواصل على البعد إبقاء على تلك الصلة التي بيننا، واحتفاظًا بها، ورعاية لها، حتى يأتي ذلك اليوم الذي تجلو فيه عن نفسها، وتبرز من مكمنها.

إن أهلك يعجبون لأمرك كثيرًا، ويرون أنك قد مكرت بهم، وأضللتهم عن مقاصدك وأغراضك، فسافرت خفية من حيث لا يعلمون بأمرك ولا بنيتك التي انتويتها، ويقولون: إنك ما سافرت على هذه الصورة إلا لأنك عدلت عن رأيك في الزواج من تلك الفتاة التي أعدوها لك، وعندي أنهم أصابوا فيما يقولون، وأنك مخطئٌ فيما فعلت؛ لأنك تعلم أن والدك فقير لا يملك من المال أكثر مما يتسع لأيام حياته؛ ولقد كان لك في هذا الزواج من تلك الفتاة التي اختارها لك حظك من سعادة العيش وهنائه لولا أنك شاعر، والشعراء يفهمون من معنى السعادة غير ما يفهمه الناس جميعًا.

أخوك يحبك كثيرًا، ولا يزال يحدثني عنك كما أحدثه، فاذكرنا كما نذكرك، واكتب إلينا بكل شيء.

(٤) خواطر استيفن

مضى الليل إلا أقله، ولم يبقَ إلا أن تنفرج لمة الظلام عن جبين الفجر، ولا أزال ساهرًا قلق المضجع، أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه.

إن إدوار يسخر مني في كتابه ويهزأ بي، وينذرني بيوم أرى فيه أوهامًا كاذبةً وأحلامًا باطلة ما كنت أحسبه أماني وأمالًا، ويرى أن جميع ما أقدره لنفسي من سعادة في الحياة وهناءٍ أشبه شيء بالخيالات الشعرية التي يسعد الشعراء بتصورها، ولا يسعدون بوجودها؛ فلئن كان حقًّا ما يقول فما أمر طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة.

لا لا، إن الذي غرس في قلبي هذه الآمال الحسان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها، وتتلألأ أزهارها، وإن الذي أنبت في جناحي هذه القوادم والخوافي لا يرضى أن يهيضني ويتركني في مكاني كسيرًا لا أنهض ولا أطير، وإن الذي سلبني كل ما يأمل الآملون في هذه الحياة من سرور وغبطة، ولم يبقَ لي منها إلا حلاوة الأمل ولذته لأجل من أن يقسو عليَّ القسوة كلها فيسلبني تلك الثمالة الباقية التي هي ملاك عيشي، وقوام حياتي.

على أنني ما ذهبت بعيدًا، ولا طلبت مستحيلًا، فكل ما أطمع فيه من جمال هذا العالم وزخرفه رفيق آنس بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في الكون معه، والسكون إليه، وما الرجال كما يقولون إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر في نفسه بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خُلقت له فيقر قراره، ويلقي عصاه.

وبعد؛ فأي مقدورٍ من المقدورات تضيق به قوة الله وحكمته؟ وأي عقلٍ من العقول الإنسانية يستطيع أن يبدع في تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة في مصنوعاتها وآثارها؟ وهل الصور والخيالات التي تمتلئ بها أذهاننا وتموج بها عقولنا إلا رسومٌ ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه، ولو أن سامعًا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها، أو مهبط الليل عند نزوله، أو جمال غابة من الغابات، أو شموخ جبل من الأجبال، ثم رأى بعد ذلك عيانًا ما كان يراه تصورًا وخيالًا، لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيالات؛ لذلك أعتقد أني ما تخيلت هذه السعادة التي أقدرها لنفسي إلا لأنها كائنٌ من الكائنات الموجودة، وأنها آتية لا ريب فيها.

إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي، وانقطاع حبل رجائي، يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي، فلا خير في حياةٍ يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب.

(٥) الحب

نزل استيفن صبيحة يوم من الأيام إلى حديقة المنزل فرأى «مولر» والد ماجدولين واقفًا على رأس بعض الجداول متكئًا على فأسه، فلم ير بدًّا من أن يحييه، فحياه بتحيةٍ حُيِّيَ بأحسن منها، ثم أراد أن يستمر أدراجه فرآه ينظر إليه نظرة المستوقف، ورأى كأن كلامًا يتحير في شدقيه فاستحى أن يمضي لسبيله، فوقف على كلمةٍ يصل بها الحديث بينه وبينه، فلم ير شيئًا أقرب إلى ذهنه من أن يسأله على ابنته، ثم بدا له أنه إن فعل أرابه وألقى في نفسه أمرًا غير الذي يريد، وهي المرة الأولى التي خطر له فيها أن في سؤال الرجل الرجل عن حال ابنته شيئًا غريبًا، أو أمرًا مريبًا، ثم استمر «مولر» في حديثه يقول: إن منظر الطبيعة في هذه الساعة جميلٌ جدًّا لا يكدره عليَّ إلا تلك الرعدة التي أشعر أنها تتمشى في أعضائي، فما أمر مذاق الشيخوخة وما أثقل مئونتها، وسلامٌ على الشباب وعهوده الزاهرة، أيام كنت لا أحفل بنكباء ولا رمضاء، ولا أبالي أن أبكر في صبيحة كل يوم تبكير الغراب إلى قمم الجبال وشواطئ الأنهار عاري الرأس حافي القدم، أمرح وألعب، وأتأثر طرائد الصيد في مسارحها وملاعبها، فأصبحت ولم يبقَ لي من تلك الذكريات إلا وقوفي في هذه الضاحية تحت هذه الشمس المشرقة أنسج من خيوطها البيضاء كساءً أتقي به هذه الرعدة، وأمتع نظري برؤية الفتيات الصغيرات صواحب ماجدولين وهن يلعبن معها فوق تلك الهضبة الثلجية.

وهنا وجد «استيفن» مكان القول ذا سعة فقال: إن ماجدولين لم تنزل اليوم كعادتها فلعلها بخير، قال: نعم، هي بخير ولكن ضيفًا من أقربائنا نزل بنا أمس فلم أر بدًّا من أن أَكِلَ إليها أمره والعناية به، فتركتهما وذهبت لشأني، وإن كنت أعلم أن ماجدولين ليس في استطاعتها الصبر على النزول إلى الحديقة، ولا يقنعها من الشمس تلك الخيوط البيضاء التي تنحدر إليها من نافذة غرفتها، ثم ذهبا في الحديث بعد ذلك مذاهب مختلفة، وإنهما لكذلك إذ فتح باب المنزل، وإذا ماجدولين وأرشميد مقبلان، يحدثها فتهلل، وتحدثه فيبتسم، وكأن منظرهما منظر عاشقين يتغازلان، لا قريبين يتسامران، فخيل لاستيفن أن هذا المشهد الذي يشهده غير مستحسنٍ ولا مستعذب، ثم اقتربا منه، فصدف عنهما يتلهى بالنظر إلى بعض الزهرات، وود لو وجد السبيل إلى الهرب منهما لولا أنهما اعترضا طريقه، فسلما عليه، فرد ردًّا فاترًا، ثم تركهما مكانهما وانحدر إلى خميلة من الخمائل، فما خطا فيها بعض خطوات حتى سمع الفتى يُغرب في الضحك، فما شك أنهما في شأنه، وأنه قد أصبح موضع هزئهما وسخريتهما، وأنهما ما ضحكا إلا للعبث به والزراية عليه، فأحس في قلبه بدبيب البغض لذلك الفتى، وود بجدع الأنف لو وجد السبيل إلى منازلته في ميدان خصام يضربه فيه ضربة تهشم أنفه وتخضب الذي فيه عيناه ليقنعه أنه ليس سخرية الساخر، ولا أضحوكة الضاحك.

ثم عاد إلى نفسه يسائلها عن السبب في انقباضه ووحشته، وعن تلك الحال الغريبة التي ألمت بفؤاده منذ الساعة ويقول: ما لي ولهذا الفتى؟ وبأي حق أحمل له بين جنبي ما أحمل من الضغنة والموجدة؟ فما أنا بعاشق للفتاة فأغار منه عليها، ولا هو بمزاحمٍ لي على هوى فأبغضه فيه!

ولم يزل يسائل نفسه أمثال هذه الأسئلة فلا تجيبه، ويراجع عقله فلا يهديه، حتى عرف أنه لا يسمع خارج الخميلة صوتًا، فبرز من مكمنه فلم ير أمامه أحدًا، فخرج من الحديقة هائمًا على وجهه بين الغابات والأحراش حتى أدبر النهار، فعاد إلى المنزل وصعد إلى غرفته، وإنه ليمر أمام باب غرفة ماجدولين؛ إذ سمع صوت حديث، فذكر ما كان قد نسيه، وعلم أنها تسمر مع قريبها أرشميد، وأنه لا بد أن يكون سعيدًا بهذا الحديث وهذه الخلوة، فَنَفَسَ عليه ذلك، ولا ينفس الإنسان على صاحبه شيئًا يكون في نظره حقيرًا، فتريث في مشيته قليلًا حتى علم أنه إن دنا من باب الغرفة لا يشعران بموقفه، فدنا منها وأنشأ يتسمع حديثهما، فلم يفهم كلمة مما يقولان، ثم انقطعا عن الحديث.

وأنشأت ماجدولين تغني غناءً شجيًّا قد كان يكون عذبًا لذيذًا في نفس استيفن لولا أن أذنًا أخرى غير أذنه تزاحمه على سماعه، ثم انقطع الغناء أيضًا فسمع خفق نعالٍ تتقدم نحو الباب، فابتعد عن مكانه حتى خرج الفتى وخرجت ماجدولين وراءه تشيعه في غلالةٍ رقيقةٍ بيضاء لا تلبسها الفتاة إلا بين يدي عشيقها أو من لا تحتشمه من ذوي قرباها، فرأى في وجهها صورة جديدة غير التي كان يراها من قبل، وأحس في نفسه بشيء غير الذي كان يحس به عند رؤيتها، ثم عادت إلى الغرفة وأغلقت الباب وراءها، فعاد إلى موقفه الأول، وما زال راكعًا أمام بابها حتى مشت جذوة النهار في فحمة الليل، فصعد إلى غرفته وقد علم أن الذي قام بنفسه منذ اليوم ليس الهذيان ولا الجنون، ولا الوسواس ولا حرارة الحمى كما كان يظن، وإنما هو الحب!

(٦) الدعوة

دخل «مولر» على ابنته ذات يوم فقال: يا بنية، إني دعوت اليوم جارنا الذي يسكن في الغرفة العليا من منزلنا إلى العشاء عندنا في الساعة السابعة، فأعدي له الطعام، واعلمي أنك ستغنين في هذه الليلة، فقد وعدته بذلك، وقد لقيت من كرم هذا الفتى وعلو همته، وشدة عارضته، وكثرة ذكائه، وسعة علمه بالنبات، وطبائعه، ما حببه إليَّ، وأنزله من نفسي المنزلة العليا، ولا بد أن أتخذه صديقًا، وأن تكون تلك الدعوة فاتحة تلك الصداقة، ثم تركها وخرج إلى الحديقة، وظل مشتغلًا بشأنه فيها حتى مالت الشمس إلى مغربها، فعاد إلى المنزل وجلس إلى نافذة غرفته المطلة على الحديقة ينتظر ضيفه، وإنه لكذلك إذ رآه خارجًا من باب الحديقة يعدو عدوًّا شديدًا وفي يده رسالة مفضوضة، فهتف بابنته يقول: يا ماجدولين! ما أحسب إلا أن جارنا قد حيل بينه وبين الوفاء بوعده، فقد رأيته الساعة خارجًا يعدو من باب الحديقة، ثم رأيته قد سلك تلك الطريق التي لا ينتهي فيها السائر إلى غرض إلا بعد سفر عشرة أميالٍ، فقالت: لا بد أن يكون قد عرض له شأنٌ ما كان يقدره في نفسه، فلا بد أن ننتظره حتى يعود، ثم جلسا صامتين، هذا يدخن لفافته، وتلك تخيط ثوبها، حتى علما أنه لن يعود، فقاما إلى العشاء ثم إلى المنام.

(٧) الزيارة

جلس «مولر» إلى ابنته، فنظر نظرةً في النجوم وقال: ما أحسب إلا أن السماء ستمطرنا في هذه الليلة مطرًا غزيرًا يبلل هذه التربة الظامئة، ويملأ هذه البقاع الجرداء، فما أجمل الربيع وما أجمل غيوثه المنهلة، وما أجمل أرضه بعد أن يكسوها الغمام من نسج يده تلك الغلائل الخضراء! فقالت ماجدولين: لا تنس يا أبت أن كثيرًا من ضعفاء السابلة وطرائد الليل يعانون في مثل هذه الليلة الماطرة من تدفق الغيوث فوق رءوسهم، واعتراض الوحول في طريقهم، وبُعْد الشُّقَّة عليهم ما لا طاقة لهم باحتماله، فوا رحمتاه لهم إن الشقاء كامن لهم في كل شيء حتى في الشئون التي يسعد بها غيرهم، فاكتأب «مولر» وقال: نعم يا ماجدولين، إنهم أشقياء بؤساء ولا بد أن يكون «استيفن» واحدًا منهم، فقد مر الهزيع الأول من الليل ولم يعد إلى المنزل حتى الساعة بعد ما قضى ليلة أمس خارجه.

أخذت هذه الكلمة مكانها من نفس ماجدولين، فأطرقت برأسها تقلب صحائف كتابها ولا تقرأ منه شيئًا، وإنهما لكذلك إذ طارق يخفق الباب خفقًا ضعيفًا، فاضطربت ماجدولين ودهش «مولر» وقامت «جنفياف» إلى الباب ففتحته، فإذا «استيفن» ماثل بعتبته، فاستأذن ودخل وهو يقول: عفوًا يا سيدي إن كنت ترى أنني لم أَفِ لك بوعدي، فقد أرسل إليَّ أخي كتابًا يدعوني فيه إلى مقابلته على الحدود لتوديعه قبل سفره إلى الحرب، فأعجلني كتابه عن كل شيء حتى عن الاعتذار إليك، فمشيت إليه عشرة أميال لا أتريث ولا أتئد حتى بلغته، فودعته وداعًا بين السرور له والحزن عليه، أما السرور فلأني رأيته فرحًا مغتبطًا برحلته يغني أنشودة الحرب مرة، ويلاعب جواده أخرى، ويمشي مشية الخيلاء بين ريش قبعته وحمائل سيفه، وأما الحزن فلأني أخاف أني يسبقني القدر إليه فيحول بيني وبينه، فأصبحُ في هذه الحياة غريبًا منفردًا، لا أجد بين هذه القلوب الخافقة حولي قلبًا يحزن لحزني، ولا بين هذه العيون الناظرة إليَّ عينًا تبكي لبكائي، وهنا ذرفت من عينه دمعة كادت تبكي لها ماجدولين، ولكنها لم تفعل ذلك حياءً وخجلًا، وألقت عليه نظرة عطف ورحمة من حيث لا يشعر، حتى إذا التفت إليها استردت نظرتها وألقتها على صفحة كتابها فقال له «مولر»: لا تجزع يا بني، فالله أرحم بك من أخيك وأرحم بأخيك من نفسك.

ثم أخذ بيده إلى مائدة الشاي وجلسا يشربان معًا، وأنشأ «مولر» يحدث صاحبه عن الشاي ومغرسه ومنبته، وأعواده وأوراقه، وأنواعه وألوانه، وطريقة طبخه وأصل كلمته ومصدر اشتقاقها، وآراء علماء النبات في ذلك، وردود بعضهم على بعض، وردوده هو عليهم جميعًا، وما زال يثر في ذلك ويُسهب ظانًّا أن «استيفن» حاضر معه، و«استيفن» عنه في شغل بما يختلس من نظرات ماجدولين وما تختلس من نظراته، حتى فرغا من شأنهما، فاقترح «مولر» على ابنته أن تغني لهما صوتًا، فأنشأت تغنيه بنغمة تخالطها رعدة الخائف أو رنة المحزون، فما أتت عليه حتى طرب له «استيفن» طربًا مَلَكَ عليه قلبه، وأحاط بعواطفه ومشاعره، وشعر كأن الفضاء يدور به، وكأن قد بدلت الأرض غير الأرض والسموات، ثم خاف أن يمتد به شوطه إلى أبعد من ذلك، فتناهض للقيام، فمشى معه «مولر» إلى الباب يشيعه ويقول: زرنا يا «استيفن» كلما بدا لك أن تفعل، فما دون مزارك باب موصد، فانصرف بقلبٍ غير قلبه، وعقلٍ غير عقله، وحال بين جنبيه غريبةٌ لا عهد له بمثلها من قبل.

(٨) المرأة

قضت ماجدولين ليلتها راكعةً في معبدها، مستغرقةً في صلاتها، تدعو الله، تعالى، أن يعينها على أمرها، وينير لها ظلمة هذه الحياة الجديدة التي بدأت تسير فيها، وقد ألمت بنفسها في تلك الساعة عاطفة غريبة متنوعة الألوان، مختلفة الأشكال، كأنما هي مزيج من الحب والخوف، والسرور والحزن، والأمل الواسع والرجاء الخائب، فكانت تبتسم مرة حتى تلمع ثناياها، وتبكي أخرى حتى يبتل رداؤها، ولا تعلم ما الذي أضحكها ولا ما الذي أبكاها! ولم تزل على حالها تلك حتى حلق طائر الكرى فوق أجفانها، فاضطجعت في مصلاها، وأسلمت نفسها إلى خالقها.

أما «استيفن» فقضى ليله جالسًا إلى نافذة غرفته يقلب وجهه في السماء كأنما هو يساهر كواكبها ونجومها، ويفضي إليها بما ألم بنفسه في تلك الساعة من سرور وغبطة، وما كان سروره إلا لأنه أصبح يشعر في نفسه ببرد الراحة من البحث عن ضالة غرام ظل ينشدها ويتعلق بآثارها عهدًا طويلًا حتى وجدها، وأن نفسه التي كانت حبيسة بين جنبيه قد أشرقت عليها شمس الحب فانتعشت ورفرفت بجناحيها في الفضاء، فأنشأ يحدث نفسه ويقول: أحمدك اللهم، فقد ظفرت بالحياة التي كنت أقدرها لنفسي، ووجدت المرأة التي كنت أصورها في مخيلتي. وما المرأة إلا الأفق الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته، والبريد الذي يحمل على يده نعمة الخالق إلى المخلوق، والهواء المتردد الذي يهب الإنسان حياته وقوته، والمعراج الذي تعرج عليه النفوس من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى، والرسول الإلهي الذي يطالع المؤمن في وجهه جمال الله وجلاله، ففي وجه هذه الفتاة التي عثر بها اليوم قد عثرت بحياتي وسعادتي، ويقيني وإيماني.

وكان يخيل إليه وهو يحدث نفسه بهذا الحديث أن الحب الذي ملأ قلبه قد فاض عنه إلى جميع الكائنات التي يراها بين يديه، فكان يرى في صفحة السماء صورة الحب، ويسمع في حفيف الأشجار صوت الحب، ويستروح في النسيم المترقرق رائحة الحب، ويرى في كل ذرة ثغرًا باسمًا، وفي كل نأمةٍ عودًا ناغمًا.

ولم يزل يهتف بهذه التصورات حتى انحدر برقع الليل عن وجه الصباح فهجع في مرقده قليلًا، ثم قام فنزل إلى الحديقة يترقب نزول ماجدولين إلى متنزهها، فلم تنزل حتى أخذت الشمس مكانها من كبد السماء، فرابه من أمرها ما رابه، فلم ير بدًّا من زيارة «مولر»، فمشى إلى المنزل بقدم مضطربة وقلب خفاقٍ حتى بلغ الباب، فقرعه، ثم شعر أن شعبة من شعب قلبه قد سقطت بين أضلاعه، وأن لسانه قد التوى عليه فأصبح لا ينطق ولا يبين، فندم على أن لم يكن قد سلك سبيلًا غير تلك السبيل، وتمنى لو فترت الخادم قليلًا في خطواتها إليه حتى يستجمع رويته وأناته، ويسترد إليه ما تفرق من شمله، فكان له ما تمناه، ولم تفتح «جنفياف» الباب إلا بعد فراغها من شأنٍ كان لها، فسألها: أين «مولر»؟ فمشت أمامه إلى قاعة الأضياف ثم تركته وذهبت لتخبر سيدها بمكانه، وكان يقرأ في قاعة الكتب، فلما خلا «استيفن» بنفسه أخذ يدور بعينيه في جوانب الغرفة، فرأى على مقربة منه بابًا مفتوحًا يلوح من ورائه سرير قائم، فعلم أنه مخدع «ماجدولين»، فتسمع فلم ير أحدًا، فهاجه الشوق إلى اقتحامه فاقتحمه، وهو يعلم أنها المخاطرة بعينها، ولكنه كان على حالٍ لا ينتفع فيها بما يعلم، فدخل واقترب من السرير فوجد الفراش لا يزال مشعثًا، ومكان رأس «ماجدولين» من الوسادة لا يزال منخفضًا، ورأى بين يدي السرير حوضًا مملوءً ماءً وإلى جانبه كرسي قد انتشر فوقه رداءٌ مبتلٌّ، ثم نظر إلى الأرض فرأى بللًا بمثل أقدامًا صغيرة، فعلم أن في هذا السرير كانت ماجدولين نائمة، وفي هذا الماء كانت تتبرد، وبهذا الرداء كانت تتمسح، وعلى هذه الأرض كانت تتنقل، فجمد في مكانه جمود الصنم في هيكله، وأخذ يقول في نفسه: لقد سعد السرير الذي لامسها، والرداء الذي ضمها، والأرض التي لثمت أقدامها، والماء الذي انحدر على جسمها.

ثم مشى إلى الرداء المنتشر فأخذ يلثمه كما يلثم العابد المتشدد ستائر معبده، وتهافت على الأرض يقبل آثار تلك الأقدام، ثم خيل إليه أنه يسمع من ورائه صوتًا، فرجع إلى نفسه وعاد منفتلًا إلى مكانه الأول، فما لبث إلا قليلًا حتى دخل عليه «مولر» فحياه وقال له: عفوًا يا «استيفن» فقد شغلني عنك أني كنت أفتش في قواميس اللغة عن أصول أعلام نباتيةٍ ما زلت معنيًّا بأمرها منذ اليوم، فهل لك أن تكون عونًا لي عليها — على شرط ألا تفارق منزلي قبل الغداء، فابتسم «استيفن» ابتسامة الرضا والقبول؛ لأنه علم أنه سيقضي وقتًا طويلًا في منزل ماجدولين.

ثم ذهبا معًا إلى قاعة الكتب فلما أخذا مكانهما منها أنشأ «مولر» يسرد على صاحبه تلك الأعلام التي يقول إنها تشغله، ويشرح له مدلولاتها، وما رآه علماء النبات في مصادر اشتقاقها، وما بدا له من المآخذ عليهم، فإذا ورد في كلامه اسم كتابٍ قام إلى خزانة الكتب واستخرجه وتصفح أوراقه حتى يجد الكلمة التي يريدها فيتلوها بنغمة الهازئ الساخر، ويقول: هكذا يرى الأستاذ فلان! أما أنا فأرى غير ما يراه، وماذا عليَّ إن بدا لي غير ما بدا له؟ فالعلم ليس وقفًا على المؤلفين والمدونين وإنما هو قرع الحجة، ودفع الرأي بالرأي.

وما زال يهدر في حديثه هدير الجمل المخشوش، و«استيفن» لاهٍ يردد النظر إلى باب القاعة من حينٍ إلى حينٍ عله يرى ماجدولين داخلةً، فقال له «مولر»: أراك تنظر إلى الباب كثيرًا كأنك تخاف أن يلج علينا الغرفة والجٌ فيكدر علينا خلوتنا، فاعلم أنه ما من أحدٍ من هذا المنزل يستطيع أن يخالف أمري ويقتحم عليَّ باب قاعتي من غير إذنٍ، وهنا صاحت الخادم تدعوه إلى الغداء، فلم يقطع حديثه، فصاحت به مرة أخرى، فنهض متثاقلًا ومشى متباطئًا لا يقطع حديثه حتى وصلا إلى غرفة الطعام، فراع «استيفن» أنه لم ير حول المائدة غير مقعدين، فعلم أن أحدهما له، وأن الآخر لا يمكن أن يكون لأحدٍ غير «مولر»، فوجم وجوم الحزين المكتئب، واستمر يأكل صامتًا لا يتحدث ولا يصغي إلى حديثٍ حتى فرغا، فقال له «مولر»: لقد أراد الله بي خيرًا إذ أرسلك إليَّ في هذا اليوم، فقد كدت لا أجد لي في هذه الوحدة مؤنسًا، ولا على هذه المائدة رفيقًا، فإن ابنتي سافرت منذ الصباح لزيارة إحدى صواحبها، ولا أحسبها راجعة قبل المساء، فهل لك أن تنزل الحديقة لنرتاض فيها قليلًا؟ فنزلا، فما أمعنا فيها إلا قليلًا حتى سمع «مولر» صوت الخادم تصيح به من النافذة أن قد عادت سيدتها، فمد يده إلى «استيفن» مودعًا، وتركه مكانه حائرًا مشدوهًا، وليس وراء ما به من الهم غايةٌ.

(٩) الحيرة

كان من أمر استيفن بعد ذلك أنه كلما رأى ماجدولين في الحديقة فر من وجهها وسلك طريقًا غير طريقه، ليخلو بنفسه لحظة يصور فيها الموقف الذي يقفه بين يديها، والتحية التي يجمل به أن يحييها بها، فلا يصل إلى ما يريد من ذلك حتى يراها راجعةً أدراجها إلى المنزل، فكان يحمل في سبيل ذلك من الهم ما يقلق مضجعه، ويطيل سهده ويحول بينه وبين قراره، فلا يرى بدًّا من الفرار بنفسه إلى الغابات والأجمات، والهيام على وجهه في قمم الجبال وعلى ضفاف الأنهار ليروح عن نفسه بعض ما ألم بها، واستمر على ذلك أيامًا طوالًا لا يمشي في الحديقة، ولا يرى ماجدولين ولا يزور «مولر» حتى تَلِفَتْ نفسه، وذهب به اليأس كل مذهب، فعاد يومًا من بعض مذاهبه محمومًا لا يكاد يتماسك ضعفًا واضطرابًا، فلزم غرفته أيامًا يعالج من داء قلبه وداء جسمه ما لا طاقة له باحتماله، وكأن «جنفياف» قد ألمت بجملة حاله فكاشفت بها سيدها، فصعد إلى غرفته ليعوده فرآه مستفيقًا بعض الاستفاقة، فسأله عما به فانتحل له عذرًا، فجلس إليه يحادثه ساعة، فلما أراد القيام مد «استيفن» يده إلى طاقة بنفسج كانت في آنية إلى جانب وسادته وقال له: إني جمعت هذه الطاقة لماجدولين؛ لأني أعلم ولعها بالغريب المستطرف من الزهر، فلعلك تنوب عني في تقديمها إليها، فأخذها «مولر» شاكرًا وانصرف.

ومرت بعد ذلك أيام كان فيها «استيفن» بين يأس الحياة ورجائها حتى أدركته رحمة الله فأبَلَّ من مرضه، فنزل إلى الحديقة وقد استقر في نفسه العزم على ألا يفر من وجه ماجدولين إذا رآها، وأن يتقدم نحوها فيحييها ويحادثها، وينفض لها جملة حاله، ولم ينشب أن رآها مقبلة عليه وجهًا لوجه، فلم ير سبيلًا للفرار من بين يديها، فحياها فحيته، ثم أغضى فأغضت، فلم ير بدًّا من المخاطرة بكلمة يخرج بها من هذا الصمت المعيب، فاستنصر قوته وتجمع تجمع من يريد الوثوب فوق هوةٍ عميقة، وأراد أن يقول شيئًا فسمعها تتكلم، فاستفاق وحمد الله على أن كفاه تلك المئونة، فقالت: أراك يا سيدي شاحب اللون، خائر النفس، فلعلك عالجت من مرضك هذا عناءً كبيرًا، قال: نعم، قالت: أشكر لك يا سيدي هديتك الثمينة التي بعثت بها إليَّ، ولقد أعجبني منها أن تلك الزهرة هي أحب الزهور إليَّ، فكأنما ألهمت ما في نفسي، وإني أعجب لشعرائنا في إغفالهم ذكر هذه الزهرة في أشعارهم كما ذكروا غيرها مما لا يقوم مقامها، ولا يكافئها في حسنها وروائها، ولا أذكر أني قرأت لأحد منهم شعرًا فيها إلا قطعةً صغيرة لشاعرنا «جيتي»، وهنا وجد «استيفن» متسعًا في الحديث عن الشعر والشعراء، والنبات والزهر، فاستمر يحادثها ساعةً حتى حان وقت رجوعها، فودعته وانصرفت، فصعد إلى غرفته وقد عزم أن يراسلها فيما عجز عن مفاتحتها فيه.

(١٠) من سوزان إلى ماجدولين

كنا على أن نزورك في قريتك يا ماجدولين أنا ووالدي فحدث حادث حال بيننا وبين ذلك: دعانا أحد الأصدقاء لزيارته في بلدته — وهي على بعد ثلاثة فراسخ من قريتنا ولا تبعد عن قريتك إلا قليلًا — فذهبنا إليه صبيحة يوم وقضينا في منزله عدة ساعات حتى إذا زلفت الشمس عن كبد السماء خرج القوم إلى الخلاء للتنزه في غاباته وأجماته، وأنت تعلمين فيما تعلمين من أمري أنني لا أجد في نفسي تلك اللذة التي يجدها الشعراء المتخيلون في جمال الطبيعة وحسنها، وبهجتها وروائها، ولا أغتبط بما يغتبطون به من منظر الغابات والأحراش والجبال والآكام، ولا أطرب لخرير الماء، ودوي الريح، وهزيم الرعد، وحرارة الشمس، ووعث الطريق، وخشونة الأرض، واقتحام الصخور، والتعثر بين أغوار الفلاة وأنجادها، كما يطربون، ولكنني لم أر بدًّا من مصانعتهم ومجاملتهم، فمشيت صامتة ومشوا يتحدثون بجمال الحياة القروية، ويتمدحون بعيش العزلة بين سكون الطبيعة وهدوئها، وجمال الكائنات وجلالها، والله يعلم أنه ما من أحدٍ منهم يعلم من نفسه أنه صادق فيما يقول، أو أنه يتمنى لنفسه ذلك الشقاء الذي يحسد الأشقياء عليه، فكان مثلهم في ذلك كمثل أولئك الكتاب المرائين الذين يكتبون الفصول الطوال في مدح الفلاح والتنويه بذكره، والثناء على يده البيضاء في خدمة المجتمع الإنساني، حتى إذا مر ذلك المسكين بأحدهم وأراد أن يمد يده لمصافحته تراجع وكفكف يده ضنًّا بها أن تلوثها بأقذارها تلك اليد السوداء.

وما زلنا كذلك حتى بلغنا شاطئ النهر فراعنا أنا رأينا هناك جمعًا عظيمًا من الناس يندفع فوق الشاطئ الآخر تدفع الموج المتراكب، ويشير إلى الماء بأصابعه وينادي: الغريق الغريق، والنجدة النجدة! فالتفتنا حيث أشاروا، فإذا رجلٌ بين معترك الأمواج يصارع الموت والموت يصرعه، ويغالب القضاء والقضاء يغلبه، يطفو تارة فيمد يده إلى الناس فلا يجد يدًا تمتد إليه، ويرسب أخرى حتى تنبسط فوقه صفحة النهر فتحسبه من الهالكين، وما زال يتخبط ويتشبث، ويظهر ثم يختفي، ويتحرك ثم يسكن، حتى كل ساعده، ووهت قوته، وابيضت عيناه، واستحال أديمه، ولم يبقَ أمام أعيننا منه إلا رأس يضطرب، ويد تختلج، فبكى الباكون، وأعول المعولون، ونظر الناس بعضهم إلى بعض كأنما يتساءلون عن رجلٍ رحيمٍ، أو شهم كريم، وإنهم لكذلك إذا رجلٌ عارٍ يدفع الجمع بمنكبيه، وينزلق بين الناس انزلاق السهم إلى الرمية، حتى ألقى بنفسه في النهر وسبح حيث هبط الغريق فهبط وراءه، وما هي إلا نظرة والتفاتة أن انفرج الماء عنهما فإذا هما صاعدان، وقد أمسك الرجل بذراع الغريق، فكبر الناس إعجابًا بهمة المخلص، وفرحًا بنجاة المسكين.

ولكن ما كدنا نستفيق من هذا المنظر المحزن حتى راعنا منظرٌ آخر أجل منه وقعًا وأعظم هولًا، فقد رأينا الغريق كأنما جن جنونه فظن أن مخلصه يريد به شرًّا، وأنه ما أمسك بذراعه إلا وهو يريد أن يهوى به إلى قاع الماء فيعيده سيرته الأولى، فأفلت منه وضربه بجمع يده في صدره ضربة شديدة، ثم أنشب أظافره في عنقه ولفه بساقيه لفةً خلنا أن عظامه تئن لها أنينًا، فاستيأس الرجل وعلم أنه هالك ما من ذلك بدٌّ، فرفع يديه إلى السماء وهتف باسمٍ أظنه اسمك يا ماجدولين، فلم أفهم ماذا يريد ولا من هي تلك التي يريد، ثم ما لبثنا أن هوى الماء بهما، وجرى مجراه فوقهما، فخفقت القلوب، ووجفت الصدور، وخفتت الأصوات، وامتدت الأعناق، وتواثبت الأحشاء، وتزايلت الأعضاء، ومشى اليأس في الرجاء مشي الظلال في الأضواء؛ ومرت على ذلك دقائق لا تضطرب فيها موجة، ولا تهب نسمة، ففزعت إلى أبي ذاهلة حائرة وقلت: أيتعذب الغرقى كثيرًا في مصارعة الموت؟ فبكى لبكائي وقال: نعم يا بنية، ولقد يبلغ الأمر ببعضهم أن يدور بيده في قاع الماء يفتش عن حجر يضرب به رأسه ضربة قاضية يستريح من الآلام والأوجاع، فركعت على كثيب من الرمل ورفعت إلى السماء يدي وقلت: اللهم إنك أعدل من أن تجازي بالإحسان سوءًا وبالخير شرًّا، فلقد أبلى هذا الرجل في إنقاد هذا الغريق بلاءً حسنًا، وبذل في سبيل ذلك من ذات نفسه ما ضن به الناس جميعًا، فامدد يدك البيضاء التي طالما مددتها لإنقاذ البائسين، واكشف عنه كربته التي يعالجها، إنك أرحم الراحمين.

ثم استغرقت في دعائي، فلم أعد أشعر بشيء مما حولي، حتى سمعت ضجة على الشاطئ فاستفقت، فإذا النهر يتثاءب عن الرجل، وإذا الرجل صاعد وحده حتى بلغ سطح الماء، فهتف به الناس: أن انج بنفسك فقد أبليت! فأبى عليه كرمه ووفاؤه أن يكون قاسيًا أو منتقمًا، فألقى بنفسه في الماء مرة أخرى، وعاد بالغريق يحمله على كتفه، وما زال يسبح به حتى بلغ الشاطئ، فسقطا جميعًا، فتولى القوم أمرهما، وما زالوا بهما حتى أفاقا، فمشى الغريق إلى مخلصه بعد ما ألم بقصته معه يتوجع له ويمسحه، ويشكر له يده عنده، ويعتذر له عن ذنبه إليه، ثم انتفض الجمع وبقي الرجل وحده فلبس ثيابه ثم مشى يتحامل على نفسه إلى شجرات بنفسج كن على الشاطئ، فأخذ يقتطف من زهراتها ويضعها في منطقته كأنما يريد أن يتخذ منها طاقة يجعلها لتلك الحادثة تذكارًا، فتركناه على حاله وعدنا إلى المنزل صامتين محزونين، وقد فاتنا ما كنا نؤمل من زيارتك في ذلك اليوم.

لا أستطيع أن أكتب إليك غير هذا، فقد أصبحت لا أذكر تلك الحادثة إلا وأجد لذكراها من الألم في نفسي ما يخيل إليَّ أنها حاضرة من يدي، وربما كتبت إليك فيما بعد، والسلام.

(١١) المكاشفة

مال ميزان النهار، وانحدرت الشمس إلى مغربها، ودب الظلام في الأضواء دبيب البغضاء في الأحشاء، وسكن كل صوت إلا صوت العصافير المزدحمة على أبواب أعشاشها، وجلس «استيفن» في الحديقة تحت أشجار الزيزفون يترقب نزول ماجدولين، وقد كتب لها كتابًا نطق فيه قلمه بما عجز عنه لسانه، فنشره بين يديه وأنشأ يقلب نظره فيه؛ فخيل إليه أنه غير مستعذب ولا سائغ، وأن في كل جملةٍ من جمله موضع ضعفٍ، فاستقر رأيه على أن يطويه حتى يكتب لها خيرًا منه، ثم رآها مقبلة نحوه تحمل في يدها كتابًا، فلما دنت منه ابتسمت له وقالت: أتذكر يا سيدي مكان الشجرات التي اقتطفت منها زهرات البنفسج التي أهديتها إليَّ؟ فاضطرب لسؤالها، وقال: نعم، إنها على ضفة نهر صغير يبعد فرسخًا أو فرسخين، قالت: اقرأ هذا الكتاب فإن لك فيه ذكرًا، فأخذ منها كتاب سوزان في حادثة الغريق وأمر نظره عليه إمرارًا فعرف كل شيء، فرده إليها صامتًا وهو لا يدري ماذا يقول، فقالت: إنك تكتم عني نفسك يا «استيفن»، فقد عرفتك وعرفت يدك البيضاء في حادثة الغرق وبلاءك فيها، وما عالجت من آلام الحمى على أثرها، ثم مدت يدها إليه مصافحة، فلم يكن بين تلامس كفيهما وخفوق قلبيهما إلا كما يكون بين تلامس أسلاك الكهرباء واشتعال مصابيحها، ولبثا بعد ذلك ساعة صامتين لا ينطقان، إلا أن في الجبين لغة لا تقرؤها إلا العيون، فقرأ «استيفن» في وجه ماجدولين لوعة الحب وألم الحزن، واضطراب الجأش وحيرة النفس، وقرأت في وجهه الحب والسعادة والدهشة، والسرور المتلألئ والدمع المترقرق، فهاجها هذا المنظر، فأرسلت من محاجرها أول دمعة من دموع الحب، فبكى لبكائها، وحنا عليها حنو المرضعات على الفطيم، وشعر في نفسه وقد ضمها إليه بتلك العاطفة اللذيذة التي يجدها الغريب النائي عن أهله وجيرانه إذ لاقى في مطارح غربته غريبًا مثله يأوي إليه، ويحنو عليه، ثم أخذ بيدها فألصقها بكبده كما يفعل المريض بيد عائده ليدله على موضع ألمه، وكأنما هو يقول لها: إن لغة اللسان لا تكشف لك عما اشتملت عليه أضالعي من الوجد بك، والحنين إليك، فالمسي قلبي بيدك لتعرفي مكنونه، وتكشفي غامض سريرته، ثم خر راكعًا بين يديها وقال: أتحبينني يا ماجدولين؟ فلم تجب، فأعاد كلمته فاستمرت في صمتها، فمد يده إليها ضارعًا وقال: رحماك يا ماجدولين، إنني أخاف أن أكون في حلم، وأن تكون هذه السعادة التي أراها بين يدي خيالًا من الخيالات الكاذبة التي كانت تتراءى لي في أحلامي الماضية فأغتبط بها وأسكت إليها حتى إذا ما استفقت وجدت يدي صفرًا منها، فأسمعيني كلمة الحب لأعلم أنك حاضرة لدي، وأنني لست واهمًا ولا حالمًا.

ومرت بهما على ذلك ساعة لا يعرف مكانها من نفسهما إلا من مرت به في يوم من أيام شبابه ساعة مثلها، فقد كانا يشعران أنهما في معزلٍ عن العالم، وأن مكانهما من تلك الحديقة في انفرادهما وسكونهما وهنائهما وغبطتهما مكان آدم وحواء من جنتهما، قبل أن يأكلا من الشجرة ويهبطا إلى الأرض، وأن روحهما قد تجردت عن جسمهما فطارت ترفرف بأجنحتها في فضاء الملأ الأعلى، فرأت مدارات الشموس في أفلاكها، وحركات الكواكب في منازلها، ومرت بين صفوف الملائكة، وسمعت زجلها وتسبيحها تحت قوائم العرش، ودخلت جنة الخلد فرأت حورها وولدانها، ولؤلؤها ومرجانها، وروحها وريحانها.

فلم يستفيقا من غمرتهما حتى سمعت ماجدولين صوت «جنفياف» تناديها، فمدت إليه يدها مودعة، وهي تقول: غدًا في مثل هذه الساعة في هذا المكان، فمد يده إليها ذاهلًا لا يعلم ماذا يُراد به، ثم مضت، ومضى بنظراته على آثارها حتى اختفت آخر طيةٍ من طيات ردائها الأبيض، فجمد في مكانه ساعة لا يتحرك ولا يلتفت، كأنما يتخيل أنها لا تزال جالسة بين يديه، فلما سمع خفق بابها دار بعينيه حول نفسه يمنة ويسرة، فعلم أنه جالس وحده.

(١٢) النشوة

خرج «استيفن» بعد ذهاب ماجدولين هائمًا على وجهه يعدو في عرض الفضاء، ينحدر إلى يمينه وإلى يساره أخرى، كأنما يريد أن يشهد الأرض والسماء، والبحار والأنهار، والجبال الشماء، والسهول الفيحاء، والحيوان الناطق، والجماد الصامت، على سروره وغبطته، وكان يشعر في نفسه أن السعادة التي نالها هي فوق ما يحتمل طوقه، فكان كلما مر بأحد من الناس حدثته نفسه أن يفضي إليه بقصته ليحمل عنه جزءًا من سعادته، ومر بأطفالٍ يلعبون فجمعهم حوله وأخذ يقبلهم واحدًا بعد واحد، ثم نثر عليهم كل ما معه من المال، وبوده لو ملك مفاتيح الأرزاق فأسبغ على الناس جميعًا أنعمه وآلاءه فمحا بؤسهم وشقاءهم، وما زال يتغلغل في أحشاء الظلام متيامنًا متياسرًا، صاعدًا منحدرًا، حتى رأى باب الحديقة مفتوحًا بين يديه، فاقتحمه ومشى إلى مكانه الأول، فجلس فيه وأخذ ينظر إلى شعاع النور المنبعث من بين ستائر غرفة ماجدولين، فخيل إليه أنه يرى قيامها وقعودها، وجيئتها وذهابها، ويسمع حفيف ثوبها، وخشخشة أوراق كتابها، حتى انطفأ المصباح، فصعد إلى غرفته وجلس إلى مكتبه يكتب إليها كتابًا طويلًا، ثم نال منه التعب فقام إلى سريره ونام نومًا هادئًا لذيذًا حلم فيه أحلامًا ما رأى مثلها بعد ليالي طفولته الجميلة.

(١٣) من استيفن إلى ماجدولين

لا أزال أشعر حتى الساعة بجمال ذلك المقام الذي قمته بين يديك أمس، ولا أزال ألمس صدري بيدي لأعلم أين مكان قلبي من أضالعي مخافة أن يكون قد طار سرورًا بتلك السعادة التي هي كل ما يتمنى المُخَيَّرُ أن يكون، والتي لا أعتقد أن أبناء الخلود يُقَدِّرون لأنفسهم في دار نعيمهم خيرًا منها، ولو أن لامرئ أن يعبد من يسدي إليه أفضل النعم وأسبغها، وأجمعها لكل خير وبر، لوجدتني يا ماجدولين ساجدًا بين يديك في كل مطلع شمسٍ سجود العبد الشاكر للإله المنعم.

إن الله لم يهب لي نعمة الجمال التي وهبها لك، ولم يجملني بمثل ما جملك به من رقة الحس، وعذوبة النفس، فإن أنت أحببتني فقد أحببت فتى مجردًا من مزايا الفتيان لا يستطيع أن يمت إليك بمثل ما تمتين به إليه، ولا أن ينيلك من السعادة ما أنلته منها، فإن كنت ترين أن الإخلاص في الحب والوفاء بالعهد وهبة النفس هبة خالصة بلا ندم ولا أسف مزية أستحق لها محبتك فها أنا ذا أقدمها بين يديك، فتقبليها مني وقولي إنك سعيدة بي، كما أنا سعيد بك.

(١٤) العهد

قدم «استيفن» كتابه إلى ماجدولين يدًا بيد، فدهشت حينما رأته وألقت عليه نظرة الحائر المتردد، فنظر إليها «استيفن» نظرة المتوسل المستعطف، فتناولته منه وخبأته في ثنايا صِدارها، وقالت: أصحيح يا «استيفن» ما حدثتني به «سوزان» في كتابها أن اسمي كان آخر كلمة هتفت بها في الساعة التي كنت تحسب أنها آخر ساعاتك في الحياة؟ قال: نعم، ولقد نلت ببركة هذا الاسم ما كنت أقدر لنفسي من النجاة عندما هتفت به، فقد علمت أن الله ما منحك هذه المنحة من الجمال، ولا جملك بما جملك به من محاسن الخلال، إلا وأنت آثر بنات حواء عنده، وأكرمهن عليه، فهو أضن بك من أن يجرح قلبًا يخفق بحبك، أو يخرس لسانًا يهتف بذكرك، فعُذت باسمك في شدتي كما يعوذ المؤمن في شدته باسم الله، فكان لي خير معاذٍ وملاذ.

قالت: إنك قد لقيت في شدتك هذه عناءً كثيرًا ولقد كنت فيما فعلت من القوم المحسنين، قال: ما كنت محسنًا قبل اليوم، ولكنه الحب يملأ القلب رحمة وحنانًا، ويصغر في عينيه عظائم الأمور وجلائلها، ويوحي إليه أفضل الأعمال وأشرفها، أما ما لقيت في ذلك اليوم فقد كان فوق ما يحتمل المحتمل، فقد خيل إليَّ أنني أهوى في منحدر لا أعرف له قرارًا، وأن جسمي يتفتح عن روحي تفتحًا فتَملَّسُ منه إملاس الفرخ من بيضته، فلما ذكرتك استروحت من ذكراك ما استروح يعقوب من قميص يوسف، فلما نجوت علمت أنك سبب نجاتي، فما بلغت الشاطئ حتى جمعت تلك الزهرات فأرسلتها إليك تذكارًا لتلك النعمة السابغة التي أسديتها إليَّ، فمدت يدها إلى صدرها، وأخرجت منه طاقة زنبقٍ وقالت: إن أبي قد جمع لي هذه الأزهار صباح هذا اليوم فأنا أقدمها إليك ردًّا لتحيتك التي حييتني بها، فتناولها منها ونثرها بين يديه، وأخذ يؤلف بين أشتاتها وينظمها في سلكٍ مستدير حتى صارت إكليلًا جميلًا، فوضعه على رأسها وقال: إن من يرى هذا الإكليل الزاهر فوق هذا الجبين الساطع لا يرى إلا أنه إكليل عرس على رأس عروس، فأخذت كلمته هذه مأخذها من نفسها، فأطرقت قليلًا ثم رفعت رأسها فإذا دمعة رقراقة تترجح في مَحْجِرَيْها، فقال: لا تبكي يا ماجدولين، فما في قوى هذا العالم كلها قوة تستطيع أن تحول بيني وبينك، قالت: إنما أبكي خوفًا من الحب، وما أنا إلا فتاة مسكينة منقطعة، أشعر بالحيرة التي تشعر بها كل فتاة لا أم لها ترشدها، ولا ناصر لها يعينها، قال: ألا تعتقدين أن قلبك نقي طاهر؟ قالت: ذلك ما أعتقده وأشهد الله عليه، قال: إذن فالله هو الذي ينصرك ويعينك، وهو الذي يأخذ بيدك في حيرتك، وينير لك السبيل في ظلمات هذه الحياة.

لا تخافي من الحب يا ماجدولين، ولا تخافي من غضب الله فيه، واعلمي أن الله الذي خلق الشمس وأودعها النور، والزهرة وأودعها العطر، والجسم وأودعه الروح، والعين وأودعها النور، قد خلق القلب وأودعه الحب، وما يبارك الله شيئًا كما يبارك القلبين الطاهرين المتحابين؛ لأنهما ما تحابا إلا إذعانًا لإرادته، ولا تعاقدا إلا أخذًا بسنته في عباده، فامددي إليَّ يدك، وأقسمي بما أقسم به أن نعيش معًا، فإن قدر لنا أن نفترق كان ذلك الفراق آخر عهدنا بالحياة، فمدت إليه يدها فتقاسما وتعاهدا، وكانت الشمس قد انحدرت إلى مغربها فافترقا.

(١٥) من استيفن إلى ماجدولين

كتبت إليك كثيرًا، فلم تكتبي إليَّ كثيرًا ولا قليلًا؛ لأنك تعتقدين ما يعتقده كثير من النساء من أن المرأة التي تكتب إلى حبيبها كتاب حب آثمة أو غير شريفة، أما أنا فأعتقد أنها إن لم تفعل فهي مرائية مصانعة؛ لأن المرأة التي وهبت قلبها هبةً خالصة لا يخالطها شك ولا ريبة لا ترى مانعًا يمنعها من أن تكتب لحبيبها في غيبته بمثل ما تحدثه به في حضرته.

إن الحيطة في الحب رأي تراه لنفسها المرأة البغي التي تتخذ لها كل يوم حبيبًا تقسم بين يديه بكل محرجةٍ من الأيمان أنها ما فتحت قلبها لزائرٍ قبله، فهي تخاف أن تسجل بيدها على نفسها في يومها ما يفسد عليها أمرها في غدها، أما المرأة الشريفة فما أغناها عن ذلك كله؛ لأنها تحب فتخلص، فتقول فتكتب ما تقول.

اكتبي إليَّ يا ماجدولين، فإن الذي يستطيع أن يكتم سر حديثك لا يعجز عن أن يكتم سر كتابك، واعلمي أن رجلًا غيري ذلك الذي يتخذ من رسائلك سيفًا يجرده فوق عنقك إن بدا لك في الفرار منه رأيٌ، وإن فتاة غيرك تلك التي ترضى لنفسها أن تهب قلبها إلى رجل يتجر بأسرار النساء.

(١٦) البحيرة

مضت على «استيفن» وماجدولين بعد ذلك أيام كانا يلتقيان فيها في المنزل أو الحديقة أو في الغابة أو على ضفة النهر، وكثيرًا ما كانا يجلسان بجانب شجرات البنفسج، ويذكران حادثة النهر، وطاقة الزهر، وأحيانًا كانا ينزلان في زورقٍ صغير يسيران به في البحيرة ساعة أو ساعتين ثم يعودان.

فنزلا في الزورق يومًا وكانت الشمس قد لبست ثوبها الثالث، ثم ما لبثت أن هوت إلى مستقرها على أن ترسل من خلفها سليلها القمر إلى هذا الوجود ليقوم عنها بحراسته حتى تعود إليه، فأمعنا في البحيرة، وكانت هادئة ساكنة كصفحة المرآة، وكان النسيم باردًا رطبًا يترقرق فيلامس الوجوه بخفةٍ كما تلامس يد الحسناء وجه حبيبها، وقد سكن كل شيء إلا صوت قطرات الماء المنحدرة من المجاذيف إلى البحيرة، ونقيق الضفادع من حينٍ إلى حين، ثم هتك القمر ستر الظلام وأرسل أشعته الزرقاء إلى الزورق والبحيرة والشاطئ وما وراء ذلك، فكانا يريان على ضوئه بعض الأشجار كأنها أشباحٌ متحركةٌ، ويتخيلان أن عيون الحشرات السارية بين لفائف الأعشاب شررٌ ينقدح، فلذَّ لهما هذا المنظر البديع، وذلك السكون العميق، وتلك الوحدة التي لا يكدرها عليهما مكدرٌ، وتركا الزورق يمشي بهما حيث يشاء، وينحدر كما يريد.

وظلا يتحدثان، فقال «استيفن»: إني أوثر يا ماجدولين أن يكون البيت الذي نسكنه في المستقبل على شاطئ بحيرة كهذه البحيرة، وأن يكون لنا زورق أوسع من هذا الزورق وأجمل منه شكلًا، نقضي فيه الليالي المقمرة بين الرياضة والصيد والاستحمام، ولا بد أن يكون للمنزل حديقةٌ صغيرة ونغرس بها ما نشاء من الكروم والأعناب والأزهار والأنوار، وسأتولى بنفسي غرس شجرات البنفسج لك، وسأنشر على جدران الحديقة والمنزل غلائل رقيقة من الخضرة اليانعة، أما المنزل فأرى أن يكون مشتملًا على طبقتين، طبقة عليا يكون فيها أربع غرفٍ، غرفة للأضياف، وأخرى للمكتبة، وأخرى للملابس، وصمت لحظة، ثم قال: أما الرابعة فهي التي تكون لي ولك، فاحمرت ماجدولين خجلًا ثم قالت: لقد فاتك أن تذكر غرفتين أخريين: إحداهما لأخيك، والثانية لأبي، قال: نعم، لقد فاتني ذلك، فلا بد إذن أن تكون الطبقة العليا مشتملة على ست غرفٍ، أما الطبقة السفلى فتشتمل على قاعة الطعام، ومخزن المئونة، وبيت الخدم والحمام، إلى ما يلحق ذلك من مرافق البيت وحاجاته، قالت: لقد فاتك أيضًا أن الحديقة لا يجمل منظرها إلا إذا كان في وسطها حوضٌ صغيرٌ يتدفق ماءً نميرًا، قال: نعم وسنتخذه لتربية الأسماك الملونة، ولا يفوتنا أن نحوطه بسياج عالٍ من الأغصان المشتبكة وقايةً لأطفالنا الصغار.

فأخذت هذه الكلمة مأخذها من نفس ماجدولين، واصفر لها وجهها، ثم أطرقت برأسها طويلًا، فحنا عليها «استيفن» وسألها عما بها، فرفعت رأسها فإذا هي تبكي، فقال: ما بك يا ماجدولين؟ قالت: إن الدهر يا «استيفن» أضن بالسعادة من أن يهبها كلها لشخص واحد، وأخاف أن نكون كاذبين في آمالنا، أو مخطئين في تصور مستقبلنا، فليت الدهر — إن كان يعلم أنه سيحول بيننا وبين سعادتنا في المستقبل ويكدر علينا صفو عيشنا بفاجعة من فواجعه أو نازلةٍ من نوازله — أن يمد إلينا يده في هذه الساعة فيستل حياتنا من يدي أجلنا؛ لتخف في أفواهنا مرارة الموت! قال: لا تخافي يا ماجدولين، فإن سلطان الدهر لا يمتد إلى مواقف الحب إلا إذا أراد المحبون أنفسهم أن يكون له هذا السلطان عليهم، فكوني معي أتخذ من حبك عدة أنازل بها حوادث الدهر وأرزاءه، وأفسد عليه حوله وقوته، فصمتت واجمة، ثم ألقت نظرها على البحيرة ومجرى الزورق منها وقالت: لو أن لامرئ أن يتمنى لنفسه ما يشاء لتمنيت أن يكون هذا الطريق الذي نسير فيه طريق الأبدية، وأن يظل هذا الزورق مطردًا بنا في مسيره، لا يقف في طريقه شيء حتى يلج بنا أبواب السماء.

ثم تنفست الصعداء وقالت: حسبنا يا «استيفن» فقد أوشك القمر أن يغيب، وأنا لا أحب أن أرى مغيبه؛ لأني أخاف أن تغرب سعادتنا بغروبه، فنظر إليها واجمًا مكتئبًا، كأنما دار بنفسه ما دار بنفسها من المخاوف والأوهام، ثم قام إلى المجاذيف يحركها، واضطجعت تحت قدميه، وما زالا كذلك حتى بلغا الشاطئ، ثم مشيا حتى بلغا المنزل، فلما أرادا أن يفترقا أدنى يدها من فمه يحاول أن يقبلها فأبت، فقبلها في جبينها فارتعدت، وألقت عليه نظرة عتبٍ أخذت من نفسه مأخذها وانصرفت.

(١٧) من ماجدولين إلى استيفن

ماذا صنعت يا «استيفن»؟ إنك سلبتني الليلة الماضية راحتي وسكوني، فإني كلما تذكرت تلك القبلة التي وصمت بها جبيني شعرت كأن نارًا مشتعلة تتأجج بين أضالعي، وأن صحيفتي التي لم تزل بيضاء حتى ليلة أمس قد أصبحت تضطرب في بياضها الناصع نقطة سوداء، فأحاول أن أطردها من أمامي فأكون كالأرمد الذي يحاول أن يطرد الغشاوة السوداء من عينيه فلا يستطيع، لقد سكبت عيناي كثيرًا من العبرات، وتوسلت كثيرًا إلى الله تعالى، أن يغفر لي ذنبي، ولا أدري ما هو صانع بي؟ ولا كيف أستطيع أن أقف بين يديه يوم الحساب بهذا الجبين المسود من الإثم، وهذا الوجه المحمر من الخجل؟ لا أكتمك يا سيدي أنني لولا أن عزيت نفسي عن هذه النكبة بأنك أخذت مني تلك القبلة أخذًا ولم أمنحها لك منحة لقتلت نفسي بيدي، لا تعد إلى مثلها يا «استيفن» إلا إذا أردت أن تراني يومًا من الأيام بين يديك جثةً هامدة.

(١٨) من استيفن إلى ماجدولين

ما كنت أعلم قبل اليوم أن الفتاة التي تحب وتعاهد من تحب، وتقسم بين يدي حبيبها يمين الإخلاص والوفاء على أن تكون له كما يكون لها، وألا تجعل ليدٍ غير يد الموت سبيلًا إلى التفريق بينهما، تستكثر عليه قبلةً شريفةً يأخذها من جبينها كما يأخذها الأخ من جبين أخته، والمتعبد من يد كاهنه.

ما أحسب إلا أنك قد خدعت نفسك بنفسك يا ماجدولين حين ظننت أنك عاشقة، وما أنت من الحب في شيء؛ لأن الفتاة التي تحب لا ترى بأسًا في أن تمنح القبلة لحبيبها منحةً، ولا تنتظر أن يأخذها منها أخذًا.

الآن عرفت أن بكاءك بين يدي، واضطراب يدك في يدي، وخفوق قلبك عند رؤيتي، إنما كان أثرًا من آثار الخوف لا مظهرًا من مظاهر الحب، وأن عطفك عليَّ وتحببك إليَّ ولصوقك بي لم يكن لأنك كنت تحبينني، بل لأن فتاة مسكينة ضعيفة مثلك لا بد لها أن تشعر بالميل إلى كل رجلٍ قوي بجانبها.

تقولين لي إنك قضيت ليلك أمس معذبة، لا يهنأ لك مضجع، ولا يغتمض لك جفن، أما أنا فأقول لك: إني لم أقض في حياتي ليلة أهنأ من تلك الليلة؛ لأني بت أتخيل تلك القبلة التي تناولتها من جبينك كأنها ثغر منضد يبتسم إليَّ أرق ابتسام وأعذبه، فأشعر بروح الحب تدب في أعضائي دبيب الحميا في وجه شاربها؛ أما اليوم فإني أصبحت أتخيلها تمثالًا جامدًا من الحجر الصلد ماثلًا بين يدي لا يتحرك ولا ينطق.

عفوًا يا ماجدولين، فإني ما تناولت تلك القبلة من جبينك إلا وأنا أعتقد أني أقبل زوجتي؛ لأني لا أرى فرقًا بين عهد الإخلاص الذي يؤخذ بين يدي الحب وعقد الزواج الذي يعقد بين يدي الكاهن، وأشكر لك تلك الساعات القليلة التي سعدت فيها على يدك، وإن كانت سعادة موهومة، ويمكنني أن أقول لك إني ما نقضت — حتى الساعة — ذلك العهد الذي عاهدتك عليه، وإني لا أزال أحبك كما كنت؛ لأني ما كنت أحببتك لأجازيك على حب بمثله، ولا لأنك جميلة أو عاقلة أو ذكية، ولا لشيء مما يحب الرجال له النساء، بل أحببتك للحب نفسه، والسلام.

(١٩) من ماجدولين إلى استيفن

عفوًا يا «استيفن»، فما كنت أحسب أن كلمتي بالغة منك ما بلغت، أو أنها ذاهبة بك هذه المذاهب كلها، فاغفر لي ذنبي، فوالله ما احتفظت بعرضي إلا لك، ولا منعتك نفسي اليوم إلا لأبذلها لك غدًا، أنت اليوم حبيبي وغدًا تكون زوجي، وكل ما صنعته أني توسلت إلى حبيبي أن يزفني طاهرة نقية إلى زوجي، أما الخداع الذي تذكره في كتابك فأنا أعتقد أنك تعلم من أمري غير ما تقول، ولكنك غضبت فقلت غير ما علمت.

(٢٠) من مولر إلى استيفن

أكتب إليك كتابي هذا ويدي ترتعد خجلًا، ونفسي تسيل حزنًا؛ لأني ما كنت أقدر في نفسي أن ستمر بي ساعةٌ من ساعات حياتي أرى نفسي مضطرًّا أن أقول لصديقي الذي أجله وأعظمه وأنزله من نفسي خير منزلةٍ: إني لا أستطيع أن أستقبلك في منزلي بعد اليوم، بل لا أستطيع أن أحتمل بقاءك في المنزل الذي أسكنه وتسكنه ابنتي؛ لأن لي شرفًا أبقي عليه أكثر مما أبقي على صداقة الأصدقاء، على أنني أرجو ألا تزال تَعُدُّنِي صديقك المخلص إليك، كما أني لا أزال أَعُدُّكَ كذلك، وإن فرقت بيننا الأيام.

(٢١) حديث

جلست ماجدولين في غرفتها تخيط ثوبًا لها، ربما كانت تعده لليلة عرسها، فندرت إبرتها من يدها، فرفعت رأسها فإذا أبوها ماثلٌ بباب الغرفة، فدهشت لمرآه، وراعها منظر سكونه وجموده، ثم مشى إليها بقدمٍ مطمئنة حتى وضع يده على عاتقها وقال: أتعلمين يا ماجدولين أني أرسلت «جنفياف» الساعة بكتاب إلى «استيفن» أمنعه فيه من دخول بيتي، بل أمنعه من البقاء في منزلي؟ قالت: لا أعلم من ذلك شيئًا، ولا أعرف لصنيعك هذا سببًا، قال: لا سبب له إلا أنه يحبك، قالت: إنه لا يحبني، ولكنه يحب أن يتزوج بي، قال: ذلك ما لا أريد أن يكون، قالت: ولماذا؟ قال: لأنه لا يصلح أن يكون زوجًا لك، قالت: أنا أعلم أنك اتخذته لنفسك صديقًا، وأنك تعرف له مكانه من الفضل والنبل، فكيف ترضى أن تتخذ لنفسك صديقًا من لا ترى أنه لا يصلح أن يكون لابنتك زوجًا؟ قال: إني أصادقه لأنه شخصٌ كريم، ولا أحب أن أصاهره؛ لأنه بائس فقير، فقد عثرت اليوم بكتاب سقط منه فقرأته فعرفت أنه لا يملك ما يقوت به نفسه، فأحرى ألا يملك ما يقوت به أهله، قالت: إنك حدثتني عنه أنه فتي ذكيٌّ متعلمٌ، ومن كان هذا شأنه لا يكون بينه وبين الغنى إلا بضع جولات يجولها في ميدان هذا العالم، فيعود من بعدها رجلًا غنيًّا، وزوجًا صالحًا، قال: إن في أخلاقه من الأنفة والترفع ما يحول بينه وبين النجاح، قالت: إن الحب يُقوِّم ما اعوج من الأخلاق، ويحيي ميت الأمل في نفس المحب، فلا تطفئ جمرة الحب التي تشتعل في قلبه، فإنك إن فعلت قتلته وقتلت أمله وأتلفت عليه حياته، قال: يا بنية، إني أعلم من أخلاق الناس وشئونهم ما لا تعلمين، وقد رأيت أني أكون مخاطرًا بك وبمستقبلك وبكل ما أرجو لك من سعادةٍ في العيش وهناءٍ إن أنا رضيت لك هذا الزواج الذي أعلم أن شره أكثر من خيره، بل أعلم أنه شر كله لا خير فيه، فانظري يا بنية في أمر نفسك بعين غير عين الحب، فإنها دائمًا حولاء، واذكري أن أباك الذي يحبك وينزلك من نفسه منزلةً لا يغلبك عليها غالبٌ لا يمكن أن يكون غاشًّا لك أو خادعًا، فركعت بين يديه ومدت يدها إليه ضارعةً، وأنشأت تسترحمه بالبكاء مرة والدعاء أخرى، فكانت كأنها تستنبط الماء من الصخر، أو تستنبت الربيع في المهمه القفر حتى وهت قوتها، فسقطت تحت قدميه، فتركها مكانها ومضى لسبيله وهو يقول: إنك اليوم تجهلين وغدًا تعلمين.

(٢٢) الخبر

دخلت «جنفياف» على «استيفن» في غرفته وقد جلس إلى مصباح ضعيف يقرأ في كتاب، فأعطته كتاب سيدها ورجعت أدراجها، وكان أول كتاب جاءه من «مولر»، فمر بخاطره — وهو يفض غلافه — كل شأنٍ إلا الشأن الذي كتب فيه، فما أمر نظره عليه حتى فهم كل شيءٍ.

فلو أن راميًا سدد إلى قلبه سهمًا حديدًا فنفذ ما بلغ منه ما بلغ هذا الكتاب، ولو أن نازلة من نوازل القدر هوت عليه فاختطفت نفسه من بين جنبيه لكان له مصابها رأيٌ غير رأيه في هذا المصاب، فقد سكن على أثر ذلك سكونًا لا تطرف فيه عينٌ، ولا ينبض فيه عرقٌ، ولا يخفق قلب، ولا يتحرك خاطر، حتى ليكاد يعتقد الناظر إليه في تلك الساعة أن هناك منزلةً وسطى بين الحياة والموت تنبعث فيها الحواس في سبلها، ولكنها لا تعود إلى الدماغ بشيءٍ مما تحس به.

واستمر على ذلك ساعة، ثم انتفض انتفاض الطائر المذبوح، ودار بعينيه يمنة ويسرة كأنما يفتش عن شيءٍ أضاعه، فوقع نظره على الكتاب وهو ملقى بجانبه، فقرأه مرة أخرى، ثم ضرب جبهته بيده وأنشأ يقول بصوت خافت: لا أمل لي بعد اليوم، ها أنا ذا، وها هو ذا الكتاب بين يدي، ما أنا بحالم، ولا الكتاب بكاذبٍ، نعم إن «مولر» طردني من بيته، وقتل نفسي قتلًا، وفجعني في جميع آمالي، وحال بيني وبين ماجدولين؛ أي إنه فرق بين روحي وجسدي، إنه فعل ذلك وهو لا يدري ماذا يفعل، إنه اجترم هذه الجرائم كلها ساكنًا هادئًا كأنما هو يعبث بفأسه في أرضه، أو يحول جدوله من طريقٍ إلى طريقٍ، لقد قسا عليَّ قسوةً لم يقسها أحد من قبله على أحد، إنه علم أني فقير لا أملك شيئًا، ورأى أن الفقر جريمةٌ لا عقاب لها إلا القتل، فقتلني.

ثم كأنما جن جنونه فثار من مكانه ثورة الأسد الهائج، وتمثل له كأن «مولر» ماثلٌ بين يديه، فمشى إليه مهددًا، وصار يهذي ويقول: مهلًا، رويدًا أيها الشيخ الأبله، أظننت أني بين يديك شاةٌ خرقاء أو دجاجةٌ بلهاء تقدم نفسها لسكين الذابح حينما يريد؟ لا لا! أنا إنسان عاقلٌ، ورجلٌ شجاع، لا بد أن يكون لي أمل أحيا به، وسعادةٌ أنعم بها، ولا بد أن أقاتل عن أملي وسعادتي حتى أبلغهما أو أقتل دونهما.

كذبت أيها الرجل، إنك أضعف من أن تمد يدك إلى هذا الرباط المقدس فتقطعه، إنك أعجز من أن تنتزع شعرةً من شعر رأسك الأبيض، فأحرى أن تعجز عن أن تنتزع روحًا من جسدها.

إن الذي بيني وبين ماجدولين شيء لا تصل إليه يدك، ولا يمتد إليه سلطانك، ولا يتعلق به أمرك ونهيك، وعطاؤك ومنعك.

إنك تستطيع أن تطردني من بيتك؛ لأنك تملكه وأن تحبس ابنتك في غرفتها لأنك أبوها، ولكنك لا تستطيع أن تمنع قلبينا أن يتحابا، ونفسينا أن تتصلا.

إن الذي خلق الإنسان وأسدى إليه نعمة الحياة والرزق لم يسترقه بهذه النعم، ولم يملك عليه قلبه ثمنًا لها، بل تركه حرًّا يحب من يشاء، ويبغض من يشاء، وأنت تريد أيها الشيخ الضعيف المسكين أن يكون لك على قلوب الناس سلطانٌ فوق سلطان الله، وإرادةٌ فوق إرادته.

أي شأن لك عندنا؟ وأي صلة لك بنا؟ لقد ذهب عصرك وذهبت بذهابه، وأصبحنا لا نعد وجودك وجودًا، ولا حياتك حياةً، فإن نظرنا إليك فكما ننظر في ساعةٍ من ساعات فراغنا إلى صفحة من صفحات التاريخ الغابر.

إن عقلك الذي بلي ورَثَّ وانتشر فوقه طبقة سوداء من القدم، لا يصلح أن يكون مرآة صادقة نرى فيها وجوهنا، ونتاحكم إليها في سعادتنا وشقائنا.

إنك شَرِهٌ طماع، رأيت أن ماء حياتك قد نضب، وأن أغربة الفناء السود تحلق فوق رأسك المشتعل شيبًا، فعز عليك أن تموت، فجئت إلينا تحاول أن تقاسمنا حياتنا الجديدة الغضة، فكان مثلك كمثل ذلك الملك الظالم الذي كان يمتص دماء الأطفال ظنًّا منه أن ما ينقص من حياتهم يزيد في حياته.

إنني لم أكن أريد بك أيها الشيخ المأفون ولا بابنتك شرًّا ولا ضيرًا، بل كنت أعد لها عيشًا هنيئًا رغدًا في مستقبل حياتها؛ فأنا خيرٌ لها منك؛ لأنك ما أردت بها فيما صنعت اليوم إلا عذابًا دائمًا وشقاءً طويلًا.

وأعجب من ذلك كله أنك تذكر في كتابك الصداقة والإخاء والإخلاص، كأنك تظن أن البله قد بلغ مني مبلغه منك، وأني أجهل أنك شيخٌ مُدَاجٍ مصانعٌ، تكتب الحكم بالإعدام وكأنك تكتب بطاقة دعوةٍ إلى وليمة، وتقدم قطعة الحلوى وقد دسست في باطنها ناقع السم، وترفع قبعتك احترامًا لمن يقطر خنجرك من قلبه دمًا.

وهنا بلغ منه التعب مبلغه، فسقط مكبًّا على وجهه، يبكي بكاء الطفل الصغير، وينشج نشيجًا محزنًا، ثم جثا على ركبتيه ورفع وجهه إلى السماء وأنشأ يقول: رحمتك اللهم وإحسانك، فأنت تعلم أني رجلٌ ضعيفٌ لا ناصر لي ولا معين، فكن أنت ناصري ومعيني، اللهم إني أعترف بأني أذنبت إليك في اغتراري بنفسي، واعتدادي بحولي وقوتي، وأني أغفلت قضاءك وقدرك، وما تجريه على عبادك من أحكام السعادة والشقاء، والسلب والعطاء، فقدرت لنفسي من سعادة المستقبل وهنائه ما لا أملكه ولا سبيل لي إليه إلا بمعونتك وقوتك، فاغفر لي ذنبي، وخذ بيدي في نكبتي، فقد أصبحت أعجز الناس عن الصبر والاحتمال.

ثم سكن بعد ذلك سكونًا عميقًا، ولم يزل باسطًا يديه رافعًا رأسه إلى السماء، كأنما كان ينتظر أن يسمع هاتفًا يهتف به من الملأ الأعلى، فلم يلبث أن رأى من خلال دموعه الحائرة في عينيه شبحًا من نورٍ يتلألأ أمامه، وكان المصباح قد انطفأ وأضاءت الغرفة بأشعة القمر، فمسح دموعه بيمينه ونظر، فإذا هي ماجدولين.

(٢٣) الوداع

لبثت ماجدولين في غرفتها بعد أن فارقها أبوها ساعة تقلب النظر في أمرها، فلا ترى في ذلك الظلام الحالك نجمًا يتلألأ ولا ذُبالةً تضيء، فبكت ما شاء الله أن تفعل حتى مضى الليل إلا أقله، فحدثتها نفسها بأمر ما كانت تحدثها به لولا لوعة الحب، وفجعة البين، وقامت تختلس خطواتها اختلاسًا وما على وجه الأرض قلب أضعف من قلبها، ولا لوعة أشد من لوعتها، حتى وصلت إلى السلم، فصعدت تسترق درجاته حتى انتهت إلى أعلاه، فوقفت قليلًا تستغفر الله من ذنبها، وتسأله إحسانه ورحمته، ثم مشت إلى غرفة «استيفن» ودفعت الباب قليلًا، فرأته جاثيًا على ركبتيه يهتف بدعائه، فأثر منظره في نفسها، وأخذت تبكي لبكائه، وتدعو بدعائه، حتى التفت فرآها، فخفق قلبه خفقًا متداركًا، وتعلقت أنفاسه، وجمد نظره، وتزايلت أوصاله، حتى ما يكاد يتحرك من مكانه، فمد إليها يده كالمستغيث المتلهف، فدنت منه وقالت: إني جئتك لأودعك يا «استيفن» ولا أستطيع أن أبقى عندك طويلًا، فهل تستطيع أن تعدني وعدًا صادقًا ألا تترك نفسك في يد الهموم تعبث بها كيف تشاء، وألا تجعل لليأس سبيلًا إلى قلبك حتى يجمع الله بيني وبينك؟ قال: ذلك أمره إليك، فأنت التي تستطيعين أن تجعليني شجاعًا صبورًا محتملًا، وأنت التي تملكين أن أحيا بالأمل، أو أموت باليأس، قالت: إني أقول لك اليوم يا «استيفن» كلمةً كان يمنعني الحياء أن أقولها لك قبل اليوم، وهي أني أحببتك حبًّا ملأ فراغ قلبي، فما يسع غيره، ونزل منه منزلة الروح من الجسد، فما ينتقل عنه، وقد عاهدتك على الزواج بين يدي الله ويدي ضميري، وما أنا بخائنة ضميري، ولا بكاذبة ربي، فسافر يا «استيفن»، وفتش عن سعادتنا في كل مكان، وبكل سبيل، حتى تجدها، وعد إليَّ بعد ذلك، فإني سأكون لك ما حييت، سافر حيث شئت، وتقلب في البلاد كما أردت، وعد إليَّ بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام أو أكثر من ذلك، فإنك ستجدني كما تركتني نقيةً طاهرة، ووفيةً مخلصة، واعلم أن الله ما ألهمني الصبر عنك وألهمك مثل ذلك في مثل هذا الموقف الذي تطيش فيه العقول وتطير رواجع الأحلام، إلا وقد أراد بنا خيرًا في جميع شئوننا، وقدر لنا السعادة والهناء في مستقبل أيامنا، سافر يا «استيفن» غدًا، واكتب إليَّ بكل ما تلاقي من خيرٍ أو شرٍّ لأقاسمك سراءك وضراءك، وسأكتب إليك كما تكتب إليَّ.

فسكت ثائره قليلًا، وقال: إن سفري سيكون طويلًا يا ماجدولين، فهل لك أن تزوديني بقليلٍ من الزاد أستعين به على بُعد الشُّقَّة وعناء المسير؟ فمدت يدها إلى شعرها وقصت منه خصلة، فأعطاها من شعره مثلها، ثم تراجعت قليلًا قليلًا وهي تنظر إليه بعينٍ ملؤها الحب والجزع، والصبابة والدموع، فقام إليها ليدركها فاختفت.

(٢٤) السفر

استيقظ «استيفن» صباح يوم الرحيل وأطل من نافذة غرفته المشرفة على الحديقة فرأى الأفق يتفتح عن نفسه شيئًا فشيئًا، ورأى الشمس قد هبت من مرقدها، ولا تزال في جفنها سِنَةُ الغمض، ثم رآها وقد لبست ثوبها الأول وخطت بعض الخطوات إلى مطلعها، فمشت أمامها حاشية من الأضواء تتقدمها كما تتقدم الملك حاشيته في مطلعه من باب قصره، ثم نظر إلى السماء من ناحية المشرق وقد انتشرت في أنحائها تفاريق السحب، ومشت في جلدتها حمرة النور، فخيل إليه أنه يرى هنالك برجًا عظيمًا تضطرم فيه النار اضطرامًا، وأن دخان تلك النار يتراكم فوقها مرة، ويفرج عنها أخرى، ثم رأى أشعة الشمس البيضاء تخالط حبات الطل في أوراق الزهر، والطل لم يجر ذائبه، فكان كأنه يرى أحجارًا من الماس تضيء فتنعكس عنها ألوان مختلفة بديعة تملك القلوب والأبصار، ولم يكن يسمع في تلك الساعة من الأصوات غير طنين النحل وهو مكب على أزهاره يرشف كئوسها، ويتطاير من حولها كما تتطاير الأحلام اللذيذة حول أفواه الأطفال الصغار.

فألقى على تلك المناظر كلها نظرةً عامة لم يسترجعها إلا مبللة بالدمع حينما ذكر أنه سيفارق عما قليل هذه الدار، ويفارق بفراقها سعادته وهناءه، ويفارق ظلال الزيزفون التي كان يجلس إليها مع ماجدولين، والجدول الذي كانا يمشيان بجانبه، والزورق الذي كانا يتنزهان فيه، والمقعد الذي كان يقتعده من الحديقة لينظر مجيئها، أو ليرى خيالها من نافذة غرفتها، والغرفة التي كان يشرف من نافذتها ليسمع نغمات صوتها العذب، وطاقات الزهر التي كانت تهديها إليه فيستروح منها نسيمها، فلم يزل يبكي بكاء الشيخ على عهود صباه حتى كادت تتلف نفسه، ولولا أنه ذكر حديثها معه ليلة أمس فعزى نفسه عن فراقها بإخلاصها ووفائها وما عقدت بينها وبينه من العهود لقضى في مكانه أسفًا، ثم قام إلى حقيبته فوضع فيها ملابسه ومرافقه، ونزل إلى الحديقة فودع أزهارها وأشجارها، ومجالسها ومقاعدها، ولم يترك جذعًا لم يقبله، ولا غصنًا لم يلثمه، ولا مقعدًا لم يمرغ خده فوقه ويبلله بدموعه، ونقش اسمه واسم ماجدولين على كثير من المقاعد والجذوع، واقتطف من كل شجرة زهرة، وجمع تلك الأزهار في طاقة واحدة، وتركها على بعض المقاعد لماجدولين، ثم ذهب إلى البستاني واتفق معه على أن يحمله على فرسه إلى «كوبلانْس»، ثم فارق «وِلْفَاخْ» بين وجد يقتله، وأملٍ يحييه.

(٢٥) من ماجدولين إلى استيفن

سافرت يا «استيفن» وأصبحت بعيدًا عني، وما أحسب أني أراك في عهدٍ قريب، فما أعظم بؤسي وشقائي! وما أشد ظلمة الوحشة المحيطة بي!

لقد خدعت نفسي يوم أشرت عليك بالسفر، فقد ظننت أن بين جنبي ذخيرةً من الصبر والاحتمال أقوى بها على تجرع كأس فراقك المريرة، فلما فقدت وجهك علمت أني فتاةٌ ضعيفة بائسة، لا تقوى على احتمال أكثر مما تطيق من الآلام والأحزان، وأنني فيما أدليت به إليك من تلك النصيحة إنما كنت أحدث عن خواطر عقلي لا عن شعور نفسي.

لقد كنت أرجو أن يكون آخر عهدي بك يوم رحيلك وقفة أقفها في نافذة غرفتي أحييك فيها تحية الوداع، وألقي عليك فيها آخر نظرةٍ من نظرات الحب، لولا أنني خفت عليك الجزع أن تراني باكية، وعلى نفسي التلف أن أراك جازعًا، فافتديتك نفسي بهذه اللوعة التي تتأجج اليوم في صدري، فما أصعب الوداع! وما أصعب الفراق بلا وداع!

نزلت بعد سفرك إلى الحديقة فلم أجدك، ووجدت على بعض مقاعدها طاقة الزهر التي تركتها لي قبل سفرك، فلثمتها ولثمت شخصك فيها، ثم مشيت إلى ذلك المقعد الذي كنا نجلس عليه معًا تحت شجرة الزيزفون فجلست فيه وحدي، ونشرت بين يدي رسائلك الماضية، وأنشأت أقرؤها وأصغي إلى حديثك فيها، فخيل إليَّ أنك جالس بجانبي تحدثني فمًا لفم، وأن ما يقع عليه نظري في صفحات رسائلك إنما هي نبراتٌ تسمعها أذني، لا خطوط تبصرها عيني، فسكنت لذلك الخيال ساعةً سكون الطفل الباكي لنشيد المهد، حتى سمعتك تدعوني في بعض أحاديثك: «يا خطيبتي»، وهي تلك الكلمة الحلوة العذبة التي تهبط حلاوتها إلى أعماق قلبي كلما سمعتها، فانتفضت وألقيت نظري على مكانك الذي تخيلته بجانبي فوجدته خاليًا، فعلمت أن تلك الساعات الجميلة التي مرت بنا تحت هذه السماء الصافية، وفوق تلك المقاعد الجميلة، وبين مشتبك هذه الغصون والأوراق، قد ذهبت ولم يبقَ لي منها غير ذكراها، فبكيت ساعةً طويلةً لا علم لي بمداها، ثم استفقت فصعدت إلى غرفتي، وجلست إلى منضدتي أكتب إليك هذا الكتاب.

فمتى تعود يا «استيفن» ومتى تعود بعودتك تلك الأيام الحسان؟!

(٢٦) من ماجدولين إلى استيفن

لقد كابدت بالأمس ليلة ليلاء، فلم ينحدر كوكب الشمس إلى مغربه حتى سمعت صوت العاصفة يهدر في كل مكانٍ، ورأيت آفاق السماء قد ارْبَدَّت واقشعرت ثم ارفضت عن غيوثها المنهلة، فذكرت أنك لا تزال على الطريق، وأنك تقاسي في تلك الساعة من عثرات الطريق وعقباته وقَفْقَفة البرد ورعشته عناءً عظيمًا، فالتحفت ردائي وأويت إلى بعض زوايا غرفتي، وظللت أبكي على فراقك مرةً وعلى شقائك أخرى، وأذود النوم عن عيني ذيادًا؛ لأنني لا أستطيع أن أكون راضيةً عن نفسي ولا هانئة في مضجعي إن نمت في ساعةٍ لا تجد فيها أنت إلى الراحة سبيلًا، حتى مضى الليل إلا أقله، فشعرت أن النعاس الذي كان يغالب جفني قد غلبني عليهما، فنمت في مكاني نومًا مشردًا مذعورًا، حتى استيقظت مع الصباح، فإذا الريح ساكنة، والشمس ساطعة، والجو باسمٌ طلق، فحمدت الله على ذلك.

إني أعد الساعات واللحظات يا «استيفن» وأنتظر بشوقٍ عظيم وصول أول كتابٍ منك يبشرني ببلوغك مستقرك سالمًا، فمتى يأتي كتابك إليَّ؟

(٢٧) من ماجدولين إلى استيفن

لم تكف الأربعون ساعةً التي مرت بي لتخفيف شيء من همومي وأحزاني، فلقد قضيتها حائرة الذهن، مشردة اللب، أقلب عيني في كل مكانٍ فلا أجد في بارقةٍ من بوارق الحقيقة ولا سانحةٍ من سوانح الخيال عزاءً ولا سلوى، فصعدت إلى غرفتك المهجورة عَلَّنِي أجد في مقامي بها ساعة علاج ما أكابده من همومٍ وأحزان، فلما بلغتها ووضعت يدي على مفتاحها شعرت برعشةٍ شديدةٍ ملأت ما بين قمة رأسي إلى أخمص قدمي، فلقد خُيِّلَ إليَّ أنني إن فتحت هذا الباب وجدتك وراءه واقفًا تبتسم إليَّ، وتفتح ذراعيك لاستقبالي، فلما فعلت لم أجد غير الوحشة السائدة، والسكون المخيم، وغير سريرك المشعث، وأوراقك المبعثرة في كل مكان، والغبار المنتشر في أرضها وسمائها، فمهدت ما تشعث، وجمعت ما تبعثر، ومسحت الغبار عن المقاعد والنوافذ، وأعدت الغرفة إلى عهدها الأول أيام كنت تسكنها وتزينها، كأنما أبيت إلا أن تكون هي غرفتك المعدة لك، المسماة باسمك، حاضرًا كنت أم غائبًا.

ووجدت على بعض المقاعد بضعة دراهم في كيسٍ صغير، فعلمت أنها أجرة الغرفة التي يتقاضاها أبي قد تركتها له ليأخذها من حيث لا تراه، فأخذتها لأحملها إليه ثم أستوهبه إياها لأبتاع بها حليةً أو ذخيرةً أتقلدها كأنها هديةٌ مرسلةٌ منك إليَّ.

سأحمل نفسي يا «استيفن» على الصبر عنك، حتى يطوي القدر مسافة البعد بيني وبينك، وستكون تعلتي التي أتعلل بها منذ الساعة كلما هاج بي هائج الشوق إليك أنك ما بعدت عني إلا لتقترب مني، ولا فارقتني إلا لأنك آثرت اجتماعًا آمنًا طويلًا على اجتماع مشردٍ غير مأمون، فامض في سبيلك أيها الصديق المحبوب، وذلل بهمتك جميع العقبات التي تعترض سبيل سعادتنا وهنائنا، حتى نلتقي بعد ذلك لقاءً تنسينا حلاوته مرارة ذلك الماضي المحزن الوبيل.

(٢٨) من استيفن إلى ماجدولين

بالأمس كنا، وكان يجمعنا بيتٌ واحد، لا يكدر صفاءنا فيه مكدرٌ، واليوم نحن وبيني وبينك خمسون فرسخًا، لا تمس يدي يدك، ولا تعبث أناملي بشعرك، ولا أستنشق عبير أنفاسك، ولا يرن صوتك العذب في جوانب قلبي، ولا تضيء ابتساماتك الجميلة ظلمات نفسي، ولا تلتقي أنظارنا في مكان واحد، ولا تمتزج أنفاسنا في جوٍّ واحد، فلا السماء صافيةٌ كعهدي بها، ولا الجو باسمٌ طلقٌ كما أعرفه، ولا الماء صافٍ عذبٌ، ولا الهواء رقراقٌ عليه، ولا الروض متفتحٌ عن أزهاره، ولا الزهر متنفسٌ عن عبيره، كأنما كنتِ سر الجمال الكامن في الأشياء، فلما خلت منك أقفرت واقشعرت، ونَبَتْ عنها العيون والأنظار.

ولقد لقيت في «كوبلانس» أبي وأهلي وكثيرًا من أبناء وطني فلم يُغنِ لقاؤهم عن لقائك، ولم أجد في وجودهم ذلك الأنس الذي كنت أجده فيها قبل أن أعرفك، فأصبحت أشعر في مقامي بينهم بما يشعر به الغريب المُنْبَتُّ الذي يعيش في وطنٍ غير وطنه ودارٍ وأهلٍ غير داره وأهله، فمتى تنقضي أيام غربتي؟ ومتى أعود إلى أهلي ووطني؟

قد أحزنني كثيرًا ما تكابدينه من الآلام والأحزان من أجلي، ولو كشف لك من أمر نفسك ما كُشف لي منها لعرفت أنك أسعد مني حظًّا، وأروح بالًا؛ لأنك تعيشين في المواطن التي شهدت سعادتنا وهناءنا، والتي نبتت في تربتها آمالنا وأحلامنا، فكل ما حولك يذكرك بحبك، وأيام سعادتك، أما أنا فكل ما حولي غريب عني، أنكره ولا أكاد أعرفه، كأنما هو مؤتمرٌ بي أن ينتزع مني ذكرى تلك الأيام الجميلة التي قضيتها بجانبك، وهي كل ما أصبحت أملكه من بعدك.

سأكون شجاعًا كما أمرت يا ماجدولين، وسأبذل جهدي في تذليل كل عقبة تقف في طريق سعادتي بك، فاكتبي إليَّ كثيرًا، وحدثيني عن كل ما يحيط بك من الأشياء، وما يعرض لك من الشئون صغيرها وكبيرها؛ لأجد على البعد عنك لذة القرب منك، واجعلي حبك عونًا لي على مقاصدي وآمالي، فحبك هو الذي يحييني، وهو الذي من أجله أعيش وأبقى.

(٢٩) حفلة رقص

أقام والد «استيفن» في بيته حفلة راقصة، وأمر ولده أن يشهدها، ولم يكن قد شهد حفلة رقص قبل اليوم، فأذعن على كرهٍ منه، فلما اجتمع الجميع وماجت قاعة الرقص بالراقصين والراقصات وقف «استيفن» موقف الحيرة والخجل أمام هذه المناظر المدهشة الغريبة، لا يدري ماذا يفعل، وأي سبيل يأخذ؟ وخيل إليه أن هناك قانونًا موضوعًا للحركات والسكنات والجيئات والروحات، وأن من أغفل حرفًا واحدًا من حروف ذلك القانون أخذته العيون، ودارت به الأنظار، ورنت حوله ضحكات الهزء والسخرية، وكان لا بد له من أن يخرج من موقفه هذا إلى أية حالة من الحالات، كيفما كان شأنها، فلمح على البعد شمعةً يتضاءل نورها بين الشموع المحيطة بها، فخطر له أن يتلهى بإصلاح ذبالتها، فمشى إليها يتخبل في ثيابه تخبلًا؛ لأنها لم تكن ثيابه، بل ثياب بعض أقربائه أعاره إياها هذه الساعات من الليل وصاحبها أطول منه قامة، وأضخم جسمًا، فلما داناها رأى أن ذبالتها قد التوت على نفسها فطالت واسودت وغرقت في الدهن المحيط بها، فبدا له أن يقرض أعلاها ليصفو أسفلها ثم يمسح الدهن السائر حولها، فما هو إلا أن مد يده بالمقراض إليها حتى انطفأت وتطاير دهنها إلى ثوبه فانتشر في أنحائه، فجمد في مكانه جمود المقراض في يده، واستحال إلى تمثالٍ مضحكٍ ماثلٍ بين أعمدة الشموع، لا يستطيع أن ينقل قدميه حياءً وخجلًا، فوقع ما كان يخافه، وعقدت حوله الأنظار نطاقًا، ومشت البسمات والغمزات في الأفواه والعيون، ومر به في موقفه هذا أحد الظرفاء المتأنقين — وكان لا يعرفه — فأسر في أذنه: «أما تعلم يا سيدي أن إصلاح الشموع في الحفلات عملٌ غير لائق؟» وسمع فتاة تقول لصاحبتها وقد وقفتا به: «ما أجمل زركشة هذا الثوب»، فأجابتها الأخرى: «إنه آخر طرز في الكرنفال.»

فلم يجد بدًّا من النجاة بنفسه، ففر من مكانه هاربًا لا يلوي على شيءٍ حتى دخل بعض القاعات الخالية وجلس على مقعد فيها يمسح بشفرة المقراض ما تناثر على ثوبه من الشمع، فلحق به أبوه بعد قليل وقال له: ما بقاؤك هنا وحدك يا «استيفن»؟ إن أسرة البارون قد حضرت ولا بد لك من مقابلتها والبقاء معها حتى تنصرف، فامتعض «استيفن» في نفسه وتثاقل في مكانه؛ لأنه عرف ما يُراد منه، فألح عليه أبوه فأذعن، ومشى إلى مكان هؤلاء القوم فحياهم وحيا تلك الفتاة التي يريدون خطبتها له تحيةً جامدة لا تشبه تحية الخطباء ولا المحبين، بل لا تنقص عن تحية المتنافرين المتناكرين إلا قليلًا، ثم لم يلبث أن وجد السبيل إلى الخلاص منها فانفتل من مكانه وخرج إلى فضاء الحديقة، وجلس على بعض مقاعدها ينقم على المحافل والمراقص وما ضمت بين أطرافها من رذائل وشرورٍ ويقول: ويل لهؤلاء القوم المرائين الكاذبين، يفسقون ويزعمون أنهم يرقصون، ويقترفون صنوف السيئات والآثام ويقولون إنهم يغنون أو يطربون، ووالله ما اجتمعوا إلا ليخطف العاشق معشوقته من يد زوجها أو أخيها أو أبيها حين أعيته الوسائل إليها، أو لتفتش الزوجة التي ملت زوجها وسئمته عن عشيرٍ جديدٍ غير مملول، أو ليلقي الأب بابنته العانس الشوهاء بين ذراعي فتى من الفتيان الأغرار يرجو أن يعميه الشغف الحاضر بها عن النظر إلى عيوبها فيقع في حبالتها، ويصبح على الرغم منه زوجًا لها.

إن كانوا يريدون الغناء فلِمَ لا يغنون إلا راقصين؟ أو الرقص فلِمَ لا يرقص الرجل إلا مع امرأة ولا ترقص المرأة إلا مع رجل؟ ثم لا يرقصون إلا متلاصقين متماسكين، كأنهم بين جدران مخادعهم، أو وراء أستار نوافذهم وأبوابهم.

من لهذا الزوج الغبي الذي يلقي بزوجته عارية الصدر والظهر والذراعين والكتفين بين ذراعي فتى جميل ساحر يلاصقها ويخاصرها ويقلبها بين يدي شهواته ما شاء، أن تعود إليه ساعة تعود بالعقل الذي ذهبت به، وبالقلب الذي كانت تحمله بين أضالعها؟ ومن لهذا الأب الأبله المأفون الذي يتبرم بابنته ويستثقل مكانها منه فيقذف بها بين مخالب هذه الوحوش المفترسة، ألَّا تعود إليه بعد قليل حاملة مع همها الأول همين آخرين: عارًا على رأسها، وجنينًا في أحشائها؟

إنهم يُقَوِّدُون على أنفسهم من حيث لا يشعرون، ويمزقون أعراضهم بأيديهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

ولم يزل يهتف في نفسه بأمثال هذه التصورات الغريبة حتى انصرف الناس، فلم يحضر انصرافهم كما لم يحضر اجتماعهم، وكان أبوه قد أشار إلى جماعة من أهل بيته وخاصة أصدقائه أن يتخلفوا، ففعلوا، فلما خلا بهم المكان دعا «استيفن» أمامهم وقال له على مشهدٍ منهم: قد كنت دعوتك إلى مصاهرة هذه الأسرة منذ عامٍ ودللتك على مكان الخير لك في هذه الصفقة الرابحة، فأبيت واستعصيت وفررت مني راكبًا رأسك إلى حيث لا أعلم لك مذهبًا، فلما عدت في هذه المرة ظننت أنك قد أذعنت وأصحبت وفهمت معنى الحياة كما يفهمها الناس جميعًا فجئت تطلبها من الطريق التي يطلبونها منه، فأقمت هذه الحفلة الراقصة، وأنفقت في سبيلها ما لا طاقة لي باحتماله، لا أريد بها إلا أن تكون موضع الصلة بينك وبين تلك الفتاة التي اخترتها لك، والخطوة الأولى إلى خطبتها، فأبيت إلا تمردًا وعنادًا، كأنما ظننت أنني باقٍ لك بقاء الدهر، أكفلك وأقوتك، أو خيل إليك أن هذا العلم الذي تدل به وتعتز بمكانك منه منجمٌ من مناجم الذهب يخرج لك ما يقوتك اليوم ويقوت من وراءك من بنيك وأهل بيتك غدًا، فإن كان هذا ما ذهبت إليه فاعلم أن ثروتي لا تتسع لأكثر من أيام حياتي، ولا تتسع في حياتي لأكثر من الإنفاق عليك طفلًا وغلامًا وفتًى، ثم أنت وشأنك بعد ذلك، وأن هذه الفنون الأدبية التي هي كل ما تملك يدك في هذه الحياة ما صلحت أن تكون في زمنٍ من الأزمان وسيلةً من وسائل الرزق، ولا سببًا من أسباب العيش، ولن تكون كذلك أبد الدهر؛ لأن السعادة حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها من طريق الخيال، فإن أردت لنفسك الخير فدونك الرأي الذي رأيته لك — وأنت أعلم به، أو لا؛ فدونك الأرض الفضاء فامش في مناكبها ما شئت، واطلب لنفسك الرزق من الوجه الذي تعرفه، فقد أصبح وجودك في منزلي على حالتك هذه من البطالة والفراغ عارًا عليَّ وعلى أهلك بل عارًا على نفسك إن كنت من الشاعرين!

ثم التفت إلى القوم وقال لهم: ها أنا ذا قد أشهدتكم عليه، وبرئت إليه وإليكم وإلى الله من ذنبه، فلا معتبة عليَّ بعد اليوم.

فقال أحد أقربائه: «إني لم أر في حياتي جنونًا مثل هذا الجنون.»

وقال آخر: «لعله سقط في هُوَّةٍ من هوى الغرام، فلا مناص له من الارتباط في قعرها حتى الموت.»

وقالت زوج أبيه: «لعله أحب عروس الشعر فغَنِيَ بها عن كل عروسٍ سواها.»

وقال عمه وهو يزمجر غضبًا: «قبيح بالفتى أن يكون في سن كهذه السن حاملًا فوق كاهله قوة كهذه القوة، ثم يرضى لنفسه أن يكون عالةً على قومه وذويه.»

فطار طائر الحلم من رأس «استيفن» واختفى من وجهه ذلك الفتى الحيي الخجول، الذي كان يذوب منذ ساعة خجلًا أمام النظرات واللفتات، وحل محله رجلٌ هائلٌ جبار لا يخشى أحدًا ولا يبالي شيئًا، فرفع رأسه ونظر إلى الجميع نظرة شزراء ذهلت لها أنظارهم، وخفقت لها قلوبهم، ثم التفت إلى أبيه وقال له: إني لا أعتب على واحدٍ من هؤلاء؛ لأنهم سمعوك تغني فضربوا على نغمتك، أما أنت فإني أقول لك: نعم إنك قد أحسنت إليَّ فيما مضى كما تقول، ولكن لا يجمل بك أن تَمُنَّ عليَّ بإحسانك هذا، ولا يجمل بي أن أشكره لك، أو أثني عليك به؛ لأنك أبٌ، وللأبوة ثمنٌ لا بد لك من أدائه، واحتمال المئونة فيه، على أنك لم تمنحني في يومٍ من أيامك الماضية عطفك ولا رحمتك، ولو فعلت لكان ذلك خيرًا لي من كل ما أسديت إليَّ من صنوف البر والمعروف، بل كان شأنك معي في كل آناء حياتك شأن رجلٍ عابرِ سبيلٍ وجد في طريقه طفلًا ملففًا في قماطةٍ مطرحًا تحت جدران بعض المنازل أو على باب إحدى الكنائس فالتقطه وكفله منةً، وإحسانًا لا رحمةً وحنانًا، فقد أبعدتني عنك أنا وأخي مذ ماتت أمي، وبنيت بزوجتك الحاضرة قبل أن أبلغ السابعة من عمري، ووضعتني في حجور قومٍ لا تجمعني بهم جامعة محبة، ولا تعطفهم عليَّ آصرة رحمٍ، ولم أجد فيهم من يذكرني بك، أو يحببك إليَّ، أو يحدثني عنك حديثًا واحدًا، وكنت كلما عدت إليك في أيام إجازتي من العام إلى العام استقبلتني بالوجه الذي تستقبل به أبعد الناس عنك، وأصغرهم شأنًا عندك، فلا تختصني بكلمةٍ طيبة، ولا تؤثرني بنظرة رحمة، ولا تسهر عليَّ في مرضٍ، ولا تتفقدني في شدةٍ، ولا تبسم للقائي، ولا تحزن لفراقي، وكثيرًا ما سهرت الليالي ذوات العدد أندب حظي عندك، وأضرع إلى الله — تعالى، أن يدني قلبك من قلبي، ويرزقني حبك وحنانك، فلم يستجب دعائي، فاستوحشت نفسي من نفسي، وغلبت على طبعي هذه النفرة التي لا تزال ملازمةٌ لي حتى اليوم، ولولاك لما كنت نفورًا ولا مستوحشًا، وقسا قلبي القسوة كلها فأصبحت لا أعطف على أحدٍ ولا أحب أحدًا؛ لأني لم أتعلم العطف ولا الحب من أحد، ولما لم أجد في الناس من أحبه وأصطفيه أحببت نفسي وحريتي واصطفيتهما وآثرتهما على كل شيء في العالم، فلا أحتمل أن أرى من ينازعني فيهما، أو يغالبني عليهما.

إن حياتي لي، وأنا صاحبها الذي أتولى شأنها، فلا سلطان لأحدٍ غيري عليها، ولا شأن لكائنٍ من كان فيها سواي، فلا أسير في طريقٍ غير الطريق التي ترسمها يدي، ولا أبني مستقبل حياتي على أساس غير الأساس الذي أضعه بنفسي، ولا أحب إلا الفتاة التي أحبها أنا، لا التي يحبها الناس لي، ولا أعاشر إلا المرأة التي أقيس سعادتي معها بمقياس عقلي، لا بمقياس عقول الآباء والأعمام.

فهاج القوم عليه هياجًا عظيمًا، وصرخ أبوه في وجهه، وثَاوَرَهُ عمه يريد الفتك به، وتناولته بقية الألسن بالشتم والسب، فلم يَأْبَهْ بذلك كله، ولم يتزلزل من موقفه، واستمر في حديثه يقول: بأي حق تريدون أن تسلبوني حريتي وتملكوها عليَّ؟ أبحق العطف الذي بذلتموه لي فيما مضى، وما عرفت بينكم محبًّا لي ولا راحمًا؟ أم بحق الكرامة والبُقْيَا، وقد كنتم جميعًا تضربونني صغيرًا، وها أنتم أولاء اليوم تشتمونني كبيرًا؟

إني قائل لكم جميعًا كلمةً لا أقول لكم غيرها بعد اليوم: إني لا أحب إلا من يحبني، ولا أكرم إلا من يكرمني، ولا أذعن إلا لرأيي وإرادتي، ولا أبيع حياتي وحريتي بثمنٍ من الأثمان مهما غلا.

إني لا أطلب منكم مالًا ولا معونة، ولا أشكو إليكم فقرًا ولا عدمًا، وسأرسم لنفسي بنفسي خطة حياتي، فإن قدر لي النجاح فيها فذاك، أو لا، فحسبي من السعادة أنني قضيت أيام حياتي حرًّا طليقًا، لا سبيل لأحد عليَّ، ولا شأن لكائنٍ من الكائنات عندي حتى يوافيني أجلي، وهذا فراق ما بيني وبينكم.

ثم انفتل من بين أيديهم وهرع إلى غرفته، فبدل ثيابه، وتناول حقيبة ملابسه وخرج هائمًا على وجهه يخترق أحشاء الظلام، حتى خرج إلى ضاحية المدينة، فتبعه فتى من أبناء أخواله كان قد ألم ببعض قصته، فقال له: أين تريد يا «استيفن»؟ قال: إلى حيث أرسلني أهلي، فبكى قريبه مرثاة له مما هو فيه وقال له: وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين! ثم دس له في جيبه بضع قطع من الذهب، لم ينتبه لها «استيفن» إلا بعد ذهابه، فشكرها له في نفسه ثم مضى لسبيله.

(٣٠) النفس العالية

لا تخضع النفس العالية للحوادث ولا تذل لها مهما كان شأنها، ولا تلين صعدتها أمام النكبات والأرزاء مهما عظم خطبها، وجل أمرها؛ بل يزيدها مر الحوادث وعض النوائب قوةً ومراسًا، وربما لذ لها هذا النضال الذي يقوم بينها وبين حوادث الدهر وأرزائه، كأنما يأبى لها كبرياؤها وترفعها أن يوافيها حظها من العيش سهلًا سائغًا لا مشقة فيه ولا عناء، فهي تحارب وتجالد في سبيله، وتغالب الأيام عليه مغالبة حتى تناله من يدها قوةً واغتصابًا، فمثلها بين النفوس كمثل الليث بين السباع، لا تمتد عينه إلى فريسة غيره، ولا يهنأ له طعامٌ غير الذي تجمعه أنيابه ومخالبه.

كذلك كانت نفس «استيفن» بعد نزول تلك النكبات به، فإنه لم يجزع ولم يتألم، ولم يعبث اليأس بقلبه، بل فارق «كوبلانس» كما دخلها: ساكن النفس، مطمئن الضمير، مملوء القلب ثقة وأملًا، فلم يزل سائرًا بقية ليلته يطوي الأرض على قدميه طيًّا حتى مشت في جلدة الظلام أشعة الفجر، فالتفت فإذا بقية من شبح «كوبلانس» لا تزال ماثلة، فألقى عليها نظرة واجمة مكتئبة ثم قال: الوداع أيها القوم الذين طردوني من بينهم، ولم يزودوني لقمةً واحدة أتبلغ بها في طريقي، ولا دابة أحمل عليها حقيبتي، ولا كلمة طيبة آنس بها في مطارح غربتي، لقد نبذت حبكم من قلبي نبذ الفم النواة، ونفضت يدي منكم نفض المودِّع يده من تراب الميت، فأصبح قلبي وضميري وحبي وحناني ونفسي وحياتي وكل ما تملك يدي ملكًا خالصًا لذلك الإنسان الذي أحبني وأحببته، ووفى لي من دون الناس جميعًا ووفيت له، لا ينازعه فيَّ منازعٌ، ولا ينزل معه في سويداء قلبي نازلٌ، وسيكون حبه مناري الذي أهتدي به في ظلمات حياتي حتى أبلغ ذروة السعادة التي أطلبها لنفسي، وهنالك ترون أيها القوم الجفاة القساة أن ذلك الفتى الخامل المسكين الذي وقف بينكم بالأمس مهينًا ذليلًا لا يكاد يرفع طرفه إليكم حياءً وخجلًا قد أصبح رجلًا نابهًا عظيمًا غنيًّا بماله وجاهه عن مالكم وجاهكم، وسعيدًا بين أهله وأولاده سعادةً لا يحفل من بعدها بنسبكم ولا برحمكم.

ثم مشى في طريقه يعلل نفسه بالآمال الحسان، ويرسم لمستقبل حياته ما شاء من الخطط والنظم، وكان كلما ألْغَبَهُ المسير دفع إلى أصحاب العجلات المارة في طريقه تحمل الأثقال درهمًا أو درهمين؛ ليحملوه على عجلاتهم أو يأذنوا له بالجلوس في مؤخرتها ساعة أو ساعتين، ثم يعود إلى شأنه الأول، حتى وصل عند مجتنح الأصيل إلى «جوتَنْج»، وهي البلدة التي تعلم في مدرستها، وقضى فيها أكثر أيام صباه.

(٣١) النفس الشعرية

ذهب «استيفن» ساعة هبط «جوتنج» إلى أستاذه القديم في الموسيقى «هومل» ليفضي إليه بشأنه، ويستعين به على قضاء حاجته، وكان له بمثابة الأب الرحيم، يحبه ويكرمه ويؤثره على تلاميذه جميعًا، فلما وقف بين يديه عَقَلَ الحياء لسانه، فلم يستطع أن يقول له شيئًا، وكذلك شأن أصحاب النفوس الشعرية، يملأ الشعر نفوسهم عزةً وخيلاء، فتملأ العزة وجوههم حياءً وخجلًا، فلا يذلون ولا يضرعون، ولا يجرءون على شيءٍ مما يجرؤ عليه الناس جميعًا كأن تحليقهم الدائم في سماء الخيال وطيرانهم في تلك الأجواء العالية غادين رائحين قد مثل لنفوسهم أنهم يعيشون في ملأ أرفع من الملأ الذي يعيش فيه الناس، فإن عرضت بهم حاجةٌ من الحَاجِّ أبوا وأنفوا أن يسألوها أحدًا من سكان الأرض، ذهابًا بأنفسهم من مواطن الضَّعَة والمهانة، وضنًّا بأديم وجوههم أن يُخْلِقَهُ السؤال، وكذلك يعيشون فقراء، ويموتون بؤساء.

لذلك لم يستطع «استيفن» أن يفضي بحاجته إلى أستاذه في المقابلة الأولى، فزعم أنه إنما جاءه ليتلقى عنه دروسًا في الموسيقى، وظل يختلف إليه أيامًا يسمع غناءه ويحفظه عنه، حتى جرى بينهما يومًا من الأيام ذكر الحياة والمستقبل، فسأله أستاذه عما رسم لنفسه من الخطط في مستقبل حياته، فقال: لا أدري حتى الساعة، فقال: لا أعرف لك سبيلًا غير هذا الفن الذي تحبه وتستهيم به، وأرى أن غرامك به سيجعلك غدًا من أصحاب الشأن العظيم فيه، فنفض له «استيفن» إذ ذاك جملة حاله، وصارحه برغبته التي يريدها، فوعده بمساعدته والأخذ بيده، فانصرف مغتبطًا مسرورًا.

(٣٢) من ماجدولين إلى استيفن

لم أستطع أن أكتب إليك منذ شهرين؛ لأني كنت مريضة، وسأقص عليك قصة مرضي: خرجت ذات ليلةٍ لألقي برسالةٍ كنت كتبتها لك في صندوق البريد في قرية «هال»، فلما أبعدت عن «ولفاخ» وغاب عني شبحها وأصبحت في منتصف الطريق بينها وبين «هال» هبت عليَّ ريحٌ عاصفة شديدة دوت بها جوانب الأفق، وقعقعت لها قبة السماء حتى حسبتها توشك أن تنقض، وأخذت تجاذبني ثوبي مجاذبةً شديدة، كأنما تأبى إلا أن تنتزعه مني أو تنتزعني معه، فحدثتني نفسي بالعودة من حيث أتيت، ثم ذكرتك وذكرت أنك تنتظر رسالتي، فاستمررت أدراجي، ومشيت في طريقي أتيامن من الريح مرة وأتياسر أخرى، وأندفع متقدمة وأكر راجعة، فمن رآني في تلك الساعة خُيل إليه أنه يرى فتاة بائسة مُرَزَّأَةً، قد لعبت النار بأثوابها وعلقت بأطرافها وأوصالها، فهي تهيم على وجهها في كل مكانٍ تطلب الخلاص مما هي فيه فلا تجد إليه سبيلًا، فلم أصل إلى تلك القرية إلا بعد ساعتين، فألقيت الكتاب في الصندوق ثم رجعت، وكانت العاصفة قد هدأت قليلًا، ولكنها ما هدأت إلا لتفتح الطريق إلى الغيث الهاطل، فلم تهدأ ثورتها حتى ثار ثائره وأخذ يتساقط سقوطًا شديدًا، فابتل ردائي، ومشت الرعدة في جميع أعضائي، واشتدت ظلمة الليل فما أكاد أهتدي إلى طريقي، ولقد حدثتني نفسي لشدة ما نالني من التعب والإعياء، وما ملأ قلبي من الخوف والوحشة، أن أسلم نفسي إلى كنفٍ من أكناف الهضاب أو سفحٍ من سفوح الجبال أنتظر فيه منيتي حتى توافيني، فحال بيني وبين ذلك أني أريد أن أحيا لك، وأتولى شأن سعادتك التي عاهدتك على أن أتولاها لك، وأني إن قتلت نفسي قتلتك معي، فبعث ذكرك في نفسي قوةً غالبت بها الطبيعة وعواصفها وثلوجها، وبروقها ورعودها، حتى بلغت المنزل بعد لَأْيٍ، فسقطت مريضة محمومة.

ولقد كابدت في مرضي شدةً عظمى لم أرَ مثلها فيما مر بي من أيام حياتي، حتى دب اليأس في نفسي دبيب المنية في الأجل، وظننت أني لا بد هالكة، وأني لا أراك بعد اليوم، فلم يكن يحزنني في تلك الساعة شيءٌ سوى أنك ستسمع بخبر موتي، ولا تسمع معه أنك كنت الإنسان الوحيد الذي كنت أفكر فيه في ساعتي الأخيرة، فحاولت أن أكتب إليك كتاب وداعٍ أبثك فيه بعض شأني فلم أستطع، ثم شعرت في فترة من فترات السكون التي تتخلل سكرات الحمى أني أستطيع النهوض من فراشي، فكتبت إليك كتابًا أوصيت لك فيه بجميع ما تملك يدي، وما تملك يدي إلا كتبي ومحفظة رسائلك، والخاتم الذي نسجته من شعرك، وذخيرةً من الذهب ورثتها عن أمي، وهي أعز الأشياء عندي، وكيسًا صغيرًا يشتمل على بعض قطع فضية وذهبية مما كنت أستفضله من نفقاتي، ثم طويت الكتاب وأعطيته لجنفياف لتوصله إليك بعد موتي، ولكن الله كان أرحم بي وبك من أن يحرمني منك ويفجعك بي، فمد إليَّ يد معونته وإحسانه واستنقذني من مخالب الموت، فحمدت له منته ونعمته، ولقد بكيت كثيرًا عندما أعدت النظر في تلك الوصية المكتوبة؛ لأني تمثلت حزنك وتفجعك وخيبة آمالك لو قدر لك أن تقرأها، فرثيت لك مما بك وبكيت لبكائك.

رجائي عندك يا «استيفن» أن تكتب إليَّ عنوان أخيك في الجيش؛ لأني أريد أن أبعث إليه بهدية أخطب بها وده إكرامًا لك، فقد أصبحت أحبه من أجلك حبًّا كثيرًا، وأترقب بفرحٍ وسرورٍ ذلك اليوم الذي يضمنا وإياه بيتٌ واحد، تحت سماء واحدة.

لا يحزنك يا «استيفن» ما قصصت عليك، فتلك حادثة ماضية قد ذهبت وانقضت، ولم يبقَ منها في نفسي حتى آثارها، فليذهب الماضي بخيره وشره، وليأت لنا المستقبل بما نريد.

(٣٣) من استيفن إلى ماجدولين

عفا الله عنك يا ماجدولين، أكنت تظنين أني أستطيع أن أحيا من بعدك ساعةً واحدةً أتمتع فيها بالحياة وطيبها، والدنيا ونسيمها، فأوصيت بما أوصيت به إليَّ؟

إنك لا تعلمين أنك روحي التي أحيا بها في هذا العالم، ودنياي التي أتنسم فيها رائحة السعادة والهناء، وأن اليوم الذي يخلو فيه مكانك من الدنيا هو آخر عهدي بالعالم وما فيه.

متى أهدي الميت، وأوصى القبر إلى القبر! ومتى عاش المحب بعد فقد حبيبه ساعة واحدة، أو هَنِئَتْ له لحظةٌ من لحظات عيشه إن قدر له أن يعيش من بعده؟

إن لي في الحياة — كما للناس — أماني كثيرة، وبودي لو استطعت أن أبيعها جميعها بأمنية واحدة، وهي أن أموت يوم أموت بين ذراعيك، ملقيًا رأسي على صدرك، شاخصًا بعيني إلى وجهك المشرق الجميل، وأن يكون صوتك آخر ما أسمع من الأصوات، وصورتك آخر ما أرى من الصور، عالمًا أن من يموت ميتةً كهذه تفتحت له أبواب السماء، واتصلت سعادة دنياه بسعادة أخراه، فلا يشعر بشقاء الموت، ولا ما بعد الموت.

هنيئًا لك إِبْلَالُكِ من مرضك، وشكرًا لله على صنيعته عندك في شفائك، وصنيعته عندي في حفظ حياتك لي، وما أحسب أن الله أراد بي أو بك سوءًا فيما كان، ولكنه يبتلينا اليوم لنعرف مقدار ما يستقبلنا به من السعادة غدًا.

سأكتب لأخي «أوجين» بشأن الهدية التي أزمعت أن ترسليها إليه، وإني شاكرٌ لك شكرًا جزيلًا عطفك عليه وحبك إياه، أما عنوانه، فهو: «الفصيلة الثالثة، من قسم الجياد الخفيفة في جيش الحدود.»

(٣٤) الحظ

مر الشتاء و«استيفن» يختلف إلى أستاذه «هومل» وأستاذه يسعى له سعي الملح فلا ينجح، حتى أوشك أن ينفد ما كان معه من المال، ولم يبقَ في يده منه إلا بقية غير صالحة لا يعلم ما هو صانعٌ بعدها، فلم يجد له بدًّا من أن يأخذ نفسه بالتقتير، ويحمل عليها في العيش حملًا شديدًا، فأكل التافه من الطعام، ولبس الخلقان من الثياب، وغني بالأكلة عن الأكلتين، وبالخبز عن الأُدُم، وكان يقول في نفسه كلما برحت به الفاقة، واشتدت به ضائقة العيش: لقد قال لي عمي: إن من كان فتى قويًّا مثلك لا يجمل به أن يعيش عالة على أهله وذويه، وها أنا ذا على فتوتي وقوتي أكاد أموت جوعًا، فما أقسى قلوب قومي، وما أبعد الرحمة عن أفئدتهم! لقد كان في استطاعتهم أن يقبلوني عندهم ضيفًا عامًا أو عامين، حتى يفتح الله لي بابًا من أبواب الرزق فأرحل عنهم، أو أن يهيئوا لي — قبل أن يطردوني من بينهم — ملجأ أعتصم به في المكان الذي طردوني إليه حتى لا أموت ميتة الغرباء المشردين.

وكان أكبر ما يحزنه من أمر فاقته أنه وعد ماجدولين بالسعي إلى الثروة والنجاح فيها، وملأ قلبها ثقة وأملًا في المستقبل، وأن فشله — إن قدر له الفشل — سيقتلها، ويلقي بها في مهواة اليأس والشقاء، فرثى لها وأشفق عليها إشفاقًا عظيمًا، وود لو صلحت حياته لأن تكون ثمنًا لسعادته فبذلها في سبيلها، ثم رحل عن الدنيا طيب النفس عنها وعن جميع آماله وأمانيه فيها.

ولقد مر به يومًا — في بعض مواقفه بجانب بعض الجدران — فتى زري الهيئة، سيئ الحال، ومد إليه يده يسأله بعض المعونة، فزوى وجهه عنه حياءً وخجلًا، فقال له الفتى: أقسم لك بالله يا سيدي أني تركت زوجتي ورائي ما تطيق الوقوف من الطوى، ولقد مر بي وبها يومان ما نجد ما نتبلغ به إلا البكاء والدموع فانتفض «استيفن» انتفاضة شديدة والتفت إليه وقال له: أتحب زوجتك كثيرًا أيها الفتى؟ قال: نعم يا سيدي كما أحب حياتي، فأطرق برأسه هنيهة وظل يقول في نفسه: إنه يستعدي عطف الناس ورحمتهم على جوع زوجته وطواها، والناس لا يعطفون، ولو عقل لعلم أنه يسألهم حقًّا من حقوقه المقدسة لا يعترضه من دونه معترضًا إلا استحل دمه ومشى على جثته إليه، فلا جريمة في الدنيا أكبر من أن يرى الإنسان المرأة التي يحبها تموت بين يديه جوعًا فلا يفعل شيئًا أكثر من أن يغمض عينيها ويسجيها بثوبها، ثم يجلس بجانب سريرها يبكيها ويندبها، ومد يده إلى جيبه فأخرج كل ما كان معه من المال فأعطاه الفتى صامتًا، ومشى في طريقه وهو يقول: لقد أنقذتهما من مخالب الجوع بضعة أيام، وأسأل الله أن يقيض لهما من يتولى شأنهما بعد ذلك.

وكذلك عاد «استيفن» إلى مأواه وهو لا يملك من متاع الدنيا حتى قوت يومه.

(٣٥) من ماجدولين إلى استيفن

مرت بي اليوم صديقتي «سوزان» وهي عائدة من مصيفها إلى «كوبلانس»، فاغتبطت اغتباطًا عظيمًا، وتمنيت أن لو كنت حاضرًا بيننا لتراها، فترى أجمل الفتيات وجهًا، وأرقهن شمائل، وأعذبهن حديثًا، وأجمعهن لأفضل الصفات وأكرمها، فهي تنطق بلغات كثيرة، وتحسن الرسم والتصوير، وتوقع على جميع أنواع الأوتار، وتغني غناءً ساحرًا فتانًا، ولها ثغر وضاء لا يفارقه الابتسام لحظة واحدة، ولا يطربها في الحياة شيء مثل مناظر اللهو واللعب، ولا يعجبها حديث مثل حديث المحافل والمراقص، وقد أصبحت مفتتنةً بها لا أكاد أصبر عنها لحظة واحدة، ورجائي إليك يا «استيفن» أن تحبها كما أحبها، وأن تتودد إليها كثيرًا يوم تراها.

لم يبقَ في الصحيفة موضع أكتب إليك فيه شيئًا سوى أن أقول لك: «إني أحبك.»

(٣٦) من استيفن إلى ماجدولين

سأحب صديقتك يا ماجدولين كما أمرت، ولكن ليس لأنها جميلةٌ فاتنة كما تقولين، فقد ملأ جمالك فضاء قلبي فلم تبق فيه بقية لسواك، ولا لأنها ترقص أو تغني، فإن نفسي الحزينة لا يشفيها من دائها إلا أحد الأمرين: إما لقاؤك، أو الموت، بل لأنها تؤنس وحشتك، وتخفف آلامك، وتعينك على احتمال أعباء الحياة وأثقالها، فاشكريها عني شكرًا جزيلًا، وبلغيها تحيتي وسلامي.

لا يزال الدهر عابسًا في وجهي، ولكنني صابرٌ محتملٌ، لا أيأس ولا أستسلم ولا تفتر لي همةٌ حتى أنال بغيتي، والسلام.

(٣٧) من أوجين إلى استيفن

وصلت إليَّ هدية السيدة ماجدولين، فشكرت لها صنيعًا شكرًا جزيلًا، ولقد أصبحت بفضل هديتها صاحب رداءٍ جديد كنت في أشد الحاجة إليه وكانت يدي تقصر عنه، فابتعته وأصبحت فخورًا مختالًا به بين أترابي وعشرائي، فبلغ صاحبة الهدية شكري، وأرجو أن أراها في عهدٍ قريب فأجزيها خيرًا بما فعلت، فإن عجزت عن ذلك فلا أعجز عن أن أحدثها عن الوقائع الغريبة التي شاهدتها أحاديث جميلةً عذبة تملأ قلبها غبطة وسرورًا.

شاهدت بالأمس أول وقعة من وقائع الحرب فجزعت عند الصدمة الأولى، ولكنني ما لبثت أن سمعت صهيل الخيل وقروع الطبول وأزيز الرصاص، وأنغام الموسيقى الحربية حتى انتشيت واندفعت بجوادي اندفاع السيل المنهمر لا أشعر بشيء مما حولي، ولا أرى إلا بريق سيفي في يدي، ولقد امتلأت نفسي غبطة وسرورًا عندما رأيت جيش العدو يتقهقر أمام جيشنا، حتى خيل إليَّ أنني أنا الذي زحزحته وحدي عن مكانه وألجأته إلى الفرار، وقد عرف قائدي فضل ما أبليت في هذه المعركة فرقاني إلى درجة «صف ضابط»، ولي أملٌ أن أعود إليكم في عهد قريب باسم «الضابط أوجين».

(٣٨) من استيفن إلى ماجدولين

قد ابتسم لي الدهر قليلًا يا ماجدولين، فقد زارني أستاذي بالأمس في الخان الذي أنزله بعد ما انقطعت عن زيارته بضعة أسابيع لأمرٍ ما، وبشرني أنه وجد لي عملًا في بعض المدارس الصغيرة بوظيفة شهرية قليلة، وقال لي: إن مدير المدرسة وعده أن يضاعفها لي ضعفين بعد ثمانية أشهرٍ، فحمدت الله على ذلك.

لا صعب في الحياة يا ماجدولين غير الخطوة الأولى، فإذا خطاها المرء هان عليه ما بعدها، فلنهنأ منذ اليوم باللقاء، ولنغتبط بالسعادة التي طالما تمنيناها حتى بلغناها.

(٣٩) من إدوار إلى استيفن

لا يزال النزاع قائمًا بيني وبين عمي، يأبى إلا أن أعيش عيش المقلين، وآبِي إلا أن أتمتع بمالي الذي ورثته عن أبي كما أحب وأشتهي، ولا أدري ما الذي يعنيه من الحرص على مالٍ يعلم أنه ليس له، وأن مصيره مهما طالت الأيام لصاحبه؟ ولكنها خلة البخلاء الأشحاء، لا يقع في أيديهم شيءٌ من مالهم أو من مال غيرهم حتى تلتوي أصابعهم عليه التواء الحية على العصا، ثم لا يفلت منها بعد ذلك، فمثلهم كمثل الحِبَالَة التي تنطبق حافتاها على كل ما يدنو منها، وإن لم تجنِ لنفسها من وراء ذلك شيئًا.

على أنها أيامٌ قلائل ستنقضي؛ وسأبلغ سن الرشد بعد بضعة أشهر، فلا يبقى له ولا لغيره عليَّ من سبيلٍ.

ألممت ببعض شأنك الحاضر، وعلمت أن أهلك قد نقموا منك مخالفتك إياهم، وعصيانك أمرهم، فوكلوك إلى نفسك، ونفضوا أيديهم منك، فتركت لهم «كوبلانس» وسافرت إلى «جوتنج» تطلب لنفسك فيها الرزق من طريق العمل، فلم يوافك حتى اليوم ما تريد، فليت الذي كان يا صديقي لم يكن، وليتك أخذت بذلك الرأي الذي رأيته لك من قبل، وسلكت إلى الحياة طريقًا غير هذا الطريق الخيالي الذي تسلكه اليوم، فتزوجت من الفتاة التي اختاروها لك، وظفرت بنعمة العيش في ظلالها، فلا سعادة في الدنيا غير سعادة المال، وكل ما في أدمغة البشر من علمٍ وعقلٍ، وما في أجسامهم من قوةٍ وأيدٍ، وما في نفوسهم من فضائل ومزايا، إنما هي سبل للمال، وذرائع إليه.

أهديك تحيتي وسلامي، وربما زرتك في «جوتنج» في عهد قريب، فقد ضقت ذرعًا بذلك الرجل، وأصبحت لا أطيق البقاء معه لحظة واحدة في بلد واحد.

(٤٠) من استيفن إلى إدوار

لا تعتب عليَّ يا صديقي، إن قلت لك: إن لي في الحياة رأيًا غير رأيك وغير ما يراه الناس جميعًا.

إنني لا أعرف سعادةً في الحياة غير سعادة النفس، ولا أفهم من المال إلا أنه وسيلةٌ من وسائل تلك السعادة، فإن تمت بدونه فلا حاجة إليه، وإن جاءت بقليله فلا حاجة إلى كثيره.

ماذا ينفعني من المال وماذا يغني عني يوم أقلب طرفي حولي فلا أرى بجانبي ذلك الإنسان الذي أحبه وأوثره، وأرى في مكانه إنسانًا آخر لا شأن لي معه، ولا صلة لقلبي بقلبه؟ فكأنني وأنا خالٍ به خالٍ بنفسي، منقطع عن العالم وما فيه.

إن الرجل الذي يتزوج المرأة لمالها إنما هو لصٌّ خائن؛ لأنه إنما يأخذ ما يأخذ من مالها باسم الحب وهو لا يحبها، وعاجزٌ أخرق؛ لأنه قعد عن السعي بنفسه لنفسه، فوكل أمره إلى امرأة ضعيفة تقوته وتَمُونُه، وساقط المروءة متبذلٌ؛ لأنه يَأْجُر جسمه للنساء، كما تَأْجُر البغي نفسها للرجال، ليستفيد من وراء ذلك قوته.

نعم إنني بائس فقير، كما تقول، ولكنني أسعى لنفسي سعي المجد الدءوب، وقد بدأت أنجح في مسعاي منذ الأمس، فقد حصلت على وظيفةٍ صغيرة ستكون كبيرةً فيما بعد، واستأجرت لي غرفةً بسيطة فأصبحت ذا مسكن خاص، وسينتهي بؤسي وشقائي، وأنال السعادة التي أرجوها، وسيكون أعظم ما أغتبط به في مستقبل حياتي أنني أنا الذي صغت إكليل سعادتي بيدي.

أحييك يا «إدوار»، وأرجو ألا تعتب عليَّ فيما قلت لك، ولعلك تفي بوعدك لي، فأراك في «جوتنج» في عهد قريب.

(٤١) غرفة استيفن

سكن استيفن بعد حصوله على وظيفته الجديدة في غرفة صغيرة طولها عشر أقدام وعرضها سبع، ووضع فيها سريرًا من خشبٍ ومنضدةٍ عارية يكتب عليها ليلًا ويأكل عليها نهارًا، وكرسيين مختلفي الحجم والشكل، يجلس على أكبرهما وأصلحهما شأنا، ويضع حقيبة ملابسه على الآخر، ومِنْصَبًا للطبخ، وجرةً للماء، وبعض آنيةٍ أخرى، وكان بغرفته كوةٌ تشرف على سطوح منازل قديمة مهجورة لا يسكنها أحد، فلما أشرف منها ورأى ذلك المنظر الموحش اشمأزت نفسه قليلًا، ثم قال: لا بأس، فذلك خيرٌ لي من أن يطلع على خلتي أحدٌ، ثم لمح على البعد دوحةً عظيمة مورقةً في بعض المنازل القاصية فقال: تلك هي الروضة التي أفتح عليها نظري كل صباح، وهل يتمتع صاحبها الذي يملكها ويتعهدها منها بأكثر من ذلك؟ ثم رأى على مقربةٍ منه كنيسةً صغيرة فقال في نفسه: أرجو أن تساعدني دقات ساعتها على معرفة المواقيت، ثم ما لبث أن سمع رنينها فأخذ يَعُدُّها فرحًا مبتهجًا وهو يقول: لن أشتري ساعة بعد اليوم.

وكذلك اغتبط «استيفن» بمسكنه الجديد على صغره وحقارة شأنه اغتباطًا عظيمًا؛ لأنه أول مسكن نزل فيه عند نفسه، وابتاع أثاثه وأدواته من ماله، وظل يقول في نفسه: في المسكن الخاص يستطيع المرء أن يكون حرًّا في قيامه وقعوده، وجلوسه واضطجاعه، ونومه على الهيئة التي يريدها، لا يتكلف ولا يتعمل، ولا يُجامل الناس ولا يرائيهم، ولا يضع نفسه في القالب الذي يصنعونه له، فيرفع يده في الهواء بغتة دون أن يخاف وقوعها على وجه أحدٍ، ويستعين بتقليب يديه وتحريك رأسه على النظر والتفكير دون أن يسميه أحدٌ مجنونًا أو مختبلًا، ويمد قدميه في الناحية التي يريدها لا يخشى محاسبًا يحاسبه على الأدب أو يلاحيه في قواعده وأصوله؛ أي إنه يكون فيه على الصورة التي خلقه الله عليها، لا يزيد على ذلك ولا ينتقص شيئًا.

وكان لا بد له من أن يعيش عيش الإقلال والتقتير، فلم يلاقِ في ذلك عناء عظيمًا؛ لأنه كان قنوعًا مجتزئًا، فقسم دخله بين نفقات طعامه وشرابه وملبسه وأجرة مسكنه ووفاء ما عليه من دين الأثاث الذي ابتاعه، وعاش عيشةً هادئة ساكنة لا يكدرها عليه مكدر؛ لأنها كانت مملوءةً أملًا ورجاء.

(٤٢) الطارق الجديد

جلس «استيفن» في غرفته غداة يوم من أيام الآحاد، وهي الأيام التي يشعر فيها بالراحة من عناء الدرس ونصبه، فسمع خفق نعلٍ ثقيلةٍ على السلم يختلف صوتها عن صوت نعل جارته العجوز التي كانت تختلف إليه من حين إلى حين لتملأ له جرة الماء من البئر، فدهش، وتسمع فإذا القادم يصيح باسمه صياحًا عاليًا، فخُيل إليه أنه يعرف صاحب هذا الصوت، فابتدر الباب ففتحه فإذا صديقه «إدوار» فابتهج بمرآه وعانقه عناقًا طويلًا، وقال له: لقد وفيت بوعدك أيها الصديق، فلك الشكر على ذلك، ولقد كنت أترقب حضورك ترقب المقرور أشعة الشمس، والظامئ ديمة القطر.

فقال له: سأنزل عندك في غرفتك هذه الصغيرة ضيفًا شهرين أو ثلاثة، وهي المدة الباقية لي على بلوغ سن الرشد، ولقد اشتد النزاع بيني وبين عمي حتى أصبحت لا أطيقه ولا يطيقني، ففارقت منزله وأقسمت ألا أرى وجهه حتى تنتهي قضية الوصاية التي بيني وبينه، ثم دخل وهو يقول، ما أجمل هذه الغرفة وأبدع شكلها! إنها أوسع مما كنت أظن، وأجمل مما كنت أقدر، وعمد إلى حقيبته ففتحها وأخرج منها زجاجة عطرٍ ومشطًا وبضعة مناديل من الحرير وقدمها هدية إلى «استيفن»، فقبلها منه شاكرًا ثم قام «استيفن» إلى شريحة لحم كان يعدها لطعام الغد فاشتواها ووضعها على المائدة، ووضع بجانبها زجاجة من الخمر وقطعة من الجبن ثم أخذا يأكلان ويتحدثان ويتذاكران أيام طفولتهما الماضية، وكذلك قضيا بقية يومهما مسروريْنِ مغتبطين حتى أتت ساعة النوم، ففرش «استيفن» لنفسه حشية في بعض جوانب الغرفة وترك السرير لضيفه وناما.

ولما أصبحا أعطى «استيفن» «إدوار» قبل ذهابه إلى المدرسة جميع ما كان معه من المال وقال له: إن أجرة وظيفتي في الشهر مائتا فرنك أنفق منها على الطعام والشراب ستينًا، وأحفظ الباقي لأجرة الغرفة وسداد ثمن الأثاث الذي ابتعته، وقد أنفقت منها خمسين فرنكًا في الأيام العشرة الماضية، وها هو ذا الباقي، فَتولَّ أنت إنفاقه، فأنت رب البيت منذ اليوم وصاحب الشأن فيه، ثم تركه ومضى، فلم يلبث «إدوار» أن نزل إلى السوق فاشترى لحمًا وخبزًا وتوابل وفاكهةً وخمرًا، وأنفق في سبيل ذلك اثني عشر فرنكًا وجلس يطبخ ويشتوي حتى انتصف النهار، وحضر «استيفن» فقال له: ما هذا يا إدوار؟ أوليمة هي؟ قال: نعم وليمة الاحتفال بقدومي! فابتسم «استيفن» وقال له: لقد أحسنت فيما فعلت، وذكرتني بما كنت عنه لاهيًا، وجلس يؤاكله حتى فرغا من الطعام، فقال له «إدوار»: أرى أن الغرفة تنقصها بضعة أشياء لا بد منها، فأذن لي بمشتراها، وأعدك ألا أبتاع إلا ما لا بد لنا منه، وألا أنفق في سبيل ذلك إلا ثمنًا قليلًا، فقال له: لك ما تريد، فخرج ثم عاد بعد ساعةٍ يقتاد كلبًا أسود ضخمًا ووراءه حمالٌ يحمل له مرآة كبيرة ومِشْجَبًا للثياب وهو يقول: ما أقبح الغرفة التي لا مرآة فيها، وما أشد وحشة البيت الذي لا ينبح فيه كلبٌ، على أنني لم أنفق في جميع ما ابتعته أكثر من عشرين فرنكًا، وأظنك ترى يا «استيفن» كما أرى أنها صفقةٌ رابحة نادرة قلما يتفق مثلها لأحد فضحك «استيفن» وقال له: ما أعذب جنونك يا «إدوار»! قال: وهل تطيب الحياة بغير جنون؟

وكذلك لم يأتِ اليوم العشرون من الشهر حتى صَفِرَتْ أيديهما من النقود، ولم يُجْدِ عليهما الكلب ولا المشجب ولا المرآة شيئًا، فقال «استيفن»: ما العمل يا «إدوار»؟ قال الأمر أهون مما تظن، وسأرى لك الرأي الذي ينفعنا، ثم تركه وخرج وعاد بعد قليل يصحبه أحد الحمالين ورجلٌ آخر من تجار الأثاث، فوقف على عتبة الغرفة وقال للرجل خذ هذا السرير فإنه يضايق الغرفة كثيرًا، ولا ظهر أثبت تحت جسد النائم من ظهر الأرض، وخذ هاتين الوسادتين الزائدتين، فالوسادة الواحدة إذا ثنيت تكفي صاحبها، ثم نظر إلى «استيفن» وقال له: أليس كذلك يا صديقي؟ فانتبه «استيفن» وكان مكبًّا على منضدته يكتب كتابًا إلى ماجدولين، ففهم كل شيء، وقال: بلى يا «إدوار»، قال: أتظن أن زجاجًا رقيقًا كزجاج هذه النافذة يبقى طويلًا على هذه الرياح العاصفة في هذا الشتاء الشديد؟ قال: لا، قال: أليس من الحزم أن ننتفع بثمنه بدلًا من أن نتركه لعبة في أيدي الرياح تعبث به ما تشاء؟ قال: ذلك هو الرأي، فمشى إلى النافذة فانتزع ألواحها واحدًا بعد آخر وأعطاها الحمال، ثم قال له: وهل ترى أننا في حاجة إلى مثل هذا الغطاء الثقيل في مثل هذه الغرفة الضيقة؟ قال: لا، فأمر الحمال بحمله، ثم قال له: وهل تضع في هذه الخزانة شيئًا تخاف عليه أن يُسرق؟ فضحك «استيفن» وقال له: لو كان عندي ما أخاف عليه لم نَصِرْ إلى ما صرنا إليه، قال: إذن ما بقاء هذا القفل فيها؟ ثم مد يده إليه فانتزعه من مكانه، وظل يقلب نظره في الغرفة حتى وقع على المنضدة، فذعر «استيفن» وقال له: انتظر يا «إدوار» لا تمسسها حتى أتمم رسالتي، فضحك وقال: إني أتركها لك إكرامًا لماجدولين.

وأخذ يساوم الرجل في ذلك الأثاث حتى باعه منه بثلاثين فرنكًا، ثم عاد إلى «استيفن» وقال له: ماذا ترى فيما تم؟ قال: أرى أن تعطيني هذا المال الذي معك لأتولى إنفاقه بدلًا منك، فإنك لا تستطيع أن تكون حازمًا، قال: أظن أننا قد بدأنا نختلف يا صديقي؛ لأنك تحب التقتير وهو لا يعجبني، وأنا أحب السعة وهي لا ترضيك، فخير لي ولك أن نقتسم راتبك بيننا قسمين، وأن يعيش كل منا وحده بالقسم الذي يصيبه، وصمت هنيهة ثم قال: على أن افتراقنا في المعيشة لا يتم إلا إذا افترقنا في السكن، فليختص كل منا بجهة من الغرفة مستقلة عن جهة صاحبه، وها أنا أقسمها بيننا قسمة عادلة، ثم عمد إلى قطعة من الجص وخط بها وسط الغرفة خطًّا مستطيلًا، وقال: هذا قسمي أنا وكلبي ومرآتي ومشجبي، وهذا قسمك وحدك وهو خير من قسمي وأكثر منه مرافق ومنافع؛ لأن فيه المنصب الذي تطبخ عليه طعامك، والمنضدة التي تكتب عليها رسائلك، والنافذة التي تمد في فضائها ذراعك كلما أردت أن تلبس قميصك أو معطفك، فأغرب «استيفن» في الضحك وخرج لشأنه وترك له الغرفة يفعل فيها ما يشاء.

وكذلك استمر «إدوار» ينغص على «استيفن» عيشه، و«استيفن» لا يغضب ولا يشكو، بل لا يشعر بألمٍ ولا ضيق؛ لأنه كان صديقه وكفى.

(٤٣) التضحية

خرج «إدوار» ذات يوم يرتاض في بعض أطراف القرية، وبقي «استيفن» وحده يدون في دفرته بعض نغمات موسيقية لدروس الغد، وإنه لكذلك إذ سمع على السلم خفق نعالٍ كثيرة وأصواتًا مختلفة وصياحًا عاليًا، فدهش وقام إلى الباب ففتحه، فإذا رجلٌ طويل القامة عريض الكتفين يلبس لباس عمال المناجم تشتعل عيناه نارًا، ويتدفق الزبد من شفتيه وقد أمسك بيده سيفين عريضين، فلما وقع نظره على «استيفن» قال له: أأنت المسمى «إدوار»؟ فعلم «استيفن» أن الرجل يريد بصديقه شرًّا، ولأنه لا يعرف شخصه، فأشفق منه وأراد أن يعرف ما تِرَتُهُ عنده، فقال له: نعم أنا هو، فماذا تريد مني؟ فابتدره الرجل بلطمةٍ على وجهه أظلمت لها عيناه وقال له: لعل شجاعتك التي دفعتك إلى مغازلة زوجتي وانتهاك حرمة بيتي والعبث بشرفي لا تفارقك في هذه الساعة حين أدعوك إلى مبارزتي على ضفاف النهر، وها هم أولاء شهود المبارزة، فليختر كل منا من يشاء منهم، فأخذ «استيفن» منه السيف صامتًا وقد فهم كل شيء، وكان ملمًّا بعض الإلمام بقصة «إدوار» مع زوج هذا الرجل، وأشفق عليه أن يصيبه من المبارزة شرٌّ؛ لأنه كان يعلم أنه لم يجرد في حياته سيفًا قط، فمشى مع خصمه صامتًا لا يقول له شيئًا حتى بلغا ضفة النهر وجردا سيفيهما للقتال، وهنا ذكر «استيفن» ماجدولين وود لو استطاع أن يكتب إليها كلمة وداعٍ، فنظر إلى الشهود وقال: هل أجد مع أحد منكم بطاقةً صغيرة؟ فأعطاه أحدهم ما أراد، فكتب هذه الكلمة الموجزة «إني أموت في مبارزة شريفة وأنت آخر من أفكر فيه، فالوداع يا ماجدولين.» وكان أحد الملاحين واقفًا على مقدمة سفينته بجانب الضفة، فرأى «استيفن» وهو يكتب كلمته، ثم رآه وهو يقلب نظره حوله يفتش عن رسول يبعث بها معه، فأثر منظره في نفسه وتقدم نحوه وقال له: ائذن لي يا سيدي أن أحمل رسالتك إلى من تريد، فشكر له «استيفن» صنيعه وأعطاه الرسالة بعد ما كتب عنوانها على ظهرها، ثم شرع في المبارزة، فكانت يده فيها أعجز من يد خصمه، فجرح بعد ضربات في ذراعه جرحًا بليغًا، فوقف الشهود المبارزة وتصافح الخصمان، والملاح لا يزال واقفًا في مكانه، فقال له «استيفن» وهو ساقط على الأرض بصوت ضعيف: مزق الرسالة التي معك فلا حاجة إليها الآن، فمزقها الرجل ودنا منه فأخرج من جيبه منديلًا فعصب به ذراعه، ثم أنهضه من مكانه، وأخذ بيده وظل سائرًا معه حتى صعد به إلى غرفته، فأضجعه على فراشه وجلس بجانبه يضمد جرحه ويواسيه.

(٤٤) الصداقة

جلس «إدوار» إلى صديقه في الليلة التي عزم على السفر في غدها وكان جرحه قد أشرف على البرء، وقال له: لقد سجلت لنفسك بدمك يا «استيفن» في صفحة قلبي نعمةً لا أنساها لك مدى الدهر، كما لا أنسى لك أنك وأنت في أشد حالات بؤسك وضيقك قد آويتني وواسيتني أيامًا طوالًا، واحتملت لي ما لا يحتمله أخ لأخيه ولا حميمٌ لحميمه، فلو أنني جمعت لك في يوم واحد جميع ما كافأ به الناس بعضهم بعضًا على الخير والمعروف مذ خُلقت الدنيا حتى اليوم لما جازيتك بعض الجزاء على الخير الذي صنعت، فقال له «استيفن»: إنني لم أُسْدِ إليك يدًا تستحق مكافاةً، ولكنك صديقي، وللصداقة آثار طبيعية تتبعها وتنبعث وراءها جريان الماء في منحدره، فإن كنت لا بد شاكرًا فاشكر الصداقة التي ظللتنا بجناحيها مذ كنا طفلين صغيرين، والبؤس الذي لف شملي بشملك، وخلط نفسي بنفسك، وحول قلبينا القريحين الكسيرين إلى قلب واحد، وإن قدر لك يومًا من الأيام أن تمد يدك لمعونتي فليكن ذلك منك إذعانًا لرحمة قلبك وحنانه، لا مكافأة على خيرٍ، ولا مجازاة على معروف.

إنني شقيٌّ مذ ولدت يا «إدوار»، فأنا أحب الأشقياء وأعطف عليهم؛ لأنني واحد منهم، ولا صداقة في الدنيا أمتن ولا أوثق من صداقة الفقر والفاقة، ولا رابطة تجمع بين القلبين المختلفين مثل رابطة البؤس والشقاء، فلو أنني خيرت بين صحبة رجلين: أحدهما فقير يضم فاقته إلى فاقتي فيضاعفها، وثانيهما غنيٌّ يمد يده لمعونتي فَيُرَفِّهُ عني ما أنا فيه من شدة وبلاءٍ، لآثرت أولهما على ثانيهما؛ لأن الفقير يتخذني صديقًا، والغني يتخذني عبدًا، وأنا إلى الحرية أحوج مني إلى المال.

يظن السعيد دائمًا أن السعادة التي يمرح في ظلها إنما هي منحةٌ سماوية قد آثره الله بها من دون عباده جميعًا لفضيلةٍ كامنةٍ في نفسه لا يشاركه فيها غيره، ولا يعرفها الله لشخصٍ في العالم سواه، وليس في استطاعته أن يتصور بحالٍ من الأحوال أن السعادة عاريةٌ من عواري الدهر، يأتي بها اليوم ويذهب بها غدًا، ولعبة من ألاعيبه، يختلف بها بين الناس أخذًا وردًّا، ويداولها بينهم عطاءً وسلبًا، فتراه واثقًا بها مستنيمًا إليها، ينطق بذلك لسانه، وتهتف به حركاته وسكناته، وملامح وجهه، وابتسامات ثغره، ومن كان هذا شأنه نظر إلى غيره من البائسين المحدودين الذين لا يتمتعون في حياتهم بمثل متعته، ولا يهنئون فيها بمثل نعمته نظر الشمس الساطعة إلى ذرات التراب المبعثرة على سطح الأرض، فهو يمن عليهم باللفتة والنظرة، ويحاسبهم على القعدة والقَوْمَة، ويتقاضاهم إجلاله وإعظامه كأنما يتقاضاهم حقًّا من حقوقه المقدسة التي لا ريب فيها، فإن أذن لأحدهم يومًا من الأيام أن يجلس في حضرته لا يعجبه منه إلا خضوعه له، واستخذاؤه بين يديه، وتضاؤله أمام نظراته المترفعة تضاؤل الحمامة الساقطة تحت أجنحة النسر المحلق، ثم لا يجازيه على ذلك بأكثر من دعائه إلى مائدته، أو الإنعام عليه بفضلة ماله، أو خلقان ثيابه، لا يبعثه إلى ذلك باعث رحمة أو حنان، بل ليريه فرق ما بينه وبينه في مظاهر الحياة وزخارفها، وحظوظ الأيام وجدودها، وليضيف إلى عنقه المثقل بأغلال الفقر غلًّا جديدًا من الذلة والاستعباد، فإذا أراد المسكين أن يفضي إليه بهم من هموم قلبه — ترويحًا عن نفسه، وترفيهًا لآلامه — أعرض عنه وبرم به، وخيل إليه أنه ما ذهب معه هذا المذهب في حديثه إلا وقد أضمر في نفسه أن يقاسمه ماله، أو يساكنه في قصره، أو يشاطره نعمته وسعادته، فلا يعزيه عن بأساته بأكثر من أن يلومه على تبذيره وإسرافه، أو على بلادته وغفلته، ثم يختم حديثه معه بقوله: إن جميع ما يصيب المرء في حياته من بؤسٍ وشقاء ليس الذنب فيه على القدر، بل على قصور الإنسان وجهله، وعد اضطلاعه بشئون الحياة وتجاريبها، وإن الله — تعالى، أعدل من أن يمنح نعمةً جاهلها أو يسلبها مستحقها؛ أي إنه يجمع عليه بين بليتين: بلية الهم، وبلية اليأس من انفراجه وانقشاعه.

لا يستطيع الغني أن يكون صديقًا للفقير؛ لأنه يحتقره ويزدريه، فلا يرى فيه فضيلةً يصادقه عليها، أو يصطنعه من أجلها، ولأنه يشعر من نفسه باقتداره على احتمال أعباء الحياة وحده دون أن يعينه عليها معينٌ من الفقراء أو الأغنياء، أما صديق الفقير فهو الفقير الذي يصغي لشكاته إذا بثها إليه، ويفهم معناها إذا سمعها منه، ويعزيه عنها إذا فهمها عنه، ويجعل له من صدره متكأ لينًا يلقي رأسه عليه، وهو تعبٌ مكدود، فيجد فيه برد الراحة والسكون.

لذلك أحببتك يا «إدوار» واتخذتك صديقًا، وكان الشقاء هو الوثيقة التي تعاقدنا فيها أن يكون كلٌّ منا عونًا لصاحبه على دهره، وجنةً له من دون نكبات الأيام وأرزائها، مهما تقلبت بهما الأحوال، أو فرقت بينهما الأيام.

فأخذ «إدوار» بيد «استيفن» وأقسم له بكل مُحْرِجَةٍ من الأيمان ألا يهدأ له في حياته روعٌ ولا يثلج له صدرٌ حتى يراه ظافرًا من دهره بالسعادة التي يرجوها، ثم عرض عليه أن يضع بين يديه جزءًا من ثروته التي صارت إليه فأبى، وقال: أما هذه فلا؛ لأني لا أريد أن أشتري سعادتي في دنياي إلا بأشرف أثمانها.

وفي الصباح مشى «استيفن» مع «إدوار» ليودعه حتى بلغا مكان الافتراق، فتعانقا طويلًا وبكى «استيفن» على صديقه ثم افترقا.

(٤٥) من استيفن إلى ماجدولين

خرجت ليلة أمس أرتاض على شاطئ النهر، فلما استقبلت الفضاء شعرت أن أوراق الأشجار تضطرب اضطرابًا سريعًا في خفوتٍ وهمس، وأن الهواء يمشي متثاقلًا مترجحًا يتحامل بعضه على بعض، ورأيت قطع السحاب الضخمة السوداء تنتقل في صحراء السماء تنقل قطعان الفيلة في غاباتها، وخيل إليَّ أني أسمع في أعماقها قعقعة مبهمة تدنو حينًا وتنأى أحيانًا، وكأنما قد راع هذا الصوت الأجش طيور الماء، وحشرات الأرض، فرأيت الطيور مرفرفة على سطح النهر تستبق إلى أوكارها، والحشرات متعادية بين الصخور تتسرب إلى أحجارها، ورأيت السواد قد صبغ كل شيءٍ حتى لون الماء، فقبة السماء ورقعة الأرض والأفق الذي يصل بينهما منجمٌ أجوف عميقٌ من مناجم الفحم يحاول البرق أن يجد له في جدرانه العاتية الصماء منفذًا ينحدر منه إلى جوفه فلا يستطيع، إلا الومضة بعد الومضة تعتلج بين طبقاتها ولا تنفذه.

ثم ما لبثت هذه الطبيعة الصامتة الخرساء أن هدرت وزمجرت فهبت الزوبعة من كل مكان تخبط بيديها أوراق الأشجار فتطير بها كل مطارٍ، وتهز السقوف والجدران هزًّا وتضرب بعضها ببعض، ثم أقبل المطر يمزق قطع السحاب ويفتح لنفسه والبرق طريقًا في خلالها، ثم همى فسالت به الأودية والأرجاء، وامتلأت الأخاديد والأغوار، وكنت على مقربة من كوخ صديقي «فرتز»، وهو ملاحٌ فقير أسدى إليَّ فيما مضى من الأيام صنيعةً لا أزال أحفظها له حتى اليوم، فلجأت إليه، فخيل إليَّ حين دخلته أنه مقفرٌ موحشٌ ليس به أنيس، ثم أضاء البرق فرأيت في داخله منظرًا من أجمل المناظر وأبدعها، رأيت زوج الرجل وأولاده جَاثِينَ على أقدامهم خاشعين باسطي أيديهم إلى السماء يدعون الله، تعالى، بدعواتٍ جميلة يرددونها بصوتٍ شجي محزن، فخيل إليَّ — ولا مصباح هنا ولا ضياء — أني أرى إشراق وجوههم وتلألؤها في هذه الدجنة الحالكة، وأحست لي المرأة فالتفتت إليَّ وقالت: لم يعد «فرتز» حتى الساعة، ونحن نخشى أن يكون قد أصابه مكروهٌ من أهوال تلك الليلة، فنحن ندعو الله، تعالى، أن يرده إلينا سالمًا، فأثر في نفسي هذا المنظر تأثيرًا شديدًا، وقلت في نفسي: «ويل للذين يحاولون أن يسلبوا أمثال هؤلاء المساكين إيمانهم ويقينهم، إنهم يسلبونهم حياتهم التي يحيون بها في هذا العالم وكل ما تملك أيديهم من سعادة وهناء.»

وشعرت بحزنٍ شديد في أعماق قلبي لحرماني من مثل هذه السعادة النفيسة التي ينعم بها هؤلاء القوم، فجثوت بجانبهم أهتف بهتافهم، وأدعو بدعائهم، وأضرع إلى الله أن يمنحني يقينًا مثل يقينهم، ولم أدر أن ما أنا فيه إنما هو اليقين الذين أنشده وأضرع إلى الله فيه، ثم رفعت رأسي فإذا «فرتز» واقفٌ على عتبة الباب، فهرعت زوجته إليه تقبله وتنضو عنه رداءه المبتل، ودار أولاده به يلثمونه ويستقبلون لثماته الأبوية الرحيمة، ويستطيرون فرحًا به وسرورًا، ثم احتملوه جميعًا إلى المائدة وجلسوا حوله يحادثونه ويسائلونه عما كابد من أهوال هذه الليلة وشدائدها، وجلست على مقربةٍ منه أسمع حديثهم، وأستشف سريرة نفوسهم، فأخذ منظرهم هذا من نفسي مأخذًا شديدًا، وكدت — وما حسدت أحدًا في حياتي على نعمة قط — أن أحسدهم على نعمتهم هذه وقلت في نفسي: زوجةٌ تحب زوجها وتبكي رحمةً به وإشفاقًا عليه، وأولاده يجثون على أقدامهم ويمدون أيديهم إلى الله، تعالى، ضارعين أن يحفظ لهم حياة أبيهم، وأبٌ يبكي فرحًا برؤية أولاده بين يديه سالمين مغتبطين … إنها السعادة النفسية العالية التي لا تستمد بهجتها ورُواءها من القصور والرياض، والأثاث والرياش، والفضة والذهب، بل من الحب الخالص، والود المتين.

وكذلك سيكون شأننا في مستقبلنا يا ماجدولين، فربما كتب لنا أن نعيش عيش الفقراء المقلين، ولكننا سنكون على فقرنا وإقلالنا سعداء مغتبطين.

لم يبقَ بيني وبين الحصول على تلك الزيادة التي وعدوني بها إلا ثلاثة أشهر، سأسافر من بعدها إليها في «ولفاخ» لأخطبك إلى أبيك، وأضع يدي في يدك، فلا يبقى للشقاء بعد اليوم إلينا من سبيل.

(٤٦) من ماجدولين إلى استيفن

سافرت «سوزان» إلى «كوبلانس» وتركتني حزينةً آسفةً على فراقها، ولكني سألحق بها عما قليل، فقد وعدها أبي أن نسافر إليها بعد شهرٍ واحد لنقضي عندها بقية أيام الشتاء، وسأكتب إليك عند وصولي لتكون على بينةٍ من ذلك، فلعلك تجد السبيل إلى موافاتي هناك، فأراك — ولو على البعد — والسلام.

(٤٧) من ماجدولين إلى استيفن

وصلنا منذ ثلاثة أيام أنا وأبي إلى «كوبلانس» ونزلنا ضيفين في منزل سوزان وأنا مغتبطة بلقائها والسعادة التي أجدها في منزلها اغتباطًا عظيمًا، وقد أخبرتني اليوم أنها ابتاعت لنا مقصورةً في ملعب «الأوبرا» نذهب إليها مساء كل أحد، فها نحن أولاء قد وجدنا المكان الذي يمكننا أن نتراءى فيه أو نتلاقي إن استطعنا.

فتعال إليَّ يا «استيفن»، ولا يَحُلْ بينك وبين ذلك أنك سترى مرة ثانية وجه ذلك البلد الذي أبغضته واجتويته وخرجت منه ناقمًا عليه، واغتفر كل شيءٍ من أجلي.

(٤٨) الحياة الجديدة

سافرت ماجدولين مع أبيها إلى «كوبلانس»، ونزلت في ضيافة صديقتها «سوزان»، فأدهشها منظر القصر وأبهاؤه وحجراته، وما يشتمل عليه من أثاثٍ ورياشٍ، وما يتلألأ في جوانبه من زخرفٍ وآنية، وأعجبها منظر الوصائف في إقبالهن وإدبارهن، وما يتراءين فيه من ألوان الثياب وأنواع الأزياء، حتى خيل إليها وهي واقفة أمام المرآة تنظر إلى نفسها وإلى موقفهن بجانبها أنهن فوق أن يخدمنها أو يسعين بين يديها، بل تمثل لها أنهن يسخرن في أعماق نفوسهن بمنظرها ومنظر ثيابها القروية القصيرة المخططة التي خاطتها بيدها، وكثيرًا ما كانت تحدثها نفسها كلما بدت لها حاجة من الحاج أن تقوم إلى قضائها بنفسها خجلًا منهن وحياءً، والله يعلم كم نالها في مبدأ أمرها من حيرةٍ وارتباك كلما جلست إلى طعام أو شراب، أو شهدت مجمعًا، أو حضرت ملعبًا، وكم كابدت من عناء في صياغة نفسها على أوضاع تلك الحياة الجديدة التي انتقلت إليها حتى أسلست واستقادت.

وكانت «سوزان» قد أعدت لها أنواع الأقمشة من حرير ومخمل وخز وصوفٍ وفرو، فخاطت لها خياطةٌ ماهرة ثوبًا للرقص، وآخر للملعب، وآخر للمائدة، وقمصًا للبيت، وغلائل للنوم، فرقصت وغنت وأنست بمنظر الراقصات والمغنيات، وتحدثت بأحاديث فتيات «كوبلانس»، وذهبت مذاهبهن في آرائهن وتصوراتهن، ولذت لها هذه الحياة الجديدة لذةً عظيمة، وملأت ما بين جوانحها حتى غلبتها على أمرها، فتضاءل في نظرها كل شيء في ماضيها إلا حبها لاستيفن.

(٤٩) الفتنة

دخلت ماجدولين على «سوزان» ذات ليلة في غرفتها الخاصة في القصر، وهي غرفة بديعة فاخرة، قد كسيت أرضها وجدرانها بالقطيفة الحمراء المطرزة، وأسبلت على نوافذها وأبوابها ستائر حريرية بيضاء تتراءى في خلالها أسلاك الفضة اللامعة، وتدور في أطرافها ألوان الفصوص المتلألئة، وانتثرت في جوانبها وأركانها المقاعد الثمينة، والمناضد الجميلة، وآنية الفضة، فقالت لها «سوزان» حين رأتها: لقد أرسل إليَّ خطيبي اليوم هدية الزواج، فهل تحبين أن تريها؟ قالت: لا أَحَبَّ إليَّ من ذلك، ففتحت «سوزان» الصناديق أمامها واحدًا بعد آخر فإذا عقودٌ ودمالج وأساور وأقراطٌ مصوغةٌ أجمل صياغة وأبدعها، مرصعةٌ بأنفس اللآلئ وأثمن الجواهر، فدهشت ماجدولين لمنظرها، وظلت تقلبها بين يديها ساعة، ثم تناولت قرطًا من الماس فوضعته في أذنيها، فاقترحت عليها «سوزان» أن تتقلد الحلية بأجمعها لترى منظرها عليها، ففعلت، ووقفت بها أمام المرآة، وأقبلت بها وأدبرت، فقالت لها «سوزان»: ما أحوج جمالك يا ماجدولين إلى مثل الحلية! وما أحوج هذه الحلية إلى مثل هذا الجمال! وإني لا أتمنى على الله شيئًا سوى أن أراك خطيبة رجل من ذوي النعمة والثراء يحبك ويستهيم بك، ويكلأ فضاء حياتك هناءً ورغدًا.

ثم أنشأت تصف لها قصرًا بديعًا ابتناه لها خطيبها في إحدى ضواحي «كوبلانس» وأعد لها فيه من أسباب النعمة والرفاهية ما لا يعد مثله أصحاب التيجان لنسائهم وحظياتهم، وختمت حديثها بقولها: و«فردريك» فوق ذلك فتى جميلٌ ساحرٌ، لا تقع العين على أبدع ولا أظرف منه، وهو يحبني حبًّا شديدًا، ولا أحسب أن الذي أضمر له من الحب أقل مما يضمر لي، فأطرقت ماجدولين هنيهةً ولم تكن قد أفضت إلى صديقتها حتى الساعة بسر حبها لاستيفن، ثم رفعت رأسها وقالت: هل تكتمين سري يا «سوزان» إن أفضيت به إليك؟ قالت: نعم، ومن يكتمه إن لم أكتمه؟

فقصت عليها قصتها مع «استيفن»، وذكرت لها ذلك العهد الذي أخذه كلٌّ منهما على صاحبه أن يعيش له، وألا يفرق بينهما إلا الموت، فقالت «سوزان»: إني أذكر أنك كتبت لي عنه وكان حديث عهدٍ بالنزول بداركم، إنه غير جميلٍ ولا جذاب، قالت: نعم هو كذلك، ولكنني أحببت فيه أخلاقه أكثر من كل شيء، وإن رجلًا يخاطر بنفسه من دون الناس جميعًا في سبيل إنقاذ غريقٍ لا يعرف من هو حتى أنقذه وكاد يهلك دون ذلك لهو أشرف الرجال، وأنبلهم قصدًا، وأعلاهم همة، ولقد شهدت أنت بنفسك ذلك المنظر، وكتبت لي عنه، وعلمت منه أكثر مما أعلم، قالت: أهو الرجل؟ قالت: نعم، قالت: إني أذكر ذلك، ولقد أعجبت به في ذلك اليوم إعجابًا عظيمًا، وهل هو غنيٌّ؟ قالت: لا، ولكنه يسعى إلى الكفاف من العيش وسيناله، وحسبي منه أن يحبني حبًّا لا يحبه أحدٌ أحدًا، قالت: ما أقبح المهر يا ماجدولين إذا كان كله حبًّا، إنك تريدين أن تَتَبَتَّلي وتستوحشي وتهجري العالم كله بجماله ورونقه إلى غرفةٍ خاملةٍ في أحد المنازل المهجورة المنفردة تقتلين فيها نفسك همًّا وكمدًا.

فصمتت ماجدولين ولم تستطع أن تقول شيئًا، لا اقتناعًا برأي صديقتها، بل حياءً منها وخجلًا، ثم افترقتا.

(٥٠) الملعب

جلست ماجدولين و«سوزان» في مقصورة الأوبرا، وجلس بجانبهما «ألبرت» ابن عمة ماجدولين، و«اشميد» ابن عم «سوزان»، وهما فتيان جميلان متأنقان في ملبسهما وحليتهما، شأنهما في حياتهما شأن أمثالهما من الفتيان الأثرياء المستهترين الذين تنقسم حياتهم كلها إلى ساعتين اثنتين: واحدةٌ للضحك والسرور، والأخرى لتصبي النساء واستغوائهم، فينفقون على الأولى عقولهم، وعلى الثانية أموالهم، حتى لا يبقى لهم من هذا ولا ذاك شيء.

جلسا يقلبان النظر في وجوه الجالسين في المقاصير المقابلة لهما، فإن وجدا وجهًا جميلًا تغامزا وتهامسا، أو قبيحًا ضحكا وسخرا، ثم علا صوتهما بالضحك والسخرية، فلم تلبث «سوزان» أن اشتركت معهما، ثم تبعتها بعد قليل ماجدولين، ولم يكن ذلك من شأنها أو مما يلتئم مع مزاجها، ولكنها فعلته مجاملة لهما، ثم لم تلبث أن طربت لهذا الأسلوب من المجون وأنست به، فأخذت فيه أخذهما، وبينا هي تقلب نظرها في المقاصير المجاورة لمقصورتها إذ رأت امرأة في سن الشيخوخة تلبس زينة الفتيات وحليتهن، فلفتت نظر أصدقائها إلى ذلك، فضحكوا لفطنتها ضحكًا عاليًا رنانًا، لا لأن هناك فطنةً تستحق الإعجاب والإطراء، بل لأنهم أرادوا أن يجازوها مجاملةً بمجاملة، ومصانعةً بمصانعة، فخدعها هذا الإطراء، فاسترسلت في نكاتها ومجونها حتى كادت تستأثر بالحديث وحدها من دونهم جميعًا.

وإنهم لكذلك إذ هتف «ألبرت» وأشار إلى رجلٍ جالس على كرسي في مؤخرة الصفوف وقال: هل رأيتم أعجب من هذا القرد اللابس ثوب الإنسان؟ فقال «اشميد»: أذكر أني رأيت هذا الوحش المستأنس مرة قبل اليوم ولا أدري أين رأيته؟ وقالت «سوزان»: أظنه قدم الملعب الساعة، فإني لم أَرَهُ قبل هذه اللحظة، وما أحسبه إلا الشيطان الذي كانوا يخيفوننا به صغارًا ولا نراه، فقال «اشميد»: إن حلته وإن كانت ثمينةً فاخرة فهي من الحلل التاريخية التي لا يلبسها إلا الممثلون، فأجاب «ألبرت»: لعله سرقها من قبور الفراعنة أو دور الآثار، فإن من يملك مثل هذه الحلة الثمينة لا يعجز أن يشتري مشطًا يمشط به شعره المشعث، فقالت «سوزان»: لا عار على الرجل أن يكون قبيحًا، ولكن القبيح أن يلبس ثيابًا جميلة تختلف صورتها عن صورته فتلفت الأنظار إلى قبحه ودمامته، ثم التفتوا جميعًا فرأوا ماجدولين قد تراجعت إلى الوراء وهي ترتعد وتضطرب وقد استحالت حمرة وجهها إلى صفرةٍ كصفرة الموت، فسألوها ما بالها؟ فزعمت أنها مقرورةٌ وأنها تشعر برعدة في جسمها، ودوارٍ في رأسها، ولم تكن صادقةً فيما تقول، ولا يمكن أن تصدقهم فيما تقول؛ لأن الرجل الذي يسخرون منه ويتناولونه منذ حين بألسنتهم ويذهبون كل مذهبٍ في تحميقه وتجهيله والسخرية به؛ إنما هو خطيبها الذي تحبه وتستهيم به، فأمسكوا عن الضحك هنيهة وأقبلوا عليها يعللونها حتى هدأ ما بها، فانصرفوا إلى الرواية يشاهدون فصولها، وعادت هي إلى مجلسها الأول، وظلت تخالس «استيفن» النظرة بعد الأخرى حتى انتبه لها فحياها بابتسامةٍ خفيفة لم يشعر بها أحدٌ غيرها، ثم ما لبثت الرواية أن انتهت فنهضوا للانصراف، وألقت ماجدولين على «استيفن» نظرة ضمنتها معنى شكرها إياه على اهتمامه بها، وحضوره لرؤيتها، ثم انصرفوا.

(٥١) الرجل والمرأة

ينظر الرجل إلى المرأة في حبه إياها بعينٍ غير العين التي تنظر بها إليه في حبها إياه، فهو يراها أداته الخاصة به التي لا حق لإنسان غيره في التمتع بها بوجهٍ من الوجوه، ويرى أن حقًّا عليها أن تختصه بجميع مزاياها وصفاتها، فلا تقع على حسنها عينٌ غير عينه، ولا تسمع رنة صوتها أذنٌ غير أذنه، ولا يشعر بروعة جمالها قلبٌ غير قلبه، فيغار عليها من النظرة واللفتة، وكلمة الاستحسان، وبسمة الإعجاب، ويخيل إليه أن الناظرين إليها والمحتفلين بها والمتحدثين بأحاديث حسنها وجمالها إنما هم قومٌ جناةٌ متلصصون قد مدوا أيديهم إلى خزانة ذخائره التي يملكها وحده من دون الناس جميعًا، فاختلسوا من جواهرها جوهرةً لا حق لهم فيها، وفازوا بها من دونه، فيُلِمُّ بنفسه من الألم والامتعاض ما يلم بنفس الشحيح المختل إذا رأى السابلة تفر من حر الهاجرة إلى جدران داره لتستذري بظلالها ساعة من الزمان، وإن لم يضره ذلك شيئًا، وقد يكون من أشهى الأشياء إلى نفسه وأعجبها إليه أن يرى الناس قد أجمعوا رأيهم على استقباحها والزراية عليها ووصفها بأقبح الصفات وأشنعها، وأنها قد أصبحت في نظرهم ضحكة الضاحكين، وآية السائلين، حتى يكون جمالها سرًّا من الأسرار الخفية، لا تراه عينٌ غير عينه، ولا يبلغ صميمه نفسٌ غير نفسه.

أما المرأة فتنظر إلى الرجل الذي تحبه نظرها إلى حليتها التي تلبسها وتعتز بها وتدل بمكانها على أترابها ونظائرها، فلا أوقع في نفسها ولا أشهى إلى قلبها من أن تسمع الرجال يقولون عنه إنه رجل عظيم، والنساء يقلن عنه إنه فتى جميل، فهي تحبه لخيلائها وكبريائها أكثر مما تحبه للذاتها وشهواتها، وترى في إعجاب المعجبين به وافتنان المفتتنات بحسنه وجماله اعترافًا منهم بحسن حظها وسطوع نجمها، واكتمال أسباب سعادتها وهنائها، وهذا كل ما يعنيها من شئون حياتها.

لذلك شعرت ماجدولين بلوعة الحزن في أعماق قلبها حينما عرفت أن حليتها التي كانت ترجو أن تفاخر بها أترابها غدًا وتكاثرهن بحسنها وجمالها، قد بدأتها العيون، واقتحمتها الأنظار، وسخر منها الرجال والنساء جميعًا، وظلت تفكر في ذلك ساعةً كابدت فيها من آلام النفس ولواعجها ما تكابد نفس المحتضر في ساعته الأخيرة، ثم لم تلبث أن عادت إلى نفسها وظلت تقول: إنهم لا يعرفون من أمره شيئًا، ولو أنهم علموا من شأنه بعض الذي أعلم، وعرفوا ما تنطوي عليه جوانحه من الفضائل والمزايا، لأعظموا منه ما استصغروا، وأجلوا ما احتقروا، ولأنزلوه من نفوسهم المنزلة التي يستحقها فضله وكرمه.

وهنا ذكرت آماله وأحلامه، وبؤسه وشقاءه، وما يكابده في حياته من شدةٍ وبلاء في سبيل عيشه مرة وحبه أخرى، فبكت رحمةً وإشفاقًا عليه.

وهكذا أخذ حبها يستحيل إلى رحمة وشفقة، والحب إذا استحال إلى هذين فقد آذن نجمه بالأفول.

(٥٢) من استيفن إلى ماجدولين

رأيتك يا ماجدولين بعد افتراقنا عامًا كاملًا، وكانت ساعةً من أسعد الساعات وأهنئها، فغفرت للدهر من أجلها كل سيئاته عندي، بل نسيت عندها أنني ذقت طعم الشقاء ساعةً واحدة في يوم من أيام حياتي، وظللت أقول في نفسي: هذا شأني ولم أَرَهَا إلا لحظة واحدة على البعد، فكيف بي إذا أصبحت كل ساعات حياتي ساعات لقاء واجتماع؟ إني أذكر ذلك يا ماجدولين فيُخيل إليَّ أن قلبي أضعف من أن يحتمل هذه السعادة كلها، وأنها يوم توافيني ستذهب إما بعقلي أو بحياتي.

عفوًا يا صديقتي، فقد أذنبت إليك بيني وبين نفسي ذنبًا لا بد لي من أن أعترف لك به حتى لا أكون قد أذنبت إليك ذنبًا آخر بكتمانه وإخفائه.

تركت «جوتنج» وقلبي يخفق رعبًا وخوفًا أن تكون الحياة الجديدة التي انتقلت إليها قد نالت من نفسك منالها من نفوس الفتيات الضعيفات اللواتي تتلون قلوبهن وأهواؤهن بلون الهواء الذي يستنشقنه، والجو الذي يعشن فيه، فلما رأيتك ورأيت تلك السحابة السوداء من الحزن التي كانت تغشى وجهك وتظلله، ومنظر عينيك الساجيتين المنكسرتين المملوءتين كآبة وحزنًا، علمت أني مخطئٌ في هواجسي وظنوني، وأن المكان الذي شغلته من قلبك لا يزال آهلًا بي كعهدي به، وأن تلك الريبة التي عرضت لنفسي فيك إنما هي وساوس الحب وأوهامه، غير أن لي عندك أمنيةً واحدة أحب أن تأذني لي بذكرها، وأن تنوليني إياها.

رأيتك في الملعب تلبسين ثيابًا رقيقة ناعمة تشف عن ذراعيك وكتفيك ونحرك، وتكاد تنم عن صدرك وثدييك، ورأيت الأنظار حائمة حولك تكاد تنتهبك انتهابًا، فاشتد ذلك عليَّ كثيرًا، وألم بنفسي من الغيظ والألم ما الله عالمٌ به، وما أحسب أنك كنت راضيةً عن نفسك في هذا المنظر الذي ظهرت به بين الناس، ولكنك خضعت فيه لرأي النساء، ورأيهن في هذا الشأن أخيب الآراء وأطيشها، فرجائي عندك أن تنزعي عنك هذه الشفوف المهلهلة، وأن تعودي إلى ثيابك القروية الأولى، صونًا لجسمك من عبث الأنظار وفضولها، فليس يكفيني منك أن تهبيني قلبك وتؤثريني بمحبتك، بل لا بد لك من أن تذودي عنك قلوب الرجال وأفئدتهم، فلا تجعلي لها سبيلًا إلى الافتتان بك، أو الاهتمام بشأنك، لا بالبشاشة والوداعة، ولا بالتزين والتحلي، ولا بالتجمل والتأنق، واعلمي أن المرأة لا تخلص للرجل الذي تحبه الإخلاص كله حتى تؤثره بجميع مزاياها وصفاتها، فلا تحفل برأي أحدٍ فيها غير رأيه، ولا تنزل منزلة الرضا في قلبٍ غير قلبه، ولا تأذن لكائنٍ من كان أن يقول لها في وجهها، أو بينه وبين نفسه، أو في رُؤَاه وأحلامه: إنها جميلةٌ أو فتانةٌ، أو ما أظرفها وأبدعها! حتى توافيه طاهرةً نقية كاللؤلؤة المكنونة التي يلتقطها ملتقطها من صدفتها.

تحيتي إليك وإلى السيدة «سوزان»، وسأذهب مساء كل أحدٍ إلى الملعب لأراك، وألتمس السبيل إلى لقائك.

(٥٣) الدسيسة

دخلت «سوزان» على ماجدولين في غرفتها فرأتها جالسةً جلسة الحزين المكتئب، ورأت ذلك الكتاب في يدها فاختطفته منها قبل أن تتمكن من إخفائه، فقرأته ثم ابتسمت وقالت لها: لم يبقَ على خطيبك هذا يا ماجدولين سوى أن يأمرك بأن تشوهي وجهك، أو تفقئي إحدى عينيك، أو تجدعي أنفك، أو تهشمي مقدم أسنانك، حتى تَبْذَأَكِ العيون، وتقتحمك الأنظار، وتقشعر لرؤيتك الأبدان، فلا يجرؤ أحد على أن يقول لك بلسانه، أو بينه وبين نفسه: إنك جميلةٌ أو فتانةٌ، وأن تحملي بيدك قيثارةً رنانة تطوفين بها أنحاء البلاد كما كان يفعل شعراء اليونان والرومان في عصورهم الأولى وتتغنين عليها بمدحه والإشادة به، وتنشدين أناشيد الثناء على حسنه وجماله، فما أقل عقله، وأقصر نظره، وأجهله بالحياة وشئونها! إني لأحسبه قد أعد لك في بيته منذ الساعة قفصًا من حديدٍ يستقبلك به يوم تزفين إليه ليسجنك فيه، ثم يقف على بابك حارسًا يقظًا يصونك من عبث العيون وفضول الأنظار، فلا ترين إلا وجهه، ولا تسمعين إلا صوته، ولا تشعرين بوجود أحدٍ في العالم سواه.

فقالت ماجدولين: إنك تتهمينه يا سيدتي بما ليس فيه، فهو من أحسن الناس أدبًا، وأشرفهم نفسًا، وأطيبهم قلبًا، ولكنه محبٌّ، وكل محبٍّ غيورٌ، قالت: أعاذني الله وإياك من حبٍّ يختلس الحياة اختلاسًا، ويأتي عليها بأسرع من ضربة السيف، وكَرَّةِ الطَّرْفِ، والله لو جاء في خطبتي ملكٌ من ملائكة السماء يحمل على رأسه تاج الملأ الأعلى ويمهرني بالجنة التي أعدها الله للمتقين وما فيها من حورٍ وولدانٍ وروحٍ وريحان ويعدني بالخلود الدائم والنعيم الذي لا يفنى على أن يضعني في قفصٍ مثل هذا القفص الذي أعده لك هذا الخطيب المَأْفُون لآثرت موت الفجأة والتغلغل في أعماق السجون والفرار إلى أديرة الصحاري المنقطعة على الرضا به، والنزول على شرطه.

ثم نهضت قائمة وقالت: محالٌ أن أخاطر بك وبمستقبلك يا ماجدولين، وأن أتركك فريسة في يد هذا الوحش المفترس، ينغص عليك عيشك، ويكدر صفو حياتك، ويقتطف زهرة شبابك الغضة قبل أوانها، ثم حيتها وانصرفت إلى مخدعها.

فقضت ماجدولين بعد انصرافها ليلةً ليلاء لا تستريح فيها من الضجعة إلا إلى القعدة، ولا من القعدة إلا القومة، تتلمس بارقة الصواب في هذه الدجنة الحالكة فلا تهتدي إليه، وتقلب أمرها ظهرًا لبطنٍ فلا يزيدها التلقيب إلا جهلًا، حتى غلبتها السنة على عينيها فنامت.

(٥٤) من أوجين إلى استيفن

صدر أمر القيادة العليا للتهيؤ للسفر بعد بضعة أيام إلى جهةٍ لا نعرفها، ويقول ضابطنا: إن هناك ستكون الواقعة الكبرى التي يفصل فيها في مستقبل الحرب، ولا أعلم ماذا يعده القضاء لي في ذلك اليوم، فإن قدر لي الله النجاة فسأكتب إليك، وإن كانت الأخرى فستقرأ اسمي بين أسماء القتلى في جريدة الحرب، ولا يحزنك في ذلك اليوم مصيري، فهو مصير كل رجلٍ شريف.

لي إليك حاجةٌ يا «استيفن» أرجو ألا تضن عليَّ بها: قد بَلِيَ سرجي ووهت علائقه، ولم يبقَ معي من المال — بعد ما أنفقت عطائي كله في هذا الشهر بين اللعب والشراب — ما أبتاع به سرجًا غيره، فابعث إليَّ بعشرين فرنكًا قبل مرور عشرة أيام، فإن فاتك أن ترسل إليَّ في ذلك الوقت فلا ترسل إليَّ شيئًا، فإنه لا يصلني، وتحيتي إليك وإلى السيدة ماجدولين.

(٥٥) العرس

استطاع «استيفن» بعد سفر صديقه «إدوار» أن يستفضل جزءًا من مرتبه الشهري، فاجتمع له بعد بضعة أشهرٍ خمسون فرنكًا، استأجر بسبعة منها الحلة التي ذهب بها إلى ملعب الأوبرا لرؤية ماجدولين، وابتاع بخمسة تذكرة الملعب، غير ما أنفق على طعامه وشرابه وسفره، وبقي معه بعد ذلك اثنان وعشرون فرنكًا، فلما عاد إلى «جوتنج» لبث بضعة أيام ينتظر كتابًا من ماجدولين ردًّا على كتابه الأول فلم يأته، فساء ظنه، ووقع في نفسه أنه قد أغضبها وآسفها فيما كتب به إليها، فاشتد حزنه وغمه، وكتب لها رسالة أخرى يعتذر إليها فيها عما ورد في رسالته الأولى، فكتبت إليه أنها كانت عاتبة عليه في سوء ظنه بها، واشتداده في مؤاخذتها، وأنها قد قبلت عذره، وسألته ألا ينقطع عن زيارة الملعب لتراه، فعزم على أن يسافر يوم الأحد ليراها ويلتمس السبيل إلى مقابلتها بكل وسيلة، ليجدد لها اعتذاره بنفسه، ويشكر لها صفحها عنه ورضاها.

فبينما هو جالس في غرفته صباح اليوم الذي عزم فيه على السفر إذ جاءه كتاب أخيه، فحزن عند قراءته حزنًا شديدًا، وذكر أنه لا يملك من متاع الدنيا غير هذه القطع القليلة وأنه في حاجة إليها لينفقها على زيارة ماجدولين، فلبث حائرًا لا يدري ماذا يصنع، ثم غلبته عاطفة الحب على كل عاطفة سواها، فقام ليهيئ نفسه للسفر، وابتاع نعلًا جديدة؛ لأن نعله القديمة كانت قد بليت وبلغت آخر درجات الاحتمال، فعجز عن استئجار الحلة التي استأجرها في المرة الأولى، فلم يجد بدًّا من أن يستصلح حلته التي يلبسها، فرتق فتوقها، وصبغ بالمداد الأسود ما ابيض من خيوطها، ثم ركب عجلةً وسافر إلى «كوبلانس» في الساعة الأولى من الليل، فأكل في بعض المطاعم الصغيرة، ثم ذهب إلى الملعب فلم ير ماجدولين في مقصورتها، فلم يقلق لذلك كثيرًا وقال: لعل لها شأنًا شغلها عن التبكير، وهي آتية ما من ذلك بدٌّ، وأقبل على المسرح يتلهى بالنظر إلى فصوله، فرأى بين القطع الممثلة مشهد رجلٍ من أرباب الثراء والنعمة قد استهام بحب امرأة واستهامت به، ثم نزلت به نكبةٌ من النكبات المالية فتنكرت له، وبرمت به، وعزمت على مقاطعته والرحيل عنه، فجثا الرجل بين يديها يستعطفها ويسألها ألا تفعل، فأبت وصارحته بالسبب الذي يدعوها إلى مقاطعته، وقالت له فيما قالت: «إن المرأة لا تحب الرجل أبدًا، بل تحب فيه نفسها، فإن كان من أرباب المال أحبت فيه زينتها ولهوها، أو من أرباب الجمال أحبت فيه لذتها وشهوتها، فإن لم يكن أحد الاثنين، فهي لا تحب إلا هذين.» فاشمأز «استيفن» عند سماع هذه الكلمة، وقال في نفسه: إنهن يمثلن أخلاق البغايا الفاسقات، ويزعمن أنهم يمثلن أخلاق النساء عامة، ها هي ذي ماجدولين تكاد تعبدني حبًّا، وما أنا من أرباب الجمال فتحب فيَّ شهوتها، ولا من أرباب المال فتحب فيَّ زينتها، ولقد أراد الله بها خيرًا إذ كفاها مئونة سماع هذه الكلمات المنفرة، ولو سمعتها لآلمتها ونالت من نفسها منالًا عظيمًا.

ثم انتظر بعد ذلك ساعة فلم تأتِ، فلم يبقَ له أملٌ في مجيئها، وعلم أن هناك شأنًا عظيمًا عرض لها فشغلها عن الحضور، فاشتد عليه الأمر كثيرًا، ورأى ألا بد له من الوقوف على شأنها قبل العودة إلى قريته، وخشي أن تكون مريضة، فخرج من الملعب ومشى في طريق قصر «سوزان» وهو لا يعلم كيف يلتمس السبيل إلى الوصول إليها حتى داناه، فرأى أنوارًا كثيرة تتلألأ في أبهائه وحجراته، وتتدفق من نوافذه وكواه، وسمع ألحانًا مختلفة تتردد في أنحائه، ورأى الخدم رائحين غادين في صحونه وأفنيته يحملون على أيديهم آنية الشراب وصحف الطعام، فعلم أنها وليمةٌ عامة، ولكنه لم يدر ما المراد بها، فدنا من الباب، فرأى عجلات كثيرة مصطفةً أمامه، ورأى حوذيًّا متكئًا على كرسي عجلته، فسأله: ما هذه الليلة الحافلة في هذا القصر؟ فصعد الرجل نظره فيه وصوبه ثم قال له وهو لا يفارق متكأه: إنه عرس السيدة «سوزان» ابنة صاحب هذا القصر، فاطمأن وهدأ، وعلم أن ما بصحابته من بأس، وعزم على الانصراف، ثم حدثته نفسه أن يحتال لرؤيتها ولو على البعد لحظة واحدة قبل انصرافه، فمشى إلى ظلةٍ دانية من ظلل القصر فوقف تحتها يفكر في الوسيلة التي يتذرع بها إلى الدخول، فما لبث أن رأى عجلةً مقبلة تحمل بعض الكبراء، ورأى الخدم يهرعون إليها فانفتل من مكانه واختلط بهم كأنه واحد منهم، ولا تختلف هيئته عن ذلك إلا قليلًا، ثم نزل الزائر فمشى بين يديه مع الماشين حتى اجتازوا فناء القصر ووصلوا إلى قاعة الرقص، فدخل الرجل ودخل معه الخدم وبقي هو وحده على الباب يستشف من ألواح زجاجه ما وراءها من المناظر، فرأى الراقصين والراقصات يسبحون في بحر من الهناء والسرور، ويطيرون في أجواء مختلفة من اللذائذ والمناعم، فظل يدير عينيه بينهم يفتش عن ماجدولين حتى لمحها ترقص مع رجلٍ، فتبينه فإذا هو صديقه «إدوار»، فلم يَأْبَهْ لذلك كثيرًا، إلا أن ما راعه وأزعجه وكاد يطير بلبه أنه رآها ترقص في ثوب رقيقٍ شفافٍ لا يكاد يحجب جارحة من جوارحها، وخيل إليه أن صدرها ملتصق بصدر مخاصرها، وأن رأسها ملقى على كتفه، وخدها تحت متناول لثماته، وأنه يحتضنها أكثر مما يخصرها، فَأَنَّ أنينًا مؤلمًا وقال في نفسه: ماذا فعلت بك الأيام يا ماجدولين؟

وحدثته نفسه أن يقتحم الباب ويتغلغل بين الزائرين حتى يبلغ مكانها ويلقي عليها نظرة عتبٍ وتأنيب ثم يعود أدراجه، ولكنه استحيا لها ولنفسه أن يراه الناس في هذه الأثواب الجافية الغليظة، فتماسك على مَضَضٍ، وأنشأ يسري عن نفسه ويقول: هذا شأن جميع الراقصين والراقصات، وهذه أثوابهم التي يلبسونها، ومواقفهم التي يقفونها، برهم وفاجرهم، تقيهم وعاهرهم، فلا ألومها ولا أعتب عليها، فلتلبس ما تشاء من الثياب، ولترقص مع من تشاء من الرجال، فحسبي منها أني أنا الشخص الوحيد الذي يُتَيِّمُها ويملأ فراغ قلبها من بين هؤلاء جميعًا.

ثم أعاد النظر مرة أخرى فرآها قد فرغت من الرقص ومشت هي و«إدوار» إلى مقعد قريب من الباب فجلسا عليه، فلم ير في مجلسهما بأسًا ولا مسترابًا، فهدأ ثائره، بل أعجبه ما رأى من عناية صديقه بها، وعطفه عليها، وخيل إليه أنه ما رقص معها ولا احتفل بها إلا من أجله، وأنهما ما اجتمعا على هذا المقعد في هذه الساعة إلا ليتحدثا بشأنه ويتذكرا أيامه ووعوده، ثم ما لبث أن لمح في أصبعها خاتمًا فتبينه فإذا هو الخاتم الذي نسجته من شعره، والذي لا تزال تحدثه عنه في رسائلها كلما كتبت إليه، فاغتبط بذلك اغتباطًا عظيمًا ولم يبق في نفسه من ذلك الخاطر المؤلم الذي مر بذهنه منذ ساعة أثر واحد.

وإنه لكذلك إذ دُفع الباب بغتةً وخرج منه فتًى متأنقٌ من الزائرين يهز في يده سوطًا مستطيلًا، فرآه واقفًا فظنه بعض الخدم، فصرخ في وجهه بلهجة الآمر أن يدعو له سائق عجلته، وسماه له، فارتبك قليلًا، ثم لم ير بدًّا من الامتثال مخافة أن ينكشف من أمره ما كان خافيًا، فهرع إلى الباب الخارجي يهتف باسم غير الاسم الذي سمعه، وكان قد نسيه، فأدركه الفتى وقد طار الغضب في دماغه فضربه بالسوط على وجهه ضربة أدمته، وأخذ يسبه ويشتمه، فاحتمل «استيفن» تلك الضربة صامتًا، ومشى في طريقه لا يلوي على شيءٍ.

وما أبعد إلا قليلًا حتى انحدرت من جفنه دمعة جرت على خده فأصابت موضع الضربة منه فآلمته، فهتف صارخًا: ماذا لقيت في سبيلك يا ماجدولين؟!

(٥٦) المريض

عاد «استيفن» إلى «جوتنج» فوجد كتابًا من قريبه الذي كان قد أحسن إليه بتلك القطع الذهبية يوم خروجه من «كوبلانس» شريدًا طريدًا يقول له فيه: إنه مريض مشرفٌ على الموت، وإنه يحب أن يراه بجانبه في ساعته الأخيرة، فرثى له وحزن عليه حزنًا شديدًا، ورأى ألا بد له من موافاة رغبته في الذهاب إليه، فاستأذن المدرسة في بضعة أيام يقضيها بجانبه، فلم تأذن له إلا بثلاثة، فسافر إليه، وكان يسكن وحده بيتًا في ضاحية من ضواحي «كوبلانس» لا يرى فيه إلا وجه خادمه وطبيبه، وكانت زوجته قد ماتت منذ عهد قريب، وليس له من الأقارب الأدنين غير ابن عم له من قساة الأغنياء وجفاتهم، لا يحبه ولا يحفل بشأنه، فدخل عليه «استيفن» في ساعة من ساعات الليل فرآه ساهرًا يئن من الآلام والأوجاع، وقد نال منه الداء منالًا عظيمًا، فأصبح لا يستطيع النطق إلا همهمةً وتجمجمًا، فجلس بجانبه يتوجع له ويواسيه حتى استطاع الرجل بعد لَأْيٍ أن يقول له: لقد مرت بي بضعة أشهرٍ وأنا طريح هذا الفراش لا أفارقه لحظة واحدة حتى مللت وبرمت، وأصبحت أخشى غائلة الضجر أكثر مما أخشى غائلة المرض، فلا تفارقني بعد اليوم حتى يحكم الله في أمري بما يشاء.

فلبث معه الثلاثة الأيام التي أجازوه بها ثم عزم على العودة، فتوسل إليه المريض بانكسار عينيه وترقرق الدمع فيهما ألا يفارقه حتى يقضي الله في أمره بقضائه، وكان قد ثقل وأصبح على حالةٍ لا تُرجَى له معها الحياة، فتذمم «استيفن» أن يفارقه على حاله تلك، وكتب إلى المدرسة يستأذنها في بضعة أيام أخرى يتخلفها وأدلى إليها بعذره في ذلك، ولبث ينتظر جوابها فلم يَأْتِهِ، واشتد به القلق، ثم جاءه منها بعد حين كتابٌ تقول له فيه: إنها لم تَرَ بدًّا من الاستغناء عنه والاستبدال به، وإنها قد أرسلت إليه ما بقي له عندها من مرتبه، فما أتى على آخر الكتاب حتى صاح صيحةً كادت تنقد لها أضالعه وسقط مغشيًّا عليه وهو يقول: «رحمتك اللهم فقد عجزت عن الاحتمال!»

(٥٧) الموت

نامت العيون وهدأت الجنوب في مضاجعها، وسكنت كل ساريةٍ في الأرض، وكل سابحةٍ في السماء، وظل «استيفن» ساهرًا وحده بجانب مريضه المحتضر يسمع حشرجة الموت في صدره ترن في هدوء الليل وسكونه، فيخيل إليه أنه واقف في وسط فلاة موحشة تعزف جنانها، وتزمجر غيلانها فامتلأت نفسه رهبةً ووحشةً، وأن هناك معركة قائمة بين الروح والجسد، تأبى إلا أن تفارقه، ويأبى إلا أن يتشبث بها، فيدركه من التعب والنصب ما لا يحتمله محتملٌ، حتى عَيَّ بأمرها، فتساقط خائرًا مستسلمًا لا تطرف له عين، ولا ينبض له عرقٌ، فوضع «استيفن» أذنه على صدره فلم يسمع شيئًا، فعلم أن الأمر قد انقضى، وأن الراقص قد ألقى قناعه، والممثل قد خلع ثوب تمثيله، وأن عنصري الحياة قد افترقا وعاد كلٌّ منهما إلى أصله، فطار منهما ما طار، ورسب ما رسب، فجثا بجانب الميت يرثيه ويتوجع له، ويبكي عليه مرة وعلى نفسه أخرى، ومرت أمام نظره في تلك الساعة رواية حياته الماضية من مبدئها إلى منتهاها، فظل يقرؤها صفحة صفحة، ويقلب نظره في سطورها وكلماتها، فرأى بؤسًا وشقاءً، وأحزانًا ودموعًا، وجدودًا عاثرة، ونحوسًا متتابعة، حتى انتهى إلى الصفحة الأخيرة منها، فقرأ فيها كتاب العزل الذي جاءه من المدرسة، فانتفض عند قراءته انتفاضًا شديدًا، وصاح صيحة عظيمة دوت بها أرجاء الغرفة قائلًا: ما هذا! هل فقدت ماجدولين؟ ثم أطرق إطراقًا طويلًا لا يعلم إلا الله أين سبحت نفسه فيه، ولبث على ذلك ساعة، ثم رفع رأسه فإذا عيناه جمرتان ملتهبتان، وإذا وجهه أسود مربدٌّ كأنما قد لبس نسيجًا غير نسيجه، فدار بنظره في أنحاء الغرفة دورة الحية الرقطاء بجوهرتيها في جنبات جحرها حتى وقع على خزانة المال التي كان يأمره الميت في حال مرضه بالإنفاق منها، فعلق بها ساعة لا ينتقل عنها ولا يتحول، كأن عينيه قد استحالتا إلى مسمارين لامعين من مساميرها، ثم وثب على قدميه فجأة وقد أصابه مثل الجنون وهتف صارخًا: لا بد لي من النجاح في حياتي، ولا أسمح لعقبةٍ من العقبات مهما كان شأنها أن تقف في طريقي، وإن الدهر لأعجز من أن يعترض سبيلي، أو يغلبني على أمري، فهو لا يغلب إلا الضعفاء، ولا يقهر إلا الأغبياء، وما أنا بواحدٍ منهم، وإن من الجبن والخور أن أضع حياتي بين يديه يتصرف بها كيف يشاء، فلأكن أنا دهرًا وحدي، أتولى شأن نفسي بنفسي، وأتصرف بحياتي على الصورة التي أريدها، لا أتقيد بقانونٍ ولا نظام، ولا أسجن نفسي في هذه الدائرة الضيقة التي يسمونها الفضيلة؛ فما سقط الساقطون في معترك الحياة، ولا داستهم أقدام المعتركين فيه إلا لأنهم وقفوا من الميدان في نقطة واحدة لا يتحولون عنها ولا يتلحلحون فلم ينتبهوا إلى الضربات المختلسة التي جاءتهم من خلفهم فقضت عليهم، ولو أنهم داروا مع المعركة حيث دارت، وتقلبوا في جنباتها كرًّا وفرًّا لظفروا بالغنيمة مع الظافرين، ولنجوا من غائلة الموت الزُّؤَام.

لا رذيلة في الدنيا غير رذيلة الفشل، وكل سبيلٍ يؤدي إلى النجاح فهو سبيل الفضيلة، وما نجح الناجحون في هذه الحياة إلا لأنهم طرقوا كل سبيلٍ يؤدي إلى نجاحهم فاقتحموه غير متذممين ولا مُتَلَوِّمين، وما سقط الساقطون فيها إلا لأنهم تأثموا وتحرجوا وأطالوا النظر والتفكير، وقالوا: هذا حلال وهذا حرام.

من هم الذين يملكون الدور والقصور، والضياع الواسعة، والرباع الحافلة، والذين تموج خزائنهم بالذهب موج التنور باللهب؟ أليسوا اللصوص والمجرمين الذين يسمون أنفسهم ويسميهم الناس سَراةٌ ووجوهًا؟

من هم الذين يسهرون الليل طاوين لا يطرق النوم أجفانهم، ويقضون أيامهم هائمين على وجوههم، يفتشون عن الرزق في كل مكانٍ فلا يظفرون منه باللقمة أو الجرعة إلا إذا أراقوا في سبيلها محجمًا من دماء قلوبهم؟ أليسوا الأشراف والفضلاء الذين يسميهم الناس — ويسمون أنفسهم معهم — رعاعًا وغوغاء؟

أنا لا أعترف بقانون الملكية ولا قانون الوراثة؛ لأن المالكين سارقون، ولأن الوارثين أبناء السارقين، فلا أسمي نفسي ظالمًا إلا إذا ظلمت عادلًا مستقيمًا لم يظلم في حياته نملةً في حبة شعير يسلبها إياها.

إن نشاط الرذيلة وشطاطها أحرص من أن يترك للفضيلة المتئدة المترفقة في سيرها شيئًا وراءه تبلغه فتلتقطه، فلأغامر في ميدان هذه الحياة مغامرة، فإن ظفرت فذلك ما رجوت، أو لا، فقد أبليت في حياتي عذرًا.

وكان يهذي بأمثال هذه التصورات وهو يضرب في أرجاء الغرفة ذهابًا وجيئة بخطوات واسعة متلاحقة، ثم وقف بغتةً وألقى نظره على الجثة المسجاة أمامه وقال: لقد أصبحت ميتًا أيها الرجل، فلا يعنيك من المال الذي تركته وراءك شيء، ولا شأن لك بمن يخلفك عليه من بعدك أكان صديقك أم عدوك، أم أقرب الناس إليك، أم أبعدهم عنك، ولقد كان جديرًا بك وأنا صديقك وحميمك الذي واساك وجاملك في ساعاتك الأخيرة، وقام لك بما لم يقم لك به صديقٌ ولا حميمٌ، حتى أضاع آماله ومستقبل حياته في سبيلك، أن توصي إليه بمالك، فهو أحوج إليه من ابن عمك السعيد المجدود الذي لا يبالي أزاد مالك على ماله أم نقص منه؟ فأنا قائم عنك بعد موتك بما فاتك أن تقوم به في حياتك.

ثم أدار ظهره إلى الجثة ومشى إلى الخزانة وكانت على كثبٍ منه، فوضع يده على مفتاحها فشعر برعدةٍ شديدة تتمشى في أعضائه، وخيل إليه أن الغرفة كلها عيون ترقبه وتحدق في وجهه، وأن روح الميت تلقي عليه من نوافذ جثتها نظرات شزراء ملتهبة يكاد أُوَارُها يصل إليه فيحرقه، فتريث في مكانه قليلًا ثم تماسك واستجمع لبه وأناته وأدار المفتاح، فدار الباب على عقبه وصر في دورانه صريرًا خشنًا، فارتعد وتمثل له أن صوتًا أجش من أصوات الحراس الأشداء يهتف به ويخاشنه، فابتعد عن الباب خطوة، ثم التفت يَمْنَةً ويَسْرَةً فلم يرَ شيئًا، فقال: إنها خيالات الشقاء تلاحقني في كل مكان، ومد يده إلى الأوراق يقلبها على نور مصباح ضعيف كان في يده حتى عثر بالسفاتج التي يريدها، فما وضع يده عليها حتى شعر أن دمه الذي كان يغلي في عروقه غليان الماء في مرجله قد هدأ وبرد، حتى كاد يقف عن الجريان، وأن قطراتٍ باردةً من العرق تتحدر من جبينه على وجهه متتابعة، وأحس في نفسه بذلك السكون العميق الذي يشعر به الهائج المصروع بعد استفاقته من صرعته.

وقد خيل إليه أن الخزانة التي أمامه تهتز وتضطرب ويموج بعضها في بعضٍ، ثم ما لبثت أن استحالت إلى مرآةٍ صقيلةٍ لامعة، فوقع نظره على صورته فيها، فامتلأ قلبه خوفًا وذعرًا، وأنكرت نفسه نفسه، فقد رأى في أسارير وجهه تلك السحنة المنكرة التي يعرفها في وجوه المجرمين، ورأى في عينيه تلك النظرات الطائرة الشاردة التي ينظر بها المحكوم عليه بالموت إلى سيف الجلاد حين يلمع فوق رأسه، فظل يرتعد ويضطرب، وظلت الأوراق تتساقط من يده واحدة بعد أخرى، وإنه لكذلك إذ أحس بيدٍ ثقيلة قد وضعت على كتفه، فلم يَأْبَهْ لها في أول الأمر، وظنها بعض الخيالات التي لا تزال تعاوده منذ الليلة، إلا أنه لم يلبث أن أحس ببرودتها فوق كاهله، فتهالك في نفسه وتجمع تجمع المتوقع ضربة هائلة تسقط على أم رأسه، ثم التفت قليلًا قليلًا ليرى ما دهاه، فإذا الميت واقفٌ خلفه عاري الجسم ينظر إليه بعينين جامدتين، فصرخ صرخة عظيمة ودفعه بيده دفعة شديدة فسقط على الأرض بعيدًا عن مضجعه الأول، فرنت عظام رأسه على أرض الغرفة رنينًا شديدًا، فاختبل وأصابه مثل الجنون، وألقى المصباح من يده فانطفأ فازداد رعبه وفزعه، وهرع يطلب الباب للفرار منه فلم يهتد إليه، فظل يعدو في أنحاء الغرفة ويتلمس جدرانها مقبلًا مدبرًا، لا يعثر حتى يقوم، ولا يقوم حتى يعثر، وقد خُيل إليه أن الجثة تعدو وراءه وتتعقبه حيثما ذهب، حتى أعياه الجهد، وعجز عن الحركة، فسقط مغشيًّا عليه.

ولم يكن ما رآه في هذه المرة خيالًا بل حقيقة لا ريب فيها، فقد عاودت الميت الحياة لحظةً ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرأى باب خزانته مفتوحًا، ورأى إنسانًا لا يعرف من هو يقلب أوراقه، فدفعه الحرص الغريزي الذي لا يفارق الإنسان مبدأ ساعات حياته إلى نهايتها إلى الوثوب على قدميه والإهواء بيده على كتف السارق، ثم كان ما كان من سقوطه على أرض الغرفة، فكان في سقطته القضاء عليه.

لم يستفق «استيفن» من غشيته حتى طلع الفجر وأرسل بعض أشعته من نافذة الغرفة، ففتح عينيه وظل ينظر حوله يمنةً ويسرة، فرأى المصباح الساقط والخزانة المفتوحة، والأوراق المبعثرة، والجثة الملقاة، فذكر كل شيء، وقام يتحامل على نفسه، فأعاد كل شيء إلى مكانه، ونقل الجثة إلى مضجعها، وأسبل عليها غطاءها، ولم يلبث أن جاء الطبيب، فلما رأى الصدع الذي في رأس الميت قال لاستيفن: أحسب أن المريض قد ثار من فراشه في ساعته الأخيرة ولم يكن معه من يتولى شأنه فسقط بعيدًا عن مضجعه فأصابه ما أصابه، فارتعد «استيفن» وقال: نعم يا سيدي، ولقد كنت نائمًا في تلك الساعة فلم أستطع مساعدته ولم أستيقظ إلا على صوت سقطته، فاحتملته إلى مكانه، وكان أسفي لذلك عظيمًا، فلم ير الطبيب بأسًا فيما قال، وانصرف لشأنه.

وما انقضى النهار حتى دفن الميت وحضر دفنه وارثه، وسافر «استيفن» إلى «جوتنج» وهو يردد في طريقه قوله: «ويلٌ لي من مجرم أثيم!» فما وصلها حتى كان قد بلغ آخر درجات الاحتمال فسقط في فراشه مريضًا مدنقًا، لا يُفارقه خيال تلك الليلة الهائلة التي كابدها لحظة واحدة.

(٥٨) إدوار

عَلِقَ «إدوار» بماجدولين منذ الليلة التي رآهما فيها «استيفن» من وراء ألواح الزجاج يرقصان معًا، فأنشأ يختلف إلى منزل «سوزان»، وكان يمت إليها بحبل قرابةٍ ليرى حبيبته ويستدني قلبها، وكان من أقدر الناس على مثل ذلك؛ لعذوبةٍ يعرفها له النساء في أخلاقه، وحلاوةٍ تجتذب قلوبهن في أحاديثه، فأنست به وبمحضره، وأعجبها منه أنه كان يسرد عليها كلما جلس إليها أحاديث المحافل والأندية، ويطرفها بغرائبها ونوادرها، ويذكر لها أسماء الراقصين والراقصات وفضل ما بينهم في البراعة والافتتان، ويشرح لها أنواع الرقص غريبَّه وشرقيَّه، قديمه وحديثه، وتاريخ كل نوع منه ومنشأه ومصيره، ويقص عليها قصص الغرام التي تنشأ كل يوم في قاعات الرقص بين النساء والرجال، وكانت حديثة عهدٍ بذلك كله، فلم يكن شيءٌ من الأشياء أعجب إليها من ذكره وترديده، وكان إذا جرى ذكر «استيفن» بينهما أثنى عليه وأطراه، وقص عليها طرفًا من نوادر طفولتهما وصباهما، وما مر لهما في حياتهما الأولى من بؤسٍ ورغدٍ، وشدةٍ ورخاء، ثم يصف لها بلهجة الحزين المتفجع حياة البؤس والشقاء التي يحياها اليوم في «جوتنج» وغرفته التي يسكنها، وأثاثها الذي تشتمل عليه، وثيابه التي يملكها، ثم يتبع ذلك بالتوجع له، والتألم لبؤسه وشقائه، ومحاربة الدهر إياه في مساعيه وأغراضه، فتُصغي إلى حديثه وتقبل عليه إقبالًا عظيمًا.

ولم يزل بها حتى خلبها ووقع من نفسها، وأصبحت لا تكاد تصبر عن مجلسه ساعة، ولا تزال تفتقده وتسائل نفسها عنه كلما غاب عنها، وهي تظن أنها إنما تحبه من أجل «استيفن»، ولو كشف لها عن دخيلة نفسها لعلمت أنها قد بدأت تنسى «استيفن» من أجله.

ولقد أعجبت «سوزان» تلك الصلة التي نشأت بين صديقتها وقريبها، ورضيت عنها الرضا كله، ورأت أن الله قد أراد به وبها خيرًا، فرزقه أفضل الفتيات جمالًا وأدبًا، ورزقها خير الفتيان ثروةٌ وجاهًا، وكانت تعرف شيئًا عن عيوب «إدوار» ولكنها كانت ترى أنها عيوبٌ خاصةٌ به لا تتعداه إلى غيره، وكانت تعتقد أن المرأة لا ترى في زوجها الغني الذي يملأ فضاء بيتها نعمة ورغدًا عيبًا واحدًا مهما كثرت عيوبه، فأنشأت تسعى سعيها للبلوغ بهما إلى الغاية التي تريدها لهما، فأشارت على «إدوار» أن يتودد إلى الشيخ «مولر» ويداخله مداخلة الصديق صديقه، وقالت له: إنه رجل مفتونٌ بحب النبات والزهر، فلا يعجبه إلا الحديث عنهما، ولا ينزل من نفسه المنزلة العليا إلا من يعلم أنه يشاركه في العلم بهما، والاهتمام بأمرهما، وكان «إدوار» قد درس شيئًا من علم النبات في مدرسته، فاستعان ببستاني حديقته على معرفة ما كان يجهله منه، وغرس في حديقة بيته بعض أنواع الزهر الغريبة، وعرف خصائصها وصفاتها، ثم خالط الرجل وداخله، ودعاه إلى بيته وأراه حديقته، ومشى معه في كل مكانٍ، وجاراه في كل حديثٍ، فلم يلبث أن أعجبه ووقع من نفسه، وهكذا أصبح أثيرًا عند الأب وابنته.

(٥٩) سريرة المرأة

ما أبغضت ماجدولين «استيفن»، ولا أحبت «إدوار»، ولكنها لبست حالًا جديدةً لم تكن تلبسها من قبل، فكان لا بد لها من أن تلبس معها جميع آثارها ومتعلقاتها، فقد ألفت المجامع والمحافل، وأنست بالمراقص والملاعب، وصادقت النساء المتحضرات المتأنقات، وغنت كما يغنين، ورقصت كما يرقصن، ومشت في مثل أزيائهن، وتحدثت بمثل أحاديثهن، وفهمت من سعادة الحياة وهنائها المعنى الذي يفهمن، ورأت في الرجال والنساء والصلة التي بينهما الرأي الذي يرين، فتناست «استيفن»؛ لأنه صورةٌ من صور الحياة الماضية التي عفتها واجتوتها، وأحبت «إدوار» لأنه مظهرٌ من مظاهر الحياة الجديدة التي أحبتها وافتتنت بها.

على أنها كانت إذا خلت إلى نفسها، وهدأت عنها ضوضاء الحياة وضجيجها، واستطاعت أن تمد نظرها إلى أعماق سريرتها حتى ترى ما في قرارتها؛ تراءى لها شبح «استيفن» في نحوله واصفراره، وحزنه واكتئابه، وبؤسه وشقائه، ومنظر عينيه الممتلئتين حزنًا ودموعًا، وقلبه المتقد حبًّا وغرامًا، ونفسه الشعرية الهائمة في أودية الهموم والأحزان، فتحن إليه حنين الغريب إلى داره، والشيخ إلى عهود صباه، وتذكر أيامه الماضية التي قضاها معها فتبكي حسرة عليه وإشفاقًا، بل وجدًا به وغرامًا، ثم لا تلبث أن ترى سحابةً بيضاء من النور ماثلة أمام عينيها، فلا تزال تنبسط وتستفيض حتى تشف عن قاعة الرقص التي شهدتها ليلة عرس «سوزان»، فترى الوجوه المشرقة، والثغور الباسمة، والذهب اللامع، والجوهر الساطع، والغلائل المطرزة، والحلل المدبجة، والصدور اللاصقة بالصدور، والأذرع المحيطة بالخصور، والجو المائج بالأنوار، والروض الحافل بالأزهار، وترى العروسين كالفرقدين، يبسمان للسعادة المقبلة عليهما، ويتدفق تيار الحب والصبابة بين قلبيهما، فيتضاءل أمام عينيها ذلك الشبح الأول، ثم لا يلبث ان يتغلغل في ظلمات الوجود الحالكة حتى يغيب عن نظرها، فلا يبقى له عينٌ ولا أثر.

ولقد دخلت «سوزان» عليها صبيحة يوم في غرفتها — وكان قد مضى على زفافها شهران — فقالت لها: أتدرين ما اتفقنا عليه أنا وأبوك ليلة أمس يا ماجدولين؟ قالت: لا، قالت: أن نسافر جميعًا إلى ضياع زوجي في «سان مارك» لنقضي فيها أسبوعين أو ثلاثة، ثم ننتقل إلى «ولفاخ» وهي على بضعة أميالٍ منها فنستضيفكم أسبوعًا واحدًا نقضيه في التنزه بين مزارع القرى ودساكرها ثم نفترق بعد ذلك.

فتهلل وجه ماجدولين فرحًا بتلك السياحة الجميلة التي ستقضيها مع أصدقائها في أجمل البقاع وأبهجها، ثم ما لبثت أن اكتأبت وتَغَضَّنَ جبينها؛ لأنها ذكرت ساعة الفراق القريبة، وأنها ستعود بعد أيام قلائل إلى عزلتها في قريتها، وتعيش فيها عيش الوحشة والوحدة بعيدةً عن «كوبلانس» ومجامعها، ومزدحم الحياة فيها، فاشتد ذلك عليها كثيرًا، وألمت «سوزان» بما دار في نفسها وعرفت مأتاه، إلا أنها تَبَالَهَتْ واستمرت في حديثها تقول: وسيصحبنا في سياحتنا هذه «إدوار»، وسيكون أنسنا به وبعشرته عظيمًا، ألا ترين رأيي في ذلك يا ماجدولين؟ ففهمت ماجدولين مقصدها وأين تريد أن تذهب في حديثها، فقالت: ليذهب معكم من يشاء من أصدقائكم وخلطائكم، فلا شأن لي في ذهاب من يذهب، أو بقاء من يبقى، فابتسمت «سوزان» واستطردت في حديثها تقول: ولقد اتفقنا كذلك على ألا يسافر «إدوار» معنا إلا باسم خطيبك، وقد قطعنا هذا الأمر من دونك؛ لأنا نعلم أنك لا ترين لنفسك إلا الرأي الذي نراه لك، فاضطربت ماجدولين وقالت: «لقد قلت لك يا «سوزان» قبل اليوم إنني لا أستطيع أن أتزوجه.» قالت: لماذا؟ وهل تطمع الفتاة في زوجٍ أفضل منه عقلًا وأدبًا، وشرفًا وجاهًا؟ وهو فوق ذلك يحبك ويستهيم بك، ولا يُؤثر على سعادتك وهنائك غرضًا من أغراض الحياة، ولا مأربًا من مآربها، قالت: ولكنه لا يستطيع أن يحبني محبة «استيفن» إياي، قالت: أما هذه فنعم؛ لأنه يحبك حب العقلاء والأكياس، لا حب النوكَى والمأفونين.

إن هذا الذي تزعمين أنه يحبك ويستهيم بك، لا يحبك، بل يحب فيك المرأة الخيالية التي يتخيلها في ذهنه، والتي لم يخلق الله لها مثالًا في هذا العالم، ولا يعبدك، بل يعبد إلهه الموهوم الذي يظن أنه حالٌّ في جثمانك، كما كان يعبد آباؤنا الأولون آلهتهم الماثلة في جذوع الأشجار وقطع الأحجار.

إنه يتخيلك ملكًا من ملائكة السماء تحيط بوجهه هالةٌ من النور، ويرفرف في جنبيه جناحان أبيضان متلألئان تلألؤ الأشعة، ويحمل بين أضلاعه نفسًا غريبةً عن النفوس في جوهرها ومعدنها، قد جملها الله بجميع صنوف الكمال، وطهرها من أدناس الحياة وأرجاسها، فلا تفهم شهوةً من الشهوات، ولا تشعر بلذةٍ من اللذائذ، ولا تعرف فرق ما بين السعادة والشقاء، والغنى والفقر، والراحة والتعب، والسرور والحزن، فويلٌ لك منه يوم تنحسر عنه عينيه — بعد ساعةٍ واحدة من بنائه بك، غشاوة الحب الأول، فيراك كما أنت، ويرى فرق ما بينك وبين تلك الصورة الخيالية الهائمة في رأسه، إنه عندئذٍ لا بد أن يبغضك ويحتقرك، ويهوي بك إلى أدنى دركات الذل والشقاء، ولا نهاية للإغراق في الحب غير الإغراق في البغض، فإن كان لا بد لك من أن تحتفظي بمكانتك في قلبه فلا تتزوجيه ودعيه ينظر إليك دائمًا بهذه العين التي ينظر بها إليك اليوم، ولا تخشي عليه أن يشقى بفراقك، فليست فجيعته فيك يوم يفقدك بأعظم من فجيعته في آماله وأحلامه يوم يراك، ويرى في ثوبك امرأة غير المرأة التي كان ينتظرها ويطير شوقًا إليها.

أنت لا تعلمين من شئون الحياة ودخائلها مثلما أعلم يا ماجدولين، ولقد خَبَرْتُ فيما خبرت من صروفها وتجاريبها أن الغرام أضعف العلائق بين الزوجين، والمصلحة أقواها وأوثقها، وأن الحب كالزهرة، والمال كالطل الساقط عليها، فإذا انقطع الطل عن الزهرة بضعة أيام ذوت أوراقها وتساقطت، ثم تطايرت في مهاب الرياح الأربع، وأن هذه الثورة النفسية التي يسمونها الصبابة أو الوجد أو الوله أو الهُيام، والتي لا يزال يهتف بذكرها الشعراء، وتطير في سماء خيالها ألباب الرجال والنساء، إنما هي عرضٌ من أعراض الأعصاب المريضة يهيجه البعد، ويطفئه القرب، ثم تبقى بعد ذلك الحاجة إلى العيش ومرافقه، والسعادة وأسبابها، فإن أُعْوِزَ ذلك فقد مات الحب في القلب، ودفنت جثته في ضريح الفقر، والفقر يطوي في أحشائه جميع عواطف القلوب وخوالجها، بل ربما دارت الوساوس والأوهام في رأس ذينك الزوجين اللذين كانا متحابين بالأمس، فرأى كل منهما في وجه صاحبه صورة الشؤم له، وألقى عليه تبعة بؤسه وشقائه، فاستحال حبهما إلى بغضٍ متغلغلٍ في سويداء القلب لا ينتزعه إلا الموت.

أنت فقيرةٌ يا ماجدولين، و«استيفن» أفقر منك، فلا تضمي فقره إلى فقرك، وليختر كل منكما لنفسه العشير الذي يعلم أنه يسعده ويملأ فضاء حياته غبطةً وهناءً، فإن كان لا بد لك من الوفاء له فإن أوفى ما يكون المرء لصاحبه حين يؤثر مصلحته على مصلحة نفسه، ويُكفكف من نزعات قلبه وأهوائه في سبيل سعادته وهنائه، فليكن ذلك شأنك معه، واحتملي كرارة فراقه وألم الحرمان منه رحمةً به وإبقاءً على حياته التي توشك أن تعبث بها نكبات الدهر وأرزاؤه، فقد أصبحت أخشى عليه — وفي رأسه مثل هذا العقل الصغير المختبل، وبين جنبيه مثل هذا القلب الضعيف المستطار — أن يعثر به جده فيما يُحاوله من الأمل الذي يسعى إليه من أجلك، فيدفعه جنون الطمع إلى سلوك طريقٍ غير طريق الشرف، فيقترف جريمةً، أو ينتهك حرمةً، أو تثور برأسه ثائرة اليأس فيقتل نفسه طلبًا للراحة من عناء الحياة وشقائها، فإن فعل فأنت الجانية عليه، والموردة إياه هذا المورد من التلف، فانظري كيف يكون موقفك بين يدي ربك وضميرك غدًا إن تم ذلك على يدك؟

فاستعبرت ماجدولين باكيةً، وما بكت إلا رحمةً بذلك البائس المسكين وإشفاقًا عليه أن يناله بسببها هذا الشقاء العظيم، وأطرقت مليًّا ثم رفعت رأسها وقالت: دعيني الساعة وحدي يا «سوزان»، فإنني في حاجةٍ إلى الخلوة بنفسي.

(٦٠) الجريدة العسكرية

التحم جيشنا أمس بجيش العدو، واستمرت المعركة عشر ساعات لقي فيها جنودنا من بأس العدو وشدته وقوة مراسه هولًا عظيمًا، حتى بلغ منهم اليأس أو كاد، ثم برز من بين صفوفنا ضابطٌ من ضباط الفرسان اسمه «أوجين ولتز» فهتف بجنوده «ورائي أيها الأبطال!» وانقض على العدو انقضاض النازلة السماوية فانقض معه جنوده، فسرت الحمية في نفس الجيش بأجمعه، فهجم وراءه! وما هي إلا جولةٌ أو جولتان حتى تمت الهزيمة للعدو، ففر يطلب النجاة لنفسه في كل مكانٍ، فتبعناه وأمعنا فيه قتلًا وأسرًا، وغنمنا منه غنائم كثيرة.

إلا أنه حدث لذلك الضابط الشجاع في نهاية المعركة حادثٌ كدر صفو ذلك الانتصار، فإنه بينما كان يتتبع آثار العدو ويضرب في مؤخرته إذ انقطع حزام سرجه — وكان باليًا واهيًا — فعجز عن التماسك، فسقط عن جواده فداسته حوافر الخيل، ثم انتبه له بعض الجنود فداروا به واحتملوه إلى المعسكر، وكانت فيه بقيةٌ من الحياة، فقضى ساعة يتألم ألمًا شديدًا ويهتف باسم أخ له اسمه «استيفن» حتى فاضت روحه، فحزن الجيش عليه حزنًا شديدًا، وبكاه القواد ورؤساء الفرق، ثم دفن باحتفالٍ عظيمٍ لائقٍ بشجاعته وإقدامه، وحميته التي ليس لها مثيل.

(٦١) البيت الجديد

وقف «استيفن» على عتبة باب بيته الجديد، وكان البناءون لا يزالون يشتغلون باستصلاح بعض أنحائه، فهتف صديقه «فرتز» فَلَبَّاه، فقال له: هل تم بناء الغرفتين الجديدتين على الصورة التي اتفقنا عليها، قال: نعم يا سيدي وتم كذلك تجصيصهما وتزجيج نوافذهما، فجزاه خيرًا، ثم التفت إلى البستاني وقال له: هل غرست أشجار الفاكهة التي أرسلتها إليك بالأمس؟ قال: نعم يا سيدي، وستكون الكرمة المنبسطة فوق الجدار من أبدع الكرمات وأجملها، قال: لا تنس أن تكسو السور كله باطنه وظاهره بأزهار البنفسج كما أمرتك، قال، سأفعل يا سيدي إن شاء الله.

فتركه ودخل المنزل فألقى على الطبقة السفلى نظرة عجلى، ثم صعد إلى الطبقة العليا ووقف في بهوٍ متسعٍ تدور به الحجرات وقال: ها قد أصبح البيت على الصورة التي اتفقنا عليها منذ عامين أنا وماجدولين؛ ففي الطبقة السفلى غرفة المائدة والمطبخ، وغرف المئونة والمرافق، وفي الطبقة العليا غرفة الأضياف، ومخدع النوم، وقاعة الكتب، وغرفة الشيخ «مولر»، ثم فتح باب الغرفة الخامسة وألقى عليها نظرة ألمت بجميع ما فيها، فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: لقد كنت أرجو يا «أوجين» أن تشركني في سعادتي كما شركتني في شقائي، ولكن هكذا أراد القدر أن يفرق بيني وبينك، وأن تكون سعادتي منغصةً بذكراك أبد الدهر، فوا أسفا عليك يا أخي أسفًا لا يفارقني حتى الموت! وستمر الأيام وتكر الدهور والأعوام، وسأنسى كل ما مر بي من حوادث الدهر، خيرها وشرها، وبؤسها ورغدها، ولا أنسى أنني ضننت عليك بتلك الدراهم القليلة التي سألتنيها أحوج ما كنت إليها، وأن يدي هي اليد الخفية التي أوردتك هذا المورد من الردى، فاغفر لي ذنبي واعف عني، والقني يوم تلقاني في آخرتك بذلك الوجه البشوش الغض الذي كنت تلقاني به في حياتك، فأنا من لا يعيش إلا بذكرك، ولا يموت إلا بغصتك، وأقفل باب الغرفة وقال: لن يفتح هذا الباب بعد اليوم، ثم كفكف عبرته، وسرى عن نفسه، وأشرف على الحديقة يتلهى بالنظر إليها، فوقع نظره على حوض الماء المبني في وسطها، فعاد إلى مناجاة نفسه يقول: وها هو ذا الحوض الذي سنربي فيه الأسماك ذات الألوان المختلفة، وها هو ذا السياج الذي رأينا أن نقيمه من حوله خوفًا على أولادنا المستقبلين من السقوط، وها هي ذي أزهار البنفسج التي تحبها ماجدولين وتؤثرها على الأزهار جميعًا تملأ البيت داخله وخارجه.

إنها لا تعلم الآن شيئًا عن هذه السعادة المهيأة لها، وربما كانت تكابد اليوم أشد حالات يأسها وحزنها بعد انقطاع رسائلي عنها أيامًا طوالًا، وسأباغتها بها مباغتةً لا يزول أثرها من نفسها أبد الدهر، فقد شقينا ما استطاع الشقاء أن يكون، وسنسعد بعد اليوم سعادةً تنسينا همومنا الماضية وآلامنا، ولا نذكرها إلا كما نذكر دموع طفولتنا وبكاءها.

ثم نزل ومشى في الحديقة مع صديقه «فرتز» يناظر القائمين بتنظيم أغراسها وتمهيد طرقاتها، ويتنقل بين أشجارها وأزهارها مسرورًا مغتبطًا وكأنه لم يذق طعم الشقاء في دهره يومًا واحدًا.

(٦٢) بروتس

ما كان «استيفن» قبل اليوم آمرًا ولا ناهيًا، ولا صاحب بيتٍ ولا حديقةٍ، بل ولا صاحب أي شيءٍ من الأشياء، إلا إذا كانت أثوابه البالية المرقعة شيئًا تتعلق به الحيازة والملك، فقد عاد إلى «جوتنج» بعد تلك الليلة الليلاء التي كابدها في غرفة قريبة صفر اليدين من كل شيءٍ، حتى من آماله وأمانيه، فقضى في فراش مرضه بضعة أيام كابد فيها من آلام جسمه ونفسه ما يعجز عن احتماله، ثم أبلَّ قليلًا، فأنشأ يفكر فيما يصنع بعد الذي كان من فشله وانقطاع رجائه به، فخطر له الانتحار، ثم منعه منه أنه سيكون آخر عهده بماجدولين فلا يراها بعد اليوم، وفكر في الرجوع إلى أهله والإذعان لهم في رغبتهم التي يرغبونها إليه، ثم ذكر المواثيق التي أعطاها لماجدولين ألا يبتغي بها بدلًا حتى الموت، فعظم عليه أن يَخِيسَ بعهده ومر بخاطره الفرار بنفسه إلى بقعة من بقاع الأرض يطلب فيها السلو والراحة والتفرج مما به، ولكنه أشفق على ماجدولين أن يقتلها الحزن عليه من بعده، وهو إنما يحيا في هذا العالم من أجلها.

ولم يزل يراوح بين هذه الفكر ويستدني بعضًا منها ويذود بعضًا حتى صحت عزيمته على أن يكتب كتابًا إلى ماجدولين، ولم يكن قد كتب إليها منذ عهد بعيد يقص عليها فيه قصته وما آل إليه أمره، ويحللها من اليمين التي أقسمتها له، ثم يضع أمره بين يديها، فإما أحيته فعاد إلى أمله وسعيه، أو قتلته فاكتفى مئونة قتل نفسه بنفسه.

فإنه ليكتب ذلك الكتاب إذ دخل عليه رسول البريد يحمل إليه رسالة من مسجل القرية التي مات فيها قريبه يقول له فيها: إن الميت قد أوصى إليه في كتاب وصيته بعشرين ألف فرنك يأخذها في الحال وعشرة آلاف يأخذها في كل عام، فاستطير فرحًا وسرورًا وقال: أحمدك اللهم فقد غللت يدي عن أن آخذ هذا المال حرامًا، حتى بعثت به إليَّ حلالًا، ومزق الكتاب الذي كان يكتبه، وعلم أن أيام محنته قد انقضت، وأنه قد أدى للدهر ما عليه له من ضريبة الشقاء، فلم يبقَ بين يديه إلا أن يستقبل السعادة المقبلة عليه خالصةً هنيئة لا يكدرها عليه مكدر حتى الموت.

وأنشأ يفتش — بمعونة صديقه «فرتز» — عن بيتٍ صغير يشرف على نهر «جوتنج»، ويكون على الصفة التي تمناها هو وماجدولين ليلة ركبا زورق البحيرة وتحدثا عن آمالهما ومستقبلهما، فوجد بيتًا يشبهه فابتاعه واستصلحه، وحوله إلى الصورة التي أرادها، وأخذ يؤثث غرفه، ويغرس أشجار حديقته.

وإنه لكذلك إذ قرأ في الجريدة العسكرية خبر وفاة أخيه فبكاه كثيرًا، ثم ما لبث أن تجلد واصطبر، ودفن حزنه في أعماق قلبه، وألهاه سروره بحاضره عن التفكير في ماضيه، فابتاع خاتمًا للخطبة ثمينًا، وأعد عدته للسفر إلى «ولفاخ»، وكان قد علم أن ماجدولين قد عادت إليها من «كوبلانس» منذ عهد قريب؛ ليباغتها بتلك السعادة التي هيأها لها، ويخطبها إلى أبيها، ثم يعود بها إلى «جوتنج» ليريها البيت الجديد.

ثم ركب عجلته في صباح أحد الأيام وسافر وقلبه يخفق فرحًا وسرورًا حتى وصل إلى ضاحية القرية، فترك العجلة مكانها، وأمر السائق أن ينتظره حتى يعود، ونزل يمشي على قدميه ويقلب نظره في تلك المعاهد التي قضى فيها أيام سعادته الأولى، وأشرق على قلبه من سمائها أول شعاعٍ من أشعة الحب، فرأى الغابة التي كان يهيم فيها وحده في الليالي المقمرة مناجيًا نفسه بحبه وغرامه، مصورًا لها أعذب الآمال وأحلاها، ومر بالنهر الذي اقتحمه منذ عامين لاستنقاذ ذلك الرجل الذي كان مشرفًا على الغرق؛ حتى كاد يغرق معه لولا معونة الله وعنايته، ووقف على ضفة البحيرة التي كان يتنزه فيها هو وماجدولين ساعة الأصيل ويقضيان الساعات الطوال بين سمائها ومائها.

ثم أشرف على بيت الشيخ «مولر» فلاحت له أعالي أشجار الزيزفون التي كان يجلس تحتها هو وماجدولين كما كان يراها في ذلك العهد، ورأى من خلال أوراقها غرفته العالية التي كان يسكنها، فعادت إلى ذهنه تلك الأيام الماضية التي قضاها في هذه المواطن، فرَأَي صبحَها ومساءها، وليلها ونهارها، وبكورها وأصائلها، وكل ما مَرَّ لَهُ فيها من سرورٍ وحزن، ورجاءٍ ويأس، وصحة ومرض، ورخاء وشدة، حتى خيل إليه أنه لا يزال مقيمًا في ذلك المنزل حتى اليوم، وأنه إنما خرج الساعة من غرفته لقضاء بعض حاجاته وها هو ذا عائد إليها.

ولم يزل يهيم في أمثال هذه التصورات حتى وصل إلى باب الحديقة فوقف على عتبته وقال: ها هو ذا الباب الذي خرجت منه بالأمس طريدًا شريدًا لا أملك من أمر نفسي ولا أمر مستقبلي شيئًا، وها أنا ذا أدخله اليوم آمنًا مطمئنًا كما أدخل بيتي، وأزور أهله وقومه كما أزور أهلي وقومي، لا أخشى عينًا ولا رقيبًا، ولا أتقي غائلةً من غوائل الدهر، ولا رزيئةً من رزاياه، فما أعجب تقلبت الأيام، وأغرب ما تأتي به الأقدار!

ثم مشى في الحديقة يقلب نظرة في أشجارها وأغراسها، وجداولها وطرقاتها، ويقول في نفسه: لقد بقي كل شيء على ما هو عليه، فها هي ذي ثغرة الحائط الغربي لا تزال باقية كما هي، وها هي ذي الصخرة العاتية السوداء ملقاة في مكانها تحت الجدار كما تركتها، وها هي ذي أعشاش الطيور فوق قمة شجرة السنديان تختلف إليها عصافيرها غاديةً رائحة كعهدي بها، ثم التفت إلى يمينه وقال: وها هو ذا الجذع الذي حفرنا عليه اسمينا أنا وماجدولين، ثم مشى إليه فرأى الكتابة لا تزال على حالها كأنما قد حفرت بالأمس، فاغرورقت عيناه بالدموع، وجثا بين يدي الجذع وأهوى بفمه إليه فلثمه، كأنما يشكر له تلك اليد التي أسداها إليه في احتفاظه بتلك الذكرى القديمة التي أودعه إياها، وهبت على وجهه في تلك الساعات نسمةٌ مرت قبل مرورها عليه بأزهار الحديقة وأعشابها، فحملت إلى رأسه تلك المجموعة العطرية التي طالما استروحها في هذا المكان نفسه مع ماجدولين، ولا يحمل الذكرى القديمة مثل الأريج العطر! فهاج وجده وحنينه، وأخذ يعانق الهواء ويضمه إليه كما يضم حبيبًا ملقى بين ذراعيه.

ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى رأس الطريق الموصل إلى مكان المقعد الذي كان يجلس عليه هو وماجدولين تحت أشجار الزيزفون، ولم يبقَ بينه وبينه إلا خطوات قليلة، فاشتد تأثره، وخفق قلبه خفقانًا شديدًا، وحدثته نفسه أن ماجدولين جالسةٌ هناك الساعة وحدها تبكي وتنتحب، وتندب آمالها وأحلامها، وتفكر في انقطاع كتبه عنها، فأشفق عليها أن يباغتها بالخبر مباغتة فيقتلها، فأخذ يهيئ في نفسه طريقة إلقائه، ثم مال برأسه قليلًا فرأى طرف المقعد، ورأى ذيل ثوبٍ حريريٍّ أبيض منسدلًا عليه، فاستطير فرحًا وسرورًا وقال: ها هي ذي جالسةٌ كما كنت أتوقع أن أراها، فثبت اللهم قدمي وقدمها في ذلك الموقف الجلل العظيم.

ثم انعطف فما وقع نظره على المقعد حتى جمد واصفر، ووقفت دورة الدم في عروقه، وتعلقت أنفاسه بين لحييه فما تصعد ولا تهبط! فقد رأى ماجدولين جالسة بجانب فتى غريب تبسم له ويبسم لها، وقد أخذ يدها بين يديه وألقى رأسه على صدرها، وحنا عليها حنو المحب على حبيبه، فظل يقول في نفسه: ما هذا الذي أرى؟ إنني لا أفهم من كل ذلك شيئًا، إنها ماجدولين بعينها! فمن هو هذا الإنسان الجالس إليها؟ أليس هو صديقي «إدوار»؟ نعم هو بعينه! فما مجيئه هنا في هذه القرية؟ وما وجوده في هذا البيت؟ وما جلوسه بجانبها هذه الجلسة الغريبة؟

ثم شد بيده على قلبه كأنما يحاول أن يحبسه عن الفرار، ومشى يقتلع قدميه اقتلاعًا كأنما هو شبح من الأشباح الهائمة في ظلام الليل حتى دنا منهما، ففزعا إذ رأياه، ووثبا على أقدامهما وثبة واحدة، ثم ما لبثا أن اختلف شأنهما، فأخذ «إدوار» بطرف شاربه يعبث به ويقلب عينيه في السماء كأنه منجمٌ يفتش عن النجم السابع والسبعين بعد المائة والخمسة والعشرين مليونًا كما يصنع المنجمون، وأطرقت ماجدولين إلى الأرض فسكنت في إطراقها سكونًا عميقًا لا تتخلله حركةٌ ولا نأمةٌ، فظل «استيفن» يردد نظره بينهما باهتًا مشدوهًا لا يقول لهما شيئًا، ولا يفهم من موقفهما أمرًا، ثم مشى خطوة إلى ماجدولين، وقد أخذ الذهول مأخذه من عقله فنسي المنظر الذي رآه منذ لحظة، وأنشأ يخاطبها باسمًا منطلقًا ويقول لها: لقد انقضت أيام شقائنا يا ماجدولين، ولقد أصبحت — والحمد لله — صاحب ثروةٍ، ولا أقول إنها عظيمة ولكنها كافية لسعادتنا وهنائنا، فجئت إليك أتنجز وعدك، وأخطبك إلى أبيك، ثم أذهب بك إلى «جوتنج» لأريك البيت الجديد الذي ابتعته لك منذ عهد قريب، وسترين حين ترينه أنه على الهيئة التي تمنينا أن يكون عليها ليلة ركبنا زورق البحيرة وتحدثنا عن آمالنا وأمانينا، فارتعدت ماجدولين وامتقع لونها وقالت بصوتٍ ضعيفٍ خافتٍ كأنها تهمس في نفسها ببعض الأحاديث: «إني أهنئك بصلاح حالك يا سيدي!»

فعجب «استيفن» لذلك واستطير عقله وقال في نفسه: ما هذا الذي أسمع؟ إنها تهنئني بصلاح حالي كأنها ترى أن لي حالًا خاصةً بي مستقلة عن حالها، فليت شعري ما بالها! وما هذا السكون المخيم عليها؟! وما هذا الوجه الغريب الذي تلقاني به؟! لقد كنت أخشى أن أقتلها فرحًا وسرورًا فإذا هي تقتلني همًّا وكمدًا.

ثم نسي هذا المنظر الأخير كما نسي الأول، فأخرج من جيبه خاتم الخطبة ومشى إليها خطوة أخرى ليقدمه إليها، فما وقع نظره على أصبعها حتى تراجع خائفًا مذعورًا، فقد رأى فيه خاتمًا غير ذلك الخاتم الذي نسجته من شعره، وكانت تحدثه عنه في رسائلها كثيرًا وتقول له: إنه لا يفارق أصبعها لحظة واحدة، فاشتد خفوق قلبه واضطرابه، وظل يدور بعينيه حائرًا ملتاعًا لا يعلم أخيالًا يرى أم حقيقة؟ وازدحمت الدموع في عينيه تتبادر إلى السقوط، فمد يده إلى ماجدولين ضارعًا وقال لها: ألا تستطيعين يا سيدتي أن تقولي لي كلمة واحدة، فإني أشعر أني على وشك الجنون؟ فرفعت رأسها ونظرت إليه كأنها تريد أن تقول له شيئًا، ثم عادت إلى إطراقها وسكونها، وهنا تقدم نحوه «إدوار» ووضع يده على كتفه وقال له: حسبك هذا يا «استيفن» فإنك تقتل السيدة قتلًا، فانتبه «استيفن» إليه وكأنه لم يكن رآه قبل هذه اللحظة، فصعد نظره فيه وصوبه وقال له: إنني لم أكن أتوقع أن أراك هنا في هذا المكان يا «إدوار»! فقال له: سواءٌ أتوقعت أم لم تتوقع، فقد كان يجب عليك أن تستأذن قبل الدخول، ولم يكن يجمل بك وأنت في هذه السن المتقدمة أن تنسى أول درسٍ يتلقاه التلميذ في مدرسته في أدب الزيارة والاستئذان.

فانتفض «استيفن» انتفاضةً شديدة، وعلت جبينه سحابة بيضاء لم تزل تتسع وتستفيض حتى لبست وجهه كله فصار كأنه البرد الناصع، واسترخت يداه كما يكسر الطائر جناحيه للوقوع، وشعر بتخاذل أطرافه، فتراجع إلى شجرةٍ وراءه فاستند إليها، ثم نظر إلى «إدوار» نظرةً يقطر منها الدم، وقال له تلك الكلمة التي قالها يوليوس قيصر حينما طعن من خلفه، فالتفت فرأى أن الذي طعنه هو صديقه وصفيه بروتس: «حتى أنت يا بروتس؟!» وصمت لحظة حتى رجعت إليه نفسه ثم التفت إلى ماجدولين وقال لها بصوتٍ خافتٍ مُتَهَدِّجٍ تتطاير معه أجزاء نفسه: أصحيح ما يقول هذا الرجل يا ماجدولين؟ وهل ترين كما يرى أنني أخطأت في دخولي عليك بغير استئذانٍ؟ وهل تعتقدين أن له شأنًا عندك يسمح له بأن يتولى أمر مؤاخذتي بالنيابة عنك؟ فاعترض «إدوار» بينهما ومد يده إليها وقال لها: هيا بنا يا سيدتي فقد طال جلوسنا في هذا المكان حتى مللناه، فأعطته يدها وتبعته صامتةً مطرقةً حتى دخلا البيت وتركاه في مكانه ينظر إليهما وهما يبتعدان عنه شيئًا فشيئًا حتى اختفيا وسمع خفق الباب وراءهما، فظل شاخصًا إلى الباب الذي دخلاه لا يتحرك ولا يطرف، ولا تنبعث له جارحةٌ، ولا ينبض له عرقٌ، ومرت به على ذلك ساعة، ثم أخذ يحدث نفسه ويقول: إن «إدوار» يخاطبني بلهجة الآمر الناهي كأن له شأنًا في هذا البيت فوق شأني، فلا بد أن يكون له هذا الشأن الذي يزعمه، ولا بد أن يكون قد استمده من ماجدولين نفسها، فقد رأته بعينها وهو يحتقرني ويزدريني، بل يسبني ويشتمني فلم تقل له شيئًا، لا! بل إنها وافقته على أكثر من ذلك، فقد مد يده إليها ودعاها للدخول معه إلى المنزل وهي تعلم أنه لا يريد بذلك إلا طردي وإذلالي، فتبعته طائعة مذعنة، ولم تلتفت إليَّ ساعة انصرافها التفاتةً واحدةً تعتذر بها عن عملها هذا، وها قد مضت ساعة بعد ذهابها ولم تعد إليَّ لترى ماذا حل بي من بعدها، فليت شعري ما دهاني عندها؟ وما هذا الذي بينها وبين «إدوار»؟ إنني أخشى أن يكون خطيبها، وأن يكون هذا الخاتم الذي في يدها خاتم الخطبة الذي أهداه إليها، وأن تكون تلك الجلسة التي رأيته يجلسها بجانبها جلسة غرامٍ يتشاكيان فيها الحب ويتباثانه، فإن كان ما ظننته حقًّا، فهي فتاة مجرمةٌ خائنةٌ؛ لأنها وعدتني بالانتظار حتى ييسر الله لي سبيل الرزق فلم تَفِ بوعدها، بل أقسمت لي الأيمان التي لا فسحة فيها على الوفاء حتى الموت فلم تَبَرَّ بيمينها.

لا لا، إنها لا تستطيع أن تفعل ذلك؛ لأنها تعلم حق العلم أنها لي، وأنني صاحب الشأن فيها من دون الناس جميعًا، فقد اشتريتها بدم حياتي وبجميع دموعي وآلامي، وكابدت في سبيلها من نكبات الدهر وأرزائه ما يخرج احتماله عن طوق البشر، فجعت حتى أشرفت على الموت، وعريت حتى حبست نفسي عن الخروج من غرفتي إلا في ذمام الليل وحمايته، ونمت في الليالي القرة الباردة في ممر الهواء الجاري بلا غطاءٍ ولا دثار، وخرجت تحت جنح الظلام أفتش في صناديق القمامة عن لقمةٍ متروكةٍ أو عظمةٍ مطروحة أسد بها رمقي، وبعت الخبز الأبيض بالخبز الأسود لأستطيع أن أجد لقمة لغدائي، وأخرى لعشائي، وما زالت أرقع قميصي حتى صار القميص الرقاع، وذهب القميص بأجمعه، بل ركبت في سبيلها ما هو أعظم من ذلك فقد قتلت أخي، ومثلت بالرجل الذي أحسن إليَّ في حياته وبعد مماته، وحدثت نفسي بسرقة ماله، بل مددت يدي إليه، فأصبحت بذلك من المجرمين.

إنها لا تستطيع أن تنتزع يدها من يدي، ولا أن تفصل حياتها من حياتي، فقد خُلقت لي كما خُلقت لها، وها هو ذا اسمي محفور بجانب اسمها على جذوع أشجار حديقتها، وها هي ذي شعرات رأسها منسوجة في الخاتم الذي ألبسه منذ عامين، وها هي ذي الأرض والسماء، والبحيرة والفلك، والشمس والقمر، والأشجار والأعشاب، والطيور والأزهار، تشهد بحبنا وغرامنا، ومواقف آمالنا وأحلامنا، وأيماننا التي أقسمناها ألا يفرق بيننا إلا الموت، فإن كانت نفسها قد حدثتها بمقاطعتي، واتخاذ سبيلٍ في الحياة غير سبيلي فقد قضت عليَّ وعلى نفسها في آنٍ واحد؛ لأن الحياة الواحدة لا يمكن أن تنقسم إلى حياتين تعيش كل منهما مستقلة عن الأخرى.

ثم تأوه آهةٌ طويلةً وقال: من لي بمن أبيعه نصف حياتي على أن يكشف لي الحقيقة التي أجهلها؟ ولقد كان جديرًا بي أن أقف في طريقهما عندما حاولا الفرار مني وآبي عليهما أن ينصرفا إلا بعد أن يعترفا لي بحقيقة أمرهما، ويمزقا عن وجهيهما هذا الستار الذي أسبلاه عليهما، فإن أبيا قتلتهما غير ظالمٍ ولا آثمٍ، فليس من العدل ولا من الرحمة أن يذهبا إلى خلوتهما لينعما فيها بما يشاءان أن ينعما به ويتركاني في هذا المكان وحدي أعالج ما أعالج من الهموم والآلام.

ثم قام يتحامل على نفسه حتى خرج من باب الحديقة ومشى يترنح في مشيته ترنح الشارب الثمل، فما أبعد إلا قليلًا حتى سمع صوتًا شديدًا يخفق وراءه، فالتفت فإذا «إدوار» خارجٌ من باب الحديقة ممتطيًا صهوة جوادٍ أصهب، فاختبأ «استيفن» وراء ربوة على الطريق حتى دنا منه، فخرج إليه وأمسك بعِنَان جواده فذعر «إدوار» إذ رآه، ولكنه تماسك وتجلد، وقال له: ماذا تريد يا «استيفن»؟ قال: أريد أن أسألك عن سبب اختلافك إلى هذا البيت، وعن الشأن الذي لك فيه، وما أعرف لك فيه شأنًا قبل اليوم، قال: لا أستطيع أن أجيبك على سؤالك هذا وأنت آخذٌ بعنان جوادي لا تتركه، فدعه وسلني ما تريد، فترك «استيفن» العنان إلا أنه وقف في وجه الجواد، فقال له «إدوار»: لو غيرك سألني هذا السؤال بهذه اللهجة الجافية الخشنة التي تخاطبني بها لما كان له جوابٌ عندي سوى أن أقول له: إني حرٌّ مطلقٌ أتصرف في شئون نفسي كيف أشاء، فأزور ما أزور من المنازل، وأترك ما أترك منها دون أن أعرف لإنسانٍ في الوجود حقًّا في مراقبتي أو مساءلتي عما أفعل، ولكن إكرامًا للصداقة التي بيني وبينك أستطيع أن أجيبك عن سؤالك هذا جوابًا موجزًا فأقول لك: إني أختلف إلى بيت الشيخ «مولر» لأني خطيب ابنته، وسأبني بها بعد شهرٍ واحدٍ ولو شئت لحضرت حفلة عرسنا، بل أنا أدعوك إلى ذلك.

فارتعدت شفتا «استيفن» وشعر بالموت يتسرب إلى قلبه قليلًا قليلًا، وقال له بصوت خافت ضعيف: أتعني ماجدولين؟ قال: نعم، وليس لمولر ابنة غيرها، فأطرق «استيفن» هنيهة ثم رفع رأسه وقال له: ولكنك تعلم يا «إدوار» أني أحبها وأنها كل حظي في هذه الحياة، وأن انتزاعها من يدي إنما هو بمثابة انتزاع حياتي من بين جنبي، فهل يهون عليك وأنا صديقك ورفيق صباك وشريكك الدائم في سراء الحياة وضرائها أن تقتلني؟ قال: أنا أعلم أنك تحب هذه الفتاة، وأنك استملتها في بعض أيام حياتك الماضية بعض الاستمالة، حتى كادت تسقط في أحبولة الشقاء التي نصبتها لها، لولا أن تداركها أبوها فاستنقذها من يدك، وطردك من بيته طردًا قبيحًا، وحماها ذلك المستقبل المظلم الذي كنت تهيئه لها، فقاطعه «استيفن» وقال له: ولكنك لم تجبني عن سؤالي الذي سألتكه، قال: وما سؤالك؟ قال سألتك: هل يهون عليك قتلي وأنت أخي وصديقي، ورفيق طفولتي وصباي؟ قال: إني ما أردت قتلك، بل أردت حياتك، فقد تركت لك السبيل بعملي هذا إلى الرجوع إلى نفسك، والتفكير في شأن حاضرك ومستقبلك، فلعلك إن رَوَّأْتَ في أمرك قليلًا علمت أن خيرًا لك من هذه الحياة المضطربة المبعثرة التي تقضيها بين أحلامٍ خائبة وآمال كاذبة الرجوع إلى أهلك والانضواء إليهم، والكون تحت أجنحتهم، والإذعان لهم فيما يريدون لك من الخير في تزويجك من تلك الفتاة الثرية التي اختاروها لك، ولا يذهب عليك أن زواجك من فتاةٍ موسرةٍ تظلل بوارف نعمتها ضاحي فقرك خيرٌ لك من القعود مقعد الذل والمتربة بجانب فتاةٍ فقيرةٍ تضم شقاءها إلى شقائك فتعيا بحملهما معًا، فها أنت ذا ترى أنني قد أردت لك الخير فيما فعلت، وأسديت إليك نعمةً إن جهلتها اليوم فستعرفها غدًا، وستهدأ عما قليلٍ هذه العاصفة الثائرة في رأسك فتعرف لي مكان تلك اليد التي اتخذتها عندك وتشكرها لي شكرًا جزيلًا.

فما أتى «إدوار» على آخر كلماته حتى طار الغضب في رأس «استيفن»، وبرزت من مكمنها تلك السورة التي كانت رابضة وراء سكونه، فانقض عليه ولببه وهزه هزًّا شديدًا حتى كاد يقتلعه من سرجه، وأنشأ يقول له: الآن عرفت مكان الخديعة التي خدعتم بها تلك الفتاة المسكينة أيها القوم الأشرار، ومن أي بابٍ دخلتم إلى قلبها فعبثتم به، وإلى عقلها فطِرْتُمْ بصوابه، فقد علمتم ما تضمره لي بين جوانحها من الحب والإخلاص، وأنها لا تبتغي بسعادتي بدلًا من أغراض الحياة ومآربها، فألقيتم في روعها أنها علة ما ألاقيه في هذه الحياة من بؤسٍ وشقاء، وألا سبيل لي إلى أن أنال في حياتي حظًّا من سعادة العيش وهنائه إلا إذا أيأستني من نفسها وانتزعت يدها من يدي، وقطعت ما كان موصولًا من الود بيني وبينها، فصدقت حديثكم، وأزعجها هذا المصير الذي خيلتم لها أنني سأصير إليه بسببها، فأذعنت لرأيكم، واستقادت لكم، وفعلت ما اقترحتم عليها، رحمةً بي وإشفاقًا عليَّ، وكذلك استطعتم أن تستثمروا ضعفها وتستغلوه لأنفسكم، وما بكم من رحمةٍ بي ولا بها، ولكن هكذا أراد ذلك الشيخ الجشع المأفون أن يستمتع بنعمة المال الذي يعبده ويدين به، فباعك ابنته بيع الإماء في سوق الرقيق، وهكذا أردت أن تتمتع بشهوتك البهيمية التي لا تفهم من شئون الحياة شأنًا غيرها، ولا يعنيك من زواجك من مثل هذه الفتاة أمرٌ سواها، فمثلك من يعجز عن إدراك السريرة نفسها وما تضمره بين جوانحها من نبلٍ وشرفٍ، وكل ما تستطيع أن تفهمه منها أنها فتاة وضيئة حسناء، تشبه في بهائها ورونقها رونق أولئك الفتيات الجميلات اللواتي طالما خدعتهن عن أنفسهن، وقضيت لياليك في مقاصيرهن، ثم ما لبثت أن نفضت يدك منهن، وتركتهن يندبن حياتهن وآمالهن، ولو استطعت أن تسلك إلى المتعة بهذه الفتاة تلك السبيل التي سلكتها إلى المتعة بأولئك الفتيات لفعلت، ولما جشمت نفسك مشقة الزواج منها، ولأغنتك ليلةٌ واحدة تقضيها في مخدعها عن أن تحبس نفسك عليها الدهر كله، ومن كان هذا همه من حياته فويلٌ لزوجته منه، وويلٌ له منها، وويلٌ لهما من شقائهما الدائم الطويل.

فقال له إدوار: إن كنت تريد أن تقول إنها أُرغمت على زواجها إرغامًا، أو خُدعت فيه خديعةً، فأنت مخطئٌ في ظنك؛ لأنها قد نسيت كل ماضيها، خيره وشره، ولم يبقَ بين يديها إلا حبها لخطيبها وإخلاصها إليه، وتعليل نفسها باليوم الذي تسعد فيه بجانبه.

فاستطير «استيفن» غضبًا وقال: كذبت أيها الرجل الساقط، إنها أشرف مما تظن، وانفضَّ عليه يريد الفتك به، فأمسك «إدوار» بيديه وقال له بنغمة المستعطف المسترحم: أتريد أن تقتلني يا «استيفن»؟ فاستخذى «استيفن» وتضاءل، وتراءى له طيف ذلك الود القديم الذي كان بينه وبينه، ونظر إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وقال له: لا يا «إدوار»، لا أستطيع أن أقتلك لأنك صديقي، ولقد وُفِّقْتُ مرة في حياتي أن أسفك بضع قطراتٍ من دمي فداءً عنك فلا أندم على معروفي قط، ولا أسترد يدي التي اتخذتها عند الله فيك أبدًا.

ثم ألقى برأسه على قربوس السرج وأخذ يد «إدوار» بين يديه يبللها بدموعه وظل يناشده ويقول: لأنني لا أدعوك يا «إدوار» باسم الصداقة التي رضعنا ثديها منذ طفولتنا معًا كما يتقاسم الأخوان ثدي أمهما، ولا باسم المدرسة التي أظلتنا سماؤها وأقلتنا أرضها خمسة أعوام كاملة آنس بك فيها وتأنس بي، وأعينك على أمرك وتعينني على أمري، ولا باسم ذلك الشهيد المسكين «أوجين» الذي كان كريمًا عليك وعلي، وكان يرعى لك ودك ويحفظ عهدك، حتى مات وهو يعتقد أنه قد تركني من بعده في كَلَاءَة أخ كريم، وصديق حميم، ولا باسم اليمين التي أقسمتها لي ليلة سفرك من «جوتنج» ألا يهدأ لك في حياتك رُوع، ولا يثلج لك صدر، حتى أنال أمنيتي من حياتي، بل أدعوك باسم الرحمة والشفقة؛ لأنك محسن كريم ولأني بائس مسكين، وليس للبائس المسكين من سبيل في حياته غير رحمة المحسن الكريم.

فلم يعبأ «إدوار» بذلك كله وتغفله وهمز جواده فطار به ملء فروجه، فركض «استيفن» وراءه فلم يدركه، وكان قد أعياه الجهد فسقط في مكانه وهو يقول: «لا بد أن يكون ما قاله صحيحًا.»

ولم يزل في سقطته تلك حتى مر به بعض السابلة، وكان قد رآه عند حضوره فعرفه، فآذن به سائق عجلته فهرع إليه الحوذي وأخذ بيده حتى أركبه العجلة ثم ذهب به إلى منزله.

فما انفرد بنفسه في غرفته حتى أخذ يصيح صياح المجانين ويضرب رأسه بالجدران وهو يقول: «آهٍ، لقد فقدتك يا ماجدولين!»

(٦٣) من استيفن إلى ماجدولين

أصحيحٌ يا ماجدولين أن ما كان بيننا قد انقضى؟! وأننا أصبحنا متناكريْن غير متعارفين، لا يذكر الواحد منا صاحبه إلا كما يذكر حلمًا من أحلام صباه قد عفت آثاره الأيام والأعوام؟

أصحيحٌ أننا إذا التقينا بعد اليوم في طريقٍ واحد مضى كلٌّ منا في سبيله دون أن يلوي على صاحبه؟ أو في مجتمع لا يكون بيننا من الشأن إلا كما يكون بين سائر رجال ذلك المجتمع ونسائه؟ أو في خلوة لا نجد ما نتحدث به أو لا نتحدث إلا بحديث الأجواء والأمطار؟

ما أسرع تقلبات الأيام! وما أغرب تصاريفها وشئونها! أفيم بين يوم وليلة تنهدم جميع الآمال الجسام التي بنيناها وأحكمنا بناءها وبذلنا في سبيلها همومنا وآلامنا، وأرقنا من أجلها كل ما نملك من دموع وشئون، وتصبح أثرًا من الآثار الدارسة التي يتحدث عنها التاريخ الحاضر كما يتحدث عن التاريخ الغابر؟!

هكذا تقوم الساعة، وهكذا ترجف الراجفة، وهكذا تنتثر الكواكب في الفضاء، وتطوى السماء طَيَّ السِّجِلِّ للكتاب.

لقد كنت أحسب يا ماجدلوين ألا يتولى ذلك الأمر منا غير الموت، أما وقد توليناه من أنفسنا بأنفسنا ونسجنا خيوطه بأيدينا ونحن أحياء، فتلك أعجوبة الدهر التي لم يرَ مثلها راءٍ، ولا سمع بمثل حدثيها سامعٌ!

ماذا أنكرت مني يا ماجدولين؟ وماذا دهاني عندك؟

لقد أحببتك حبًّا لم يحبه أحدٌ من قبلي أحدًا، وأخلصت لك إخلاصًا لا يضمر مثله أخ لأخيه، ولا والد لولده، وأجللتك إجلال العابد لمعبوده، فما خنتك في سرٍّ ولا جهرٍ، ولا كذبتك في قولٍ ولا عمل، وملأت فراغ حياتي كله بك، فلا أنظر إلا إليك، ولا أشعر إلا بك، ولا أحلم إلا بطيفك، ولا أطرب لرؤية الشمس ساعة شروقها إلا لأني أسمع فيها نغمة حديثك، ولا لمنظر الأزهار الضاحكة في أكمامها إلا لأنها تمثل لي ألوان جمالك، ولا تمنيت لنفسي سعادة في هذه الحياة إلا من أجل سعادتك، ولا آثرت البقاء فيها إلا لأعيش بجانبك، وأستمتع برؤيتك.

إن كنت ترين أني لا أستحق محبتك، وأني أصغر شأنًا من أن أملأ فراغ قلبك، فأحبي في حبي إياك، وإخلاصي لك، واجزيني خيرًا بما بذلت لك في حياتي من دموع والآم، وشجونٍ وأحزان، واعلمي أنك إن استطعت أن تجدي بين الرجال من يرضيك بجماله أو ماله، أو حسبه أو جاهه، فإنك لا تستطيعين أن تجدي فيهم من يحبك محبتي، أو يخلص لك إخلاصي.

إنهم قد خدعوك يا ماجدولين، وزينوا لك حب المال والشهوات، وخيلوا إليك أن الحياة طعامٌ وشراب، وثوبٌ فاخر، وقصرٌ باذخ، وعقد ثمين، وقرطٌ جميل، وأن الزواج شركة مالية يتعاون فيها الزوجان على جمع المال واكتنازه، وما علموا أن الزواج المالي نوع من أنواع البغاء، وأن المرأة التي تتزوج الرجل لماله لا تتزوجه كما تزعم، بل تبيعه نفسها بيعًا كما تبيع البغي جسمها لعاشقها، بل هي أحط من البغي شأنًا، وأسفل غرضًا؛ لأنها لم تبع نفسها من أجل لقمة تقيم بها أَوَدَها، أو خرقة تستر بها ضاحي جلدها، فينفسح لها صدر العذر في ذلك، بل من أجل عقد ثمين تطمع في أن تزين به صدرها، أو ثوب فاخر تكاثر به أترابها، أو قصر جميل تستمتع في جوه بأنواع لذائذها.

لا تصدقي يا ماجدولين أن في الدنيا سعادةً غير سعادة الحب، فإن صَدَّقْتِ فويلٌ لكِ منكِ، فإنك قد حَكَمْتِ على قلبك بالموت.

لقد كنت عندي آخر من يحفل بأمثال هذه المظاهر الكاذبة ويَأْبَه لها، وكان أكبرَ ما أعظمك في عيني، وأَجَلَّكِ في نفسي واستعبدني لك، أنك المرأة التي وجدت فيها وحدها من بين النساء جميعًا قلبًا نقيًّا طاهرًا يفيض بالحب النقي الطاهر الذي لا تشوبه شوائب النوازع والشهوات، ولا يكدره مكدرٌ من أغراض الحياة ومطامعها، فهل كنت مخطئًا في ظني؟

لا لا، إنك لا تزالين صاحبة ذلك القلب الذي أعرفه حتى الساعة، وهذا هو الذي أخافه عليك، وأرثي لك من أجله.

أنت لا تعلمين شيئًا من شئون «إدوار»، وأنا أعلم من شئونه كل شيء، وأخص ما أعلم منها أنه لا يحمل بين جنبيه قلبًا مثل قلبك، ولا يفهم من معنى الحب وسره المعنى الذي تفهمين، ولا يستطيع أن يكون شريكًا لك بحالٍ من الأحوال في شعورك ووجدانك، وكل شأنه معك أنه رآك فاستملحك فاشتهاك، والملاحة عرضٌ زائل، والشهوة ظلٌّ متنقلٌ، فأخشى عليك أن ينالك بعد قليل على يده ذلك الشقاء الذي تفرين منه اليوم، وألا ينفعك ولا يجدي عليك شيئًا في ذلك الحين مالٌ ولا نسب، ولا فضةٌ ولا ذهب، ولئن تم لك ذلك لأكونن أشقى الناس عيشًا، وأعظمهم بؤسًا؛ لأني أحبك، وأحب لك السعادة في كل موطنٍ تكونين فيه، من أجلك لا من أجل نفسي.

ليت شعري! هل يصل صوتي إلى أعماق قلبك يا ماجدولين كما كان يصل إليه قبل اليوم؟ وهل تستطيعين أن تتصوري كما كنت تتصورين من قبل أنني أحبك أكثر مما أحبك لنفسي، وأنني فيما أفضيت به إليك من تلك النصيحة إنما أردت سعادتك وهناءك أكثر مما أردت سعادة نفسي وهناءها؟!

(٦٤) من استيفن إلى ماجدولين

لقلما أبقى على ما أرى.

الحياة مظلمةٌ في عيني، والدنيا موحشة مقفرة، لا أسمع فيها حسًّا ولا حركة، كأن الليل متواصلٌ لا ينقطع، وكأن الناس رقودٌ في مضاجعهم ليلهم ونهارهم، لا يستيقظون ولا يستفيقون، ويخيل إليَّ أنني أعيش في صحراء نائية منقطعة عن العالم وما فيه، لا يمر بها طير، ولا يجري فيها نهر، ولا يطأ تربتها إنسانٌ، ولا يجول في أكنافها حيوان، وأنني أهيم فيها وحدي ليلي ونهاري، أطلب الخلاص منها فلا أعرف السبيل إليه، وأحمل نفسي على البقاء فيها فيقتلني الضجر والضيق.

فمتى يحين حيني وتأتي ساعتي فأرتاح من همومي وآلامي؟

لا شيء يعزيني عنك في العالم يا ماجدولين؛ لأنك كنت لي كل شيءٍ فيه، فلما فقدتك لم أجد منك عوضًا ولا بدلًا، وكنت كمن قامر في ساعة واحدة بجميع ما تملك يده فلما خسر، خسر كل شيء.

كانت لي آمالٌ كبار، وأمانٍ حسان، وكانت لي نفس مملوءة بعظائم الأمور وجلائلها، وكنت أشعر بقوة في جسمي لا يقوم لها شيء في هذا العالم، فأصبحت رجلًا ضعيفًا خامدًا، متألمًا يائسًا، قانطًا، لا أشعر ولا أفكر، ولا آخذ ولا أدع، ولا أتجه إلى مقصد، ولا أتعلق بغرض، ولا أجلب لنفسي خيرًا ولا أدفع عنها ضرًّا، ولا شأن لي بين الناس أكثر من جثةٍ ملقاةٍ لا روح فيها، أو حجرٍ مطرحٍ في قارعة الطريق.

ألا تخافين يا ماجدولين أن يأخذك الله بذنبي يوم يأخذ الناس بذنوبهم؟ ويسألك عن هذه النفس الطيبة الطاهرة التي قتلتها وفجعتها في جميع فضائلها ومواهبها، وأن يتبعك صوتي في كل مكان تكونين فيه، في خلواتك ومجتمعاتك، ومنامك ويقظتك، وبين ذراعي زوجك، وبجانب مهود أولادك، ويصيح بك: إنك قد قتلت رجلًا لو عاش لكان أفضل مثالٍ للأزواج الصالحين، والآباء الرحماء، والأصدقاء الأوفياء، ولكان خير الناس للناس جميعًا.

ألم تعديني يا ماجدولين أن تسهري على سعادتي وتحرسيها كما تحرس الملائكة سعادة البشر وهناءهم؟ فها أنا ذا أشقى الناس جميعًا، وأعظمهم بؤسًا وبلاءً، فأين ما وعدتني به؟

تَعَالَيْ إليَّ وقفي أمامي ساعةً واحدة لأراك وأرى في وجهك صورة سعادتي الزائلة، وآمالي الضائعة، وأسمعيني صوتك العذب الجميل الذي أسمعتنيه من قبل، وألقي عليَّ نظرةً واحدة من نظراتك العذبة الرائقة تحيي بها نفسي الميتة، وقولي لي صدقًا أو كذبًا إنك لا تزالين تحبينني وتعطفين عليَّ، ثم لا تزيدي على ذلك شيئًا، فقد أصبحت أقنع منك بكل شيء.

أقسم لك يا ماجدولين إنني لو رأيتك في طريقي لهرعت إليك وجثوت تحت قدميك كما يجثو العابد تحت قدمي معبوده، وسألتك البر والإحسان كما يفعل السائل المستجدي، فإن أعرضت عني زحفت وراءك على ركبتي وتعلقت بأهداب ثوبك حتى تصغي إليَّ وتسمعي شكاتي.

ولكن ماذا أقول لك؟ وماذا عندي من الأحاديث فأحدثك به؟ لا شيء عندي سوى أن أذرف دموعي تحت قدميك، وأمد يدي إليك صامتًا ثم أضع حياتي بين يديك، فإما أحييتني أو قتلتني.

إنني أتألم كثيرًا يا ماجدولين، ولا أحسب أن في العالم نفسًا تحتمل ما تحتمله نفسي من الآلام والأوجاع، فارحميني واعطفي عليَّ، فإن لم أكن كفؤًا لمحبتك فامنحيني صداقتك، فإن أبيتها فاسبلي عليَّ ستر حمايتك، فإن ضننت بها فَائْذَني لي أن أسير وراءك في كل مكانٍ تسيرين فيه كما يتبعك كلبك الذليل، لأراك وأسمع صوتك، وأستنشق الهواء الذي يحيط بك؛ لأني لا أستطيع أن أعيش في العالم دون أن تكون لي صلةٌ بك.

كنت قد وضعت قبل اليوم بين يديك سعادتي وهنائي، أما الآن فقد حالت الحال، وتراجعت الآمال، وأصبحت لا أطمع في أن أضع بين يديك شيئًا غير حياتي.

فهل تُبقين عليها؟

(٦٥) من استيفن إلى ماجدولين

لي الله من بائس مسكين! فقد ذبلت زهرة حياتي قبل أن تتفتح، ودبت إليَّ الشيخوخة وأنا لا أزال في ريعان الشباب، وانطفأ ما كان مشتعلًا في قلبي من الهمة وفي رأسي من الذكاء وفي جسمي من القوة، وانقطع ما كان موصولًا بيني وبين الناس جميعًا، فمات أخي، وطردني أبي، وعاداني أهلي، ولم يكن باقيًا لي في العالم سواك، ثم انقضى ما كان بيني وبينك فأي أربٍ لي في العيش من بعد ذلك؟

أتدرين لِمَ أُوثر الحياة على الموت يا ماجدولين وقد كان الموت أروح لي مما أكابده؟ لأني لست على يقينٍ مما بعده، وأخشى إن حل بي أن ينتزع مني ذكرى تلك الأيام الجميلة التي تمتعت فيها بحبك وعطفك وبحلاوة الأمل فيك، والتي هي كل ما بقي في يدي بعد الذي كان، ولولا ذلك لقتلت نفسي، ثم استحالت روحي إلى طائرٍ جميل يطيف بك ويرفرف على رأسك حيثما ذهبت، ويتناول الحب من يدك مرة، والقبلات من فمك أخرى، فأظفر منك ميتًا بما عجزت عنه حيًّا.

إنك سلبتني سعادتي يا ماجدولين، ولكنك لم تعطيني شيئًا بدلًا منها أعيش به، بل تركتني وشأني كما يترك المسافر رفيقه الجريح الظامئ في الصحراء المحرقة التي لا ظل فيها ولا ماء وينجو بنفسه غير مبالٍ بما تصنع به المقادير من بعده، فما أقساك! وما أبعد الرحمة من قلبك!

ردي عليَّ أماني وآمالي، ولياليَّ التي قضيتها فيك ساهرًا متململًا، وحياتي التي وضعتها بين يديك، ووكلت أمرها إليك، وأعيدي إليَّ عطفي وحناني، ورحمتي وإشفاقي، وجميع عواطف قلبي التي ضننت بها على أهلي وقومي جميعًا وآثرتك بها من دونهم، وعقيدتي في الحب والهناء، وإيماني بالله وبقاء الخير في الأرض.

ماذا تقترحين عليَّ يا ماجدولين، وأية ذخيرة من ذخائر الأرض أو كنز من كنوز السماء تحبين أن أضعه بين يديك؟ أتريدين قصرًا من المرمر الأبيض؟ أم صهريجًا مملوءًا باللؤلؤ الرطب؟ أم بساطًا مصوغًا من الجوهر؟ أم حلة منسوجة من أشعة الشمس؟ أم تاجًا مرصعًا تتضاءل بين يديه تيجان الملوك والأقيال؟ لقد أصبح ذلك كله لك، وليس بينك وبينه إن أردته إلا أن تعيدي إلى قلبي الأمل الذي سلبتنيه فأصبح أقوى الناس جميعًا وأقدرهم على امتلاك ناصية الكون بأجمعه، أرضه وسمائه.

آهٍ، ما كان أشد سروري وفرحي يوم أعددت لك ذلك البيت الصغير في «جوتنج»، وبنيت لك فيه تلك الغرفة الزرقاء الجميلة، ووضعت فيها ذلك السرير، كنت أرجو أن يكون الدَّوْحَةَ الفَيْنَانَةَ التي أنعم بك في ظلالها، وأنشأت تلك الحديقة البديعة التي لم أدع زهرة تحبينها أو يحبها أبوك إلا غرستها فيها، وكنت كلما دخلت ذلك المنزل ووقفت في فنائه لحظة خيل إليَّ أنه آهلٌ بك، وأن صوتك العذب الشجي يرن في أنحائه، وأن أولادنا يلعبون بين أيدينا في حديقته، ويقطفون أزهارها ووردوها ويقدمونها هدية إلينا، بل كنت أتخيل عندما كنت أدخل غرفة زينتك أني أراك جالسة إلى مرآتك فيها تمشطين شعرك الأصفر الجميل، وأنني واقف وراءك أغمس يدي في ذلك الخليج الذهبي الرجراج وأختلس منه قبلة بعد أخرى.

أما اليوم فقد ذبل كل شيء فيه وضَوِيَ، فانقطع الماء عن حديقته، وذوت أشجاره وأزهاره، وعصفت الريح بنوافذه وأبوابه، وكست التُّرْبُ أرضه وسقوفه، فأصبح كالعروس الحسناء التي نزلت بها منيتها ليلة زفافها.

أصبحت لا تكتبين إليَّ حرفًا واحدًا، ولا تجيبين عن كتابٍ واحد من كتبي، وما كان ذلك من شأنك قبل اليوم، فاكتبي إليَّ كلمة واحدة قولي لي فيها ما تشائين من خيرٍ أو شرًّ، فقد وطنت نفسي على احتمال كل شيء.

(٦٦) من استيفن إلى ماجدولين

لم تكتبي إليَّ تلك الكلمة التي ضرعت إليك فيها، وعهدي بك أنك مشيت قبل اليوم على قدميك بضع ساعاتٍ كابدت فيها ما كابدت من الأهوال العظام حتى وصلت إلى صندوق البريد في قرية بعيدة عن قريتك فبعثت إليَّ برسالتك، فهل ذهب ذلك الماضي بأجمعه ولم يبقَ في نفسك منه أثرٌ واحد؟

لا أستطيع أن أصدق ذلك، فكل ما حولك يذكرك بي وبأيامي التي قضيتها معك، فهنالك الشمس التي كنا نستقبلها معًا طالعةٌ ونودعها غاربةً، والقمر الذي كان يشرف علينا من علياء سمائه، ويرسل إلينا أشعته الفضية البيضاء فتضمنا غلالتها معًا، والمقعد الذي كنا نجلس عليه بين الظل والماء، ويدك في يدي ورأسك على صدري، وخدك تحت متناول لثماتي، والبحيرة التي كنا نقضي فيها كل يوم ساعة الأصيل سائرين على ضفتها صامتين تتحدث قلوبنا بما تمسك عنه ألسنتنا، ثم نعود وبودنا أن لو استمر بنا المسير أبد الدهر إلى دار الخلود، والغرفة التي التقينا فيها ليلة الوداع وبللنا تربتها بدموعنا، وأقسمنا بين سمائها وأرضها يمين الوفاء حتى الموت.

إني أناديك في اليوم مائة مرة يا ماجدولين صارخًا مستغيثًا، باكيًا منتحبًا، لا أهدأ ولا أفتر، وأنت لاهيةٌ عني بذلك الشأن الجديد الذي استحدثْتِه لنفسك، لا تسمعين ندائي، ولا ترثين لمصابي، وما أعلم أني أذنبت إليك في حياتي ذنبًا واحدًا تأخذينني به، بل أعلم أني اقترفت جميع الذنوب والآثام من أجلك.

إن كُنْتِ مررت مرة في حياتك بامرأةٍ جاثية على قبر زوجها تندبه وتبكيه أحر بكاء وأشجاه لأنها كانت تحبه حبًّا جمًّا، ولأنه تركها في ريعان شبابها فقيرةً معدمةً، وترك لها أطفالًا صغارًا لا حول لهم في الحياة ولا قوة، فحزنت حزنها، وبكيت لبكائها.

أو رأيْتِ في طريقك فتاة فقيرة هائمة على وجهها تبكي وتنتحب وتسأل الغادين والرائحين أن يمنحوها درهمًا واحدًا تبتاع به دواءً لأخيها الصغير المريض الذي لا سند له غيرها، ولا عائل له سواها، فأويت لها، وأسعفتها بطِلْبَتها.

أو مررت بضفة نهر فرأيت امرأة واقفة به تُعَوِّل وتصيح وتستصرخ الناس لوحيدها الذي يغرق في النهر أمامها فلا تجد من يعينها عليه حتى سقط سقطة لم يطف من بعدها، فجن جنونها واندفعت وراءه بثيابها، فطواهما البحر معًا في لحظة واحدة، فأعظمْتِ نكبتها، وبكيت مصيرها.

أو سمعت بقصة ذلك الشيخ المسكين الذي دخل عليه الجند منزله وهو جاثٍ بجانب زوجته المحتضرة وابنته المريضة ليأخذوه إلى السجن؛ لأنه كان قد سرق من أجلهما بالأمس رغيفًا يقيم به أَوَدَهُما، فسأل الجند أن يمهلوه ساعة واحدة حتى يرى ما يصنع القضاء بعليلته، فأبوا ذلك عليه، فعظمت عليه النازلة فذهبت بعقله، فعدل به الجند عن طريق السجن إلى طريق المارستان.

أو سعمت بقصة ذلك الرجل الذي ضل في مفازةٍ مقفرة، فاشتد به العطش، وهام على وجهه في كل مكانٍ يطلب الماء فلا يجده حتى أعياه الجهد، وعجز عن المسير، ثم لمح على البعد صفحة ماءٍ تترقرق، فما زال يزحف على ركبتيه إليها ويخضب الحصى بدمه المتدفق، حتى إذا داناها ولم يبقَ بينه وبينها إلا خطوةٌ واحدة سقط من دونها ميتًا.

أو قرأت قصة تلك المرأة التي رآها الناس في إحدى المجاعات جالسة أمام كوخها وفي حجرها كتلة لحمٍ حمراء مختلطة، وبين يديها قدرٌ يتصاعد بخارها، فلما دنوا منها هالهم أن رأوا في يدها سكينًا مخضبة بالدم، ورأوا قدمًا صغيرة بارزة من القدر، فعلموا أن الجوع قد أفقدها عقلها، وأن هذه الكتلة الحمراء التي في حجرها إنما هي رضيعتها قد ذبحتها وأنشأت تقطع أوصالها بمديتها وتطبخها لتأكلها.

إن كنت سمعت بخبر هؤلاء المنكوبين، وسمعت أنين المعذبين في السجون، وصراخ المرضى في المستشفيات، وضحك المجانين في المارستانات فرثيت لهم، وأويت لمصابهم، فتعلمي أنني أشقى من هؤلاء جميعًا، وأنني أولى منهم برحمتك وإشفاقك، وعطفك وحنانك.

لم تبقَ فيَّ بقية تحتمل أكثر مما احتملت، وربما لا أستطيع أن أكتب إليك غير هذا الكتاب، فقد بلغ بي الضعف منتهاه، وأظلم بصري فما أكاد أبصر شيئًا، فالوداع يا ماجدولين وداع الحياة إن كان لا يزال في الأجل بقية، أو وداع الموت إن كانت الأخرى.

(٦٧) من ماجدولين إلى استيفن

لا أكتمك يا سيدي أني بكيت كثيرًا عند قراءة رسائلك، ولكنني عدت إلى نفسي وقلت: إنها زفرةٌ من زفرات البأس ستطفئها الأيام كما أطفأت غيرها من زفرات البائسين، وربما علمت بعد قليل من الأيام أن الله قد خَارَ لك فيما كان، وأنه قد أعد لك من حيث لا تحتسب حياةً أسعد وأهنأ من هذه الحياة التي تندبها وتبكيها.

أنت تعلم يا «استيفن» أنني فتاة فقيرة وأنك فتى لا مال لك، أو لا تملك من المال ما يقوم بشأنك زوجًا ووالدًا، فخيرٌ لي ولك أن نفترق وأن يسلك كلٌّ منا في حياته الطريق التي يعلم أنها تنتهي به إلى سعادة عيشه وهنائه، أحببنا ذلك أم كرهنا، فتناسَ كل شيءٍ يا صديقي، وسافر إلى «كوبلانس» واستصلح عليك أباك وأهلك، وتزوج من الفتاة التي اختاروها لك، وحسبك مني أن أكون صديقتك الوفية لك ما حييت، ولا تحمل في نفسك ضغينة لصديقك «إدوار»، فقد علم الله أنه ليس له يدٌ في شيء مما كان، وإنما هو رأيٌ رأيته لنفسي، ولم أستشر فيه إلا عقلي وضميري؛ فأنا صاحبته والمأخوذة به إن كنت لا بد آخذًا به أحدًا، والسلام عليك من صديقتك التي ترجو عفوك وغفرانك.

(٦٨) من استيفن إلى ماجدولين

قد نسيتُ كل شيء يا ماجدولين، فاختاري لنفسك في حياتك ما شئت وها هي ذي رسائلك عائدةٌ إليك، فليس من الرأي بقاؤها عندي بعد اليوم، وإني أتقبل صداقتك بالصدر الرحب الذي تقبلت به حبك من قبل، أما النقمة فإني لا أنقم عليك ولا على خطيبك شيئًا، بل أسأل الله لكما السعادة في حاضركما ومستقبلكما.

(٦٩) الزفاف

ازدحمت الكنيسة بسكان قرية «ولفاخ» رجالًا ونساءً وظلوا جميعًا ينظرون إلى الباب بشوق وتلهف ينتظرون حضور العروسين، ثم ما لبثوا أن سمعوا صوت العجلات وهي مقبلة فنهضوا جميعًا على أقدامهم واصطفوا صفوفًا متتالية لاستقبال القادمين، ثم دخل «إدوار» آخذًا بيد ماجدولين وهي لابسة ثوبًا أبيضًا ناصعًا كأنما قد قُدَّ من جرم الزُّهَرة وعلى رأسها إكليلٌ من الزَّهْر يتلألأ في شعرها الذهبي الجميل، ودخل وراءهما الشيخ «مولر» و«سوزان» وأبوها وزوجها، و«اشميد» ابن عمة ماجدولين، و«ألبرت» ابن عم «سوزان»، وكثير من أهله وأهلها، فرأى الناس أجمل فتاة رأوها في حياتهم، فدعوا لها ولزوجها بالسعادة والهناء وملئوا أرجاء المعبد هتافًا بهما وثناءً عليهما، ثم مشيا إلى المذبح وركعا بين يدي القسيس على وسادتين من القطيفة المزركشة فركع الناس بركوعهما، وركع «استيفن» معهم، وكان قد جاء إلى المعبد قبل حضور الناس واختبأ وراء سارية من سواريه فلم يشعر به أحد، وظل يقول في ركوعه بصوتٍ ضعيفٍ خافتٍ لا يحسه أحد: «اللهم احرسها بعين عنايتك، وأسبل عليها ستر حمايتك، وامنحها السعادة والهناء في نفسها وفي عيشها، واكتب لها في صحيفة حياتها ما كنت أسألك أن تكتب لي في صحيفة حياتي.»

ثم بدأ القسيس يتلو صلاته وجاءت الساعة التي ينطق فيها بكلمته الأخيرة التي لا مرد لها ولا رجعة فيها، فشعر «استيفن» أن قلبه يخفق خفقانًا شديدًا ويضرب ضربًا يعلو صوته على أصوات النواقيس، فأمسك بكفيه على أحشائه وأغمض عينيه وقبع في أعماق نفسه، واستلهم الله الصبر على نكبته، ثم غشيته غاشية لم يشعر بما كان فيها حتى استفاق بعد ساعة فإذا الكنيسة خاليةٌ مقفرة تعتلج الظلمة في أرجائها، وتضرب رياح الليل الباردة في نوافذها وكواها، فزفر زفرة حَرَّى كادت تتساقط لها أضلاعه، وجعل يقول في نفسه: لقد قُضي الأمر، وخرجت ماجدولين من يدي، وأصبحت كفي صفرًا من جميع أماني وآمالي، فما العمل؟ وكيف أعيش؟ وأين أقضي بقية أيام حياتي؟ وأية غاية بقيت لي في هذا العالم أحيا من أجلها.

ثم خرج هائمًا على وجهه لا يعلم أي فج يسلك من فجاج الأرض، والأرض أضيق في عينيه من كفة الحابل، فإذا هو أمام بيت الشيخ «مولر»، فرأى المدعوين منصرفين من الحفلة زمرًا زمرًا، فَسَدِكَ بركنٍ مظلمٍ، من أركان السور حتى انقطع خفق الأقدام، وعلم أن المكان قد خلا بأهله، فرمى البيت بنظرة شزراء ملتهبة لو اتصلت شرارة من شررها بسقف من سقوفه أو كوةٍ من كواه لأتت عليه في لحظة واحدة، ثم ما لبث أن رأى النور قد انطفأ في جميع الغرف والقيعان إلا غرفة واحدة، فعلم أنها غرفة العروس، فلم يتمالك أن ثار من مكمنه ثورة الأسد المهتاج وأخذ يدور حول السور ذهابًا وجيئة وهو لا يعلم لِمَ يدور، وأين ينتهي؟ حتى وقع نظره على ثغرة مفتوحة فيه فوقف أمامها لحظة، حدثته نفسه باقتحامها فرأى حجرًا ضخمًا معترضًا في فجوتها، فما زال به حتى زحزحه عن مكانه، ثم انحدر إلى الحديقة غير خائفٍ ولا وجلٍ ولا مبالٍ ما أقدم عليه، وأخذ سَمْتَهُ إلى سلم الدار حتى بلغه، فصعده يختلس الخطى اختلاسًا حتى وصل إلى باب الغرفة المضيئة، فوقف به وأحس أصواتًا من ورائه، فشعر برعدة تتمشى في جميع أعضائه، وخُيل إليه أن قلبه ينحدر في هوة عميقة لا قرار لها، وأخذ يقول في نفسه: إنها الآن له وبين يديه لا يحول دونهما حائل، وكأني به وهو يضمها الآن إلى صدره ويلصق فمه بفمها، ويوسعها لثمًا وتقبيلًا، فتعطيه من نفسها ما يعطيها من نفسه، ثم نظر من ثقب الباب فلم ير شيئًا أمامه فوضع أذنه عليه وأصغى إلى حديثهما، فرنت في مسمعه أصوات الضحكات والقبلات، وسمعها تقول له فيما تناجيه به «أنت حياتي التي لا حياة لي بدونها.» فجُنَّ جنونه وحدثته نفسه أن يضرب الباب بقدمه ضربة هائلة تطير به ثم يقتحمه عليهما فيقتلهما ويخضب سرير العروس بدمهما، ثم يقتل نفسه على أثرهما، واستنصر قوته على ذلك فخذلته، فوقف بين الإقدام والإحجام يغلي دمه في عروقه غليان الماء في مرجله، ويمزق صدره بأظافره تمزيقًا شديدًا، حتى امتلأ قميصه دمًا، وتناثرت أفلاذ جلده بين أصابعه، وهو لا يشعر بألم، بل لا يعلم أنه يصنع من ذلك شيئًا، حتى أعياه الجهد، فزلت به قدمه فانقلب إلى أسفل السلم، وهو بين الحياة والموت.

ولم يزل في سقطته تلك حتى استيقظت الخادم «جنفياف» مبكرة قبل أن يستيقظ أحد من أهل البيت وضيفانه فرأته صريعًا في مكانه، فراعها أمره، وأدهشها وجوده في هذا المكان، ثم رأت الدم العالق بثوبه وأظافره فظنته قتيلًا، فحاولت أن تصيح فخانها صوتها، فأكبت عليه لتعلم ما شأنه، فأحست رجع أنفاسه، فهدأت قليلًا وعلمت أنه في غشيةٍ شديدة، فأشفقت عليه، وكانت تحبه وتكرمه، ولم تزل تنضح جبينه بالماء وتمسح صدره حتى استفاق، فدار بعينيه حول نفسه فذكر ما كان ورأى «جنفياف» بين يديه، فاحمر وجهه خجلًا، وسألها: هل عرف شأنه أحد غيرها؟ قالت: لا، فاعترف لها بمجمل قصته، وناشدها الله والمودة أن تكتم عليه ما كان، فوعدته بذلك، فقام يتحامل على نفسه حتى خرج من المنزل، ومشى في طريق قريته.

(٧٠) الهذيان

قالت «جوزفين» زوج «فرتز» للطبيب — وكانت تتولى تمريض «استيفن»: لقد أصبحت أخشى على الرجل أن يصيبه شر عظيم، وأخوف ما أخاف عليه أن تنزل بعقله نازلةٌ من نوازل الجنون، فقد أصبح لا ينطق إلا باسم تلك المرأة، ولا يفكر إلا فيها، ولا يرى في يقظته أو في منامه غيرها، فيتخيلها تارةً مقبلة عليه فيبتسم لها ويتهلل ويفتح ذراعيه لاستقبالها، وأخرى منصرفةً عنه فيضرع إليها ويستعطفها ويهتف باسمها هتافًا عاليًا، ويحاول النهوض من فراشه لإدراكها والتشبث بها، فهو إما ضاحكٌ أو باكٍ، أو هاتفٌ أو ضارع أو مسترحمٌ، ولئن دامت له حالته هذه بضعة أيام أخرى ذهبت النكبة بعقله أو بحياته، وما أحسب أن شيئًا غير ظفره بتلك المرأة أو اتصاله بها يشفيه من دائه، فقال الطبيب: لقد خاطرت اليوم بآخر ما في كنانتي من الأسهم، فسافرت إلى قرية «ولفاخ» وقابلت ماجدولين على غير سابق معرفة لي بها، ووصفت لها حالة المريض في جنونه واستهتاره بها، وقيامه وقعوده بأمرها ليله ونهاره، وسألتها أن تزوره زورةً واحدة عسى أن تنفعه وترفه عنه بعض ما به، فأبى زوجها عليها ذلك إباءً شديدًا، فلم أزل به أسترحمه وأستعطفه وأنشده الله والمروءة حتى أذعن بعد لَأْيٍ، واشترط أن يصحبها في زيارتها، فقبلت ذلك منه على مَضَضٍ، وقد تركتهما الآن يتهيآن للحضور على أثري.

ثم مشى إلى المريض وجس نبضه وأمرَّ يده على رأسه وقال: يا للعجب! لقد فَصَدْتُهُ ليلة أمس مرتين في ساعة واحدة فما أجدى ذلك عليه شيئًا، ثم جلس بجانبه ينضح جبينه بالماء ويُجرعه بضع قطرات من الدواء.

إنه لكذلك إذ قُرع الباب قرعًا خفيفًا، ففتح، فدخلت ماجدولين ووراءها «إدوار»، فلم يشعر «استيفن» بهما عند دخولهما، ثم فتح عينيه بعد قليل ونظر إلى «جوزفين» وقال لها: أين ثيابي التي أمرتك بإحضارها، أما تعلمين أن اليوم يوم الأحد وهو موعد ذهابي إلى الكنيسة للاحتفال بعقد زواجي؟ فأطرقت المرأة واجمةً، وأدارت ماجدولين وجهها لا يرى أحدٌ اصفرارها، فتقدم نحوها الطبيب وسألها أن تدنو منه وتناديه باسمه لعله يعرفها، فدنت من سريره ووقفت أمام وجهه، فنظر إليها نظرةً ذاهلة ثم أدار رأسه وأغمض عينيه، فعلمت أنه لم يعرفها، فنادته باسمه بذلك الصوت الرخيم العذب الذي طالما سمعه من قبل فملك عليه مداركه ومشاعره، فكأن موجةً كهربائية اندفعت في جسمه دفعة واحدة، فانتفض من مكانه وفتح عينيه وتناهض مكتئبًا على إحدى يديه، وظل يضرب بيديه على جبهته كأنما يستحيي في ذهنه ذكرى قديمة طال عليها العهد، ويدير رأسه يمنةً ويسرةً، ويقلب نظره في وجوه الجالسين حتى وقع على ماجدولين، فأخذ يحدق في وجهها تحديقًا شديدًا، ثم ابتسم ومد يده نحوها وقال لها: شكرًا لك يا ماجدولين، فقد جشمت نفسك مشقة المجيء إليَّ وقد كنت على وشك أن أذهب إليك الساعة لولا أن النوم طرقني فغلبني على أمري، فهلمي بنا الآن فقد حان الوقت، وما أحسب إلا أن أصدقاءنا ينتظروننا الآن في الكنيسة، وكأنني أراهم وقد جلسوا في دهليزها صفوفًا متتالية ينظرون إلى الباب بشوقٍ وتلهف يترقبون حضورنا، وأرى القسيس يعد لنا وسادتين من القطيفة المزركشة لنركع عليهما أمام المذبح، وكأنني أشم رائحة البخور متصاعدة من المواقد، وأسمع أصوات النواقيس تقرع قرعًا متتابعًا، ثم صعد نظره فيها وصوبه وقال لها: ما أجملك يا ماجدولين! وما أجمل هذا الثوب الأبيض الذي ترتدينه! إنك لا ينقصك الآن غير إكليل الزهر، ثم مد يده إلى أزهار كانت بجانبه فأخذ يضفر منها إكليلًا جميلًا ويتأنق في تنسيقه وتنظيمه، ثم نظر إلى الطبيب وقد خُيل إليه أنه الشيخ «مولر» فقال له: ائذن لي يا أبتاه أن أضع هذا الإكليل على رأس ابنتك، فنظر الطبيب إلى ماجدولين نظرة استعطاف يسألها فيها أن ترحمه وألا تنغص عليه هناءه الذي يتخيله.

فوضع «استيفن» الإكليل على رأسها وهي واجمة صفراء كأنما قد انتفضت من كفنٍ، وقال لها: أتذكرين يا ماجدولين يوم وضعت على رأسك منذ عامين في ساعة من ساعات أنسنا ولهونا إكليلًا مثل هذا الإكليل فتفاءلنا بذلك خيرًا وقلنا ليس بكثيرٍ على الأيام أن يصبح جِدًّا ما لهونا به، وحقيقةً ما حسبناه خيالًا؟ فها قد صدق اليوم فَأْلُنا، وصحت آمالنا وأحلامنا، فالحمد لله على ذلك، وله الشكر على آلائه ونعمائه، ثم نظر إلى «جوزفين» وقال لها: إني أشعر بضيق في صدري لا أعلم له سببًا فافتحي هذه النافذة لأستنشق هواء هذا الصباح الجميل، ففعلت فأخذ يقلب وجهه في السماء ويقول: ها هي ذي الطبيعة تهدي إلينا في يوم عرسنا أجمل ذخائرها وأعلاقها: هواءها العيل، وشمسها الساطعة، وسماءها الصافية الجميلة، فشكرًا لها على يدها عندنا، وشكرًا للدهر الذي أنالني أمنيتي وأظفرني بها بعد أن كنت على وشك اليأس منها.

ثم التفت فوقع نظره على «إدوار»، فهش له وابتسم في وجهه وقال له: شكرًا لك يا صديقي، ما أحسب إلا أنك الذي أشرت على ماجدولين بزيارتي في منزلي، ولولاك لحال بينها وبين ذلك الحياء الذي لا يفارقها في جميع آناء حياتها، فامدُدْ إليَّ يدك وكن أول من يهنئني بسعادتي من بين أصدقائي، فأنت أكرمهم عليَّ جميعًا وآثرهم عندي، أتذكر يا «إدوار» أيام كنا نعيش في هذه الغرفة الصغيرة التي نحن فيها الآن عيش البؤس والشقاء، وكنا نتساقى من الود كئوسًا مترعاتٍ تنسينا حلاوتها مرارة الحياة وآلامها، وكنت لا أجلس إليك مجلسًا إلا قصصت عليك فيه شأني مع ماجدولين، وأبثثتك وجدي بها ورجائي فيها، وقلت لك كلما رأيتك تنظر إليَّ نظرات الهزء والسخرية: إنها قد أقسمت لي يمينًا مُحَرَّجَة ألا يُفرق بيني وبينها إلا الموت، وإنها لم تخسَ بعدها أبدًا، وإن هذه السحابة السوداء التي تراها متلبدة في سماء حياتي لا تستطيع أن تثبت طويلًا على أشعة الحب الحارة المتدفقة، والحب إله قادر لا يعجزه شأن في هذا العالم، ولا يثبت على قدرته شيء؟ فها أنت ذا ترى أنني لم أكن كاذبًا في تصوراتي وأحلامي، وأن أمانيَّ وآمالي لم تكن كما كنت تظنها خيالات شاعر، ولا هواجس مجنون.

ثم تناول يد ماجدولين وأهوى بفمه إليها ليقبلها، فلمع أمام عينيه شعاعٌ خاطفٌ من أشعة الخاتم الماسي الذي يتألق في أصبعها، فاضطرب ومر بخاطره مرور البرق منظر ذلك الخاتم بعينه يوم رآه في يدها للمرة الأولى، وهي واقفة بجانب «إدوار» في حديقة منزلها، فتراخت يده وامتقع لونه وانطفأ ذلك الشعاع الذي كان يلمع في عينيه وارفض جبينه عرقًا، وأخذ صوابه يعود إليه شيئًا فشيئًا، فظل يقول بصوت خافت متهدج: لا، لا، لا حق لي في تقبيل يدها؛ لأنها ليست لي ولا شأن لي عندها، ثم تناول غطاءه فأسبله على رأسه وأخذ يبكي بكاءً شديدًا، ويقول للطبيب: ليخرجوا عني جميعًا فلا شأن لهم عندي ولا شأن لي عندهم، فاغرورقت عين ماجدولين بالدموع، ومدت يدها إليه كالضارعة وهمت بالركوع بجانب سريره، فجذبها إدوار جذبًا شديدًا، فتبعته متثاقلة، خطوة والتفاتة، وهي تقول بينها وبين نفسها: «وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين!»

وما انقضى النهار حتى ترك «إدوار» قرية «ولفاخ» وسافر بزوجته إلى «كوبلانس».

(٧١) اليأس

لبث «استيفن» في سرير مرضه شهرين كاملين كابَد فيهما من آلام النفس والجسم ما قُدِّرَ له أن يكابده، ثم أبل قليلًا، فهجر فراشه وأخذ يهيم على وجهه ليله ونهاره، ينام حيث يجد مضجعًا، لينًا أو خشنًا، ويأكل حيث يجد لقمة، بيضاء أو سوداء، لا يستقر بمكان، ولا يأوي إلى ظل، ولا يتعهد جسمه أو ثوبه بما يصلح شأنهما، واستبد به الحزن، فدق جسمه، وغارت عيناه، واسترسل شعر رأسه ولحيته، وآضت نضرة وجهه شحوبًا، وحمرة خديه اصفرارًا، وأصبح آية السابلين، وعبرة الغادين والرائحين.

وكان لا يمر بكوخ صديقه «فرتز» إلا اتفاقًا، فإذا مر به خرج الرجل إليه وزوجه وأولاده وتعلقوا به وناشدوه الله والمودة أن يدخل معهم كوخهم، فيدخل فلا يلبث إلا ساعة أو بعض ساعة حتى يدركه الملل فيثور ثورة الوحش المهتاج ويفر من بينهم راكضًا وقد عاد إلى شأنه الأول.

وكثيرًا ما كان يمر في تطوافه بمنزله الصغير الذي بناه في «جوتنج» وبنى فيه سروح آماله الذاهبة وأمانيه الضائعة فيصرف وجهه عنه ولا يطيق النظر إليه، وربما انكفأ راجعًا حين يلمح أول شرفة من شرفاته حتى لا يمر به ولا يقع نظره عليه.

وكان إذا ركب رأس طريقٍ مشى فيه قُدُمًا لا يقف ولا يتريث ولا ينظر يمنة ولا يسرة حتى يعترضه نهرٌ أو جدارٌ، أو يرى بين يديه مجتمعًا من الناس فيستفيق من ذهوله ويعود أدراجه.

ولقد استمر به المسير يومًا في بعض غدواته حتى وصل في منتصف النهار إلى «كوبلانس»، فأخذ يهيم في شوارعها وطرقاتها، والناس ينظرون إليه وإلى منظره الغريب وشعوره المشعَّثة الثائرة ونظراته الحائرة المتبددة ويعجبون لأمره.

وإنه لكذلك إذ مرت على القرب منه عجلةٌ فسمع فيها ضحكًا عاليًا خُيل إليه أنه يعرف نغمته، فالتفت فإذا ماجدولين و«إدوار»، فصعق في مكانه، وتراجع إلى جدار كان وراءه فاستند إليه وهو يقول: «ما أسعدهما وأهنأ عيشهما! إنما يبنيان سعادتهما على أنقاض شقائي.» ثم ذهل عن نفسه وظل في ذهوله ساعة فلم يستفق حتى رأى حلقة من الناس محيطة به، ورأى قومًا يتضاحكون ويتغامزون ويشيرون إليه إشارات الهزء والسخرية، فرماهم بنظرةٍ شزراء رجفت لها قلوبهم، وخطا خطوة واسعة إلى الأمام، فهالهم منظره، وتفرجوا له عن طريقه، فسار في سبيله لا يلوي على شيءٍ مما وراءه حتى بلغ ضاحية المدينة، فرأى نهرًا جاريًا على رأس مزرعة خضراء فجلس على ضفته يُؤامر نفسه على الموت ويقول: لقد كذب الذين قالوا إن الانتحار ضعفٌ وجبنٌ، وما الضعف ولا الجبن إلا الرضا بحياة كلها آلامٌ وأسقامٌ فرارًا من ساعة شدة، مهما كابد المرء من الغصص والأوجاع فهي ذاهبةٌ ولا رجعة لها بعد ذلك.

وهل يوجد في باب الجهالات أقبح من جهالة الرجل الذي يفضل حياةً يموت فيها في اليوم مائة مرة، على موتة سريعة عجلى تريحه من هذه الميتات المتقطعة المتداولة.

إني لا أدري لِمَ يضيقُ الرجل بثوبه فينزعه، ويسمج في نظره منزله فيهجره، ويتبرم بصاحبه فيفارقه، ويثقل على ظهره حمله فيُلقي به، فإذا ضاقت به حياته لا يخلعها، ولا يحدث نفسه بالخلاص منها، والحياة إذا بؤست كانت آلم للنفس وأثقل مئونةً من ثوبٍ ضيقٍ، أو حملٍ ثقيل.

إنا لا نخاف الانتحار إلا لأنا نحب الحياة، ولا نحبها على ما هي حافلة به من الكوارث والمحن إلا لأننا جهلاء أغبياء، نطمع في غير مطمعٍ ونرجو ما لا يمكن أن يكون، فمثلنا في ذلك كمثل لاعب القمار، يزداد طمعًا في الربح كلما ازداد خسارة، فلا يزال يخسر، ولا يزال يطمع، حتى تَصْفِرَ يده من كل شيء.

إنَّا لم نأتِ إلى هذا العالم باختيارنا فلِمَ لا نخرج منه متى شئنا؟ وإنَّا لم نكتب على أنفسنا عهدًا بين يدي أحد أن نبقى فيه بقاء الدهر فلِمَ يُسمى سعينا في الخلاص منه خيانةً وغدرًا، أو كفرانًا بنعمة الله وإحسانه؟

إنها هفوة هفاها «شِيشرون» الروماني في ذلك العهد القديم حينما قال: «إن كان لصاحب الراية في الحرب حقٌّ في إلقائها عن عاتقه كان للإنسان حق في قتل نفسه.» وجاراه المجتمع الإنساني كله على هفوته هذه حتى اليوم، دون أن يخطر على بال فردٍ من أفراده أن يقول له: إن لصاحب الراية الحق كل الحق في إلقائها عن عاتقه إذا ثقل حملها عليه.

وأعجب من ذلك أنهم لا يذكرون الانتحار إلا ذكروا اسم الله بجانبه، وافتنوا في تصوير غضبه ونقمته على المنتحرين، والله أعدل وأرحم من أن يبتلي عبدًا من عبيده ببلية لا تطيب له معها الحياة، ثم يأبى عليه إلا أن يرتبط بجانبها مدى الدهر، ولا يبتغي لنفسه طريقًا إلى الخلاص منها.

وكذلك صحت عزيمته على الانتحار، وأخذ يفكر في الصورة التي يفارق الحياة عليها فلم يزل يقلب وجوه الرأي في ذلك حتى اهتدى إلى صورة أعجبه خيالها الشعري، هي أن يكتب كتابًا إلى ماجدولين يبثها فيه آلامه وأحزانه ويحدثها عن عزمه على الانتحار، وعن المكان الذي سيلقي نفسه فيه من النهر، ثم ينزع من أصبعه خاتمه المنسوخ من شعرها ويضعه على فمه ويضع يده عليه ويقبله بلهفةٍ شديدة، ثم يلقي بنفسه في الماء على هذه الحالة، فإذا أتت ماجدولين وأخرجته من النهر ورأت هذه الصورة المحزنة التي مات عليها أثر في نفسها إخلاصه ووفاؤه، وأسفت على موته أسفًا عظيمًا، وألم بنفسها الندم على فعلتها التي فعلتها معه، فلا تزال تذكره طول حياتها وتندب مصرعه ومصيره حتى تلحق به.

وهنا رنت في أذنه تلك الضحكة العالية التي سمعها منها منذ ساعة وهي راكبة عجلتها مع زوجها، فطار ذلك الخيال من رأسه واضمحل في مسراه اضمحلال الأبخرة الذاهبة في آفاق السماء، وعادت له أناته ورويته وقال في نفسه: إن من كان مثلها في خيانتها وغدرها وصلابة قلبها وقسوته، لا يبالي ما أقدم عليه من شئونه، فربما ورد عليها كتابي فأغفلته ثم سمعت بخبر موتي فتنفست تنفس الراحة والدعة واغتبطت بينها وبين نفسها بانقشاع تلك الغيمة السوداء التي كانت تغشى سماء حياتها، وأعجبها أنها قد أصبحت آمنة مدى الدهر أن يذكرها مذكرٌ بخيانتها، أو يتراءى لها في مسلكٍ من مسالكها شبح تلك الجناية متى اقترفتها.

ثم أَنَّ أنَّةً مؤلمةً وقال: «ويلٌ لي من بائسٍ مسكين! لقد استحال عليَّ كل شيء حتى الموت.»

(٧٢) السعادة

قال «فِرِتْز» لاستيفن — وقد ركب معه في زورقه ساعة الأصيل فسار بهما يشق عُباب الماء شقًّا: رفه عليك قليلًا يا سيدي، فذلك أمر قد فات واستبد به من قُدِّرَ له، وليس في فائتٍ حيلة ولا لما قضى الله مردٌّ، ولو شئت أن أقول لك لقلت: إنه غير جميلٍ بك في فضلك وأدبك، ووفور عقلك واكتماله، وعزة نفسك وأنفتها أن تحبس حياتك كلها على امرأةٍ قد علمت ألا خير لك فيها، وأنها قد خانتك وخذلتك، وبلغت بك في الشقاء المبالغ التي لم يبلغها أحد، وطعنت قلبك تلك الطعنة النجلاء التي يَثَلُّ منها جريحًا إلا بمعونةٍ من رحمة الله وإحسانه، وإنها — وأنت تشقى هذا الشقاء كله في سبيلها — تقضي ساعات ليلها ونهارها بين ذراعي زوجها هانئة مغتبطة، غير حافلةٍ بك ولا آسفة عليك، ولا ذاكرة لك ذمةً ولا عهدًا، فأين شرفك وإباؤك؟ وأين عزة نفسك وأنفتها؟ وأين ترفعك الذي أعرفه لك ويعرفه لك الناس جميعًا عن مواطن المهانة والضَّعَة؟ الحق أقول إني لا أعرف سهمًا أخيب من سهمك، ولا رأيًا أضعف من رأيك، ولا حياة أضيع من حياتك.

لقد سلبتك هذه المرأة يا سيدي زهرة عمرك، فحسبك ذلك واستبق لنفسك ما بقي منه، وتمتع فيه بما أعد الله لك في هذه الحياة من لذائذ ومتع لا تنفد ولا تبلى، واطلب السعادة إن أردتها بين أحضان الطبيعة وأعطافها، وفي كل ما يحمل بساط الأرض وتظلل قبة السماء، فالطبيعة أمٌّ حنون تضم بين ذراعيها أولادها البؤساء المحزونين فتمسح همومهم عن صدورهم، ودموعهم عن مآقيهم، وتملأ قلوبهم غبطةً وهناء.

اطلب السعادة في الحقول والغابات، والسهول والجبال، والأغراس والأشجار، والأوراق والأثمار، والبحيرات والأنهار، وفي منظر الشمس طالعة وغاربة، والسحب مجتمعة ومتفرقة، والطير غادية ورائحة، والنجوم ثابتة وسارية، واطلبها في تعهد حديقتك، وتخطيط جداولها، وغرس أغراسها، وتشذيب أشجارها، وتنسيق أزهارها، وفي وقوفك على ضفاف الأنهار، وصعودك إلى قمم الجبال، وانحدارك إلى بطون الأودية والوهاد، وفي إصغائك في سكون الليل وهدوئه إلى خرير المياه، وصفير الرياح، وحفيف الأوراق، وصرير الجنادب، ونقيق الضفادع، واطلبها في مودة الإخوان وصداقة الأصدقاء، وإسداء المعروف، وتفريج كربة المكروب، والأخذ بيد البائس المنكوب، ففي كل منظر من هذه المناظر، أو موقف من هذه المواقف، جمالٌ شريف طاهر يستوقف النظر، ويستلهي الفكر ويستغرق الشعور، ويحيي ميت النفس والوجدان، ويملأ فضاء الحياة هناءً ورغدًا.

إنكم تأبون يا أهل المدن إلا أن تشتروا سعادة الحياة بدمائكم وأرواحكم، والسعادة حاضر بين أيديكم لا ثمن لها ولا قيمة، ولكنكم تجهلونها وتعرضون عنها، وتظنون ألا وجود لها إلا في أحضان النساء، وبين أستارهن وأرائكهن، فتبذلون في سبيلها من دموعكم وآلامكم ما لا قبل لكم باحتماله، فلا تلبثون أن تذبل حياتكم، وتضوى أجسامكم، وتنطفئ جذوة نفوسكم قبل أوانها، فتموتوا أضيع ميتةٍ وأخسرها، لا أملًا أفدتم، ولا حياةً حفظتم.

إنما يشقى في هذا العالم أحد ثلاثة: حاسدٌ يتألم لمنظر النعم التي يسبغها الله على عباده، ونعم الله لا تنفد ولا تفنى، وطماعٌ لا يستريح إلى غايةٍ من الغايات حتى تنبعث نفسه وراء غاية غيرها فلا تفنى مطامعه، ولا تنتهي متاعبه، ومقترفٌ جريمةً من جرائم العرض والشرف لا يفارقه خيالها حيثما حل وأينما سار، وما أنت يا سيدي بواحدٍ من هؤلاء، فمن أي بابٍ من الأبواب يتسرب الشقاء إلى قلبك؟

أنت شاعرٌ يا مولاي، وقلب الشاعر مرآةٌ تتراءى فيها صور الكائنات صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فإن أعوزتك السعادة ففتش عنها في أعماق قلبك، فقلبك الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه.

السماء جميلة، والشاعر هو الذي يستطيع أن يدرك سر جمالها، ويخترق بنظراته أديمها الأزرق الصافي، فيرى في ذلك العالم العلوي النائي ما لا تراه عين، ولا يمتد إليه نظر.

والبحر عظيم، والشاعر هو الذي يشعر بعظمته وجلاله، ويرى في صفحته الرجراجة المترجحة صور الأمم التي طواها، والمدن التي محاها، والدول التي أبادها، وهو باقٍ على صورته لا يتغير ولا يتبدل، ولا يبلى على العصور والأيام.

والليل موحشٌ، والشاعر هو الذي يسمع في سكونه وهدوئه أنين الباكين، وزفرات المتألمين، وأصوات الدعاء المتصاعدة إلى آفاق السماء، ويرى صور الأحلام الطائفة بمضاجع النائمين، وخيالات السعادة والشقاء الهائمة في رءوس المجدودين والمحدودين.

الشاعر يرى الجمال في كل شيء يتناوله سمعه وبصره، حتى في الزهرة الذابلة، والنبتة الحائلة، والمحلة الطائرة، والفراشة الحائمة، وفي مدارج النمال، وأفاحيص القطا، والنُّؤْي المتهدم، والجدث البالي، والشبح المخيف، والخيال الرائع، وفي الضفدعة الملقاة على شاطئ البحر، والدودة الممتدة في باطن الصهر، فهو من خياله الواسع في نعمةٍ دائمة لا تنفد ولا تبلى.

أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذا السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنقل ما شئت في جنباته وأكنافه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله، ورءوس أشجاره، وضفاف أنهاره، فأنت لم تخلق للسجن والقيد، بل للهتاف والتغريد.

فأطرق «استيفن» ساعةً ذهبت فيها نفسه كل مذهب، ثم رفع رأسه وقال: إني أحاول ذلك يا «فرتز» منذ أيامٍ طوال فلا أستطيعه، ولو كان لي فيما قضى الله حيلة لسحقت قلبي بقدمي سحقًا، ثم أسلمت ذراته إلى الرياح الأربع تذهب بها حيث تشاء، ولكن لا سبيل لي إلى ذلك، وإنما هو بلاءٌ قد بليت به لحين قد أُريد لي، على أني أعاهدك منذ الساعة عهدًا لا أَخِيسُ به ألا تراني بعد اليوم ذاكرًا لها، ولا باكيًا عليها، أما ما يضمره القلب من ثكل ولوعة فأسأل الله أن يعينني عليه، فقال له «فرتز»: ذلك كل ما أريده منك، والله يتولى شأنك ويعينك على بقية أمرك.

(٧٣) الهدوء

الحب قطرة غيثٍ صافية تنزل بالتربة الطيبة فتثمر الرحمة والشفقة والبر والمعروف، وبالتربة الخبيثة فتثمر الحقد والغضب والشر والانتقام، وكان «استيفن» طيب القلب، طاهر السريرة، فاستحالت تلك الآلام التي كانت تعتلج في نفسه إلى وجدانٍ طاهر شريف، يشعر ببؤس البائسين فيرثى لهم، وفجيعة المتفجعين فيبكي عليهم، ولقد وَفَى بعهده الذي عاهد عليه صديقه «فرتز»، فأمسك عن ذكر ماجدولين والتفكير فيها، وأخذ نفسه بنسيانها ونسيان ماضيها معه، فاستقام له بعض الذي أراد، وتراجعت آلام نفسه وأحزانها إلى زاوية منفردة من زوايا قلبه فكمنت فيها فلم يعد يشعر بها إلا في الفَيْنَة بعد الفينة، ولا يذكرها إلا كما يذكر المستيقظ حلمًا ضئيلًا من أحلامه المزعجة ساعة ثم يمضي لسبيله.

وكان أكبر ما أعانه على هدوئه وسكونه أنه أخذ نفسه بعمل الخير والمعروف، فوجد فيه لذةً تفوق لذة تلك الآمال والأحلام، فولع به ولعًا شديدًا، وأصبح لا يسمع بمنكوبٍ قريب منه أو ناءٍ عنه إلا ذهب إليه وأعانه على نكبته جهد استطاعته، ولا يطرق عليه بابه في دجى الليل أو ضحوة النهار طارقٌ لحاجة من الحاجات إلا أخذ بيده فيها واحتملها في نفسه أو في ماله، واتخذ أسرة صديقه «فرتز» أسرة له، فعَالَها، وواساها، وخلط نفسه بها، وأصبح أخًا لكبيرها، ووالدًا لصغيرها، ووجد في نفسه من الأنس بها والاغتباط بعشرتها ما كان يتمنى لنفسه طول حياته أن يكون له بين زوجته وأولاده، وعاد إلى فنه القديم، فن الموسيقى، وكانت قد شغلته عنه تلك الشئون الماضية، فتعهده في نفسه واستحياه، واستجد جميع آلاته وأدواته، فكان إذا جن الليل وخلا بنفسه قام إلى قيثارته فلعب بأوتارها، أو جلس إلى البيانو فوقع عليه بعض الألحان القديمة أو الحديثة توقيعًا يجيد فيه إجادة لا عهد له بمثلها من قبل، فقد صقلت تلك الآلام الماضية التي كابدها في حياته صفحة نفسه وأنارتها، وملأتها شعورًا ووجدانًا، وسمت بها إلى سماءٍ فوق سمائها الأولى، فتجلت بجلالها ورونقها في نبرات صوته حين يتنغم، وحركات أنامله حين يوقع، وما هي إلا أيام قلائل حتى ارتقى به الأمر إلى منزلة الابتكار، فوضع ألحانًا جديدة محزنة كانت تنفجر من ذلك القلب المصدوع تفجر المياه الصافية من صدوع الأحجار، فتنساب في أفئدة البائسين والمحزونين، وتتغلغل في أعماق قلوبهم حتى تبلغ سويداءها.

وما كان «استيفن» عالمًا من علماء الموسيقى، ولا حافظًا من كبار حفاظها، ولا كان نصيبه من الإلمام بقواعدها وأصولها أكثر من نصيب زملائه ولِدَاتِه، ولكنه كان ذا قلب، والقلب هو الينبوع الثَّجَّاج الذي يتفجر منه الشعر والموسيقى وسائر الفنون الأدبية، وليس أشعر الشعراء أحفظهم لقواعد اللغة وقوانينها، بل أدقهم شعورًا وألطفهم حسًّا، وليس أفضل المغنيين أعلمهم بفنون النغم، وضروب الإيقاع، بل أنطقهم قلبًا وأفصحهم فؤادًا، وما ملك نوابغ الممثلين أفئدة الناس وقلوبهم في مواقف تمثيلهم، ولا استدروا دموع الباكين من محاجرها، إلا لأن لهم قلوبًا حزينة متفجعة تتأثر بصور الوقائع التي يمثلونها؛ فإذا بكوا صدقوا في بكائهم، وإذا تفجعوا تفجعوا بقلوبهم، ولا يفهم لغة القلب غير القلب ولا يشعر بسر النفس غير النفس، ورب أنةٍ بسيطة ساذجة يسمعها السامع في جوف الليل من ثاكلٍ منكوب تأخذ من نفسه ما لا تأخذه قطعةٌ شعرية بليغة مملوءة بغرائب المعاني وبدائع التصورات، ينظمها شاعرٌ غير باكٍ ويغنيها مغنٍّ غير محزون، وما قواعد الشعر والموسيقى والرسم والتصوير إلا حدودٌ يتقي بها المقلدون المحتذون الوقوع في الخطأ الفني، أما الملهمون فما أغناهم برقة وجدانهم ولطف حسهم وصفاء نفوسهم وسلامة طباعهم عن التمثل والاحتذاء.

(٧٤) من ماجدولين إلى سوزان

كنت أرجو أن تطول عشرتنا في «كوبلانس» أكثر مما طالت، وألا يفرق بيني وبينك إلا الموت، ولكن هكذا أراد زوجك أن يطوي بك هذه المرحلة البعيدة، وأن يحرمني أعز صديقةٍ كنت لا أجد لذة العيش إلا بجوارها، ولا أستسيغ طعم الحياة إلا معها، ولعلك هانئة في موطنك الجديد كما كنت هانئة في «كوبلانس».

أنا سعيدةٌ والحمد لله، لا أشكو شيئًا غير فراقك، وحرماني رؤيتك، و«إدوار» لا يزال يحبني وينزل عند رغباتي، ويتفقد جميع مرافقي وحاجاتي، فله الشكر على ذلك.

لا أكتمك يا «سوزان» أني كنت أشعر في نفسي ببعض الحزن على ذلك الفتى المسكين الذي لقي في سبيلي ذلك الشقاء العظيم الذي تعلمينه، ولقد سررت اليوم سرورًا عظيمًا حينما علمت من أخباره أنه قد نسي ذلك الماضي جميعه خيره وشره، وأنه قد عاد إلى رشده وصوابه، ونزع عن تلك التصورات الغريبة والخيالات السوداء التي كانت تخالط عقله، وتذهب براحته وسكونه، وأصبح يأنس بالناس ويشعر بلذة المخالطة والاجتماع، ويعيش في بيته الذي بناه في «جوتنج» عيشًا هادئًا ساكنًا لا يمازجه حزنٌ ولا كدرٌ، بل سمعت عنه ما هو أكثر من ذلك، وهو أنه يشتغل بفن الموسيقى اشتغالًا يستغرق جميع مشاعره وعواطفه، وأنه قد برع فيه براعةً غريبة لا يبلغ مبلغه فيها إلا القليل من الناس، ويقول الذين حدثوني حديثه إن شأنه في ذلك الفن سيكون شأنًا عظيمًا، وربما بلغ فيه بعد قليلٍ من الأعوام مبلغ النابهين من نوابغه وأفذاذه، فحمدت الله على ذلك حمدًا كثيرًا؛ لأني كنت أشعر في أعماق نفسي بالحزن عليه والرثاء له، بل بالنقمة على الدهر من أجله، وكان يخيل إليَّ أنه لو مات في سبيله هذه لتنغص عليَّ عيشي، ولقضيت بقية أيام حياتي محزونة النفس، موحشة القلب حتى يوافيني أجلي.

اكتبي إليَّ كثيرًا يا «سوزان» وحدثيني عن كل ما يحيط بك من الأشياء، ذلك ما يعزيني عن فراقك بعض العزاء.

(٧٥) من ماجدولين إلى سوزان

أنعي إليك مع الأسف والدي، فقد مات رحمة الله عليه بعد مرضٍ لازمه خمسة أشهرٍ، وكنت قائمة بتمريضه كل هذه المدة في «ولفاخ» حتى مضى لرحمة ربه، ولم أعد إلى «كوبلانس» إلا منذ أيام قلائل، وهذا ما حال بيني وبين الرد على كتبك التي أرسلتها إليَّ، فسامحيني في تقصيري، وابكي معي ذلك الأب البر الرحيم الذي أحبني في حياته فوق ما يحب الآباء أبناءهم، ومات وهو لا يأسف على فقد شيءٍ في الدنيا سواي، ولقد كنت لأسمع قبل اليوم أن الفتاة الثاكل لا تبكي أباها وهي متزوجة كما تبكيه وهي عذراء، فأرتاب في ذلك ارتيابًا كثيرًا، حتى مات أبي فبكيته بكاءً لا تبكيه متزوجةٌ ولا عذراء، فرحمة الله عليه وعلى أيامه الغر الحسان، وعلى نفسه الطاهرة.

ولقد عزاني عن فقده بعض العزاء أن كثيرًا من صواحبي وأصحاب زوجي كتبوا إليَّ كتب تعزيةٍ رقيقة حَمَلَتْ عن نفسي بعض همومها وأشجانها، والذي عجبت له كل العجب وملأ نفسي دهشةً وحيرةً أني وجدت بين تلك الكتب كتابًا من «استيفن» أرسله إليَّ من «جوتنج» يعزيني فيه أجمل تعزية وأرقها، ويتفجع فيه على الميت تفجعًا عظيمًا، ويخاطبني بتلك اللهجة التي لا يخاطب بها المرء إلا أكرم أصدقائه عليه، وآثرهم عنده، فعجبت لأمره كثيرًا وقلت في نفسي: إن كان الرجل لا يزال يضمر لي في قلبه حتى اليوم بقيةً من ذلك الإجلال القديم بعد الذي كان بيني وبينه، فهو أكرم الناس خلقًا، وأشرفهم نفسًا، وأعلاهم همةً، على أن الذي سرني في عمله هذا أكثر من كل شيء أنه قد غفر لذلك الشيخ المسكين تلك الإساءة التي كان يظن أنه أسلفها إليه، فمضى لربه طاهر النفس، نقي الصحيفة، لا يحمل تبعةً، ولا يجر وراءه إثمًا.

ألا تعجبين معي يا «سوزان» لهذا الإنسان الغريب الذي كنا نتهمه بالأمس في عقله، وننزل به إلى مرتبة المُخالَطين الممرورين الذين لا يصلحون لشأنٍ من شئون الحياة كيف استحالت حاله، وهدأت ثوره نفسه، وأصبح رجلًا كريمًا مهذبًا، عاملًا مستقيمًا، طيب السريرة والنفس، لا يحقد ولا يضطغن، ولا يأبى أن يغفر الذنب الذي لا يغفره أحد، وينسى الإساءة التي لا ينساها إنسان؟! أهديك يا «سوزان» تحيتي، وبلغي «فردريك» تحيتي وتحية «إدوار».

(٧٦) من ماجدولين إلى سوزان

لم تكتبي إليَّ يا «سوزان» منذ ثلاثة أشهر إلا كتابًا واحدًا لا يزيد على خمسة أسطرٍ، وهو قليلٌ لا يقنعني منك، فإن لم تكتبي إليَّ لتعزيتي وتسرية هموم نفسي فاكتبي إليَّ لأعلم أنك سعيدة هانئة في موطنك الجديد.

أشعر يا «سوزان» مذ مات أبي أنني ضيقة الصدر، خائرة النفس، ولا أدري ما الذي طرأ على «إدوار»، فقد تغير لي بعض التغير عما كان عليه، وأصبح لا ينظر إليَّ بالعين التي كان ينظر بها إليَّ من قبل، ولا أريد أن أقول إنه أبغضني أو تبرم بي أو فتر عن خدمتي والقيام بشأني، بل أريد أن أقول إنني أصبحت أرى في عينيه تقصيرًا نحوي وازورارًا لا عهد لي بهما من قبل، وصارت ابتسامته مزيجًا من المجاملة والحب، وكانت خالصة للحب قبل ذلك، وأصبحت تتخلل أحاديثنا فتراتٌ طويلةٌ موحشة ما كانت تتخللها قبل اليوم، وكنت لا أذهب معه في الحديث مذهبًا أستحسن فيه أمرًا أو أستهجنه إلا ذهب معي فيه، فأصبح يستهجن أكثر ما أستحسن، ويستحسن أكثر ما أستهجن، كأنما يتعمد مغايظتي ومحادتي، وصار يأنس بالزائرين والوافدين ويطيل جلوسه معهم، وقلما كان يأنس بهم أو يهش إلى لقائهم أو يستخفه شيء غير الجلوس معي والحديث إليَّ، وكنت لا أبتسم إلى رجل من الرجال ابتسامة ود أو مجاملة أو أتبسط معه في حديثٍ إلا وجم لذلك وجومًا يظهر في عينيه وفلتات لسانه، فأصبح لا يأبه لشيءٍ من ذلك ولا يحفل به، والغيرة دخان الحب، فإذا انطفأت ناره انقطع دخانه.

لا يحزنك من ذلك شيء يا «سوزان» فربما كنت واهمةً أو متخيلةً، وربما كتبت إليك بعد قليل أنني سعيدة هانئة، وأن هذا الوهم لا أثر له في نفسي.

(٧٧) من سوزان إلى ماجدولين

لا شك أنك واهمةٌ يا ماجدولين، فإن «إدوار» يحبك حبًّا شديدًا، ولا يؤثر على رضاك غرضًا من أغراض الحياة ومآربها، وأرى لك ألا تتغلغلي بنفسك هذا التغلغل كله في بواطن الأشياء وأعماقها، فعفو الحياة خير من مجهودها، والسعادة كالزهرة لا تزال ناضرةً ما قنع رائيها منها بمنظرها وأريجها، فإذا جاوز ذلك إلى لمسها والعبث بها ذبلت وذوت وذهب جمالها ورواؤها، وأُهديك تحيتي وسلامي.

(٧٨) من ماجدولين إلى سوزان

لقد وقع لي منذ أيامٍ أمرٌ غريب لا أجد لي بدًّا من الإفضاء به إليك: دُعيت أنا و«إدوار» منذ أيامٍ قلائل إلى حفلة أنسٍ قال صاحبها حين دعانا إليها: إن الذي سيقوم بأدوار الغناء والتوقيع فيها صديقٌ له من مهرة الموسيقيين وحذاقهم، فسألناه عن اسمه فأبى إلا أن يباغتنا به مباغتةً، وقال: إنه حديث عهد بذلك الفن، وإن هذا أول عهده بالغناء في المجامع العامة، وظل يثني عليه ثناءً عظيمًا، ويذهب في تقريظه والإشادة له كل مذهب، فلم يكن لي همٌّ عندما ذهبت إلى تلك الحفلة إلا رؤية ذلك الموسيقي الماهر واستماع أغانيه وألحانه، فظللت شاخصةً إلى كرسي البيانو أنتظر ذلك الذي سيتقدم من بين الحاضرين فيجلس عليه حتى رأيت فتى نحيلًا ساهم الوجه، تتراءى بين أعطافه مخايل العزة والشرف، قد مشى إلى ذلك الكرسي حتى جلس عليه بلباقة وظرفٍ، فتأملته فإذا هو «استيفن»، وما كدت أعرفه فقد اختفى من وجهه ذلك الإنسان الأشعث الأغبر، الخشن الأعضاء والملامح، وحل محله إنسانٌ آخر ظريفٌ متأنقٌ هادئ الحركات حلو الشمائل، يكاد يحسبه الناظر إليه للمرة الأولى جميلًا، وما هو بجميلٍ ولا مستملحٍ، ولكنه جمال نفسه قد فاض على جسمه فكساه رونقه وبهاءه.

ثم بدأ التوقيع فأنشأت أنامله تلعب بأوتار البيانو، فكأنما كانت تلعب بأفئدتنا وقلوبنا، وأخذ يغني في أثناء توقيعه غناءً مشجيًا مخزنًا، خُيل إلينا ونحن نسمعه أننا قد انتقلنا من هذا العالم إلى عالمٍ آخر من عوالم الأرواح، وأن ما نسمعه ليس صوتًا صاعدًا من عالم الأرض بل هابطًا من آفاق السماء، حتى أتى على النغمة الأخيرة، فلم يملك السامعون أنفسهم أن هرعوا إليه جميعًا وداروا به يهنئونه ويقرظونه، ويرددون في أحاديثهم أنهم ما سمعوا في حياتهم توقيعًا أفضل من توقيعه، ولا ألحانًا أبدع من ألحانه، وهو يشكر لهم ثناءهم عليه واحتفاءهم به، ويبتسم لهم فيما بين ذلك ابتسامةً هادئة غريبة، لا يعلم الناظر إليه أمتكلفةٌ هي أم هي ابتسامته التي لا تنفرج عن غيرها شفتاه؟ وكيفما كان الأمر فقد خُيل إليَّ أني رأيت فيها معنى دقيقًا لا أحسب أن أحدًا من الناس أدركه سواي، وهو أنها مصبوغة بصبغةٍ رقيقةٍ من الحزن العميق.

ولقد كادت تحدثني نفسي لكثرة ما نالني من الطرب وخالط قلبي من الجَذَل والسرور أن أذهب إليه أهنئه كما يفعل سائر الناس، فلم أستطع حتى أرى رأي «إدوار»، فلم ألبث أن رأيته يمشي إليه فتبعته حتى هنأه فهنأته مثله، وكنت أتوقع أن أرى على وجهه عند رؤيتنا حالة من حالات الغضب أو الارتباك، فلم أر إلا رجفةً خفيفةً مرت بشفته عندما نظر إلينا ثم عاد إلى ابتسامه وتطلقه، وأنشأ يحدثنا بسكون وهدوء كأنما هو يتمم حديثًا كان بيننا وبينه من قبل، فعلمت أن الرجل قد محا من سجل حياته تلك الأعوام التي شقي فيها، ومحا معها ذكرى علاقتنا ببؤسه وشقائه، وأصبح لا يرى بين يديه إلا امرأة قد منحته في عهدٍ من عهود حياتها الماضية ودها وإخلاصها، وإلا رجلًا قد صادقه وآخاه وقاسمه بؤسه وشقاءه في أيام طفولته وصباه، ثم لا يزيد على ذلك شيئًا، فلم ينقضِ الليل حتى ذهب ما كان بينه وبيننا من الوحشة والجفاء، وذهبنا معه في الحديث مذاهب مختلفة، ووعد «إدوار» أن يزوره في منزله في عهد قريب، ثم افترقا.

(٧٩) من ماجدولين إلى سوزان

لا أزال يا «سوزان» ضيقة الصدر، كثيرة الهم، ولا يزال «إدوار» قريبًا مني بعنايته واهتمامه، بعيدًا عني بقلبه وعواطفه، فقد ملأ فراغ قلبه بشئونٍ مختلفة لا أعرفها ولا آبه لشيءٍ منها، ولم يترك فيه للحب إلا زاوية صغيرة محددة لا تتسع ولا تنقبض، ولا تجد العواطف لنفسها فيها مجالًا؛ فهو يحبني حبًّا هادئًا فاترًا، ربما لا يزيد عن محبته لخيوله وعجلاته، وقصوره وبساتينه، وأحسب لو أنه أراد أن يزيد على ذلك شيئًا لما استطاع؛ لأن نفسه ليست تلك النفس الشعرية المتلألئة التي تذهب في الحب كل مذهب، وتطير في سمائه كل مطار، ولأنه لا يفهم من الحب أكثر من ذلك المعنى المادي البسيط الذي يفهمه الحيوان الأعجم، بل لا يدرك من شئون الحياة جميعها غير ما يقع تحت حواسه ومشاعره.

والآن أستطيع أن أعترف لك يا صديقتي بأنني ما شعرت في يومٍ من أيام حياتي معه — على حبي إياه وإعجابي به — بأن نفسي خالطت نفسه، أو لامستها، أو امتزجت بها ذلك الامتزاج الذي يحيل النفسين المختلفين إلى نفسٍ واحدة، بل كنت أرى دائمًا أنه وإن كان يحبني ويستهيم بي ويبذل لي من ذات نفسه وذات يده كل ما يستطيع أن يبذله زوج لزوجته؛ فهو عاجزٌ عن أن يشعل في قلبي نار الحب الشعري الجميل الذي لا تقنع المرأة من الرجل بدونه، ولا تأنس منه بشيء سواه، ونار الحب إن لم يتعهدها متعهدها بالتأريث والتأجيج فترت وانفثأت واستحالت جمرتها إلى رمادٍ، والحب كالطائر لا حياة له إلا في الغدو والرواح، والتغريد والتنقير، فإذا طال سجنه في قفص القلب تضعضع وتهالك، وأحنى رأسه يائسًا، ثم قضى.

وأعظم ما أشكو من الهموم في حياتي معه أنني أصبحت أشعر منذ أيام طوالٍ أنني أعيش في عزلةٍ منقطعةٍ عن العالم كله، لا أنيس لي فيها ولا سمير، فإذا مر بخاطري فكرٌ من الأفكار أو اختلج في نفسي غرضٌ من الأغراض، أو خفق قلبي خفقة سرورٍ أو حزنٍ أو ارتياحٍ أو انقباضٍ، لا أستطيع أن أفضي إليه بشيءٍ من ذلك مخافةً ألا يفهمه، أو يفهم منه غير ما أريد فيزدريه ويزدريني من أجله، ويوسعني هُزءًا وسخريةً، فلا أجد لي بدًّا، من أن أتكتمه في نفسي، وأطويه بين أضالعي.

ألا ترين بعد هذا يا «سوزان» أنني في أشد الحاجة إليك، وإلى بقائك بجانبي، لتأخذي بيدي في ظلمات حياتي، وتحملي عني بعض همومي وأشجاني، فهل يقدر لي الله أن أراك بين يدي في عهدٍ قريب؟

(٨٠) الوحدة النفسية

لقد صَدَقَتْ ماجدولين فيما قالت، فقد ملها «إدوار» بعد عامين اثنين من زواجه منها وبَرِمَ بها وانتهى أمره معها بما ينتهي به كل زواج تعقده يد الشهوة، ولقد مل منها أكثر من كل شيء تلك الوحشة التي كانت سائدة على نفسها، وذلك السكون المخيم على عواطفها ومشاعرها، وذهابها في تصوراتها وآرائها مذهب الخيال الشعري الذي لا يألفه ولا يأنس به، ولا يلتئم مع طبيعة نفسه ومزاجها، فلقد كانت نفسه نفسًا ماديةً ضاحكة ونفسها نفسًا روحية مكتئبة، وقد تكلف كل منهما الخروج عن طبعه برهة من الزمان لغرض طارئ من أغراض الحياة، فأخرجها عن طبعها ذلك اللألاء الساطع الذي بهر عينيها عند انتقالها من القرية إلى المدينة، وتلك الضوضاء العظيمة التي أحاطت بأذنيها وحالت بينها وبين سماع صوت قلبها، وأخرجه عن طبعه أنه أحبها وافتتن بها، وكان لا بد له من أن يقع من نفسها، وينزل عند رغبتها، فتجمل لها في أحاديثه ومنازعه، وتصوراته وآرائه، بما يتجمل به كل رجل لكل امرأةٍ عند خطبتها، حتى اتصلا بصلة الزواج، فأخذا يتراجعان شيئًا فشيئًا إلى طبعهما وسجيتهما، ويذهبان في الحياة مذهبهما الذي فُطِرَا عليه، فتنافرا وتناكرا، واستوحش كلٌّ منهما من صاحبه، ولقد كان يكون «إدوار» خير الأزواج لو أنه تزوج امرأة مثل «سوزان» مادية النفس، وكانت تكون ماجدولين أسعد الزوجات لو أنها تزوجت رجلًا مثل «استيفن» شعري الطبيعة، وما خدعت «سوزان» ماجدولين في تزيين هذا الزواج لها وإغراضها به، ولا أرادت بها في ذلك سوءًا؛ لأنها لم تر لها إلا ما ترى مثله لنفسها، ولا سلكت بها إلا الطريق التي سلكت مثلها في حياتها.

والهفوة التي يهفوها الرجال والنساء جميعًا في مسألة الزواج أنهم يتساءلون عن كل شيء من جمالٍ أو مالٍ، أو خلقٍ أو ذكاءٍ، أو علمٍ أو عقل، أو عفة أو أدب، ويغفلون النظر في ملاك هذه الأشياء جميعها وزمامها، وهو الوحدة النفسية بين الزوجين، فالنفس نفسان: مادية تقف عند مظاهر الحياة ومرائيها، وروحية تتغلغل في أعماقها وأطوائها، وأصحاب النفس الأولى هم أولئك الجامدون المتبلدون الذي يدورون في الحياة حول محور أنفسهم ولا يحفلون بشيء فيها إلا بما يتصل بمطامعهم أو بشهواتهم، والذين إذا شغفوا بالجمال شغفوا به باعتبار علاقته بأجسامهم لا بنفوسهم، وإذا أعجبوا بمنظرٍ من المناظر أعجبوا به من حيث قيمته ومنفعته لا من حيث بهائه ورونقه، وإذا وقفوا أمام قصرٍ باذخ جميل شغلهم النظر في غَلَّتِهِ وثمرته عن الشعور بجماله وعظمته، وإذا أشرفوا على الطبيعة ضاقت صدورهم بمناظر غياضها ورياضها، وآجامها وأحراشها، واستوحشوا منها وحشة السائر في فلاةٍ جرداء، أو الهائم في مغارة جوفاء، وإذا صادقوا الناس صادقوهم على المنفعة أو الشهوة، أو عادوهم فيهما، يضحكون والعالم باكٍ، ويعرسون والدنيا في مأتم، ولا يبالون أهلك الناس أم بقوا ما داموا باقين، وسعدوا أم شقوا ما داموا سعداء مغتبطين.

وأصحاب النفس الثانية: هم أصحاب الملكات الشعرية الذين صفت قلوبهم، فأصحبت كالمرائي المجلوة، فيتراءى فيها العالم بما فيه من خير وشر، ففرحوا بخيره وحزنوا لشره، ورقت أفئدتهم، فشعروا بألم المتألمين فتألموا معهم، وببكاء الباكين فبكوا عليهم، وخفت أرواحهم، فطاروا بأجنحتهم في آفاق السماء، وحلقوا في أجوائها فأشرفوا على الطبيعة، ورأوها في جميع مظاهرها ومرائيها، فوجدوا في رؤيتها من اللذة والغبطة ما زاحم في قلوبهم حب المال والشهوات، فاعتدلوا في مطامعهم وترفقوا في مساعيهم، وازدروا كل لذة في الحياة غير لذة الحب، وكل جمال غير جمال الخيال.

ولا تلتئم النفس المادية بالنفس الروحية بحالٍ من الأحوال ولا تأنس بها، ولا تجد لذة العيش معها، وليس الذي يفرق بين الصاحبين أو الزوجين او العشيرين تفاوت ما بينهما في الذكاء أو العلم أو الخلق أو الجمال أو المال، فكثيرًا ما تصادق المختلفون في هذه الصفات وتخادنوا وصفت كأس المودة بينهم، وإنما الذي يفرق بينهما اختلاف شأن نفسيهما، وذهاب كل منهما في منازعه ومشاربه ورغباته وآماله وتصوراته وآرائه غير مذهب صاحبه، وأن يكون أحدهما ماديًّا ضاحكًا للحياة سعيدًا بضحكه، والآخر روحيًّا باكيًا عليها سعيدًا ببكائه، وهذا هو الذي كان بين «إدوار» وماجدولين.

ولم يكن الجمال وحده هو كل مزايا ماجدولين، بل كان أقلها شأنًا وأدناها قيمة، ولكن «إدوار» لم يستطع أن يفهم شيئًا غيره أو يُعنى بأمر سواه، فما هو إلا أن حصل في يده واستنفد متعته به حتى بدأ الملل يدب في نفسه دبيبًا خفيًّا، فلم تشعر به ماجدولين في مبدأ الأمر؛ ثم أخذت تحسه شيئًا فشيئًا، فذعرت وارتاعت، وملأ الريب ما بين جوانحها، وما هي إلا أيام قلائل حتى أخذت تنقشع عن عينيها تلك الغيابة السوداء التي كانت تظللهما، فاستطاعت أن تهبط إلى أعماق قلبها، وتفتش فيه عن صورة الرجل الذي تعاشره وتزعم أنها تحبه، فرأت صورةً لا تعجبها ولا تروقها، ولا تخالط نفسها ولا تمازجها، وعادت إلى ماضيها معه، فأخذت تقرأ صفحاته صفحة صفحة حتى أتت على آخرها، فتبين لها أنها لم تكن تحبه، أو أنها كانت تحب فيه شيئًا غير نفسه، وأن الصلة التي بينها وبينه إنما هي صلة الزوجة بالزوج، لا صلة القلب بالقلب، فعرفت أنها لم تُحسن الاختيار لنفسها، وأن شقاءً طويلًا ينتظرها فيما بقي لها من أيام حياتها.

(٨١) من سوزان إلى ماجدولين

أراك تُحدثينني في كتبك كثيرًا عن «استيفن» كأنك قد نسيت أنه أصبح رجلًا غريبًا عنك لا شأن لك به، وأن ما كان بينكما قد انقضى وذهب لسبيله، وأغرب من ذلك أنك تكتبين عنه بلهجةٍ أفضل من اللهجة التي تكتبين بها عن زوجك، وأخاف أن يكون لالتقائه بك في تلك الحفلة التي قصصت عليَّ قصتها صلةٌ بهذا الألم الجديد الذي أصبحت تشعرين به اليوم، فما عهدتك قبل الآن باكيةً ولا شاكية، ولا ناقمةً من زوجك شأنًا من شئونه، ولا متبرمة بعشرته، ولا ضيقة الصدر بأطواره وأخلاقه، ولا طائرة في سماء الخيال ليلك ونهارك تفتشين عن الحب الشعري وتتلمسينه تلمس من لا يرى لنفسه غناءً عنه، ولا يعرف معنى للحياة بدونه، فخذي حذرك من نفسك يا ماجدولين، واعلمي أن ما كان يعد بالأمس هفوةً من الهفوات الصغيرة يصبح اليوم جنونًا مطبقًا لا يُماثله جنون، ولا يوحشنك مني ما أقول لك، فأنا لا أتهمك ولا أرتاب فيك، وأنت أعلم بذلك، ولكنني أخشى عليك أن يتلاقى في مكان واحد من قبلك ذكرى ماضيك، وهناء حاضرك، فيصطرعا، فينغص عليك أولهما ثانيهما، فلا الماضي تذكرين، ولا بالحاضر تسعدين.

هذا ما أريد أن أقوله لك، وهذا ما أطلب إليك أن تتعهديه من نفسك وتتولي حراسته من قلبك، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفعك فيه تعهدٌ ولا افتقاد.

(٨٢) من ماجدولين إلى سوزان

لا علاقة لاستيفن بهذا الهم الذي أشعر به، وليس بيني وبينه أكثر مما يكون بين صديقين احتمل أحدهما في سبيل الآخر في عهد من عهوده الماضية أقصى ما يستطاع احتماله من المشقة والمئونة، فعرف له الآخر يده، وشكرها له، وجازاه ودًّا بودٍّ، ومعروفًا بمعروف.

أما هذا الذي تريدين أن تذهبي إليه في كتابك فأقسم لك أني لا أعرف له أثرًا في نفسي، ولا أحسب أن له أثرًا في نفسه، فقد رأيته في تلك الليلة التي قصصت عليك قصتها ثم رأيته بعد ذلك مرتين فلم أر في نظرات عينيه ولا في ملامح وجهه ولا في نغمة حديثه أثرًا من ذلك الحب القديم الذي تعرفينه، وكل ما يستطيع الناظر إليه أن يلمحه في وجهه تلك المسحة الرقيقة من الحزن التي تتراءى في عينيه حين ينظر، وفي ابتسامته حين يبتسم، وما هو بحزين ولا مكتئب، ولكنها صورة الألم القديم قد رسمها الماضي على وجهه ثم ذهب، فبقيت هي من بعده دليلًا عليه كما تبقى صورة الجرح بعد التئامه، فاطمئني يا «سوزان»، وليكن رأيك فيَّ اليوم رأيك بالأمس، ولا يقم هذا البعد الذي بيني وبينك حجابًا بين نفسي ونفسك.

(٨٣) قلب استيفن

نَبُهَ ذكْرُ «استيفن» وعظم شأنه، وأصبح نابغةً من نوابغ الموسيقى، وانتشر له صيت بعيد في «جوتنج» وما وليها من البلدان، ثم امتد صيته إلى «كوبلانس»، فزاره في قريته كثير من المغنين والممثلين، واقترحوا عليه تلحين القطع التمثيلية، وأجزلوا له الأجر عليها، فلحنها أفضل تلحين وأبرعه، ودرت عليه أخلاف الرزق، وسال واديه بالذهب سيلًا، وكان أبوه قد مات ووَرَّثَهُ تلك الصُّبَابَة من المال التي كانت في يده، فكان إذا ذهب إلى «كوبلانس» ليقضي فيها ليلةً أو ليلتين لبعض شئونه الخاصة نزل في بيته، وزاره فيه أصدقاؤه وخلانه والمعجبون بفضله، والمعترفون بصنائعه وأياديه.

ولقد وجد في تلك الخطة التي انتهجها لنفسه في حياته بعض العزاء عما لقي في ماضيه، إلا أنه كثيرًا ما كان يخلو بنفسه في هدوء الليل وسكونه فتمر أمام نظره على الرغم منه جميع آلامه وهمومه الماضية، فيذكر الليلة التي خرج فيها من «كوبلانس» شريدًا طريدًا لا يجد مواسيًا ولا معينًا، والليلة التي ذهب فيها إلى عرس «سوزان» لرؤية ماجدولين فضربه أحد الزائرين على وجهه سوطًا فأدماه، والليلة التي كابد فيها الأهوال العظام في غرفة قريبه ليلة وفاته حتى أشرف على الجنون، والليلة التي قضاها طريحًا تحت سلم دار ماجدولين حتى الصباح وهي خالية بزوجها في غرفة عرسها تعانقه وتقبله وتقول له: «أنت حياتي التي لا حياة لي بدونها.» ويتراءى له مرة شبح أخيه «أوجين» وهو ساقطٌ في حومة الوغى تحت سنابك الخيل تدوسه وتخوض في أحشائه، وأخرى منظر ماجدولين وهي جالسة مع «إدوار» على مقعد حديقتها تناجيه بالحب ويناجيها، إلى ما بقي من أيام بؤسه، وليالي شقائه، ثم تتمثل أمام عينيه روضة آماله وهي مورقة خضراء يتسلسل ماؤها ويترقرق هواؤها، ثم يراها وقد عصفت بها ريح الحوادث فصَوَّحَ نبتُها، وذبلَ زهرُها، واستحالت إلى قفرة جرداء لا يترنح فيها غصنٌ، ولا يهتف بها طير، فيخيل إليه أنه يعيش وحده منقطعًا عن العالم كله وما فيه؛ لأن ماجدولين ليست بجانبه، وأن ما يتمتع به من مجدٍ ومالٍ لا قيمة له عنده؛ لأنها لا تقاسمه إياه، وأن هذه الألحان التي يضعها والأصوات التي يغنيها دائمًا إنما هي مأتمٌ يقيمه بنفسه على نفسه وعلى آماله الذاهبة، وأمانيه الضائعة، فتمتلئ نفسه غمًّا وحسرة، فلا يجد له سبيلًا سوى أن يتناول قيثارته فيضمها إلى صدره ويبثها هموم قلبه وآلام فؤاده، ويبكي ما شاء الله أن يفعل حتى يجد بعض الراحة في نفسه فيأوي إلى فراشه وينام نومًا طويلًا، ثم يستيقظ بارئًا مستفيقًا.

ولم يزل هذا شأنه حتى التقى بماجدولين في تلك الليلة التي قصَّت هي قصتها على «سوزان»، فاغتبط بمرآها اغتباطًا ممزوجًا ببعض الألم لذكراها وذكرى ماضيه معها، إلا أنه تجلد واستمسك وكاتم نفسه غُصَّتَها، فلم تشعر بشيءٍ مما دار في نفسه حتى انصرفت.

وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى زاره «إدوار» في بيته كما وعده واعتذر إليه عن فعلته التي فعلها معه، فقبل عذره قبول من لا يرى من قبوله بدًّا، بل زعم له حين جرى بينهما ذكر ذلك الماضي وشئونه أن حبه لماجدولين لم يكن إلا خدعةً من خدع النفس ونزعةً طائشة من نَزَعات الشباب، وأنه قد أصبح الآن لا يشعر في نفسه بأثر واحد من حبها، وكان «إدوار» قد بدأ يمل ماجدولين ويأجمُها فلم يحفل بأمرها، ولا يفكر في ماضيها ولا حاضرها، وأصبح لا هم له إلا أن يجدد صداقته مع رجلٍ قد أصبح من أصحاب الشأن العظيم والمظهر الفخم، والثروة الطائلة، فصدقه في زعمه، وسكن إليه، وذهب في مجاملته والتودد له كل مذهب، ثم رد له «استيفن» الزيارة في بيته في اليوم الثاني ورأى ماجدولين وحادثها وتبسط معها تبسط من لا يحفل بحاضرها، ولا يُعنَى بماضيها، ثم لم يزل يراها بعد ذلك في منازل بعض أصدقائه، أو في المحتفلات العامة وحدها، أو مع «إدوار» فيحسن ملتقاه، ويؤثرها بعطفه ورعايته، إلا أنه كان يتجنب جهده أن يجلس معها مجلسًا منفردًا، أو يتحدث إليها حديثًا خاصًّا؛ لأنه كان قد أخذ نفسه بنسيانها ونسيان ماضيها، فلا يجب أن يستثيره في نفسه مستثيرٌ، ولأنه كان لا يزال يمسك في نفسه بعض العَتْب عليها في غَدْرتها التي غدرتها به فلا يجب أن ترى ذلك في نغمة حديثه، أو لحظات عينيه، بل يجب أن ترى فيه أنفةً وكبرياءً بعد أن ذهب بنفسه مذهب من لا يبالي بمن لم تبالِ به، ولم ترعَ له ذِمامًا ولا عهدًا.

وجملة حاله معها أنه كان يجمع لها في قلبه في آنٍ واحد بين عاطفتين مختلفتين: عاطفة الرضا، وعاطفة السخط، فهو يحبها فلا يستطيع مقاطعتها، ويَجِدُ عليها فلا يريد أن تشعر بحبه إياها.

(٨٤) قلب ماجدولين

ما زال الملل يأخذ من نفس «إدوار» حتى مل بيته واجتواه، وأنشأ يطلب لنفسه السعادة خارجه بعدما فقدها داخله، فأخذ يتلهى بتلك الشئون التي يُعالج بها فقراء القلوب أمراض مللهم وسآمتهم، فقامر، ثم ضارب، ثم ولع بالشراب، ثم قضى بعض لياليه خارج منزله، فاشتد ذلك على ماجدولين، ونال منها منالًا عظيمًا، وساء ظنها بالحياة وما فيها، فقبح في نظرها كل مظهرٍ من المظاهر المادية التي أحبتها هنيهة من الزمان واستهامت بها، فعافت المراقص والمحافل، وزهدت المظاهر والمفاخر، وملت كل شيء حتى ثيابها وزينتها، وأصبحت لا تفكر ليلها ونهارها إلا في تلك الكلمة التي قالها لها «استيفن» في بعض كتبه الماضية: «لا تصدقي يا ماجدولين أن في الدنيا سعادةً غير سعادة الحب، فإن صدقت فويلٌ لكِ منكِ، فإنك قد حكمت على قلبك بالموت!»

غير أنها راضت نفسها مع الأيام على مكروهها، واصطبرت للحالة التي طرأت عليها صبرًا جميلًا لا يتخلله تذمرٌ ولا شكوى، فقد علمت أن القدر قد جرى في أمرها بما هو كائن، وأنها قد أصبحت زوجةٌ لرجلٍ قد أقسمت له بين يدي الله يمين المحبة والولاء، فلا بد لها من الوفاء له، والإخلاص إليه، واحتمال كل مكروهٍ في عشرته حتى يقضي الله في أمرهما بقضائه.

وكان يعزيها عن شقائها بعض العزاء أنها كانت ترى «استيفن» من حينٍ إلى حين، وتحضر بعض مجالسه ومجتمعاته، فتسمع في حديثه ذلك الأسلوب الشعري البديع، وتلك التصورات السماوية العالية التي طالما سحرتها وملكت عليها قلبها وأهواءها، وترى تلك الشهرة العظيمة التي تنتشر له شيئًا فشيئًا في أقطار البلاد، فتمتلئ نفسها إكبارًا له، وإعظامًا، ولا يملك قلب المرأة من الرجل مثل الشهرة وامتداد الصيت، وكان يداخلها شيءٌ من الإعجاب بنفسها كلما ذكرت أنها قد نزلت في عهدٍ من عهود حياتها الماضية منزلة الحب من ذلك القلب الطاهر الشريف، فتجد في سعادة الماضي وذكراه بعض العزاء عن شقاء الحاضر، إلا أن أمرًا واحدًا لم يخطر ببالها، ولم يدخل في أحاديث نفسها، وهو أن تعود إلى حبه بعدما نفضت يدها منه، أو أن تكون الصلة التي بينها وبينه صلة حبٍّ وغرام.

(٨٥) من ماجدولين إلى سوزان

قد اطلعت منذ أيام قلائل على سر هائلٍ ليتني لم أطلع عليه، وليتني مت قبل أن أعرف منه حرفًا واحدًا.

قد أفلس «إدوار» وباع جميع ما يمتلك، ولا تزال عليه بقيةٌ من الدين لا سبيل له إلى أدائها، وها أنا ذا أعد عدتي لبيع جواهري وحُلَايَ علني أستطيع أن أستنقذ البيت الذي نسكنه، ولا أدري ما يكون شأننا بعد ذلك، ولقد فاتحته ليلة أمس في هذا الشأن فراوغني قليلًا ثم اعترف لي بكل بشيء، وقال: إنه إنما أتي من قبل المقامرة أولًا، والمضاربة آخرًا، وأن طمعه في الثروة واستهتاره فيها هو الذي أفقده إياها، فعاتبته في ذلك عتابًا لا أظن أني أثقلت عليه فيه، ولكن أتدرين يا «سوزان» ماذا قال لي؟ قال: إنه لم يخطئ في حياته إلا في أمرٍ واحدٍ، وهو أنه تزوج من زوجةٍ فقيرة لا تستطيع أن تمد له يد المعونة في ساعات شدته، ولقد صدق فيما قال، فليس للرجل الغني أن يتزوج إلا امرأة غنية تلائم نفسه نفسها، وليس للمرأة الفقيرة أن تتزوج إلا رجلًا فقيرًا يشابه عيشه عيشها.

إنني لا أبكي يا «سوزان» على نفسي، فقد قضيت أكثر أيام حياتي فقيرةً معدمة لا أملك من متاع الدنيا شيئًا، بل على ذلك الجنين المسكين الذي يختلج في أحشائي، والذي سألده غدًا للفقر والمَتْرَبة، والذل والشقاء.

لقد أصبحت لا أسأل الله إلا موتةً عاجلةً تذهب بي وبه وتريحني من شقاء الحياة وعنائها، والويل لي وله إن عشت بعد اليوم ساعةً واحدة.

(٨٦) الغرفة الزرقاء

مرض «إدوار» على أثر تلك النكبة التي نزلت به مرضةً شديدة كادت تتلف فيها نفسه، ثم أَبَلَّ بعض إبلال، فاقترح عليه «استيفن» — وكان قد لازمه مدة مرضه، ومد إليه يد المعونة في نكبته — أن يسافر معه إلى «جوتنج» ليفرج قليلًا مما به، ففعل، وسافرت معهما ماجدولين حتى بلغت بهم العجلة ضاحية القرية، فاستقبلهم «فرتز» وزوجته وأولاده على ضفة النهر فرحين مغتبطين، وكانوا على موعدٍ منهم، فصافح «استيفن» «فرتز» وعانقه معانقة الصديق لصديقه، وقبل جبين «جوزفين»، وضم الأولاد إليه وأنشأ يقبلهم ويدير لهم خديه فيقبلونه ويهتفون له ويقولون: لقد طال غيابك عنا في هذه المرة يا سيدي حتى ظننا أنك قد آثرت الإقامة في «كوبلانس» على الإقامة بيننا.

وقال له أكبرهم — وكان في الثالثة عشرة من عمره: ها أنا ذا ألبس الرداء الجديد الذي أرسلته إليَّ، فشكرًا لك يا سيدي، فسأله: هل أصبح يستطيع نشر شراع الزورق وحده بلا مساعدٍ ولا معين؟ قال: نعم وأستطيع أيضًا أن أطويه وقت اشتداد العاصفة، قال: سأرى الآن ذلك أيها الملاح الصغير، وقال أوسطهم — وكان في التاسعة من عمره: لقد بلي حذائي يا سيدتي فهل جئتني بحذاءٍ جديد؟ قال: نعم لقد جئتكم جميعًا بأحذية جميلة، وقبعاتٍ فاخرة، ففرحوا وتهللت وجوههم، وأحاطوا بأمهم يهمسون في أذنها بهذا النبأ الجديد، وتشبثت بردائه الطفلة الصغيرة وقالت له: لقد ولدت الشاة التي أهديتها إليَّ حَمَلًا صغيرًا أبيض اللون أسود العينين، فتعال معي أُرِكَ إياه، فتبسم وضمها إليه وقال لها: سأذهب معك يا «فكتورين» عما قليلٍ، ثم التفت إلى ماجدولين وقال لها: إنهم يحبونني كثيرًا، وأنا الآن أعيش بينهم كأنني أعيش في أسرتي بين أهلي وقومي، فارتعدت ماجدولين واصفر وجهها وظلت تقول في نفسها: «لقد أصبح سعيدًا بنفسه، وكان يظن أنه لا يستطيع أن يكون سعيدًا بدوني!»

ثم ركبوا الزورق جميعًا، وأخذ الملاح الصغير ينشر الشراع ويصيح باستيفن: ها أنا ذا يا سيدي أنشر الشراع وحدي بلا مساعدٍ ولا معينٍ، فيقول له: أحسنت يا بني أحسنت! حتى عبروا النهر إلى الضفة الأخرى، فاعتمد «إدوار» على ذراع «استيفن»، ومشوا جميعًا على أقدامهم إلى المنزل، وكان على كثب منهم، فتقدم «فرتز» وكان معه مفتاح الباب ففتحه، فدخلوا الحديقة، ووقع نظر ماجدولين على حائط السور، فرأته مكسوًّا بغلالة بديعة من أزهار البنفسج تدور به من جميع جوانبه، فذكرت ذلك الكتاب الذي كتبه إليها «استيفن» منذ خمسة أعوام قبيل زفافها إلى «إدوار»، وقال لها فيه: إنه قد كسا سور البيت الذي ابتناه لها في «جوتنج» بأزهار البنفسج التي تحبها، ثم التفتت فرأت حوض الماء المقام في وسط الحديقة، ورأت حوله ذلك السياج الذي قال لها «استيفن» في كتابه إنه قد أقامه من حوله خوفًا على أولادهما من السقوط، ثم لمحت في زاويةٍ من زوايا الحديقة كرسيًّا طويلًا مؤلفًا من مقعدين متقابلين، وأرجوحةً صغيرة من أراجيح الأطفال، فعجبت كل العجب من احتفاظه بهذه الآثار التي تؤلمه وتذكره بشقائه الماضي، ثم قالت في نفسها: ما أحسب أنه تعمد إبقاءها والمحافظة عليها، ولكنه تركها وشأنها فبقيت في مكانها على حالها.

وهنا شعرت بتلك الغَضَاضَة التي يشعر بها الذليل في موقف ذله ومهانته، وظلت تقول في نفسها: إنه ما عفا عنها، ولا غفر لها سيئتها عنده، ولا أمسك عن عتابها وتأنيبها، ولا أعطاها من نفسه هذا الوجه من الرضا، إلا لأنه يحتقرها ويزدريها، ويراها أصغر في عينيه من أن يأخذها بذنبٍ، أو يعتد عليها بسيئة، وإن هذه النظرة العذبة التي أصبح ينظر بها إليها إنما هي نظرة العزيز المترفع التي يلقيها على البائس الشقي الذي يستحق عطفه ومرحمته، فأخذ من نفسها هذا الخاطر مأخذًا شديدًا وأحزنها، وملأ قلبها غصةً وألمًا أنها قد فقدت كل ما كان لها في قلبه، حتى منزلة الاحترام.

وكان «استيفن» قد أنشأ في طرفٍ من أطراف الحديقة غرفًا أعدها لمنامه وجلوسه ونزول ضيفانه وترك المنزل جميعه لا يطرقه ولا يأوي إليه طلبًا لراحة نفسه من آلام الذكرى وهمومها، فأعد لإدوار غرفةً منها ذهب به إليها ساعة وصوله، وكان «إدوار» لا يزال يشكو بقيةً من الألم في جسمه، فما أخذ مضجعه من فراشه حتى استغرق في نومه، وأقبل الليل فعادت أسرة «فرتز» إلى بيتها، ولجأ بستاني الحديقة إلى مخدعه، وبقي «استيفن» وحده مع ماجدولين، وهي المرة الأولى التي جلس إليها منفردًا منذ افترقا، فعادت إلى ذهنه تلك الصورة القديمة التي كان يتخيلها في ماضيه لسعادته وهنائه، وظل يقول في نفسه: ها هو ذا البيت، وها هي ذي الحديقة، وها هو ذا النبت والشجر، والليل والقمر، والسماء الصافية، والأشعة المترقرقة، والنسيم العليل، والسكون السائد، وها هو ذا حوض الماء تسبح فيه الأسماك غادية ورائحة، وها هي ذي ماجدولين جالسة ليس بيني وبينها حائل، ولكنني لا أستطيع أن أمد يدي إليها، بل لا أستطيع أن أملأ نظري منها؛ لأن بيني وبينها على شدة هذا القرب بعد ما بيني وبين ذلك النجم المتألق في أفق السماء.

وظل مستغرقًا في خياله هذا، حتى فاتحته ماجدولين الحديث وقالت له: ما أجمل دارك يا «استيفن» وما أبدع منظرها! إنها أجمل مما كنت أتوقع، فخُيل إليه أنها تهزأ به وتستهين بآلامه فلا تبالي أن تذكره بها، فداخله ما لم يملك نفسه معه وقال لها: إن الذي يعيش في قصرٍ جميل فخم كقصرك الذي تعيشين فيه في «كوبلانس» لا يعبأ بمنزلٍ صغير كهذا المنزل، فشعرت أنه يؤنبها ويعرض لها بتلك الإساءة التي أسلفتها إليه فيما مضى، فتألمت في نفسها ألمًا ممزوجًا ببعض الغبطة والارتياح؛ لأنها علمت أنه لا يزال يفكر فيها، ولا يزال يضمر في نفسه بقيةً من ذلك الحب القديم، وأرادت أن تتغلغل إلى أعماق نفسه، فقالت له: حيثما يجد المرء سعادته في مكانٍ — مهما صغر شأنه — فهو أجمل القصور وأفخمها، فنظر إليها نظرةً منكسرة كاد يقول لها فيها إنه ليس بسعيد، وإنه أشقى إنسانٍ على وجه الأرض، ثم استردها سريعًا، فلم تشعر بها، وظل صامتًا، فذهبت معه في الحديث مذاهب أخرى، حتى مضت قطعةٌ من الليل فنهضت من مكانها، ونهض بنهوضها، وتمشيا قليلًا في أنحاء الحديقة حتى مرا بسلم الطبقة العليا فقالت له: هل تأذن لي يا «استيفن» أن أصعد إلى هذه الطبقة لأراها، وهل تتفضل بالصعود معي إليها؟ فاضطرب قليلًا ثم قال لها: لك ما شئت يا سيدتي.

وصعد معها ذلك السلم الذي لم تطأه قدمه منذ خمس سنين حتى بلغا أعلاه، فمشى إلى الغرفة الأولى وفتح بابها وقال لها: ها هي ذي الغرفة التي كنت أعددتها لجلوسي ودراستي، ولا حاجة لي بها الآن، فقد اتخذت من بين غرف الحديقة بدلًا منها، ثم تركها وفتح باب الغرفة الثانية وقال: وها هي ذي الغرفة التي كنت أعددتها لمقام أبيك رحمة الله عليه أيام كنت أظن أنه سيساكنني في هذا المنزل ويعيش معي فيه، فرأت فراشًا جميلًا وأثاثُا حسنًا وأُصص زهرٍ وريحان قد يبست وجف ورقها وتناثر في أنحاء الغرفة، فشعرت بانقباضٍ في نفسها لذكرى أبيها، واغرورقت عيناها بالدموع، ثم انتقل إلى الغرفة الثالثة ومد يده إلى مفتاحها ثم استردها وقال بصوتٍ خافتٍ متهدج: عفوًا يا ماجدولين فإنني لا أستطيع أن أفتح هذه الغرفة؛ لأنها الغرفة التي كانت معدة لأخي «أوجين»، وقد آليت على نفسي ألا أفتح بابها ما حييت، فأثر في نفسها منظره وأكبرت حزنه وألمه، وقالت له: أحزينٌ أنت حتى اليوم على «أوجين» يا «استيفن»؟ قال: نعم، حزنًا لا يفارقني حتى الموت.

ثم مشى إلى الغرفة الأخيرة ومد يده إلى مفتاحها بهدوء وسكون ففتحها ثم انحرف عنها قليلًا وأطرق برأسه ولم يقل شيئًا، فألقت عليها ماجدولين نظرة ألمت بجميع ما فيها، فرأت غرفةً جميلة رحبةٍ قد دهنت جدرانها باللون الأزرق، وبسط في أرضها بساطٌ أزرق، وأقيم في أحد أركانها سريرٌ من النحاس الأبيض مغطى بملاءة حريرية زرقاء، ورأت منضدةً جميلة قد صففت عليها أدوات زينة النساء، وخزانةً للملابس، ومرآة كبيرة، وكرسيًّا طويلًا ذا مقعدين، وبضعة مقاعد أخرى كلها زرقاء اللون، وقد علتها جميعها طبقةٌ رقيقة من الغبار، فعلمت أنها أمام الغرفة الزرقاء التي حدثها عنها في بعض رسائله الماضية وقال لها: إنه قد أعدها مخدعًا لنومهما، وإنه إنما اختار لها هذا اللون؛ لأنه لون البنفسج الذي تحبه، فثارت في نفسها تلك الذكرى القديمة، ومشت ما بين قمة رأسها وأَخْمَصِ قدمها رعدةٌ شديدةٌ كادت تتزايل لها أعضاؤها، واشتد خفوق قلبها واضطرابه، ثم نظرت إليه فإذا هو مطرقٌ صامتٌ، وإذا دموعه تنحدر على خديه يتبع بعضها بعضًا، فهالها منظره، وازدحمت الدموع في عينيها تتبادر إلى السقوط، فأخذت يده بين يديها وقالت له: ما بك يا «استيفن»؟ وكأنما قد راعه أن يفضح الدمع سره الذي كان يكتمه منذ عهدٍ طويل، فاجتذب يده من يدها برفقٍ وقال لها: لقد هاجني ذكر أخي «أوجين».

وأشار إليها بالنزول، فنزلا حتى وصلا إلى مكانهما الأول من الحديقة، فقالت له: رفه عليك قليلًا يا صديقي، فليس فيما قضى الله حيلةٌ، ولا لفائتٍ مردٌّ، ولقد مات أخوك ميتةً كريمة لم يمتها أحد قبله، فليكن صبرك عليه كريمًا كميتته، فرفع رأسه إليها وقال لها: إنني أستطيع أن أنسى كل عهدٍ من عهود حياته الماضية ولا أستطيع أن أنسى تلك الأيام التي أحببته فيها وأحبني، وأخلصت له فيها وأخلص لي، ولقد جمعت بيني وبينه المصائب مذ كنا طفلين صغيرين، وأَلَّفَتْ ما بين قلبينا الكسيرين حتى أصبحا قلبًا واحدًا يشعر بشعورٍ واحد، ويتألم بألمٍ واحد، ولا تزال حاضرة أمام عيني حتى الساعة تلك الأيام التي قضيناها معًا في مدرسة «جوتنج» بعيدين عن أبوينا ورحمتهما وعطفهما؛ لأن أمنا كانت قد ذهبت إلى قبرها، وأبانا كان يقسو علينا ولا يحفل بنا، وقد بؤس عيشنا بؤسًا يعيا به الصغير، ويطير له لب الكبير، وبلغنا في الشقاء المبالغ التي لا يبلغها إلا اليتامى المنقطعون عن الأهل والرحم، أو أبناء السبيل المشردون في آفاق البلاد، وكنا نرتدي أرث الثياب، ونأكل أتفه الطعام، ولا نحتذي إلا الأحذية المرقعة، ولا نلبس إلا القلانس المخرقة، ولا نجد ما نستعين به على إصلاح شأن ملابسنا وأجسامنا، فكنا نلاقي بسبب ذلك من معلمينا أشد العقاب وأقساه، فنحتمل الألم بصبرٍ وجلد، ولا نستطيع أن نعتذر إليهم عذرًا سديدًا نقيم به وجهنا؛ لأننا إن فعلنا فقد عققنا أبانا وتركنا للألسنة سبيلًا إليه، وهذا ما لا نحب أن يكون، وكان طلبة المدرسة في شأننا قسمين: هازئٌ لا يزال يسخر بنا، وراحمٌ لا يزال يتوجع لنا، ودمعة الراحم كابتسامة الساخر، كلاهما يؤلم النفس ويملؤها غصةً وأسى، فكنا نضيق بالحالين، ونتألم في الموقفين، وكثيرًا ما كان يأمرنا معلمونا كلما زارهم زائرٌ كريم بالانزواء في الركن المظلم من أركان قاعة الدرس حتى لا يخجلوا بنا أمامه، فإذا انصرف عدنا إلى مقاعدنا كما كنا، فكنا نجد في نفوسنا من المضض والألم ما لا يعلم سبيله إلا الله، وكان الطلبة يخرجون جميعًا في أيام الآحاد مع المعلمين للتنزه في الأحراش والغابات، أو على ضفة النهر، أو في سفح الجبل في أزياء جميلةٍ وشاراتٍ حسنة، ما عدانا، فقد كان معلمنا يتطلب علينا العِلَلَ في ذلك اليوم حتى يأمر بسجننا في بيت الدجاج تبرمًا بنا، واستثقالًا لزينا وهيئتنا، فإذا خلا بنا المكان اختلف شأننا اختلافًا عظيمًا، فأظل أبكي وأنتحب، ويظل «أوجين» يلعب ويمرح؛ لأنه كان على صغر سنه أوسع مني صدرًا وأكثر احتمالًا، وكان لا يعرف سبيلًا لتعزيتي وتسرية هموم نفسي غير هذا السبيل، فلا يزال يغني ويصيح ويقلد أصوات الحيوان، ويطارد الدجاج والإوز، ويفتن في مجونه ولهوه حتى تهدأ نفسي، ويجف مدمعي، ولا أرى لي بدًّا من المضي معه في شأنه، وكنت أرحمه وأحنو عليه حنو الأم على رضيعها، فلا أستطيع أن أراه باكيًا أو شاكيًا أو مستوحشًا أو متألمًا، وكان يخيل إليَّ أنني لو رأيت دمعةً واحدةً تجري على خده لقتلت نفسي حزنًا وكمدًا، وكثيرًا ما كنت أتمارض ساعة الغداء أو أتظاهر بالشبع إن رأيت الطعام قليلًا في أيدينا حتى يستطيع أن يأخذ حظه منه، فلا أرى على وجهه صفرة الجوع، وطالما ضممت في الليالي الباردة غطائي إلى غطائه وأسبلته عليه من حيث لا يشعر، رحمةً به وحنوًّا عليه، حتى إذا أصبح الصباح ورآني نائمًا بجانبه بغير غطاء ضمني إلى صدره وقبلني، وقال: إنك تقتل نفسك يا «استيفن» من أجلي!

ولم يزل هذا شأننا حتى وفد علينا «إدوار»، وكان منكوبًا بمثل نكبتنا، فتقاسمنا نحن الثلاثة هذا الشقاء وتعاونا عليه برهة من الزمان حتى فرقت بيننا الأيام.

وهنا اختنق صوته بالبكاء فلم يستطع المضي في حديثه، وأطرق إطراقًا طويلًا ثم رفع رأسه فإذا عيناه محمرتان من البكاء، فألقى على ماجدولين نظرةً طويلةً دامعة وقال لها: أتدرين يا ماجدولين ماذا صنعت بهذا الأخ الذي كنت أحبه أكثر من كل إنسانٍ في العالم، وكان يحبني أكثر مما أحبه؟ قالت: لا أعلم أنك صنعت به شيئًا، قال: لأنني قد قتلته، فذعرت ماجدولين واصفر وجهها وقالت: إني لا أفهم ما تقول، قال: قد كتب إليَّ من ميدان القتال أن سرجه بالٍ ممزقٌ يوشك أن يخذله في الميدان، وأنه في حاجة إلى عشرين فرنكًا ليبتاع بها سرجًا جديدًا، وكنت قادرًا عليها، فضننت بها عليه، فانقطع به سرجه أثناء المعركة، فداسته حوافر الخيل فمات! فاستعبرت ماجدولين باكيةُ وقالت: وا أسفاه عليه وعلى شبابه الغض وغصنه الباسق النضير! فحدق استيفن في وجهها تحديقًا شديدًا وقال لها: وهل تدرين لِمَ ضننت عليه بهذا المال الذي سألنيه؟ قالت: لا، قال: لأني كنت لا أملك سواه، وكنت بين أن أرسله إليه ليبتاع به السرج الذي يريده، أو أنفقه في السفر إلى «كوبلانس» لأراك، فآثرت رؤيتك على حياته.

فنكست ماجدولين رأسها، واحمر وجهها حياءً وخجلًا، وظل جسمها يرتعد ارتعادًا شديدًا. ثم عاد إلى حديثه يقول: وهل تعلمين ماذا تم لي بعد أن سافرت إليك هذه السفرة؟ فصمتت ماجدولين ولم تقل شيئًا، فقال: ذهبت إليك في ملعب الأوبرا فلم أجدك، فانتظرتك طويلًا فلم تأتِ، فقلقلت عليك قلقًا عظيمًا، وذهبت إلى بيت «سوزان» لأقف على أمرك فرأيت هناك وليمةً حافلةً، فسألت عنها فعلمت أنها عرس صديقتك، فأبيت أن أذهب دون أن أراك — ولو على البعد — لحظةً واحدة، ثم أنصرف لشأني، وكان لا بد لي من أن أحتال لذلك احتيالًا، فاختلطت بالخدم كأنني واحد منهم، وكانت ثيابي أشبه بثيابهم، حتى تمكنت من الدخول إلى فناء القصر، ووصلت إلى باب قاعة الرقص، فنظرت من زجاجها فرأيتك ترقصين مع «إدوار» تلك الرقصة التي كنت تفتتحين بها حياتك الجديدة معه، وبينا أنا كذلك إذ دفع الباب دفعًا شديدًا وخرج منه أحد الزائرين فأمرني أمرًا لم أحسن القيام به، فضربني على وجهي سوطًا لا يزال أثره باقيًا على خدي حتى الساعة.

وهنا وضع يده على خده كأنما قد وقع السوط في هذه اللحظة، وانفجر باكيًا بصوت عالٍ وتركها مكانها ومشى في الطريق الموصل إلى مخدعه، فلحقت به عند باب المخدع وتشبثت بردائه ومدت يدها إليه ضارعةً وقالت له: ألا تستطيع أن تعفو عني يا «استيفن»؟ فجذب رداءه منها، وألقى عليها نظرة شزراء هائلة، وقال لها: اذهبي أيتها السيدة إلى مخدع زوجك فإنه مريض، وربما كان في حاجةٍ إليك، ثم دخل مخدعه وأقفل بابه، فلبثت في موقفها ساعة باهتة مذهولة، ثم انصرفت إلى مخدع زوجها.

في هذه اللحظة علمت أنه لا يزال يحبها، ويستهيم بها، وأنها تحبه حبًّا يستعبدها، ويملك عليها كل عاطفة من عواطف قلبها، وأنْ قد حيل بينها وبينه إلى الأبد، فقضت في مضجعها ليلةً ليلاء ما يكاد يغرب لها نجم، ولا يطلع لها فجر، وما كان ليله بأقصر من ليلها.

(٨٧) من ماجدولين إلى سوزان

لم يبقَ لي بدٌّ من أن أعترف لك بكل شيءٍ.

قد أصبحت أحب «استيفن» حبًّا لم أضمر له مثله فيما مضى من أيام حياتي؛ لأنه حبٌّ بلا أمل ولا رجاء.

لا، بل أعتقد أنني ما سلوته يومًا من الأيام ولا نسيته، وأنني كنت أخدع نفسي وأكذبها حينما ظننت أنني أستطيع أن أحيا بدونه، أو أسكن إلى عشرة إنسانٍ سواه.

إنه لا يزال يحبني ويستهيم بي، ولا يزال يذكر ذلك الماضي كأنه لا يزال حاضرًا بين يديه، وقد كنت أجهل ذلك منه، ولا أرى له أثرًا في وجهه، حتى جلست إليه منذ ليالٍ مجلسًا منفردًا فجرى بيني وبينه حديثٌ ثارت فيه عواطف نفسه ثورةً شديدة فبكى وتألم، وغضب واحتدم، فعلمت أنه لم ينسَ شيئًا وأنه إنما كان يكاتمني لواعج نفسه وآلامها، ويطوي أحناء ضلوعه على مهجةٍ تتحرق لوعةً وأسى، فرثيت له وبكيت لبكائه، وأكبرت فيه تلك العاطفة الشريفة، عاطفة الولاء والإخلاص لامرأةٍ قد غدرت به أقبح غدرٍ، وخانته أفظع خيانة، وملأت عليه فضاء حياته بؤسًا وشقاءً.

إنه لم يفكر في الزواج حتى الساعة، ولم يفتح باب الطبقة العليا من منزله التي كان أعدها لسكنانا إلا مرة واحدة منذ ليالٍ، وكان ذلك من أجلي، ولا تزال غرفة العرس باقيةً على عهدها كما هي، ولقد رأيتها فرأيت الغبار منتشرًا فوق سريرها ومقاعدها وأستارها، فشعرت عند النظر إليها بما يشعر به الماثل أمام جَدَثٍ بالٍ قد ضُمَّ إليه، وطُوِيَ به بين تُربه وأحجاره.

لقد خسرت يا «سوزان» كل شيءٍ، ولم يبقَ في يدي من جميع أمانيَّ وآمالي أملٌ واحد، فقد ضاعت الثروة التي بعت سعادتي بها، وتنغص عليَّ الزواج الذي وضعت فيه جميع آمالي، وخرج من يدي ذلك الرجل الذي أحببته أكثر من كل إنسانٍ في العالم، والذي لا أستطيع أن أحب إنسانًا سواه، ولا أعلم ماذا بقي لي في ضمير الدهر بعد ذلك من مخاوف وأهوالٍ.

إنني أشعر بخوفٍ شديد ترتعد له مفاصلي، وأظن أن ساعة العقاب قد دنت، ولقد أذنبت ذنبًا عظيمًا، فلا بد أن يكون عقابي عظيمًا.

(٨٨) من ماجدولين إلى سوزان

قد حلت النكبة الكبرى، فقد تركني «إدوار» وسافر إلى جهةٍ لا أعرفها، سوى ما يقول بعض الناس من أنه ركب البحر من «هامبورج» إلى «أميركا»، ولا أعلم أصدقًا ما يقولون أم كذبًا؟

وكان «استيفن» أحسن الله إليه قد أصلح له بعض شأنه بعد نزول تلك النكبة به، وبذل له من المعونة ما لا يبذله أخٌ لأخيه، ولا حميمٌ لحميمه، ولكنه لم يَئُلْ من عثرته هذه حتى عاد إلى سيرته الأولى واندفع في المقامرة اندفاع الجنون فما هي إلا أيام قلائل حتى استدان مائتي ألف فرنك ونيفًا، ولم يبقَ له بدٌّ من السقوط، فبعت جميع جواهري وحلاي علني أستنقذه من سقطته فلم أصنع شيئًا، ثم استيقظت صباح يوم من الأيام فذهبت إلى مخدعه فلم أجده، فسألت عنه الخدم فأخبرني أحدهم أنه لمحه خارجًا في الغَلَسِ من باب القصر وبيده حقيبة سفره، ولا يعلم أين ذهب، ثم علمت بعد ذلك أنه باع القصر إلى أكبر غرمائه وأخذ بقية ثمنه وهرب، وترك سائر الغرماء وشأنهم دون أن يوفيهم ديونهم، فعرفت أنه — وقد فعل هذه الفعلة التي لا يقدم عليها رجلٌ شريف — غير عائدٍ من بعدها أبدًا، ولم أر بدًّا من أن أقوم عنه بوفاء بقية ديونه ضنًّا بكرامته وإبقاء على شرفه، فبعت في سبيل ذلك البيت الذي ورثته عن أبي في «ولفاخ» والمزرعة التي بجانبه، وقد سألت عنه في كل مكان وسافرت للتفتيش عنه في كل جهة أعلم أن له شأنًا فيها أو صلة بها فلم أقف له على أثر، ولا يعلم إلا الله كم ذرفت من الدموع وكابدت من الآلام مذ حلت تلك النكبة بي حتى اليوم، ولقد أرسل إليَّ بالأمس مالك القصر الجديد ينذرني بمغادرته بعد شهر واحد، ويلح في ذلك إلحاحًا شديدًا، ولا أدري ماذا أصنع ولا أين أذهب؟ فليس لي قريبٌ آوي إليه، ولا حميمٌ أرجو معونته، ولا أملك ما أستعين به على قضاء ما قُدر لي أن أقضيه في هذا العالم من أيام حياتي، وقد انقطع «استيفن» عن زيارة «كوبلانس» فأصبحت لا أراه، ولا أسمع به ولا أعلم سبب انقطاعه، ولقد حدثتني نفسي كثيرًا بالانتحار، فحال بيني وبين ذلك أنني إن قتلت نفسي قتلت معي هذا الجنين المسكين الذي لا ذنب له، وكثيرٌ على الأم أن تمد يدها لقتل ولدها، فتعالي إليَّ يا «سوزان» أو ائذني لي أن آتي إليك، لا، بل لا بد من مجيئك إليَّ؛ لأنني لا أستطيع أن أتحمل مشقة هذا السفر البعيد، وأنا في الشهر الأخير من حملي.

إني أنتظر كتابًا منك بعد أيام قلائل، فلم يبقَ لي في العالم من أعتمد عليه أو أرجو مودته سواك.

(٨٩) من ماجدولين إلى سوزان

كنت أنتظر أن يأتيني منك كتابٌ بالأمس فلم يأتني، فليت شعري ماذا حدث؟ أمريضةٌ أنت؟ أم شغلك عني شأنٌ عظيم لا يسمح لك بمراسلتي؟ اكتبي إليَّ على كل حال، فقد بلغت بي الشدة منتهاها، وانقطع عني الناس جميعًا، فلا أرى أحدًا من صواحبي ولا من أصدقاء زوجي.

الحياة مظلمة في عيني، ولقد بكيت كثيرًا حتى جفت مدامعي، وفكرة الانتحار تعاودني اليوم أكثر من ذي قبل، فانظري في أمري يا «سوزان» واكتبي إليَّ أنك قادمة، أو ائذني لي بالسفر إليك فإن لم يأتني منك كتابٌ غدًا فلا أعلم ماذا سيكون شأني بعد غد.

(٩٠) من فردريك إلى ماجدولين

أكتب إليك كتابي هذا و«سوزان» في أشد حالات مرضها، وقد أمرني الطبيب أن أجنبها كل ما يؤثر في نفسها من سرورٍ أو حزن، وقد جنبتها كل شيء حتى الاطلاع على الرسائل التي ترد عليها من صواحبها، وقد سهرت بالأمس ففضضت كتابك الأخير الذي أرسلته إليها عفوًا فألممت بطرف من الشدة التي تكابدينها، فأسفت لذلك كثيرًا، وهممت أن أطلعها على الرسالة أو أكتب إليك على غير علمٍ منها بالحضور إلينا، ولكنني أشفقت عليها أن يقتلها الحزن لمصابك، أو الفرح برؤيتك، فرجائي إليك أن تنتظري بحضورك بضعة أسابيع حتى أحتال للأمر، أو تهدأ عن «سوزان» علتها، والسلام عليك من صديقك الذي يرثي لك ويتألم لألمك.

(٩١) الجزاء

قرأت ماجدولين ذلك الكتاب فرابها أمره ووقع في نفسها أن «سوزان» ليست بمريضة ولا عاجزة عن قراءة رسائلها كما يقول زوجها، وأنها إنما تريد مدافعتها والتخلص منها، فهالها الأمر وتعاظمها، وظلت ساعة بين الشك واليقين حتى دخلت عليها فتاة من صواحبها وصواحب «سوزان» كانت تختلف إليها من حين إلى حين، فسألتها ماجدولين متى كان آخر عهدها برسائل «سوزان»؟ فقالت: قد جاءني منها كتابٌ بالأمس تهنئني فيه بعيد ميلادي وتقترح عليَّ أن أسافر إليها لأقضي عندها في «برلين» فصل الربيع، فكتبت إليها أشكر لها تهنئتها، وأستعفيها من السفر، فصمتت ماجدولين ولم تقل شيئًا ثم انصرفت الفتاة، فقالت بينها وبين نفسها: لا عتب عليها فيما فعلت، إنما هي الإرادة الإلهية تأبى إلا أن تجازيني غدرًا بغدرٍ وكفرانًا بكفران.

(٩٢) الدموع الأخيرة

استيقظ سكان قرية «ولفاخ» في صبح أحد الأيام فإذا بهم يرون تلك الفتاة التي فارقتهم بالأمس — وهي أنضر الفتيات وجهًا وأسعدهن حالًا — قد عادت إليهم صفراء متضعضعة، شاحبة اللون، بالية الثوب، تمشي مشية الذليل المهين، وتقتلع قدميها في مسيرها اقتلاعًا، فعجبوا لأمرها ورثوا لها، ولم تزل سائرة في طريقها حتى مرت أمام ذلك البيت الذي قضت فيه أيام طفولتها وصباها، وسعدت فيه بالحب الشريف الطاهر أيامًا طوالًا حتى فارقته، ففارقها هناء الحياة ورغدها، فخفق قلبها خفقة الألم والحزن، ووقفت أمامه ساعة تقلب نظرها في جنباته وأنحائه، فرأت السكون مخيمًا والوحشة سائدة، فعلمت أنه لا يزال مهجورًا، وكان باب الحديقة مفتوحًا، فحدثتها نفسها بدخولها، فدخلتها، وخطت فيها بضع خطوات، فلمحت البستاني وزوجته جالسين إلى أصل شجرة من الأشجار، فمشت إليهما حتى صارت على كثبٍ منهما، فأنكراها إذ رأياها، ثم عرفاها، فانتفضا من مكانهما انتفاضًا، ومشيا إليها فحيياها، ونظر الرجل إليها نظرةً واجمة مكتئبة وقال لها: ما الذي طرأ عليك يا سيدتي؟ فأفضت إليه بمجمل قصتها، ثم قالت له: أريد أن أستأجر الغرفة العليا من المنزل لأقضي فيها شهرًا أو شهرين، وربما لا أحتاج إليها أكثر من ذلك فاستأذن لي صاحب البيت في أمرها، فاستعبر الرجل باكيًا وظل يعجب لتقلبات الأيام، وتبدل صورها وألوانها، ويندب ذلك الزمن الذي قضاه سعيدًا في خدمتها وخدمة أبيها، وما هي إلا ساعة حتى أعد لها الغرفة التي أرادتها، فصعدت إليها فوجدتها باقية على عهدها أيام كان «استيفن» يسكنها، وذكرت ذلك اليوم الذي صعدت إليها بعد سفره وأصلحت من شأنها وبللت تربتها بدموعها حزنًا على فراقه، وظلت تقول في نفسها: قد كنت أبكي قبل اليوم فراقه، أما اليوم فقد أصبح ذلك الفراق قطيعة دائمة لا واصل لها، فمن لي بدموع تعينني عليها؟

وخلت بنفسها تتذكر أيامها وعهودها، وتناجي همومها وأشجانها، وتذرف آخر ما أُبقي لها في أجفانها من دموع، ومن هو أولى بالبكاء والهم منها وقد ضربها الدهر بجميع ضرباته، وتنكر لها كل وجه من وجوه الحياة، فهجرها زوجها، وخانتها صديقتها، ونقم عليها الرجل الذي تحبه، وفقدت الثروة التي بذلت في سبيلها سعادتها، وأصبحت لا تستطيع أن تطلب الراحة من طريق الموت؛ لأنها لا تستطيع أن تقتل ولدها، ولا أن تجدها في الحياة لأنها لا تملك ما تستعين به على عيشها، وما هي إلا أيام قلائل حتى جاءها المخاض فلم يحضرها غير زوجة البستاني وعجوزٌ من جاراتها القديمات، فولدت طفلةً جميلةً لم تبتسم عند رؤيتها إلا لحظة واحدة، ثم أخذت تبكيها بكاء الثاكل وحيدها ساعة موته، وما كادت تنهض من نفاسها حتى جاءها الخبر بأن «إدوار» قد انتحر شنقًا في فندق من فنادق «شيكاغو» كان ينزل فيه منذ سافر إلى أميركا، على أثر ليلة قضاها في المقامرة، وخسر فيها جميع ما كان بيده من المال، فسقطت عند سماع الخبر مغميًّا عليها وهي تقول: «وا يُتْمَ ولداه!»

ثم استفاقت بعد حين فإذا هي تمثالٌ صامت جامد، لا تنطق ولا تبكي، ولا تشكو ولا تتألم، ولا تضم طفلتها إلى صدرها إلا إذا أزعجها بكاؤها، ولا تطلب الطعام في غداةٍ ولا عشي، ولا تتناول منه حين يُقدم إليها إلا المضغة أو المضغتين، ترفع يدها عنه، وتمر بها الساعات الطوال وهي ذاهبة ببصرها في السماء، لا يعلم إلا الله أين تذهب، ولا أين تتغلغل نفسها في ظلمات هذا الوجود، فإذا ثابت إليها نفسها سألت البستاني هل أتاها كتاب، أو سأل عنها أحد؟ فيجيبها: أن لا، فتعود إلى صمتها وذهولها.

(٩٣) قلب استيفن

أصبح «استيفن» بعد انتفاض جرح قلبه عليه في تلك الليلة التي حادث فيها ماجدولين ثائرًا مهتاجًا، لا يهدأ ولا يستريح، ولا يسكن إلى نوم ولا يقظة، ولا يهنأ باجتماع ولا خلوة، فبدا له أن يسافر إلى بعض مقاطعات الشمال ليروح عن نفسه همومها وآلامها، فسافر سفرةً طويلة زار فيها كثيرًا من المدن واجتمع بكثير من علماء الموسيقى والمغنين وكتاب الروايات الغنائية الذين سمعوا به ولم يروه، فاحتفلوا به احتفالًا عظيمًا، وأجملوا مودته وعشرته، ونظم في تلك السفرة بعض القطع الشعرية الجميلة ولحنها، ولحن كثيرًا من أغاني الروايات التمثيلية التي لا تزال خالدة حتى اليوم، فازداد صيته انتشارًا، وبلغ من العظمة أوجها الأعلى، وأجمع الذين سمعوا غناءه أو توقيعه أن سماء ألمانيا لم تطلع فيها منذ مات «بيتهوفن» شمسٌ مثل شمسه، ولا أشرق فيها نجمٌ أسطع من نجمه، وظل في سياحته هذه بضعة أشهرٍ حتى ورد إليه في أحد الأيام كتابٌ من أحد أصدقائه في «كوبلانس» يخبره فيه خبر «إدوار»، ويقص عليه قصة سفره وانتحاره فحزن عليه وعلى مصيره حزنًا شديدًا، وبكاه بكاء الوفي الكريم الذي لا يأبى أن ينسى في موقف الموت كل شأن من شئون الحياة، ولم يذكر له في تلك الساعة من ماضيه إلا شيئًا واحدًا فقط، وهو أنه كان صديقه ورفيق طفولته وصباه، وأنيس وحدته في أيام بؤسه وشقائه، لا يزيد على ذلك شيئًا، ورأى أن لا بد له من العودة ليرى ما حل بماجدولين بعد نزول تلك النكبة بها، وليمد إليها يد معونته في بأسائها التي صارت إليها، فسافر إلى «كوبلانس» فقضى فيها ليلة، ثم ذهب إلى «جوتنج» وظل يتسقط أخبارها حتى عرف عنها كل شيء، وعلم أنها تعيش مع طفلتها عيش البؤس والشقاء في الغرفة العليا التي كان يسكنها من بيتها الأول، فنسي في تلك الساعة مَوْجِدَتَهُ عليها، واستحال غضبه ونقمته إلى رحمة وشفقة، فركب عجلته في الصباح وسافر إلى «ولفاخ» حتى بلغها ضحوة النهار، فأخذ في طريقه إلى بيت الشيخ «مولر» حتى بلغه، فسأل البستاني عنها، فقص عليه مجمل قصتها، ووصف له حياتها الغريبة التي تحياها منذ عادت إلى القرية، وذكر له صمتها وسكونها، وذهولها واستغراقها، واستبداد الهم بها استبدادًا يكاد يقتلها، ويأتي على حياتها، فقال له: استأذن لي عليها فإني أحب أن أراها، قال: إنها تقضي أكثر أوقاتها جالسة على ذلك المقعد الذي كنتما تجلسان عليه معًا في أيامكما الماضية، وقد تركتها الساعة هناك، فاذهب إليها إذا شئت، فمشى إليها حتى رآها جالسة على الهيئة التي وصفها الرجل، فلم تشعر به حتى صار أمامها، فانتفضت إذ رأته انتفاضة تزايلت لها أعضاؤها، وتساقطت فيها نفسها، فلم تستطع النهوض من مكانها، وأُرْتِجَ عليها فلم تنطق بحرفٍ واحد، فجلس بجانبها وقلبه يذوب حسرة وأسى، وأخذ يعزيها عن نكبتها، ويتوجع لما حل بها، ويعظها بالصبر على مصابها، فثابت إليها نفسها شيئًا فشيئًا، ونظرت إليه نظرة منكسرةً وقالت له: قد كنت أحتمل هذه النكبات كلها بصبرٍ وجلدٍ لو أنك عفوت عني يا «استيفن».

فأطرق مليًّا ثم رفع رأسه إليها وقال لها: أما العفو فإني لا أستطيعه؛ لأنني لا أستطيع أن أنسى، فاصفر وجهها اصفرارًا شديدًا، وشعرت أن روحها تتسرب من بين جنبيها قطرة قطرة، ونظرت إليه بعينين يترقرق في انسيابهما الدمع وقالت له: ألا يُذكرك يا «استيفن» هذا المكان الذي نجلس فيه بشيء من ماضينا؟ قال: لا يذكرني إلا بشيءٍ واحد، وهو أني شهدت فيه ذلك المشهد الذي فجعني في جميع أمانيَّ وآمالي، وقتل قلبي قتلة لم يَحْيَ من بعدها حتى اليوم، قالت: إنك تقسو عليَّ كثيرًا يا «استيفن» ولو شئت لرحمتني وأشفقت عليَّ.

فنظر إليها نظرة شديدة وقد تمثلت أمام عينيه جميع آلامه الماضية دفعةً واحدةً وقال لها: ذلك شأن المرأة في كل زمانٍ وفي كل مكان، تزعم أنها ضعيفة واهنة، وأن الرجل قوي مقتدر، فهي تسأله عن كل شيء ولا تسأل نفسها عن شيء، ألم تكوني قاسيةً عليَّ يوم تركتني في هذا المكان وحدي منذ خمسة أعوام أقاسي أعظم ما قاسى امرؤٌ في حياته من الهموم والآلام، وأخذت بيد خطيبك على مشهدٍ مني ومرأى وذهبت به إلى غرفتك دون أن تلتفتي إليَّ التفاتةً واحدة لترَيْ ما حل بي من بعدك، وهل أنا باقٍ على قيد الحياة أم ذهبت النكبة بما بقي من رمقي؟ ألم تكوني قاسية عليَّ أيام أرسلت إليك تلك الرسائل التي ضرعت إليك فيها ضراعةً لا تحتملها نفسٌ من نفوس البشر فأغفلتها وأهملتها ولم تعبئي بدموعي الغزار التي سكبتها فيها، ولم تكتبي إليَّ إلا كلمة واحدة بعد حين قطعت بها آخر خيط كان في يدي من خيوط الرجاء؟

إنني لا أزال أذكر حتى الساعة أنك سألتني في تلك الرسالة أن أتناسى ذلك الماضي وأن تحل الصداقة بيننا محل الحب، فها أنا ذا قد جئت إليك باسم تلك الصداقة التي تواثقنا عليها منذ ذلك العهد أتفقدك وأتعهد شأنك، وأهيئ لك حياةً هنيئة تحيينها مع طفلتك في أي مكانٍ تشائين آمنة غدرات الدهر ونكباته ما مد الله في أجلي.

فاستعبرت باكيةً ومدت يدها إليه ضارعة وقالت: أهذا كل ما بقي لي في قلبك يا «استيفن» فهاجت وَجْدَهُ مدامعُها، وانبعثت من مكامنها في لحظة واحدة جميع عواطف قلبه المختلفة، وظلت تتداول نفسه واحدة بعد أخرى، فذكر حبه إياها، وحاجته إليها، وأنه لا يستطيع أن يعيش سعيدًا في الحياة بدونها، ثم ذكر خيانتها وغدرها، وقسوتها عليه، وزرايتها به وبآلامه ودموعه، فمحت عاطفة الغضب من نفسه عاطفة الحب، ولكنه ما لبث أن رأى دموعها المنهمرة على خديها، ومنظر بؤسها وشقائها، ويديها الممدودتين بالضراعة إليه، حتى عاد إلى عطفه وإشفاقه، وحدثته نفسه أن يأخذها بين ذراعيه، ويضمها إلى صدره، ويقول لها: قد نسيت كل شيءٍ يا ماجدولين، فتعالَيْ إليَّ، فإنني لا أستطيع أن أعيش سعيدًا في الحياة بدونك، ثم مرت بخاطره مرور البروق تلك الساعة التي وقف فيها على باب غرفتها ليلة عرسها وسمعها تلقي بنفسها بين ذراعي زوجها وتقبله وتستقبل قبلاته، فثارت في نفسه عاطفة العزة والأنفة التي لم تفارقه في يوم واحدٍ من أيام حياته وقال في نفسه: إنني لا أمد يدي إلى فضلات الرجال، ولا ألبس أكفان الموتى.

وكذلك ظل يتقلب ساعة بين أيدي هذه العواطف المختلفة وهو صامت مذهول، وماجدولين ناظرة إلى شفتيه نظر المتهم إلى شفتَيْ قاضيه، تنتظر تلك الكلمة التي تفصل في أمرها، فترفعها إلى سماء السعادة التي لا سماء فوقها، أو تهوي بها في مهواة الشقاء التي لا قرار لها، ثم مدت يدها إلى يده فأخذتها برفق وضمتها إلى صدرها وأنشأت تقبلها وتبللها بدموعها، فتناسى في تلك الساعة كل شيءٍ وحنا عليها وأهوى بفمه إلى فمها، حتى إذا لم يبقَ بين تلامس شفتيهما إلا ممر الهواء بينهما إذ سمعها تقول له وهي ترتعد بين يديه: «أنت حياتي التي لا حياة لي بدونها.» وهي بعينها الكلمة التي سمعها منها منذ خمسة أعوام وهي تقولها لزوجها ليلة زفافها في غرفة عرسها، فما رنت في أذنه حتى وثب على قدميه وثبة الهائج المختبل وانتزع يده من يدها، ودفعها عنه دفعًا شديدًا، فسقطت تحت المقعد، وقال لها بصوت شديدٍ قارع: لم يبقَ لك في قلبي شيء أيتها السيدة منذ ذلك اليوم الذي وضع الكاهن فيه يده على رأسك ورأس زوجك وبارككما ودقت على أثر ذلك أجراس الكنيسة مؤذنة بانقضاء كل شيء.

ثم تركها مكانها ومشى خافض الطرف، مطأطئ الرأس، حتى وصل إلى باب الحديقة فرأى البستاني واقفًا في مكانه، فأخرج من جيبه كتابًا مختومًا وقال له: اعط هذا لماجدولين ثم ركب عجلته وذهب في سبيله.

فمشى البستاني إليها فرآها ساقطة تحت المقعد تعالج سكرةً كسكرة الموت، فما زال بها حتى رجعت إلى نفسها، فأعطاها الكتاب فأخذته من يده صامتة، وصعدت إلى غرفتها وقد لبس وجهها ذلك اللون الذي يغشى وجوه المنذَرين بالموت؛ فقضت ليلتها ساهرةً بجانب مصباحها، تكتب مرة وتذرف دموعها أخرى، وتضم طفلتها إلى صدرها فيما بين ذلك، حتى انصدع عمود الصباح.

(٩٤) الكارثة

قال «فرتز» لزوجته والشمس تشرف على الدنيا من وراء خدرها، والكون يمسح عن عينيه سِنَةَ الكَرى: أما أنا فإني باقٍ هنا لأني أريد أن أصطاد لاستيفن نوعًا من السمك قال لي صباح الأمس: إنه يحب أن يكون على مائدته اليوم، واذهبي أنت إليه، وانتظريه حتى يستيقظ، ولا تأخذي معك من الأولاد غير طفلك الرضيع، وأغلب ظني أنه لا يستيقظ من نومه إلا متأخرًا، فقد عاد أمس من تلك السفرة التي سافرها إلى «ولفاخ» حزينًا مكتئبًا كثير الهم والشجن، فسألته عن شأنه فلم يخبرني بشيء، فجلست إليه أحدثه أحاديث مختلفة رجوت أن أسري بها عن نفسه، فلم يصغِ إليَّ، حتى انتصف الليل، فآذنني بالذهاب إلى منزلي، فتركته وهو يعالج النوم فلا يجد سبيلًا إليه.

قالت: مسكين هذا الرجل، ما أحسب أن أحدًا شقي في هذه الحياة شقاءه، أو لاقى فيها ما لاقاه، والناس يحسبونه سعيدًا مغتبطًا، ويحسدونه على نعمته وهنائه، قال: نعم، لقد فتك ذلك الغرام القديم بنفسه فتكةً لا أحسب أنه بارئٌ منها أبد الدهر، فوا رحمتاه له، ووا أسفَا عليه! اذهبي إليه يا «جوزفين» وانتظري يقظته، واحذري أن يزعجه بكاء طفلك، وربما لحقت بك بعد قليلٍ، فذهبت حاملةً طفلها على يدها حتى دنت من باب الحديقة فمرت على مقربة منها مرور البرق امرأة مقنعة في أخلاق رثةٍ مشعثة، تسرع في مشيتها وتتعثر في ذيلها، فعجبت لأمرها، ولكنها لم تحفل بها، ودخلت الحديقة فراعها أن رأت بين يديها في دهليز الباب سَفَطًا صغيرًا كأن فيه شيئًا يضطرب، فدنت منه فرأت طفلًا رضيعًا ملففًا بثيابه يمتص ثديًا صناعية موضوعة بجانبه، فذكرت تلك المرأة التي رأتها منذ لحظة تسرع في مشيتها كالخائفة المذعورة، وقالت في نفسها: إنه طفلها ما من ذلك بدٌّ قد أثمت فيه وحاولت التخلص من عاره فألقته هنا.

وهتفت بالبستاني — وكان يعمل في ناحية أخرى من الحديقة — فلبَّاها، فسألته عن السفط، فدهش إذ رآه وقال: إنه لم يره إلا الساعة، فلم تَرَ أن تصنع شيئًا دون أن ترى رأي «استيفن»، فذهبت إلى مخدعه وأشرفت عليه فرأته مستيقظًا في فراشه، فدعاها حين رآها، فدخلت إليه وقالت له: قد كنت أظن أنك لا تستيقظ اليوم إلا ضحوة النهار، قال: إني لم أنم حتى الساعة، فقصت عليه قصة السفط وأخبرته خبر المرأة المقنعة التي رأتها، ووصفت له حالتها في اضطرابها وتخبُّلها، فداخلَه رَيْبٌ عظيم، ونفض غطاءه عنه نفضًا وخرج مسرعًا في مَباذِلِه حتى بلغ مكان السَّفَط، فرآه ورأى الطفل في مضجعه منه، ورأى بجانبه هَنَة بيضاء فتأملها فإذا كتابٌ مختوم، فأخذه وقرأ في عنوانه «من ماجدولين إلى استيفن»، ففضه بسرعةٍ وأمَرَّ نظره عليه إمرارًا، فلمح بين سطوره كلمة «الموت» فصرخ في وجه «جوزفين» أين ذهبت تلك المرأة التي حدثتني عنها؟ قالت: ذهبت في هذا الطريق، وأشارت إلى طريق النهر! فصرخ صرخة عظيمة وقال: إنها ماجدولين، وإنها قد ذهبت إلى الموت! وألقى الكتاب من يده، وعدا عدوًا شديدًا حتى أشرف على النهر، فرأى خلقًا كثيرًا مجتمعين على ضفته، وكلهم يشير إلى الماء بأصبعه، فنظر حيث يشيرون فرأى الغريقة تضطرب في أيدي الأمواج، وتمد يدها ناحية الضفة كالمستغيثة، وكانت الزوبعة ثائرة، والريح تعصف من كل جانب، ورأى صديقه «فرتز» يحتث زورقه إليها لإنقاذها، فأخذ يهتف ويقول: أدركها يا «فرتز»، أنقذها يا صديقي، إنها ماجدولين، ثم نضا ثوبه عنه وهم بإلقاء نفسه في الماء، فأشفق عليه الناس أن يصيبه مكروهٌ فاعترضوا سبيله، فدفعهم عنه دفعًا شديدًا، واقتحم النهر وظل يسبح وراء الزورق، والموج يدنو منه مرة، وينأى به أخرى حتى بلغه بعد لَأْيٍ فتشبث به، وكان الزورق قد دنا من مكان الغريقة والغريقة تطفو وترسب، ويتموج شعرها على سطح الماء مرة بعد أخرى.

في هذه الساعة، والقلوب خافقة، والنفوس ذاهلة، والناس يهتفون بالدعاء مرةً، ويصرخون صرخات الفزع أخرى، ثارت موجة هائلة حول مكان الغريقة كالطَّوْد الشامخ، ولبثت لحظة تَعِجُّ وتصطخب، فصاح الناس بصوت واحد: رحمتك اللهم وإحسانك، ثم انحسرت فإذا سطح الماء أملس منبسط، وإذا الغريقة لا عين لها ولا أثر.

وما رأى «استيفن» هذا المنظر حتى جن جنونه، وألقى بنفسه في الماء، وغاص حيث غاصت، فاندفع «فرتز» وراءه، وهبط مهبطه، وما زالا يرسبان مرة، ويطفوان أخرى، ويصارعان في هبوطهما وصعودها جبابرة الأمواج صراعًا شديدًا، ثم انفرج الماء عنهما، فإذا هما صاعدان يحملان الغريقة فوق أيديهما، ولا يعلمان أحيةٌ هي أم ميتة؟ وما زالا يسبحان حتى بلغا الضفة فطرحاها، وأكب الناس عليها يتسمعون ضربات قلبها، ويتلمسون أنفاسها، و«استيفن» واقفٌ ناحية يشخص بصره إليها وينتظر قضاء الله فيها، ثم انتبه فإذا القوم جاثون من حولها، وقد رفعوا قبعاتهم عن رءوسهم، وأخذوا يهمهمون بصلواتهم؛ فعلم أن الأمر قد انقضى، فسكن للحادث سكونًا عميقًا لا تتخلله زفرة ولا أنة، وجثا بجانب الجاثين يُصلي بصلاتهم، ويدعو بدعائهم، فأبكى منظره الناس جميعًا، وهالهم من سكونه وجموده فوق ما كان يهولهم من جزعه وبكائه، ثم أخذوا ينصرفون واحدًا بعد آخر؛ حتى إذا لم يبقَ منهم أحد نهض «استيفن» من مكانه ومشى إلى الجثة فاحتملها على يده وسار بها إلى المنزل، و«فرتز» يتبعه صامتًا، فصعد بها إلى الطبقة العليا ودخل إلى تلك الغرفة الزرقاء فأضجعها على ذلك السرير الذي كان بالأمس سرير عرسها، فأصبح اليوم لحدها الأخير.

وجَثَا على درجات السرير جثِيَّ العابد على درجات الهيكل، وظل على حاله تلك بضع ساعات لا يطرف ولا يتحرك، حتى حلت ساعة الدفن، فنهض من مكانه وأكب على الجثة وكشف الغطاء عن وجهها، وتناول من فمها تلك القبلة التي كانت تُحَرِّمها عليه الحياةُ، حتى أحلها له الموت، ثم سقط مغشيًّا عليه.

(٩٥) من ماجدولين إلى استيفن

ماذا أصنع بالمال من بعدك يا «استيفن»؟ بل ماذا أصنع بالحياة جميعها بعد ما فقدتك، وانقطعت أسباب دنياي من أسباب دنياك؟

كنت أرجو أن أعيش لك وأن أقدم إليك في مستقبل حياتك هناء أفضل من الهناء الذي كنت ترجوه في ماضيك؛ لأكفر بذلك عن سيئتي التي أسلفتها إليك، فحلت بيني وبين ذلك؛ لأنك كنت واجدًا عليَّ، وكنت ترى أنْ لا بُدَّ لك من الانتقام لنفسك، فقضيت بذلك عليَّ وعلى نفسك في آنٍ واحد؛ لأني أعلم أنك تحبني، وأنك لا تستطيع أن تهنأ بالحياة من بعدي.

كنت أشعر أن بين جنبي ثروةً من الحب تملأ فضاء حياتك هناءً ورغدًا، وكنت أرى أن في استطاعتي أن أمنحك في كل ساعة من ساعات حياتك من السعادة ما لا تستطيع امرأة في العالم أن تمنحه رجلًا في الكثير من الأعوام، ولم أكن أرجو على ذلك أجرًا سوى أن أراك سعيدًا بين يدي، وأن أعيش بجانبك عيش النبتة الضعيفة بجانب الدوحة العظيمة يفيء عليها ظلها، ويترقرق عليها نسيمها.

لِمَ لَمْ تعفُ عني يا «استيفن»؟ ووالله ما أحببت أحدًا في الحياة غيرك، ولا سكنت نفسي إلى عشرة إنسان سواك، ولم يستطع الرجل الذي نقمت مني بسبب زواجي منه، وحاسبتني عليه حسابًا شديدًا أن ينتقص ذرةً واحدة من ذلك الحب الذي أضمرته لك في قلبي مذ عرفتك، فلو أنك أغضيت عن هفوتي وأذنت لحِلمك أن يسَعَ جهلي لوجدْتَ بين يديك فتاةً عذراء بقلبها وعواطفها، لم تمسسها يد، ولا عبث لفؤادها عابثٌ، ولا فرق بينها وبين تلك الفتاة القروية الساذجة التي أحببتها في «ولفاخ» حبًّا جمًّا، وعاهدتها على المحبة والولاء.

كانت الكأس مُتْرَعَةً بين أيدينا، وكان منظرها جميلًا رائقًا تأخذه العين، ويهفو له القلب، وكان جديرًا بنا أن نتساقاها قطرة قطرة حتى نأتي على القطرة الأخيرة منها، ثم نموت معًا سعيدين بنشوتها، كما عشنا سعيدين بتساقيها، ولكنك كنت شقيًّا سيئ الحظ، فدفعتها عنك بقدمك دفعًا شديدًا فكسرتها، وأرقت ما فيها، فأصبحنا لا نجد لذة الحياة إذا عشنا، ولا نهنأ بضجعة الموت إذا متنا.

لِمَ لَمْ تعفُ عني يا «استيفن» وقد عاقبني الدهر بذنبك عقابًا أليمًا، وأخذَ لَكَ مني فوق ما تستطيع أن تأخذ لنفسك بنفسك؟ فسلبني الثروة التي فتنتني عنك، والزوج الذي مَالَأْتُه على الغدر بك، والهناء الذي زعمت أني أجده في جوارٍ غير جوارك، وأحال تلك الشرارة من الحب التي كانت تلمع في قلبي فتضيء ظلمته إلى نارٍ آكلةٍ تحرقه وتضطرم في أنحائه، وتتغلغل في أعماقه وأطوائه، ولم يترك فيَّ موضعًا واحدًا يسع عقوبتك وانتقامك.

أتدري يا «استيفن» من هي تلك المرأة التي جلست إليها بالأمس تُقرِّعها وتُؤنبها، وتعدُّ عليها ذنوبها وآثامها، وتتلذذ بمنظر ذلها وضراعتها؟

إنها لم تكن إلا شبحًا من الأشباح الضئيلة المتهافتة، قد ذهب الدهر بجميع قواها، وضعضع جميع حواسها ومشاعرها، ولم يترك لها من آثار الحياة إلا عينًا تنظر ولا ترى، وأذنًا تسمع ولا تعي، ونفسًا ذاهلة عن كل شيء حتى عن نفسها، وروحها تتسرب من بين جنبيها شيئًا فشيئًا ذاهبة في سبيلها.

تلك هي المرأة التي قسوت عليها، ولم ترحم بؤسها وضعفها فمددت إليها يدك القوية القادرة وطعنتها وهي جريحة مُثخنة تلك الطعنة النَّجْلاء، التي نَفَذَتْ إلى قلبها، وقضت عليها القضاء الأخير.

قد غفرت لك كل شيء يا «استيفن» لأني أحبك، ولأني أعلم أنك ما قسوت عليَّ هذه القسوة كلها إلا لأنك تحبني، فامنحني عفوك ومغفرتك وأنزلني من نفسك المنزلة التي كنت أنزلها من قبل، والتي أبذل اليوم حياتي في سبيلها، فإن كنت لا بد آخذًا الموتى بذنوبهم فلا تأخذ بذنبي تلك الطفلة اليتيمة المسكينة التي لا سند لها ولا عَضُدَ، فهي وإن كانت ابنة المرأة التي خانتك، فهي ابنة المرأة التي أحبتك، وإني أعيذها بكرمك وفضلك أن تذوق طعم الشقاء على عهدك، أو أن تَحُلَّ بها كارثةٌ من كوارث الدهر بين سمعك وبصرك.

أطعمها وتصدق عليها، فلطالما أحسنت إلى أبويها من قبلها، واجعل لها من صدرك الرحيم ملجأ تجد فيه حنان الأم ورعاية الأب، ولا تَكِلْهَا إلى نفسها تصارع أهوال الحياة وآلامها فتصرعها، وتَوَلَّ بنفسك أمرها في الساعة التي تجتاز فيها تلك العقبة الكبرى من عقبات الحياة حتى لا تسقط سقطةً تشقى بها أبد الدهر، واذكر لها دائمًا أن أمها كانت تحبها حبًّا جمًّا، وأنها ما آثرت الموت على الحياة إلا لأنها عجزت عن أن تعيش بجانبها، ولأنها كانت شقية مُرَزَّأَةً فأشفقت عليها أن يطيش إليها سهمٌ من سهام شقائنا.

الوداع يا «استيفن»، الوداع يا أحب الناس إليَّ، إنني أُفارق هذه الحياة وأنت آخر من أفكر فيه، وكل ما آسف عليه، فاذكرني ولا تنسني، وتعهد بالزيارة قبري من حين إلى حين، إن كان مقدرًا لي أن يكون لي قبرٌ على ظهر الأرض، واحتفظ بالوديعة التي أودعتك إياها، فهي تذكاري الدائم المقيم عندك، وليهون عليك فقدي أن روحي قد امتزجت بروحك امتزاجًا لا يغيره فناء ولا بِلى، فلئن فرقت بيننا الأقدار في هذه الدار فسنلتقي في الدار الأخرى لقاءً لا يُنَغِّصُه علينا موتٌ ولا فراق.

الوداع يا «استيفن»، وآخر كلمةٍ أقولها لك في آخر ساعة من ساعات حياتي: «إني أحبك، وإنني أموت من أجلك.»

(٩٦) المقبرة

استطاع «استيفن» أن يستفيق من غشيته في أصيل اليوم الثاني، ففتح عينيه ودار بهما حوله فرأى «فرتز» وزوجته وأولاده جلوسًا تحت قدميه يبكونه ويتوجعون له، فظل شاخصًا ببصره هنيهة ثم التفت إلى «فرتز» وألقى عليه نظرة طويلة وقال له: هل دفنتموها؟ فأطرق «فرتز» واجمًا وقال بصوتٍ خافت: نعم يا سيدي منذ الأمس، قال: وأين طفلتها؟ قال: قد كفلتها «جوزفين» وهي تتولى إرضاعها مع طفلها، قال: وأين ذلك الكتاب؟ قال: ها هو ذا يا سيدي، وأعطاه إياه، فأمره بالانصراف إلى منزله، فانصرف هو وأسرته، فلما خلا «استيفن» بنفسه أخذ يقرأ الكتاب ونفسه تتطاير لوعةً وأسى، حتى فرغ منه، فبكى ما شاء الله أن يفعل، ثم أخذته كظمةً شديدة، فذهل عن نفسه وظل مستغرقًا في ذهوله بضع ساعات حتى انتصف الليل، فثار من مكانه بغتةً وكأنما طاف بعقله طائفٌ من الجنون، وخرج إلى الحديقة فمشى في أنحائها يتسمع فلم يشعر بحركة، ورأى البستاني نائمًا في غرفته ورأى فأسه على بابها، فتناولها وفتح باب الحديقة بهدوء وخرج، فلما استقبل الفضاء أخذ سَمْتَه إلى المقبرة حتى بلغها، وكان الجو مُكفهرًّا والريح عاصفة، والسحب تحجب وجه القمر ولا تنحسر عنه إلا حينًا بعد الحين، ثم لا تلبث أن تعود إلى تراكمها وتكاثفها.

وكان يحيط بالمقبرة من جهاتها الثلاث سورٌ متهدم كثير الثغرات والفجوات؛ ويمتد مع جهتها الرابعة نهر «جوتنج» وقد قامت على ضفته أشجار عالية غَبْيَاء تعصف الريح بفروعها وأوراقها عصفًا شديدًا فيتألف من حفيفها وخرير ماء النهر الجاري بجانبها صوتٌ غليظ أجش يملأ القلوب روعةً ورهبة، فلم يزل «استيفن» سائرًا في طريقه حتى لاحت له رءوس تلك الأشجار، وسمع حفيف أوراقها، وخرير المياه المتدفقة من تحتها، فخُيل إليه أنها أشباح سوداء من الجن تتقدم نحوه في جوف الليل راقصة مترنحة، وتُدمدم بأصواتها المخيفة المريعة، فمشت في جسمه رعدة الخوف، إلا أنها لم تمنعه من المضي في وجهه، فاستمر في سبيله حتى دخل المقبرة، وكان القمر يظهر حينًا فيرشده إلى الطريق ثم يلبث أن يتوارى في غمار السحب فيقف عن المسير، فإذا تراءى له رأى على ضوئه نواويس الموتى وقد جفت فوق تربتها تلك الأشجار القصيرة التي أغفل غارسوها أمرها بعد أن بلي في قلوبهم حزنهم على موتاهم، ولم يزل يتصفح أوجه القبور حتى رأى بين يديه قبرًا حديثًا لا تزال تربته مُخْضَلَّةٌ فأكب عليه يتصفح جوانبه فقرأ على أحدها على شعاع ضعيف بعثه إليه القمر في تلك الساعة اسم ماجدولين، فجثا على ركبتيه وهمهم بصلاةٍ قصيرة، ثم نهض قائمًا على قدميه وتناول الفأس التي أتى بها معه وضرب بها الأرض ضربة شديدة، فلم يسمع لضربته صوتًا لشدة عصف الرياح وزفيفها في تلك اللحظة، ثم أخذ يحفر حتى ضرب ضربة أخرى رنت رنينًا شديدًا ملأ أرجاء المقبرة، فاقشعر بدنه، وبرد دمه في عروقه، وسقط على ركبتيه، وسقطت الفأس من يده؛ لأن الضربة كانت قد أصابت التابوت الذي يحوي الجثة، فخُيل إليه أنها أصابت جمجمة الميتة.

وكان القمر قد برز من وراء غمامته في تلك الساعة وأضاء المقبرة كلها، فتمثل له أن القبور قد تفتحت جميعها، وأن الموتى قد أخرجوا رءوسهم منها وأخذوا ينظرون إليه بعيونٍ ملتهبة متوقدة؛ فطار من رأسه ما بقي فيه من الصواب وترك الفأس مكانها، وركض ركضًا شديدًا وهو يتخيل أن الموتى يتأثرونه ويركضون وراءه، حتى وصل إلى المنزل منطرحًا من الكلال، وهو يصيح: «ما كفاني أن أقتلها حتى مثلت بها!»

وسمع البستاني صيحته فاستيقظ وذهب إليه فرآه على تلك الحالة، فقال له: ما بك يا سيدي؟ فهدأ قليلًا عندما رآه، ونهض من مكانه وقال له: اتبعني، فتبعه الرجل صامتًا لا يعلم أين يريد، حتى بلغ المقبرة، وكان القمر لا يزال مشرقًا في جنباتها، فمشى إلى ذلك القبر فانحنى عليه، فرأى أثر الفأس في التابوت ولم ير شيئًا مما كان تخيله، فسكن وهدأ، وعلم أنه إنما كان في ثورة من ثورات الجنون، فأمر الرجل أن يعيد التراب إلى ما كان عليه، فأعاده، ثم أمره أن يأخذ فأسه ويعود إلى المنزل ففعل، وجثا هو بجانب القبر يلثُم تُربه وثراه، ويلصق خديه بصفائحه وأحجاره، ويبكي بكاءً شديدًا حتى اشْتَفَتْ نفسه، ثم انصرف لسبيله وهو يقول: قد كنت أرجو أن أُدفن بجانبك يا ماجدولين فلم أُوفق إلى ذلك، وأحسب أن ذلك مني غير بعيد.

وأصبح منذ ذلك اليوم خائر النفس، منقبض الصدر، كئيبًا مستوحشًا، ينظر إلى الحياة وما فيها نظر الغريب النازل بدارٍ لم يطرقها من قبل، ولم يأنس بالمقام فيها، فهو يعد عدته للرحيل عنها، ثم ما زال يلجُّ به الأمر حتى أصبح يستوحش من الناس ويتبرم بمرآهم، ويستنكر سماع أصواتهم، فانقطع عن الاختلاف إلى من كان يختلف إليه من أصدقائه ومعارفه، وأبى أن يقابل أحدًا من زائريه، وأمسى لا يفارق خياله — في نومه ويقظته وذهابه وجيئته — منظر ماجدولين وهي تغرق في النهر، وغدائرها الذهبية الصفراء طافية على وجه الماء، ويداها تتحركان حركات الاستغاثة فلا تجد مغيثًا ولا معينًا، فكان يجد في نفسه لتلك الذكرى ألمًا مُمِضًّا يقيمه ويقعده، ويذهب براحته وسكونه، فيصرخ كلما تراءى له ذلك الخيال: نعم أنا الذي قتلتها، وانتزعت حياتها من بين جنبيها، وفرقت بينها وبين فلذة كبدها، فويل لي! ما أشقاني! وما أسوأ حظي! لقد قُدر لي أن أقتل بيدي جميع الذين يحبونني على ظهر الأرض، وأن أبقى من بعدهم شقيًّا معذبًا أبكيهم وأندبهم، لا أستطيع أن أنساهم، ولا يُقَيَّضُ لي أن ألحق بهم.

ولقد استيقظ صباح يوم من الأيام ضيق الصدر، كثير الضجر، فخرج من المنزل هائمًا على وجهه، ومشى في طريق ممهدة بين المزارع لا يدري أين يذهب، ولا أي غاية يريد، واستمر به المسير بضع ساعات فإذا هو أمام قرية «ولفاخ»، فهاجت في نفسه تلك الذكرى الماضية، ومشى إلى بيت الشيخ «مولر»، فراعه وأدهشه أنه لم يَرَ أثرًا لذلك البيت، ولا لتلك الحديقة، فلا غرف ولا قيعان، ولا سقوف ولا جدران، ولا أشجار ولا أغراس، بل رأى أنقاضًا مبعثرةً، وجذوعًا متناثرة، وأحجارًا ذاهبة ها هنا وها هنا، فعلم أن مالك البيت الجديد قد هدمه، وانتزع أشجار حديقته وأغراسها، فأحزنه المنظر وآلمه، ووقف أمامه مطرقًا خاشعًا، وقوف العابد أمام محرابه، وللبِلَى والدُّرُوس جلالٌ في النفس فوق جلال الجدة والعمران.

وظل على ذلك ساعةً، ثم أخذ يدور في تلك العَرَصات الخالية يتلمس أثرًا من آثار تلك المعالم التي قضى فيها أيام سعادته الأولى، كما يتلمس الساري في ظلمة الليل نجمة القطب في أطباق السحب، فلم يجد شيئًا، فهتف صارخًا: ماذا صنع الدهر بي وبها؟ لقد أثكلنيها وأثكلني كل شيء بعدها حتى آثارها! وظل يناجي تلك الأطلال الدوارس، ويستنطق نُؤْيَهَا وأحجارَها، ويسائلها عن أهلها وساكنيها، فلا يجيبه غير الصدى المتردد، حتى عَيَّ بموقفه، فانصرف ولقلبه وَجَباتٌ كأنها شقائق برقٍ في السماء لوامع.

(٩٧) بيتهوفن

انقطعت أخبار «استيفن» عن «كوبلانس» وأنديتها ومجامعها، وكان غرة جبينها المتلألئة، وشمس جمالها الساطعة، فتساءل عنه أصدقاؤه ومعارفه، وصنائع أياديه وفواضله، والمعجبون بذكائه ونبوغه، حتى عرفوا قصته، وما كانوا يعرفون شيئًا منها قبل اليوم، فهالهم الأمر وتعاظمهم، وأشفقوا أن تختطف يد الدهر من أيديهم تلك الحياة النضرة الزاهرة التي لم يتمتعوا بها إلا قليلًا من الأيام، فمشى بعضهم بذلك إلى بعض، واجتمع منهم جمعٌ عظيم ضم بين حاشيتيه كثيرًا من كبار الموسيقيين، ونوابغ الممثلين، ورجال الشعر والأدب، فأجمعوا رأيهم على زيارته في قريته، وألا يزالوا به حتى يهجر عزلته ويعود إلى حياته الأولى بينهم، فكتبوا إليه أنهم وافدون لزيارته غدًا.

ثم ركبوا في أصيل اليوم الثاني عجلاتهم، واستصحب كثير منهم نساءهم وفتياتهم، وذهبوا إلى القرية، فاستقبلهم استيفن على باب داره باسمًا متطلقًا كأنه لا يُضمر بين جنبيه لوعةً ولا أسى، وكأن قلبه لا يذوب بين أضالعه ذوب السبيكة في بوتقتها، فطمعوا فيه إذ رأوه، وخيل إليهم أنه قد برئ مما به أو كاد، وأن هذه الصفرة الرقيقة التي لا تزال تلبس وجهه إنما هي أثر من آثار ذلك الماضي سيذهب مع الأيام، وكان قد أعد لهم في الحديقة مائدة عظيمة للعشاء، فجلسوا إليها وكانوا أكثر من ثلاثين رجلًا وامرأة، وجلس هو بينهم يحدثهم ويطرفهم بِمُلَحِه ونوادره، وتجنب في أحاديثه معهم كل ما يتعلق بكارثته، فلم يجرؤ أحدٌ منهم أن يفاتحه فيها حتى فرغوا من الطعام، فتفرقوا في أنحاء الحديقة زُمَرًا يرتاضون ويسمرون حتى مضت قطعة من الليل، فاقترح أحدهم أن يؤتى بالبيانو إلى فضاء الحديقة ليوقع عليه من يشاء منهم، فأُتي به، فجلس إليه الموسيقي «فردريك» ووقع عليه لحنًا من ألحان الموسيقار العظيم «بيتهوفن»، فطرب له السامعون طربًا عظيمًا، وقال أحدهم: لقد كان «بيتهوفن» الرسول الإلهي الذي بعثه الله إلى البشر ليخاطبهم بلغته، فهو الرجل الذي استطاع وحده من دون الموسيقيين جميعًا أن ينطق بلسان الطبيعة، ويردد أنغامها وأهازيجها، وأن يكون في غنائه هادئًا كالماء، وصافيًا كالسماء، وعميقًا كالبحر، وصادحًا كالطير، وخافقًا كالنجم، فقال الموسيقي «موزات»: نعم ولكنه كان سيئ الحظ، عاثر الجد، فقد قضى حياته فقيرًا معدمًا يسعى إلى الكفاف من العيش فلا يجده، وخاملًا مغمورًا، يطلب الشهرة من طريق الفن فلا يظفر بها، حتى مات شريدًا طريدًا في وطنٍ غير وطنه، وبين قومٍ وأسرةٍ غير قومه وأسرته، فقال الشاعر «سيدروف»: من منكم يحفظ تاريخ حياته الأخيرة فيقصه علينا؟ فقال «استيفن»: أنا أقصه عليكم؛ لأني أعلم الناس به، فقد كان أستاذي «هومل» رحمة الله عليه صديقه الذي عاشره في آخر أيام حياته حتى مات وتولى دفنه بيده، وكان كثيرًا ما يقص عليَّ ذلك التاريخ وهو يبكي بكاءً شديدًا، فأنا أرويه لكم كما كان يحدثني به.

ثم أقبل عليهم وأنشأ يقول: لقد قسا الدهر على «بيتهوفن» قسوةً عظيمة لم يقسُها على أحد من قبله من رجال الفنون والآداب، فقد وضع للعالم تلك الموسيقى السماوية العالية التي حاكى بها الطبيعة في نغماتها ورناتها، وصور فيها أدق عواطف القلوب وخوالجها، فلم يحفل بها الناس كثيرًا، ولم يأبهوا لها، وكانوا قد ألفوا قبل ذلك تلك الموسيقى الصناعية المتكلفة التي كان يتأنق الموسيقيون الماضون في تنسيقها وتدبيجها تأنق النحات في صنع الدمية الجميلة التي لا روح فيها، وافتتنوا بها افتتانًا عظيمًا فلم يستطيعوا أن يفهموا غيرها، أو يهَشُّوا لشيء سواها، ولم يكن مصابه بجهل الناس إياه واحتقارهم له بأقل من مصابه بحسد حساده من أبناء حرفته، واضطغانهم عليه، بل لم يكن له مصابٌ غير هؤلاء، فهم الذين وقفوا في وجهه، واعترضوا سبيله، واستقبلوه حين وقف عليهم بتلك القيثارة الجميلة الرنانة بابتسامات الهزء والسخرية، وذهبوا كل مذهب في النيل منه، والولع به، والغض من شأنه، وما كانوا يجهلون فضله ومقداره، وقيمة ما استحدثه في الفن من بدائع المبتكرات وغرائبها، ولكنهم عجزوا عن الصعود معه إلى ذروته التي صعد إليها، فلم يكن لهم بد من أن يثيروا حول كوكبه الساطع المتلألئ في سماء الموسيقى هذه الغبرة السوداء من المثالب والمطاعن، فلا يرى الناس أشعته، ولا يشعرون بمكانتها، حتى إن «هايدن» نفسه — وكان أكثرهم اعتدالًا وأدناهم إلى العدل والإنصاف — لم يستطع أن يسمح لنفسه بأن يقول عنه في تقريظه أكثر من أنه «عازفٌ ماهر.» فكان مثله في ذلك مثل من يقول عن شاعرٍ مثل شاعرنا «جيتيه»: إنه «يحسن الإملاء.»

ولم يزل هذا شأنهم معه حتى نغصوا عليه حياته، وذهبوا براحة نفسه وسكونها، وملئوا قلبه وساوس وأوهامًا، فساء ظنه بنفسه، وأصبح يرتاب معهم كما يرتابون في اقتداره ونبوغه، ولولا أن صديقه «هومل» كان مرآته الصادقة التي يرى فيها نفسه من حينٍ إلى حينٍ لنفض يده من الموسيقى نفض اليائس القانط، ولحرمت الأمة الألمانية هذه القيثارة البديعة الساحرة التي لم يخلق الله لها شبيهًا في العالم مذ خُلقت الدنيا حتى اليوم، فويلٌ للأشرار الخبثاء، ماذا كانوا يريدون أن يصنعوا؟ وماذا كان يكون شأن الموسيقى في العالم لو تم لهم ما أرادوا؟

ولم يستطع «بيتهوفن» أن يصبر طويلًا على هذه المَظْلِمَة، وضاق ذرعه بتلك النظرات المؤلمة التي أصبح الناس ينظرون بها إليه كلما مشى في طريقٍ، أو ظهر في مجتمع، فلم يُطِقِ المُقَامَ بينهم، ولا العيش فيهم، فظل يتنقل في أنحاء البلاد غدوًّا ورواحًا، لا يهبط بلدة حتى يطير به الضجر إلى غيرها، ولا تطلع عليه الشمس في مكان حتى تغرب عنه في مكانٍ آخر، وكان له في مبدإ أمره ثروةٌ صالحة يعود بها على نفسه وذوي قرباه، ولكنه كان من أصحاب الملكات الشعرية، والشعر والحزم لا يجتمعان في رأسٍ واحدٍ، فلم يزل به إسرافه وتخرقه حتى أضاعها، فأصبح لا يملك أداة من أدوات الرزق غير قيثارته، وقيثارته سلعةٌ كاسدةٌ في سوق الفنون لا يبتاعها منه أحد، فزهد المجامع والمحافل، وعاف المدائن والقرى، وفر بنفسه إلى الغابات والأحراش وقُلَل الجبال وضفاف الأنهار، وهنالك في خلواته ومعتزلاته حيث لا يَسمع صوتًا غير صوت الطبيعة، ولا يرى وجهًا غير وجه الله، أخذ يبث قيثارته آلامه وأحزانه، ويسكب مدامعه الغزيرة بين مثانيها ومثالثها، ويضع وهو جائعٌ طاوٍ صفر اليد والأحشاء تلك الموسيقى العظيمة التي يعيش الموسيقيون اليوم ببركتها عيش السعداء، وينعمون في ظلالها بنعمة العيش الرغيد.

وكثيرًا ما كان يستمر به المسير حتى يصل إلى «جزر الدانوب»، فيهيم إلى ضفاف ذلك النهر أيامًا طِوالًا لا يفترش إلا العشب، ولا يلتحف غير الظل، ولا يطعم إلا ما يقذف به إليه النهر من أحيائه، حتى يعثر به صديقه «هومل» فيعود به إلى العمران.

ولم يقنع الدهر منه بذلك حتى رماه في آخر أيامه بالصمم، فلم يأسف لهذه النكبة كثيرًا، بل قال في نفسه: إني أحمد الله على ذلك، فقد كفاني نصف شرور الناس فلعله يكفيني نصفها الآخر، فلا أرى وجوههم، ولا أسمع أصواتهم، ولقد صدق فيما قال، فقد أخذ الناس يسمونه بعد نزول تلك الكارثة به بالموسيقي المجنون، فلم يسمع شيئًا مما يقولون.

وأصبح منذ ذلك اليوم هادئًا ساكنًا لا يشكو ولا يتضجر، بل لا يشعر ولا يتألم، وذهب إلى غابة قريبة من مدينة «بادن» فعاش فيها وحيدًا منفردًا لا يسمع إلا صوت قلبه، ولا يصغي إلا لتلك النغمات الداخلية التي تتردد بدون انقطاع في أعماق نفسه، ولا يرى أحدًا من الناس غير صديقه «هومل» من حينٍ إلى حينٍ، فإذا جاءه طرح عليه ما وضعه من الألحان فيحمله عنه إلى الناس من حيث لا يشعر، وهو باقٍ في مكانه لا يفارقه.

وكان الناس قد أصبحوا يألفون أنغامه بعض الشيء ويصغون إليها، لا لأن حساده قد هدءوا عنه، أو انقطعوا عن مناوأته والغَضِّ منه، بل لأن للطبيعة سلطانًا فوق سلطان الضغائن والأحقاد، ولأن السحب المتبلدة في آفاق السماء لا تستطيع أن تطفئ نور الشمس، بل تحجب ضياءها عن العيون لحظة من الزمان ثم لا تلبث أن تنقشع عنها، فإذا هي ملء العيون والأنظار.

ولم يقضِ في عزلته هذه زمنًا طويلًا حتى ورد عليه كتابٌ من ابن اختٍ له في «فينا» كان قد تبناه في صغره وأحبه حبًّا كثيرًا يقول له فيه: إنني متهم بتهمةٍ عظيمة لا سبيل لي إلى الخلاص منها إلا بحضورك، فسافر إليه دون أن يقابل صديقه «هومل»، ولم يكن معه من المال ما يقوم بنفقات سفره، فكان يمشي على قدمه حينًا ويركب عجلات النقل أحيانًا، حتى نال منه الجهد، وأصبح عاجزًا عن المسير.

وكان الطريق إلى «فينا» لا يزال بعيدًا فمر ذات ليلة ببيتٍ صغيرٍ منفردٍ في ظاهر إحدى القرى فوقف ببابه وأخذ يقرعه قرعًا خفيفًا، فخرج إليه صاحب البيت وسأله: ما شأنه؟ فقال له: إنني شيخٌ أصم، غريبٌ عن هذه الديار، وقد أظلني الليل وعجزت عن المسير فلا أستطيع المضي في سبيلي، فائذن لي بمضجعٍ آوي إليه بقية ليلتي، وإن شئت فَأْمُرْ لي بكسرة خبزٍ أسد بها رمقي، فأشفق عليه الرجل وأوى له، وأحله من بيته أكرم محل وأسماه، وكان للرجل ابنتان في سن الشباب فقامتا بين يديه تخدمانه حتى رجعت إليه نفسه، فدعوه إلى المائدة فأكل معهم، ثم مشى إلى مُصْطَلًى في أحد أركان القاعة، فجلس إليه يصطلي ويجفف ثيابه، وكان صاحب البيت من المولعين بالموسيقي والمغرمين بتوقيعها ليلهم ونهارهم، فما فرغ من الطعام حتى جلس أمام «البيانو» وأخذ يقلب دفتر الموسيقى الذي بين يديه حتى وقع على ما يريد منه، فأشار إلى ابنتيه أن تأخذا قيثارتيهما، وأخذوا يعزفون جميعًا بنغمة واحدة، فاغتبط «بيتهوفن» بمنظرهم، وإن لم يسمع من غنائهم شيئًا وكل ما استطاع أن يفهمه من شأنهم أن لذلك اللحن الذين يوقعونه سلطانًا عظيمًا على نفوسهم، فقد رآهم متأثرين عند توقيعه تأثرًا شديدًا، ورأى صاحبة البيت وخادمتها قد تركتا ما كانتا تشتغلان به من شئون البيت وأعماله ووقفتا للاستماع، وقد سكنت أطرافهما، وتهلل وجهاهما، وذهبتا ببصرهما في السماء كأنما تتبعان أثر تلك النغمات في طريقها إلى الملأ الأعلى، حتى انتهت القطعة، فاغرورقت عينا الفتاة الصغرى بالدموع، وألقت بنفسها بين ذراعي أمها، وبكت بكاءً شديدًا، فنهض بيتهوفن من مكانه ومشى إليهم وقال لهم: إنني لم أستطع أن أسمع شيئًا من ألحانكم أيها الأصدقاء، ولكنني استطعت أن أفهم أنها ألحان جميلة مؤثرة فتأثرت معكم، وطربت لطربكم، ولقد كنت قبل أن تحل بي هذه النكبة التي ترونها أحب الموسيقى حبًّا شديدًا، ولا يلذ لي في الحياة شيءٌ مثل استماعها، فهل تأذنون لي أن أنظر في دفتر الموسيقى لأقرأ تلك القطعة التي كنتم توقعونها؟ فأومأ إليه بالإيجاب، فأكب على الصحيفة، فما وقع نظره على القطعة ورأى اسم صاحبها في رأسها حتى اصفر لونه، وارتعدت يده وارفض جبينه عرقًا، ثم أخذ يبكي بكاءً شديدًا، فانتبه القوم إليه، ونهضوا من مكانهم مذعورين، وأحاطوا به يسألونه ما خطبه، فأشار بأصبعه إلى عنوان القطعة، فلم يفهموا ما يريد، فقال لهم: إنها قطعتي أيها الأصدقاء، وأنا الموسيقي «بيتهوفن»! فدهشوا جميعًا، وظلوا ينظروا إليه باهتين مذهولين، ثم رفعوا قبعاتهم عن رءوسهم، وجثوا بين يديه خاضعين متخشعين، وتناولوا يده وأخذوا يقبلونها واحدًا بعد آخر، فكانت هذه الساعة هي الساعة الوحيدة التي ذاق فيها لذة الاحترام في حياته، وكانت هي بعينها الساعة التي رفرف على رأسه فيها طائر الموت، فقد شعر في تلك اللحظة بوخزة مؤلمة في جنبه، فتساقط في مكانه، فتلقوه على أيديهم، واحتملوه إلى سريره، وسهروا بجانبه الليل كله يعللونه ويستشفون له، فيستفيق مرة، ويستغرق في غشيته أخرى، حتى الصباح.

وكان صديقه «هومل» قد عرف أمر سفره فتبعه في الطريق التي سلكها، وظل يسائل عنه في كل مكان حتى عرف القرية التي وصل إليها، والبيت الذي نزله، فصعد إليه فرآه في سكرته التي يعالجها، فجلس بجانبه يبكيه ويتوجع له، حتى انتبه له «بيتهوفن» بعد حين، فابتسم له إذ رآه وقال له: هل جئتني بقيثارتي يا «هومل»؟ قال: نعم يا سيدي، وها هي ذي، فتناولها منه وتناهض متكئًا على إحدى يديه حتى تمكن من الجلوس، وأنشأ يوقع على مسمعٍ من القوم لحنه المحزن المشهور «رب لِمَ أشقيتني وما أشقيت أحدًا من عبادك»، فما أتمه حتى ارتعدت يداه، وجحظت عيناه، وسال العرق من جبينه متحدرًا، فسقط على وسادته وقد غشيته غشية الموت، ثم فتح عينيه بعد لحظة فرأى صديقه «هومل» بجانبه، فأمسك بيده ونظر إليه نظرةً طويلة وقال: «ألم أكن في حياتي عظيمًا يا هومل؟» قال: بلى وأكبر من عظيم، فتهلل وجهه بالبشر، وأسبل عينيه وهو يقول: «الآن أموت سعيدًا!» ثم قَضَى.

وفي اليوم الثاني حُمل ذلك الرجل العظيم إلى مقبرة تلك القرية الحقيرة فدفن فيها، ولم يشيع جنازته غير صديقه «هومل» وأفراد تلك الأسرة التي مات بينها، وكان هذا كل حظه من الحياة.

(٩٨) لحن الموت

ما وصل «استيفن» في حديثه إلى هذا الحد حتى اصفر لونه، وتَغَضَّنَ جبينه وأطرق برأسه إلى الأرض، فانتبه إليه القوم فإذا هو واضعٌ يده على قلبه، وإذا دموعه تنحدر على خديه متتابعة، فقال له أحدهم: ما بك يا «استيفن»؟ فرفع رأسه بعد هنيهة وقال: إنما أبكي على هذا الرجل المسكين الذي عاش في حياته شقيًّا ومات مسكينًا، ولم يبتسم له الدهر في يوم من أيام حياته ابتسامة واحدة يُكافئه بها على يده التي أسداها إلى هذا المجتمع، كأنما قد كُتب للعاملين على وجه الأرض جميعًا أن يعيشوا فيها عيش الأشجار العظيمة في الصحاري المحرقة، تُظَلِّلُ الناسَ بوارِفِ ظلها وهي تصطلي حر الهاجرة وأُوارها، ولو أن القدر أنصفهم ووفاهم أجورهم لما سعد أحدٌ في الحياة سعادتهم، ولا هنئ فيها هناءهم.

فصمت القوم جميعًا، وقد شعروا أنه إنما يحدث عن نفسه، ويرسل في حديثه بعض الزفرات التي تعتلج في صدره.

وإنهم لكذلك إذ نهض من مكانه بغتةً ومشى بقدم هادئة مطمئنة حتى وصل إلى كرسي «البيانو» فجلس عليه، ثم التفت إلى القوم وقال لهم: هل تأذنون لي أيها الأصدقاء وقد قصصت عليكم تاريخ حياة «بيتهوفن» أن أسمعكم لحنه الأخير الذي وقعه في آخر ساعات حياته؟ فتهللت وجوههم فرحًا، وقد ظنوا أنه إنما يريد أن يسري عن نفوسهم تلك الكآبة التي غشيتها منذ الساعة، فقالوا جميعًا: نعم!

فبدأ يوقع ذلك اللحن «رب لم أشقيتني وما أشقيت أحدًا من عبادك» ويغنيه بصوتٍ ضعيفٍ خافتٍ، ثم أخذت عواطفه تشتعل شيئًا فشيئًا، فعلا صوته، وأنشأت نغماته تنتشر في أجواز الفضاء، فسمع القوم تلك الموسيقى السماوية العالية التي لم يخلق الله لها مثيلًا، والتي هي غاية ما أنتجه العقل البشري، فأطرقوا برءوسهم إجلالًا لهذه العظمة المشرقة عليها من سمائها، وخيل إليهم أنهم لا يرون بينهم مغنيًا يوقع على أوتاره، بل ثاكلًا متفجعًا يذرف مدامعه، ويصعد زفراته، حتى الموسيقي «موزات» همس في أذن أحد الجالسين بجانبه قائلًا: «إن الرجل لا يغني بل يموت، وإني أشم من أنفاسه رائحة الكبد المحترقة.» وكان كلما استمر في غنائه اشتد تأثره، والتهبت عواطفه، وتلون صوته بلون الأنين المحزن، حتى فَنِيَ عن نفسه وعما حوله، واستولت عليه حالة غريبة من الذهول والاستغراق.

وما أتى على النغمة الأخيرة — وكانت أعلى النغمات وأطولها وأذهبها في أجواز الفضاء — حتى نهض القوم جميعًا على أقدامهم وأخذوا يصفقون تصفيقًا شديدًا ويهتفون «ليحيا استيفن.»

وإنهم ليصفقون هذا التصفيق الشديد ويدعون له بالحياة الطويلة، ويتدافعون إلى مكانه لتهنئته وتمجيده، إذا بهم ينظرون إليه فيرونه مائلًا برأسه على ظهر كرسيه، وقد اقشعر وجهه، وتغيرت سحنته، وأمسك بكفه على أحشائه، فطارت ألبابهم، وطاشت عقولهم، ومرت بخواطرهم جميعًا مرور البرق تلك الصورة التي مات عليها «بيتهوفن» في قصته التي قصها عليهم منذ الساعة، فتشاءموا وانقبضت نفوسهم، وأحاط به جماعة منهم فاحتملوه إلى سريره، وحضر الطبيب ففحصه ثم نظر إليه نظرة اليأس، فأطرقوا واجمين مكتئبين واحتاطوا بسريره ينتظرون قضاء الله فيه، ففتح عينيه بعد ساعة ودار بها حوله ونطق باسم «فرتز» — وكان حاضرًا — فلباه، فنظر إليه طويلًا ثم نطق باسم «ماجدولين الصغيرة»، فما لبث أن جاءه بها، فضمها إلى صدره وقبلها قبلة امتزجت فيها عاطفة الرحمة بعاطفة الذكرى، وظل ينظر بعينيه إلى السماء مرة وإلى «فرتز» أخرى، كأنما يوصيه بالطفلة ويستشهد الله على ذلك، ثم التفت إلى القوم وقال بصوتٍ ضعيفٍ متهافت: «أشهدكم أيها الأصدقاء أن جميع ما تملك يدي قسمة بين هذين.» وأشار إلى «فرتز» و«الطفلة»، ثم عاد إلى ذهوله واستغراقه، وأخذ يجود بنفسه، وظل على ذلك ساعة ثم فتح عينيه مرة أخرى فرأى القوم يبكون من حوله ويتفجعون له، فمرت بشفتيه ابتسامةٌ خفيفة، كأنما اغتبط بمنظر تلك العظمة التي تجلت له في دموع هؤلاء العظماء، وأخذ يقلب عينيه فيهم، فتقدم نحوه الموسيقي «فردريك» — وكان أعظم القوم شأنًا وأكبرهم سنًّا — وقال له: هل توصي بشيءٍ يا مولاي؟ فحاول النطق فلم يستطعه، فظل يعالجه حينًا حتى استقاد له، فأنشأ يقول: أوصيك يا «فردريك» أن تجمع ألحاني جميعها في كتابٍ واحد، وأوصيك يا «فرتز» أن تدفنني مع ماجدولين في قبرها، وأن تتولى شأن هذه الطفلة الصغيرة وتحميها مما تحمي منه أهلك وولدك، حتى إذا يفعت زوجتها من الزوج الذي تختاره لنفسها، وأوصيكم جميعًا ألا تحزنوا على موتي، فإنني وإن قضيت حياتي شقيًّا فها أنتم أولاء ترون الآن أنني أموت بينكم سعيدًا، وكان هذا آخر ما نطق به، ثم أسلم روحه.

وكذلك انتهت حياة هذا الرجل العظيم الذي قتل الحب جسمه، ولكنه أحيا نفسه وسجلها في سجل النفوس الخالدات.

(٩٩) النهاية

أما أسرة «فرتز» فقد سعد حالها، وأصبحت في نعمةٍ واسعةٍ من العيش، لا يُنغصها عليها إلا ذكرى ذلك المحسن الكريم، وأما ماجدولين الصغيرة فقد تولى «فرتز» شأنها ورباها مع ولده «برنار» — الذي رضعت معه في صغره — تربية قروية ساذجة بعيدة عن مفاسد المدينة وآفاتها، حتى شبا فتحابا حبًّا شريفًا طاهرًا، فانتهى بهما الأمر إلى الزواج، فعاشا أسعد عيشة وأهنأها، وأما المنزل فقد اشترته جمعية الموسيقى الملوكية في برلين وحفظته تذكارًا لاستيفن، ولا يزال حتى اليوم مزارًا يزوره الناس ويشاهدون فيه آثار ذلك التاريخ الذي دونه الشاعر «سيدروف» ويرون حديقته، وأزهار البنفسج المنتشرة في أنحائها، والحوض المقام في وسطها، والسياج الدائر من حوله، والمقعد الذي جلس عليه «استيفن» وماجدولين ليلة عاتبها وغاضبها، والغرفة الزرقاء التي كانت غرفة عرس ماجدولين أولًا، ولحدها أخيرًا، ومكتبة استيفن، وقيثارته، والبيانو الذي وقع عليه في ساعته الأخيرة «لحن الموت.»

فإذا فرغوا من زيارة المنزل ذهبوا إلى المقبرة فزاروا ذلك القبر الذي دُفن فيه هذان الشقيان البائسان، فيبلل تربته بالدمع منهم من نُكِبَ في حياته بمثل نكبتها، أو عاش فيها شقيًّا كعيشهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤