مقدمة

تخيَّل لو أن عبادة الإلهة أفروديت كانت لا تزال مستمرةً في جزيرة يونانية نائية، أو أنَّ عبَدة أودين وثُور قد تخلَّوا للتو عن بناء الزَّوارق الطويلة على سواحل الدول الإسكندنافية، أو أن أتباع الإله ميثرا كانوا لا يزالون يتبادلون المصافحة الشعائرية في الكنائس الرومانية المبنية تحت سطح الأرض. في الشرق الأوسط، على عكس أوروبا، نجَت دياناتٌ قديمة مماثلة؛ غالبًا في الأهوار، والبراري، والجبال، وغيرها من الأماكن النائية أو التي يتعذر الوصول إليها، وأحيانًا تحت ستار نظامٍ سرِّيٍّ صارم.

ربما كانت هذه الديانات ستُهيمن على العالم الحديث لو كان التاريخ قد اتخَذ منعطفاتٍ مختلفة. وكاد أحد أتباع الواعظ النباتي الصارم المسمَّى ماني أن يُصبح إمبراطورًا لروما. ولو كان قد فعل ذلك، فربما كانت الإمبراطورية الرومانية ستنشر تعاليمَ ماني، وليس المسيحية، في جميع أنحاء أوروبا؛ وبدلًا من الذَّهاب إلى بيت لحم، قد يتوجَّه الحُجَّاج الأوروبيون إلى أهوار العراق، حيث أولُ مكانٍ وعَظ فيه ماني. عِوَضًا عن ذلك، انقرض المانَويُّون، لكنَّ أقربَ أقربائهم، المندائيِّين، ما زالوا يعيشون في العراق. ولولا غزواتُ المغول وتيمورلنك، لربما ظلَّت بغداد مركزًا عالَميًّا للمسيحية؛ لأنه أتى عليها حينٌ من الدهر كان فيه لكنيسة المشرق، التي تتَّخذ من العراق مَقرًّا لها، أساقفةً وأدْيِرة في أقصى الشرق في بكين.

خلال أربعةَ عشر عامًا كنتُ فيها دبلوماسيًّا يتحدث العربية والفارسية، يعمل ويسافر في العراق، وإيران، ولبنان، صادفت معتقدات دينية لم أكن أعرفها من قبل: تحريم ارتداء اللون الأزرق، والشوارب الإلزامية، وتبجيل الطاووس. وقابلتُ أشخاصًا يؤمنون بكائنات خارقة للطبيعة تتَّخذ شكلًا بشَريًّا، وبقدرة الكواكب والنجوم على تسيير شئون البشر، وبتناسُخ الأرواح. كانت هذه الديانات من بقايا ثقافةِ ما قبل المسيحية في بلاد الرافدَين، لكنها استقَت أيضًا من التقاليد الهندية التي انتقلت إلى الشرق الأوسط عبر الإمبراطورية الفارسية، ومن الفلسفة اليونانية. وقد حافظَت هذه الدياناتُ أيضًا على عادات الحضارات القديمة التي كان أتباعُها آخِرَ سُلالتها الضعفاء. يُلقي هذا الكتابُ الضوء على بعضٍ، فقط بعض، من هذه المجموعات.

عندما التقيتُ بهذه المجموعات الدينية المختلفة، شعَرتُ بالإلهام والدهشة من ثباتهم على إيمانهم. فقد تمسَّكوا بالممارسات والتقاليد دون تغييرٍ أكثرَ من ألف عام، وأحيانًا حافَظوا عليها آلافَ السنين. ومع ذلك، فإن معظم هذه المجموعات الآن أكثرُ ضعفًا من أيِّ وقت مضى، ويهدف هذا الكتابُ إلى منحِهم صوتًا. وهم يستحقون الإصغاء إليهم لأسبابٍ أخرى أيضًا؛ فهم يربطون الحاضرَ بالماضي، مما يُقربنا من ثقافاتٍ اندثرَت منذ زمن طويل. فهم يربطون الشرقَ الأوسط بالثقافة الأوروبية من خلال إظهار كيفية انبثاقِ الاثنين من جذورٍ مشتركة. ويتَّبعون دياناتهم بشكل مختلف عن الأوروبيين والأمريكيين؛ فالأقباط، على سبيل المثال، يتحمَّلون عِبء صلاةٍ وصوم يفوق حتى ما يتحمَّلُه الرهبان في الغرب؛ والدروز لديهم دينٌ لا يطالبهم بشيء على الإطلاق، باستثناء عدم الزواج من خارجه. وهكذا يبدو لي أن المجموعات الواردة في هذا الكتاب تُعالج ثلاثةَ أمور أزعجَتني خلال مدةِ وجودي في الشرق الأوسط؛ وهي الجهل الجماعي للبشرية بماضيها، والتنافر المتزايدُ بين المسيحية والإسلام، والطريقة التي تزايَد بها اقتصارُ الجدَل حول الدين على المتمسِّكين بالمعنى الحرفي والملحِدين ضيِّقي الأفق.

•••

لدينا أقرباءُ فِكريون في أماكنَ غير متوقعة. فالفلسفة اليونانية، على سبيل المثال، ليست ظاهرةً أوروبية، لكنها بحر متوسطية، وقد أثَّرَت في الشرق الأوسط بقدر تأثيرها في أوروبا. ومثالٌ آخَرُ على ذلك، هو أنه عندما قاد الإسكندرُ الأكبر جيشَه عبر ما نُسميه الآن أفغانستان وباكستان، شعر أنه يمكن أن يرى أصداءَ ثقافته، وكان على حق؛ لأن أوروبا وشمال الهند تتقاسمان تراثًا هنديًّا-أوروبيًّا مشتركًا. تلك الروابط موجودةٌ لدى أشخاص يعيشون في أقصى الشرق. فقبل ألف سنة، شارك مسيحيُّو العراق كنيستَهم مع المغول، وكان لديهم بطريرك صيني وأسقفٌّ من التبت، وقد أحدَثوا تأثيرًا في الأبجدية المغولية والتبتية الحديثة. وفي كلِّ مكان في العالم القديم، يمكن، على الأقل، لاختلافات واضحة أن تُخفِيَ روابطَ وقواسمَ مشتركةً غير متوقعة. وأثناء كتابتي هذا الكتاب، كان دائمًا ما يُسعدني العثورُ على هذه القواسم؛ فهي تدحض نظرياتِ ومعتقداتِ أولئك الذين يريدون حصْرَ الناس في ثقافات وحضارات منفصلة، وجعْلَهم في حالة حرب بعضهم مع بعض.

في الوقت نفسه، استمتعتُ، أيضًا، بالعثور على اختلافات؛ أفكار كانت تختلف عن أفكاري وتدفعُني إلى التفكير مَليًّا فيما كنتُ أومن به والسببِ في إيماني به. دعا الكاتب اللبناني-الفرنسي أمين معلوف في كتابٍ بعُنوان «عن الهُوية» إلى الكفاح «من أجل عالمية القيم»، ولكنه أيضًا دعا إلى مواجهة «الانصياع الأحمق … ضد كلِّ ما يجعل العالم رَتيبًا وصِبيانيًّا». وأنا أتفق معه، مع أنني لم أستطع أبدًا أن أقرِّر ما إذا كان ينبغي تقديرُ التنوع الثقافي مهما كان الثمن. هل ينبغي أن نشعر بالحزن إذا ازداد ثراءُ المجتمع وتخلَّى عن أعرافه، أو إذا هُزِم مُعتقدٌ دينيٌّ في جدال؟ لا أدَّعي معرفة الجواب: أعتقد فقط أننا كنا محظوظين بنجاةِ هذه الديانات، وأن الديانات المعاصرة التي أُقيمَت شعائرها بإخلاصٍ أجيالًا عديدة قادرةٌ بعضها على دراسة أفكار بعض والتعلم منها.

لكن السؤال هو: كيف عاشت كلَّ هذه المدة في ظل حكم المسلمين؟ في أغلب الأحيان يُقَدَّم الإسلام على أنه دينٌ غير متسامح، ويريد بعضُ أتباعه للأسف أن يكون كذلك. إن وجود ديانات الأقليات الواردة في هذا الكتاب يدلُّ على أن صورة التعصب غيرُ صحيحة؛ لأنها نجَت في ظل الإسلام، بينما لم تنْجُ أي عقيدة مماثلة في أوروبا المسيحية. ومع ذلك، فإن أسباب هذا معقَّدة. لذا اسمحوا لي أن أحاول تلخيصها في بقية هذه المقدمة.

يعود أحدُ الأسباب إلى ما قبل الإسلام أو المسيحية. فقد كانت هناك دياناتٌ في الشرق الأوسط أكثرُ تطورًا من دياناتِ ما قبل المسيحية في أوروبا، وكانت لها جذورٌ مشتركة مع المسيحية والإسلام. لذلك رغم عدم تردُّد المسيحيين في القضاء على الديانات الإسكندنافية أو السلتية، ونجاحِهم السريع نِسبيًّا في فعل ذلك، فإن بعض الوثنيين في الشرق الأوسط — الذين تعمَّقوا في الفلسفة اليونانية وعلم الفلك البابلي، وامتلكوا لاهوتًا معقَّدًا — استمروا زمنًا أطولَ كثيرًا.

أيضًا، على الرغم من أن النبيَّ محمدًا أراد بالتأكيد وضع حدٍّ للممارسات الدينية التراثية للعرب، التي انطوَتْ على عبادة آلهةٍ متعددة، كان القرآن على النقيض معتدلًا نِسبيًّا تجاه أتباع الأديان التي كانت تدعو إلى التوحيد ولها نصوصٌ دينية، مثل اليهود، والمسيحيين، والزرادشتيِّين. ولُقِّبَ أتباع هذه الديانات باسم «أهل الكتاب». ونجا العديد من المجموعات المذكورة هنا لأنها تمكَّنَت، بطريقةٍ أو بأخرى، من الحصول على هذه التسمية.

لم يكن المسلمون الأوائلُ مَنهجيِّين في قمع حتى الممارسات الوثنية العلنية في القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى من الإسلام، عندما ظلَّ المسلمون أقليةً في أنحاء كثيرة من الشرق الأوسط. وعندما سعى الدعاةُ المسلمون إلى تحويل الناس إلى الإسلام بنشاط أكبر، كان بعضُهم على استعدادٍ لِقَبول مجموعةٍ واسعة من المعتقدات والممارسات التي تجاهلَت الفرقَ بين الإسلام والديانات القديمة التي كان يحلُّ محلها. فقد تقول مجموعةٌ من الذين اعتنقوا الإسلام حديثًا، على سبيل المثال، إن طقوس تبجيلهم للنجوم كانت إسلاميةً شرعًا؛ لأن النجوم كانت ملائكة؛ ومن ثَمَّ يمكنها الحفاظُ على بعض أجزاء من التراث الوثني القديم الذي كانت قد تخلَّت عنه باعتناقها الإسلام.

لا يعني أيٌّ من هذا أن معتقدات الأقليات عُومِلَت بشكلٍ جيد. فقد كان هذا في زمن كان فيه الاختلافُ مع الحاكم في أمورٍ لاهوتية يمكن أيضًا أن يكون تحدِّيًا لحقِّه في الحكم. وكان مفهومًا، في كلٍّ من الإمبراطوريتَين البيزنطية والعربية، أن أولئك الذين يرفضون دينَ الحاكم سيكونون من الفئات الأقلَّ حظًّا. كان «أهل الكتاب» أقلَّ شأنًا من المسلمين من الناحية الشرعية، ويدفعون ضريبةً إضافية. وعندما كانوا يتمرَّدون على فرض الضرائب، كما فعل الأقباط في القرن التاسع الميلادي، قد تبدأ الدولة في اعتبارِ دينهم قوةً هدامة وتتَّخذ إجراءات لتقويضه.

في القرنَين العاشر والحادي عشر، عندما أصبح الإسلامُ دينَ الأغلبية، تعرَّضَت الطوائفُ التي لم تكن من «أهل الكتاب» لمزيدٍ من الضغوط. وشهد القرنُ العاشر اضطهادًا جَماعيًّا وانقراضًا فِعليًّا للمانويِّين. وفي القرن الحادي عشر، هُدِمَ معبدُ إله الشمس، شماش، في حرَّان، الذي كان قائمًا منذ العصر البابلي، وحثَّ العلامة الغزاليُّ المسلمين على التخلِّي عن افتتانهم بفلاسفةِ ما قبل الإسلام. وحتى حينئذٍ، كان علماء مثل البيروني وابن النَّديم يكتبون عن الديانات غير المسلمة بموضوعيةٍ لا تزال تُثير إعجاب القراء المعاصرين.

أدَّى الصراع بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى — الصليبيين في الغرب والغُزاة المغول في الشرق — إلى مزيدٍ من التقويض للتسامح، حيث بحَث العربُ عن العدوِّ بينهم. وبحلول القرن الثالث عشر، كان رجل الدين الأصوليُّ ابنُ تيمية ينشر كلَّ ما بوُسعه من كراهيةٍ تجاه طوائفَ مثل الدروز والعَلويِّين، ويشجع على العنف ضدهم. ومع ذلك، بحلول ذلك الوقت، كانت بعضُ ديانات الأقليات في الشرق الأوسط قد لجأتْ إلى أماكنَ لم تتمكن السلطاتُ من الوصول إليها فيها، مثل الجبال والأهوار. ولم تُصبح الحكومة المركزية قوية في الشرق الأوسط كما كانت في أوروبا، وعادةً ما كانت تُستخدم القوة العسكرية في مواجهة المتمرِّدين أو الفتوحات الخارجية، وليس في قمع الانقسامات الدينية في الداخل. ولم تُواجه هذه المجتمعاتُ الدينية النائية، في معظم الأحيان، تدخُّلًا واسعَ النطاق من الدولة إلا في القرن التاسع عشر، وبحلول منتصف ذلك القرن، كانت حكومات الشرق الأوسط قد بدأتْ في تغيير نهجِها تجاه الأقليات، و(أحيانًا تحت ضغطٍ غربي، أحيانًا مستوحًى فقط من مُثُل عُليا تقدُّمية) توفيرِ شيء يُشبه المساواة. ومنَحَت الإمبراطورية العثمانية رَعاياها غير المسلمين تدريجيًّا ما يُشبه المساواةَ في القرن التاسع عشر. وفي الخمسين عامًا من ۱۸٦۰ إلى ۱۹۱۰ حدثَت ثورةٌ في مكانة الأقباط في مصر. وقدَّمَت الثورة الإيرانيةُ عام ۱۹۰٦ للزرادشتيِّين مقعدًا في برلمان البلاد. كل هذا يُثبت أن المسلمين في الشرق الأوسط كانوا قادرين تمامًا على تقدير التنوع. وفي الواقع، في بعض الأحيان كان الأوروبيون هم مَن لم يفعلوا ذلك. وعندما سأل المسيحيون اللُّبنانيون القيصرَ الألماني عمَّا يمكن أن تفعل بلادُه لمساعدتهم، أجاب: «أنتم ثلاثمائة ألف مسيحي وسط ثلاثمائة مليون مسلم. لماذا لا تتحولون إلى الإسلام؟»

إذن لماذا تنطوي أقلياتُ الشرق الأوسط اليوم على نفسِها؟ لماذا أصبحَت الهجمات على الكنائس المسيحية في مصر أو بغداد، أو على الإيزيديين في شمال العراق، أكثرَ شيوعًا الآن مما كانت عليه طيلةَ ۱٥۰ عامًا؟ (مع عدم إغفال الأقليات داخل الإسلام؛ فحتى أتباع أكبرِ جماعة إسلامية، وهي السُّنة، يمكن أن يجدوا أنفُسَهم أقليةً تحت وطأة الضغط في إيران والعراق، في حين أن مذابح المسلمين الشِّيعة شائعةٌ في باكستان.) تلعب عدةُ عوامل دورًا في هذا الشأن.

أولًا: يرجع التنوُّع في الشرق الأوسط جزئيًّا إلى أن حكوماته كانت أضعفَ من أن تفرض دينها. لكن حكومات اليوم تتمتَّع بنفوذٍ أكبر، وعندما تختار طرْدَ أقلية دينية أو فرْضَ معتقَدٍ أصولي، يمكنها فعلُ ذلك بشكلٍ أكثرَ فاعليةً من أي وقتٍ مضى. ففي المدَّة بين عامَي ۱۹۱٥ و۱۹۱٧، تمكنَت الإمبراطورية العثمانية من القتل المنظَّم لأكثرَ من مليونٍ من رعاياها الأرمن عندما أدرَكَت أن الأرمن يقفون إلى جانب روسيا؛ «أصدرَت أمرًا بالإعدام لعِرْق كامل» مثلما كتَب لاحقًا السفيرُ الأمريكي للإمبراطورية. يمكن للحروب الأهلية أيضًا أن تصل إلى أعماقِ أراضي جماعةٍ دينية قد لا ترغب في شيء سوى أن تكون محايدة؛ مثلما حدث مع الإيزيديين في شمال العراق في عام ۲۰۰٧، عندما أصبحوا ضحايا لواحدةٍ من أكثر الهجمات الإرهابية فتكًا في العالم. لا توجد أماكنُ آمنةٌ بعد الآن.

تتمتَّع الجماعات الدينية في الشرق الأوسط بدرجةٍ عالية من الترابط الداخلي. وعادةً ما يُقابَل الزواج من دَخيل بالرفض؛ وقد يُفضل الأشخاص داخل الجماعة توظيفَ أعضاءٍ آخَرين من الجماعة نفسها، واعتناق دينٍ آخَر ليس خيارًا فِكريًّا ولكنه تغييرٌ أكثر عمقًا؛ لأنه يعني عادةً مغادرةَ المرء لطائفته والانضمامَ إلى طائفةٍ جديدة. تمتَّعَت بعض الجماعات الدينية (مثل الإيزيديين والآشوريين، على سبيل المثال) بدرجةٍ عالية من الاستقلال الذاتي قرونًا عديدة، بعيدًا عن سيطرة الحكومات، وما زال قلةٌ منهم يتحدَّثون لغتَهم الخاصة. هذا الترابط الداخلي يعني أن ثَمة ميلًا إلى تحميل مثلِ هذه الجماعات كاملَ المسئولية عن أفعال أيِّ شخص يعتنق دينها. ومن ثَم كانت الاعتداءاتُ السابقة على الأرمن واليهود، والحاليةُ على الشيعة والمسيحيين. وهذا، في حد ذاته، ليس بجديد. ومع ذلك، ففي المشهد السياسي المعقَّد ودائم التغيُّر في الشرق الأوسط المعاصر، من السهل أن ينتهيَ الأمر بالولاء للأشخاص الخطأ. فالسامِريُّون، الذين يعيشون على جبلٍ في الضفة الغربية، يُحاولون جاهدين تجنُّبَ استعداء الإسرائيليين أو الفلسطينيين، والإيزيديون في شمال العراق يتعرَّضون للضغط للاختيار بين العرب والأكراد، وكان على الكنيسة القبطية المصرية أن تُقرر ما إذا كانت ستدعم الحكمَ العسكري أو الإسلامي. كلُّ خيار يصنع أعداءً للطائفة بأسرِها، وليس لقادتها فقط.

وعلى الرغم من أن الحكومات أصبحت قويةً بما يكفي لسحقِ الأقليات المزعجة، يتردَّد بعضُها في إنفاق رأس المال السياسي والمجازفة بمواجهةٍ أوسعَ نطاقًا جرَّاء حماية الطوائف الصغيرة من الاعتداءات. ففي جنوب مصر، إذا واجَهَت عائلةٌ قبطية قبيلةً مسلمة، فستخسر المواجهة؛ سواءٌ كانت على المال، أو الأرض، أو «الشرف» (فعلاقات الحُب، كما هو موضَّح في الفصل السادس، هي بخاصة سببٌ متكرر للصدام). وبعض الطوائف القبطية كبيرةٌ وصعبة المِراس بما يكفي لقلبِ الأمور رأسًا على عَقِب. وتلك هي الطوائف التي لا تعتمد على الشرطة والقضاء لحمايتها؛ ولكن حتى تلك المؤسسات، التي غالبًا ما تفتقرُ إلى السُّلطة الأخلاقية، قد تخشى القبيلةَ المختصِمة، وتُفضل عدمَ معاقبتِها. هذه ليست مسألةً دينية فحسب. وغالبًا ما تُعاني الأقلياتُ العِرقية من المشكلة ذاتِها. ومع ذلك، فقد أصبحَت الأقليات الدينية في الشرق الأوسط في القرن العشرين لا تنتمي لمجتمعٍ قبَلي، وحضرية، ومن الطبقة الوسطى، مما يعني أنها الآن في وضعٍ جيد للاستفادة من الاستقرار والنموِّ الاقتصادي، ولكنها عادةً أيضًا ليست منظَّمة تنظيمًا كافيًا للدفاع عن نفسِها، ومِن ثَمَّ تُصبح مستضعَفة، وبخاصةٍ في أوقات الصراع.

أخيرًا، أحدثَت العقود القليلة الماضية تغييرًا في سلوك بعض المسلمين في الشرق الأوسط تجاه الديانات الأخرى، وتجاه التفسيرات المنافسة للإسلام ذاتِه. ففي مصر، شهدت السنواتُ الخمسون الماضيةُ عنفًا ضدَّ الأقباط أكثرَ بكثير من الخمسين عامًا التي سبَقَتها. وفي باكستان، الدولة التي أسَّسها مسلمٌ شيعي، أصبح العنفُ ضد الشيعة شائعًا. والعراق، البلد الذي حكَمه في خمسينيات القرن الماضي رجلٌ من أسلافٍ مختلطين، من الشيعة والسُّنة، أصبح الآن في دوامة من العنف الطائفي. ويؤدِّي الضعف وقابليةُ التعرض للهجوم إلى الانغلاق الذهني؛ الذي، بدَوره، يعوق المجتمعات. فالغضب والكراهية تجاه الدخلاء يُقوِّيان الهُوية الطائفية للجماعة، وربما يُرضيان حاجةً بشَرية فِطرية في رفقةٍ لمواجهة أيِّ تهديد خارجي، وقد يغرسهما قادة الجماعة باعتبارهما وسيلةً لتقوية شعور الجماعة بالهُوية والولاء المتبادَل. لا توجد طريقةٌ أسرع لتعزيز الشعور بهُوية الجماعة من الإشارة إلى عدوٍّ مشترَك شرير وقوي، ومع ذلك يمكن هزيمته؛ ليصبح الأمر مثلَ داود الذي يهزم جالوت. وفي الشرق الأوسط، مثل هذا الغضب والكراهية — اللذَين يتصاعدان أحيانًا ويتحوَّلان إلى عنفٍ وفي أحيان أخرى يضطرمان دون أن يُلاحظهما أحد، ويستمران في الوجود من خلال الدعاية الخبيثة — يكونان أيضًا نِتاجَ ظروف معينة. لقد تراجع المنافِسَان العلمانيَّان للإسلام السياسي من القرن العشرين، الشيوعية، والقومية. وفي زمانِ هذه الأيديولوجيات، بدَت جميعها وكأنها تُتيح فرصًا للشعوب في الشرق الأوسط لاستعادة الكرامة والقوة اللتين شعرَت أنها تستحقُّهما، واللتين شعَرَت أن عواملَ مثل الاستعمار الأوروبي، والهيمنة الأمريكية، والقوة العسكرية الإسرائيلية، وضعف الحكومات العربية وفسادها كانت تحرمها منهما. توقفَت دعوة الشيوعية وتمويلها الخارجي عندما انهار الاتحاد السوفييتي؛ وتراجعت شعبية القومية منذ نهاية الكفاح المقاوم للاستعمار في أوائل القرن العشرين. وقدمَت كلتا الحركتَين للأقليات قضيةً يمكنها من خلالها الوقوفُ جنبًا إلى جنب مع المسلمين. ومع اضمحلال الحركات القومية إلى مرحلةِ ما بعد الاستعمار، أصبح استغلال الانقسامات الدينية أسهل. وتراجعَت فكرةُ أن العراق، أو مصر، دولةٌ لجميع مواطنيها، لدى بعض المسلمين، وحلت محلَّها الفكرةُ القديمة القائلة بأن المجتمع الطبيعي هو المجتمع القائم على الدين. كما كتبت سها رسام في كتابها «المسيحية في العراق»: «كل الأقليات … أصبحت هشَّة في ظل غياب هُوية عراقية مُوَحِّدة للناس تحت رايتها.»

عزَّزَت محاولاتٌ خارجية من قِبَل الغرب المسيحي، الذي جرَت علْمنَتُه، للتدخُّل في الشرق الأوسط، من هذا التوتر الديني؛ لا سيما عندما لم يخدم ذلك التدخلُ بشكل واضح جدًّا مصالحَ شعوب الشرق الأوسط. كتب آرثر بلفور في عام ۱۹۱۹ عن المخطَّط البريطاني لتأسيس وطنٍ قومي لليهود فيما كان يُعرف آنذاك باسم فِلَسطين: «نحن لا نقترح حتى إجراءَ أي شكلٍ من أشكال التشاور مع رغبات السكان الحاليِّين للبلاد.» لم يتغير هذا الموقفُ تغيرًا كبيرًا، كما أظهرَت خططُ التحالف غير المدروسة بعنايةٍ لعراقِ ما بعد الحرب (بما في ذلك الإخفاق في حماية التُّراث الأثريِّ الثمين للبلاد) في عام ۲۰۰۳.

وكذلك لا تتمتَّع مؤسساتُ الدولة في كثيرٍ من الأحيان بالسلطة الأخلاقية التي قد تُساعدها في مواجهة المتطرِّفين دون اللجوء إلى استخدام القوة. فالمؤسسات الدينية ورجال الدين المدعومون من الدولة قد فقَدوا مصداقيتهم في أعيُن بعض المسلمين؛ بسبب افتراض أنهم نالوا الحَظْوة والمال مقابلَ الانصياع للحكومة. ويمكن للمتطرفين استغلالُ ذلك بتقديم أنفسِهم باعتبارهم بدائلَ أكثر جُرأةً وأقلَّ فسادًا. وتُفضل الحكومات غالبًا، عند مواجهة المتطرفين الدينيين الأكثر شعبيةً منها، أن تشتريَ صمت المتطرفين بدلًا من أن تُواجههم.

عادةً ما كانت العملة التي يُشترى بها صمتُ المتطرفين الدينيين هي فرصة جعلِ الأجيال القادمة متطرفةً من خلال نظام التعليم. وقد نجح الإسلاميون في تحقيقِ ذلك في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان يُنظر إليهم (بما في ذلك من قِبَل إسرائيل والغرب) على أنهم تِرياقٌ قَيِّم لسموم الشيوعية والقومية المتطرفة، وقد استفادوا في ذلك الوقت من حقيقةِ أن ثروة النفط والغاز قد أَثْرَت مجتمعاتِ الشرق الأوسط الأشدَّ تحفظًا. ففي مصر، استخدموا نفوذَهم على مدى السنوات الأربعين الماضية لجعل قوانينِ البلاد إسلاميةً بصورة أكثر صراحةً. خلق هذا بيئةً تشعر فيها الأقلياتُ بأنها غير مرغوب فيها؛ كما قال لي مسيحيٌّ مصري: «إذا كان الدستور يجعل الشريعةَ الإسلامية «مصدرَ التشريع»، فإنني أشعر بالتهميش.» تستخدم بعض الجماعات الإسلامية العنف، أيضًا؛ عادةً لدوافعَ سياسية، وليس فقط من أجل الحثِّ على الاهتداء إلى الإسلام. ففي الثمانينيات استهدف الإسلاميون المصريون المسيحيين ليس فقط كوسيلةٍ لفرض عمليات التحول إلى الإسلام وإزالة إحدى العقَبات في طريق التجانس الديني، ولكن أيضًا كوسيلةٍ للضغط على الحكومة. وبعد سقوط حكومة الإخوان المسلمين في مصر عام ۲۰۱۳، وانتقامًا لذلك، أحرَقَت مجموعاتٌ متطرفة من الشباب عشراتِ الكنائس.

في الوقت ذاتِه، من المهم عدمُ المبالغة. فيوجد الكثير من حالات حماية المسلمين للمسيحيين في مصر، وفي لبنان — حيث انتهَت حربٌ أهلية مروِّعة قبل نحو عشرين عامًا فقط — تُشير استطلاعاتُ الرأي إلى أن التسامح الدينيَّ أعلى مما هو عليه في العديد من البلدان الأوروبية. والتقدم الذي جلَبَه القرنُ العِشرون صوبَ المساواة الدينية في الشرق الأوسط لم يحدث التراجع عنه كليًّا؛ فحتى آية الله الخميني لم يتَمادَ إلى حدِّ استعادة قوانين العقوبات القديمة التي اضطهدَت غير المسلمين في إيران في القرن التاسع عشر. لكن شعور الأقليات بعدم المحبة يتفاقم. والهجرة من الشرق الأوسط أسهلُ على الأقليات من أي وقتٍ مضى؛ لأنها استخدمَت القرن الماضيَ أو نحو ذلك لتثقيف وإثراء نفسِها، وتجد عمومًا أن الهجرة إلى أستراليا، أو كندا، أو الولايات المتحدة، أو أوروبا أمرًا ميسورًا. لذا فإن احتمالية أن بعض هذه الديانات سوف يتضاءل أو حتى يختفي من أوطانه هو احتمالٌ خطير. لن يخسر أحدٌ من هذا أكثرَ من مسلمي الشرق الأوسط، الذين آمُل لذلك أن يُرحِّبوا بهذا الكتاب، الذي يحاول إحياءَ ذِكرى المعتقدات المتنوِّعة التي جلَبها أسلافُهم إلى العالم.

تبقَّى قولُ شيء واحد، وهو حول الإيمان. فقد رفَضَت الطوائف الواردُ ذِكرُها في هذا الكتاب كلَّ تحريضٍ للتخلي عن معتقداتها وعاداتها الدينية، وكثيرًا ما تحملَت الإهانة أو العنف من أجل الحفاظ عليها. وفي بعض الحالات، تكون هذه العادات الدينية في حدِّ ذاتها صعبةً للغاية، كما في حالة الأقباط الذين يصومون معظمَ أيام السنة، أو بالتأكيد في حالة المسلمين خلال شهر رمضان. إذا كان الناس في الشرق الأوسط يتقاتلون حول معتقداتهم أكثرَ مما يفعل الأوروبيون والأمريكيون، فذلك يرجع جزئيًّا إلى أن هذه المعتقدات عزيزةٌ جدًّا عليهم. وفي حينِ أن التقاتل أمرٌ يجب وقفه، فإن الروح الدينية التي تُحفزه قد تملك شيئًا أكثرَ جاذبيةً لتُقدِّمه. لذا ربما تحثنا الفصول التالية على التفكير في الآتي: إلى جانب جميع الدروس التي يريد الغرب تدريسها لشعوب الشرق الأوسط، هل يوجد ما نتعلمه منهم؟

•••

لقد اخترتُ في الكتاب أن أستخدم الأسماء الحديثة لدول الشرق الأوسط، حتى عند الإشارة إلى الماضي البعيد. لذلك عندما أقول إن شيئًا ما حدث في «لبنان» منذ ألف عام — في وقتٍ لم يكن فيه وجودٌ لهذا البلد — فأنا ببساطةٍ أعني أنه حدث في مكانٍ داخل ما يُسمى حاليًّا بلبنان. وهذا لمجرد سهولة التناول. واستخدمتُ أيضًا «ميلادية» و«قبل الميلاد» بدلًا من «الحقبة العامة» و«ما قبل الحقبة العامة» لأنه، في منطقةٍ لكل طائفة فيها تقويمها الخاص، لا يوجد حتى الآن شيءٌ يُسمى «الحقبة العامة». على سبيل المثال، هذه السنة هي ۲۰۱٤ ميلادية. وفي التقويم السامري هي ۳٦٥۲، محسوبةً من يوم دخول بني إسرائيل أرضَ الميعاد، وفي التقويم الهجري الإسلامي هي ۱٤۳٥، محسوبةً من هجرة محمدٍ إلى المدينة المنوَّرة، وفي التقويم الزرادشتي هي ۱۳۸۳، محسوبةً من يوم تتويجِ آخر ملك زرادشتي. وبالنظر إلى هذا العدد الكبير من أنظمة التأريخ المختلفة، يبدو أكثرَ صدقًا قولُ إن سنة ۲۰۱٤ هي سنةٌ محسوبة وفقًا للنظام المسيحي الأوروبي.

ومن هذا المنطلق، أودُّ أن أوضح أن هذا الكتاب هو سلسلةٌ من التحقيقات الشخصية وغير الرسمية. وهي بالضرورة غيرُ موضوعية وانتقائية، مصطبِغة بصِبغةِ اهتماماتي الخاصة وبالمواجهات والمشاهد التي اخترتُ تصويرها. فمنظوري الخاصُّ هو منظور شخص أمريكي-بريطاني من الروم الكاثوليك يتحدث اللغةَ العربية والفارسية. ومثل أعضاء الديانات الأخرى الموصوفة هنا، فإنني أنتمي أيضًا إلى ثقافةٍ في طَور التحوُّل، والمنتمون إليها آخِذون في التخلي عن عاداتها وتقاليدها القديمة. توجد طرقٌ أخرى للنظر إلى هذه الطوائف، وقصص أخرى قد تُلقي ضوءًا مختلفًا عليها، وتفسيرات أخرى لتاريخها. ويجب على أيِّ شخص يريد إلقاءَ نظرة أكثر شمولًا على أيٍّ من هذه الطوائف قراءةُ كتب معينة مدرَجة في قسم «المصادر والقراءات الإضافية». وفي محاولتي لتأليف هذا الكتاب اعتمادًا على أربع سنوات فقط من البحث وعشر سنوات من التَّرحال في الشرق الأوسط، أبهَرني تفاني شخصيةٍ مثل إي إس دراور، التي قضَت حياتها كلَّها في دراسة المندائيِّين. لا يمكنني أبدًا أن أُباريَها في معرفتها أو معرفةِ العديد من الخبراء الذين كانوا لطفاء بما يكفي لمساعدتي في هذا الكتاب. لقد ذكَرتُ أسماءهم وشكرتُهم في قسم «المصادر والقراءات الإضافية».

وعلى ذكر دراور، وكذلك البيروني ومُعاصريه في العصور الوسطى، يحضرني الثناءُ الذي حظيَ به السير ويليام جونز، مقترِح فكرة أن اللغات الأوروبية والهندية لها مصدرٌ مشترك واحد. وقد علَّق الخبير الاقتصادي السياسي جيمس أندرسون على هذا الأمر بما يلي: «طوبى لصانعي السلام، الذين ينحُون من خلال أبحاثٍ مُضنية إلى إزالة تلك الأقنعة المدمَّرة التي أخفت الجنسَ البشري بعضَه عن بعض مدةً طويلة.» لا يمكنني نَسْبُ أيِّ فضل لنفسي على إنجاز أي شيء مهم جدًّا؛ ولكن على الأقل هذا الكتاب يمكن أن يُذَكِّر الناسَ بجهد أولئك الذين أنجَزوا أشياءَ بالغة الأهمية.

•••

وعودةً إلى التكهُّن الذي بدأتُ به المقدمة: كيف كان يمكن أن يختلف العالم لو (مثلًا) لم يُصبح الإمبراطور قسطنطين مسيحيًّا سنة ۳۱۲، وهو الحدَث الذي أدى إلى اعتناق الإمبراطورية للمسيحية بوصفها دينًا رسميًّا؟ كان سيظل العديد من المسيحيين موجودين بالطبع، ولكن ربما كانت أعدادهم تضاءلت بسبب الاضطهاد. وربما كانت اليهودية ستُصبح ديانةً عالميةً رئيسية، مقرُّها العراق، وتتناحر من وقتٍ لآخَر مع السامريِّين (الذين كان عددهم سيصل إلى الملايين، ويُسيطرون على ما يُعرَف الآن باسم إسرائيل، وربما جنوب سوريا أيضًا). وما كان بعض الناس ليكتفوا بالقراءة للفلاسفة اليونانيِّين؛ بل كانوا سيعبدونهم أيضًا. أما فيما يتعلق ببقيتنا، فربما كنا سنتبع ديانةً غامضة، ديانة لا تعترف بحقائقها إلا لشيوخٍ مختارين. ما تُقدمه تلك الديانة ليس علاقةً شخصية مع الله بقدرِ ما هو فرصةٌ للاستفادة من القُوى التي يتمتع بها أولئك القلةُ من المسنِّين المتقشِّفين والمتدينين الذين يتمتعون بمِثل هذه العلاقة. فقد كان العديد من هذه الديانات من بين المنافسين الأوائل للمسيحية، بما في ذلك المانوية. يُقدم الفصل التالي فكرةً عما يكون عليه الحال في وجودِ مثل هذه الديانة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤