الخاتمة

ديترويت

في متجرٍ كبير في مدينة ديترويت الكبرى، وهي منطقة حضَرية تضمُّ نصف مليون شخص تعود جذورُهم إلى الشرق الأوسط، سمعتُ امرأةً ترتدي ثوبًا خارجيًّا فضفاضًا لونه أبيضُ تأخذ استراحةً من رصِّ البضائع على الأرفف لمخاطبةِ أحد العملاء بلُغةٍ تكاد تكون مألوفةً لي؛ كانت مِثل العبرية والعربية، لكنها مختلفة، وكلماتها غيرُ معروفة لي، تتدفَّق بسلاسةٍ ولكنها مليئةٌ بالحروف الساكنة الصعبة. كانت اللغة الآرامية. ها أنا أسمع لغةَ المسيح، وسَط موسيقى الخلفيةِ ومشروبات الفاكهة الاصطناعية في متجرٍ أمريكي في الضواحي.

كانت الآرامية يومًا ما اللغةَ المشتركة في الشرق الأوسط في مرحلةِ ما قبل الإسلام. وكانت جميعُ لهجاتها المختلفة تُشبه إلى حدٍّ كبير كلًّا من اللغة العبرية والعربية، وتعتبر الآرامية بالنسبة إليهما في الأساس ذات قرابةٍ لُغوية. (على سبيل المثال، كلمة «السلام عليكم» بالعربية يُقابلها في العبرية «شالوم أليخم»، وفي الآرامية العراقية «شلاما لوخم».) ولا تزال هي اللغةَ التي يستخدمها الحاخاماتُ التقليديون في القدس عندما يلعنون أحدًا. وتحمل واحدةٌ من أشهر الطقوس اليهودية، صلاة الكاديش، اسمًا آراميًّا وليس عبريًّا. (فكاديش كلمةٌ آرامية تعني «مقدَّس».) في الشرق الأوسط، حلَّت اللغةُ العربية محلَّ اللغة الآرامية حاليًّا، ولكنها لا تزال شائعةً في القرى الشمالية البعيدة حيث عانى مسيحيُّو العراق على مرِّ القرون. فعندما شاهد أهلُ تلك القرى فيلم ميل جيبسون «آلام المسيح» عام ۲۰۰٤، الذي كان باللُّغة التي كانت تُستخدَم في زمن يسوع، تمكَّنوا من فَهمِه دون ترجمة.

في الأصل كان أسلافُ هؤلاء القرويِّين ينتمون إلى كنيسة المشرق المسيحية ومقرُّها بغداد. وبالرغم من أنها لم تكن معروفةً في أوروبا، كانت يومًا ما واحدةً من أعظم الكنائس في العالم؛ وتعهَّد لها بالولاء خلال العصور الوسطى عشَرةٌ بالمائة من جميع المسيحيِّين في العالم، وكان لبطريركها، المقيمِ في بغداد، أساقفةٌ وأديرة في مختلِف بِقاع العالم أكثرُ من البابا في روما. وجلب مبشِّروها المسيحيةَ إلى الصين في عام ٦۳٥ بعد الميلاد، وهي حقيقةٌ مسجَّلة على ما يُسمى باللوح التَّذكاري النسطوري في شيان. وفي القرن الثالث عشر، كانت الكنيسةَ المسيحية الوحيدة التي كان يرأسها رجلٌ من أصلٍ شرق آسيوي (كان اسمه ياهبلاها، وكان على الأرجح منغوليًّا؛ وجاء من بكين إلى بغدادَ في رحلةِ حجٍّ استثنائية بلَغَت أربعة آلاف ميل). ولكلٍّ من منغوليا والتبت أبجديةٌ تستند إلى الكتابة السريانية التي أدخلَها المبشِّرون المسيحيون العراقيون منذ أكثرَ من ألف عام.

تطورت كنيسةُ المشرق بين المسيحيين الذين يعيشون في ظلِّ الإمبراطورية الفارسية، الذين وجَدوا أن خلافاتهم الأيديولوجية مع المسيحيِّين الغربيين تحميهم بشكلٍ مفيد من الشكِّ في أنهم قد يكونون مُتحالفين سرًّا مع مُنافسيهم من البيزنطيين. وكان يُطلَق على أعضائها أحيانًا اسمُ النسطوريين، وهو الاسم الذي ينسبهم إلى نسطوريوس، الذي رفَض فكرة أن يقول المسيحيُّ في يوم الجمعة العظيمة إن «الرَّب قد مات». وأراد أن يُميز بين يسوع الإله ويسوع الإنسان. لم تتبنَّ كنيسةُ المشرق تعاليمَ نسطوريوس أبدًا، لكنها رفضَت استخدام الأيقونات وقلَّلَت من أهمية دور مريم العذراء. وأطلق عليهم المبشِّرون البريطانيون اسمَ «بروتستانت الشرق الأوسط»، واختاروا تجاهل عبادة القدِّيسين غير البروتستانتية وممارسة الرهبنة.

واليوم، هذه الكنيسة أضعفُ بكثيرٍ مما كانت عليه من قبل. يرجع هذا إلى حدٍّ كبير إلى تيمورلنك، الذي نهَب بغداد عام ۱٤۰۱ وترك تسعين ألفَ جُمجمة على أنقاضها. فقد كان مُعاديًا للمسيحيِّين بشكل خاص، وعلى ما يبدو أنه من زمنه فصاعدًا، تشبَّثَت كنيسةُ المشرق بالبقاء بجبال شمال العراق، وشمال شرق سوريا، وجنوب تركيا. وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، واجهَ أعضاؤها تهديدًا مُشابهًا عندما قتلت ميليشيا مرسَلةٌ من زعيمٍ كردي قريب، ربما بِناءً على طلبٍ من الحكومة العثمانية في إسطنبول، عشرين ألفًا من الرجال، والنساء، والأطفال المسيحيِّين. وتعرَّضَت كنيسةُ المشرق — التي يُطلق عليها أحيانًا اسم الكنيسة الآشورية — لعددٍ من الانقسامات على مرِّ القرون، ثار بعضُها بسبب الخلافات حول قيادة الكنيسة التي غالبًا ما كانت تنتقلُ تاريخيًّا من الأبِ إلى الابن، مما كان يتسبَّب في خيبةِ أمل المطالبين المحتملين الآخَرين بالقيادة. وغالبًا ما تتعهَّد المجموعةُ المنشقَّة بالولاء للبابا في روما، الذي أنشأ في النهاية الكنيسةَ «الكلدانية» البابَوية لهم التي اعترفَت بها روما لكنها حافظَت على طقوسها وعاداتها المميزة. ونتيجةً لذلك، يوجد اليوم مسيحيون «آشوريون» و«كلدانيون»، بالإضافة إلى عددٍ قليل من المسيحيين من طوائفَ أخرى.

بعد المتجر الكبير، ذهبتُ إلى كنيسةٍ قريبة؛ مبنًى مسبق الصنع يقع بعيدًا عن الطريق، وتحيط به السياراتُ الواقفة. بالخارج، كانت تحيط بها إحدى ضواحي أمريكا (منطقة ليس بها أيُّ أثر للانحلال الحضري الذي أفسَد مدينة ديترويت؛ فالمنطقة الحضرية في ديترويت أكبرُ بكثير من المدينة وأكثر ازدهارًا). لكن بمجرد دخولي، شعَرتُ كأنني عدتُ إلى العراق. كانت توجد ملصقاتٌ باللغة العربية على صناديق التبرُّعات. وكان صوتٌ ذكوري عميق يُردد باللغة الآرامية القدَّاس الكلدانيَّ الذي يعود تاريخُه إلى القرن الخامس الميلادي وهو أقدمُ صلاة مسيحية لا تزال شائعة. تلا الكاهن: «كاديشا، كاديشا، كاديشا»؛ أي مقدَّس، مقدس، مقدس. كانت كتبُ الطبخ الكلدانية معروضةً للبيع في مكتبةٍ صغيرة في الخلف، وزُين المذبح المبنيُّ على الطراز الكاثوليكي برقائقِ الذهب وباقات الفاكهة الاصطناعية. يُظهر ملصقٌ باللونَين الأبيضِ والأسود بجانب باب الكنيسة صورةً لمار أداي شير، الذي سُميَت الكنيسة على اسمه. و«مار» تعني بالآرامية الرجل المقدَّس، وكان أداي شير أسقُفًّا كلدانيًّا أعدمَه الجنودُ الأتراك في عام ۱۹۱٥. إلى جانب وفاة أكثرَ من مليونٍ من الأرمن في تلك السنة الرهيبة، قُتل أيضًا مئاتُ الآلاف من الكلدانيِّين والآشوريين، وهرَب عددٌ أكبر إلى العراق. وفي ماردين، التي أصبحَت الآن منتجَعًا رائعًا لقضاء العطلات بالقرب من الحدود الجنوبية لتركيا، توجد منازلُ تحمل أسماءَ أصحابها السابقين الذين قُتِلوا أو طُرِدوا، منحوتةً فوق الباب.

بعد عام ۲۰۰۳ جاء دورُ مسيحيِّي العراق في الفرار، هذه المرةَ إلى الغرب. وحتى أواخر التسعينيات كان لا يزال يعيش ١,٤ مليون مسيحي في العراق. والآن البلد غيرُ مستقرٍّ بما يسمح بإجراء مسحٍ استقصائي، ولكن ربما لم يتبقَّ سوى ثلثِ هذا العدد، أو حتى أقل. وهذه الموجة الهائلة من الهجرة ليست فقط بسبب الأخطار التي يُواجهها المسيحيون هناك، ولكن أيضًا بسبب إمكانيات بناء حياةٍ أفضل في مكانٍ آخَر؛ وربما الأهمُّ من ذلك كلِّه، على حد تعبير أحد المسيحيين العراقيين، هو الشعور بأنه لم يعُد مرغوبًا فيك في العراق.

كانت مُدرِّستي للُّغة العربية في بغداد، التي كان اسمها نادية، مسيحيةً كانت لغتُها الأولى هي الآرامية. أخبرَتني في عام ۲۰۰٦ أنها كانت تخاف في كلِّ مرة تخرج من منزلها. لم تعرف أبدًا ما إذا كان من المحتمل أن يراها الخاطفون هدفًا مُهمًّا، أو ما إذا كانت الأسرة التي تعيش في الجانب الآخر من الشارع والتي بدا أنها تقفُ في نافذتها طوال اليوم تُراقب تحرُّكات الناس ربما تنقل المعلوماتِ إلى الإرهابيين. (وقالت إن جيران الأسرة المسلمين كانوا، على العكس، وَدودين وداعمين لهم.) وكان ثَمة دومًا خطرُ التواجد بالقرب من انفجار قنبلةٍ مُعدَّة للآخَرين. وكان الذَّهاب إلى الكنيسة خطرًا بشكلٍ خاص. فعندما كانت تعود إلى المنزل في المساء، على حدِّ قولها، لم يكن لديها ولا والديها الطاقةُ لتبادُل أيِّ حديث. وكانوا يأكلون في صمتٍ ويذهبون إلى الفِراش خائفين من اليوم التالي. غادرَت نادية البلاد عام ۲۰۰٧. وظل والداها هناك عامًا آخَر ثم انتقلا شمالًا إلى كردستان. لم يكونا يعرفان اللغةَ الكردية واضطُرَّا إلى قَبول رواتبَ ومستوياتِ معيشةٍ أقل، لكن على الأقل كانا آمِنَين هناك. وكانت تجربة نادية، التي وصلَت إلى ديترويت، أفضل. قابلَتْ رافي في الكنيسة التي كانت قد بدأتْ في ارتيادها. كان كلٌّ منهما يعرف الآخرَ عندما كانا طفلَين في العراق، ولكنهما لم يكونا قد التقيا منذ سنوات؛ لأن رافي كان قد هاجر قبل الحرب. وفي حفل زفافهما، كان الكاهن هو نفسه الذي كان يترأَّس القداسَ في كنيستهم المحلية في بغداد. فقد انتقل هو الآخَر إلى ديترويت. كان الأمر كما لو أن مجتمعًا بأكمله قد انتقل وزُرِع في النصفِ الآخَر من العالم.

يعيش البطريرك مار دنخا الرابع، رئيسُ المسيحيين الآشوريين، في شيكاغو. ويفوق عددُ المتحدِّثين باللغة الآرامية في ديترويت الكبرى عددَهم في بغداد؛ حيث يعيش أكثرُ من مائة ألفٍ من الكلدانيين العراقيين في المدينة والمناطق المحيطة، وقد أنشَئوا تسعَ كنائس، ومطاعم، وصحيفة تُسمى «كالْدين نيوز»، ومحطةَ إذاعة، ومِهرجانًا سنويًّا، وناديًا بملايين الدولارات (للأغنياء منهم، وهو ما يعني عمومًا الذين استقرُّوا منذ مدةٍ طويلة). لكن للأسف، لم يجلبوا معهم الجمالَ العراقي، والمنازل الجميلة، وأضرحةَ القُرى الواقعة على التلال التي كان الكلدانيُّون يعيشون فيها عادةً. عندما سافرتُ بالحافلة في أنحاء شمال العراق في عام ۲۰۱۲، بدا أن كل قرية كان بها ديرٌ أو قبرُ قدِّيس، أو قلعةٌ مدمرة مرتبطةٌ بطريقةٍ ما بالتاريخ الطويل للطائفة. وهذا شيء لا يستطيع المهاجرون إعادةَ إنشائه في بلدهم الجديد. ففي مدينة ديترويت الكبرى، لا يوجد إلا القليلُ مما يُميز المنازلَ بعضَها عن بعض في صفوف منازل الضواحي المعاصرة، المصمَّمة بالكامل على الطِّراز الأمريكي. لكنَّ الأقباط المصريين، والكلدانيين العراقيين، والشيعة اللبنانيين، والسُّنة السوريين الذين يعيشون هنا وفي البلدات المجاورة يحافظون على ثقافاتهم الوطنية بصرامةٍ داخل بيوتهم.

يتفق شرق أوسَطيُّون آخَرون على أن الكلدانيِّين هم مِن أكثر المهاجرين تحفظًا. فنسبة الحضور إلى الكنيسة مرتفعةٌ ورُسِّم كاهنان جديدان مؤخرًا. ومن المؤكد أن جريدة الطائفة، «كالدين نيوز»، لا تُشير كثيرًا إلى حركات الشباب المتمرِّد. واعتقدتُ أنها قد تفعل ذلك عندما بدأت قراءة مراجعة مسرحية تُعرَض في مركزٍ ثقافي مجتمعي؛ وهي مسرحيةٌ بطلُها رجلٌ يحاول مقاومةَ ضغطِ والديه للزواج. وربما تعتقد أنها كانت مراجعةً حادَّة للقيم المتغيرة ولطائفةٍ تتعامل بمهارة مع العلمانية والحداثة. ولكن على النقيض، كانت نهايةُ المسرحية سعيدة، حسبما ذكرَت الصحيفة؛ حيث يجد البطلُ امرأةً كلدانية لطيفة ويتزوجها.

كانت المسرحية تعكس واقعَ الحياة. ففي أمريكا كلِّها، وَفقًا لكتاب صدر عام ۲۰۱۳ من تأليف ناعومي شايفر رايلي، يبلغ معدلُ الزواج بين أشخاصٍ من أديان مختلفة اثنين وأربعين بالمائة، ويهتمُّ الآباءُ بالآراء السياسية لأصهارهم وكنائنهم المحتملين أكثرَ مما يهتمُّون بهُويتهم الدينية. لا ينطبق ذلك على الطوائف المنتمية إلى الشرق الأوسط، حيث لا تزال الزِّيجات من خارج الديانة نادرةً للغاية. ويزعم الآشوريُّون في شيكاغو أن عشَرةً بالمائة فقط من طائفتهم يتزوَّجون من خارج الطائفة. وتتمادى بعضُ العائلات في التحكُّم في خيارات زيجاتِ أبنائها؛ حيث قابلتُ امرأةً مسيحية عراقية في حفل عشاء في آن أربور، بالقرب من ديترويت، أخبرَتني أنها هرَبَت من البيت، حيث لم يكن لديها حريةُ مقابلة الرجال. سألتُها: «هل كنتِ في سن المراهقة؟» قالت لي: «لا، كنتُ في السادسة والعشرين.»

وعلى الرغم من أن الكلدانيين والآشوريين لا يعتبرون أنفسَهم عربًا، فإن تاريخهم شديدُ الشبَه بتاريخ طوائفِ الشرق الأوسط الأخرى، المسلمة والمسيحية على حدٍّ سواء. وبدأت الهجرةُ الواسعةُ النطاقِ من الشرق الأوسط في أواخر القرن التاسع عشر، بدافع الفقرِ المتزايد ونقصِ الأراضي في لبنان وفلسطين، فضلًا عن القمع والصراع العُثماني. كان معظم المهاجرين من المسيحيِّين، وكانت أمريكا اللاتينية وِجهتَهم المفضَّلة؛ لأنها كانت تُشجع الهجرة وتوفر الكثيرَ من الفرص الاقتصادية. ونتيجةً لذلك، اجتذبَت نصيبَ الأسد من المهاجرين العرب المسيحيين، محقِّقةً بعض النتائج المذهلة؛ فاليوم، على سبيل المثال، خمسةٌ بالمائة من سكان أمريكا اللاتينية من أصول عربية، وعدد المسيحيين من أصل فلسطينيٍّ في تشيلي أكثرُ من عددهم في فلسطين، وينحدر ثمانيةُ رؤساء لدول أمريكا الجنوبية والوسطى من أصولٍ شرق أوسطية؛ وأغنى رجلٍ في العالم (كارلوس سليم الحلو، رجل أعمال)، وواحدةٌ من أشهر مطرِبيها (شاكيرا)، والممثلة سلمى حايك، جميعُهم لهم أصولٌ لبنانية. تنافس في الانتخابات الرئاسية لعام ۲۰۰٤ في السلفادور سياسيَّان، أحدهما من اليسار المتطرف والآخَر من اليمين؛ وكانت عائلةُ كِلَيهما فلسطينيةً مسيحية من البلدة الصغيرة ذاتِها بالقرب من بيت لحم.

وفي الولايات المتحدة، تضمُّ ميشيغان أعلى نسبةٍ للعرب الأمريكيين مقارنةً بأي ولاية أخرى. ويشرح تاريخَهم المتحفُ العربي الأمريكي في ديربورن، وهي مدينة يُشكل العربُ عشرين بالمائة من سكانها. عندما وصلتُ إلى المتحف، وجدتُ مجموعةً صغيرة من الناس بالخارج. كانوا يُحدقون في رجل يقف على الجانب الآخر من الطريق، على سلالمِ مجلس مدينة ديربورن. كان قد نصب منصةً مكتوبًا عليها «كافر! ملحد!» على خلفيةٍ من القماش الأسود. ونجح الرجل الذي يقف على المنصة في توصيل صوته عبر صخبِ أصوات المؤيدين والمعارضين. وصاح مطالبًا: «أوقفوا هجرة المسلمين! لا مسلمين في المناصب الحكومية العُليا!» وكان استفزازُ أهل ديربورن هو هدفَ القسِّ تيري جونز، مؤلف كتاب «الإسلام من الشيطان»، الذي تسبَّبَت خُططه، ذاتُ التغطية الإعلامية الواسعة لحرق نسخة من القرآن، في أعمالِ شَغْب في أفغانستان.

لاحظتُ أن العديد من العرب الذين كان يُلقي خُطبته فيهم كانوا يرتدون صُلبانًا. فغالبيةُ العرب الأمريكيين مسيحيون، على الرغم من أن التركيبة السكانية تتغيَّر بسرعةٍ بفضل تدفُّقات الهجرة الجديدة من الشرق الأوسط. وقد عكَسَت لافتةٌ في ردهة المتحف المزيَّنةِ ببلاط الفسيفساء الأزرق هذا التغييرَ، معلِنةً أنه كان «مؤسسةً تجعل الجيل الرابع من العرب الأمريكيين المسيحيين الذين جاء أجدادُ أجدادهم من سوريا والمهاجرين المسلمين الذين وصلوا حديثًا من العراق يشعرون أن المتحفَ يروي قصتَيهما.» وحتى وقتٍ قريب، غالبًا ما كان العرب الذين يأتون إلى أمريكا لا يملكون سوى القليلِ ولا يُحققون النجاح إلا من خلال العمل الجادِّ والحظ. كانوا باعةً جائلين في خمسينيات القرن التاسع عشر، وعمَّالًا يدَويِّين بخمسةِ دولارات في اليوم في مصنع فورد في عشرينيات القرن الماضي، وأصحابَ متاجر في الستينيات. وكان مصنع سيارات هنري فورد في ديربورن بولاية ميشيغان، الذي اكتمل عام ۱۹۲۸، عاملَ جذبٍ خاصًّا للمهاجرين من الشرق الأوسط (الذين كان معظمهم في تلك المرحلة من المسيحيين العراقيين واللبنانيين)؛ لأنه وفَّر فرصَ عملٍ لأشخاص لم يكونوا يُتقنون الإنجليزية. وقد شكَّلوا النواةَ التي جذبَت لاحقًا الآخَرين، مسلمين ومسيحيين على حدٍّ سواء، الذين تمكَّنوا من رؤية فرصٍ أفضل لأنفسهم في مكانٍ كانت ثقافتهم ومجتمعاتهم قائمةً فيه بالفعل. ووَفقًا للمعهد العربي الأمريكي، يوجد الآن ما يقرب من ٣,٥ مليون أمريكي من أصولٍ عربية. وعُرِضَت جميعُ قصص النجاح الباهر في المتحف: سياسيُّون مثل دونا شلالا، ورجال أعمال مثل مؤسِّس شركة كينكوز، بول أورفيلا، وشعراء مثل خليل جبران.

كنتُ أتجوَّل في متجر المتحف عندما ظهر يوسف. كان صديقًا لأحد أصدقائي، وكان من المقرَّر أن يكون مُرشدي إلى المعالم العربية المحلية. وصل مرتديًا قبعةً صوفية، وحذاءَ رُعاة البقر، وسترةً مزيَّنة بشارات مناهضة للحرب، كان مكتوبًا على إحداها: «أنا من الآن مناهضٌ للحرب القادمة». ذهبنا إلى متجر أحذية حتى يتمكَّن من البحث عن حذاء جديد. كان فِلسطينيًّا من قمةِ رأسه حتى أخمص قدمَيه، ومع ذلك فقد تمكَّن بطريقةٍ ما من الاندماج أيضًا في فئة أمريكية خاصة؛ هي: الهيبيز المتمرِّدين. ومع أنه كان في السبعينيات من عمره، كان في حالةٍ صحية أفضلَ مني، بسبب روتين السباحة في بُحيرة جليدية كلَّ يوم.

figure
يوسف بركات يشرح لأحد الأفراد الصغار من الجالية العربية الأمريكية كيفيةَ أداء رقصةٍ عربية تقليدية، الدَّبْكة، في ديربورن، ميشيجان، في صيف عام ۲۰۱۲. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

كانت تلك الليلة هي الليلةَ الأولى لمهرجان عربي أمريكي في ديربورن، وكان المهرجان محطَّتَنا التالية. عندما وصلنا، كانت فرقةٌ مصرية تعزف بأعلى درجةِ صوت، وازدحم قسمٌ مغلق من الشارع بالناس، ووقف كثيرٌ منهم مشكِّلين نصفَ دائرة ليُشاهدوا ما يحدث. ورقَصَت مجموعةٌ صغيرة في وسط الدائرة الدَّبْكة، وهي رقصةٌ عربية تتضمن أشخاصًا يُمسِك أحدُهم بيدِ الآخَر ويَخْطون بسرعةٍ وبتناغمٍ من جانبٍ إلى آخَر. أدهشني أن يوسف قفز مباشرةً إلى ساحة الرقص، أما أنا فتسلَّلتُ إلى أحد الجوانب؛ لافتقاري إلى الإيقاع، والتوازن، وثقة عدم الاهتمام بأيٍّ منهما. بدأ شابَّان، يبدُوان يمَنيَّين، في تلقِّي التعليمات من يوسف في أدقِّ النقاط المتعلقة بالدَّبكة. وحرَّكَت امرأةٌ عجوزٌ ترتدي الحجاب قدمَيها على اللحن عندما مرَرْنا بها.

عندما أخذ يوسف كفايتَه من الرقص، عرَض أن يأخذني في جولةٍ في جميع أنحاء المنطقة. وأراني الكنيسةَ الأرثوذكسية حيث كان خادم المذبح وكان على وشك أن يُصبح كاهنًا، ومصنع فورد، حيث عمل، مثل العديد من المهاجرين الآخرين، لإعالةِ أسرته. وبالقرب من المصنع كان يوجد مركزٌ ثقافي عربي كان قد ساعَد في إنشائه. وكذلك أراني مدرسةَ مرتكِبي الجرائم الصغار في السنِّ التي تقاعد منها مؤخرًا بوصفِه متطوعًا. وكان يعيش في المناطق الريفيةِ الخضراء حول المدرسة الكثيرُ من أصدقائه، وكان العديد منهم نشطاء من دُعاة السلام اليهود.

جاء يوسف إلى أمريكا لاجئًا، محرومًا من حقِّ العودة إلى منزل عائلته فيما كان يُسمَّى فِلَسطين. ظل غاضبًا بمرارةٍ من إسرائيل. ومع ذلك، بدَت حياتُه الخاصة في أمريكا، مثلَ حياة العديد من الأمريكيِّين الشرق أوسطيِّين الذين قابلتُهم، مرتبطةً بالجالية اليهودية. وبعد وقتٍ قصير من وصوله إلى أمريكا، رُزق بطِفلَين من امرأةٍ يهودية، وإذ شعر بأنه أصغرُ من أن يتزوج، قرَّر مع والدتهما التخلِّيَ عنهما للتبنِّي؛ أحدهما لجمعيةٍ خيرية يهودية والآخر لجمعيةٍ خيرية كاثوليكية. وبعد مرور عُقود من الزمن، عندما وصل إلى منتصف عمره، أراد أن يبحث عن أطفاله ونجح في العثور على ابنته التي نُشِّئَت على أنها يهوديةٌ أرثوذكسية. ولا يزال يبحث عن ابنه.

•••

كانت علاقة يوسف بصديقته غيرَ عادية؛ ليس لأنها كانت يهودية — فقد قال العديدُ من المهاجرين الذين التقيتُ بهم في بريطانيا وأمريكا، من الأقليات الدينية، إنهم وجَدوا انجذابًا فوريًّا إلى اليهود الأمريكيين — ولكن لأن مجتمعات الأقليات هذه تميل إلى الانطوائية، وبالتأكيد لا تُشجع على إقامةِ علاقات جنسية بين الأديان المختلفة. قال لي أحدُ الكلدانيين: «ستيرلينج هايتس هي المكانُ الذي نعيش فيه. ويعيش المسلمون في ديربورن.» وكانت ضاحيةً تروي أفضلَ مكانٍ للعثور على الأقباط المصريين. وللعثور على الموارنة، نُصِحتُ بالتوجُّه إلى جروس بوينت.

استفادت كنائسُ المهاجرين من الهُوية المجتمَعية وكذلك ساعدَت في ترسيخها. وباعتزازٍ أخَذني الأبُ شلهوب، كاهن بازيليك ليفونيا الأرثوذكسية الرائعة، في جولة. ويُطلق على جاليتِه — المسيحيون الفلسطينيون والسوريون الناطقون بالعربية الذين يتبعون التقاليدَ والتعاليم ذاتَها الخاصة بالأرثوذكس اليونانيِّين والروس — اسمَ أرثوذكس أنطاكية ولديهم خمسمائة كنيسةٍ في الولايات المتحدة. بدا أن كنيسة الأبِ شلهوب قد تكون واحدةً من أفضل الكنائس الخمسمائة. وقال: «هذا الرخام من سوريا»، مشيرًا إلى الأيقونات الجميلة التي رُسِمَت بعناية في سوريا وشُحنت إلى الكنيسة. صُمِّمَت الكنيسة بأكملها على غرار كنيسة القديس سمعان العمودي بالقرب من أنطاكية.

لم تكن طوائفهم في أوطانهم، على عكس الكلدانيين، متدينةً بشكلٍ خاص. لكن ذلك تغيَّر عندما أتَوا إلى أمريكا. قال: «يبذل الناس جهدًا أكبر للذَّهاب إلى الكنيسة هنا مقارنةً بوطنهم الأصلي. إن ما يحافظ على المسيحيِّين الأرثوذكس هو الكنيسة. فهي تُحافظ على ثقافتهم وتحافظ على هُويتهم بوصفهم عربًا. وأول شيء تفعله العائلاتُ عندما تأتي إلى أمريكا هو البحث عني؛ إذ تُصبح الكنيسة مثلَ الملاذ، ذِكْرى من ذكريات الوطن. فالحي في الوطن — أي الشرق الأوسط — كان يحمي الناسَ من التعرُّض لهجومٍ خارجي، وهنا تحلُّ الكنيسة محلَّ الحي. فالناس يأتون إلى هنا ويرَون آخَرين يُشبهونهم، ويسمعون اللغة العربية. إنها رابطة ليست قائمةً فقط على الدين، وإنما أيضًا على العِرق والثقافة.» كانت غرفةُ الكاهن مليئةً بالكتب، والصور، والبطاقات من الشرق الأوسط. كتب طفلٌ على إحداها: «في هذا الظرف خمسةُ دولارات من «مالي الخاص». من فضلك أعطِها شخصًا محتاجًا.» كان يشعر بأن الأرثوذكس لن يندمجوا بأيِّ طريقة بنَّاءة. وعلى عكس الكلدانيين والمَوارنة، لا يمكن أن تُغرِيَهم الأبرَشية الكاثوليكية المحلية؛ لأنهم لم يكونوا على صلةٍ حميمة بروما. وهكذا، يبدو أن هذه الكنيسة الأرثوذكسية لن تُحافظ على ديانة أهلها فحسب، بل ستُحافظ على عروبتهم أيضًا.

لاحقًا، قالت واحدةٌ من أعضاء هذه الجالية الأرثوذكسية شيئًا مشابهًا. فبعد وصولها إلى الولايات المتحدة من لبنان في السبعينيات، كانت الكنيسة هي ما يربطها بالوطن. وساعدَتها في الانتقال إلى الحياة الأمريكية. قالت: «إنها عائلةٌ بعيدًا عن عائلتي»، رغم أنها أضافت أن ابنها كان قد اتخَذ وجهةَ نظرٍ مختلفة، حيث أراد أن يكون عربيًّا أولًا ومسيحيًّا ثانيًا، وابتعد عن الكنيسة نتيجةً لذلك. وقالت إن الشيء الجيد في أن تكون متدينًا في أمريكا هو أن التديُّن لم يكن مُسيَّسًا؛ فمن الواضح أن مصدرَ رزق المرء لا يعتمد على دينه. وكانت توضِّح التناقُضَ بين هذا الوضع والوضع في بلدها الأم، لُبنان، حيث نادرًا ما يحصل المسيحيون الأرثوذكس على وظائفَ حكومية. ما كانت تفتقده هو الطريقةُ السهلة التي يختلط بها الناس في لبنان مع أولئك المنتمين إلى طوائفَ أخرى، مثل المسلمين والدروز. كانت تعتقد أن المسلمين في أمريكا كانوا أكثرَ تدينًا من أولئك الموجودين في لبنان، وأن كلَّ النساء المحجَّبات اللواتي رأَتْهن في ديربورن جعَلْنها تشعر وكأنها دخيلةٌ بينهن. «الناس هنا يتجمعون حول الدين بدلًا من الأمة. ويشعر الناس أنهم إذا تمسكوا بدينهم، فإن أطفالهم سيتزوَّجون من شخص من نفس دينهم.»

على بُعد مائة ياردةٍ فقط من كنيسة الروم الأرثوذكس الضخمة كان يوجد مسجدٌ شيعي، بنفس حجمها تقريبًا. أرشدَتني موظفةُ استقبال ذاتُ مظهر جادٍّ وحجابٍ متشدد إلى لقاءٍ غير مرتَّب مع إمامها العراقي، حسن القزويني. كان متفائلًا للغاية بشأنِ آفاق طائفته في أمريكا. «إنه مجتمع تعدُّدي، حيث يمكن للمسلمين الاندماجُ بشكلٍ جيد للغاية. فهو يوفر حرِّيات لا مثيلً لها. ويمكننا الازدهار هنا ليس فقط بالمعنى الاقتصادي ولكن بالمعنى الديني.» وللتأكد من أنه حتى غيرُ المتدينين يمكنهم البقاءُ على تواصل، فضَّل أن يُطلق على المسجد اسم «المركز المجتمعي الإسلامي»، الذي يمكن أن يستضيف حفلات الزفاف، على سبيل المثال، بالإضافة إلى الاحتفالات الدينية. ورغم ذلك، كانت الغالبيةُ متدينة. «في الجيلَين الثاني والثالث، قلَّ كثيرًا الارتباط بالمنطقة. فالناس ليسوا متحمِّسين للذَّهاب إلى الشرق الأوسط؛ ويُفضِّلون قضاءَ الصيف هنا. لكنهم يحافظون على تقاليدهم الغذائية والاجتماعية، والعديدُ منهم متديِّنون بشدة.» وكان لدى الشيعة العراقيين، الذين وصَلوا لتوِّهم، الكثيرُ من الوقت لحضور الشعائر الدينية. «فالدين عاملُ جذب، وكثيرًا ما يثبت أنه أقوى من أيِّ نوع آخر من الانتماء، حتى العرقي.»

•••

كان جورج خوري استثناءً لقاعدةِ أن الطوائف المنتمية إلى الشرق الأوسط في ديترويت كانت تميل إلى التجمُّع حول أماكن عبادتها. فقد كان فلسطينيًّا مسيحيًّا يعيش في حيٍّ معظمُ قاطنيه من اليهود. وكان قد تزوج امرأة غير عربية. لم يكن أيٌّ من هذا يعني أنه قد غيَّر هُويته، كما أمكنني القولُ بمجرد ترجُّلي من السيارة خارج منزله. كان الدليل هو لوحةَ أرقام سيارته: PAL 4 EVR (أي فلسطين للأبد). كانت غامضةً بذكاء. قد لا يعني ذلك شيئًا سوى أنه كان صديقًا جيدًا. لكنني كنتُ أعرف أن PAL ترمز إلى فِلَسطين التي كان أفرادُ عائلته قد ترَكوها بصفتهم لاجئين في عام ۱۹٤۸. أخبرني جورج أنه كان قد اختار العيش في حيٍّ يهودي من ناحية تحدِّيًا للانعزال الطوعيِّ الذي مارسَه معظم المهاجرين. وكان يُفكر أيضًا في أطفاله. بينما كنتُ جالسًا في منزله أشرب فنجانًا من القهوة التركية، وتُذكِّرني رائحةُ الهيل المنبعثةُ منها بأكوابٍ لا حصر لها احتسَيتُها في القدس، وبيت لحم، ويافا، قال: «يقترب تقريرُ معدَّل الجرائم هنا من الصفر. ويتخرَّج طلاب المدرسة الثانوية بنسبة مائةٍ بالمائة، ونسبةُ مَن يذهبون إلى الكليات تزيد عن تسعين بالمائة، وذلك ما أريده لأولادي. فالأطفال يتأثَّرون بضغط الأقران. وقد أسعدني أنهم كان لديهم أصدقاءُ يهود؛ فهذا يعني أنه يمكننا التعايشُ معًا.» كانت قد حدَثَت بعضُ المشاكل مع الأطفال الأكبرِ سنًّا في المدرسة، وفي مرةٍ قال المعلمُ للفصل: «لا يوجد شيءٌ اسمه فلسطين». عاد أطفال جورج وهم في حيرة من أمرهم ويتساءلون مَن يُصدقون. لذلك كان يُعطيهم دروسًا خاصة يوم الأحد، يُعلمهم فيها تاريخهم.

وعلى عكس الكلدانيِّين، كان يرى هُويته من منظورٍ سياسي. فالتاريخ الذي كان يُدرِّسه لأطفاله كان تاريخَ الظُّلم الغربي. في الواقع، لم يكن جورج يظن أن المسيحية العربية ستستمرُّ طويلًا في أمريكا. وأضاف قائلًا: «إن نهاية المسجد ليست قريبة، لكني أظنُّ أنها بداية النهاية للكنيسة.» والمواجهاتُ مع الأمريكيين لم تكن مفيدة. «عندما نتحاور نحن المسيحيِّين العرب مع المسيحيين الأمريكيين، فإنهم يقولون إنهم معمدانيُّون أو موحِّدون. وليس لديهم قُدَّاس، ولا تناول، ولا صوم. لذا بدأ العربُ في التساؤل، هل نحن الوحيدون الذين لا يزالون يفعلون هذه الأمور؟»

كان ثمة جانبٌ رثائي لدى جورج. وعندما كان يروي لي قصةَ الشاعر الكبير والبطل الملحميِّ أبي زيد، توقَّف وتنهَّد. وقال: «أنا من آخرِ جيل سيفهمُ هذه القصص.» كان لهذا أهميةٌ كبيرة له. «فالقصص تصوغ طريقةَ تفكيرك؛ فهي تُعلمك أن تفكر في الجماعة أكثرَ من نفسك، وأن تكون كريمًا. أحاول نقل ذلك إلى أطفالي. لكنْ أبو زيد كان يُقاتل بالسيف فقط. وفي أمريكا لديهم دبَّابات! ما كان ليحظى بفرصةٍ في زمننا هذا.» لم يكن يفكِّر فقط في أبي زيد، ولكن في الثقافة التي كان يأمُل في أن ينقُلَها إلى أطفاله. قال بحزن: «المجيء إلى هنا كان أسوأَ قرار اتخذتُه على الإطلاق. ظننتُ أن الأمر سيكون مثل السَّلَطة، كل مكوِّن يأخذ من نكهةِ الآخَر. لكن الأمر أشبهُ بالخلاط؛ في النهاية تُصبح نكهةُ كل مكونٍ غيرَ واضحة.» ومع ذلك، لا يزال جيل جورج متمسكًا بهُويته في الوقت الحالي. قال جورج: «إنها حقبةٌ من حياة المسيحيين العرب، يوشكون فيها أن يُصبحوا أمريكيِّين تمامًا ومع ذلك لديهم ولاءٌ لعروبتهم.» ومع ذلك، كان يعلم أن الأمريكيين الآخَرين لن يفهموا أبدًا مَن هم حقًّا المسيحيون العرب. «سُئلتُ مراتٍ كثيرة: «متى غيَّرتَ دينك؟» وسُئل كاهننا المحليُّ السؤالَ ذاتَه.»

•••

حاولت أن أفهم لماذا كان كلٌّ من يوسف وجورج أقلَّ سعادةً بالحياة الأمريكية من اللاجئين الآخرين الذين قابلتُهم، وخاصة أولئك الذين هم من أصولٍ عراقية. كان شعوري أن الأمر يتعلَّق بكونهما فِلسطينيَّين؛ فتجرِبة المنفى قد أفسدَتها معرفةُ أنها كانت قسرية. وقد مكَثا في أمريكا وقتًا أطولَ بكثير وكانا أكثرَ اندماجًا، لدرجة أنهما كانا قد اقتربا من تحقيق الاندماج التام. تساءلتُ عما إذا كان القدومُ إلى الغرب للجاليات المهاجرة يجب أن يكون دائمًا عقدًا تُدفَع كُلفتُه في النهاية؛ أي استفِد من الرخاء الآن، وادفع ثمنَ فقدان الهوية لاحقًا. أم أن الأمر متروكٌ لهم لتشكيل هويةٍ وهياكلَ مجتمعية بإمكانها أن تدوم. ناقشتُ هذا الأمر مع يوسف في متجر يديره مهاجرٌ درزي من لبنان. ووافق يوسف على كلامي بقوله: «إننا ننصهر»، مستشهِدًا ببيتٍ من الشعر الفلسطيني. «واللوم يقع علينا. فنحن لم نجد الغِراء.»

كان المتجر يحتوي على مجموعةٍ متنوعة من روائح الشرق الأوسط ونكهاته؛ أكياس من الزعتر البرِّي وبذور اليانسون، وعلب من أوراق العنب والزيتون، وحلوى لُبنانية مغطَّاة بالدقيق. جاء حليم، صاحب المتجر الدرزي، من خلف كومةٍ من علب أكياس شاي الوزة وانضمَّ إلى المحادثة بصوته اللطيف. قال: «عليك أن تتمسك بثقافتك، وإيمانك، وتراثك إذا كنتَ لا تريد أن تضيع هنا، وسطَ هذا المحيط الكبير. لكننا نحن الدروزَ ليس لدينا كنيسة. ليس لدينا مسجد. ليس لدينا مُعلِّم. فنحن نمارس دينَنا بشكل فردي. ويوجد في لبنان شيوخٌ يُبقوننا متَّحدين. لكن لا يوجد شيوخ في أمريكا؛ ربما لهذا السبب نحن ماديُّون للغاية هنا. وكثيرٌ من الناس يفتقرون إلى الإيمان بالعقل الكوني.» فمدارس جاليتهم تُعلم الأطفال اللغة العربية، وليس الدين. كما أن قلةَ أعدادهم جعلَت من الصعب على الأطفال العثورَ على أزواج وزوجات من الدروز.

كنتُ أعرف أن الدروز كانوا يواجهون صعوبة كبيرة في شرح عقيدتهم للثقافة الدينية المنفتِحة في أمريكا. أخبرتني ميليا، وهي امرأةٌ درزية نشأت في دالاس، تكساس، عن اليوم المحرج في المدرسة الذي اضطُرَّت فيه هي وبقية التلاميذ في الفصل إلى الوقوف ووصفِ دينهم؛ ما يومه المقدَّس في الأسبوع؟ وما معتقَداته؟ وما نوع الصلوات به؟ قالت: «أنا درزية. ليس لدينا يوم مقدَّس، ولا أعرف معتقداتِنا، ولا يتوجَّب عليَّ مطلقًا أن أصلي.» قالت المعلمة: «أنت تختلقين هذا الأمر! سأُخبر والدتَك.» وبالطبع، عندما فعلَت ذلك، تمكنَت والدة ميليا من تأكيد أن كل هذا كان صحيحًا. أخبرتني ليندا، وهي أكاديميةٌ درزية تعيش في بلدة آن آربر الهادئة المثقفة: «إنه أمرٌ غريب حقًّا على الآخرين الذين يلتزمون بطقوسٍ أن يفهموا طبيعة ديننا. إنه مثل النظام الصيني؛ فلدينا تقاليدُ ولكن ليس لدينا قواعد.» وعلى الرغم من علامات الاختلاف هذه، لاحظَت ليندا اهتمامًا متزايدًا بالهُوية الدينية بين الجيل الأصغر من الدروز الأمريكيين. قالت: «ابنتي الآن في الثلاثين من عمرها، وهي تطرح أسئلةً حول الثقافة الدرزية. إنها مهتمَّة بذلك الأمرِ أكثرَ من الثقافة اللبنانية. يزداد تعريفُ أفراد جيل الشباب لأنفسهم على أنهم دروز. فهم أكثرُ تعصبًا.» لم أستطع أن أتخيَّل كيف يمكن للمرء أن يكون متعصبًا في اتباع دينٍ ليس له قواعدُ أو طقوس. ومع ذلك، فإنه، على ما يبدو، حيثما تكون الجالياتُ الأمريكية من الدروز أكثرَ عددًا، يزيد الحماسُ بشأن التقاليد. وقالت إنه حتى في كاليفورنيا كان يوجد شيخ درزي.

من ناحيةٍ أخرى، الحرية التي يتمتَّع بها الأطفال في أمريكا جعلَت تربيتهم أصعبَ مما لو كانت العائلات لا تزال تعيش في موطن الدروز. اعترفَت ليندا بأن: «تربية الأطفال كانت صعبة. ولم نتمكَّن من فرض مبادئنا الأخلاقية عليهم. ففي سنِّ الثانيةَ عشرة والثالثة عشرة رأَوا أبناء عمومتهم يشربون الخمر ويتعاطَون المخدِّرات؛ لذا كانوا يسألون: «لماذا لا نستطيع فعل ذلك؟»» وشكلَت الزِّيجات بين الأديان المختلفة تحدِّيًا آخر. فقد أقام الدروز الأمريكيون فعاليات اجتماعية منتظمة للجمع بين العائلات الدرزية، دون أن يُخْفوا الدافعَ المتمثل في تشجيع الشباب الدرزي على الزواج من طائفتهم. وكان عليهم أيضًا تبنِّي نهجٍ أكثرَ براجماتيةً تجاه الزواج من غير الدروز، والتوقفُ عن النبذ الكامل لأولئك الذين يتزوجون من خارج الطائفة. ففي مرة قدَّم شيخٌ درزي بعض العزاء لأمٍّ مغتربة قلقة تركَت ابنتُها الدين. وقال: «عندما تموت طفلتك، سوف تتناسخ روحُها في لبنان كدرزية مرة أخرى.»

المجتمعات الدرزية في أمريكا متماسكةٌ بشكل ملحوظ. فهم يبحثون عن فرص عملٍ في البلدات ذاتها، حتى تتمكن ستٌّ أو سبعُ عائلات درزية على الأقل من العيش معًا في أحد الأحياء بدلًا من البقاء منفصلين. ومثل يوسف وجورج، وجدَت عائلة ميليا أيضًا قاسمًا مشتركًا غير متوقع مع اليهود الأمريكيين. وقالت: «أينما ذهبنا انتهى بنا الأمر بمقابلة يهود والتواصل معهم دون أن نعرف. إذ يوجد تشابهٌ في الثقافة.» ويجد كثيرون من مهاجري الشرق الأوسط من معتنقي هذه الديانات الصغيرة قاسمًا مشتركًا مع اليهود؛ خاصةً لأن اليهود يمارسون تقاليدَهم وعاداتهم بمنأًى عن الأنظار، ويحافظون على استمرارية هُويتهم ومجتمعهم ولكنهم يندمجون ظاهريًّا في المجتمع العلماني.

ثمَّة تشابهٌ واضح آخَر بين اليهود والدروز. فاليهودية لا تسعى وراء اعتناق أشخاصٍ جدد لها. ويتعدَّى الأمر مع الدروز إلى أبعدَ من ذلك «برفضهم» المعتنقين الجدد. ويريد بعضُ الدروز الأمريكيين تغيير ذلك، إلى جانب ثقافة السرية التي تمنعهم من التعرف على دينهم وشرحه بوضوح للآخرين. وفي بوسطن، حضرتُ ندوة لشبَّانٍ من الدروز الأمريكيين ناقشوا خلالها عقيدتهم. وسألوا كبارَ السن الذين كانوا حاضرين عما يفعلون بشأن الاعتقاد التقليدي القائل بأن أرواح الموتى التي لم تتناسخ في لبنان تولَد من جديدٍ في الصين.

•••

لم تشهد بوسطن، حيث عشتُ في عامَي ۲۰۱۰ و۲۰۱۱، ندواتٍ دينية درزية فحسب، بل شهدَت أيضًا حفلَ تعميد مندائي. في بداية كتابه الرائع «المندائيون: آخر الغنوصيِّين»، وصَف الباحث إدموندو لوبيري الحفل: «يوم الأحد، الموافق الثالثَ عشر من يونيو، عام ۱۹۹۹. وقف في النهر رجلٌ يلبس عباءةً بيضاءَ طويلة، ولحيته الطويلة يُخفيها ما يُشبه وشاحًا أبيضَ يغطي فمَه، وشعرُه الطويل ملفوفٌ بعمامة بيضاء، ممسكًا في يده اليسرى بعصًا خشبيةٍ طويلة.» كان النهر هو نهرَ تشارلز، ويصف الكتاب راكبي زوارق الكاياك وهم يجدفون مارين بالحفل دون إبداءِ أي اهتمام. ويتذكرهم وسام بريجي، صائغُ الفِضة والناشطُ المندائي الذي نظَّم الحفل. وأخبرني عندما التقينا في متجر الفِضة الخاص به بالقرب من وسط بوسطن بأن ذلك ما كان يميز ماساتشوستس؛ فلم يكن أحدٌ متضايقًا.

لا بد أن الحفل جذَب انتباه الآخرين؛ لأنه كان أولَ حفل تعميد مندائي في العالم الجديد. وكان ذلك الحفل مهمًّا لأولئك الذين شارَكوا فيه بقدرِ أهمية أول عيد شكر احتفل به البيوريتانيون والأمريكيون الأصليون. وجاء على إثره أوائل المهاجرين المندائيين. فقد كان وسام المندائي الوحيد في ماساتشوستس في ذلك الوقت. والآن، بعد اثني عشَر عامًا فقط، أخبرني أنه يوجد ٦٥۰ مندائيًّا. وكان يعقد في متجره دروسًا لتعليم المهارات المندائية التقليدية للوافدين الجدُد. وكان يحاول تأسيسَ مركز اجتماعي لأعضاء دينه في ويستر، ناحية الغرب. وكان يرى يهودَ أمريكا نموذجًا لطائفته. لكن النموذج المحدَّد الذي كان يدور في ذهنه كان الجاليةَ اليهودية السورية في بروكلين، التي أصدرَت مرسومًا في عشرينيات القرن الماضي ضد قَبول الزواج المختلط حتى من الذين غيَّروا دينهم إلى اليهودية. استحسن وسام هذا المرسوم؛ فهذه النوعية من الزِّيجات، حسَب ظنه، ستُضعف المندائيين لدرجة أنهم سيُصبحون علمانيِّين تمامًا وستختفي الطائفة. لذلك لا ينبغي أبدًا السماحُ بها.

وبينما كنا نتحدَّث، كانت المكالماتُ تأتي دون انقطاع على هاتفِ وسام الخلوي من عراقيِّين أرادوا أن يُساعدهم في الوصول إلى الولايات المتحدة. فهو مولودٌ في شمال أفريقيا، ونشأ مندائيًّا؛ قال: «لكنني، لم أعرف أبدًا ما يعنيه ذلك.» وكما هو الحال مع العديد من المهاجرين الدروز، كانت سريةُ الدين تُلازمه في المنفى على نحوٍ مزعج؛ فبعد انفصالِ وسام عن المعابد والكهنة، وجد صعوبةً في الحفاظ على إيمانه. لكنه ثابر، وعمل على جمع المندائيِّين في الولايات المتحدة معًا وتعزيز هُويتهم الجماعية. كان اللجوء ضروريًّا، لكنه ذو حدَّين؛ هما إنقاذ المندائيين من الخطر، وأيضًا تسريع رحيلهم عن العراق، أو على حدِّ قوله: «إنقاذ المندائيين، والقضاء على المندائية.»

•••

إذن، فالسؤال هو ما الذي سيحدث لدينٍ كان غيرَ مفهوم في الغرب، وله قواعدُ زواجٍ صارمةٌ ومعقَّدة، ولا تزال تعاليمه سريةً في معظمها؟ وصف الفصل الثاني حياة ميرزا إسماعيل، وهو ناشطٌ مقيم في كندا يُدير حملاتٍ تُدافع عن حقوق الإيزيديين. وعندما راسلتُه في عام ۲۰۱۱، دعاني للانضمام إليه ذلك الصيفَ في رحلةٍ إلى بافلو، بولاية نيويورك، عبر الحدود من كندا. كان هناك ليرى صديقَه القديم أبا شهاب الذي كان قد هرب معه من العراق، وكان منزله في ضاحيةٍ هادئة. عندما طرق ميرزا الباب، فتح أحدُ أطفال أبي شهاب، وعلى الفور انحنى لتقبيل يد ميرزا. كانت هذه عادةً احتفظَت بها الأسرة منذ الأيام التي كانوا يعيشون فيها في العراق؛ لأن ميرزا كان «شقيق أبي شهاب في الحياة الأخرى». وقال إن ميرزا اعتبر نفسه أشبهَ بالأب الروحي لعائلةٍ مسيحية، وهو شخص يُقدم الإرشاد الروحي ويشرح بعض تعاليم الدين ﻟ «عائلته الأخرى».

جلسنا في غرفة معيشة أبي شهاب، وبينما كنا نتحدث بدا أن كلَّ بضع دقائق كان يظهر طفلٌ آخَر من أطفاله. ابتسم صبيٌّ ابتسامةً عريضة، كان شعره مصبوغًا بلون برتقالي مذهل، ومعلَّقًا حول رقبته صليبٌ مزخرف (أحد مظاهر الأناقة، وليس الإيمان، على ما يبدو)، ثم ذهب إلى إحدى غرف النوم، حيث لعب لعبة كمبيوترية عالية الصوت. تحركَت فتاةٌ بصمتٍ جيئة وذَهابًا في المطبخ دون النظر إلى غرفة المعيشة. في وقتٍ لاحق، ظهر فرحان، واحدٌ من الأبناء الكبار الذي كانت قد تقطَّعَت به السبُل في العراق مدةَ واحد وعشرين عامًا. كان لأبي شهاب إجمالًا أحدَ عشر طفلًا. كان الأمر كما لو كان يهدف إلى إعادة توطين العالم بالإيزيديين للتعويض عن الكثيرين الذين قُتلوا في حروب متتالية.

كان الابن الأكبر، شهاب، الذي انضم إلينا مع زوجته، قد حصل للتوِّ على وظيفةٍ جديدة مقابلَ تسعةِ دولارات في الساعة، وكان قد فقدَ وظيفته السابقة بعد رسوبه في اختبار اللغة الإنجليزية. بدَت لي لغة شهاب الإنجليزيةُ جيدةً بما يكفي، لا سيما بالنظر إلى أنه يتحدث لغتَين أُخريين — العربية والكُرمانجية — ولكن يبدو أنه كان قد أخفَق في الأسئلة حول المرادفات. لم يكن لديه فرصةٌ للذَّهاب إلى المدرسة في سوريا لأن مخيَّم اللاجئين الذي كان يعيش فيه لم يُصدر له الشهادةَ اللازمة. على أي حال، كان بحاجةٍ إلى العمل حتى لا تُضطرَّ زوجته إلى ذلك، لتتمكنَ من التركيز على دراستها والتأهل للعمل ممرِّضةً. قالت بابتسامة: «حينها يمكنني العمل ويمكنه الحصول على قسطٍ من الراحة.»

لم يكن أبو شهاب من المعجَبين بالسياسة الخارجية لأمريكا وبريطانيا. فقد فشلوا، وَفْق رأيه، في حلِّ مشاكل بلاده؛ خاصةً تلك المتعلقةَ بمنطقته، سنجار، في شمال غرب العراق. لكنه أرادني أن أعرفَ مدى تقديره للمساعدة التي تلقاها من الولايات المتحدة منذ وصوله. قال: «لولا أمريكا، لكان ابني ميتًا»، مشيرًا إلى أحد أبنائه المراهقين، الذي اختفى عن الأنظار على الفور. كان هذا الابنُ وإحدى بنات أبي شهاب يُعانيان من مشكلةٍ صحية في الكُلَى تطلبَت حقنًا متكررةً من نوعٍ لا تستطيع الأسرة تحمل تكلفته. في سوريا، ملاذه الأول بعد مغادرة العراق، لا تدفع الدولة مقابلَ هذا النوع من الرعاية الطبية، وكانت عائلة أبي شهاب فقيرةً حتى وَفقًا لمعايير الشرق الأوسط. وفي سنجار، كانت فرصُه في تأمين رعايةٍ طبية مناسبة لطفليه المريضَين أقلَّ بكثير. أخبرني أنه لا يوجد سوى مستشفًى واحدٍ مكوَّن من عشرة أسِرَّة في المنطقة، التي يقطنها نصفُ مليون شخص. رفع أبو شهاب يده على شعره المصبوغ باللون الأسود. وقال: «إن هذا الدَّين على رأسي!»، بمعنى أنه كان يُقِر بالدَّين الذي يدين به لأمته المختارة. «لم نُحارب أبدًا ضدَّ أيِّ دولة أخرى من أجل أمريكا، ولسنا من هنا، لكننا نحصل على رعاية صِحية مجانًا بسبب إنسانية الناس. في العراق نحن أهلُ البلد ولا نحصل على شيء.»

بدَت علاقاتهم مع جيرانهم، في هذه الضاحية التي يغلب عليها ذَوو البشَرة البيضاء من الطبقة العاملة، جيدةً (حيث جاء أحد الجيران أثناء وجودي هناك، وأوضح لي أنه تمنى لو كان بمقدوره أن يفعل شيئًا لمساعدة الإيزيديين في العراق؛ لأنه من خلال ما عرَفه من أبي شهاب، بدَت حياتهم فظيعة). كان الشيء الوحيد الذي أزعج الأسرةَ بشأن الثقافة الأمريكية هو الطريقة التي كان يُصوَّر بها دينُهم. قال أبو شهاب إنه سمع مراسل شبكة سي إن إن يصف الإيزيديين بأنهم «أبشع ديانةٍ في العالم». وبالرغم من أنني وجدتُ صعوبةً في تصديق ذلك، لكنه كان متأكدًا تمامًا مما سمع، وقال إنه يأمُل أنني إذا كتبتُ كتابي، فعلى الأقل لن يقول أحدٌ ذلك مرة أخرى. في الواقع، غادرتُ معجبًا بكرم ضيافةِ العائلة، ونظافة بيتهم (وهي سِمة معروفة لدى كلٍّ من البيوت المندائية والإيزيدية في العراق)، والتقارب بين الأجيال. وإذ كانت هذه هي المرةَ الأولى التي أزور فيها بيتًا إيزيديًّا؛ أدهشَني أيضًا مدى قلة الأدلة على دينهم. كانت توجد علامتان على دينهم: صورة للالش — لوحة فنِّية مرسومة وليست صورةً فوتوغرافية — موضوعة على الخِزانة، وبالطبع صورة الطاووس الإلزامية.

الصور الأخرى في غرفة المعيشة كانت كلُّها للعائلة؛ وخاصةً أصغر أفرادها، ابنة أبي شهاب البالغة من العمر ثلاث سنوات، نالين. كانت تُخفف من كآبة بعض محادَثاتنا، عادةً بالاستلقاء على الأريكة واضعةً رأسها بالأسفل ورافعةً ساقَيها في الهواء، أو جعلِ يدَيها تبدوانِ مثل النظارة المعظِّمة والتحديق فينا من خلالها. أوضح ميرزا أنها كانت مغرَمةً بشكل خاص بأجدادها، وأنهم يعاملونها بقدرٍ كبير من المودة. تساءلت كيف ستكون حياتها عندما تكبر؛ خاصةً، عندما تصبح كبيرة بما يكفي للزواج. فقواعد الزواج الإيزيدية معقَّدة وصارمة للغاية. والأمر لا يقتصر على ضرورة زواج المرأة الإيزيدية من رجلٍ إيزيدي فحسب، بل يجب أن يكون من الطبقة الصحيحة والعشيرة الصحيحة. ويتعيَّن على بعض العائلات العراقية من الطبقة الأصغر (طبقة البير المتوسطةِ المقام) أن تجد أزواجًا أو زوجات في بلدانٍ أخرى. على سبيل المثال، قد يجد رجلٌ عراقي زوجةً في الجالية الإيزيدية في روسيا. وللتأكُّد من أن الزواج يتبعُ هذه القواعد، تجبر بعضَ العائلات أطفالها على الزواج عندما يبلغون من العمر خمسةَ عشر أو ستة عشر عامًا فقط. كانت عائلة أبي شهاب من طبقة المريدين، وهي أدنى طبقة. وفي أمريكا، قد يكون هناك عددٌ قليل من الرجال المناسبين لنالين. وفي ديانةٍ تُطالب أتباعَها بقليلٍ من المطالب، كان هذا مطلبًا لا يمكنهم عِصيانه.

أرادت العائلةُ أن تُريَني المعالم السياحية المحلية؛ لذلك زرنا شلالاتِ نياجرا، ووضَعوا قُرصًا مضغوطًا للموسيقى الإيزيدية في ستيريو السيارة. أخبرني أبو شهاب أن المطرب كان يسمَّى خضر فقير. وقد رُزق بموهبته الموسيقية فجأة. فعندما كان شابًّا في حقول سنجار، ظهر له القديس الإيزيدي خضر إلياس في حُلم. وعندما استيقظ، كان بإمكانه الغناءُ والعزف على العود (الباجلاما التي تُشبه الجيتار) أفضلَ من أي إيزيدي على وجه الأرض. زادت قيمةُ خضر إلياس لدى أبي شهاب عندما رفَض ارتداء الملابس الكردية أثناء العزف. قال أبو شهاب: «كان يرتدي فقط الملابسَ الإيزيدية.» وكان هو وميرزا حريصَين على التأكيد على الهُوية الإيزيدية باعتبارها شيئًا منفصلًا عن الهوية الكردية، وسخرا مني لقضائي بعضَ الوقت في العراق مع الإيزيديين الموالين للأكراد.

كانت هذه العائلةُ من الإيزيديين وحيدةً تمامًا في بافالو، حيث عاش أقربُ أبناء دينهم في لينكون، نبراسكا، على بُعد آلاف الأميال. ويبدو أن رغبتهم في أن يكونوا على طبيعتهم، والتمسُّكِ بتقاليدهم، ظلَّت قوية. أخبرني أبو شهاب أن أفراد العائلة كانوا يرتادون كنيسةً مسيحية عندما وصلوا إلى أمريكا. وقد ساعدهم الناسُ في الكنيسة عندما كانوا جُددًا هناك، وما زالوا يشعرون برِباط الصداقة معهم. وأضاف مؤكدًا: «لكننا لم نتخلَّ عن معتقداتنا.» وسمحَت خِدمات الاتصال الهاتفي عبر الإنترنت، مثل سكايب، للإيزيديين المشتَّتين بالبقاء متَّصلين بعضهم ببعض. وقد ظهرَت مجموعاتٌ افتراضية في جميع أنحاء العالم، وأتاحت سُبلًا جديدة للعثور على شركاءِ زواج محتمَلين لأطفالهم. ومع ذلك، يظل الإيزيديون في أمريكا يواجهون تحديًا كبيرًا: فكما هو الحال مع الدروز، قلةٌ منهم يعرفون أصولَ دينهم. قال أبو شهاب إنه كانت ثَمة خُطةٌ لإنشاء مركزٍ اجتماعي في نبراسكا حيث يمكن للناس أن يجتمعوا للعبِ الورق وتعلُّم أساسيات الدين. «المشكلة هي أن الجيل الأكبرَ سنًّا، مثل والدي، ضيِّق الأفق. فهو يعرف أشياءَ عن الدين لكنه لن يُخبرنا بها. وحده الشيخ ميرزا هو الذي سيُخبرنا بهذه الأشياء.» قاطعَته زوجتُه قائلة: «من المحتمل أنك تعرف عن ديننا أكثرَ مما نعرف.» فالإيزيديون سيشعرون بالحيرة عندما يُضطَرُّون إلى شرح معتقداتهم للآخرين أو المشاركة في جدالٍ ديني.

وكذلك لا يوجد نظيرٌ لهم في المجتمع الأمريكي. فالمسيحيون الشرق أوسطيون لديهم رابطةٌ فورية مع المسيحيين الأمريكيين، ويمكن للمهاجرين المسلمين العثورُ بسهولة الآن على مجتمعات من المسلمين الأمريكيين الذين سيُقدمون لهم نوعًا من المساعدة العَملية ومكانًا لممارسة العبادة. لكن الإيزيديين بمفردهم — باستثناء أمارو مارك بينكهام، كبيرِ رهبان الجماعة الدولية لفرسان الهيكل الغنوصيِّين. فقد أخبرني كبيرُ الرهبان أنه كان يتأمَّل في أمريكا الجنوبية، حيث كان يُجرب طرقًا جديدة لعيش الواقع، عندما وجد نفسه فجأة محاطًا بمجموعة من الطواويس. وإذ شعر بالحيرة مما رآه، سأل فيما بعدُ أصدقاءه بشأنه، ووجَّهه أحدُهم نحو الإيزيديين. وأضاف إلى سلسلته «أسرار فرسان المعبد» (سواءٌ الكتب أو مقاطع الفيديو عبر الإنترنت) حلقةً جديدة وأخيرةً اسمها: «أسرار الملاك الطاووس». وعلى موقع الإنترنت، تصف جماعتُه نفسَها بأنها «مُكرَّسة لإحياء الحكمة الغنوصية وتقليد الإلهةِ لفرسان الهيكل الأصليين». وعندما تواصلتُ معه في عام ۲۰۱۳، كانت المنظمةُ تتألف من ثلاثين إلى أربعين عضوًا؛ وتعود بداياتها وَفقًا لكبير الرهبان بينكهام (المُصوَّر على الموقع الإلكتروني مع زوجته، وكلاهما يرتديان تيجانَ الأسقفِّ الطويلة جدًّا باللونَين الأحمر والأبيض) إلى يوحنا المعمدان مرورًا بمريم المجدلية وفرسان المعبد. لكنه كان يأمُل في أن يؤدِّيَ تدريب «جيداي المعبد»، الذي قُدم اعتبارًا من عام ۲۰۱٤ فصاعدًا، إلى زيادة أعدادهم.

كنتُ متشككًا بشأن حقيقة اتصاله التاريخي بيوحنا المعمدان، لكن الإيزيديين رحَّبوا بمساعدته — رغم أنهم لم يستطيعوا أن يسمحوا لبينكهام نفسِه بالانضمام إلى ديانتهم. كان هذا، على أيِّ حال، ما قاله لي الإيزيديون في لينكون عندما زرتُهم عام ۲۰۱۳. وبعد أن سمعتُ من أبي شهاب والشيخ ميرزا أنه توجد جماعةٌ أكبر بكثير في نبراسكا، كنتُ حريصًا على معرفةِ كيف نجَت إحدى الأقليات الدينية العراقية في أمريكا الوسطى. وعندما وصلتُ إلى مطار لينكون الصغير، كان بانتظاري مجموعةٌ مكوَّنة من عشرين إيزيديًّا ليُرحبوا بي؛ فحتى في ولاية كورنهوسكر [نبراسكا] يظهر كَرم الضيافة العراقي. وكان كثيرون منهم وافدين حديثًا وكانوا قد وصلوا إلى لينكون بفضل البرنامَج الفيدرالي لإعادة توطين اللاجئين.

كان باسم، الذي كان يعيش هناك منذ عدةِ سنوات، مضيفي خلال الزيارة واتَّضح أنه أشبهُ بمنظِّم مُجتمعي. ورتَّب لمقابلتي مع ستةِ إيزيديين في مقهًى في وسط مدينة لينكون. كان أحدهم من طبقة البير، واستخدمه واحدٌ من الآخرين في المجموعة مثالًا على أنهم اضطُرُّوا إلى تغيير عاداتهم. «إنه من طبقة البير، وفي وطننا عادةً نُقبِّل يده عندما نلتقيه. لكننا لا نفعل ذلك هنا.» نظر إلى الأرضية الخشبية المكشوفة، والقسمِ الداخلي البسيط من المقهى، الذي كان جميعُ زبائنِه الآخرين يضَعون سماعات الرأس ويحدقون في أجهزة آي الباد الخاصة بهم. «سيظن الناس أنه تصرفٌ غريب.» كان معظم هؤلاء الرجال قد وصَلوا في السنوات الثلاث الماضية. وقد عانى أحدهم من صدمته الثقافية في وقتٍ مبكِّر حيث قضى مدةً أطولَ من ذلك في البلد والتحق بالمدرسة الثانوية في لينكون. وقال: «كان من الصعب عليَّ قَبولُ رؤية الأولاد والبنات يُقبِّل بعضهم بعضًا عند الخزائن. ولم أكن قد رأيتُ مدينةً كبيرةً من قبل.» وصُدم آخَرُ وصل حديثًا من شيء آخَر. قال، وهو يشهق: «البنادق التي يبيعونها علانيةً في المحلات التِّجارية هنا. في بغداد لن تجدَ أبدًا أسلحةً كهذه للبيع!»

كانوا قلقين من أن طائفتهم لن تُحافظ على الديانة الإيزيدية مدةً طويلة. قال باسم: «ليس لدينا أموالٌ للاحتفال بأعيادنا. لذا فإن الرابع من يوليو يعتبر أهمَّ من رأس السنة الإيزيدية؛ لأن الجميع يحتفلون به. فالإيزيديون يحتفلون بعيد الميلاد وليس جارشما سور «الأربعاء الأحمر».» وأضاف أن أحد الشيوخ ما زال يُضيء ۳٦٦ شمعةً في البيت للاحتفالات الدينية، ونظم بسام نفسُه من حينٍ لآخرَ مسابقةً حول الدين، يختبر فيها مدى معرفة الإيزيديين بالتقاليد الإيزيدية. لكنهم كانوا جميعًا يُعانون من عدم المعرفة الكافية. قال أحدهم متأسفًا: «إذا سأل أطفالي عن ماهية الإيزيدي، فلن أستطيعَ إخبارَهم.» وأخبرني الرجل المنتمي إلى طبقة البير أنه واجه تحديًا صعبًا بشكلٍ خاص. فقد كان من المفترض أن يتزوَّج ضمن طبقته الفرعية المحددة، التي كادت الآن أن تنقرض. قال: «كان في مدينتي خمسة عشر ألف إيزيدية، لكنني لم أستطع الزواجَ من أيٍّ منهن.»

سألتُهم إن كانت لديهم مشكلةٌ في شرح دينهم للناس في أمريكا، لكن الردَّ كان أنه لم يكن يوجد لدى الناسِ اهتمامٌ كبير بأن يسمَعوا عنها. «فالناس لا يريدون طرحَ أسئلةٍ غيرِ محددة. يسألون فقط: «هل أنت مسلم؟» فقد حدَثَت بعضُ المشاكل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ لأن الناس ظنُّوا أننا مسلمون.» وكما هو الحال مع أبي شهاب، كانوا يشعرون بالامتنان تجاهَ أمريكا، حيث كانت شكاواهم موجَّهةً في الغالب إلى الحكومات في الشرق الأوسط. وتحدَّثوا عن مسئول جماركَ أردنيٍّ سخر من التراب المقدَّس من لالش الذي حاولَت إحدى العائلات اصطحابه معها على متن الطائرة وتخلَّص منه. وتحدَّثوا عن تركيا، حيث لا يزال يتعين على الإيزيديين (حسبما قالوا) الإعلانُ عن أنفسهم بوصفهم مسلمين، وحيث لا يزال من الممكن رؤيةُ الصخور التي قُطِعَت عليها رءوس الإيزيديين الذين رفضوا تغيير دينهم خلال مذابح عام ۱۹۱٧. كانوا قلقين من الأخبار الواردة من كردستان، حيث كان مُثيرو الشغب قبل بضعة أشهر قد أحرَقوا متجرًا لبيع المشروبات الكحولية مملوكًا للإيزيديين (أرَوني مقطع الفيديو). لم يكن لديهم حنينٌ للشرق الأوسط. قال الشاب الذي ذهب إلى المدرسة الثانوية في أمريكا: «هناك حقوقٌ للسجناء هنا أكثرُ من حقوق الأحرار هناك. لا أظن أنه يوجد أيُّ بلد يُعامل المهاجرين بطريقة أفضل. كل ما عليَّ فِعله هو أن أوضِّح للوافدين الجدد أنه من الطبيعي ألا يُحيِّيَكم الناس هنا.» غالبًا ما يُعتبر الناس في البلدات الأمريكية الصغيرة، خاصةً في مناطق الغرب الأوسط، وَدودين بشكل غير عادي، لكن من منظور هؤلاء القرويين الإيزيديين، بدَوا باردين وفاترين من ناحية مشاعرهم.

figure
يُظهر باسم، وهو إيزيدي في لينكون، نبراسكا، تبجيله لملك طاووس من خلال تزيين غرفة معيشته بصورة طاووس وريشِه. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

•••

بعد فِرار هؤلاء المهاجرين من الانحدار والتضاؤل الذي تُعاني منه طوائفُهم في أوطانهم، كانوا في معظم الأحيان يزدهرون في الولايات المتحدة، حيث يبنون أماكنَ عبادةٍ جديدةً ويكتسبون مزيدًا من الثقة. يعيش المسيحيون في سوريا في خوفٍ في ظل ما حدث لإخوانهم في الدين في العراق. لكن في ديترويت، يضع الأب شلهوب اللمسات الأخيرة على مجموعةٍ أخرى من الأيقونات الرائعة. فالكنائس في بغداد تخلو شيئًا فشيئًا من الناس، لكن في بوسطن أنشأتْ راهبةٌ عراقية تعمل قسيسةً في جامعة بوسطن رهبانيةً جديدةً للنساء في تلك المدينة الأمريكية. وفي لندن، تُعلِّم نادية قطان، المتزوجةُ من بريطاني، أطفالَها تُراثهم العراقي، وتُعِد شاهين الماءَ الذي يمكن للأطفال الزرادشتيِّين رشُّه بعضهم على بعض للاحتفال بانقلاب الشمس الصيفي، تمامًا كما كان يفعل أسلافهم الفارسيون في عيد تيرجان كل عام.

•••

بدأتُ هذا الكتاب ببعض الملاحظات حول سبب مغادرة الأقليات للشرق الأوسط. وبعد أن أمضيتُ أربع سنوات في مقابلتهم وقراءة تاريخهم، صرتُ أهتم بهم أكثرَ من أي وقتٍ مضى. إذن ما الذي يمكن فعله؟ إنها شعوب الشرق الأوسط هي التي يجب عليها، أكثرَ من أي شخص آخر، أن تُرمِّم مجتمعاتِها المحليةَ المفكَّكة. وقد يمنحهم الفهمُ الأفضل للتاريخ شيئًا يمكن للجميع، بغضِّ النظر عن الدين، أن يتشاركوا الشعورَ بالفخر تجاهه. أذهلني شيءٌ قالته لي صديقةٌ مسلمة متدينة من العراق بعد أن زارت المتحفَ البريطاني: «كان من المدهش اكتشافُ أن تاريخ بابل كان أعظمَ حتى من تاريخ مصر، وأنها كانت مهدَ الحضارات؛ لم أكن أفهم أبدًا ما يعنيه ذلك. إن سَماع قصةِ ملحمة جلجامش، وإدراكَ أن جزءًا هائلًا من تراثي كان في المُتحَف البريطاني منحني ما هو أكثرُ من صَدَّام لأتعلق به.» وأفضل ما في الأمر، أن معرفة التاريخ يمكن أن تُساعدنا جميعًا — أينما كنا — لنرى أن أيَّ حضارة، سواءٌ كانت رومانية، أو عربية، أو بريطانية، أو أمريكية؛ تكون في أنجح حالاتها عندما تكون أكثرَ انفتاحًا على الآخرين وأفكارهم.

لكن ماذا يمكن للناس خارج الشرق الأوسط أن يفعلوا للمساعدة؟ أيُّ شيء يريد الغرباء فِعله لمساعدة الأقليات يجب أن يستند إلى سياسةِ نوايا حسنة تجاه جميع السكان. فالمدارس المسيحية، على سبيل المثال، أفادت المسيحيين في العراق، وفلسطين، ولبنان أكثرَ من أي شيء آخر؛ لأنها كانت مفتوحة للأطفال المسلمين، وبذلك حقَّقَت هدفًا ثُلاثيًّا تمَثَّل في جعلِ المسيحيين أكثرَ قدرةً على الحصول على لقمة العيش، وكسبِ النوايا الحسنة من المسلمين، وتوفير التعليم الإنساني للجميع. (ومما كان له أهميةٌ بالغة، أنهم لم يُحاولوا تغييرَ دينِ تلاميذهم المسلمين.) وعلى النقيض من ذلك، أدَّت التدخُّلات العسكرية الغربية بشكلٍ عام إلى انتكاسةٍ في قضية الأقليات، وليس إلى إحراز تقدُّمٍ فيها. فأفراد أيِّ أقلية يحتاجون إلى الحماية من مُواطنيهم، وليس من الأجانب الذين يُقيمون مدةً وجيزة ثم يُغادرون. عادة ما يُقلِق عدمُ الاستقرار الأقلياتِ التي تشعر أنها مستضعَفة بشكلٍ خاص (وتكون كذلك بالفعل). وفي الآونة الأخيرة، عَجَّل غزوُ العراق بهجرةٍ ضخمة للمسيحيين والمندائيين من البلاد حيث تصاعَدَت الأمور إلى حرب أهلية.

في الوقت ذاتِه، تُشارك حكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ودول أخرى في الشرق الأوسط بعدةِ طرقٍ أخرى. فهي تمنح تمويلًا من أجل التنمية. وتُقدم الدعمَ العسكري. كما أنها، من خلال العمل مع الناس والمنظَّمات، تمنحهم كاملَ الدعم والتقدير. وعندما تفعل ذلك، يمكنها ويجب عليها اتخاذُ موقفٍ حازم في مواجهة أولئك الذين يُحرضون على الكراهية الدينية، بغضِّ النظر عن دينهم (تذكَّر في الفصل السادس كيف انتقد كاهنٌ قبطي الدعايةَ المعادية للمسلمين التي يبثُّها أحد الكهنة من قبرص). إن عدم التركيز على التطرُّف إلا عندما يصبح عنيفًا يتجاهل حقيقةَ أن العنف يكون نهايةَ عمليةٍ طويلة من التطرف، تبدأ بتشجيع الغضب والكراهية. وينبغي على الحكومات الغربية أن تأخذ المعتقدَ الديني على محمل الجِد، وأن تفهمَه جيدًا بما يكفي لتمييز الفرق بين المؤمن المتحمس والداعي إلى الكراهية.

أخيرًا، حق اللجوء متاحٌ في دولٍ مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا للأقليات الدينية، وهذا في ذاتِه يُغريهم بمغادرة بلدانهم الأصلية. ويحمي اللجوءُ المسيحيين، والإيزيديين، والمندائيين العراقيين من خطرٍ مباشر، ووجدتُ أنهم ممتنُّون للغاية ويشعرون بولاءٍ قوي لأوطانهم الجديدة، لكن اللجوء أيضًا يؤدِّي إلى تلاشي مجتمعاتهم المحلية في أوطانهم الأصلية. يوجد حلٌّ جزئي لهذه المشكلة، وهو مساعدةُ أفرادٍ هذه المجموعات على التمسُّك بتقاليدهم وبناء مجتمعات لهم في أوطانهم الجديدة. وأتمنى أن يُشجعهم هذا الكتابُ على فعلِ ذلك، من خلال الاحتفال بتقاليدهم وتاريخهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤