تمهيد

بقلم  روري ستيوارت

بحلول أوائل القرن الثامن، سيطر الحكَّام المسلمون على معظم الأراضي الواقعة بين أفغانستان وحدود شمال أفريقيا. لكن الدول الإسلامية — التي اشتهرت في أوروبا بشراستها ووحدتها — أثبتَت في نهاية المطاف أنها أكثرُ تسامحًا مع الديانات الأخرى من المسيحية الغربية. ففي أوروبا، أُبيدَ «الوثنيُّون» بشكل كامل وسريع، لدرجة أنه لا يكاد يمكن استعادة تفاصيلِ دياناتِ ما قبل المسيحية في مكان مثل بريطانيا. بينما في العالم الإسلامي، سُمح لدياناتٍ «وثنية» كاملة بالبقاء على حالها حتى القرن الحادي والعشرين، ولا يزال من الممكن إجراءُ مقابلات مع أتباعها.

فلدينا الإيزيديُّون في شمال العراق، الذين تشتمل معابدهم على تمثال لطاووس، وهو مرتبط بطريقةٍ ما بالشيطان. وعندنا قبيلة الكَلاشا على الحدود الأفغانية الباكستانية، التي يشتمل إيمانُها على تماثيلَ خشبية للأسلاف-الأبطال. ومن لبنان إلى إيران بقيَت دياناتٌ موجودة؛ بعضها له علاقة خاصة بالنار، والبعض الآخر يُركز على الغَمْر في الماء، والبعض الآخر يُركز على الشمس والقمر. وبعض هذه المعتقدات يسبق ولادةَ المسيح بزمن طويل.

إن الموضوع رائع. فهذه المجموعات ليست مجردَ رموزٍ لأحاسيس واحتمالات دينية تلاشَت الآن. فهي توحي بالكثير حول أصول ديانات العالم الرئيسية وتطورها. وتُمثل للعالم الحديثِ مكوناتٍ صعبة: فهي هُويات مضغوطة معقَّدة، متجذِّرة في التاريخ والطبيعة، ولكنها أيضًا أنظمةٌ عقائدية تغيرَت تغيرًا كبيرًا بمرور الزمن، وأُدمِجَت معها دياناتٌ منافسة، وصُدِّرت إلى أراضٍ جديدة.

لكن الموضوع يكاد يكون مستحيلًا. فالوصول إلى هذه الديانات أو فَهمُها أو وصفُها أمرٌ صعب للغاية. لقد نجَتْ جزئيًّا لأنها وُجِدت في بعضٍ من المناطق النائية والجبلية والخَطِرة جدًّا في الشرق الأوسط. وأحيانًا يتحدث مُعتنِقوها بلُغاتٍ غامضة قديمة. ستُشعرك المحفوظات والسجلات العلمية الخاصة بهذه المعتقدات بالخوف. ففي بعض الحالات تكون الديانات باطنية: إذ يحرُم تسجيلُ معتقداتها، أو مناقشتها، أو الكشف عنها. وفي حالاتٍ أخرى، تتعرض الديانات للاضطهاد، وتُعيِّن على معتنقيها أن يتعلموا إخفاءَ تفاصيل عقيدتهم لتجنُّبِ التعرض للقتل. ونادرًا ما يمكنهم التحدثُ إلى الغرباء، ونادرًا ما يتحدثون إليهم. لذلك، من الصعب جدًّا تخيُّلُ شخص مؤهَّل لتناول الموضوع.

يُعدُّ جيرارد راسل واحدًا من القلائل القادرين على تأليف كتاب من هذا النوع. وُلد جيرارد راسل عام ۱۹٧۳ في أمريكا لأبوَين بريطانيَّين، ودرَس الفلسفة واللغات الكلاسيكية في كلية باليول بأكسفورد. ثم التحق بالسلك الدبلوماسي البريطاني، الذي أرسله إلى القاهرة لتعلُّم اللغة العربية. أصبحت لغتُه العربية فصيحةً بما يكفي ليصبح المتحدثَ الرسمي العامَّ للمملكة المتحدة في القنوات الإخبارية العربية. أُرسِل إلى العراق بعد الغزوِ الأمريكي، وأصبح القُنصلَ العامَّ في جدَّة، ثم مستشارًا سياسيًّا في السفارة في كابول. في تلك المناصب، وفي الوقت الذي ظلَّ فيه العديد من الدبلوماسيين منعزلين عن السكان المحليِّين، عقَد هو صداقاتٍ قويةً مع العرب والأفغان خارج السفارة، بمساعدةِ مهاراته اللُّغوية، وأصبح خبيرًا أكثرَ مما مضى بالبلدان والأشخاص الذين يعيش معهم. وفي عام ۲۰۰۹، انضمَّ إلى مجموعة من المتخصصين الأفغان في مركز كار لسياسة حقوق الإنسان، في كلية كينيدي بجامعة هارفارد.

إنه متواضعٌ للغاية، لدرجة أنه قد يكون من الشاقِّ تذكرُ مدى صعوبة تأليف هذا الكتاب. ويُقدم نفسه مِرارًا وتَكرارًا على أنه مجرد سائح مرتبك، يتجوَّل بصخبٍ في الحافلات الريفية. لكنه عالمٌ مثقَّف يتمتَّع بالصبر وعقلٍ ذكي للغاية. ويتمتع بقدرةٍ استثنائية على تجميع المعلومات المعقَّدة وتقديمها. ولديه موهبةٌ كبيرة في كَسب ثقةِ من يُجري المقابَلات معهم. فعندما يُجري مقابَلات مع أشخاص في إيران أو لبنان، فإنه يفعل ذلك بطلاقةٍ باللغة العربية أو الفارسية. وعندما يتتبَّع العواملَ المؤثرة على الإيزيديِّين أو المندائيين، فإنه يفعل ذلك بمعرفةٍ عميقة بالتاريخ الإسلامي والعقيدة المسيحية. وعندما يكتب عن القنابل والهجمات في العراق وأفغانستان، يكتب بوصفه شخصًا تعامل وتعايَش مع سياساتِ وعنفِ حركات التمرُّد تلك. لقد تطورَت على مرِّ السنين شبكة الأصدقاء التي يعتمد عليها في التنقُّل عبر المناطق الخطرة أو في الوصول إلى الزعماء الدينيِّين. إن هذا الكتاب، كتابه الأول، هو ثَمرة عَقدَين من الخبرة والتفكير العميق.

شُكِّلت كلٌّ من هذه الديانات من عدة ديانات أخرى، حية، ومتطورة، ومتلاشية. فعِلم اللاهوت نظامٌ دقيق وقاسٍ، حيث يكون للخلافات التي تبدو «تافهة» عواقبُ كبيرةٌ، وفي كثير من الأحيان خطيرة، وكثيرًا ما تؤدي إلى جرائمِ قتل على خلفياتٍ طائفية. ولا يزال العديد من الحقائق الأساسية حول هذه المعتقدات موضعَ جدلٍ حادٍّ، بعضه نابعٌ من ظهور بيانات جديدة، والبعض الآخر تدفعه ببساطةٍ سياساتٌ وأساليبُ جديدة في الأنثروبولوجيا أو ديانات العالم. لذا يتطلَّب الأمر قراءةَ آلافٍ من الكتب والمقالات. ويتعين الرجوع إلى مخطوطاتٍ غير منشورة مكتوبةٍ بلُغات قديمة. فبعض أفضل السجلات يعود عمرُه إلى قرن من الزمان، ولكنها تحتاج إلى تخليصه من تحيزاتِ مؤلِّفيه. فالكثير من هذه المعلومات وثيقُ الصلة بالموضوع وجيِّد، على نحوٍ غير مريح.

وموضوعات «الحداثة»، والصراع، و«الغرب» تُلقي بظلالها على كل شيء. والعديد من الأوطان الدينية لهذه المعتقدات موجودةٌ اليوم في مناطق تشهد نزاعاتٍ نشطةً — العراق، أفغانستان، أطراف سوريا — اكتُسِحَت في غِمار أنظمةٍ دعَمَتها أو أطاحت بها الولاياتُ المتحدة، وإيران، والمملكة العربية السعودية، وروسيا، وقطر. وقد عانت العائلاتُ «الوثنية» من الاحتلال، والحروب بالوكالة، وجرائم الشرف، والاختطاف، والشاحنات الضخمة المفخَّخة. وأصبح «الوثنيون» الآن رجالًا حَليقي الذقن يرتدون السُّترات، أو شاباتٍ عاملات. وفي العقود الثلاثة الماضية، غادرَت أعدادٌ لم يسبق لها مثيلٌ منهم منازلَها الريفية، وفقدَت صِلاتها بطبيعتها الأصلية وعائلاتها الكبيرة، وبدأت في الزواج من مجموعاتٍ مختلفة ونسيانِ ديانتهم القديمة. وربما فرَّ غالبيةُ المعتنقين الآن بوصفهم لاجئين إلى الغرب. لذا فإن الصورة الصادقة للإيمان المعاصِر لا تتطلب فحسبُ وصفًا لمعبدٍ عمره ثلاثة آلاف عام وكاهنه القديم، وإنما أيضًا لسينما في لندن أو مركزٍ مجتمعي في ديترويت لأشخاص غيَّروا دينهم، مُحاطين جميعًا بالأوهام المضطربة وضغوطِ الثقافة الغربية المعاصرة.

يتنقَّل راسل بين كلِّ هذا، ساردًا الأحداثَ بمنتهى السلاسة، تاركًا بقدرٍ كبير جدًّا في الخلفية عشرين عامًا من التفاني، والدراسة، والخيال، والاهتمام. من المغري أحيانًا أن نأمُلَ في الحصول على سردٍ أكثرَ رومانسية، أو على مزيدٍ من التركيز على ردود أفعاله العاطفية، أو لمحةٍ أوضحَ عن إيمانه أو آرائه عن الله. فقد كان يمكن أن يُتَاح مجالٌ لذكر انبهار وردزورث بالوثَنية بوصفها طاقةً أو إمكانية أخرى:

إلهي العظيم! أفضل أن أكون
وثنيًّا ينهلُ من عقيدةٍ عفَّى عليها الزمن؛
لذا هل لي، وأنا أقف على هذه المَرْجة اللطيفة،
أن أحظى بلمحاتٍ من شأنها أن تجعلني أقلَّ بؤسًا؛
وأن أُلقِيَ نظرةً على بروتيوس وهو يرتفع من البحر؛
أو أسمع تريتون العجوز ينفخ بُوقه المجدول.

لكن راسل يُقاوم هذا، مثلما يُقاوم إغراء التباهي باكتشافاته أو تحويل قصة أُفول هذه الديانات، واضطهادها، وتشتُّتها إلى رثاءٍ مُطوَّل.

عِوَضًا عن ذلك، يُحقق شيئًا ربما يكون في نهاية المطاف أكثرَ قيمةً ودَيْمومة؛ ألا وهو التأريخ الدقيق. فقد سجَّل بأمانةٍ ودقةٍ مقابَلاتٍ مع أتباع هذه الديانات في القرن الحادي والعشرين. وهو يُقدم لنا بالتفصيل مَن يُزودونه بالمعلومات، ويُعطينا السياق الخاصَّ بهم، ويلمِّح إلى تحيزاتهم. ولا يخشى أبدًا الاعترافَ بالجهل، أو عدم اليقين، أو التناقض. ويلمِّح إلى مشكلةٍ عميقة مفادها أن الأصول العقائدية لبعض هذه الديانات لم تعُد موجودة، هذا إن كان لها وجودٌ يومًا ما. ويبدو أن بعض معتنقي هذه الديانات يواصلون ممارسةَ طقوسهم دون عقائد واضحة عن الخطيئة أو الخلاص، ودون وضوحِ معنى الكلمات، أو الأشياء والرموز في مَعابدهم، ودون أيِّ ذكريات متبقية من قصص آلهتهم. وهو يربط جميعَ اكتشافاته بالسياقات البيئية المعاصرة.

هذا المزيج من المهارة اللُّغوية، والفهم الثقافي العميق، والشجاعة، والفكر الكلاسيكي، والحب العميق للثقافات الأجنبية كان يومًا ما أكثرَ شيوعًا. فراسل ينتمي انتماءً مباشرًا إلى التقليد الذي اتبعَه علماءُ/ضبَّاط إمبراطوريون بريطانيون أمثال ماونتستيوارت إلفينستون، أو ماكولاي، أو حتى تي إي لورانس. لكنه نادر جدًّا حاليًّا. وليس من قَبيل الصدفة أنَّ راسل قد ترك حاليًّا السلك الدبلوماسيَّ البريطاني وجامعة هارفارد. يبدو الأكاديميُّون مستغرقين في خلافاتٍ داخلية أكثرَ تعقيدًا، مما لا يترك إلا حيزًا محدودًا أو إمكانيةً محدودة لمشروع بهذا الطموح والنطاق. فالسلك الدبلوماسي وواضعو السياسات يريدون الآن «كفاءة إدارية»؛ خُططًا بارعة وواضحة، دون أي فروق دقيقة، أو معرفة عميقة، أو تعقيد.

وبدلًا من ذلك، يُطبق راسل فضائلَ أقدمَ وأقلَّ مؤسسيةً. وهذا الكتاب هو تحدٍّ صَبور ودقيق لنظريات كبرى وطموحات مجردة. فهو صارمٌ في تركيزه على تفاصيلِ الثقافة والتاريخ. ويكشف ويساعد في الحفاظ على التنوُّع والهُويات والالتزامات المحيرة تحت سطح «عالم متَّسم بالعولَمة». ويوضح كيف أن استقلالية الثقافات الأجنبية، وكرامتها، وقُدرتها يمكن أن تتحدَّى أوجُهَ الغرور الغربي والأفكار المسبقة. وفوق كل شيء، ينجح في ربط حبه وعلمه بالنظم الإيكولوجية الحية والأشخاص الأحياء. إن هذا الكتاب يحتوي على الكثير مما يمكن أن نتعلَّمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤