الفصل الثاني

الإيزيديون

في أيِّ يوم عند الفجر، عند النظر إلى أعلى، صَوْب مبنًى سكَني بشارعٍ بإحدى المدن الكَندية، يمكن للمرء أن يرى نافذةً مُضاءة: حيث يُصلي ميرزا إسماعيل كما يصلي وقتَ الظهيرة وعند الغروب. لا يجوز لأي شخص دخيلٍ أن يشهد صلاته، وبما أنه لا يوجد عضوٌ آخرُ في مجتمعه يعيش بالقرب منه، فإنه يؤدِّيها بمفرده. في كل مرة يتجهَّز بعناية. يغسل يدَيه ووجهه ويضع حِزامًا خاصًّا يُسمى «بيشتيك» حول القميص الأبيض الذي يرتديه دائمًا. ثم يسجد للشمس ويبدأ في الصلاة بالكرمانجية، لغةِ قومه، لإلهٍ مجهول. وتقول الصلاة: «لا إله إلا الله، والشمس نور الله.» إنه يصلي أن يمنحَ اللهُ العالمَ السلام.

ميرزا رجلٌ عراقي معسول الكلام، لديه شاربٌ رمادي مشذَّب بعناية، ولأنه يُصلي في أوقاتٍ منتظمة خلالَ النهار، غالبًا ما يفترض زملاؤه ومعارفُه خطأً أنه مسلم. لكنه إيزيدي، يتبع ديانةً باطنية لها أوجُهُ تشابهٍ ظاهريةٌ مع الإسلام، لكنها مختلفة جدًّا عنه. وعلى الرغم من أنه غالبًا ما يُنظَر إلى قومه على أنهم أكرادٌ ويتحدثون اللغة نفسَها (الكرمانجية) مثلَ جيرانهم الأكراد، فإنه يُصرُّ على أنهم شعبٌ منفصل. يُطلق عليهم أحيانًا الإيزيديُّون، ويبلغ عددُهم مئاتِ الآلاف في شمال العراق وفي أجزاءٍ من سوريا، وجورجيا، وأرمينيا، وشمال غرب إيران. يؤمن الإيزيديون بتناسُخ الأرواح، ويُقدِّمون الثيرانَ قَرابين، ويوقِّرون مَلاكًا يتخذ شكلَ طاووس. وتحظر عليهم تقاليدُهم أكْلَ الخسِّ أو ارتداءَ ملابسَ زرقاء؛ ويجب أن يُربي الرجالُ شاربهم، على الرغم من أن القليل منهم يُطلِقون اللحية. إنهم أيضًا ضحايا افتراءٍ قديم؛ تُهمة أنهم يعبدون الشيطان. وكانوا ضحايا ثاني أخطرِ هجوم إرهابي في التاريخ.

figure
ميرزا إسماعيل وصديقه أبو شهاب في سنجار، بشمال العراق. الصورة مُهداة من ميرزا إسماعيل.

وُلِد ميرزا في قريةٍ على تلالٍ مكسوَّة بأشجار البلُّوط، تُسقى من ماء الآبار في منطقة سنجار بشمال غرب العراق (مكان بعيد شمال الأهوار العراقية، حيث يعيش المندائيُّون؛ تعرف كلُّ طائفة من الطائفتَين بشأن الأخرى، ولكن التواصل بينهما محدود جدًّا). منذ زمنٍ بعيد كانت هذه المنطقة جزءًا من الإمبراطورية الآشورية، التي كانت تمتلك الكثيرَ من القواسم المشتركة ثقافيًّا مع البابليين؛ لكنها انتقلَت من حاكمٍ إلى آخَر مراتٍ كثيرةً منذ ذلك الحين، حيث احتلَّتها بابل، وبلاد فارس، والرومان، والعرب، وأخيرًا الأتراك. وعندما كان ميرزا صبيًّا صغيرًا، نقَلَت حكومةُ صدام حسين عائلته إلى مشروع سكَني يُسمى القحطانية. كان صدام يُحاول إخضاعَ المحافظات الشمالية المضطرِبة لسيطرةٍ حكومية أشدَّ من أجل سحقِ التمرد المتزايد هناك للانفصاليين الأكراد الذين أرادوا إقامةَ دولتهم المنشقَّة. ومع أن معظم الإيزيديين لم يعتبروا أنفسَهم أكرادًا، فإنَّ صدام لم يُجازف. ففي القحطانية، سيكون من السهل السيطرةُ على الإيزيديين، خاصةً أنه من دون أرضهم كانوا يعتمدون على المساعدات الغذائية الحكومية.

وهكذا نشأ ميرزا في أحد منازل القحطانية البسيطة المبنية من الطوب اللبِن والمكوَّنة من طابَقٍ واحد. كانت المياه تقطر من السقف خلالَ عواصفِ فصل الشتاء المطيرة نادرةِ الحدوث. وكانت الشوارع قذرة، ولم يكن يوجد نظامُ صرف صحي، لكن المدارس كانت جيدة، وكانت العيادةُ الوحيدة بالمستوطنة تُقدم على الأقل العلاجَ مجَّانًا، وكان الوصول إلى أقربِ مدينة بها مستشفًى يستغرق رحلةً طويلةً ولكنها ممكنةٌ عمَليًّا. أمام المنزل كان لكل عائلةٍ حديقة، تزرع فيها الطعام؛ الفجل، والطماطم، والباذنجان، وعبَّاد الشمس من أجل بذوره. كانت الحدائقُ تُذَكِّر هذه العائلاتِ بالوقت الذي عاشت فيه في قُراها الواقعة على التلال، وكانت تزرع محاصيلَ وافرةً من التين والزيتون. عاد ميرزا من وقتٍ لآخَر إلى التلال؛ ليُصليَ في الأضرحة الإيزيدية ذاتِ الأسطح المخروطية، وأحيانًا لإلقاء نظراتِ إجلالٍ على الكهوف الخفية المقدَّسة التي لجأتْ إليها العائلات الإيزيدية بسبب الاضطهاد في القرون الماضية.

يحتفظ الإيزيديون بقائمةٍ من اثنين وسبعين اضطهادًا تعرَّضوا له على مَرِّ القرون. وعلى وجه الخصوص، في القرن التاسع عشر، طارَدَتهم السلطاتُ العثمانية عدة مرات بوصفهم هَراطقة؛ وقد كانوا هراطقةً مُزعجين بشكل خاص لأنهم تهرَّبوا من التجنيد العسكري ولم يدفعوا أيَّ ضرائب. ومع ذلك فلم تكن مهمةُ العثمانيين سهلة. فحتى على أسهل الطرق، كانت سنجار على بُعد مسيرة يومٍ من أقربِ مدينة قبل اختراعِ السيارات. وكان الإيزيديون في العادة ندًّا جيدًا للعثمانيين؛ فباستخدام معرفتهم بالتِّلال والكهوف المحلية، تمكَّنوا من صدِّ الغُزاة ونهبِ القوافل المارَّة. وحتى عندما كانوا يُجبرون على اعتناق الإسلام، كان بإمكانهم العودةُ إلى ممارساتهم الدينية بمجرد رحيل الغرباء. وبوصفهم مُزارعي كَفاف، كان يُمكنهم العيشُ دون الكثير من المساعدات من العالم الخارجي.

عاش الإيزيديون والمسيحيُّون جنبًا إلى جنبٍ عدةَ قرون، وكانت لديهم قضيةٌ مشتركة في القرون الماضية في مواجهة السادة المسلمين. وكان الناس يُبدلون دينهم؛ حتى إن أحد الإيزيديين صار لديه اعتقادٌ بأنه كان كاهنًا مسيحيًّا في تجسُّدٍ سابق. (في الآونة الأخيرة، اتصل رجلٌ مسيحي في ألمانيا بامرأةٍ إيزيدية، زاعمًا أنه كان والدَها في حياةٍ سابقة. وكان الإيزيديون شكَّاكين.) ليس لدى الإيزيديين اعتراضٌ خاص على الصلاة في الأضرحة المسيحية، وأحيانًا يرتدون الصلبان؛ ولكن بوصفها تمائمَ للحماية من الشر، وليس علامةً على اعتقاد.

عندما بلغ ميرزا من العمر أربعًا أو خمسَ سنوات، أُخِذ شرقًا على بُعد أميالٍ كثيرة إلى مكان يُدعى لالِش. وهو يقع في وادٍ مُشجر على بُعد أقلَّ من ثلاثمائةِ ميل شمال بغداد، ويتألف من مجموعةٍ من المباني الحجرية القديمة. يُصر الإيزيديون على أن هذا المكان هو مركزُ الأرض، حيث بدأ الخلق. تحت أحد مباني لالش، في مكانٍ لا يُسمَح فيه بدخول غير الإيزيديين، غطَّس شيخ (يستخدم الإيزيديون الكلمة ذاتَها التي يستخدمها المندائيون والمسلمون لأعضاء طبقتهم الكهنوتية) يرتدي ملابسَ بيضاء ميرزا في نبعٍ مقدَّس يُسمى زَمْزم؛ وتُقام المراسم، مثل المعمودية المسيحية، مرةً واحدةً في العمر.

وُلد ميرزا نفسُه في طبقة الشيوخ. قال لي: «عندما كنت صغيرًا جدًّا، قيل لي كيف أُصبح شيخًا. إنه منصب مرموق؛ حيث يجب على الأشخاص الذين يتقاتلون أن يتصالحوا عندما يأتي بينهم شيخ.» كان الشيوخ فئةً من فئات الشخصيات الدينية التي يحترمها الإيزيديُّون، إلى جانب «الفقير» الناكر للذات، و«القوَّال» الذي يُردد الأناشيد الدينية المقدَّسة، و«الكوتشيك» الذي يحرس الضريح في لالِش، و«البير»، الذي تُمثل طبقتُه طبقةً كهنوتيةً أدنى من الشيوخ. كان الإيزيديون بحسَب العادة يعتمدون على الشيوخ في إجراء معجزاتٍ بالإضافة إلى التوجيه الروحي. عالجَت عائلة من المشايخ أمراض العيون باستخدام اللعاب أو غُبار من مقبرة أجدادهم، وألقت أخرى تعاويذَ على الثعابين. وتجنَّب جميعُهم الأعمال اليدوية وعاشوا على الصدَقات. عادةً ما كانت الطائفة الإيزيدية تكره القراءة والكتابة (وهو أمرٌ نعرف أنه ينطبق أيضًا على الفُرس القدماء)، وقبل قرنٍ من الزمان، تميَّزَت عائلة ميرزا عن غيرها من الشيوخ بإلمامها بالقراءة والكتابة.

وكانت عائلة ميرزا مكرَّسة خُصوصًا لملك شيخ حسن، الذي يعتقد الإيزيديون أنه كائنٌ خارق ونائبُ الوصيِّ على العرش من الملائكة الذين سيطرَت مشيئته على الكواكب والنجوم. ويعتقد الإيزيديون أنه اتخذ شكلًا بشَريًّا يومًا ما باسم الشيخ حسن، وكان قبره في لالِش. لاحظتُ أن ميرزا دائمًا لا ينطق المقطعَ الأول من اسم حسن؛ لذا بدا الاسم مثل «شيخ-سَن» أو «شيخ-سِن». كلمة «شيخ» تعني «كبير» أو ربما «سيد»، وفي العصر البابليِّ والآشوري كان الناس في سنجار والمناطقِ القريبة منها يعبدون الربَّ سين، إلهَ القمر. وبالمثل يُقدس الإيزيديون شيخ شمس الذي يُشبه اسمُه اسمَ شماش، إله الشمس عند الآشوريِّين. واسمه ليس نقطةَ التشابُه الوحيدةَ؛ فقبر شيخ شمس هو مكانُ إقامة الطقس الذي مَجَّد منذ آلاف السنين شماش: التضحية العظيمة بالثور.

والغرضُ من التضحية هو جلب المطر في الشتاء والخصوبة في الربيع الذي يليه. ولذلك يُجلَب ثورٌ صغير لا يقلُّ عمره عن عام إلى داخل حرم لالش، ثم يُطارده إلى ضريح الشيخ شمس رجالٌ كانت قبيلتُهم تتمتَّع بهذا الشرف منذ قديم الأزل. ويحمل الرجال عِصيًّا رفيعة لقيادة الثور؛ ويحمل رجالٌ آخرون بنادقَ آليةً لإطلاق النار في الهواء للاحتفال. وعندما يصل الثور إلى ضريح الشيخ شمس، يؤسَر ويقترب منه شيخ ليهمسَ في أذنه ثم يذبحه. يكاد يمكن وصفُ الحدث بكلماتِ مَلحمة جلجامش التي مضى عليها أربعةُ آلاف سنة: «ولما قتَلوا الثور اقتلَعوا قلبَه ووضعوه أمام شماش إله الشمس، وتراجعوا وسجَدوا أمام شماش في إجلال». وليس هذا هو العيدَ الوحيد المتعلِّق بالشمس عند الإيزيديين. فهم يلتزمون بصيامِ ثلاثة أيام في ديسمبر، يليها يوم عيد يُسمَّى عيد الصوم. فمنذ زمنٍ بعيد عندما لم تظهر الشمس، جعلَت ثلاثةُ أيام من صلاةِ وصيام الإيزيديين الربَّ يُعيد الشمس؛ وهذا الحدَث إحياءٌ لذِكرى تلك المناسبة.

العقيدة الإيزيدية، مثل المندائية، ديانةٌ غامضة. وعلى النقيض من حِرص الإيزيديين على إيصال رسائلها الباطنية وإقناع الآخَرين بها، يُريد رجال الدين إبقاءها سرية. ونظرًا إلى أن ميرزا كان ينتمي إلى طبقة الشيوخ، فقد كان من حقِّه تعلُّمُها؛ ولكن كان عليه أن يظفر بحقِّ اكتساب هذه المعرفة. إذا التزم بارتداء جميع ملابسه باللون الأبيض دائمًا، والصيام مرتين في السنة مدةَ أربعين يومًا في كل مرة، متخلِّيًا عن كل الطعام خلال ساعات النهار والبقاء في المنزل، فسيكتسب حينَها القدرةَ على التنبُّؤ بالمستقبل، وأولئك الذين اتخَذوا هذه الخطوة قبله سيُعلِّمونه كتب الإيزيديين المقدسة غير المكتوبة. أخبرني ميرزا أن هذه الكتب المقدسة قد دُوِّنت مرةً ولكن العلماء الغربيين سرَقوا المخطوطات؛ وكل ما تبقَّى هو لَفيفة جِلدية عليها كتابةٌ ذهَبية، كان يعتقد أنها ستُظهر له تاريخَ شعبه. (في الواقع، المخطوطات التي اعتقد العلماء الغربيون يومًا ما أنها كتب الإيزيديين المقدَّسة تبيَّن حينها أنها مزيَّفة، واتضح أن الكتب المقدسة الحقيقية تُنقَل شفهيًّا. لقد أُخفيت أسرار الديانة جيدًا، حتى عن أتباعها.)

ما كان ميرزا يعرفه بالفعل هو أن النبي الأول هو إبراهيم والنبي الأخير هو محمد، لكن العناصر الأربعة كانت أهمَّ من أي نبي. أعظم هذه العناصر كان النار، وكانت الشمس الوسيطَ الرئيسي بين البشر والإله المجهول. وأوضح أن «الإيزيديين والآشوريين عبَدوا الشمس». كان يعلم أيضًا أن الإيزيديين توقَّعوا أن تتناسخ أرواحهم — كرجال، أو ربما كحيوانات. (وجَدتُ أنه من الغريب أن ميرزا لم يكن متأكدًا من هذه النقطة، لكن بدا أن العديد من الإيزيديين غيرُ مهتمِّين بالحياة الأخرى، أو ربما يتكتَّمون بشأن معتقَداتهم.) لقد اعتبروا الفلاسفةَ اليونانيين أنبياء. وكانت الشخصية الأساسية في دينهم هي شخصيةَ الملَكِ الطاووس، كما اكتشفتُ عندما ذهبتُ إلى لالِش بنفسي.

•••

كنت أرغب في الذَّهاب إلى لالِش منذ أن سمعتُ عنها عندما كنتُ أعيش في بغداد. سافرتُ إلى هناك في عام ۲۰۱۱، وبدأتُ الرحلة من إحدى ضواحي إسطنبول غيرِ الساحرة حيث استقلَلتُ حافلةً للمرحلة الأولى من رحلة الألف ميل التي استغرقَت ثلاثين ساعةً إلى العراق. خلال اليوم التالي، شاهدتُ تغير المناظر الطبيعية من حولي أثناء سفرنا من الركن الشماليِّ الغربي لتركيا إلى أقصى الجنوب الشرقي، حيث يمرُّ الطريق إلى العراق. وإسطنبول، حيث بدأت الرحلة، هي أكبر وأغنى مدينةٍ في تركيا؛ فالأرض في المناطق الساحلية بتركيا خِصبة، والطقس متوسطيٌّ معتدل. جنوب شرق البلاد، على النقيض، حارٌّ وفقير، والكثافة السكانية به منخفضة. وهنا تقع مدينة أورفة (سالينورفا) في واحةٍ ضخمة مُحاطة بمنطقة شبهِ صحراوية. في القرن الرابع الميلادي زار أورفة، التي كانت تُعرَف سابقًا باسم الرها، حجَّاج مسيحيون حريصون على رؤية رسالةٍ يفترض أن يسوع كتبَها خلال حياته إلى ملك الرها، أبجر. كان من بين الحجاج كاتبةُ يوميات تُدعى إجيريا، يمكننا أن نرى من كتاباتها أنه كان يوجد أيضًا وثنيُّون لا يزالون يعيشون في الرها ويعتبرون الأسماكَ في الأنهار المحلية مقدَّسةً ويرفضون قتلها. وبوصفها مسيحية، حرَصَت إجيريا على تناول هذه الأسماك (علَّقَت قائلة: «طعمها لذيذ جدًّا»).

اليوم أورفة مدينةٌ مسلمة، وفي مركزها مسجدٌ مزخرفٌ محاطٌ بحديقة تتجوَّل فيها العائلات والأزواج في طقس المساء البارد نِسبيًّا. وبعد الوصول إلى المدينة واستقراري في دار ضيافةٍ مَحلِّية، انضممتُ إليهم، وأنا أفكر في ماضي المدينة. كانت توجد مستوطنةٌ في هذا الموقع منذ آلافِ السنين؛ على سبيل المثال، ما بين ۲۰۰۰ و٦۰۰ قبل الميلاد في زمن الإمبراطورية الآشورية، التي يرِد ذِكر مَلِكها الأسطوريِّ النمرود في الكتاب المقدَّس وكانت عاصمتُها نِينَوى تقع مكان الموصل اليوم. تأسَّسَت المدينة الحديثة على يدِ أحد مُساعدي الإسكندر، ثم تغير حُكامها بعد ذلك عدة مرات حيث تقاتل عليها الرومان، والفُرس، والبيزنطيُّون؛ وفي حقبةٍ لاحقة، العرب، والصليبيون، والأتراك. وفوق المسجد، على نُتوء جبلي، لا يزال يوجد عمود طويل عليه نقشٌ باللغة السريانية المنقرضة؛ تذكيرًا بهذا التاريخ.

وتبيَّن أن توجد آثارٌ أخرى من الماضي في الحديقة: أسماك إجيريا اللذيذة. كان جدولٌ صغير يجري عبر الحديقة، ولاحظتُ أنه مليءٌ بأسماك الشبوط؛ آلاف من أسماك الشبوط، تجمَّعَت معًا بكثافةٍ كما لو كانت قد وقعَت في شبكة. كانت تتدافع، وتتلوَّى مرورًا بعضها ببعض، في ثلاثة أو أربعة صفوف. جاء رجلٌ ليقف بجواري، ورأسُه ملفوفٌ بكوفية باللونَين الأسود والأبيض. وبين حينٍ وآخر، كان أحدُ الأشخاص الذين يسيرون في الحديقة يُهرول إليه، ويركع على ركبةٍ واحدة، ويُقبل يدَ الرجل ثم يضعها على جبهته، ويُتمتم بإيجازٍ باللغة الكرمانجية. وفي كل مرة كان يحدث هذا، كان الرجل يتجهَّم بانزعاجٍ زائف وربما يُحرك يده بعيدًا في إيماءة متعالية. لكنه لم يصدَّ المتوسلين.

وأخيرًا خاطبَني الرجل. وسأل: «ربما تتساءل كيف يوجد الكثير من الأسماك هنا؟ لن يقتلها أحدٌ هنا أو يأكلها. عندما أراد الملك النمرود الشرير أن يُعاقب النبي إبراهيم، أمر بحرقه حيًّا في محرقةٍ من الجمر. لكن الله حَوَّل النار إلى ماء والجمرَ سمكًا. لهذا السبب نعتبر هذه الأسماكَ مقدَّسة.» وإبراهيم هو أبراهام، الذي يدَّعي المسلمون واليهود أنه نبي. لكن تقليد سمك أورفة المقدس كان أقدمَ من الإسلام، ويعود تاريخه على الأقل إلى عصر إجيريا وربما قبل ذلك بكثير. يومًا ما كان الناس الواقفون حول تلك البِركة يتحدَّثون الآرامية، ثم اليونانية، ثم العربية، والآن الكرمانجية، والمسيحية جاءت وذهبَت، لكن الأسماك بقيَت.

قال الرجل: «اسمي محمود.» كان مسلمًا، وكرديًّا مثل كثير من الناس في أورفة. وأوضح أنه رجلٌ له مكانة محليًّا. وبينما كنا نتحدث أخبرني عن مدينةٍ مدمرة جنوب أورفة، تُسمى حَرَّان. في ذلك المساء قرأتُ عن حران واكتشفت أنه على الرغم من أنها مهجورةٌ الآن، فقد لعبَت يومًا ما دورًا رئيسيًّا في التاريخ. يُزعم أنها المكانُ الذي عاش فيه إبراهيم قبل أن يتخذ يهْوه إلهًا له. (لقد أصبح هذا الآن موضعَ شك: فالرواية الإنجيلية بالتأكيد تجعله في بلدةٍ تُسمى حرَّان، لكنها ربما كانت بلدة تحمل الاسم ذاتَه في أقصى الجنوب.) كانت بالتأكيد المكانَ الذي تعرَّض فيه الرومانُ لواحدة من أشهرِ هزائمهم. ففي عام ٥۳ قبل الميلاد، أطلق البلوتوقراطي الروماني كراسوس ما كان يأمُل أن يكون حملةً عسكرية مثمِرة ضد الإمبراطورية الفرثية (وريثة إمبراطورية كورش الفارسية)؛ طمعًا في ذهبها واحتكارها لحركة البضائع الصينية نحو الغرب. لكنه خُدِع على يدِ عربي محلي كان عميلًا مزدوجًا للفرثيين، وقُضي على كراسوس وجَحافله على يد جيشٍ فرثي أقلَّ منهم عددًا. كانت هذه أولَ مواجهة في أطولِ حرب في التاريخ. فقد استمرَّت الأعمالُ العدائية بين روما وبلاد فارس ما يقرب من سبعِمائة سنة، تخلَّلتْها فتراتُ هُدنة.

لقد نسينا هذه الحربَ الأطول، فقد انقرَض كِلا الطرفَين، لكنها شكلَت عالمهم وعالَمنا. وفي مرحلتها الأخيرة، بعدما كان الأباطرةُ الرومان قد انتقلوا إلى بيزنطة، وجَد الفُرس حلفاء بين الجاليات اليهودية في الإمبراطورية البيزنطية؛ وفي هذه الأثناء، استخدم البيزنطيون العربَ، الذين كان بعضُهم من المسيحيين، لمحاربة الفرس. وصلت أخبارُ الحرب إلى مكةَ النائية، حيث كان النبيُّ محمدٌ يدعو العربَ إلى دين الإسلام الجديد. وفي مرحلةٍ ما، بعد انتصار الفُرس في أنطاكية سنة ٦۱۳ ميلادية، بدَت الإمبراطورية البيزنطية كأنَّها على وشك التعرُّض للهزيمة التامَّة. فكتب الإمبراطور الفارسيُّ لِخَصمه البيزنطي: «حتى لو لجأتَ إلى أعماق البحر، فسأمدُّ يدي وأخرجك»، بينما أصدر البيزنطيون عُملات نُقِش عليها عبارةُ «فليُعِن الربُّ الروم». انزعج النبيُّ محمدٌ وأتباعُه؛ لأن كان من المفترض أن الرب إلى جانب روما المسيحية. فأَنزلَت آيةٌ قرآنية السَّكينةَ على قلوبهم. وأقرَّت بما يلي: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ … وَيَوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، وبالفعل استعاد البيزنطيُّون عافيتَهم، ووجَّهوا للإمبراطورية الفارسيةِ ضربةً قاتلة؛ وخفَّضوا أجورَ المرتزقة العرب، وطرَدوهم مثل «الكلاب». غيَّر العربُ المسلمون رأيهم بشأن بيزنطةَ وتقدَّموا شمالًا للاستحواذ على أراضيها الجنوبية، وأيضًا قهر الإمبراطورية الفارسية في نهاية المطاف. لقد استنزفَت الحرب التي استمرَّت سبعَمائة عام كلتا الإمبراطوريتَين؛ وبدونها، قد لا يكون الإسلام هو الدِّينَ العالمي الذي هو عليه اليوم، وقد يكون للغرب المسيحي، وعاصمته في إسطنبول، ثقافةٌ تُهيمن عليها الزرادشتية باعتبارها المنافِسَ الشرقي.

خلال تلك الحرب، حدَثَت مواجهةٌ ثقافية شيِّقة. ففي القرن الأول الميلادي، سقَط جنوب تركيا في أيدي الرومان لأول مرة. وواجه جنود الفيالق التي نُشِرَت في هذه المنطقة ديانةً كانت غريبة عليهم تمامًا. ويبدو أنهم وجَدوها جذابة: فعندما عادوا إلى روما، أخذوا نسخةً منها معهم. كانت هذه الديانة هي عبادةَ الإله ميثرا. وكانت تتَّسم ببعض أوجُهِ التشابه مع ديانة الإيزيديين، الذين يعيش أقربُهم الآن على بُعد ۱۲۰ ميلًا شرقَ حرَّان. وشُيِّدَت كنائسُ تحت الأرض مخصصةٌ لعبادة الإله ميثرا — وقد بُنيت حول نبعٍ أو جدول، مثل الغرفة السرِّية في لالِش حيث عُمِّد ميرزا — بأعدادٍ كبيرة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. وكانت مَراسم الانضمام للطائفة الدينية صعبةً عن قصد، ولم يُسمَح إلا للمُنضمِّين بمعرفة تعاليم الطائفة غير المكتوبة (التي ظلَّت سريةً للغاية، في الواقع، لدرجة أننا لا نعرف عنها اليوم إلا أقلَّ القليل). لم تكن هذه نقطةَ التشابه الوحيدةَ بين الإيزيديين وعبادة ميثرا. فكِلتا الديانتين تضمَّنَت الصلاة ثلاثَ مرات في اليوم، وتقديسَ الشمس، وارتداءَ الأحزمة، والتضحية بالثيران. وأخيرًا، أطلق عبَدة ميثرا على أنفسِهم «المتحدين بمصافحة الأيدي». للعقل الحديث يبدو ذلك أمرًا غيرَ استثنائي: فما الذي يُميز إيماءةً كانت عادية جدًّا؟ لكنها لم تكن في ذلك الوقت إيماءةَ التحية المعتادة التي أصبحَت عليها منذ ذلك الحين في الغرب. ويبدو أنها أصبحَت كذلك بفضل الميثرائيين — التي كانت تمثل لهم أحدَ طقوس الترابط، كما هو الحال عند الإيزيديين. اختفت الديانةُ الميثرائية في النهاية عندما أصبحَت المسيحية منتشرةً في الإمبراطورية الرومانية، لكن هذه الإيماءة استمرَّت. وبعدما تجرَّدَت تمامًا من جميع ارتباطاتها الروحانية، أصبحَت الآن إيماءةً عالمية تدلُّ على المودَّة.

لا يوجد عالمٌ يعرف التاريخَ الكامل للإيزيديين. كما أن العزلة والسرية اللَّذَين بَقُوا بسببهما في مأمنٍ من التدخل الخارجي أبعَداهم أيضًا عن معظم كتب التاريخ. وعلى عكس المندائيين، الذين عاشوا في عُزلة نسبية في الأهوار العراقية، تعرَّض الإيزيديون للعديد من الأديان والثقافات المختلفة وتأثَّروا بها على مدى الألفَيْ سنة الماضية. وسيكون من الخطأ أن نظنَّ أنهم «نفس» هذا الدِّين القديم أو ذاك لمجرد أنَّ لديهم سِماتٍ ثقافيةً مشتركة. ثَمة اختلافاتٌ بين الإيزيديين والميثرائيين: على سبيل المثال، الإيزيديون لديهم ثلاثُ طبقات رئيسية والميثرائيون لديهم سبع؛ لم تكن أورفة في العصر الروماني تتحدَّث الكرمانجية؛ ومن الناحية العِرقية، قد لا ينحدر الإيزيديون المعاصرون من نسل شعبِ أورفة. لكنَّ خِبْرتنا بشأن الدين خاضعةٌ جدًّا للمسيحية، واليهودية، والإسلام (الديانات الإبراهيمية) لدرجة أننا ننسى أنه في الشرق الأوسط كان ولا يزال يوجد صِنفٌ منفصل تمامًا من الأديان ينتمي إليه، بشكلٍ فضفاض، الإيزيديون. ومع أن الجنود الرُّومان الذين أشاعوا المصافحةَ لم يلتَقوا بالإيزيديين أنفسِهم، فمن الواضح أنهم صادَفوا ديانةً من الصِّنف نفسِه.

figure
الإله ميثرا، يظهر وهو يقتل ثورًا؛ كما يظهر ثعبان، وكلب، وعقرب، والتي تظهر جميعها بطرقٍ مختلفة في بعض ديانات الشرق الأوسط المعاصرة. من كنيسةٍ سرية تحت الأرض في سانتا ماريا كابوا فيتيري، بإيطاليا، يعود تاريخها إلى القرن الثاني أو الثالث الميلادي. صورةٌ رقمية مُهداة من برنامج المحتوى المفتوح الخاص بمتحف جيتي.

•••

طوال الطريق إلى حرَّان، على طريقٍ تمتدُّ الصحراء على جانبَيه، كان محمود يُدخن دون انقطاعٍ سيجارةً تِلو أخرى. عندما وصلنا إلى المدينة المدمَّرة، ثبَت أنها مكانٌ مميَّز. تتكون المستوطنة الحديثة، التي بناها مهاجرون عربٌ أتَوا من العراق قبل بِضعة قرون، من مجموعةٍ من الأكواخ على شكل خلايا نَحل، أسقُفها المخروطية ملطَّخة بالدخان، تتجمَّع حول قلعة حجَرية مُدمرة. كانت الحجارة الباهتة المتناثرة عبر التِّلال القريبة من بقايا مسجد من العصور الوسطى. ومع ذلك فإنه، منذ آلاف السنين، عندما كانت حران واحدةً من أكبر وأشهر المستوطنات في المنطقة، كانت الأحجار الباهتة نفسُها جزءًا من معبدٍ مكرَّس لإله القمر سين. وكان الملك البابلي نابونيد، الذي أعاد بناء المعبد في القرن السادس قبل الميلاد، فَخورًا بشكلٍ خاص بلون الحجارة وأعلن أنه جعل حرَّان «متلألئةً مثل ضوء القمر». وكُشِف النقاب عن نقشِه الذي عمره ۲٥۰۰ سنة في خمسينيات القرن الماضي، عندما قلَب عالمُ آثار واحدةً من درجات المسجد المدمَّر ووجد أن بُناة المسجد أعادوا استخدام أحجار نابونيد بدلًا من استخراج أحجارٍ جديدة.

بعد مدةٍ طويلة من تحوُّل الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية، وحتى بعدما أصبحَت مدينتهم جُزءًا من الإمبراطورية العربية الإسلامية، استمرَّ الحرَّانيون بعنادٍ في عبادة الكواكب السبعة (وفاءً للتراث البابلي، اعتبروا الشمسَ والقمر من الكواكب، وكانوا يعرفون عطارد، والزهرة، والمرِّيخ، والمشتري، وزُحَل) وخصَّصوا لكل واحد منهم يومًا مقدَّسًا. اقترنَت عاداتهم القديمة بفلسفةٍ متطورة ومعرفة عِلمية. فعلى سبيل المثال، رُتِّبت معابد الكواكب وَفقًا لبُعد الكواكب عن الأرض. وسُوِّغَت عبادةُ تلك الكواكب من خلال نظامٍ لاهوتي مفصَّل. واتفق الحرَّانيون مع الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا قد توصَّلوا إلى أنه يوجد إلهٌ أعلى هو التفسير النهائي لسببِ وجود الكون، ولكنه يفوق إدراكَ العقل البشري. وبما أن الربَّ كان حرفيًّا يفوق الوصف، فإن البشر العاديِّين لا يُمكنهم إلا أن يأمُلوا في رؤية الإسقاطات الإلهية في الكون الماديِّ وتمجيدها.

وعلى حدِّ تعبير عالم الدين المسلم الشهرستاني، الذي عاش في القرن الحادي عشر، في محاولةٍ منه لشرح معتقَدات الحرَّانيين، فإن الربَّ «يتكثَّر بالأشخاص في رأي العين. وهي المدبِّرات السبعة والأشخاص الأرضية الخيِّرة، العاملة، الفاضلة. فإنه يظهر بها، ويتشخَّص بأشخاصها، ولا تبطل وحدتُه في ذاته… وقالوا: هو أبدعَ الفلَك وجميع ما فيه من الأجرام والكواكب، وجعلَها مدبِّراتِ هذا العالم.» وهكذا تستمرُّ الممارسات الدينية البابلية والآشورية بأيديولوجيةٍ جديدة تدعمها، ألا وهي: مشروعية أن تُعبَد الكواكب بوصفها إسقاطاتٍ إلهية. وكما يستطرد الكاتب في شرحه، ينطبق الأمرُ مع بعض الأشخاص: فيُمكن أن يحدث «تنزُّل لجوهر الله» إلى كائنٍ بشري، «أو تنزُّل لجزءٍ من جوهره، وهو ما يحدث وَفقًا لدرجة استعداد الشخص». وعندما يتنزَّل هذا الجوهر في أكمل صُوَره، فقد يُحوِّل شخصًا إلى نوعٍ من الإسقاط الإلهي على الأرض. سجَّل الشَّهرِسْتاني أن الحَرَّانيين كانوا يؤمنون بتناسُخ الأرواح، وهو ما يعني أن هذه الإسقاطاتِ الإلهيةَ قد تموت ثم تُولَد من جديد، وتعود إلى الأرض في عصورٍ متتالية.

كانت الجيوش الإسلامية التي استولَت على المدينة من البيزنطيِّين سنة ٦۳۸ ميلادية غيرَ متأكدة مما يجب أن تفعله مع الحَرانيين. فوفقًا للقرآن، فإن «أهل الكتاب» — ومن بينهم المسيحيُّون، واليهود، ومَن يُطلق عليهم اسم «الصابئة» — يستحقُّون تسامحًا خاصًّا. ومن ناحيةٍ أخرى، كان يُعتقد عمومًا أن المشركين يستحقُّون الموت إذا لم يهتدوا. ولم يكن واضحًا إلى أيٍّ من هذه الفئات ينتمي الحرانيون. لذلك عندما واجهَ العربُ معبدًا لإله القمر، أراد بعضهم — وخاصةً أولئك الذين كانوا يهودًا أو مسيحيِّين قبل اعتناق الإسلام — تدميرَه على الفور. ومع ذلك، كان لمجموعةٍ أخرى من العرب أقاربُ يُمارسون شيئًا مُشابهًا لديانة الحرانيين. ودافعَت هذه المجموعةُ عن حق الحرانيين في ممارسة عبادتهم كما كانوا يفعلون من قبل. وكانت الغلَبة لوجهة نظرهم، وبقي المعبدُ مائتَي عام أخرى.

في نهاية ذلك الوقت تصادفَ أنْ مرَّ الخليفة نفسُه عبر حران. أصاب الذعرُ الناس. فقد يُدينهم الخليفة بأنهم وثَنيُّون، ويُجردهم من حقوقهم الشرعية أو حتى يحكم عليهم بالموت. ثم اكتشفوا الإشارة إلى «الصابئة» في القرآن وتمسَّكوا بها: أعلنوا أنهم الصابئة، وبذلك رَبِحوا ثلاثَمائة عام أخرى من السلام. (لم يُشِر أحدٌ سوى البيروني حادِّ الملاحظة إلى أن المندائيِّين في أهوار جنوب العراق هم الصابئة الحقيقيون.) كان الحرانيون أيضًا مَحميِّين بمعرفتهم بالعلوم اليونانية، مما جعَلهم مُفيدين لحكَّامهم المسلمين. فقد وُظِّف حَراني يُدعى ثابتَ بن قُرَّة في «بيت الحكمة» اللامعِ في بغداد، وهي مؤسسة أسَّسها الخلفاءُ المسلمون لتكونَ مستودَعًا للمعرفة العِلمية في العالم. فحسَب طولَ السنة في غضونِ ثانيتين وأثبتَ أنَّ لنظرية فيثاغورس للمثلثات تطبيقًا أوسعَ مما أُثبِتَ سابقًا. وقدَّم دفاعًا بليغًا عن ثقافته قائلًا: «مَن الذي استوطن العالمَ المسكون وعَمَّر المدن، إن لم يكن رجالَ الوثنية وملوكَهم البارزين؟ فلولا مواهبُ الوثنية، لكانت الأرض فارغةً وفقيرة، مُحاطة بكفنٍ عظيم من العَوَز.»

لم ينفَدْ حظُّ حران إلا في القرن الحادي عشر وهدَمَت مجموعةٌ من الغوغاء المزارَ المقدس، وبعثَروا أحجاره، «المتلألئة مثل ضوء القمر»، على سفح التَّل. وبعد مائة عام دمَّر المغولُ المدينةَ وأبادوا شعبها، ومحَوا ألفَيْ عام من التاريخ. لكن لا يزال يمكن العثورُ على أفكار الحرانيين في قِطاع ضيقٍ جنوبَ المدينة المدمَّرة، يمتد من مقاطعة أذربيجان الإيرانية الجبلية غربًا إلى البحر الأبيض المتوسط. فعلى الساحل السوري، على سبيل المثال، مارسَت جماعةٌ من العَلويِّين قرونًا عديدة شكلًا غيرَ اعتيادي من الإسلام يتخلَّله عاداتٌ وأفكار كان الحرانيُّون يعترفون بها. وعلى الرغم من كون العَلويِّين شيعةً أصلًا، فإن القواسم المشتركة بينهم وبين الشيعة التقليديِّين تُضاهي في قلَّتِها تلك التي بين الموحِّدين والبروتستانت الإنجيليِّين. تبع العَلويُّون أحدَ عشر إمامًا من أصل اثني عشر إمامًا قادوا الشيعة في القرنين الأوَّلين للإسلام. ثم تطوَّرَت أفكارهم في اتجاهٍ متطرف للغاية.

في عام ۲۰۱۲ شرعتُ في إجراء مقابلةٍ مع شيخ علَوي في شمال لبنان، على أمَل أن يتحدث معي عن دينه. كانت توقُّعاتي منخفضة. فحتى قومه لا يحقُّ لهم معرفةُ الأسرار التي يحملها، وكنتُ شخصًا غريبًا يُمثل جنسيتَين غيرَ مرغوبٍ فيهما (بريطاني وأمريكي) في آنٍ واحد. وقتَ زيارتي، كان العَلويون مَثار جدلٍ بشكل خاص؛ لأن الحكومة السورية ورئيسها العلَوي، بشار الأسد، كانا متورِّطَين في عمليات قمعٍ وحشي وقتلٍ جماعي. لذلك لم أكن متأكدًا من مدى سهولةِ الوصول إليهم، ناهيك عن جعلِهم يتحدَّثون. لكنني، مُسلحًا بهاتفٍ محمول رخيص، وبعضِ أرقام الهواتف، وسائقِ سيارة أجرة أشيب من الضواحي الجنوبية لبيروت، وسيارة شهدَت أيامًا أفضل، كنتُ سأحاول.

تقع مدينة طرابلس المسلمةُ السُّنية في شمال لبنان، وفي إحدى ضواحيها (كانت في الأصل قريةً على التلِّ ابتلعَتها المدينة حاليًّا) يعيش العَلويُّون. كان الأمر واضحًا عندما دخلتُ هذه الضاحية؛ كانت صورٌ ضخمة لبشار الأسد معلَّقة على كل عمودِ إنارة. كنتُ قد رتَّبت للاجتماع من خلال زعيم محلي اتُّهِم بتنظيم الميليشيا التي قادت العلويِّين المحليين في معاركَ ضد جيرانهم المسلمين السُّنة. استجوب الرجالُ الواقفون في الشارع سائقَ سيارة الأجرة الذي أحضرَني ولم يقتنعوا إلا عندما اكتشفوا أنه شيعي. فهذا جعَله في نظرهم حليفًا؛ وهو أمرٌ نادر.

بعد تفتيشٍ جسدي كامل للتأكد من أنه لم يكن معي أيُّ أسلحة مُخفية، أرشَدوني إلى مكتب شيخٍ علَوي كان رأسه مُغطًّى بعِمامة حمراء وبيضاء. أكَّد لي قائلًا: «لا يوجد لدينا في معتقداتنا أيُّ شيء مَخفي. ثمة بضعةُ أمور خاصة، وهذا كلُّ ما في الأمر؛ مثل عادات الأجداد وما شابهَ ذلك.» اشتملت هذه العاداتُ على تحريم أكل لحوم الإبل والأرانب، ولحم أيِّ حيوان من جنسٍ مختلف عن جنس الشخص؛ أي إن النساء كنَّ يأكلن لحومَ إناث الحيوانات، والرجال يأكلون لحوم ذكور الحيوانات. هل أعطَوا أهمية متَّسمة بالتقديس بساتينَ الأشجار، كما لَمَّح لي السفيرُ البريطاني؟ لا. هل اعتبَروا عَليًّا إلهًا؟ لا، فقط اعتبَروه صاحبَ شريعة وخليفةً للنبي. أما عن سوريا، فحسَب زعمِه، أن ما كان يجري هناك هو مِن فعل إرهابيِّين يعملون في خدمة إسرائيل. أثناء مغادرتي، كان الشيخ على استعدادٍ لمشاركة ملاحظةٍ أخيرة حول دينه. فقال متكلفًا الابتسامَ: «لا يوجد علَويُّون في الجحيم. الإرهابيون فقط في الجحيم، ويعانون من العذاب.»

لم يكن الشيخ صريحًا جدًّا وَفقًا لأحد العلويين الذي طلب عدمَ الكشف عن هُويته. وتتضمن أكثرُ طقوس العلويين سِريةَ شربِ خمرٍ مقدسة وتظهر تأثيرات مسيحية واضحة جدًّا — فهم يُسمونه القداس، وتشير كتبهم إلى المسيح — ولكنها تقتبس أيضًا من التقاليد الآتية من إيران؛ فجوهر الطقوس موروثٌ من الزرادشتية، التي تُعتبر فيها الخمرُ وسيلةً لتحقيق التواصل مع الله. يمكن أن تتناسخ أرواحُ الناس من جديد في هيئةِ نباتات أو حيوانات؛ ولعل هذا هو السبب في أن بعض أنواع الأشجار لها أهميةٌ متَّسمة بالتقديس، رغم أن الشيخ نفى ذلك. والكتب المقدَّسة العلوية (التي نشرها علماء غربيون، مع أنه لا يمكن لغير المنضمِّين للطائفة أن يطَّلِعوا عليها) تُعلم أفكارًا أباحها الفلاسفةُ المسلمون الأوائل واستمرَّت أيضًا في تقاليدِ حران. وتسرد الكتبُ العديدَ من الشخصيات من التاريخ بوصفهم نُظراءَ بشَريِّين لخُدَّام الله السماويِّين؛ ليس فقط أشخاصًا مألوفين من الإسلام والمسيحية، مثل محمدٍ ويسوع، ولكنْ أيضًا آخَرون مُستمَدُّون من التراث الكلاسيكي، مثل أفلاطون والإسكندر الأكبر. أعظمهم، في تراثهم، هو علي، صِهر محمد. فقد كان لمحةً عن الله أو صورة له، وهو أقربُ شيء إلى الله على الأرض يمكن للعقل البشري المحدود أن يُدركه. وسيكون من الصواب تعظيمُ عليٍّ بقول إنه الله، ولكن من الخطأ جعلُ الله محدودًا بقول إن الله هو علي. (في الحقيقة يقول العلويُّون: «الصورة هي الله، ولكن الله ليس الصورة»، وهي عبارة تُشبه تلك التي استخدمَها المسيحيون النسطوريُّون في نصٍّ يرجع تاريخه إلى سنة ٥٥۰ ميلادية: «المسيح هو الله، ولكن الله ليس هو المسيح.»)

يُشارك العلويون أيضًا الإيزيديين والحَرانيين في تقديس الكواكب. وسُميت إحدى قبائلهم تيمُّنًا بالشمس، وأخرى بالقمر. كان تعظيم الشمس والقمر يُعَدُّ فضيلة، على الأقل لدى بعض العَلويين. «إنهم لا يُحبون القمر»، هكذا اشتكى أعضاءُ إحدى القبائل العلوية من قبيلةٍ أخرى عندما تحدثوا إلى مُبشر بريطاني من القرن التاسعَ عشر يُدعى صموئيل لايد، الذي كتب لاحقًا كتابًا عن تجارِبه وسط المجموعة. وقالوا له أيضًا إن عليًّا، الذي كان أقربَ شيء إلى الله على الأرض، قد أخفى نفسَه في عين الشمس؛ وكانت تلك حُجتَهم في أنهم يُولون وَجههم شَطْر الشمس وقتَ الصلاة. (كان ثَمة اعتقادٌ مشابه بشأن الإله ميثرا؛ ومن المحتمل أنه في مرحلةٍ ما حل اسمُ علي محل ميثرا، إما كذريعةٍ أو توفيق متعمَّد، وأنه بمرور الوقت نُسي الارتباطُ الأصلي.)

عندما وطِئَت قدمُ نيل أرمسترونج القمر، أثار ذلك أزمةً لاهوتية بين العلماء العَلويين. إذ كانوا يعتقدون، مثل الحرانيين، أن القمر كان تجلِّيًا ماديًّا لروحٍ كانت في التسلسل الهرمي السماوي وسيطًا بين الله والإنسان؛ ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك صحيحًا إذا كان كتلةً صخرية، وليس حتى القمرَ الوحيد في الكون، ولكنه واحدٌ من كثير؟ لذلك كتب شيخٌ علَوي اسمه أحمد محمد حيدر كتابًا بعنوان «ما بعد القمر»، حاول فيه شرح المشكلة. هذا، على الأقل، ما أخبرَني به مصدري المجهول. ومع أنني وجدتُ أن الكتاب قد نُشر بالفعل، ووجدتُ نقدًا له أكَّد أنه ناقش طبيعةَ النجوم والكواكب، فإن جميع نُسَخه اختفَت في ظروفٍ غامضة؛ لذلك لم أتمكن مطلقًا من اكتشاف حلِّ الشيخ المقترح للمشكلة. وتتلاءم هذه السريةُ المطلقة مع ما كتبه جاكوب دي فيترياكو، الأسقفُّ الصليبي لعكَّا في القرن الثالث عشر، عن عقائدِ العَلويين السرية، التي سمَّاها دستورهم: «إذا كشف أيُّ ابنٍ عن الدستور لأمِّه، يُقتل بلا رحمة.» وما زال العَلويون متكتِّمين بصرامةٍ حتى اليوم. بل هم أكثرُ من ذلك، في الواقع، بسبب قوتهم السياسية وارتباطِهم بنظام الأسد المثير للجدل. لذا لم أتعمَّق كثيرًا في استفساراتي بشأن معتقَدات العلويين.

أما الإيزيديُّون، الذين لا سُلطة لهم، فهم أقلُّ خجلًا. أخبرني ميرزا أن الشيخ شمس «مسئولٌ عن» الشمس. لكنه أيضًا مَلاك جاء إلى الأرض وتجسَّد في هيئةٍ بشرية لنشر الحكمة الإلهية. ثمة أوجهُ تشابهٍ أخرى بين الحرانيين، والعلويين، والإيزيديين. فالثلاثة يؤمنون بتناسُخ الأرواح ويُعظمون النار. (علَّق بيرسي بادجر، وهو مُبشر بريطاني من القرن التاسع عشر، قائلًا إن الإيزيديين «لا يبصقون في النار أبدًا، وفي كثيرٍ من الأحيان يُمررون أيديَهم عبر ألسنةِ اللهب، ويتظاهرون بأنهم سيقبلونها ويغسلون وجوههم بها.») ويُصلِّي الإيزيديون والعلويون ثلاث مرات في اليوم وهم مُولُّون وجوههم صوبَ الشمس، ويخبرنا البيروني أن الحرانيين يُصلون ثلاث مرات في اليوم صوبَ الجنوب، ولكن الشمس تكون جهة الجنوب وقتَ الظهيرة. يشترك بعض الإيزيديين في التحريم المقدَّس بقتل الأسماك، التي يعتبرونها مقدسةً لأنها تعيش في الماء. (أخبرني أحد أصدقاء ميرزا إسماعيل، وهو أبو شهاب، بأن أحد أولياء الإيزيديين نصَب خيمته عند دمشق «منذ ۱۳٥۰ عامًا» وأن السمك خرَج من النهر ليكون أوتادَ خيمته، ومنذ ذلك الحين، لم يقتل الإيزيديون الأسماك. وأضاف أن دمشق كانت فيما مضى إيزيدية. وبالفعل، السنين سجَّل البيروني من ألف سنة أن الحرانيِّين كان لهم مزار مقدَّس في دمشق.)

•••

يتَّجه الطريق شرقَ أورفة نحو الأرض التي لا يزال يعيش فيها الإيزيديُّون. أصبح فقرُ الأماكن التي مرَرْنا بها أكثرَ وضوحًا، حتى من المطاعم الموجودة على جانب الطريق التي توقَّفنا عندها. في آخر هذه المطاعم، لم يكن يوجد سوى مطبخٍ مكشوف يصطفُّ أمامه رجالٌ محبَطون يحملون أوعيةَ حِساء فارغةً، يهشُّون الذباب بعيدًا. شعرت أنني بعيدٌ بقدرٍ يفوق التصوُّر عن المنتجعات السياحية على ساحل البحر الأبيض المتوسِّط في تركيا، لكنَّ شيئًا واحدًا على الأقل كان مألوفًا أكثرَ لي هنا؛ فاللغة التي سمعتُها كان لها صدَى أماكنَ أخرى عرَفتُها. قال السائق عندما توقفنا: «بانج دَكَّا». تعرَّفتُ على هذه العبارة؛ فهي تعني: «خمس دقائق». كانت العبارةَ ذاتَها التي سمعتُها في إيران وأفغانستان. سأل رجلٌ رجلًا آخر: «تشوني؟» أي «كيف حالك»، وكان الرد «باشي، أنا بخير».

كانت هذه هي اللهجةَ الكرمانجية، الخاصة باللغة الكُردية، التي ما زالت موجودةً مئاتِ السنين رغم الجهود المستمرَّة التي تبذلها الحكومةُ التركية لقمعِها. عندما كان الرجل صاحبُ الشخصية الآسرة، مصطفى كمال، الملقَّب «أتاتورك»، يحاول بعد الحرب العالمية الأولى تكوينَ دولة تركيا الحديثة ممَّا تبقى من الإمبراطورية العثمانية الآخذةِ في الاضمحلال، شعر بأن تنوُّع دولته الجديدة كان مصدرَ ضعفٍ وانقسام. فحاول قمعَ العديد من الهُويات المحلية والإقليمية، ونجح في بعض الحالات، ولكن ليس مع الأكراد. وحظَر هو وخلفاؤه الكرمانجية في المدارس، لكنها ظلَّت باقية (رُفع الحظر حاليًّا). كان الأكراد يتعلمون أنهم أتراك، لكنهم تمسَّكوا بهُويتهم الكردية، وطالبَت حركةٌ انفصالية قوية بإقامة دولةٍ كردية منفصلة؛ على أساس أنهم شعبٌ تُميزه لغتُه وعِرقُه عن الأتراك في الغرب، والعربِ في الجنوب.

في العراق اقترب ذلك الحُلم من أن يُؤتيَ ثمارَه. وعندما وصلنا إلى الحدود، لم أستطع التأكُّد من أن ذلك كان العراق الذي كنتُ أنظر إليه عبر أحواض البوص، والنهر الضيِّق، والسياج الحدودي الشائك. كان علَمٌ ضخم معلقًا على الجانب الآخر من الحدود، وطرَفُه يكاد يتدلَّى فوق الجانب التركي من الحدود، لكنه لم يكن العلَم العراقي. كان يتكوَّن من الألوان الأحمر، والأبيض، والأخضر وشمس صفراء في وسطه؛ كان هذا علَم كردستان. ولعقودٍ من الزمان كان هذا العلمُ رمزًا محظورًا لرغبة الأكراد في الاستقلال. ولم يشعر الأكرادُ بالقوة الكافية لرفع علَمهم إلا بعد عام ۱۹۹۱، وفقط في العراق. شهدَت هذه الحقبةُ إنشاءَ القُوى الغربية لمنطقةِ حظر جويٍّ في شمال العراق، مما مكَّن الأكرادَ من تحدِّي صدَّام دون عقاب. ومنذ سقوط صدام عام ۲۰۰۳، رفع الأكراد علَمهم بموجبِ الحق الدستوري، في المحافظات الثلاث التي يُسمونها الآن كردستان العراق.

ومع ذلك، طوال مدةِ وجودي في الأراضي التركية، كانت «كردستان» كلمةً محظورة، توحي بالانفصالية وانقسام تركيا إلى مناطقَ عِرقية منفصلة. وعندما لاحظ أحدُ الركاب الكلمةَ على شاشة جهاز الكمبيوتر الخاصِّ بي، هزَّ إصبَعه في وجهي حتى حذَفتها. ومع ذلك كانت «مرحبًا بك في كردستان!» هي الكلماتِ التاليةَ التي سمعتُها بمجرد عبور الحدود. وما كان هَرْطقةً في مكانٍ ما أصبح مألوفًا في المكان الذي يليه. وبمجرد وصولي إلى العراق، وجدتُ أن الناس يقولون «كردستان» كلما أمكَنهم ذلك. وكان أكرادُ العراق يستخدمونها بطريقةٍ قاطعة وحازمة، كما لو كانت تتمتع بقوةٍ سحرية، وكأنَّ استخدامها مصدرٌ لحريتهم وازدهارهم المتنامي.

ينعم أكراد العراق بوحدةٍ دون تجانس. فهم مُنقسمون بين عشَرات القبائل، وثلاثِ لغات، وفَصيلين سياسيَّين تقاتلا في السابق حربًا أهليةً وحتى الآن يعملان معًا برِيبة متبادَلة، لكنهما تعاوَنا بفعاليةٍ كافية للفوز بدرجةٍ عالية من الحكم الذاتي، وتقليل الهجمات الإرهابية في منطقتهما إلى الحدِّ الأدنى، والحصول على حصةِ ثمانية عشر بالمائة من عائدات النفط العراقي، التي تُقدَّر بمليارات الدولارات سنويًّا. لم يسبق للأكراد من قبلُ أنْ جرَّبوا مثل هذه الثروة. كان تاريخهم طويلًا؛ إذ توجد إشاراتٌ إلى «الشعب الكورتي» في تلك التِّلال منذ ثلاثة آلاف عام، وبعض العلماء يتتبَّعون أصولهم إلى ما قبل ذلك. لكنهم لم يكونوا أثرياءَ أبدًا ولم يتركوا أثرًا بالغًا لثقافتهم؛ ربما لأن الجبال وسفوح التلال التي زرَعوها لم تكن خِصبة، حتى لو كانت توفر ملاذًا ممتازًا من الأعداء. ففي زمن ماركو بولو كانوا قُطَّاعَ طرق، إن كنا سنُصدِّق ذلك المسافرَ الجريء أو ربما المحتال. فقد أورد متذمرًا: «الأكراد مُقاتلون متحمسون وخارجون عن القانون، مُغرَمون جدًّا بسرقة التجار.»

الآن، على النقيض، يشعر الأجنبيُّ بالأمان التام في المناطق الناطقةِ باللغة الكردية. وعلى خريطةٍ رأيتُها خلال زيارتي تُظهِر نقطةً حمراءَ لكل هجوم عنيف في العام الماضي، كانت كردستان مساحةً فارغة. وتناثرَت النقاطُ الحمراء حول أطرافها، خاصةً في منطقةٍ ضيقة على حدودها الغربية تُسمى سهل نِينَوى. وبالقرب من موقع نينوى التوراتيِّ ذاتِه، الذي يقع حاليًّا داخل حدود ثاني أكبر مدينة في العراق، الموصل، تزيد كثافةُ النقاط الحمراء. كانت الموصل ذاتها — «أخطرُ مدينة في العالم»، كما وصَفَتها إحدى الصحف مرةً — مجردَ بقعةٍ حمراء كبيرة بلون الدم.

عندما كنتُ في الموصل من قبل، بصفتي مراقبًا للانتخابات، كنتُ في سيارة مصفَّحة بالكامل، لدرجة أن المنظر الوحيد للخارج كان على شاشاتِ فيديو. ومع ذلك، يبدو أننا كنا على وشك أن نتعرَّض لانفجار قنبلة على جانب الطريق. قال قائدُ القاعدة لمجموعتنا الصغيرة عندما وصلنا إلى موقعِه على حافَة المدينة: «لم أكن أتوقعُ رؤيتكم. لقد تلقيتُ تقريرًا بإصابة إحدى عرَباتنا، وظننتُ أنها عربتكم.» في اليوم التالي في المدينة قابلَنا أهلُها بنظراتٍ باردة وهادئة. لا، لم تكن لديَّ رغبةٌ في العودة إلى الموصل. ومع ذلك، يبدو أن الحافلة القادمة من إسطنبول كانت متَّجهةً إلى هناك؛ من المؤكد أنها كانت تترنَّح الآن على الطريق تحتَ لافتاتٍ تعود إلى عهد صدام مكتوبٍ عليها «الموصل»، مرورًا بحقولٍ محصودة وقِممِ تلال جرداء.

كان بوُسعي الآن أن أرى — بعد فوات الأوان — مدى أهمية الجغرافيا لسلامتي. كنتُ قد ركبت هذه الحافلةَ دون تفكير ولم أبذل أي جهد في التخطيط، باستثناء شراءِ خريطة لشمال العراق. كان من المفترض أن تكون أفضلَ المتاح، لكنها لم تُعطِني سوى ما يكفي من المعلومات لإثارةِ قلقي. كانت وجهتي هي أربيل، العاصمة الكردية. وعلى الخريطة، مرَّ الخط الأحمر السميك للطريق الرئيسي المؤدِّي إلى أربيل عبر الموصل. تسارعَت دقات قلبي، وأمسكتُ بإطار النافذة. حاولت أن أسأل الركاب المرافقين لي عمَّا إذا كان هذا هو الطريقَ الذي سنسلكه، لكنهم كانوا تجارًا أكرادًا وأتراكًا، ولم يكن بوُسعِهم فَهمُ لغتي العربية أو الفارسية.

بدأتُ أنظر من النافذة بقلق، راغبًا في أن تنعطفَ الحافلة إلى طريقٍ جانبي، لإيجاد طريق مختصر عبر الحقول. خلعتُ نظارتي وكنتُ أتساءل كيف يُمكنني أن أغير قميصي، أو أنحني بعيدًا عن الأنظار، أو أُخفِيَ جواز سفري البريطاني، عندما — فيما شعرتُ أنه اللحظة الأخيرة — انعطفَت الحافلة أخيرًا إلى اليسار، تاركةً الطريقَ السريع الرئيسيَّ ومتجهةً نحو طريقٍ ضيق، أُقيمَ حديثًا، وليس على خريطتي. بدا أن الأكراد كانوا حريصين على تجنُّب الموصل مثلي، وكانوا قد بنَوا شبكةً من الطرق الجديدة للالتفاف من حولها. في الواقع، كما أدركتُ لاحقًا، لم تُغير سنواتُ القتال شكلَ الطرق فحسب، بل غيرَت طبيعة المنطقة.

وبينما كانت الحافلةُ تُسرع على هذا الطريق المختصر الجديد، مُشارِكةً الطريقَ مع سائقين متهورين وسيارة واحدة محطَّمة على الأقل، تلقيتُ درسًا آخر في جغرافية الخطر. اتضح أنه كان يوجد رجلٌ واحد على متن الحافلة يتحدث العربيةَ بما يكفي لأن يفهمني. كان يُدعى الحاج عباس ويعيش في مدينة كركوك خارجَ حدود كردستان. علمتُ منه أن استفتاءً سيُقرِّر ما إذا كانت مدينته، إلى جانب منطقة كاملة من الأراضي المتاخمة لكردستان — «الأراضي المتنازَع عليها»، التي تشمل أيضًا سنجار، مسقط رأس ميرزا — ستُديرها الحكومة الإقليمية الكردية في أربيل أو الحكومة المركزية العراقية في بغداد. وفي غضونِ ذلك، كانت كركوك قد أصبحَت مدينةً هادئةً، شبه مهجورة تُعاني من العنف الديني والعرقي. كانت كلماتُ عباس لي عند توديعي: «لا تنسَ تُركمان العِراق»، افترضتُ أنه لا بد أن يكون واحدًا منهم، من سُلالة الجيوش الغازيَةِ من سهولِ آسيا الوسطى التي حافظَت على لغتها التركية على مر القرون، وأصبحَت الآن مجتمعًا عراقيًّا متمايزًا. سمعتُ المزيد من المناشدات في الأيام القليلة التالية من جماعات مستضعَفة أخرى؛ مثل الشبك، وهم مسلمون يُمارسون طقس شُرب الخمر والاعتراف بخطاياهم، والآشوريين، وهم آخِرُ مَن تبقى من كنيسة المشرق، وهي طائفة مسيحية كانت يومًا ما تصل إلى الصين، والكاكائيِّين، وهي جماعة مثل الإيزيديين ولكنها ترفض نظامَ الطبقات الإيزيدية، وبدلًا من اتِّبَاع الشيخ عدي، اتبَعوا السلطان إسحاق. كانت «الأراضي المتنازَعُ عليها» موطنًا لمعظم الأقليات المحاصَرة في العراق، التي كانت كلُّها متوترة بشأنِ ما قد يحدث بعد ذلك.

•••

أنزلَتني الحافلة في أربيل، عاصمةِ كردستان، عند مركز تسوقٍ مَليء بالسلع الإلكترونية. شربتُ كابتشينو سيئًا، راضيًا بفُرصة البقاء بعيدًا عن أشعة الشمس الحارقة بينما أُفكر في خطوتي التالية. كانت أربيل قد توسَّعَت سريعًا في بِضع سنوات فقط، وأينما نظرتُ كنتُ أجد مشاريعَ سكنيةً وطرقًا جديدة. كان أحدُ أصدقائي يُقيم في المدينة، وعندما اتصلتُ به عبر الهاتف، ساعدني في العثور على سائقٍ اسمه طه، وهو مُقاتل سابقٌ فظ في الميليشيات الكردية، أبقى سيارته في حالةٍ جيدة؛ حيث كان الغلاف البلاستيكيُّ المتجعِّد لا يزال على مقاعدها. وبلغةٍ عربية متلعثمة أخبرني أنه لم يزُر بغداد قط. فقد مكث داخل كردستان. أسعَده، مع ذلك، أن يأخذني إلى لالِش وبعضِ الأماكن الأخرى التي يعيش فيها الإيزيديون؛ ولكن ليس إلى سنجار، التي تقع خارج كردستان والتي قال إنها أقلُّ أمانًا.

لالِش هي المكانُ الذي دُفن فيه أحد مؤسسي الديانة الإيزيدية. اسمه الشيخ عديُّ بن مسافر، وهو واعظٌ صوفي؛ يحتفي الإيزيديون كثيرًا بقداستِه وزُهده. وغالبًا ما يُنظر إليه باعتباره مُصلِحَ العقيدة الإيزيدية، التي أسَّستْها شخصيةٌ غامضة تُدعى سلطان يزيد. أخبرني ميرزا أن «يزيد» كان مجردَ اسم آخرَ لله. وحسب أحد النصوص الأكثر إثارةً للجدل أن يزيد هو الخليفةُ يزيد، أحد أوائل الحكام المسلمين السُّنة وشخصية يحتقرها الشيعة. ويُعاني الإيزيديون الأَمَرَّين في العراق الذي يُسيطر عليه الشيعة لإنكار هذه الرواية.

ثمة قدرٌ أقلُّ من الجدل حول عديِّ بن مسافر، الشخصية التاريخية التي تظهر في المصادر غيرِ الإيزيدية. وُلِدَ نحو عام ۱۰٧٥، من نسل الخلفاء الأمويين، حكَّام الإسلام سابقًا. وكان مسقطُ رأسه بالقرب من بَعلبكَّ في سهل البقاع في لُبنان؛ حيث ربما كان الحرَّانيون في ذلك الوقت لا يزالون يملكون بؤرةً استيطانية. لذلك ربما كان بالفعل على درايةٍ بسيطة بعاداتٍ مثل تلك العادات الخاصة بالإيزيديين عندما انطلَق من تلك القرية النائية في رحلةٍ امتدَّت مئاتِ الأميال لدراسة الصوفية في بغداد. بعد ذلك، بدلًا من البقاء في عاصمة الإمبراطورية والتمتع بحياة العلماء المريحة، ذهب بوصفه مبشرًا إلى المناطق الكُردية، التي كانت في ذلك الوقت جامحة، وخطيرة، ومقاوِمةً للإسلام. وأسَّس جماعة من الصوفيِّين (مبشِّرين متصوفين منكِرين للذات كانوا يشبهون الرُّهبان المتجولين الأوروبيين في العصور الوسطى، وربما كانوا مصدرَ الإلهام لهم، وكانوا يرتدون الصوف) تُسمى العدَوية. وغالبًا ما منَح المبشرون الصوفيون، الذين اهتدى الناسُ على أيديهم على تُخوم الإسلام، أنفُسَهم مرونةَ قَبولِ جوانب المعتقدات القديمة لمن اهتدَوا على أيديهم، وأحيانًا كانوا يُضيفون لها أسماءً إسلامية ويُعيدون تشكيلها حتى يمكن أن تتوافقَ مع الشعائر الإسلامية. وكان القصد من ذلك أن يرى المعتنقون الجددُ أنفسَهم مُسلمين في نهاية المطاف. ولكن في بعض الأحيان، لم تترسَّخ التعاليم الجديدة، وانتُهِجَت بعض جوانب الإسلام، لكنها كانت جوانبَ سطحية، ولم يكن مَن زعموا الاهتداء يعتبرون في قرارة أنفسِهم أنهم مسلمون، وإنما كانوا يتذكَّرون هُويتَهم القديمة. وربما حدَثَت بعضُ هذه الأمور لأتباع عدي، الذين تخلَّوا في النهاية عن أي تظاهر بأنهم مسلمون بالمرة.

كانت لدى عدي ذاتِه، من وجهة نظر معاصريه المسلمين، وجهاتُ نظر غريبةٌ إلى حدٍّ ما. ومن المؤكد أن القصيدة التي نسَبها إليه الإيزيديون في القرن التاسعَ عشر تبدو غيرَ تقليدية. فهي تُستَهَلُّ على نحوٍ محمود كما يلي: «حكمتي تعرف حقيقة الأشياء؛ فالشر لم يُصاحبني.» لكن القصيدة تستمرُّ في تقديم ادِّعاءات أعظم: «كل الخلق تحت سيطرتي … وكل مخلوق خاضعٌ لي. أنا مَن يرشد البشريةَ إلى عبادةِ جلالتي … وأنا من ينتشر في السموات العُلا.» ويبدو أن بعض الإيزيديين أيضًا يعتبرون أنه يتمتَّع بمكانةٍ إلهية. فقد قال الخادم في ضريح لالش لبيرسي بادجر، أحدِ المبشِّرين البريطانيين في القرن التاسعَ عشر: «مَن هو خالق الخير؟ الله أم الشيخ عدي؟».

ومع ذلك فإن الشيخ عدي ليس الشخصيةَ التي سيذكرها معظمُ الإيزيديين عندما يُسألون عن ماهيةِ دينهم. كما أن صورته ليست هي الصورةَ المعلَّقة على جُدرانهم. لقد كان مجردَ التجسيد الدُّنيوي للمَلَك الطاووس، الحاكم الحقيقي لهذا العالم، القائم مقام الله في الكون المعلوم، وأقرب تمثيلٍ إلى الله يمكن لعقولنا البشرية المحدودة استيعابُه. وبما أن وجهة نظر الإيزيديين تجاه الله مجردةٌ جدًّا — فهم يقولون إنه لا يمكن قولُ أيِّ شيء عن الله بأي قدرٍ من اليقين باستثناء أنه موجود — فإن المَلَك الطاووس هو محور تركيز ديانتهم. وفي القرون السابقة، حُمِلَت سبعُ تماثيلَ برونزية للمَلَك الطاووس (تسمى سناجق) بشكل احتفالي حول القُرى الإيزيدية ليُقدِّسها الناس. ووصف المبشر بادجر «السنجق» على النحوِ التالي: «التمثال على هيئة طائر، أكثر شبهًا بالدِّيك من أي طائر آخَر … مثبَّت على قمة شمعدان، حوله مِصباحان، موضوعٌ أحدهما فوق الآخَر، ويحتوي كلٌّ منهما على سبع شعلات، والجزء العُلوي أكبرُ إلى حدٍّ ما من السفلي.» فُقِد خمسةٌ من السناجق؛ وبقي اثنان. يؤمن الإيزيديون أيضًا أن المَلَك الطاووس يتنزَّل إلى الأرض كلَّ عام في يوم يُسمى جارشما سور «الأربعاء الأحمر»، لبدء العام الجديد. ويتميز هذا العيد بتلوين البيض، تمامًا مثل عيد الفِصْح المسيحي. ويعتبر الإيزيديون أن البيضة ترمز إلى خلق العالم، الذي كان في أسطورة الخلق الخاصةِ بهم يومًا ما سائلًا وأصبح صُلبًا (مثل البيضة المطبوخة)، وكان عديمَ اللون حتى وضَع المَلَك الطاووس ريشَه الملوَّن عليه، وأضفى لونَه الأزرقَ والأخضرَ على بحاره وغاباته.

والأمر الأكثر إثارةً للجدل، أن الإيزيديين يُطلقون على المَلَك الطاووس اسمَ عَزازيل أو إبليس، وكِلاهما في التراث الإسلامي (وأيضًا اليهودي والمسيحي) اسمان لأعظم الملائكة، الذي تمرَّد على الله وأُلقي به في الجحيم — أي باختصار، الشيطان. وللطاووس روابطُ مُماثلة. فالدُّروز في لُبنان يعتقدون أن الطاووس، وليس الأفعى، هو مَن أغوى آدمَ في جنة عدن. ويعتقد بعض الزرادَشْتيين في إيران أن الطاووس هو الشيء الجيد الوحيد الذي صنَعه الشيطان، كوسيلةٍ لإثبات أنَّ لديه القدرةَ على فعلِ الخير إذا اختار ذلك.

figure
فتاة أرمينية إيزيدية تُقَبِّل تمثال الملاك الطاووس، ملَك طاووس. يُطلَق على ملَك طاووس أيضًا اسم إبليس أو عَزازيل، ولكن يعتقد الإيزيديون أنه صالحٌ وليس شريرًا. وكالة الأنباء الفرنسية/جيتي إيمدجز.

ولكن، لن يُطلق الإيزيديون أبدًا على الملاك الطاووس اسمَ «الشيطان»؛ لأنها كلمةٌ محظورة عليهم ومِن أشدِّ المحرمات صرامةً وتحفظًا. ففي القرن التاسعَ عشر، كتب الإيزيديون رسالةً إلى السلطات العثمانية يصفون فيها مُمارسةً مروِّعةً كان عليهم تنفيذُها عند سَماع اسم الشيطان: وهي قتل الشخص الذي قال الاسم، ثم قتل أنفسهم لأنهم سمعوه. بعد حرب العراق، لم يُبالغ النائب الإيزيدي الوحيد في البرلمان العراقي في ردِّ فعله عندما سمع رئيسَ الوزراء يستعيذ بالله من الشيطان في بدايةِ خُطَبه. لكنه أثار ضجةً عندما نهض للاعتراض على هذه الممارسة، أو بالأحرى على حقيقةِ أن نوابًا آخَرين رمَقوه بنظراتٍ اتهامية في كل مرةٍ قيلت فيها الاستعاذة. وقد حدَثَت هذه النظرات الاتهامية لأن أولئك البرلمانيين الآخرين اعتبَروه مِن عبَدة الشيطان.

وكذلك فعل سائقُ السيارة الأجرة طه، كما كشف لي أثناء رحلتنا شمالًا نحو بلدةٍ تُدعى دهوك، حيث كان من المقرَّر أن أقابل عالِمًا إيزيديًّا ومسئولًا كُرديًّا يُدعى خيري بوزاني. فقد حذَّرني طه وهو يقود السيارة، قائلًا: «سترى أنني لن آكُل أيًّا من طعامهم. يقول الناس إن المسلمين كانوا فيما مضى يأكلون طعامَ الإيزيديين. لم نَعُد نفعل ذلك. فالمَلَك طاووس هذا الذي يعبدونه، هو الشيطان.» أخبرني إيزيديون أصغرُ سنًّا فيما بعدُ أنه أصبح من الشائع أن يرفض الأكرادُ المسلمون تناوُلَ الطعام معهم. وكان الزوار الأوروبيون الأوائل أيضًا متحفِّظين بشأن الإيزيديين بسبب مَلَك طاووس. فقد وجد أوستن هنري لايارد، وهو عالم ارتحَل عبر شمال العراق سنة ۱۸٤۰، أن الإيزيديين أكثرُ تهذيبًا من جيرانهم؛ وأشار بشكلٍ خاص إلى «سلوكهم الهادئ المسالم، ونظافة قُراهم وحُسن ترتيبها». ومع ذلك، فقد تردَّد في قَبول دعوتهم للمشاركة في حفل تسمية أحد أطفالهم. «على الرغم من احترامي وتقديري للإيزيديين … كنتُ بطبيعة الحال حريصًا على التأكد من مقدار المسئولية التي قد أتحملها، في كوني الأبَ الروحيَّ لطفل يعبد الشيطان.»

•••

ما يعتقده الإيزيديون حقًّا بشأن مَلَك طاووس أكثرُ إثارةً للاهتمام وللتفكير من عِبادة الشيطان. ففي القرن التاسع الميلادي، كان المسلمون، والمسيحيون، والزرادشتيون، وغيرهم يتصارعون فيما بينهم في الإمبراطورية العباسية التي كان يحكمها المسلمون. ولم تكن علوم العقيدة الإسلامية راسخةً حينها كما أصبح منذ ذلك الحين، وكان الصوفيُّون مهتمِّين اهتمامًا خاصًّا باستحداثِ تفسيرات جديدة مبتكَرة وجريئةٍ للدين. ومن هؤلاء الصوفيِّين كان حسين بن منصور الحلَّاج. كان جَدُّ الحلَّاج من الزرادشتيين، ويؤمن بالازدواجية، المتمثلةِ في فكرة أن الكون هو المكان الذي تجري فيه معركةٌ بين الخير والشر. وكان حفيده يرى الفكرةَ المعاكسة. وفي يومٍ طرَق بابَ أحد الأصدقاء. وعندما سأل الصديقُ عن هُوية الطارق، أجاب الحلاج: «أنا الحق، أنا الله». وقال في مرةٍ أخرى: «لا شيء في هذه العباءة غير الله.»

كلمات الحلَّاج أكسَبتْه مُعجَبين. وقال الشاعر الروميُّ إنها أظهرَت روحًا تتمتَّع بقدرٍ من التواضع أعظمَ من أن يُطلق المرءُ على نفسه «عبد الله»؛ لأن عبارة الحلاج مثَّلَت إنكارًا تامًّا للذات، واستعدادًا لأن يستوعبَها الله بالكامل. وكما كتب الحلَّاج: «عندما تُبِيد قلبَك، يدخله الله ويكشف عن وحيه المقدَّس.» وقد كان لدى بعضِ المسيحيين فكرةٌ مماثلة؛ حيث كان كاهنٌ وثني سابق يُدعى مونتانس، الذي مضى في تأسيس حركته المسيحية المنشقَّة، قد ادَّعى أن الله يسكن روحه وأعلن: «أنا الآب، والابن، والروح القدس.» ووصف يوسف بوسنايا، وهو كاهن مسيحي من القرن التاسع عشر، تجارِبَه الصوفية بقوله إن «روح [الإنسان] نفسَها تُصبح المسيح … وتصبح الربَّ ولا يُعدُّ الربُّ ربًّا.» لكن الحلَّاج كان يُثير وجهةَ نظر فلسفيةً أوسع. فقد كان يقصد أن كلَّ شيء هو الله. وكتب في إحدى قصائدِه: «أنت مَن أرى في كل شيء.» وكان هذا هو التوحيدَ المطلق؛ فكلُّ شيء، حرفيًّا، هو من الله بشكلٍ أو بآخَر.

وباعتباره موحِّدًا توحيدًا مطلقًا، جاهَدَ الحلاجُ لِفَهم فكرة الشيطان. ففي عالَمٍ مِن صنع الله، كان الشيطان قطعةً غير منسجمة. وفي التراث الإسلامي التقليدي، الذي كان يتشارك فيه مع اليهود والمسيحيِّين، كان الشيطان شرًّا خالصًا؛ متمردًا على الله لا يمكنه أن يتوب أبدًا ولا يمكن التصالحُ معه أبدًا. والسؤال: ألم يعْنِ ذلك أن الله الخالق كان إمَّا ظالمًا أو ليس قديرًا كما علَّمَنا الدين؟ وكان الزرادشتيُّون، أيضًا، قد انتبَهوا لهذا السؤال تحديدًا. فقد تحدَّوا جيرانهم المسيحيِّين بقولهم إنه إذا كان الله قديرًا، فلماذا إذن يسمح للشيطان بارتكاب الشرِّ في العالم؟ لماذا لا يستطيع أن يفدِيَ الشيطانَ كما فدى البشرية؟ توصل أحدُ أولئك المسيحيين، وهو إسحاقُ النينوي، إلى جواب. في نهاية العالم سيُفتدى بالفعل كلُّ مخلوق وحتى الشياطين ستدخل الجنة. وستختفي الجحيم. «لن تبقى الشياطينُ شياطينَ ولا الخُطاة خطاة.»

ابتكر الحلاجُ جوابَه الخاص على الزرادشتيين. فقد قال القرآن، مثلَ الكتب المقدسة المسيحية واليهودية، إن الشيطان كان أميرَ الملائكة، ورفَض أن يسجد لآدمَ وتَمرَّد على الله، ولهذا أُلقي في الجحيم. لكن الحلاج أعطى هذه القصةَ مُنعطَفًا مذهلًا. فقد قال إنه بسبب محبةٍ غَيورة ولا هَوادة فيها، رفَض الشيطانُ أن يسجد لآدم. وكان الشيطانُ النموذجَ الأصلي لكلِّ هؤلاء الصوفيين وغيرهم ممن لم يُركزوا سوى على تأمُّل الله، ولم يكن لديهم وقتٌ للآخَرين. ولكن، وفقًا للحلَّاج، كان الشيطان ضالًّا أكثرَ من كونه شريرًا. في وقتنا الحاليِّ سيعتبر معظمُ المسلمين وجهةَ نظر الحلاج غيرَ تقليدية جدًّا. ومع ذلك، في القرون الأولى للدين، كان يوجد متصوفةٌ مسلمون آخَرون اجتهدوا بالمثل في فَهم مسألة كيف ينسجم الشيطان مع العالم. إحدى هؤلاء، وهي رابعةُ البَصرية، صدَمَت مستمِعيها برفضِها أن تقول إنها تكرهُ الشيطان، والتهديدِ بحرق الجنة وإطفاء الجحيم؛ لأن الخوف من العقاب أو الأملَ في الثواب وقَف بين الناس ومحبة الله الحقيقية.

تتوافقُ رؤية الإيزيديين لملك طاووس مع هذا التراث. وبالإشارة إليه على أنه عزازيل أو إبليس، فإنهم يعتبرونه الملاكَ المتمرِّد، ولكن ليس أميرَ الظلام. وهم يُبررون ذلك ليس فقط بقولهم إن الشياطين ستتحوَّل إلى ملائكةٍ في نهاية الزمان، ولكن بأن هذا قد حدث بالفعل. شرح لي خيري بوزاني ذلك عندما وصلتُ إلى مكتبه في دهوك، المحاطِ بمنازلَ مطليةٍ بألوان الباستيل وتخرجُ من أسطحها قضبانٌ مَعدِنية، استعدادًا لبناء الطابق التالي للجيل القادم. قال خيري: «بعد تمرد عزازيل» حيث حرَصَ على تجنُّب استخدام الاسم المحظور، كما لاحَظْت «عوقب، لكنه تاب.» وبعد سبعةِ آلاف سنة من النَّفي، كان عزازيل قد أطفأ نيرانَ الجحيم بدموعه؛ ولذا أُعيد إلى مكانته بوصفه رئيسًا لجميعِ الملائكة. وهذا يُعطي الإيزيديين نظرةً مختلفة عن الكون، نظرة لا وجودَ فيها للجحيم. أضاف بوزاني: «لدينا فكرةٌ عن الإله الواحد لا تملكها الأديانُ السماوية؛ فالشر والخير كِلاهما نابعٌ من الله. ولا توجد قوتان متصارعتان تتقاتلان من أجل الهيمنة على الكون.» وبعيدًا عن عبادة الشيطان، يؤمن الإيزيديُّون أنه لا يوجد شيءٌ من هذا القبيل.

ربما يكونون قد تأثَّروا تأثرًا مباشرًا بأتباع الحلَّاج. فقد انتهى الواعظُ المتطرف نهايةً قاسيةً، بعد دعمِه لتمرُّد العبيد في جنوب العراق، قبَضَت عليه قواتُ الخليفة العباسي وقُطِّع إلى أشلاء. وهرَب أتباعُه إلى الشمال ولجَئوا إلى الجبال هناك، في منطقةٍ غير بعيدة من المكان الذي سيعظُ فيه الشيخ عدي لاحقًا وحيث يعيش الإيزيديون حاليًّا. من المحتمل أن أفكارهم انتقلَت إلى أسلاف الإيزيديين، إما في زمن الشيخ عدي أو حتى قبل ذلك، واندمجَت في حياتهم الدينية جنبًا إلى جنبٍ مع بقايا التقاليدِ والمعتقَدات الأقدم بكثير.

كان تقليدُ استرضاء الآلهة الشريرة تقليدًا قديمًا جدًّا في العراق. ويُسجل كتابُ «الزراعة النبطية» (المذكور في الفصل السابق) إحدى الصلوات، المستخدَمة في العراق في القرن التاسع، والتي يبدو أنه تظهر فيها آثارٌ للتأثير الإسلامي، ولكنها سرعان ما تكشف عن ذاتها بأنها من تُراث مختلف تمامًا: «لا إله إلا الله وحده، ولا شريكَ له … المنفرد بالجبَروت والكبرياء والعظَمة … تباركتَ يا ربَّ السماء وغيرها … بحقِّ حياتي نسألك أن ترحمنا. آمين … وفي أثناء تلاوتك لهذه الصلاة، قَدِّم قُربانًا محروقًا لصنَمِه يتألَّف من جلودٍ قديمة، وشحم، وشرائحَ من الجلد، وخفافيش ميتة. واحرِقْ له أربعةَ عشر خفَّاشًا ميتًا ومثلها من الفئران. ثم خُذ رمادها واسجد عليه أمام صنمه». كانت الصلاة موجَّهةً إلى الإله زحل، «سيد الشر، والخطيئة، والقذارة، والأوساخ، والفقر»، وكان الهدف منها إقناعَه بترك المتوسِّلين وشأنَهم.

لعب دورَ زحل في آشور القديمة الإلهُ نيرجال، الذي اعتُبِر أنه إلهُ شمس الظهيرة العاتية، والطاعون، والموتى؛ وكان يحرس معابدَه تمثالٌ ضخمٌ برأسِ أسد. قد يكون من المهم قولُ إنه اتخذ شكل ديكٍ صغير، يُشبهه «السنجق» إلى حدٍّ ما. وفي القرون اللاحقة، نصَب الميثرائيون تماثيلَ برأس أسدٍ منقوش عليها «ديو آریمانیو» (أي من أجل الإله آریمانیو) — إشارةً إلى أنجرا ماينيو، روح الشر في الديانة الزرادشتية، التي يبدو أن عبَدة الإله ميثرا أرادوا استرضاءها. وفقًا للمؤرِّخ اليوناني بلوتارخ من القرن الأول الميلادي، إن استرضاء الشرِّ حدَث في زمانه في إيران، واشتمل على قَرابينَ من مستخلَصِ نبات الهووما المُسْكِر مخلوطًا بدمِ ذئب مضحًّى به ومسكوبٍ في كهف مظلم. ذكر يوحنا ابن الفنكي، الكاتب المسيحي الذي عاش في القرن السابع الميلادي والذي جاء من الحدود السورية التركية القريبة من حيث لا يزال بعضُ الإيزيديين يعيشون اليوم، أن الناس في منطقته يعبدون الشمسَ، والنجوم، وأيضًا بعل شمين وبعل زبوب؛ والأول هو إله السماء القديم، والأخير هو لوسيفر.

figure
المعبد في لالِش. صورةٌ مأخوذة بواسطة المؤلف.

وبغضِّ النظر عن أصول مَلَك طاووس، فقد كان رفيقًا دائمًا طوال رحلتي مع طه إلى لالِش: فشعار الطاووس، المرسوم على الأبواب والبوابات، كان يظهر في كلِّ مكان عندما دخلتُ بلدة عين سفني الإيزيدية، القريبة من لالِش. وكذلك نُحت رأسُ طائر في الطابَق العُلوي لإحدى البِنايات. كان يوجد في هذه البلدة فرعٌ لمؤسسة تُسمى مركزَ لالِش الثقافي. كان مكانًا بسيطًا به مكتبةٌ جيدة ومُتحف صغير. التقيتُ في المكتبة بعياد، الذي كان من جيلٍ جديد من الإيزيديين، وهو يقرأ مجلَّة. كان يستطيع القراءة والكتابة بأربع لغات مختلفة وكان حاصلًا على شهادةٍ في العلوم السياسية. ومثل العديد من المثقفين الإيزيديين الذين تحدثتُ معهم، كان مفتونًا بتاريخ دينه. كنت قد بدأتُ أعتاد على أن يُعطيني كلُّ إيزيدي روايةً مختلفة قليلًا، الأمر لم يكن مفاجئًا؛ نظرًا إلى عدم وجود كتابٍ شامل لتعاليم عقيدتهم أو نصوص دينية متاحة للجمهور. وإنما يروي كلُّ شخص قصةَ الإيزيديين بطريقة مختلفة قليلًا، ومع ذلك توجد موضوعات مشتركة في كل نسخة من القصة.

كانت نظريةُ عياد عن قومه ما يلي: «نحن أحدُ شعوب الشمس. فيما مضى اعتبر أهلُ سوريا، وروسيا، وأرمينيا، وإيران، وتركيا الشمسَ إلهًا. كانت تلك هي المرحلةَ الأولى من ديننا، ألا وهي عبادة الطبيعة؛ ثم أصبحَت إيمانًا بإلهٍ واحد؛ وأخيرًا جاءت تعاليم الشيخ عدي.» قال عياد إن الإيزيديين لم يعودوا يعبدون الشمس. لكنهم استمرُّوا في الركوع لها عندما يُصلون. وعندما شغَل أولُ عضو إيزيدي في البرلمان مقعدَه في المجلس العراقي الجديد، لم يُؤدِّ اليمينَ الدستورية على القرآن أو الكتاب المقدَّس ولكن على علَم كردستان، وبالتحديد على صورة الشمس في وسَطه. لم يعتبر عياد ذلك صدفة. وقال: «نحن الأكرادُ الأصليون.» يخشى بعض الإيزيديين من أن الاندماج بين الأكراد سيُهدد الهُوية الإيزيدية، لكن عياد شعَر أن المسار الأسلَم والأصدقَ هو وضعُ شعبه في قلب الهُوية الكردية.

•••

وُصِفَت الرحلة بالسيَّارة من عين سيفني إلى لالِش في كتابِ رحلات من أربعينيات القرن الماضي بأنها تجرِبةٌ مؤلمة، يمكن أن تؤدِّيَ إلى كسر محورِ عجَلة السيارة. لكن الأمور تحسنَت؛ فيوجد الآن طريقٌ ممهَّد سَلِس يتعرَّج عبر وادٍ مُشجِر إلى المعبد. وفي اليوم الذي سافرت فيه على هذا الطريق، كانت السيارات واقفةً على طوله، وكان بإمكاني سَماعُ موسيقى البوب الكردية وضحكِ المراهقين. عندما اقتربنا أنا وطه من الضريح، مرَرْنا بتمثالٍ حجري للشمس. وتبيَّن أن الضريح عبارةٌ عن مجموعةٍ متنوعة من المباني الحجرية التي تُشبه ديرًا قديمًا (ادَّعى كاهنٌ مسيحي في العصور الوسطى أن لالِش كانت بالفعل كنيسةً مسيحية يومًا ما) ويختبئ في وادٍ مشجر. كان يومُ زيارتي هو يومَ الجمعة، عطلة نهاية الأسبوع الإسلامية. وكانت عائلاتٌ كثيرة في لالِش للتنزُّه تحت أشجار التوت والتين التي ظُلِّلتْ ساحاتها المرصوفة بالأحجار. يومُ الإيزيديين المقدَّس هو الأربعاء، حيث لا يعملون في الحقول، أو يُسافرون، أو يغتسلون، أو يغسلون ملابسَهم. ولكن قلة منهم هم مَن يحتفظون بهذا التقليد القديم، الذي قد يعود إلى المحرَّمات القديمة في بلاد الرافدَين قبل المسيحية. وأصبح الآن يوم الجمعة، باعتباره يومَ الصلاة الجماعية لدى المسلمين، العطلة الأسبوعية الأكثر شعبيةً من يوم الأربعاء.

بعد أن ترَكنا طه في السيارة — حيث قال إنه سيُقابلنا لاحقًا — انضمَمْنا أنا وعياد إلى إحدى هذه العائلات وجلسنا تحت الأشجار، مع شرائح البِطِّيخ على طبَق بيننا. وكانت العائلة التي جلَسنا معها لا تتحدث الإنجليزية ولا العربية. ابتسَم الأب، الذي كان يلفُّ على رأسه كوفيةً باللونين الأحمر والأبيض، بمودة، لكن محاولاتي لقول عبارةٍ أو اثنتين باللهجة الكرمانجية المتعثرةِ أخفقَت بالكامل. جلس أبناؤه معه، بينما تنزَّهَت زوجتُه وبناته على بُعد خطوات قليلة، مَحميِّين من أشعة الشمس بالجدران الحجرية لمبنًى صغير تعلوه قمةٌ مُستدقَّة مخروطية متعرِّجة، وهي سِمَة مألوفة في الأضرحة الإيزيدية. (قد تكون الخطوط المنحدرةُ من القمة المستدقَّة، المنبثقة من قمة المخروط إلى قاعدته، مُصمَّمةً لتُشبه أشعة الشمس.) تطوَّع عياد ليُريَني المعبدَ ذاتَه، وهو المبنى الواقع في مركز مجموعة المباني. ومشَينا في ممرٍّ غير مسقوف يُطلُّ على شُرفة، بها امرأة ترتدي ملابسَ بيضاء تنظر إلينا بصمت. وقد كتبَت رحَّالةٌ بريطانية من منتصف القرن العشرين، هي إي إس دراور، التي زارت لالِش خلال مدةِ وجودها في العراق، عن «النساء الموجودات بالضريح اللائي يرتدين ملابسَ بيضاء، ويُشبِهن الراهبات» واللائي لا يتزوَّجن أبدًا، ويقضين حياتهن في غزل الصوف والعنايةِ بالأضرحة والحدائق المحيطة بها. فكَّرت في أن هذه يجب أن تكون واحدةً من هؤلاء النساء. في العصر البابلي، كانت نساءٌ مقدَّسات يقضين وقتَهن كذلك داخل حرَم المعبد، يغزِلن الصوف.

وصَلنا إلى ساحة المعبد المضاءة بنور الشمس بعد أن عبَرنا مدخلًا بسقفٍ مقوَّس يعلوه تمثالٌ لرأسِ وعل. بجانب باب المعبد، كان يوجد نقشٌ بارز لثُعبان أسودَ كبير على الحائط الحجري، رأسه متَّجه لأعلى، ليكونَ بمنزلة تميمة لمنع الشرِّ من الدخول. وكان للباب عتبةٌ ضخمة. أشار إليَّ عيادٌ بأنه ينبغي أن أخلع حِذائي وأخطو فوق العتبة دون لمسِها، كما يفعل الإيزيديون؛ لأن المؤمنين يُقبِّلون العتبة التي يعتبرونها مقدَّسة. وهكذا دخَلنا إلى غرفة مظلِمة مرصوفة بالأحجار، تفوح منها رائحةُ الغبار والقِدَم، ويتسلَّل الضوءُ عبر النوافذ الصغيرة، وكانت الزخرفة الوحيدة التي تدلَّت من أعمدتها المركزية هي بعضَ لفائفِ الحرير ذات الألوان الزاهية؛ الأصفر، والأحمر، والأزرق الفاتح. ويمكن للمارَّة ربطُ أو فكُّ العُقَد فيها لجلبِ الحظ الطيِّب. وكان عددٌ قليل من المجموعات العائلية يتجوَّل في الغرفة التي تبدو مبهِجةً ولكنها هادئة.

نزَلنا مجموعةً من السلالم، ورأيتُ مَلَك طاووس مرةً أخرى، أخفَتْ ستارةً أمام كُوَّة أحد «السناجق» الباقية، وهي التماثيل النُّحاسية للملاك الطاووس. عندما وصلنا إلى الطابق السُّفلي، وجدنا أنفسنا في غرفة تفوح منها رائحةٌ كريهة لزيتٍ منتهي الصلاحية كان يتسرَّب من الزجاجات المكدَّسة على الحائط. وكان المراهقون يُلقون من وراء ظهرهم رَبطة من الحرير، ويرون ما إذا كان بإمكانهم كسبُ القليل من الحظ بضربِ حجر معيَّن في الحائط، وهو ما فكَّرت في أنه قد يكون تمثالًا تآكلَ بمرور الزمن لدرجة أنه لا يمكن التعرفُ على معالمه. (أخبرني الإيزيديون لاحقًا أن هذا الحجر كان معلقًا بمعجزةٍ في الهواء. قالوا، مذهولين من غباءِ ما كانوا على وشك وصفه: «لكن، قبل بضع سنوات، أصرَّ الأشخاص الذين يفتقرون إلى الإيمان على نصبِ جدار خلفه.») عندما خرجتُ من الغرفة رأيت تابوتًا حجَريًّا مُغطًّى بقطعة قماش خضراء. كان الإيزيديون يسيرون حوله، وهم يُمررون أيديَهم اليسرى على الضريح. وبُسِطَت عباءةٌ سوداءُ من الصوف، وهي تقليدية لدى الصوفية، بشكلٍ تبجيلي في مكان قريب. ولا يُسمح إلا للإيزيديين المتدينين جدًّا بارتدائها. وقيل لي إن الشيخ عدي كان يرتدي تلك العباءة. سألت هل كان مسلمًا؟ كانت هناك مجموعةٌ من الإيزيديين تستمع، وقالوا جميعًا في آنٍ واحد: «لا!»

أخبرني عياد أنني كنتُ محظوظًا؛ فقد اجتمعَت في المعبد في ذلك اليوم هيئةٌ تُدعى المجلسَ الرُّوحاني، وهو يضمُّ بعضًا من أكثرِ الشخصيات العامة نفوذًا وكبار رجال الدين. ولكي أطلبَ منهم الحضورَ للاستماع كان عليَّ أن أسير من المعبد إلى ركنٍ خفي في مبنًى مجاور. وكما هو مطلوب، خلعتُ حذائي قبل الدخول. لم تكن توجد نساء بالداخل. وجلسَت مجموعةٌ من الشبان على مقاعدَ حجرية بطول جانبِ جدران الركنِ الخفي. خلفها كانت ساحةٌ تؤدي إلى غرفةٍ يعقد فيها المجلسُ الروحاني اجتماعَه. كان بإمكاني سَماعُ مقتطَفاتٍ من محادَثة الرجال الجالسين على المقاعد، الذين كانوا يُناقشون بجِدية (باللغة الإنجليزية) تاريخَ القومية الكردية. وعندما تحدثتُ إليهم وجدتُ أن كثيرين منهم كانوا يحملون جوازاتِ سفر أجنبية، معظمُها من ألمانيا أو السويد. وكانوا ينتمون إلى طبقة الشيوخ، أعلى الطبقات الإيزيدية الثلاث. ووَفقًا للتقليد، يجب على الشيوخ الزواجُ من داخل طبقتهم. سألتُ أحدهم، ألم يكن هذا صعبًا على الإيزيديين الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا؟ أجاب: «أنا أُحافظ على العادات، وقد تمكَّنت من العثور على زوجةٍ من طبقة الشيوخ. لكن عندما تبلغ ابنتي العشرين من عُمرها، لن يكون بوُسعي التحكمُ فيما تفعله!»

كان بإمكاني رؤيةُ أعضاء المجلس يتجمعون في الساحة؛ وكان من الواضح أن الاجتماع قد انتهى. كان بعضهم يرتدي سترات، لكنَّ خمسة رجال، بلِحًى رماديةٍ طويلة ويرتدون الزيَّ التقليدي، كان يظهر عليهم جَلالٌ خاص. كانوا يُشبهون كثيرًا زعماءَ القبائل العربية، بأغطيةِ رءوسهم البيضاء المثبَّتة على رءوسهم بحلقات سوداء؛ وكان بعضهم يرتدي عباءةً رفيعة تُسمى «البِشْت» باللغة العربية وتدلُّ على الرتبة العالية. أحدُ هؤلاء كان المير، الزعيم المؤقَّت للإيزيديين. وكان رجل آخر يرتدي ملابسَ مختلفة قليلًا؛ إذ كان يعتمر عمامةَ رجلِ دين باللونَين الأحمر والأبيض ويرتدي عباءةً بيضاء مائلة للصُّفرة. كان هذا هو البابا شيخ، الذي كان عمَليًّا الزعيمَ الروحيَّ الأعلى للإيزيديين (رغم أنه، على الأقل أثناء وجودي هناك، ترك الحديث للمير). وإجمالًا كان الرجالُ في الساحة زعماءَ المعتقَد الإيزيدي. سألتُ إن كانوا سيمنحونني مقابلة قصيرة، وطلبوا مني أسئلتي مكتوبةً ثم أبعَدوني لأنتظرَ قرارهم؛ فجلستُ بعضَ الوقت في غرفةٍ عُلوية ذاتِ أرضية حجرية حتى استُدعيتُ مرةً أخرى. وقرَّروا أن التحدث معي سيكون مأمونًا.

كانت إجابات المير لطيفة. أخبرني أن الإيزيديين يريدون العيش بسلامٍ مع كل الأديان والحفاظ على تقاليدهم المتميزة؛ فقد كانت العلاقات مع رجال الدين المسلمين والمسيحيِّين جيدة، وكانوا يتزاوَرون في الأعياد؛ ورفض الإيزيديون العمل التبشيريَّ ولم يسْعَوا مطلقًا إلى تغيير ديانة الآخَرين. وقال: «في صلواتنا، نطلب الخيرَ للآخرين أولًا، ثم لأنفسِنا. فالناس سيُحاسَبون على أفعالهم، وليس على معتقَداتهم. والروح التي نفخَها الله في آدم تنتقل إلى كل البشر. لكنها تُقمَع في الصِّنف السيئ من الناس، وتتألَّق في أفضلهم.» بعدما انتهى، نهض الشيوخ الخمسة ذَوو اللِّحى الرمادية وهزُّوا عباءاتهم، وخرَجوا لتدخين السجائر. وأُحضر الدجاج المشويُّ والأرز. وانضم إلينا عياد وطه السائق. لم تكن توجد مقاعد. فأشار المير إليَّ أن أقفَ بجانبه. أكَل دون أن يتكلم، واضعًا يدَيه على بطنه كلما ترك شوكتَه وسكِّينه. ووقف طه، كما رأيت، هناك ولم يأكل شيئًا، كما كان قد أخبرني أنه سيفعل.

تركتُ لالِش وبداخلي العديدُ من الأسئلة التي كانت لا تزال دون إجابة. كان الإيزيديون مدعاةً لتساؤلاتٍ لا متناهية. مثلًا لماذا حُرِّم ارتداء الملابس الزرقاء، أو أكل الخَسِّ؟ عندما سألت الإيزيديين عن هذا الأمر، كانت إجاباتهم غامضة، وكان معظمها يُشير إلى أن هذه كانت قواعدَ عقيمة ربما فرَضَها القادة الإيزيديون السابقون لأن الأتراك المكروهين كانوا يرتدون اللون الأزرق، أو لمجرد أنهم لم يكونوا يحبُّون الخس. ذكَر ميرزا أن تاريخ قاعدة منع الخس ترجع إلى عام ۱٦٦۱ على وجه التحديد. وكنت أكثرَ ميلًا إلى رؤية الجذور القديمة في هذه التقاليد، ورؤية أوجُه الشبه بينها وبين الأديان الأخرى في المنطقة. فعند المندائيين، الأزرق هو اللون المرتبط بروها الشريرة. وبين الدروز، كان الأزرق هو لونَ الجلباب الذي كان يرتديه الشيوخ الذين يحظَون بأكبر قدرٍ من الاحترام. وكان لتحريم الخس نظيرٌ بين الدروز، الذين يتجنب شيوخُهم أحيانًا نوعًا مماثلًا من الخَضروات يُسمى الملوخية. وكان الحرانيُّون يتجنَّبون أكل الفاصوليا. لكني لم أستطع استيعاب من أين أتت هذه التقاليد. وبغضِّ النظر عن مقدار الجهد الذي بذلتُه، لا تزال العقيدة الإيزيدية تسترُ على الأقل بعضًا من أسرارها.

•••

في العالم الحديث، لم يعُد بإمكان الإيزيديين الاعتمادُ على إمكانية فعلِ ما يحلو لهم. فمع صعود بيروقراطيات حكومية واسعةِ النطاق وتقنياتٍ حديثة، يوجد الآن عددٌ أقلُّ من الأماكن التي يمكن للناس أن يختبئوا فيها. وفي بعض الأحيان، تتطوَّر فكرةٌ جديدة عن المواطَنة جنبًا إلى جنب مع البيروقراطية والتكنولوجيا، وتُسفر عن معاملةِ الأقليات معاملةً كريمة عندما لا يُعتبَروا مصدرَ تهديد. ولكن عندما يُعتبَرون تهديدًا، أو عندما تبرز أحكامٌ مسبقة قديمة، فإن النتائج تكون دمَوية وكارثية.

في القحطانية، مسقط رأس ميرزا، في إحدى الأمسيات الصيفية في عام ۲۰۰٧، تجمع حشدٌ من الرجال يرتدون جلابيبَ قُطنية بيضاءَ مائلةً للصُّفرة وأوشحةَ رأسٍ باللونَين الأبيض والأسود عندما رأَوا شاحنةً تتَّجه إلى المدينة. كانوا يأمُلون أن تكون قد جاءت لتوزيع الطعام. وبدلًا من ذلك، أحدثت انفجارًا بلغ من قوته أنه هدَم منازل، وشتَّت الناس في الشوارع، وترك جثثًا مجرَّدة من ملابسها. كانت الحقائقُ المجردة مروِّعة بما فيه الكفاية؛ فقد انفجرَت أربعُ شاحنات، كانت المواد المتفجِّرة مخبَّأةً على الأرجح داخل أبوابها، مخلِّفةً ما يقرب من ثَمانِمائة قتيل ونحوِ ألفٍ وخمسمائة منزل متضرِّر أو مدمَّر. علاوةً على ذلك، لم تصل قط سياراتُ الإسعاف والجرافات لأن الطرق كانت تعتبر شديدةَ الخطورة؛ وعُلِّقت الملابس على العِصيِّ بوصفها نُصبًا تذْكارية للأطفال الذين لم يُعثَر على جثثهم مطلقًا. قُتل في هذا التفجير أشخاصٌ أكثر من أي هجوم إرهابي آخَر باستثناء ذلك الذي استهدف برجَيْ مركز التجارة العالمي في الحادي عشَر من سبتمبر. كان السبب المباشر للتفجير هو مقتلَ امرأة إيزيدية تُدعى دعاء خليل أسود، قتلها أقاربُها بسبب رغبتها في الزواج من رجلٍ مسلم. وانتشرَت شائعةٌ بأنها اعتنقَت الإسلام قبل مقتلِها؛ ولذلك اعتبرتها جماعاتٌ مختلفة شهيدةً مسلمةً وبدأتْ بعد ذلك في تنفيذ أعمالٍ انتقامية ضد الإيزيديين.

ومع ذلك، وقَعَت هذه الاشتباكاتُ في سياقٍ تأجَّجَت فيه عمدًا الضغائنُ بين جميع الجماعات العِرقية في المنطقة على يدِ حكومة صدام، التي حاولَت الحفاظ على سيطرتها على السكَّان بتحريض العرب على الإيزيديين، والإيزيديين على الأكراد. وعلاوةً على ذلك، في السنوات التي تلَت عام ۲۰۰۳، انتشرت أنواعٌ من الإسلام المتعصب والعنيف، وفقًا لدخيل، وهو رجلٌ إيزيدي مُسنٌّ وبارز. قال لي بحزنٍ ونحن جالسان في البهوِ الجديد لفندق شيراتون في أربيل إن «الكراهية الدينية» تكمن وراءَ هجوم القحطانية. «لقد كانت كراهيةً دينية خالصة.» وقال إنه بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، تعمَّقَت الانقساماتُ الدينية، لكن هذا كان تغيرًا صغيرًا مقارنةً بتدهورِ مستوى التسامح الديني منذ عام ۲۰۰۳. وقد ازداد نفوذُ المسلمين السلفيِّين، الأصوليين الذين يريدون محاكاةَ سلوك المسلمين الأوائل بأكبرِ قدرٍ ممكن، ويُعادون بشكلٍ خاص الجماعاتِ المبتدِعةَ مثل الإيزيديين. لم يكن دخيل متفائلًا بشأن المستقبل. كان يظن أن الإيزيديين سيختفون من الوجود يومًا ما؛ لأنهم كانوا أقلَّ تنظيمًا من المندائيين والدروز. كما أنهم كانوا متصدِّعين جغرافيًّا. فقد عاش معظمُ الإيزيديين في العراق في سنجار، غرب أربيل، خارج السيطرة الكردية المباشرة. كانت هذه عادةً المنطقةَ التي كانوا يتمتَّعون فيها بأقصى درجاتِ القوة، وحيث صمَدوا عدةَ قرون أمام العثمانيِّين. ويعيش نحو خمسة عشر بالمائة من الإيزيديين حول لالش، شمال أربيل. ويعيش الباقون في أقصى الشمال، حول دهوك.

وأضاف دخيل بتفاؤلٍ أكبرَ أنه، من الناحية الأخرى، تحسَّن أيضًا مستوى تعليم الإيزيديين. فقبل الحرب العالمية الأولى، لاحظ كاتبٌ بريطاني أن عائلةً إيزيدية واحدة فقط يمكنها القراءةُ والكتابة. وفي أربعينيات القرن الماضي، كان عم دخيل أولَ إيزيدي على الإطلاق يصبح مدرسًا. وفي عام ۱۹٧۳ تخرَّج أولُ طبيب في الطائفة. أخبرني دخيل: «يوجد الآن الكثير من الأطباء الإيزيديين في كلية الطب. ويوجد أكثرُ من ثلاثة آلاف إيزيدي في الجامعة. ليس لدينا طريقةٌ أخرى للبقاء على قيد الحياة إلا من خلال التعلم.» وقد ارتفعَت تكلفةُ المعيشة في المناطق الكردية منذ استقرَّت المنطقة، مما جذب المهاجرين من بقية البلاد. ولكن وسط الارتفاع العام في الحماسة الدينية في جميع أنحاء البلاد، قلَّت على العكس حماسةُ الإيزيديين. وأضاف دخيل: «قبل عشرة أو خمسة عشر عامًا في سنجار، كانت عقوبةُ حلق الشارب هي الإعدام»، مذكِّرًا إيايَ أن الشارب كان فرضًا دينيًّا على الرجل الإيزيدي. «لم يعُد هذا يسري حاليًّا. ولم يعد الناسُ يرتدون ملابسَ خاصة عندما يحجُّون إلى لالش».

لاحقًا، بعدما عدتُ إلى أربيل، زرت الهضبة الصخرية التي بُنيَت عليها المدينةُ في الأصل، والتي تحوَّلَت الآن إلى موقعٍ تراثي. نظرَت من حافتها إلى الأسفل صوبَ ساحةٍ جُدِّدَت حديثًا كان يجلس فيها شبابٌ أكراد ويتجاذَبون أطرافَ الحديث حول النوافير. ثم نظرت بعيدًا، إلى الأفق الغربي المغطَّى بالغبار. هناك كانت تقع سنجار. تحُدُّها من الغرب قُرًى سوريةٌ يعيش فيها أكراد، وعرب، وإيزيديون. ووراء ذلك كانت تقع حَرَّان والأراضي الواقعة جنوبها، ثم تلال الساحل السوريِّ المشجرة. كانت كلُّ هذه الأراضي تاريخيًّا مَلاذًا لأقليات من جميع الأنواع؛ أتباع الديانات القديمة التي تصالحَت بطريقةٍ ما مع الإسلام، والمسلمون المبتدعة، والمؤمنون بأديانٍ مزَجَت تقاليدَ شعبيةً قديمة بممارساتٍ إسلامية فنتجَت ممارساتٌ هجينة رائعة وغريبة.

تقع تلك المنطقة الآن على أطراف الخلافة الإسلامية المزعومة، التي أعلنَتها في عام ۲۰۱٤ جماعةٌ إرهابية تشتهر بوحشيتها وتعصُّبِها الدِّيني. وهذا يُضيف إلى المعضلات الفظيعة التي يُواجهها الإيزيديون، حيث لم تعُد الآن أراضيهم نائيةً عن جيرانهم. وإلى جانب ذلك، يواجهون التحدِّيَ المتمثلَ في الحفاظ على ديانة سرية، لا تعرف حقائقَها إلا طبقةٌ كهنوتية، في وقتٍ يعيش فيه المنتمون إلى العقيدة جنبًا إلى جنب مع أتباع دياناتٍ أخرى في مدنٍ وليس في قرًى نائية؛ وهو ما يعني أنهم عُرضة لأسئلة حول دينهم لا يكونون في الغالب مجهَّزين بشكلٍ جيد للإجابة عنها. وفيما يتعلق بأولئك الذين انتقلوا إلى خارج البلاد، فليس من السهل أيضًا منعُ الأطفال من الزواج من خارج دينهم أو طبقتهم الدينية.

يُواجه ميرزا الآن تلك التحديات؛ لأنه غادَر العراق منذ مدةٍ طويلة؛ في عام ۱۹۹۱. كانت حربُ الخليج قد بدأت، جالبةً معها خطرَ التجنيد الإجباري في جيشٍ محكوم عليه بالهلاك. وانضمَّ إلى مجموعةٍ ضمَّت صديقًا له يُدعى أبا شهاب، كان يُحاول الهروب مع جميع أفراد أسرتِه. عبَروا الحدود بين العراق وسوريا من مكانٍ على مقربةٍ من غرب سنجار. كانت أمسيةً صيفية، وبدأتْ حرارةُ النهار الرهيبةُ تنخفض. وبسبب الحرب، كان انتباهُ الجيش قد انصرَف إلى أماكنَ أخرى؛ وقلَّ عددُ القوات المنتشرة على الحدود بين العراق وسوريا. وبمجرد دخول المجموعة إلى سوريا، كانوا سيتَّجهون إلى قريةٍ إيزيدية كان أهلها وَدودين، ولكنها كانت على بُعد أميال، وأثناء عبور تلك الأميال كان عليهم الانتباهُ تحسبًا من وجود ألغامٍ أرضية أو حُراس لديهم أوامرُ بإطلاق النار فور رؤية أي شخص.

بدأ ميرزا السير. وكان ينحني ويزحف حيثما كان يتعيَّن عليه ذلك. وفي منتصف الطريق سمع صوت إطلاق نار. فظنَّ أن أبا شهاب، الذي كان يحاول قطع طريقٍ مُوازٍ على بُعد ميل مع زوجته وجميع أبنائه، قد واجهَ مأزقًا، وكان ظنُّه صحيحًا. فقد رصد حرسُ الحدود عائلةَ أبي شهاب. وصاحوا بتحذيراتٍ ثم بدَءوا في إطلاق النار. كان الرصاص على مقربة منهم، وأصيب أحدُ أبناء أبي شهاب في رقبته. لكنهم بعد ذلك عبَروا الحدود ولم يُلاحقهم أحد. لم يحتفلوا بذلك طويلًا؛ إذ سرعان ما أدركوا أن أصغرَ طفلَين في الأسرة لم يكونا معهم. كان هذان الاثنان يركبان حمارًا لأنهما كانا صغيرَين جِدًّا على المشي، وبطريقةٍ ما، في خِضمِّ التعجُّل عبر الحدود، لم يلاحظ أحدٌ أن الحمار لم يلحق بهم. قبضَت الحكومة على الطفلين وأعادتهما إلى جَدِّهما؛ شريطةَ أنهما إن هربا، فسيفقد الجَدُّ حياتَه. ولم يرَهما أبو شهاب مرة أخرى منذ سبعةَ عشر عامًا.

هاجر أبو شهاب، وبقية أفراد عائلته، وميرزا إلى أمريكا الشمالية؛ حيث هاجر أبو شهاب إلى الولايات المتحدة، وميرزا إلى كندا. وظلت بينهما صلةٌ وثيقة. ربما كانت تجربتُهما المشتركة على الحدود هي التي دفعَت أبا شهاب إلى أن يتواصل من ميرزا ويطلبَ منه أن يكون «أخاه في الحياة الأخرى» أو مُرشِدَه الروحي. ففي الأجيال السابقة، كانت هذه العلاقة شِبهَ سُلطوية، تنطوي على طاعة الرجل العلماني المطلقة للشيخ. ويُصادق على العلاقة بأخذِ ترابٍ من أرض لالش، وتشكيله على هيئةِ كرة، تُمثل العالم، وتُخلَط بماءٍ من كانيا سَبْي المقدس، أو «النبع الأبيض» في لالِش. ثم تتشابك يدا الأخَوين الروحيَّين والتراب المبلل بينهما. هذه اللفتة الأخَوية ليست فقط بادرةً تربط الإيزيديين بعضهم ببعض. إنها أيضًا تذكِرةٌ بالزمن الماضي عندما تعلمَت الثقافاتُ العاداتِ بعضها من بعض وانتهجتها. إنها المساهمةُ الأساسية للإيزيديين في الحياة الغربية؛ فهذه هي العادة التي تحوَّلَت إلى عادةِ التصافح بالأيدي التي نعرفها، وذلك بفضل الديانة الميثرائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤