الفصل الثالث

الأدب الألماني في العصور الوسطى

لعل الشعراء لم يجدوا من التكريم في بلدٍ ما وجدوه في البلاد الألمانية، وفي أجزائها الجنوبية بصفةٍ خاصة: في بافاريا والنمسا، وهنالك نشأ بتأثير الشعراء «التروبادور» تقليد بين الشعراء أن يقرضوا «أنشودة الحب» فيتغزَّلوا بالحبيب على تقاليد دقيقةٍ معقدة تقوم بين الشعراء مقام القانون الذي لا يجوز لأحدٍ أن يعدو قيوده وحدوده. غير أن الشاعر الغَزِل في ألمانيا كان أكثرَ من زميله التروبادور في فرنسا جِدًّا وصرامة، وأقلَّ منه زخرفةً وبهرجة؛ فقد تناول فنَّهُ في جدٍّ لا يعرف الهزل، واستطاع في قرنين — هما الثاني عشر والثالث عشر — أن يُنتج مقدارًا كبيرًا من الشعر الغنائي الذي يشفُّ عن عبقريةٍ قوية في قرض الشعر، فكانت تلك القصائد الغنائية بالإضافة إلى الأغاني الشعبية الساذجة أساسًا «للأغاني» الألمانية التي امتازت بألفاظها وأنغامها معًا. وكان الشاعر الغَزِل في ألمانيا — عادة — فارسًا من الصفوف الدُّنيا، وموضوع «أغنية الحب» إعجاب الشاعر بل تقديسه لامرأةٍ من طبقةٍ اجتماعية تفُوق طبقة الشاعر بحيث يستحيل عليه أن يظفر بها. وقد تكون هذه المحبوبة أحيانًا مُتمثِّلة بالفعل في زوجة سيِّده، وقد تكون أحيانًا أخرى وليدةَ خياله. وإن هذا اللون من الحبِّ يُحسُّه شاعر شابٌّ نحو معشوقة فوق مناله ليَشيع في كثيرٍ من شعر العصور الوسطى وعصر النهضة. ولئن كان هذا الحب مُصطنعًا أحيانًا فإنه في معظم الأحيان صادر عن عاطفةٍ قوية سليمة تُمكِّن الشاعر أن يُعبِّر عنه تعبيرًا جميلًا.

وأعظم «شعراء الغزل» في ألمانيا هو «وولْتر فون دِرْ فُوجِلْوِيد»١ الذي برع في فنِّ القريض، وكان ذا أثرٍ عميق في النهوض بالشعر الغنائي، وكان لا يتكلَّف الغزَل بل يصدر في غنائه عن شعورٍ صادق، وإن العاطفة البادية في شعره لتصطبِغ بصبغةٍ هي أقرب إلى نفوسنا من شعر كثيرٍ من المُعاصرين، وقصيدته المشهورة هي «تحت ظلال الزيزفون»، وليست معشوقته فيها سيدة من طبقةٍ رفيعة، بل فتاة ساذجة من غمار الشعب.
وقد حدث في مُستهلِّ القرن الثالث عشر أنِ التقى «وولتر فون در فوجلويد» بزميله الشاعر «وُلْفرام فون إشِنْباخ»٢ في بلاط أحد الأمراء، فكان لقاءً بين شاعرين هما أقوى شعراء الألمان عاطفةً وعبارةً وأشدُّهم خَلْقا وابتكارًا. وتاريخ الأدب يعرف «وُلْفرام» بشعرِه الغزلي، كما يعرف له أنه الشاعر الذي تناول قصة «بارسفال»٣ فصاغها وسَوَّاها، وهي أجمل قصة تَروي أسطورة «الوعاء المقدَّس» التي تقدَّم ذِكرها، وقد جاءته القصة من فرنسا عن شاعرها «كِرِتْيان دي ترُوَا» وغيره من مصادر الأساطير، ولكن «وُلْفرام» كان أصلبَ عودًا من سلَفِه الفرنسي «كِرِتْيان» وأدقَّ منه إحساسًا بفنِّ القصص، وإن يكن «ولفرام» في بعض مواضع قصته يَغْمُضُ ويتعثَّر؛ وذلك لأنَّ اللغة الألمانية لم تكُن بلغَتْ في أدائها للقصة ما بلغَتْه من التهذيب والسموِّ في أدائها للغناء.
ويُعاصر الشاعريْن «وُلفرامَ» وزميله «وولْترَ» شاعر ثالث بحيث يكوِّن معهما ثالوثًا أدبيًّا في الشعر الألماني الوسيط وهو «جُوتْفِرِيدْ فون ستراسْبُورج»٤ الذي كتب أروع ملاحم البطولة في ألمانيا، بل في أوروبا بأسرِها؛ فقصته «تِرِسْتَانْ» مُستمدَّة من أصول فرنسية، ولكنها في قوة التعبير وصِدق التصوير ووحدة الفكرة لا يُدانيها شيء من الإنتاج الفرنسي. وقصة «جوتفريد» هذه عن «ترستان» اتُّخِذت فيما بعدُ أصلًا يُقاس عليه فيما كُتِبَ من قصص في هذا الموضوع. وقصة «ترستان» فرع من قصص «أرثر» التي شاعت في الأدب الوسيط.
على أنَّ «إلياذة» الألمان في العصور الوسطى هي «نِبِلَنْجِنْ ليدْ»٥ ومعناها «أغاني أهل الظلام»، وهي كنز ثمين خصب هبط عليه «فَجْنَرْ» فيما بعد فاستمدَّ منه قصصًا لمسرحياته الغنائية.

وكاتب هذه القصيدة العُظمى شاعر ألماني مجهول عاش في القرن الثاني عشر، وقد جمع أساطير الأبطال الأوَّلين الذين ظهروا في شعوب الشمال، تلك الأساطير القديمة التي لا بدَّ أن قد تغنَّى بها أصحابها الأوائل جماعاتٍ جماعات حول المدافئ قبل أن يُخْترَع فنُّ الكتابة والتدوين. كما جمَع هومر قبل ذلك بقرونٍ أساطيرَ الإغريق الأقدَمين فَصَبَّها شعرًا في ملاحِمه، وأطلق الشاعر المجهول على مجموعة الأساطير التي أجراها في شِعره «أغاني أهل الظلام»، التي تقع من نفوس الألمان ما وقعتِ «الإلياذة» و«الأوذيسية» من نفوس الإغريق. وكما اتُّخِذت القصص الهومرية موضوعًا للمآسي الإغريقية الكبرى، كذلك اتُّخِذت «أغاني أهل الظلام» مَعينًا استمدَّ منه فنُّ العصور الحديثة، فأخذ عنها «فَجْنَرْ» — مثلًا — مسرحياته الغنائية.

وقصة «أغاني أهل الظلام» يرويها الراوي في تِسعٍ وثلاثين مغامرة، وتبدأ بقدوم البطل سِيجِفْرِدْ،٦ وهو ابن سيجْمَنْد٧ ملك الأراضي الواطئة، إلى مدينة ورمز٨ ليخطُب فتاةً لا تُضارعها في حُسنها فتاة، وهي كرِيمْهِلْد٩ أخت جونتَرْ١٠ ملك برجنديا.

وقد كان لسيجفرد هذا مغامراتٌ عجيبة في شبابه حين كان يتلقَّى تدريبه عند صانعٍ للسيوف، فقد قتَل أفعوانًا واغتسل بدمائه، فأصبح بعدئذٍ في مأمنٍ من الجراح إلا في مَوضعٍ واحدٍ من جسده، وهو موضع يقَعُ بين كتِفيه حيث لصقتْ به ورقةٌ من شجر الزيزفون حين اغتسل بدماء الأفعوان، فكان هذا المَوضع من سيجفريد ما كان العَقِبُ من أخيل في قصة الإلياذة. فوق هذه الحصانة التي اكتسبها سيجفريد كان قد حمل سيفًا بتَّارًا تُروى عن أعاجيبه الأساطير، وظفر بثوب الإخفاء إذا ما تلفَّع به اختفى عن نظر العيون، وقد أكسبَهُ هذا الثوب فوق ذلك قوةً تعدل قوة اثني عشر رجلًا مُتآزِرين؛ وكان له صولجان سِحري أكسبَه سلطانًا على الآخرين. وفوق ذلك كله اجتمعت له كنوز أهل مملكة الظلام، وهي تحوي ذهبًا وأحجارًا كريمة لا تقع تحت الحصر، وأَسلمَت له دولة الأقزام زمامها وقِيادها.

فلمَّا أراد الملك جونتَرْ أن يرحَل إلى أيسِنْلَنْدَه١١ ليخطُب — إن استطاع — الملكة برَنْهِلد،١٢ وهي بارعة الجمال ولكنها جريئة مُغامِرة، اتفق مع سيجفريد أن يصحَبَه مُتنكرًا في هيئة عَبْدٍ من توابعه، فإنْ عاونه سيجفريد في قضاء مطلبِه — ودون ذلك أهوال — أباح له جونتر الزواج بأختِه كرِيمهلْد التي جاء يخطُبها، لكن أين هُما من الظفر ببرنهلد وهي تلك المرأة الشموس التي تضع نفسها في طليعة المُقاتلين؟! إنها في أهدأ حالاتها لا تهَبُ نفسها زوجًا إلا لِمَن يفوقُها في رماية الرُّمح والقفز وقذف الأحجار.

تلفَّع سيجفريد بثوبه السحري، فاختفى وازدادت قوَّتُه أضعافًا مضاعفة، ونازل الملكة المخطوبة برَنهلْد ولم يكن على جونتر الخاطِب إلا أن يهزَّ جسده ويطوِّح بيديه كأنما يقوم هو بالنزال. وانتهى الأمر بهزيمة برنهلد فكان لزامًا عليها أن تنتقِل مع خطيبها إلى بلدِه وِرْمِزْ، حيث أقيمت حفلات العرس للخاطبين جميعًا: جونتر يُزَفُّ إلى برنهلد، وسيجفريد إلى كريمهلد. وكانت الحفلات تفيض روعةً وجلالًا، لكن برنهلد — تلك الملكة الساحرة — قد استخدمت بقيَّةَ سِحرها في ليلة الزفاف، فأمسكت بخطيبها جونتر وشدَّت وثاقَهُ شدًّا بمِنْطقتها وعلَّقتْه على مِسمار في الحائط، فنهض سيجفريد مرةً أخرى يُعين زميله جونتر على تلك المرأة المروِّعة الغادِرة، وما هو إلَّا أن فُضَّتْ بكارتها حتى ذهبتْ عنها كل قوَّتها، وأسلسَتِ القيادَ لزوجها، وكان جزاء سيجفريد — لِما قدَّم من عَون — أن أخذ من برنهلد خاتَمَها ومِنطقتها وفيهما من قوَّة السِّحر ما فيهما، ثم أهداها إلى زوجته كريمهلد. وتمضي أعوام يتقلَّب فيها سيجفريد وزوجه في نعيمٍ زاخر بفضل كنوزه العريضة التي آلَتْ إليه من مملكة الظلام، ولا يشوب سعادته تلك سوى شائبة واحدة، وهي أنَّ الملكة برنهلد لم تزَلْ تُشير إلى سيجفريد بأنه عبدٌ رقيق لجونتر، وأنها لذلك سيدة لزوجته كريمهلد.

وحدث يومًا أن جاء سيجفريد إلى حفل أُقيم في وُرمز، وصحِبته زوجته وأبوه وعددٌ من الأتباع لا يكاد يُحصيهم العد، وسارت الأمور خلال الحفل على خَير ما يُرجى، ثم اشتبكت المَرأتان — برنهلد وكريمهلد — في نقاشٍ حادٍّ تزِنَان فيه قدْر زوجَيهما، وبلَغ النزاع أشدَّه حين نهضت كريمهلد وخلفها حاشية عظيمة، وذهبت نحو الباب تُريد الخروج، فلحِقتْ بها برنهلد التي لم يكُن لها من جلال الحاشية ما لتلك، وعنَّفتْها قائلة: «لن تتقدَّم زوجة العبد في الخروج على زوجة الملك.» وهنا ذاع السِّرُّ المكتوم حين انفجرت كريمهلد قائلةً وهي مغضبة حانقة:

هلا أَمْسَكْتِ يا هذي عن الحديث؟
فقد كان الصمتُ خيرًا لك وأفضل.
ألم تُجلِّلي بالعار جِسمك هذا الجميل؟
فكيف استحلَّتْ عاهرة أن تكون زوجةً لمليك؟

ثم أبرزتْ لها الخاتم والمِنطقة اللَّذين انتُزِعا منها انتزاعًا حين افترَعَها زوجها قسْرًا فانفجرتْ برنهلد باكية، ثم أخذت تُفكِّر وتُدبِّر كيف يمكن لها أن تنتقِم لِما أصاب كبرياءها من جُرح بليغ.

وأنابت برنهلد عنها في الإيقاع بأعدائها مُحاربًا مُخيفًا هو هيجن،١٣ فما زال هذا بكريمهلد يُصانعها حتى أفضتْ له بسِرِّ سيجفريد أنَّ في جسده موضعًا واحدًا يمكن جرحُهُ فيه، وذلك بين كتِفَيه. فلم يلبَثْ هيجن أن باغَتَ البطل سيجفريد، فأرداه قتيلًا وهو يتعقَّب صَيده. ولكن برنهلد لم يكفِها هذا، فلا بدَّ أن تستذِلَّ غريمتها كريمهلد بعد قتْل زوجها، فعمل هيجن على استلاب كنوزها، وبقِيَت المسكينة ثلاثة عشر عامًا في فقرٍ مُدقع وحُزن شديد، حتى أرسل في خطبتها ملك من أقصى الأرض هو الملك إتزِل،١٤ فقبِلَت الزواج منه لعلَّ الفرصة تعود فتسنَح لها لتنتقِم من عدوَّتها اللدود برنهلد.

ومضت أعوام، ثم أرسلت كريمهلد تدعو جونتر وبطلَه هيجن إلى قصر زوجها، فأدرك هيجن ما قصدتْ إليه الداعية من سُوء، وحاول أن يصرِف عنها سيِّده، ولكن جونتر لم يأبَهْ له، وذهب في حاشيته وأتباعه. ولم يكن إتزل زوج كريمهلد يعلَم عن مكيدة زوجته شيئًا، فأخذ يستقبِل الأضياف في حفاوةٍ وإكرام، وما إن اكتمل الحفل حتى أخرجت النفوس مَكنونَ الضغائن فَسُلَّتْ سيوف، ورُمِيَت قِسِي، وطاحت رءوس، وسالت دماء، ولقِيَ الأعداء من الفريقَين حتوفَهم، ولم يبقَ حيًّا سوى إتزل وبعض رجاله.

١  Walther von der Vogelweide.
٢  Wolfram von Eschenbach.
٣  Porzifal.
٤  Gottfried von Strassburg.
٥  Nibelungen Lied.
٦  siegfried.
٧  Siegmund.
٨  worms.
٩  Kriemhild.
١٠  Günther.
١١  Isenlanb.
١٢  Brunhild.
١٣  Hagen.
١٤  Etzel.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤