الفصل الرابع

الدروز

تمتدُّ بيروت، عاصمة لبنان، عشرين ميلًا، في شريطٍ من المباني الحديثة التي تضم مليونَ نسمة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتتناثر هنا وهناك منازلُ قديمة عسلية اللون بأسقفٍ حمراءَ بقيَت منذ كانت المدينة أصغرَ وأجمل. وأثناء سيري على الكورنيش في عام ۲۰۱۱، بجوار العشَّاق المتحفظين والملاهي الساحلية، سمعتُ في كل مكان أصوات ارتطام الأمواج بالصخور. وكان بحرٌ آخرُ مَجازي جَليًّا أيضًا. فقبل قرن من الزمان، سمع ماثيو أرنولد في مياه القناة الإنجليزية الباردة «الهديرَ الحزين، الطويل، المرتدَّ» لبحر الإيمان. في بيروت، كان ذلك البحرُ لا يزال فائضًا وعاصفًا.

وعلى الرغم من أن الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت أربعةَ عشر عامًا انتهَت رسميًّا في عام ۱۹۸۹، لا تزال الجماعاتُ الدينية المختلفة، التي كانت تلك الحربُ سببًا في تأليب العداوة فيما بينها، يُراقب بعضُها بعضًا بحذر. أُصيب في الحرب واحدٌ من بين كل أربعةِ لُبنانيِّين وقُتِل واحدٌ من كل عشرين. وارتكَبَت جميعُ الجماعات أعمالًا وحشية؛ وجميعها عانت منها. لكن التنوُّع في لبنان ليس فقط مصدرًا للنزاع. فهذا البلد، الذي ينقسم سُكانه البالغُ عددُهم خمسةَ ملايين نسمةٍ بين ثماني عشْرة طائفةً وديانة معترَفًا بها، يُقدم أقرب صورة موجودة في الشرق الأوسط للمساواة الدينية؛ ففيه دستورٌ يُعلن أن «الدولة تحترم جميع المعتقدات» وشعبٌ يتسامح مع التنوع الديني أكثرَ من معظم شعوب العالم؛ وَفقًا لاستطلاع مؤسسة جالوب.

كتب الشاعر اللبنانيُّ خليل جبران في كتابه «حديقة النبي»، مشيرًا بشكلٍ لاذع إلى هذا التعدد في الطوائف: «ويلٌ لأمة تكثر فيها المذاهبُ والطوائف وتخلو من الدِّين. ويلٌ لأمة مقسَّمة إلى أجزاء وكل جزء يحسب نفسَه فيها أمة.» ومع ذلك، فإن سبب كلِّ هذا التنوع هو سببٌ صالح؛ فقد كانت هذه الجماعات آمنةً في لبنان أكثرَ من معظم الأماكن الأخرى؛ لأنها تتألَّف في معظمها من مناطقَ جبلية لا تستطيع القواتُ الحكومية دخولَها إلا بعناء. في الوقتِ ذاته، موقع لبنان على البحر الأبيض المتوسط جعَله جزءًا من الغرب والشرق. فقد كان البحر الأبيض المتوسط، وليس يابسةَ أوروبا، هو قلْبَ الحضارة الغربية القديمة؛ فحوله عاش اليونانُ القُدامى، كما قال سُقراط مرةً، «مثل ضفادعَ حول بِركة». وشحَن التجَّار التوابل، والقمح، والأصباغ، والعبيد عبر البحر. وتبادل عبره الفلاسفةُ والقدِّيسون الأفكارَ والمعرفة. فالشاعر اليوناني هوميروس من القرن الثامن، والمؤرخ اليوناني هيرودوت من القرن الخامس، وعالم الرياضيات اليوناني إقليدس لم يكونوا من البرِّ الرئيسي لليونان؛ إذ كانوا من جزيرةٍ في بحر إيجة، وجنوب إيطاليا، ومصر، على الترتيب. ووُلد الفيلسوف اليوناني فيثاغورس في جزيرة ساموس في بحر إيجة لأبٍ لُبناني وقضى نَحْبه وهو يُدَرِّس في جنوب إيطاليا. كنت في لبنان لمقابلة أعضاء إحدى مجموعاته الدينية الثمانية عشرة، المسمَّاة الدُّروز. كنت أرغب في معرفةِ ما إذا كانوا خلفاءَ العصر الحديث لأتباع فيثاغورس، الذين شكَّلوا جماعةً قديمةً وسريةً من الفلاسفة الإغريق تُسمى أخوية فيثاغورس.

•••

ظهَر فيثاغورس في منهج الفلسفة الذي درَستُه في الجامعة؛ إذ ربما كان مُدرسًا لسقراط، لكنني لم أستطع تذكُّرَ أي شيء كتبه. اشتريت من مكتبة ببيروت كتابًا فرنسيًّا عن الفيلسوف، تُرجم إلى العربية. وأثناء قراءتي للكتاب، أدركتُ سبب عدم رؤيتي للكثير من أعماله؛ فهو لم يُدوِّن أيًّا منها على الإطلاق. وعلى الرغم من أن لبنان كان جزءًا من العالم اليوناني، كان اليونان ينظرون إليه على أنه غريبٌ وغامض (إلى حدٍّ ما مثلما كان ينظر إليه مستشرِقو القرن التاسع عشر) بسبب الحضارات القديمة التي وُجدت هناك. واستغلَّ فيثاغورس هذه الغرابة وإدراكَ أن الشرق يحتوي على حكمةٍ خفية منقولةٍ من الكِلْدانيِّين القدماء وبني إسرائيل؛ حيث انتشرَت أساطيرُ تزعم أنه تلقَّى تعليمه على يد حاخاماتٍ يهود، وكهنةٍ مِصريين، ومُنجِّمين كِلدانيين. ومع ذلك، لم يكن على استعدادٍ للكشف عمَّا تعلَّمه لأحد، باستثناء القلة المختارة التي سُمِح لها بالالتحاق بمدرسته. ويبدو أن هؤلاء التلاميذ كان يتعيَّن عليهم الالتزامُ بالصمت المطلَق مدةَ خمسِ سنوات، ولم يُسمح لهم حتى بإلقاء نظرةٍ خاطفة على مُعلمهم إلا بنهاية ذلك الوقت فقط. فأولئك الذين أفشَوْا أسرار تعاليم فيثاغورس كان يمكن أن يتوقَّعوا انتقامًا بلا رحمةٍ من الأعضاء الآخرين، الذين اعتبروا أيَّ خرق للسرية خيانةً لا تُغتفَر. بل إن هذا امتدَّ إلى بعض تعاليمهم التي كانت أكثرَ صعوبةً في تفسيرها. فعلى سبيل المثال، كان الجميع يعلم أنه لم يُسمح لأتباع فيثاغورس بأكل الفاصوليا أو حتى دهسِها. ولم يفهم أحدٌ السبب؛ لأن الأخَوية كانت تُفضل الموتَ على توضيح السبب. ولُخِّصَت روح السرية، التي استنكَرها الآخَرون في ذلك الوقت بوصفها دجَلًا، في شعارٍ في بداية الكتاب، وضَعه هناك الكاتبُ الفرنسي: «ادْنُوا، أيها الفلاسفة القليلون، فأسلوبُ حياة فيثاغورس يُحيط بكم! لكنكم، أنتم أيها الجمهور العادي من البسطاء، بعيدون كلَّ البعد عنه.»

وبالرغم من ذلك كشَف عددٌ لا بأس به من الناس تلك الأسرار، ليخرج على الأقل بعضٌ من معتقدات فيثاغورس إلى النور. وآمَن أتباع فيثاغورس بتناسخ الأرواح، وهذا دفَعهم إلى تطهير الروح، التي تتَّسم بأنها خالدة، وإهمالِ الجسد الذي اعتبَروه مجردَ غلاف مؤقَّت لها. وكانوا يرتدون ملابسَ بيضاء غيرَ مصبوغة رمزًا لالتزامهم بعيشِ حياة قاسية ناكرة للذات. (عندما واجه يوليوس قيصر كهنة الدرويد السلتيين في بلاد الغال، ظن أنهم لا بد أن يكونوا هم أيضًا من أتباع فيثاغورس؛ لأنهم آمَنوا أيضًا بتناسخ الأرواح، وكانوا يرتدون ملابس بيضاء، ويحفظون تعاليمهم، ويدرسون النجوم. ومن المحتمل أنه كان مصيبًا؛ لأن الغاليِّين كانوا قد تعرضوا للأفكار الإغريقية عدةَ قرون.) تعامل بعضٌ من أتباع فيثاغورس مع ممتلكاتهم باعتبارها مَشاعًا، وكانوا يميلون إلى تجنبِ أكل اللحوم، أو المنتجات الحيوانية، أو حتى الطعام المطبوخ. وكانوا متَّحدين لدرجة أنهم كانوا قادرين في سنواتهم الأولى على السيطرة على مدنٍ بأكملها، وحتى في القرون اللاحقة كانوا معروفين بتضامُنِهم. وكانوا يُفصِحون عن هُويتهم بعضهم لبعض من خلال عباراتٍ ورموز سرية مستمَدَّة من افتتانهم بالأرقام والهندسة. أكملَت مِجلةٌ درزيةٌ عثَرَت عليها القصة. ففي مقالٍ بعُنوان «فيثاغورس الحكيم»، أشارت المجلة إلى أن «الاضطهاد أدَّى إلى قمع الطائفة وشتَّت أعضاءها، لكن أتباع فيثاغورس حافظوا على تعاليمهم عبر الأجيال.»

قد يبدو طبيعيًّا أكثرَ أن نبحث عن خلفاءِ هؤلاء الفلاسفة اليونانيين في اليونان، وليس لبنان. لكن ذلك سيكون تجاهلًا لحدثٍ يعتبره بعضُ المؤرخين نهاية العصور القديمة وبداية العصور الوسطى. ففي عام ٥۲۹ ميلادية أغلقت أكاديمية أفلاطون أبوابَها للمرة الأخيرة. وكان قد مرَّ تسعةُ قرون منذ أن أسَّسها أفلاطون في أثينا. وبالرغم من موت الفيلسوف، وإحراق الرومان للمدينة، وتشتيت مُعلِّميها، نجَت فكرةُ الأكاديمية؛ وهي مكانٌ يمكن للناس أن يدرُسوا فيه مجانًا، وحافظَت على تفسيرٍ معين للفلسفة اليونانية. وحاول أساتذتُها الجمعَ بين تعاليم الفلاسفة القدامى الذين كانوا يوقِّرونهم؛ مثل فيثاغورس، وأفلاطون، وأرسطو. وعَلَّموا أن ثمة مُتسَبِّبًا أعلى لوجود الكون، وأطلقوا عليه اسم «الواحد». لكنه كان حقًّا مثل الرقم ١؛ سرمديًّا بكل ما في الكلمة من معنًى، وخاليًا من النقائص البشرية مثل العقل أو الإرادة.

كانت تلك الأفكارُ ملعونةً في المسيحية التي تؤمن بوجود إلهٍ خلَق العالم بمشيئته. وقرَّر الحاكم البيزنطي جستينيان، وهو إمبراطور مسيحي متدين، أن وجود الأكاديمية كان إهانةً لدينه وقوتِه الإمبراطورية. وفي أثينا، أصدر مرسومًا بأنه «لا ينبغي لأحد أن يُعلم الفلسفة أو يُفسر القوانين.» ولجأ آخِرُ سبعة أساتذة في الأكاديمية، الملقَّبين باسم «خلفاء أفلاطون»، إلى بلاد فارس. وتدهورَت مدارس أثينا.

كانت نهايةً مأساوية لعهد الفلسفة اليونانية في عالم البحر الأبيض المتوسط، حيث كان الفلاسفة يُعامَلون أحيانًا على أنهم أنبياء أو حتى آلهة. وقد جذب أفلاطون انتباهَ طائفة دينية ادَّعت أن لديها إمكانيةَ الوصول إلى تعاليم الفيلسوف غير المكتوبة؛ وكان لديها مراسمُ انضمام خاصة بها. وانتهى به الأمرُ بعالِم الرياضيات الغامض فيثاغورس، معلم سقراط، باعتباره صانعَ معجزات، قادرًا على استشراف المستقبل والوجود في مكانَين في وقتٍ واحد. وكان لهذه الطوائف بُعدٌ أخلاقي قوي؛ فقد كان أتباع فيثاغورس (الفيثاغوريُّون) على وجه الخصوص يُستحَثُّون على تمحيص ضمائرهم ليلًا والتغلُّب على الشراهة، والكسل، والشهوانية، والغضب. لكن هذه الطوائف صُمِّمَت أيضًا لتُلائم أشكال العبادة الوثنية القديمة، وفي أوروبا، كانت المسيحية تتجاهلها. كتَب أحد المسيحيين المجادلين: «ما علاقة أثينا بأورشليم؟» وكيَّف المفكرون الأكثرُ تعاطفًا، مثلُ القديس أوغسطينوس من هيبون، أفكارَ أفلاطون لتتناسب مع تعاليم المسيحية. ومع ذلك، تعرض أرسطو للتجاهل حتى العصورِ الوسطى، ولا يُذكر فيثاغورس عمومًا في الغرب اليوم إلا من أجل نظريته المتعلقة بالمثلثات.

في الشرق الأوسط، تمكَّنَت الفلسفة اليونانية من الهروب من مرسوم جستينيان؛ لأن تلك المنطقة كانت بعيدةً عن بيزنطة، وكانت تحكمها جزئيًّا الإمبراطورية الفارسية المنافسة، وفي أقلَّ من مائة عام أصبحَت تحت حكم الإسلام. وظل الحَرَّانيون يوقِّرون فيثاغورس باعتباره نبيًّا حتى أواخر القرن الحادي عشر. وبعيدًا عن مُعاداة الفلسفة اليونانية، كان العديد من المسلمين الأوائل حَريصين على اعتبار حضارتهم الوريثَ الحقيقي لليونان القديمة. وقد أقرَّ الفيلسوف العربي العظيم الكِنْدي بأن العرب واليونانيين كانوا ذَوي قُربى: فقحطان، أبو العرب، كان أخًا لجدِّ الإغريق، المدعوِّ يونان. واعتبر عالمٌ لاحق، هو الفارابي، أن المسلمين قَبِلوا الأفكار الفلسفية اليونانية التي كان المسيحيون قد فضَّلوا تجاهُلَها أو قمْعَها. وادَّعى أحدُ الخلفاء المسلمين الأوائل أنه رأى أرسطو في المنام وأنه حينئذٍ تناقش معه في الفلسفة. اقتنع الخليفة، نتيجةً لنقاشهما، بإباحة ترجمة الأعمال اليونانية إلى العربية.

كان المسلمون المبتدِعة يُكِنون احترامًا أكبرَ لليونانيين. وكانت مجموعةٌ سرية من المسلمين، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «إخوان الصفا» وعاشوا في جنوب العراق في القرن العاشر، تُكِنُّ، هي الأخرى، توقيرًا عظيمًا لفيثاغورس (استنكر العالم المحافظ ابنُ تيمية كتاباتهم ووصَفها بأنها «بِضع فُتات بلا طعمٍ من فلسفة فيثاغورس»). وتمامًا مثل أتباعه الفيثاغوريين، شعَروا أن الكون مبنيٌّ على الرياضيات؛ فعلى حد تعبيرهم «طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد». ويهتمُّ الدروز أيضًا بالفلاسفة العِظام، وبخاصة بعضهم وليس بالضرورة أشهرهم في الغرب. ووفقًا للمؤرِّخة الدرزية نجلاء أبو عز الدين في كتابٍ صدَر عام ۱۹۸٤، فإن «العقيدة الدرزية تتجاوز عقائدَ التوحيد التقليدية المعترَف بها وصولًا إلى تعبيراتٍ أسبق عن بحث الإنسان عن التواصل مع الواحد. ومن هنا كان تقديسُها لهيرميس، حامل الرسالة الإلهية، ولفيثاغورس … ولأفلاطون المقدَّس، ولأفلوطين.» أثارت ثلاثة أشياء في هذه الجملة اهتمامي عندما قرأتُها في غرفتي في هارفارد بينما كنت أستعدُّ لرحلتي إلى لبنان. مَن كان هيرميس؟ ولماذا كان أفلاطون «مقدَّسًا»؟ ولماذا كان فيثاغورس وأفلوطين مُهمَّين جدًّا؟ سيصبح كلُّ شيء في النهاية واضحًا، أو أوضح، على أي حال.

عندما التقيتُ بالزعماء الدينيين الإيزيديين في لالش، أخبروني أن الدروز يُشبهونهم؛ وأضاف أحدهم: «حتى إنهم لديهم نوعيةُ الشوارب نفسُها.» وأخبرني أحد الأساتذة الجامعيين الدرزيين خلال مدةِ وجودي في لبنان أن علاقة الدروز بالإسلام كانت مِثل علاقة المورمون بالمسيحية. فلديهم وحيُهم وفلسفتهم اللذان قد يعتبرهما عامةُ المسلمين هرطقةً. وفي الغالب يقودهم سياسيًّا عائلةٌ واحدة: هي آل جنبلاط، الذين كانوا قد نجَحوا في تحقيق عملية توازُن ببقائهم مُلَّاك أراضٍ إقطاعيِّين، مقرُّهم قلعةٌ في جبال لبنان الجنوبية، وفي الوقت نفسِه يقودون حزبًا سياسيًّا اشتراكيًّا متطرفًا حديثًا. ويعتمد آل جنبلاط اعتمادًا كبيرًا على الولاء القبَلي للدروز، لكن حزبهم من الناحية النظرية منفتحٌ على جميع الأديان. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، مكَّنَتهم مهاراتُهم السياسية من التفوق على مُنافسيهم القدامى على قيادة الدروز، آل أرسلان، الذين يمتلكون سلسلةَ نسبٍ أعرقَ، ولكنْ أموالًا وسُلطة أقل. وكنت آمُل أن أقابل كلًّا من الأمير طلال أرسلان ووليد جنبلاط، بالإضافة إلى كبيرِ رجال الدين لدى الدروز.

في وسط بيروت، كانت مجموعةٌ صغيرة من الناس تتظاهر. رأيت شِعاراتهم على أعمدة الإنارة واللافتات بالقُرب من مركز المدينة المُجدَّد: «لا للطائفية»، «لا للرِّشوة»، «لا للغباء». كانوا يُطالبون بالحق في الزواج المدنيِّ حتى يتمكَّن اللبنانيون من مختلِف الطوائف من الزواج بسهولة أكبر. كانت فرصةُ نجاحهم ضئيلة. فلبنان مجتمعٌ ليبرالي من نواحٍ كثيرة؛ فالحانات والملاهي الليلية تعجُّ كلَّ ليلة بالمسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء. ولكنَّ مَيلًا راسخًا للنزعة المحافظة ينتشر في الخفاء، ولا تستحسن التسلسلاتُ الهرمية الدينية المسيحية والمسلمة المحافظة ذاتُ النفوذِ الزواجَ من خارج الديانة.

كان جنودٌ متمركزين في نقاط رئيسية حول وسط المدينة. ظلَّ خِلاف بين الفصائل السياسية في مجلس النواب اللبناني مستمرًّا عدةَ أشهر، مما حال دون تشكيل الحكومة، ونزلت القواتُ إلى الشوارع لمنع حدوث اضطرابات. يُمكن للأحزاب الدرزية أن تؤثر في هذه النزاعات، ولكنها لا تمتلك الأغلبية: فبِوُسع وليد جنبلاط أن يطلب ولاءَ ستةِ أعضاء على الأقل في البرلمان المؤلَّف من ۱۲۸ عضوًا، ولآل أرسلان عضوان.

كان من المقرَّر أن ألتقيَ بالسفيرة البريطانية في أحد المقاهي، ومن هناك كنا سنذهب معًا لمقابلة جنبلاط. وأثناء توجُّهي إلى مكان لقائنا، تجوَّلتُ عبر قسم من المدينة رُمِّم بشكل جميل. ولأنه يقع على حدود الحرب الأهلية، فقد دمَّرتْه الشظايا ونيرانُ الأسلحة، لكن رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الملياردير في أواخر التسعينيات من القرن الماضي وأوائل العَقْد الأول من القرن الحالي، استثمَر مبالغَ طائلةً في ترميمه قبل اغتياله بالقرب منه في انفجارِ سيارة مفخخة عام ۲۰۰٥؛ ربما بتحريضٍ من الحكومة السورية. أعادت الحادثةُ إلى الأذهان ذِكرى الحرب الأهلية وجعلَت بعضَ اللبنانيين يتوقَّعون بدء صراع داخلي جديد.

مرَرتُ بمسجدٍ شُيِّد مؤخرًا يفوق في ارتفاعه كنيسةً مجاورة، ولاحظتُ أن الكنيسة في المقابل كانت حاليًّا تزيد من ارتفاعِ برجها ليتساوى مع ارتفاع المِئذنة. كنتُ أحاول أن أحسم أمري بشأنِ ما إذا كانت هذه إشارةً بائسة للتنافس الديني أم تذكيرًا منعشًا للذاكرة بالحرية الدينية، عندما شتَّتَ انتباهي اكتشاف. فبعيدًا عن الأنظار في شارعٍ جانبي، كان يوجد مسجد، مُهمَل نسبيًّا بجانب هذين المبنيَين الأحدث والأكبر، بَناه حاكمٌ درزي للمدينة منذ عدةِ قرون. عندما ألقيتُ نظرة على المسجد من الخارج، لاحظتُ ما يشبه نجمةً خُماسية متداخلة مع زخارفه الحديدية الخارجية.

كانت النجمةُ الخماسية رمزًا له أهميةٌ خاصة عند الفيثاغوريين، وكان بإمكانهم استخدامُها لتعريفِ أنفُسِهم للأعضاء الآخرين. لقد أثارت اهتمامَهم لأنها مكوَّنة من عشَرة مثلثات؛ إذ يُمثل لهم رقمُ عشرة الكمال، والمثلث رمزٌ لنظرية فيثاغورس الشهيرة. اعتقد الفيثاغوريون أن الأرقام والإسقاطات الهندسية للأرقام كانت اللبِناتِ الأساسيةَ للكون. لذلك عندما يكون هناك نمطٌ في الهندسة أو الرياضيات، فإنهم ينسبون إليه رسائلَ أخلاقية وعملية. وكانوا يؤمنون بأن نظرية فيثاغورس لم تُثبِت فقط أن طول وتر المثلث يجب أن يكون خمسةً إذا كان طولُ ضِلعَيه الآخَرين ثلاثة وأربعة. ففي لغة فيثاغورس الرقمية، كان الرقم اثنان هو رقْمَ المرأة، وثلاثة هو الرقم المخصَّص للرجل، ومن ثَمَّ كان الرقم خمسة هو رقم الزواج. والرقم أربعة كان يُمثل العدالة لأنه يمكن تقسيمُه مرتَين بالتساوي. لذا فإن جوانب المثلث التي أطوالها ثلاثة، وأربعة، وخمسة بوصات كانت توضِّح بعباراتٍ لا لَبْسَ فيها رسالةً مكتوبةً في الهيكل الرياضي للكون، ألا وهي: «يجب على الرجل أن يتصرَّف بعدل في الزواج». وقد اشتهر الأزواجُ الفيثاغوريون بإخلاصهم لزوجاتهم.

تساءلتُ عمَّا يعنيه وجودُ هذا الرمز الفيثاغوري هنا. هل كانت مصادفة؟ نحَّيت هذا السؤال جانبًا في الوقت الحالي؛ لأنني كنت متأخرًا عن مقابلتي. أسرعتُ مارًّا بمحلات الملابس والمطاعم الباهظة الثمن، والأسقف المقوسة الأنيقة، والنوافذ ذات المصاريع، ووصلت إلى السفيرة في الوقت المناسب لألحقَ بوسيلةِ توصيلي إلى منزل وليد جنبلاط.

•••

يصل عدد الدروز إلى نحو مليونِ شخص، نصفُهم أو أكثر في سوريا والبقية منقسمون بين إسرائيل (۱۲۰ ألفًا) ولبنان (۲٥۰ ألفًا). وفي كل بلد كان عليهم أن يختاروا جانبًا ينحازون إليه. فالدروز في إسرائيل يخدمون في الجيش وينأَوْن بأنفسهم عن الفلسطينيِّين. وفي سوريا، كانوا يدعمون في الغالب حكومةَ بشار الأسد خلال الحقبة الدمَوية التي أعقَبَت انتفاضاتِ ۲۰۱۱. وعندما بدأَت الحربُ الأهلية في لبنان عام ۱۹٧٥، قاتلَت ميليشيا جنبلاط الدرزيةُ جنبًا إلى جنب مع تحالُفٍ مؤلَّف في معظمه من المسلمين واليساريين في مواجهة حكومة البلاد التي يُهيمن عليها المسيحيون ويدعمها الغرب. أصبحَت الحرب أكثرَ تعقيدًا مع مرور الوقت. وتفكَّك كِلا الجانبين: فغالبًا ما كانت الجماعات المسيحية تتقاتل، وأحيانًا كانت تتحالف مع دولٍ ذاتِ غالبية مسلمة مثل العراق وسوريا. واختلف الدروزُ مع الجماعات الإسلامية الأخرى وخاصة الميليشيات التي تنتمي إلى الطائفة التي أصبحَت أكبرَ جماعة دينية منفردة في لبنان، وهي طائفةُ الشيعة المسلمون. وفي مرحلة الصِّراع الطويلة التي تأرجَحَت فيها الأوضاع، دُمِّر وسطُ المدينة القديم.

الآن عاد حيًّا عصريًّا من جديد، وكان الشارع الذي يسكن فيه جنبلاط هادئًا ويبدو عليه يُسر الحال، وفيلته كبيرةٌ ومريحة. وقف مجموعةٌ كاملة من الحراس حول المدخل. وركبنا مصعدًا إلى الطابق العلوي، وعندما خرَجْنا منه، أقبل نحوَنا كلبٌ ضخم يتقافز. تبعه جنبلاط عن قرب. وبرَزَت من جانبَي رأسه الأصلع كتلةٌ من الشعر الأبيض الأشعَث. كان لديه شاربٌ كثيف وملامحُ شخصٍ داهية. قبل أن يخلُف والده، كمال، ويصبح مالكَ إقطاعية، وزعيمَ حزبٍ اشتراكي، وزعيم المتمردين في الحرب الأهلية، كان مُدرسًا للتاريخ. كانت السفيرة قد همسَت لي في المصعد قائلة: «إنه يُعطيني كتابًا في كل مرة نأتي فيها. وفي كل مرة أراه، أظلُّ خائفة من أن يختبرَني في الكتاب الذي أعطاني إياه آخر مرة.»

عندما دخلنا غرفةَ مكتبه، فهمتُ ما كانت تعنيه. فقد تناثرت الكتب وقصاصاتٌ من الصحف على مكاتبه المتعددة؛ وعُلِّقَت على الحائط صورٌ لعثمانيِّين من القرن الثامن عشر وبندقيةٌ قديمة مزخرَفة. أخبرنا أنه قد اكتشف متجرًا للتحف في إسطنبول أعجَبه بشدة. فكرتُ في أن هذا الرجل سيُشاركني بالتأكيد في حماسي لتتبُّع أصول قومه والكشف عن روابطهم باليونان القديمة. لكن عندما سألتُه عن الديانة الدرزية، أعطاني إجابةً غيرَ متوقعة. «لا أعرف شيئًا عن الدروز»، هكذا صرح الزعيم الأبرز للدروز ملوِّحًا بعنفٍ بذراعه. ومن بين أكوام الكتب التي لديه، اختار كتابَين من تأليف طارق علي وأعطاني إياهما هدية. ودَعاني لزيارته في قصره في الجبال. ثم ودَّعَنا. إما أنَّ أقوى رجل درزي في لبنان، وهو رجلٌ مثقف بحكم مناصبه ومؤهلاته، كان قد استُبعِد من تعاليم دينه، أو أنه كان حكيمًا بما يكفي لتجنُّب نقلِها إلى شخصٍ غريب. كانت لديَّ نيةٌ صادقة لِقَبول دعوته لقضاء بعضِ الوقت بين المجتمَعات الدرزية، لكن كان عليَّ أولًا أن أعثر على شخصٍ أكثر استعدادًا للحديث معي.

لحُسن الحظ، وافق على المساعدة رجلٌ درزي يُدعى ربيعة، كان يعرف السفيرة وكان حريصًا على مساعدتنا في فَهْم مجتمعه. أخبرنا أن المشكلة الوحيدة هي أنه هو شخصيًّا لم يكن يعرف الكثير عنه. لم يكن متفردًا في ذلك. فالدروز العاديون يعيشون أساسًا على النحو الذي يختارونه، بشرط أن يُساعدوا في الدفاع عن المجتمع، والحفاظ عليه، والزواج ضمنَ نِطاقه. لكن لا يُسمح لهم بمعرفة تعاليم دينهم. وهذا هو السبب في أنهم يُعرَفون باسم «الجُهَّال». فعلى الرغم من قوة جنبلاط وثروته، كان في يوم من الأيام واحدًا من «الجُهَّال». ولا يعرف تعاليمَ الدين بالكامل إلا المنضمُّون للطائفة الدينية؛ الذين يُعرَفون أيضًا باسم الشيوخ أو «العُقَّال»، والذين يُكرِّسون أنفُسَهم لحياة التأمُّل والفقر. وأوضح ربيعة أنه لهذا السبب كان قد رتَّب لنا زيارةً لدار الطائفة، المقر الإداري للديانة الدرزية في لبنان. كانت رحلةً قصيرة عبر شوارع بيروت المزدحمة.

عندما وصلنا إلى هذا المكان المقترِن بالغموض، وجدتُ أنه مبنًى متواضعٌ مكوَّن من طابقَين في منطقةٍ درزية محصورة غرب بيروت تُسمى فردان. داخل المبنى، كان رجالٌ، يرتدون عباءات سوداء، وسراويلَ سوداء فضفاضة، وطرابيش طويلة بدون حافَاتٍ ملفوفةً بقماش أبيض — الزيُّ التقليدي لشيوخ الدروز — يسيرون في الأرْوِقة. ومن حينٍ لآخَر، كنتُ أرى نساءً أيضًا، يُغطين شعرَهن ونصف وجوههن بقماش أبيض. هؤلاء كنَّ شيخات (حيث تُسمى أنثى الشيخ شيخة).

كان لدينا موعدٌ مع شخصيةٍ تُسمى شيخ العقل. كان هذا الرجلُ هو الرئيسَ الرسمي لرجال الدين الدروز. تلقيتُ مسبقًا تحذيرًا بألَّا أستغرق أكثرَ من اللازم من وقته؛ فقد كان معروفًا بكونه مشغولًا وحادَّ الطباع إلى حدٍّ ما. لذا دخلتُ مكتبه شاعرًا ببعض الذعر، برفقةِ ربيعة والسفيرة. سألته عن العلاقة بين الدروز والإسلام، فأظهر أنه على درايةٍ بالقضايا الإسلامية، مقتبسًا في كثيرٍ من الأحيان من القرآن، حرصًا منه على إثباتِ أن الدروز مسلمون تقليديُّون. «نحن نُعلِّمُ الحاجةَ إلى الأعمال الصالحة. ونتجنبُ كلَّ شيء ممنوعٍ في الدين والقانون الدولي. ونحترم الآخَرين. ديننا الإسلام. وطائفتنا هي الموحِّدون. ولقَبُنا هو الدروز.»

لم يعتذر على عدم إخباري بالمزيد. وقال: «الأمر يتعلق بالخصوصية وليس السرية. ألَا تتمتع المرأةُ بالخصوصية في بيتها؟ نحن نطلب الخصوصية ذاتها لمعتقَداتنا.» وكانت طريقته قد أرهبَتني ودفعَتني إلى الصمت. لكن ربيعة لم يرضَ بأن يدَع الأمر هكذا. لذا تحدثَ من الخلف. قال: «حدثنا عن «التقمُّص» يا فضيلة الشيخ. ما أساس إيماننا به؟» حدَّق فيه الشيخ بغضبٍ وأجابه بسرعةٍ بسؤال آخرَ بطريقةِ مُدرس يُحاول كبح تلميذٍ وقح. هل فهم ربيعة معنى «التقمص»؟ إذا كان الجواب بالنفي، فما الذي كان يفعله بطرح السؤال؟ كانت الرسالة المستقاة من نبرة صوته واضحةً بما فيه الكفاية: كان ربيعة ينتهك خصوصيةَ عقيدته.

كان «التقمص» كلمةً جديدة على أذنَيَّ. بدَت مثل الكلمة العربية «قميص». لماذا لم يرغب الشيخ في الحديث عنه؟ أوضح ربيعة ونحن نمضي مُغادرين بالسيارة أن «التقمُّص» يعني «تناسُخ الأرواح». إنها فكرةُ إمكانية تغيير الأشخاص لأجسادهم كما يُغيرون القمصان؛ فالجسد مجردُ عباءة للروح. فهمتُ لماذا لم يعجب الشيخ بالسؤال. فمعظم المسلمين لا يعتبرون تناسخ الأرواح من المعتقَدات التقليدية. ومع ذلك، فسَّر هذا اهتمامَ الدروز بفيثاغورس. فقد اشتهر بإيمانه بتناسخ الأرواح؛ ففي مرةٍ منع رجلًا من ضربِ كلب، قائلًا إنه تعرف في عُوائه على صوتِ صديق ميت. للسبب ذاته، كان الفيثاغوريون غالبًا نباتيِّين. ولذلك يبرز السؤال التالي: ما مدى عمق تبجيل الدُّروز للفلاسفة الإغريق؟

كنتُ آمُل أن أكتشف المزيد من اجتماعي التالي، الذي عُقد في مكانٍ أفخم من الاجتماعات السابقة. كانت القلعة تقع على تلٍّ بجنوب بيروت. عند أبوابها قابلَتنا مجموعةٌ منشغلة من الخدم. واصطحَبونا إلى غرفة استقبال كان فيها الأمير طلال أرسلان، وهو رجلٌ ضخم ومرح في أوائل منتصَفِ العمر، جالسًا تحت صورة والده، الذي بدا أكثرَ مرحًا من الابن، والذي يظهر في الصورة وهو يُدخن النرجيلة. أكَّد الأمير — وهو لقبٌ حصل عليه بسبب انحداره من ملوك العرب في فترةِ ما قبل الإسلام — ما عرَفتُه عن «التقمص». قال: «نحن لا نؤمن بالموت على الإطلاق». فلم يكن الدروز يولُون القبورَ أيَّ اهتمام؛ فالروح تسكن الجسد فقط باعتباره غلافًا مؤقتًا لها، وتولد من جديدٍ إلى الأبد. لم يكن من المعتاد البكاءُ في الجنازات. و«القبور» القليلة التي قدَّسها الدروز كانت في الواقع أضرحةً فارغة. وأوضح الأمير أنه «توجد ثلاثة أمور مهمة في معتقَداتنا. تناسخ الأرواح، واحترام جميع الأديان السماوية، والإيمان بالعقل الكوني».

لكن عندما ألحَحتُ عليه ليقولَ المزيد، كانت الإجابات التي تلقَّيتُها غامضة. أخبرني رجلٌ أحمر الشعر كان جالسًا إلى جانب الأمير أن الديانة الدرزية ديانة روحانيةٌ أكثر من كونها شعائرية. وقال آخَر من تابعي الأمير إنها فلسفيةٌ أكثر من كونها دينية. وأضاف بازدراء: «ليس كل الشيوخ يفهمون الفلسفة. فقِلةٌ منهم سيفهمون الأفلاطونية المحدَثة للشيخ أبي عارف حلاوي.» كان حلاوي وَليًّا دُرزيًّا اشتهر بزُهده، وتُوفي عام ۲۰۰۳ عن عمرٍ ناهز المائة؛ وتُعلَّق قصائده الدينية الموجَّهة إلى «خالق الكون» في البيوت الدرزية. ولكن ما معنى أن نقول إنه كان أفلاطونيًّا مُحدَثًا؟ وما هو العقل الكوني؟

•••

تُظهر لوحة لرافائيل جميعَ فلاسفة اليونان القديمة في مشهد خيالي، حيث يقف أرسطو وأفلاطون جنبًا إلى جنبٍ في وسطهم جميعًا. ويشير أرسطو إلى الأسفل نحو الأرض وأفلاطون إلى الأعلى نحو السماء. تُلخص الصورة بدقةٍ الفرقَ بين مدرستين فكريتين. فقد ركَّزَت فلسفةُ أرسطو على العالم المادي: وتُشتَق الكلمة الحديثة «فيزياء» من عُنوان أحدِ كتبه. بينما رأى أفلاطون العالم الماديَّ مجرد ظلٍّ لعالم الأفكار. وكانت وجهةُ نظره مؤثرةً للغاية عند الكُتَّاب الذين أعادوا تشكيلَ الفلسفة الإغريقية في القرون الأولى بعد الميلاد، والذين أطلَق عليهم العلماءُ المعاصرون تسميةَ الأفلاطونيِّين المحدَثين ومن أبرزهم كاتب من القرن الثالث يُدعى أفلوطين. كان أفلوطين وتابعاه يامبليخوس وفرفوريوس الصوري من الشرق الأوسط (إذ وُلدوا في دلتا مصر، وبلدة سورية بالقرب من حلب، ومدينة صور اللُّبنانية، على الترتيب)؛ وهذا دليلٌ على أن الفلسفة اليونانية كانت بالفعل قد صارت جزءًا لا يتجزَّأ من ثقافة البحر الأبيض المتوسط أو حتى الشرق الأوسط. وحاول هؤلاء الثلاثة، جنبًا إلى جنب مع كتَّاب آخرين أقلَّ تأثيرًا من نفس المرحلة، تكوينَ توليفة من الفلسفة اليونانية من شأنها تسويةُ أي خلافات بين مختلِف مدارس الفكر اليوناني.

عندما أُغلق عيني وأفكِّر، أشعر كما لو أنني أستطيع التفكيرَ في المفاهيم المجردة — على سبيل المثال، الأرقام أو الأفكار مثل الحب أو الحقيقة — تتَّسم بالمثالية والثبات، على عكس الأشياء التي أُقابلها في العالم المادي. شَبَّه أفلاطون العالم المادي بالظِّلال التي تُرفرف على جدار أحد الكهوف؛ فلن يلمح العقلُ الحقائق التي يُمثل العالم المادي مجردَ ظلٍّ لها إلا إذا أصبح أكثرَ انعزالًا وانفصالًا عن المؤثرات الخارجية وركَّز على عالم الأفكار. لقد كان الجزء المفكِّر من الشخص، وليس الجسد، هو ما كان أفلاطون يعتقد أنه قد ينجو من الموت. ومع ذلك، فمن الواضح أن هذا العالم الروحي أو الفكري لديه القدرةُ على التأثير في العالم المادي. فمن خلال التفكير، يمكنني اتخاذُ قرارٍ بشأنِ ما يتعيَّن فعله؛ ثم أُحرك ذراعي لتنفيذِ قراري. لذلك اقترَح الأفلاطونيُّون المحدَثون أن الروح أو العقل يمكن أن يعملا على المستوى الماديِّ وكذلك الفكري. ووضَعوا فَرضيات حول التسلسلِ الهرمي لمستويات الوجود، وكيانات مثل العقل الذي يمكن أن ينتقل من شخصٍ إلى آخر. وعلى قمة هذا التسلسل الهرمي كان «الواحد».

وعلى الرغم من تسميتهم بالأفلاطونيِّين المحْدَثين، كانوا أيضًا من المتحمِّسين لفيثاغورس. يبدو أن فيثاغورس كان من دُعاة التوحيد، وأحد رموزه المقدَّسة كان دائرةً بها نقطةٌ في المركز. تُمثل الدائرةُ الكون، والنقطةُ هي «الواحد»؛ فعلى غِرار «النقطة الثابتة للعالم المتحرِّك» لتي إس إليوت، اعتمد الكونُ بأسْرِه على «النقطة الثابتة» غير المتغيِّرة والسرمدية. وهذا لا يعني أن «الواحد» يمتلك إرادة، أو أنه يفعل أشياء؛ فطبيعته بعيدةٌ جدًّا عن عالمنا الزائل غير الكامل لدرجة أنه كان يفوق قُدرة الفكر البشري على العثور على حتى جملة واحدة لوصفه، عدا أنه موجود وغيرُ متغير ومثالي. وهو لم يخلق العالم؛ فهذا من شأنه أن يُفسد كمالَه بتثبيتِه في لحظةٍ معيَّنة من الزمن. وإنما وجوده يستتبعُه وجود كلِّ شيء آخر؛ مثلما أنَّ وجود العدد ١ يستتبعه وجودُ جميع الأرقام الأخرى. فالكون «ينبثق» من «الواحد»، على حدِّ تعبير الأفلاطونيين المحدَثين، وتُسمى نظرية سبب وجود الكون بالانبثاق.

وما انبثق من «الواحد» في المستوى الأول كان الفكرَ أو العقل الكوني، وتلاه انبثاقُ كيان يُسمى الروح الكونية؛ وشكل هؤلاء الثلاثة نوعًا من ثالوث الفيلسوف. ومن العقل والروح الكونيين انبثق العالَمان الماديُّ والروحي. اقترح بعضُ الأفلاطونيين المحدَثين أنه يوجد عددٌ من الكائنات الروحية الأخرى التي كانت وسيطةً بين «الواحد» والبشرية. واستند قانونٌ أخلاقي على هذه الرؤية للكون. فأن تكون صالحًا يعني أن تتحركَ نحو «الواحد»؛ أي أن تتَّحد معه بالابتعاد عن العالم المادي. كتب أفلوطين: «فلينهَضْ مَنْ يملك القوةَ ويرجع إلى نفسه، منصرفًا إلى الأبد عن الجمال المادي الذي جعله يشعر بالفرح يومًا ما.» كانت الأنانية وحبُّ الذات مَصدرَين للانقسام والسبب الأصلي للانفصال عن الواحد. وكان أفلوطين حريصًا على إبقاء فلسفته سرًّا عن الغرباء. ونصَّت قاعدتُه على «عدم الإفصاح عن شيء لمن لا يملكون المعرفة»، رغم أن هذه القاعدة نُقِضَت بعد وفاتِه عندما نشَر أتباعه أعماله الرئيسية.

ما لم أستطع فَهْمه في البداية هو كيف أصبحَت هذه الأفكار القديمةُ من صميم طائفة إسلامية حديثة في لبنان. كان الأمير على استعدادٍ لتنويري. نظَر من نافذة غرفة الاستقبال حيث كنَّا نلتقي إلى الشريط الساحلي الضيق الذي كان يفصل قلعتَه عن الشاطئ. كان يمكن رؤيةُ الطريق الرئيسي شمال بيروت من هذا الموقع الممتاز. قال الأمير طلال: «إنه مكانٌ استراتيجي؛ لهذا السبب أعطانا إياه العباسيون». أشار إلى أحد مساعديه، الذي حمل لاحقًا في يدَيه كتابًا عربيًّا ثقيلًا مجلَّدًا بأناقة. كان عن تاريخ عائلة الأمير على مدى الألف سنةٍ الماضية. أعطاني الأميرُ إياه. وبقراءته، وبشَقِّ طريقي في مجموعةٍ من الكتب الأخرى التي تلقَّيتُها في الأيام اللاحقة من دروزٍ تمنَّوا لي النجاح، جَمَّعتُ تدريجيًّا جزءًا على الأقل من قصة الدروز.

•••

يحكي كتاب أرسلان كيف أرسل الخلفاءُ العباسيون العائلة، في القرن الثامن، من بغداد للدفاع عن الساحل اللبناني من البيزنطيين. أدى آلُ أرسلان هذه المهمةَ بكفاءة، ولكن في النهاية ظهر تهديدٌ جديد وغير متوقَّع على الإطلاق. ففي عام ۹۱۰، تلقى العباسيُّون أخبارًا مزعِجة؛ إذ ظهر في البراريِّ المهمَلة في شمال أفريقيا، رجلٌ ادَّعى أنه من نسل النبي محمدٍ وخليفته الشرعي كحاكم للإسلام. وبفضل مساعدِه المخلِص الذي نشر رسالته بين القبائل البربرية في المنطقة، تجمَّع حول هذا الرجل العديدُ من المؤيدين، الذين هزَموا أتباع العباسيِّين المحليين وأطاحوا بهم. كان المهدي، كما أطلق هذا الرجلُ على نفسه، ينتمي إلى فرع صغير من الإسلام يُسمى الإسماعيليين. بنى هو وأحفادُه على مدى القرون اللاحقة الإمبراطوريةَ الفاطمية الضخمة ودَعَّموها، ولم تكن تشملُ شمال أفريقيا فحسب، بل مصر ولبنان أيضًا. وأسَّسوا القاهرة. وأعلَنوا الحرية الدينية لرعاياهم، الذين كان من بينهم الكثيرُ من المسيحيين واليهود. وجمَعوا مكتبة ضخمة من الفلسفة الإغريقية.

كانت القاهرة الفاطمية بيئةً مُواتية جدًّا لأولئك الذين أرادوا مزْجَ الفلسفة الإغريقية بالإسلام. وأَولى الفاطميُّون اهتمامًا كبيرًا بالتعليم فبنَوا الجامع الأزهر ومدرسةً لتعليم الشريعة الإسلامية، والفلسفة، وعلم الفلك؛ وظلَّ الفكر الإغريقي دارجًا بين علماء المسلمين في كلٍّ من القاهرة وبغداد. كيَّف هؤلاء العلماءُ أفكارَ الأفلاطونيين المحدَثين لتتلاءم مع الإسلام. وكان من الطبيعي أن يُنظر إلى «الواحد» على أنه الله. اعتبر بعضُ العلماء أن الكائنات الوسيطة بين الله والخلق على عقولٍ غير مادية أو «رؤساء ملائكة»، وقال فيلسوفٌ واحد على الأقل، وهو الفارابي، إن هذه العقول اتخذَت هيئة النجوم والكواكب.

وبعد مائة عام من الوحي المثير للمهدي، كان حفيدُ حفيدِه يحكم القاهرة. كان يُعرف باسم الحاكم بأمر الله، وقد خالف تقليدَ التسامح وفرض الشريعة على رعاياه بقسوةٍ غيرِ مسبوقة. وأصدر عددًا من المراسيم المثيرة للجدل؛ حيث طالب بنشر اللعنات الموجَّهة ضد الخلفاء السُّنة الأوائل في المساجد ومداخل الأسواق، ومنع رعاياه المسيحيِّين من الاحتفال بعيد الفِصْح، وأمر بحرق الزبيب في المدينة (لأنه قد يُستخدم في صنع النبيذ)، ودعا إلى سَكْب عسل المدينة في نهر النيل (لأنه قد يُستخدم في صُنع شراب الميد المخمَّر)، وأعلن أنه لم يعُد بإمكان الإسكافيين صنعُ أحذيةٍ نسائية (حيث لم يكن مسموحًا للنساء بالخروج). وأمر غير المسلمين بارتداء أشياءَ ثقيلةٍ لدرجة مؤلمة حول أعناقهم. وسمع عن طقس النار المقدَّسة، الذي يُجرى في كنيسة القيامة بالقدس يوم أحَد الفِصح، وقرَّر أنه خدعة، واستشاط غضبًا منه لدرجة أنه سَوَّى الكنيسة بالأرض. ولم يُعَد بِناؤها إلا بعد وفاته. وساعد تدميرُ الكنيسة على إشعال الحروب الصليبية، التي من شأنها إفسادُ العلاقات بين المسيحيين والمسلمين إلى الأبد.

وعلى الرغم من أن سلوك الحاكم بدا قاسيًا أو حتى غيرَ عقلاني لضحاياه (وكثيرين غيرهم)، ظنَّ المعجَبون به أن غرابة أطواره دليلٌ على قربه من الله. وأثارت سلسلةٌ من الأحداث الألفية — قرب مرور ألف عام على ميلاد المسيح، وأربَعِمائة عام على هجرة محمد — التوقعاتِ بأن نهاية العالم قد تكون قريبة. وفي هذا الجوِّ المحموم ابتكر مجموعةٌ من المفكرين فلسفةَ التوحيد؛ أي العقيدة الدُّرزية. حتى إن سبب تسمية «الدروز» بهذا الاسم غامض. ربما كان نسخةً معدَّلة من لقب نشتكين الدرزي، وهو من أوائل الموالين واعتُبِر زِنديقًا فيما بعد. وأثارت تعاليمُ الديانة شائعاتٍ مروِّعة. فقد اعتقد الدروز، أو هكذا شاع في القاهرة، أن الحاكم كان الظهورَ أو التجسد البشريَّ لله نفسِه. لكن الدروز اليوم ينفُون هذه الشائعات. وعلى النقيض سمَحَت الأفلاطونية المحدَثة باستخدام طرقٍ مبطَّنة لإثبات أن هناك صلةً وثيقة بين شخص على الأرض والذات الإلهية. ففي الترجمة العربية، كان «اللاهوت» هو اللهَ بذاته؛ و«الناسوت» هو الله متجليًا على الأرض في هيئة إنسان.

وأيًّا كانت الصيغة التي قد يستخدمها الدروز للتعبير عن هذا الأمر (فقد تكون مبطَّنةً ومعقَّدة مثل قانون الإيمان المسيحي)، فيبدو أنهم اعتبروا الحاكم تجليًا (ناسوتًا) لله على الأرض. وعلاوةً على ذلك، اعتبَروا أن خمسةً من قادتهم هم التجلِّيات الدُّنيوية لكائناتٍ سماوية أخرى أقلَّ شأنًا، وهي: العقل الكوني، والروح الكونية، وثلاثة كائنات أخرى تُسمى الكلمة، والسابق، والتالي. واتخَذَت هذه الكِياناتُ الخمسة هيئةَ البشر من قبل؛ مثل يسوع والحواريِّين، وموسى وهارون، وأفلاطون وأرسطو وفيثاغورس، ومحمد وصحابته. وفي كلِّ مرة، كانوا يُرشدون البشَرية إلى مرحلةٍ جديدة من الفهم من خلال إقامة دينٍ جديد. فقد جاء موسى باليهودية، ويسوع بالمسيحية، ومحمدٌ بالإسلام. والآن، كان على الديانة الدُّرزية أن تقود الطريق في حقبةٍ جديدة من تاريخ البشرية، لتحُلَّ محل الإسلام التقليدي. واعتقد حمزة بن علي، زعيمُ الحركة الدرزية، أنه هو نفسُه كان تجسيدًا للعقل الكونيِّ على الأرض. وأنه في التجسُّدات السابقة، كان فيثاغورس ويسوع.

عندما كان الحاكم لا يزال على قيدِ الحياة، كان ثمة تسامحٌ مع الدروز. ولكن عندما اختفى في ظروفٍ غامضة أثناء سيره على جبل المقطَّم فوق القاهرة سنة ۱۰۲۱، خَلَفَه ابنُه، ويبدو أنه كان أقلَّ استعدادًا للتسامح مع دينٍ حَظِي فيه والدُه (ولكن ليس هو) بهذا القدر الكبير من الاحترام. فقُتِل آلافُ الدروز. ولجَئوا تدريجيًّا إلى تلالِ جنوب لبنان، وقبلوا دخولَ معتنقين جددٍ بعضَ الوقت، وكانوا يتعرَّفون بعضهم على بعض من خلال إشارات سرِّية وكلمات مشفَّرة، حيث كانت أصولهم العِرقية متنوعةً للغاية. فالنجمة الخُماسية، على سبيل المثال (كل نقطة فيها لها لونٌ مختلف: أبيض، وأزرق، وأصفر، وأحمر، وأخضر) كانت تُمثل القادةَ الدروز الخمسة والكيانات السماوية الخمسة المقابلة لهم. وسرعان ما توقَّفَت الطائفة عن قَبول معتنقين جدد، الأمر الذي عزَّز التوجُّه نحو السرِّية؛ وكما كتب مؤرخٌ لبناني: «لذلك صارت الديانة الدرزية موروثةً بالكامل، امتيازًا مقدَّسًا، كنزًا لا يُقدر بثمن يجب حمايته بغَيرة وحماسة من أي شيء قد يُدنسه.» ما كان فيثاغورس ليستطيع أن يصوغ الأمر بطريقةٍ أفضل من هذه.

وكان للعقيدة الجديدة حدٌّ أدنى من القواعد والطقوس. فقد أعيد تأويلُ الفرائض على المسلم المؤمن — الصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان مرةً واحدة في السنة، والحج إلى مكة — واعتُبِرَت متطلَّبات أكثر تجريدية، مثل التحلي بالإيمان، وقول الحق، ومساعدة المرء لإخوانه في الدين. وسُمِح للدروز العاديِّين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر. وكان بإمكانهم الصلاةُ بأي طريقةٍ يرغبون فيها — أو ألَّا يُصلوا على الإطلاق، إذا آثَروا ذلك. أخبرني أحدُ الدروز العاديين أنه كان يُدعى مرتين في السنة لحضور جلسة صلاة حيث كان بإمكانه نظريًّا طرحُ أسئلة حول العقيدة. لكنه أوضح أنه لم يكن يوجد أيُّ التزام، قائلًا: «إذا سألتَني عن الأمور الدينية، فلن أستطيع الإجابة عليك. فأن تكون دُرزيًّا هو ولاءٌ اجتماعي لطائفة؛ يولد المرء بداخلها.»

ومن غير المستغرَب أن الموقف الليبرالي للدروز تجاه الإسلام قد أثار حفيظةَ رجال الدين الأصوليِّين. ففي القرن الرابع عشر، عندما كانت الأراضي العربيةُ مُحاصَرة بالأعداء من جميع الجوانب — الصليبيون في الغرب والمغول في الشرق — أراد العالم ابنُ تيمية استخدامَ العنف لسحقِ كلِّ الأفكار «المنحرفة». وقد كان محافظًا جدًّا لدرجة أنه (يُقال) لم يأكل البِطيخ أبدًا لأنه لم يكن لديه دليلٌ على أن النبي أو صحابته قد فعَلوا ذلك. وفِعل شيءٍ لم يفعلوه يمكن أن يقود إلى خطر «الابتداع»، الذي اعتبره العلماءُ المحافظون أمرًا خطيرًا. لا عجب في أن ابن تيمية كان عدوًّا لَدودًا للدروز. وأصدر فتوى صارمةً بحق كلٍّ من الدروز والعَلويين، واصفًا إياهم ﺑ «الكافرين المضلِّلين». فلم يكن يجوز الأكل من طعامهم، ويجوز استعباد نسائهم، والاستيلاء على أموالهم، ورفض توبتهم، وقتلُ علمائهم، ومقاطعة جنازاتهم: «يجب قتلُهم أينما وُجدوا، ولعنُهم على النحو المبيَّن». أعقب ذلك مرحلةٌ من الاضطهاد أُجبِر فيها الدروز على الامتثال ظاهريًّا للإسلام التقليدي. لكن في نهاية المطاف، رضَخ أسيادهم، الذين كانوا في ذلك الوقت من العثمانيين، ومنَحوهم حُكمًا ذاتيًّا وحرية العبادة (على أرض الواقع).

تساءلت: ماذا عن اليوم؟ ما المواقف التي واجهها الدروزُ مع المسلمين الذين لم يشاركوهم رؤيتهم الباطنية؟ في حانةٍ عصرية في وسط بيروت، التقيتُ بامرأةٍ تُوفي والدها وهو يُقاتل في الحرب الأهلية بوصفه عُضوًا في ميليشيا الدروز. وصَلَت في سيارة بورش صفراء. وكانت الحانةُ توحي بأنها مكان سيِّئ السمعة، ولكن في الواقع كان شبابُ بيروت الأثرياءُ يترددون عليها كثيرًا. أخبرتني عندما جلسنا على كرسيَّين باهتين: «الأمر كله يتعلق بالسياسة. فعندما ينحاز وليد جنبلاط للسُّنة، يُصبح السُّنةُ وَدودين، وعندما ينحاز للشيعة، فإنهم جميعًا يقولون إن الدروز لا يمكن الوثوق بهم.» لقد أفسحَت تقلُّباتُ وتحولات الحرب الأهلية الطريقَ أمام مجموعةٍ من التحالفات السياسية الأقلَّ دموية، ولكنها تتغير بالقدر ذاته.

كانت قد واجهَت العديد من الاتهامات الشنيعة في المدرسة؛ على سبيل المثال، أن الدروز يُمارسون طقوسَ جنسٍ جماعي سنَويةً، أو أنهم يعبدون عِجلًا ذهَبيًّا مخبَّأً داخل صندوق. من الشائع أن توجَّه هذه المزاعم ضد جميع الأقليات في الشرق الأوسط. فالادِّعاء الأول يُوجَّه للدروز، والسامريين، والعلويين، والإيزيديين. والثاني يوجَّه للدروز والسامريين. وتاريخيًّا وُجِّه كِلا الاتهامَين إلى المسيحيين أيضًا، ووجَّه المسيحيون نسخةً من الاتهامات ذاتها للمسلمين. والسبب الكامن وراء هذه العادة غيرُ واضح؛ فهو ليس مجردَ تعمدٍ للأذى، ولكن ربما أحد عناصر الخيال الشهواني، وربما، أيضًا، ذكرى من بقايا الماضي عن طوائفَ — حركة زرادشتية منشقَّة، مجموعات صوفية مختلفة من القرن التاسع — كانت بالفعل تُشجع العلاقات الجنسية دون التقيُّد بالزواج. ربما يكون السبب الأكبر لاتهام الدروز بالفجور الجنسي هو أنهم سمَحوا للرجال والنساء بالصلاة معًا، وقدَّموا للمرأة شيئًا يقترب من المساواة. (كان الفيثاغوريون أيضًا معروفين بأنهم كانوا يسمحون بمشاركة أسرارهم مع النساء وكذلك الرجال.)

•••

للكشف عن المزيد من العقيدة الدرزية؛ كنتُ ذاهبًا لزيارة معقلهم، في جبال الشوف في جنوب لبنان. تعتبر كلُّ رحلة في لبنان تعليمًا دينيًّا؛ لأن أديان البلد المختلفة تنحو جميعُها إلى الإعلان عن نفسها. يمكن للمرء أن يتَّجه شمالًا على طريقٍ ساحلي ضخم، غالبًا ما يكون مُكتظًّا بالسيارات، ويمر أمام الكازينوهات والمتاجر الكبرى وصولًا إلى تمثال ضخم للمسيح يستقبلك وهو باسطٌ ذِراعَيه؛ ثم ينطلق صاعدًا الجبال، إلى قُرًى عامرة بتماثيل مريم العذراء، وكروم العنب، والأسماء الآرامية، على حوافِ الصدوع المذهلة. وبالاتجاه جنوبًا من بيروت، يسافر المرء عبر ضَواحٍ مزدحِمة مزيَّنة بملصقات زعيم حزب الله، حسن نصر الله. بعد مدينتَي صور وصيدا الآخِذتَين في التوسُّع على نحوٍ غير منظَّم، يهبط المرء إلى المساحات الرعوية المفتوحة لمعقلِ الشيعة؛ وعند دخول القرى هناك، قد تستقبلني صورةُ قبضة تحطُّم رأس جندي إسرائيلي، وفي سجن الخيام سيِّئ السمعة، تُوجد قائمةٌ بمن ماتوا أثناء مدةِ اعتقالهم خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. هذه الرموز السياسية لا تدَع مجالًا للشك في الهُوية الدينية لسكان المنطقة.

ومع ذلك، فالطريق إلى الشرق مزيَّن بطريقةٍ أكثر خفاءً. ففي رحلةٍ استغرقَت ساعةً مليئةٍ بالتعرُّجات، والسرعة العالية، وصرير الفرامل بسيارة أرسلها وليد جنبلاط أخذَتني إلى جبال الشوف، حيث تتجمَّع الطائفةُ الدرزية عادةً وحيث توجد قلعةُ جنبلاط، وفي القرى التي مرَرْنا بها لم أرَ أي لافتة دينية على الإطلاق. اشترى حسن، السائق، قطعةً من «الكنافة»، وهي كعكةٌ حُلوة مصنوعة من الزيت والجُبن، من متجرٍ توقَّفنا عنده في طريقنا. أثناء ما كنتُ أتناولها، نظرتُ إلى بساتين البرتقال، والجبال الشاهقة، ووديان الشوف العميقة. نمَت هنا الطماطم، والزيتون، والموز، والليمون. وأعطَت الزهورُ الوردية التي تُشبه الجرس لونًا إضافيًّا للمشهد. وأدَّى التوسُّع في أعمال البناء إلى انتشار فيلات خَرسانية ذات أسقفٍ حمراء، مغطَّاة بطبقة رقيقة من الحجر الجيري ذي اللون الأبيض المائل للصُّفرة على سفوح التلال.

بعيدًا بالأسفل، كان البحر يظهر أحيانًا عبر التلال المحيطة. وكان المشهد صورةً رمزية للُبنان، إضافة إلى كونه واقعيًّا. ارتأيتُ أن البحر والجبال معًا قد جعَلا لبنان على ما هو عليه؛ مزيجٌ مُسْكِر من الحداثة الليبرالية الدولية محدودة التفكير والقبَلية العنيدة، والتمتُّع بالحياة والتديُّن المتعصب. جاء القديسون والقديسات إلى الجبال اللبنانية في أوائل الحقبة المسيحية ليعيشوا حياةَ عُزلة دعَمها القرويُّون المحليون بتبرعاتهم من الطعام. وبعد دخول الإسلام، تُظهر رواياتُ العصور الوسطى أن القرى المسيحية رحَّبَت بالمِثل بالنُّساك المسلمين. وعندما توجَّه دُعاة الدروزِ الأوائلُ إلى جبال الشوف في أعقاب هجرتهم من مصر، واعظين غيرَهم بإنكار الذات وممارسين له، كانوا يتبعون الخُطى المتكررة نفسَها. ويقول أحدُ النصوص الدرزية الأولى: «اذهبوا إلى مَن يعيشون في ظلِّ جبل حرمون. فإنهم على استعدادٍ لاتباعكم.»

لم يكن الدعاة ليجدوا القرويِّين المسيحيين فقط ولكن أيضًا آخِر ما تبقى من طائفةٍ وثنية. ففي الوقت الذي وصل فيه مبشِّرو الدروز الأوائل، كان لدى الحَرَّانيين معبدٌ في بعلبك في لبنان؛ على بُعد ستين ميلًا فقط شمال جبال الشوف، حيث كنتُ الآن. ربما كان بعض الحرانيين من بين أولئك الذين تبنَّوا الفلسفة الدرزية، ووجَدوا أنها سهَّلَت قَبول الإسلام؛ لأنها شارَكَتهم إيمانهم بتناسخ الأرواح وسمحَت لهم بمواصلة تبجيل فيثاغورس وشخصيات أخرى من التراث الإغريقي القديم تجاهَلَتها المسيحية والإسلام.

لاحظتُ أسماءَ متاجر غريبة في إحدى المدن الدرزية؛ على سبيل المثال: صيدلية الحكمة ومستشفى التنوير. وفي مغسلة ملابس، رأيتُ قصيدةً دينية درزية معلَّقة مُستهَلُّها: «يا خالق الكون …» كتبَها الحلَّاوي، الشيخ الموقَّر الذي عرَفتُ اسمه في قلعة الأمير طلال أرسلان. ورُسِمَت فوق مدخل مبنًى، بسيط بشكل مختلف، نجمةٌ خماسية.

ميَّزَت صفةٌ أخرى القرى الدرزيةَ عن غيرها من القرى؛ وهي أنه كان يوجد رجال منتشرون في كل مكان على نحوٍ غريب يرتدون سترات عمل بُنية اللون، مع قبعاتٍ صوفية بيضاء على رءوسهم الحليقة، ويعملون في المنازل والحدائق ومحطات الوقود. الشعر الوحيد الذي كان يمتلكه كلٌّ منهم كان شاربًا أشعثَ خشنًا. سألتُ حسنًا عنهم. فقال: «شيوخ.» كان هؤلاء «عُقَّال»؛ لكنهم كانوا أصغرَ مكانةً من أولئك الذين رأيتُهم عندما زرتُ دار الطائفة. يعيش الناس العاديون من الدروز كما يشاءون، لكن رجال الدين الدروز يلتزمون بفلسفةِ إنكار الذات. ويُشَجَّع الشيوخ الذُّكور على الاعتماد في العيش على الأرض، ومِن الأقوم بشكلٍ خاص ألَّا يأكلوا إلا الطعامَ الذي يزرعونه بأنفسهم. إنهم يعيشون حياةً متقشفةً، ويُصلُّون ويتأمَّلون بانتظام، ويصومون في رمضان، ويتجنَّبون أكل لحم الخنزير وشرب الكحوليات، ولا ينخرطون في أيِّ نوع من الإسراف (على سبيل المثال، عند تقديم كوبٍ من الماء لشيخ، لا يفترض أن يشربه كلَّه، لكنه يرتشف منه فقط دون أن يرويَ عطشه). يُشكل رجال الدين الدروز مجموعةً كبيرة نِسبيًّا: فربما خمسة عشر بالمائة من جميع الدروز، رجالًا ونساءً، من الشيوخ. أخبرني حسن أن الانضمام إلى رجال الدين لم يكن عملًا معقَّدًا: فالشخص يتقدم بطلبٍ للقَبول، وعلى مدى حقبةٍ من الزمَن يُقيم مستوى التزامه وقدرته على فهم الأمور الدينية.

كانت زوجة حسن من شيخات الدروز. ومثلما يحرث الشيوخُ الأرض، كانت تعمل هي وشيخاتٌ أُخرَيات في التطريز والحِرَف المنزلية الأخرى التي أتاحت لهنَّ كسْبَ الدخل دون الخروج إلى العالم. وإذا خرَجَت زوجة حسن من منزلها، فسترتدي وشاحًا أبيضَ تُغطي به رأسها ونصفَ وجهِها، مثل النساء اللواتي كنتُ قد رأيتُهن في دار الطائفة. لم يكن حسن رجلًا كثيرَ الكلام، لكنه كان قد بدأ في التحدُّث بحريةٍ أكبر. لذلك سألتُه: ما الأماكن التي زارها في لبنان؟ «أذهب إلى بيروت، ثم أعود إلى هنا». لم يكن قد غادرَ المناطق الدرزية قط؛ وخمَّنتُ أن عالمه كلَّه لا يمكن أن يتجاوز الخمسة عشَر ميلًا مربعًا على كِلا الجانبَين. وتوقَّعتُ أنه كان مقاتلًا في الحرب الأهلية.

مرَرنا في رحلتنا عبر البلدات والقُرى الدرزية المتناثرة على سفوح التلال. كانت المنازل كبيرة، وبعضُها ضخم، ومع ذلك لم تُستخدَم إلا بوصفها منازلَ صيفيةً للمهاجرين الدروز الأثرياء. أخبرني حسن أنه من أصل ستة آلافٍ من سكَّان قريته، يوجد ما بين عشرين إلى خمسة وعشرين شخصًا يمتلك كلٌّ منهم أكثرَ من ۱۰۰ مليون دولار. وقد جاء جزءٌ كبير من هذه الثروة نتيجةً لمشاريعَ تِجارية ناجحة في الخارج، خاصةً في غرب أفريقيا. وتحول العديد من قُرى الدروز إلى بلدات مهجورة، وربما لا يعْمُر بالسُّكان سوى ثُلثِ المنازل فقط فعليًّا على مدار العام. عندما مرَرنا بقريةٍ كانت قريبةً من قرية حسن، سألتُ ما إذا كان قد سقط العديدُ من القتلى خلال سنوات العنف. قال: ثلاثة عشر؛ خمسة عندما قصَفَت إسرائيل القرية، وقُتل الآخرون في نِقاط التفتيش عندما تبيَّن مِن بطاقات هُوياتهم أنهم من الدروز. «كانت حربًا مروعة.» سألتُ: متى توَقَّفَت؟ قال لي: «لم تتوقف. لا تزال مستمرَّة.»

figure
يعتبر «قبر» النبي أيوب في جبال الشوف في لبنان موقعًا مقدسًا للدروز الموجودين بالبلاد، الذين يصل عددهم إلى ۲٥۰ ألف درزي. ونظرًا إلى أنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح، فإنهم يعتبرونه ضريحًا فارغًا. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

عندما بدأت الحرب الأهلية، شهدَت جبالُ الشوف بعضَ المعارك الوحشية بين الدروز وجيرانهم المسيحيين، الذين كان قد أتى بهم الحكامُ الدروز إلى هنا بصفتهم مُزارعين مستأجَرين في القرن السابع عشر. وفي نهاية المطاف كانت الغلَبة للدروز وطرَدوا المسيحيين من أجزاء من الشوف (رغم أن جنبلاط شجَّعهم مؤخرًا على العودة). وفي مرحلة لاحقة من الحرب، كان الدروز في كثيرٍ من الأحيان يُقاتلون الميليشيات الشيعية التي يقع معقلُها جنوبَ موقعهم. وبعد انتهاء الحرب الأهلية في عام ۱۹۸۹، عاود التوتُّر بين الدروز والشيعة الظهور على السطح من حينٍ لآخَر. وحدَثَت أسوأُ واقعة في مايو ۲۰۰۸، عندما قصَف حزب الله الدروزَ في الشوف وسيطر على قريتَين دُرزيتَين تتمتعان بمواقعَ استراتيجية. في القتال الذي أعقب ذلك، استأنف الدروزُ أسلوبًا خاصًّا في قتل أعدائهم — ألا وهو نحرُ أعناقهم. في وقتٍ لاحق أخبر مستشارون لجنبلاط وأرسلان السفيرَ الأمريكي (في محادثات نشرها أخيرًا موقع ويكيليكس) أن الدروز كانوا يعيشون وسط «خِضَمٍّ من الشيعة» ويخشَون انتقام الشيعة. كانت أحداث عام ۲۰۰۸ مثالًا على الكيفية التي يمكن بها أن يُعاود العنفُ الطائفي الظهورَ في لبنان دون سابق إنذار، حيث لا توجد سُلطةٌ مركزية فعالة يمكنها حلُّ النزاعات؛ فالحكومة اللبنانية نفسُها رهينةٌ للتوترات ذاتِها. كانت «نحن شعبٌ صغير» لازِمةً سمعتها كثيرًا في تلال الشوف.

•••

يومًا ما كانت الأمورُ مختلفة. اقتطع فخر الدين، الإقطاعي الدُّرزي الأبرزُ في أوائل القرن السابع عشر، من نطاق هيمنة العثمانيين إقليمًا كان في الأساس مُستقلًّا، وكانت حدوده قريبةً من حدود لبنان الحالية. فخر الدين شخصيةٌ ذات أهمية وطنية؛ فهو يمنح لبنان مؤسِّسًا مَحليًّا وشرعيةً تاريخيةً في مُواجهة أولئك الذين يقولون إن البلاد كانت صنيعةَ القُوى الاستعمارية الفرنسية عام ۱۹۲٦. وفي نهاية المطاف، أنهى الجيش التركيُّ العثماني دويلته المستقلَّة. أخذني حسن إلى قلعةٍ مدمَّرة على قمة جرف مرتفع على الحافة الجنوبية للشوف. لم يتبقَّ سوى أنقاضٍ صغيرة من قلعة كبيرة كانت موجودةً هناك يومًا ما، مُطلَّةً على السهل الذي بالأسفل. كانت هذه أيضًا إحدى قِلاع فخر الدين. قال حسن: «حاصَر الأتراكُ هذا المكان، لكن فخر الدين لم يستسلم. وواصل المقاومة. ثم سمَّم الأتراكُ الينابيعَ التي كانت القلعة تحصل منها على كل احتياجاتها من المياه. لكنه حتى حينها رفض الاستسلام. سأُخبرك بما فعله. لقد عصَب عينَيه وعينَي حِصانه، وقفزا معًا من على هذا الجرف حتى لا يُقبَض عليه.» نظرتُ للأسفل. لا بد أن السقطة كانت من ارتفاعِ مائة قدم أو نحو ذلك. عاد حسن إلى المكان الذي كان فيه النبعُ المسموم. الآن لم يكن يوجد سوى رطوبةٍ فقط تحت الأقدام. لكن هذه الأرض بدَت كأنها تُمثل له أرضًا مقدَّسة. فهنا سقط بطلٌ درزي عظيم. قال حسن عندما أخبرتُه بعُنوان كتابي: «مَمالكُ مَنسية؟ لكننا لم نَنْسَ».

إن قصة فخر الدين أسطورةٌ ترمز إلى شجاعة الدروز. ففي الحقيقة ألقى الأتراكُ القبض عليه وأعدَموه. وتنافسَت بعده عائلاتٌ أخرى مختلفة لتبرز بين الدروز. ويعيش فائزو اليوم، آلُ جنبلاط، في قلعةٍ في بلدة المختارة منذ القرن الثامنَ عشر. وفي عام ۱۸٥۳، زار القلعةَ اللورد النبيل الإنجليزي كارنارفون (الذي مَوَّلَ ابنُه فيما بعد بعثةَ توت عنخ آمون). كان البريطانيون قد اكتشفوا في أربعينيات القرن التاسع عشر أن الدروز كانوا أقليةً في حاجةٍ إلى راعٍ، وقرَّروا لعب هذا الدور. أراد كارنارفون، الذي كان في طريقه لأنْ يُصبح أحدَ كبار رجال الدولة البريطانيين، التعرفَ على أحدث حلفاء أمته. كان منزل كارنارفون الفخمُ في إنجلترا في ذاته مَهيبًا إلى حدٍّ ما؛ ففي السنوات الأخيرة ظهَر المنزل في المسلسل التلفزيوني «دير داونتون» (داونتون آبي) باعتباره الدير ذاتَه. ومع ذلك، يبدو أنه أُعجِب كثيرًا بالمختارة، التي وصفها في كتابٍ نُشر بعد ذلك بسنوات قليلة. وتَمثَّل أفضلُ مشهد في سردٍ لمبارزة على طِراز العصور الوسطى أُقيمت في فِناء القلعة: «فرسان «الميدان» بألوانهم المبهِجة، و«الغِلمان» يقفون بجانب الخيول ويُناولون الفرسان الرماحَ الجديدة، وصيحات الاستحسان التي تُحيي كلَّ ضربة موفَّقة، والسيدات يقفن في الشرفات … الحشد المسلَّح والمتغطرس … الأبراج المربعة التي ترتفع من منحنيات الجدار الطويلة على كل جانب.»

كان كارنارفون على يقينٍ من أنه قد زار أثرًا من بقايا العصور الوسطى التي لن تدومَ طويلًا. حتى وهو يتذكر كرنفال المختارة، فإنه يكتب بأسلوبٍ رِثائي عن «الاستقلال الإقطاعي الرائع لطائفة لدروز … التي ربما يكون محكومًا عليها الآن بالانقراض في الجبال في سوريا.» لقد صمَد الدروز وخالَفوا ذلك التوقُّع، ويرجع ذلك جُزئيًّا إلى دعم كارنارفون وآخَرين. وفي ستينيات القرن التاسعَ عشر، كتبَت المجتمعاتُ الدُّرزية في عريضةٍ جماعية إلى البريطانيِّين: «نحن الدروز ليس لدينا، بعد الله، حامٍ آخَرُ غير الحكومة البريطانية.» حتى إنه انتشر اعتقادٌ بين الدروز بأنهم كانوا بريطانيين من حيث الأصل، أو على الأقل أنهم يتشاركون مع البريطانيين في سلفٍ مشترك. وصدَّق بعضُ الدروز هذا الأمر حتى أوائلِ القرن العشرين، ويبدو أن القادة الدروز ما زالوا يطلبون أحيانًا المساعدةَ من البريطانيين. وعندما التقيتُ لاحقًا بأحد كبار شيوخ الدروز، أبو محمد جواد، بينما كان مستلقيًا على فِراش الموت في كوخ بسيط — حيث وُضعت حلوياتٌ منزليةُ الصنع على عربةٍ جاهزة لتقديمها للضيوف — كان الشيء الوحيد الذي لديه القوةُ ليقولَه إشارةً إلى هذا التحالف القديم والغريب.

ربما بدا مُفاجئًا أن تتبنَّى دولة مسيحية سياسةً مؤيدةً للدروز؛ لأن أحد أعداء الدروز الرئيسيين في ذلك الوقت كانوا المسيحيِّين المَوَارِنة. لكن في نظر البريطانيين، كانت مسيحيةُ المَوارنة أقلَّ أهميةً بكثير من حقيقة أن الفرنسيين كانوا يدعمونهم. ومع ذلك كان ثمة سببٌ آخر لتفضيل البريطانيين للدروز، وهو اكتشافٌ رائع لأصحاب نظريات المؤامرة. فمِن بين جميع النظريات المتفائلة حول أصول الدروز — بالإضافة إلى نسَبِهم المزعوم من أصلٍ بريطاني، قيل إنهم ينحدرون من سُلالة كونت فرنسيٍّ يُدعى دْرو، أو إنهم، وفقًا للثيوصوفية الروسية مدام بلافاتسكي، من سُلالة لاما التبت — كان الاقتراحُ الأكثر إثارةً للاهتمام موجودًا في مجلَّد في أعماقِ مكتبة لندن، يعود تاريخه إلى عام ۱۸۹۱. يحتوي الكتاب على سجلاتِ محفلٍ ماسوني يُسمى كواتور كوروناتي. ويناقش مقالُها الأول، بقلم حضرة القس هاسكيت سميث، «أنه، حتى يومنا هذا، يحتفظ الدروز بالعديد من الدلالات الواضحة على علاقتهم الوثيقة والحميمة بالصنعة الماسونية القديمة.»

figure
رسم فنان الحرب البريطاني أنتوني جروس هذا التصوُّر للقادة الدينيِّين الدروز (الجالسين في الدائرة، في المنتصف) برفقة أعضاء فوج الفرسان الدروز البريطانيين في عام ۱۹٤۲، أثناء الحرب العالمية الثانية. كان بين الدروز والبريطانيين صداقةٌ تعود إلى منتصَف القرن التاسع عشر، على الرغم من حقيقة أن هذا الفوج الدرزيَّ كان قد نشَره الفَرنسيون الفيشيون في مواجهة البريطانيين قبل إقناعِهم بالانضمام للجانب البريطاني. الصورة مُهداةٌ من أنتوني جروس/متحف الحرب الإمبراطوري.

فقد اعتقد الماسونيون أنهم تابَعوا تقاليد البنَّائين الذين أقاموا هيكل سليمان. وارتأى الأخُ هاسكيت أن الدروز كانوا الأصليِّين — أي الأحفادَ الفعليِّين للبنَّائين — وكان مُصرًّا على إثباتِ ذلك. وأمضى أسابيعَ عدةً في لبنان، يعيش بين الدروز ليُجري اختبارًا بسيطًا. فالماسونيُّون يعتقدون أن الكلمات المشفَّرة التي يستخدمونها متوارَثةٌ جيلًا بعد جيل من بُناة الهيكل؛ ومن ثَم افترض الأخ هاسكيت أنه لا بد أن الدروز يعرفون الكلماتِ ذاتَها. ولكن نظرًا إلى أنه واجهَ صعوبةً كبيرة في اختراق سرِّيتهم — كما روى بتحسُّر، في كل مرة كان يسألهم عن معتقداتهم، «يتبدَّل الموضوع بأكمله ببراعة» — أدرك أنه سيتعيَّن عليه التغلبُ على هذه السرية بالحيلة.

ويستحضر لنا، ربما بصِدْق، صورةً غريبةً على نحوٍ مذهل، قائلًا: «لقد بذَلتُ محاولاتٍ كثيرةً لجذب انتباه الدروز بكلمات، تُهمَس بغموض، كأنها حديثٌ جانبي مسرحي درامي، أو تُلفَظ بجِدِّية، أو تُنطق عَرَضًا عندما يكون الدروز أقلَّ حذرًا.» جعلَني هذا أتخيل رجلَ دين إنجليزيًّا باحثًا يرتدي زيَّ الكهنة، يُحاول مُفاجأة المزارعين الدروز الأشداءَ والمسنين بالظهور من ورائهم والصُّراخ بكلمات بالعبرية القديمة. ولو كان الدروز على درايةٍ بالكلمات، فإنهم مع ذلك حافَظوا على رِباطة جأشهم؛ لأن الأخ هاسكيت لم يجد إثباتًا لنظريتِه. وبالرغم من ذلك فقد قدَّمها إلى زملائه الماسونيِّين، كما يُظهِر سِجِلُّ عام ۱۸۹۱؛ مشيرًا في السياق ذاتِه إلى تشكُّكِهم في النظرية. وادَّعى واحدٌ من المستمعين إلى الأخ هاسكيت، مُستاءً من اعتبار حركته مجردَ فرع وأن يُقَدَّم مجتمعٌ شرقُ أوسطيٍّ على أنه المجتمعُ الأصلي، أن الدروز لا بد أنهم ببساطةٍ استعاروا عاداتِهم من الماسونيين. (في الواقع، زعم المؤرخ فيليب حِتِّي أن فرسان الهيكل، الذين حاول الماسونيون مُحاكاتَهم، ربما يكونون قد تأثَّروا بالدروز في «التنظيم والتعليم». فمفهوم الراهب المحارب المتقشف الناكر للذات هو أحد المفاهيم المشتركة بين فرسان الهيكل والدروز، على الرغم من عدم وجودِ الكثير من الأدلة على الأفكار الفلسفية المشتركة بينهم.)

وأيًّا كان سببُ التشابُه الثقافي بين الجماعتين، فمن المؤكد أن ماسونيًّا مثل كارنارفون كان سيكتشف التَّشابُه. ويوجد أكثرُ من ملاحظة نزيهة في وصفه لارتقاء الدروز نحو الأسرار العليا للعقيدة: «رويدًا رويدًا، يُسمح له بإزاحة الحُجُبِ المتتالية التي تُخفي السرَّ العظيم … إنه يتعلم فقط لنسيان ما كان تعلَّمَه من قبل؛ ويصنع، ويسير على أنقاض إيمانه السابق: ببطء، وبألم، وبتشوُّش يصعد بمشقةٍ كلَّ درجة متتالية من درجات مَراسم الانضمام … ويسمع في كلِّ خطوةٍ — كما لو كان يسخر من أمل العودة — انهيارَ آخِر درجةٍ خطا عليها، وتَحطُّمَها في الهاوية التي لا حدَّ لها التي تهيج تحته. حقًّا لم يتمكن من تسلُّق هذه المرتفعات الغامضة إلا قلةٌ قليلة.»

•••

تساءلتُ، في قلعة جنبلاط، عن عدد الأسرار التي سأتعلَّمها. وأثناء قيادة حسن نحوَها للسيارة التي كانت تُقِلُّني، أبطأ السرعةَ على نحوٍ يدلُّ على الاحترام. ولاحظتُ وجود حجرٍ بسيط أمامنا، على جانب الطريق. قال حسن: «إنه نصب تذْكاري لكمال بِك»، مشيرًا إلى كمال جنبلاط، والد وليد («بِك» لقَب شرَفي). توقَّفَت السيارة. وقال حسن: «لقد اغتِيلَ هنا في هذا المكان»، وظل جالسًا خلف عجلة القيادة دون حركة، ناظرًا إلى الحجر. لا بد أن حسن كان طفلًا وقتَئذٍ، لكن نبرة صوته وطريقته أوحَتا بأنه قد شهد الواقعةَ التي كان يصفها. «لم يكن معه سوى حارسٍ شخصي واحد فقط، وكانت سيارته قادمةً من الطريق نفسِه الذي نحن ماضون إليه الآن. وجاءت سيارةٌ أخرى في الاتجاه المعاكس.» نظرَت إلى الأمام، باتجاه المنعطف الحادِّ التالي، حيث ينحني الطريقُ إلى الأعلى. قال حسن: «مِن هناك. وكان بالسيارة مجموعةٌ من الرجال أطلقوا عليه النار وقتَلوه.» ولم يذكر مَن المسئول، لكن مِن المسلَّم به عمومًا أن الرئيس السوري حافظ الأسد هو من دبَّر الهجوم لمعاقبة جنبلاط على رفضِه لمعاهدةِ سَلام بوساطةٍ سورية تهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية بشروط وجَد جنبلاط أنها غير مقبولة. تنهَّد حسن. فقد سقط بطلٌ درزي آخر.

أعاد تشغيل السيارة وصعدنا آخِرَ بِضع ياردات إلى قرية المختارة. وأخيرًا ألقيتُ أول نظرة لي على قلعة وليد جنبلاط. كانت عبارةً عن مبنًى حجَري ضخم عسَلي اللون، يضمُّ صالونًا لتصفيف الشعر ومحلَّ بقالة وحدائقَ تحظى بعنايةٍ جيدة في المستوطنة التي على سفح التل. بعد أن تركتُ حقائبي في مبنًى خارجي، توجَّهتُ إلى بوابةِ حراسة القلعة، حيث جلس الحراس الشخصيون يتجاذبون أطراف الحديث ويشربون القهوة أمام خِزانة قديمة ذات بابٍ زجاجي متَّسخ لمحتُ من خلاله مجموعةً مختارة من البنادق وما يُشبه قاذفةَ صواريخ.

أخيرًا ظهرَت شخصيةٌ مألوفة ذاتُ شعر أبيض أشعث: كان وليد جنبلاط هنا ليأخذني، وكلبه يتقافزُ خلفه. تجنَّبتُ محاولة سؤاله مرةً أخرى عن الديانة الدرزية في الوقت الحالي، وبدلًا من ذلك تجوَّلتُ في بيت أجداده مُبدِيًا إعجابي. بُنيت القلعة بما يمكن تسميتُه النمطَ اللُّبناني الكلاسيكي: سقف من القِرْميد الأحمر، ومربَّعات صغيرة من اللونَين الأحمر والبرتقالي على الجدران، وأعمدة رفيعة بأسقفٍ مقوَّسة ومدبَّبة يتدلَّى من كل واحد منها فانوس. في الفِناء — ربما في المكان ذاتِه الذي شاهد فيه كارنارفون المبارزةَ — كانت توجد نوافير، وقوصرات فوق النوافذ، وتابوت حجَري روماني مزيَّن بمشاهدَ لباخوس وهو يرقص بين كَرْمات العنب. كانت الغرف الداخلية أكثرَ فخامةً؛ أرضيات رخامية ضخمة، ونوافير، وأسقفٌ دِمَشقية منحوتة. وكانت في لوحةٍ ضخمةٍ لحصار لينينجراد، مُهداة من الاتحاد السوفييتي، إشارة إلى الجهة التي تحوَّل إليها ولاءُ الدروز عندما نَفِد الدعم البريطاني.

أثناء تناول العشاء، حاولتُ مجددًا التحدُّثَ عن الديانة الدرزية، ووعَدني أن يُعرِّفَني على بعض رجال الدين. لكنه فضَّل أن يتحدث عن السياسة. كانت سوريا تنحدر إلى حربٍ أهلية، وكان على الدروز هناك أن ينحازوا إلى جانب؛ وقال وهو يحتسي كئوس الفودكا وأكوابَ القهوة السادة الساخنة للغاية إنه مما أحرَجه أنه كان يوجد كثيرون يريدون أن يُساندوا الأسد. سألتُ كيف انتهى الأمر بالدروز في سوريا من الأصل، فقال لي إنهم أُجبِروا على الفِرار إلى هناك عام ۱٧۱۱ نتيجةً لِصراع داخلي بين الدروز أنفُسِهم، بين جماعتين تُسمَّيان القيسيِّين واليمنيِّين. طُرِدَ اليمنيون شرقًا، إلى ما أصبح فيما بعدُ سوريا. ويُمثل أحفادُهم الآن أكبرَ مجتمع درزي في العالم؛ حيث يعيش معظمُهم على هضبةٍ بازلتية تسمى جبل الدروز. انفصل الدروز في إسرائيل (الذين يبلغ عددُهم الآن ما يزيد قليلًا عن ۱۲۰ ألفًا) عن إخوانهم في لبنان عندما فُرِضَت الحدودُ الدولية على المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى.

في اليوم التالي، وَفَّى وليد جنبلاط بوعدِه واصطحَبني لمقابلة «العُقَّال» في مأدُبةِ غَداء في حديقةٍ أعلى سفح التل. وأدهشني أنه قاد السيارة بنفسه: ألم يقلق من أن يتكرَّر معه ما قد حدث لوالده؟ قال: «الأمر متروكٌ للقدر.» إن الاعتقاد بأن أحداثًا معينةً مُقدَّرٌ لها الحدوث ولا يمكن تجنُّبُها هو أمر شائع في الشرق الأوسط (وهو اعتقاد قديم؛ ويعتمد علمُ التنجيم البابلي على الاعتقاد القائل بأن شئون البشر مقدَّرة مسبقًا). كانت رحلةً خالية من الأحداث، باستثناء الناس الذين أخَذوا يُلوِّحون لجنبلاط في القرية الوحيدة التي مرَرنا بها. وعندما وصلنا إلى الحديقة التي كان مُقامًا فيها الغداء، كان الأمر أشبهَ بمُلاقاة محيطٍ من الطرابيش البيضاء والعباءات السوداء: كان يوجد ما يزيد عن مائة شيخ جالسين على طاولاتٍ طويلة، يتأمَّلون أطباقًا ضخمةً من لحم الضأن والأرز. جاء المضيف، الشيخ علي، للترحيب بنا. كان رجلًا سَمينًا ومرحًا للغاية، بدا، في ثوبه الدرزيِّ الذي يعود للقرن التاسع عشر المكوَّنِ من بِنطال فضفاض أسود وطربوشٍ عُثماني، مثل باشا من فيلم من ثلاثينيات القرن الماضي عن الشرق. قيل لي إنه كان موهوبًا بشكلٍ خاص في تنظيم النزهات الخلوية. أستطيع أن أُصدِّق ذلك. ومع ذلك، أثناء تجولي في منزله بعد تناول الوجبة، رأيتُ صورًا على جدار غرفة معيشته أظهرَت جانبًا آخر من الشيخ. كانت من أوائل الثمانينيات، عندما كانت الحرب الأهلية قد بدأَت للتو، وأظهرَت الشيخ علي في مرحلةِ شبابه وهو يُدرِّب الطلاب العسكريِّين على القتال. في تلك الأوقات كانت الأزمة كبيرةً جدًّا لدرجة أن الشيوخ اضطُرُّوا إلى القتال رغم التزامهم بالزهد.

كان الشيوخ حريصين على توضيح أن هذه الممارسة لم تكن عادية — وعادةً ما يحرصون على تجنبِ توريط أنفُسِهم في أيِّ صراع من أيِّ نوع. قال الشيخ علي: «نحن الشيوخ نعمل من أجل خِدمة الناس، والحفاظ على العادات التي تعمل على استمراريةِ الطائفة، وحفظ كرامة الدروز، وتحول دون الآفات الاجتماعية.» وأضاف، لكن عندما كانت كرامةُ الدروز على المحك، كان كلُّ شيء مباحًا: «نعم، يجب أن ينهض كلُّ شخص في زمن الحرب ويُقاتل بالعِصِي إذا لزم الأمر. فمُجتمعنا تدِبُّ فيه الحياةُ في الحرب؛ لقد سَئِمنا زمنَ السلم.» ضحكَت المجموعة الصغيرة من الشبان المتجمعين حول الشيخ مُوافقةً على كلامه. وأوضح الشيخ علي أن إشارته إلى العِصِيِّ كان يقصدها بجِدِّية؛ فهكذا حاربَ الدروزُ الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي، وتغلبوا على الجنود المسلَّحين بالسيوف، والعِصِي، والحجارة قبل الاستيلاء على أسلحتهم وبَدْء انتفاضةٍ واسعة النطاق. لقد بدأ كل هذا لأن الفرنسيين كانوا قد اعتقَلوا أحد ضيوف زعيم الدروز المحلي، الأمر الذي اعتبره الدروزُ إهانةً لكرامتهم.

تحدَّث معي شيخٌ آخر، أعورُ في إحدى عينَيه، عن فلاسفة الإغريق. وأخبرني أن العالِم المسلم الغزالي، خلال القرن الحادي عشر، قال في مجادلةٍ رائعة بأن الفلسفة متناقضةٌ مع ذاتها. فهي لم تستطع تفسير الله؛ ومِن ثَم لم تُضِف شيئًا لأولئك الذين درَسوها سوى الشك. قاد الغزاليُّ مسألةَ توجيه التُّهَم الفكرية إلى الإغريق، وتوقف الإسلام السُّني التقليدي تدريجيًّا عن أن يستلهمَ من فلسفة الآخَرين. لكن الدروز، المعزولين في قُراهم الجبلية والمُصِرِّين على ألا يكونوا تقليديِّين بالفعل، لم يتأثَّروا بأقوال الغزالي. واستمروا في تبجيل أفلاطون، وفيثاغورس، وأرسطو.

بعد الغداء، عُدت إلى بلدة المختارة، وتجوَّلت في الأزقة نزولًا على سلالمَ تتناثر عليها ثمارُ برتقال سقَطَت حديثًا من الأشجار. مررتُ بكنيسة، لكن بابها الصغير كان مغلقًا. وفي الجوار كان يوجد مطعمٌ صغير كنت جالسًا فيه أكتبُ بعضَ الوقت قبل أن تدعوَني مجموعةٌ من الشباب المبتهجين الجالسين على الطاولة المجاورة للانضمام إليهم لشرب «العَرَق». قدَّموا لي الحمص والفَتُّوش. وقالوا: «نتمنى لو كنا نستطيع أن نُقدم لك طبقَنا المحلي. توجد خنازيرُ صغيرة في التلال يُطلق الناسُ النار عليها، ويطبخونها في النبيذ الأحمر. لكن هذا ليس موسمَها.» لا يوجد طَبَقٌ أشدُّ حُرمةً في الإسلام من لحم خنزير مطبوخ في نبيذ. كنتُ أعلم أنهم لا بد أن يكونوا «جُهَّالًا»؛ أي الدروز الذين لا يملكون أيَّ معرفة بدينهم ولا يلتزمون بأيِّ تشريعات دينية حاكمة فيما يختص بالطعام.

قالوا: «أخبِرنا برأيك في تناسُخ الأرواح. هل تؤمن به؟» حاولتُ أن أردَّ بلباقة، لكن هذا لم يكن كافيًا لهم. قال أحدهم: «لا، إنه حقيقي. لدينا إثبات.» تحدَّث آخرُ بصوت عالٍ: «كان بإمكان ابنة عمي عندما كانت طفلة أن تقول كلمات لا يمكن لشخصٍ عادي أن يقولها، وكان بإمكانها فِعلُ أشياءَ استثنائيةٍ مقارنةً بسنِّها.» وروى آخرُ قصة رجل تذكَّر أنه قُتِل في يوم زِفافه وكان قادرًا على رسم صورٍ للفساتين التي كانت ترتديها النساءُ الحاضرات. حتى إنه التقى الرجل الذي قَتَل ذاتَه السابقة، وسامحَه.

في وقتٍ لاحقٍ من ذلك اليوم قابلتُ امرأة غيَّرَت اسمها بسبب حلم كانت فيه تعيش في أمريكا. وبعد النظر في مسألة الحلم، قرَّرَت عائلتُها أنها كانت تجسُّدًا لفتاةٍ درزية ذهبَت لتعيش هناك وتُوفِّيَت صغيرة. كان اسم تلك الفتاة كارمن؛ لذلك تغيَّر اسمُها إلى كريمة تكريمًا لذاتها الميتة. إن الإيمان بتناسخ الأرواح منتشرٌ جدًّا، كما أخبرني لاحقًا صديقٌ درزي، لدرجة أن الصبي الذي بدا أنه على دِراية بحياةِ رجل مات في الوقت نفسِه الذي وُلِد فيه الصبيُّ يحظى بالقَبول باعتباره التجسُّدَ الجديد لروح الرجل الميت، ويثق به أولادُ الرجل الميت في تقسيم ميراثهم.

رفض الدروزُ النُّسخَ الأغرب من تناسخ الأرواح التي تبنَّتْها الجماعاتُ الإسلامية السابقة (التي رأت إحداها احتمالاتِ العدالة الشعرية التي يمكن أن يُوفِّرَها الانبعاثُ في جسدٍ جديد. فقد اعتقدت هذه المجموعةُ أن الرجل الذي مارس الجنس مع خروف قد يولد من جديدٍ في هيئة خروف في حياته المستقبلية.) ويؤمن العلويون بأنه يمكن للناس أن يُولَدوا من جديد في هيئة نباتات، على سبيل المثال، لكن الدروز يرفضون ذلك. فهم يؤمنون بأن أعضاء طائفتهم يولَدون دائمًا من جديدٍ داخِلَها. ووَفقًا لهذا الرأي، فإن الدروز موجودون كشعبٍ قبل وقتٍ طويل من ظهور الدِّين؛ فأجسادهم شابةٌ وأرواحهم عمرها آلافُ السنين، وقبل أن يكونوا الطائفةَ الدرزية الحالية، كانوا صحابةَ الرسول محمدٍ وتلاميذَ فيثاغورس. والدروز لديهم إجابةٌ عن السؤال القديم حول ما يحدث للأرواح عندما لا يوجد ما يكفي من الأجساد لاستقبالِها: في هذه الحالة تذهب أرواحُ الدروز، كما تقول الأساطير الشعبية الدرزية، إلى الصين.

وبينما كنتُ أتجوَّل في شوارع المختارة في تلك الليلة، فكَّرتُ مَليًّا في الطرق التي أسهَم بها الإيمانُ بتناسخ الأرواح في تشكيل الطائفة الدرزية. ربما ساعدهم في البداية على استمالةِ المعتنِقين الجدد. وتخيَّلتُ قول الدروز الأوائل للمسيحيِّين: «بقَبولك محمدًا نبيًّا، أنت لا ترفض يسوع؛ لأن محمدًا هو يسوع بعدما وُلد من جديد.» وفي حالة الوثنيِّ الذي كان يُبجل فلاسفةَ الإغريق، يمكن أن يُجادلوا بأن الزعيم الدرزي حمزة بن علي كان فيثاغورس بعدما عاد إلى الحياة مجددًا. في القرون اللاحقة، تعزَّزَت سِمة الشجاعة التي يشتهرُ بها الدروز في القتال بالإيمان بأن الموت سيؤدِّي بسرعةٍ إلى ميلادٍ جديد.

وعند خوض غِمار المعارك، كان الجنود الدروز يصيحون: «مَن يريد أن ينام في بطن أمِّه الليلة؟» ويمنح هذا الإيمانُ أيضًا الدروزَ شعورًا عميقًا بالولاء الجماعي. وهم يعتبرون أنفُسَهم قد أقسموا على عهد ربِّ الزمان، وهو تعهُّد بالولاء للخليفة الحاكم. ولم يُقدموا هذا التعهُّد في هذه الحياة بالطبع، ولكن في القرن الحادي عشر؛ في تجسدٍ سابق، عندما كانوا الأشخاصَ الذين شكَّلوا الطائفة الدرزية الأولى.

وأخيرًا، يدعم الإيمانُ قواعدَهم الصارمة الرافضةَ لقَبول معتنقين جددٍ أو للزواج من خارج الديانة. فأحد المتطلَّبات القليلة على الدرزيِّ أو الدرزية العاديَّين أن يتزوَّجا أشخاصًا من داخل عقيدتهم. ونظرًا إلى تمتُّعِهم بحياةٍ أبدية من خلال ولادتهم من جديدٍ داخل الطائفة، فإن إنجاب أطفالٍ من شخص غريب — لا يُعَدُّ دُرزيًّا — يؤثر على هؤلاء الأطفال ليس فقط في هذه الحياة، ولكن في حيَواتهم المستقبَلية أيضًا. وفي هذا الخصوص، يمكن لذلك الأمر أن يكون له بعضُ العواقب الوخيمة في هذا العالم. في يوليو ۲۰۱۳، تزوج رجلٌ من درزية، وقال لعائلتها إنه درزيٌّ من قرية أخرى. عندما اكتشفوا أنه مسلمٌ سُني، تعقَّبوه وأخْصَوه. وأدان وليد جنبلاط الحادث. كانت الطائفةُ أكثرَ تسامحًا عندما خُطِبَت أمل علم الدين، المنحدِرةُ من عائلة درزية شهيرة، في عام ۲۰۱٤ إلى الممثل الأمريكي جورج كلوني. ومع ذلك، لم تكن جَدَّة أمل راضيةً عندما أجْرَت إحدى الصحف المحلية مقابلةً معها. ونُقل عنها قولها: «ماذا جرى؟ ألم يعد يوجد شبابٌ درزي؟»

•••

جبل الشوف هو معقل الدروز في لبنان، لكنهم يسكنون أيضًا جبلًا بأقصى الجنوب، بالقرب من الحدود مع إسرائيل. ويوجد على هذا الجبل ضريحٌ يُسمى حاصبيَّا، وفي اليوم التالي لمأدُبة الغداء مع العُقَّال أتيحت لي فرصةُ زيارته مع السفيرة البريطانية وربيعة، وهو الرجل ذاتُه الذي طرح السؤال الصفيقَ حول تناسخ الأرواح عندما التقينا شيخ العقل في بيروت. كانت رحلةً طويلة؛ حيث صعدنا إلى قمة الجبل، ثم نزلنا نزولًا حادًّا إلى وادٍ أسفل الجرف حيث يُفترَض أن فخر الدين قفز بحِصانه، ومررنا بقريةٍ مسيحية مُحاطة بكروم العنب، ثم بقرية شيعية مُزيَّنة بملصقات حزب الله.

عندما وصلنا إلى حاصبيَّا رأيتُ أنها كانت بلدةً ذات أبنيةٍ حجَرية قديمة. وكان أحدُ هذه الأبنية قلعةً مدمَّرة، لا يزال تسكن أحدَ أركانها الحجرية المتداعية عائلةٌ كانت موجودةً هناك منذ الحروب الصليبية. وكانوا قد خفَّفوا من قسوة الفِناء الحجَري الرمادي بالزهور. ويوجد ركنٌ آخر، أقلُّ ملاءمةً للسُّكنى، كان مملوكًا لفرع منفصل من العائلة ذاتها، وكان يُستخدم لعقد التجمُّعات السياسية. وفي الجزء الداخلي لمدخلٍ حجري بسقف طويل مقوَّس، عُلِّقَت صورة كبيرة لمنافس جنبلاط، طلال أرسلان، ووُضِعَت كراسيُّ بلاستيكية لإقامة حفل استقبال مرتجَل على شرَف السفيرة.

وبمجرد انتهاء حفل الاستقبال ذهبنا لزيارةِ ضريح قريب على قمة تل يُسمى البَيَّاضة. لقد كان «خلوة»، أو مكانًا يستطيع فيه الدرزيُّ أن يعزل نفسَه عن العالم ويُصلي؛ صومعةً، بالمعنى الغربي. وكان في مركزه غرفةٌ للصلاة (بسيطة وغير مزخرفة، كما كان بوُسعي أن أرى من خلال النافذة؛ حيث كان محظورًا دخولُ الغرفة ذاتِها). وكان معظم المباني المحيطةِ به يؤدي دور أماكنِ معيشةٍ لجماعة من شيوخ الدروز يُشبهون الرهبان. كان خمسةٌ من هؤلاء، أحدهم يرتدي صندلًا، قد أعَدُّوا لنا وجبةً من حبوب الصَّنَوبر والعسل. وجلَسوا وأجابوا عن أسئلتنا بصبر. وكان الرجل الذي يرتدي الصندل يعيش هناك منذ أربعين عامًا. وكما هو الحال مع شيوخ الدروز الآخَرين، كان من عادتهم تناولُ الطعام الذي يُعِدُّونه لأنفسهم فقط. وأوضح واحدٌ منهم، قائلًا: «تأسَّس هذا المكان منذ ۳٥۰ عامًا على يدِ رجل روحاني جدًّا. وأصبح رجلًا مقدَّسًا جدًّا وقرَّر بناء خَلْوة هنا. كانت بالأسفل، ثم نُقِلَت إلى قمة التل. لم يكن يهدف إلى أيِّ مكسب دنيوي؛ لذلك أصبح مشهورًا. ثم جاء الناس وبنَوْا خلوات خاصة.»

بنى الدروزُ أيضًا في مرحلةٍ ما بجانب الضريح شيئًا مثيرًا للفضول؛ دائرةً من الحجر، محاطةً بحافَةٍ حجرية منخفضة. يبدو أن لها بعضَ الأهمية الدينية التي لم يُبينها مُضيفونا؛ لأنني اضطُرِرتُ إلى خلع حذائي قبل أن أخطوَ عليها. ووُضِعَ حجرٌ ذو لون أغمق، صغير ومستدير، في مركزها: كان الشكل ككل، عند رؤيته من الأعلى، عبارةً عن نقطةٍ في مركز دائرة. كان رمز النقطة في مركز الدائرة علامةً مقدَّسة لفيثاغورس، تمثل «الواحد» في قلب الكون، «النقطة الثابتة في العالم المتحرك». وبالوقوف على النقطة والتحدث، كان بإمكاني أن أسمع صدى صوتي بوضوحٍ خارج الحافة الدائرية. ربما كان هذا الصوتُ سيَروق لفيثاغورس هو الآخَر. فقد كان أوَّلَ مَن حدد الجوابَ الموسيقي، حيث اكتشف أن التناغماتِ المبهِجةَ تعمل وفقًا لصيغ رياضية (خفض طولِ قضيبٍ معدني إلى النصف يعني أن النَّغْمة التي سيُصدرها عند النقر عليه ستكون ضِعفَ التردد). وكان يؤمن بأن الكواكب تُصدِر موسيقى أثناء دوَرانها في السماء، وأن الشخص الذي يركز وقتًا كافيًا ويُدرك ما الذي يجب أن يستمع إليه؛ يُمكنه سماعُ «موسيقى الأجرام السماوية». خطَرَت هذه الفكرة لأحد الشيوخ الذين كنتُ قد قابلتهم. سمَّاها بالعربية «حنين الأفلاك». وعلى الرغم من أنني درَستُ الفلسفة الإغريقية سنواتٍ في الجامعات الغربية، كانت هذه هي المرةَ الأولى التي أسمع فيها عن هذا الأمر.

كان الوصيُّ على الضريح، الذي قابلناه في منزله في البلدة وليس في الضريح ذاته، رجلًا مُسنًّا ذا لحيةٍ طويلة وروحِ دعابةٍ شقية. أرشدَنا إلى غرفةِ معيشته، حيث كانت توجد مائدةٌ عامرة بأطباق ضخمة من الطعام على شرَفِنا. وأجرى مع السفيرة مُحادثةً مازحةً إلى حدٍّ ما حول وضع المرأة فيما يتعلَّق بانضمامِهن للعمل مع رجال الدين الدرزي؛ إذ أوضح أن بإمكانهن أن يُصبحن شيخات، لكن بسُلطة محدودة، قبل أن يقلب الطاولة على السفيرة بسؤالها عن الكيفية التي انتهَت بها الإمبراطوريةُ البريطانية. وسأل: «هل غابت عنها الشمس؟» (عبارة «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» عبارةٌ شائعة في الشرق الأوسط؛ لسببٍ ما. لدرجة أنني لا يمكنني أن أُحصِيَ عددَ المرات التي اقتُبِسَت فيها تلك العبارة وقيلت لي؛ مِن كثرتها.)

أصبح الوصيُّ أكثرَ جديةً عندما سألتُه عن فيثاغورس. هل يمكنه أن يشرح لماذا منَع الفيلسوف أتباعَه من أكل الفاصوليا؟ فاندهش الشيخ. وقال إن فيثاغورس لم يفعل شيئًا كهذا. وأشار إلى أطباق الطعام التي أعدَّتها عائلته لزوَّارها. وقال: «أتمنى لو أنا كنا قد أعددنا لكما طبقَ فاصوليا؛ حتى ترَيا أن الدروز مسموحٌ لهم بأكلها!» كان افتراضه الفوريُّ هو أنني إذا كنت أسأل عمَّا سمح به فيثاغورس وما حظَره، فهذا سؤال حول العادات الدرزية أيضًا. (ورَدَت، في مجلةٍ درزية لبنانية نشرت مقالًا عن «فيثاغورس الحكيم»، قائمةٌ بتعاليمه التي تُفسرها جميعًا على أنها استعارات، وهو النهج ذاتُه الذي يتبعه الدروزُ تجاه أحكام الإسلام.)

•••

إن وضع الدروز اليوم كطائفةٍ أفضلُ من الإيزيديين أو الزرادشتيين. فقد تمكَّنوا، حتى الآن، من التمسُّك بأرضهم واستقلالهم، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى عدم وجود جماعةٍ دينية واحدة تُهيمن على لبنان. ونجا جنبلاط حتى الآن من الاغتيال ولا يزال ذا أهميةٍ سياسية في لبنان؛ وفي سوريا، أدَّى بُعدهم عن المدن الرئيسية وحجم مجتمعهم المحليِّ إلى حمايتهم حتى الآن من أسوأ ما في تلك الحرب الأهلية التي يشهدها البلد؛ وفي إسرائيل لديهم حريةٌ دينية، ويخدم كثيرون منهم في الجيش الإسرائيلي. إن التهديدات كثيرة. ولبنان غيرُ مستقر، والدماء تسيل في سوريا، وإسرائيل صادَرَت نسبةً كبيرة من أراضي الدروز لإيواء المهاجرين اليهود في البلاد. وجهلُ الدروز العاديين بدينهم لا يُفيدهم في الحفاظ عليه في الخارج. ومع ذلك ففي كل منطقة نجح رجالُ دينهم وقادتُهم العلمانيون في الحفاظ على وَحدةِ مجتمعهم الداخلي وتَميُّزِه. وبعد أن رأيت مدى خطأِ كارنارفون في التقليل من قيمة الدروز، عدتُ من المختارة وحاصبيَّا عازمًا على ألا أفعلَ الفعلة ذاتَها.

عندما عدتُ إلى بيروت، دبَّرت لقاءً أخيرًا مع أستاذٍ درزي في الجامعة الأمريكية في بيروت يُدعى سامي مكارم. دعاني إلى شقته، وعندما وصلتُ، قدَّم لي كوبًا من عصير التوت الحلو. قال: «إلهنا مختلفٌ عن إلهكم الإبراهيمي. ففي الديانة السامية يُعْرَف الله من خلال أعماله. لكنه عندنا حالٌّ فينا ومُتعالٍ في الوقت ذاتِه.» يرى الدروزُ الله، مثل «الواحد» في الأفلاطونية المحدَثة، على أنه ثابت؛ ليس السببَ في وجود الكون، لكنه سببُ أسبابِ الكون (فالواحد يُسبب العقل والروح الكونيَّين؛ والعقل والروح الكونيان يُسببان الكون). لا يمكن وصفُ الله؛ ومِن ثَمَّ فإن الدروز يتحدثون عنه على أنه فقط «خالق الكون»، لأنه لا يمكن استخدام أي تسمية أخرى بأي درجة من الثقة.

ووفقًا لفكرة الانبثاق، يؤمن الدروز أن العالم جزءٌ من الله مثلما الحلم جزء من الحالم. وتابع مكارم: «إن انفصال المرء عن الله والتفكير في الانعزال هو شر. فالأنا موجودةٌ في الأفراد الذين هم بطريقةٍ ما انبثاقٌ من الله. والأنا موجودة بالضرورة. لكن بماذا يمكننا مُحاربتها؟ بالحب. الحب، وقَبول أننا نعتمد على النظام الكوني.» ذكَّرَني هذا المفهوم بكلمات القديس برنارد من كليرفو: «مثلما تُفقَد قطرةُ ماء مسكوبةٌ في الخمر، وتأخذ لون الخمر ومذاقَه؛ أو مثلما يُصبح قضيبٌ من الحديد، مسخَّنٌ حتى التوهج، مثل النار نفسِها، متناسيًا طبيعتَه الخاصة؛ أو مثلما لا يبدو الهواء، المشِعُّ بأشعة الشمس، منيرًا وإنما ضوءٌ بذاته؛ كذلك تتلاشى جميعُ المشاعر البشرية في القدِّيسين من خلال بعض التحول الذي لا يوصف إلى إرادة الله.»

سألتُ الأستاذ الجامعي، هل الدروز خلفاء للفيثاغوريين؟ ابتسم لي بحذر ولم يرُدَّ. من الواضح أنه كان قد قرَّر أنه لا يمكن إعطاءُ إجابة عن هذا السؤال لشخصٍ غير منضمٍّ للطائفة. فقد أخبرني بما يلي: «يقول هيرميس الهرامسة، مؤسسُ علم الفلك، إن الكشف عن حقيقةٍ لإنسانٍ غيرِ مستعدٍّ لقَبولها هو ثلاثُ خطايا في آنٍ واحد. فهذا سيجعله يكفر بالحقيقة، ويُسيء الظن بك، ويقول إن الحقيقة هُراء.» في نظر مكارم، ما الذي يمكن أن يجعل شخصًا ما مُستعدًّا لقَبول الحقيقة؟ هل تُؤهِّلني دراستي للفلسفة اليونانية؟ لا يبدو ذلك. قال مكارم: «إن التكيُّف مع الحقيقة يستغرق أجيالًا. وهذا ما يعنيه تناسُخ الأرواح. فالمعرفة الحقيقية هي تذكُّر.» كان فيثاغورس يعتقد أنه من خلال تذكُّر تجسُّداته السابقة يمكنه أن يحشد من الحكمة ما يفوق عُمرَه. وبالمثل، يؤمن الدروز بأنه بما أن أرواحهم تتناسخُ في مجتمَع المستنيرين، فهم وحدهم مَن يُمكنهم أن يأمُلوا في بلوغ الحكمة الحقيقية. وهذه حقًّا واحدة من أفكار فيثاغورس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤