الفصل السابع

الكلاشا

في صيف عام ۲۰۰٧ كنتُ في رحلةٍ بالطائرة من إسلام أباد إلى كابول، مما كان يعني الجلوسَ على حقائبي عدةَ ساعات في صالة السفر بمطار إسلام أباد. كان من السهل معرفةُ الأجانب المتَّجِهين إلى كابول؛ فقد كانوا في الغالب أقوياءَ البِنْية، مَفتولي العضلات، يحملون حقائبَ ظهر ماركة نورث فيس. لكنني كنتُ استثناءً؛ دبلوماسي يفتقر إلى العضلات المفتولة، متَّجه لتولِّي مهمةِ إدارة الفريق السياسي في السفارة البريطانية لمدة عام. بدا المنظرُ الطبيعي الذي رأيتُه من نافذة الطائرة كما لو أنه لم يتغيَّر منذ قرون. «جبالٌ ذات لون بُني مثل السَّعوط»، كما كان قد أطلَق عليها رحَّالةٌ بريطاني، و«تِلال يبلغ ارتفاعُها عشَرة آلافِ قدَم يتخللها مسارٌ شديد التعرُّج إلى مسافةِ ميل.» وبالنظر عن كثب، كان بإمكاني ملاحظةُ الخيوط الخضراء الرفيعة بين التِّلال، التي كانت هي الوِدْيان. لم يكن بوُسعي رؤيةُ أيِّ مظاهر لوجود بشرٍ على الإطلاق.

وبالتحديق جهةَ الشرق، رأيتُ قِممًا عاليةً ترتفع عموديًّا فوق الوديان الخضراء والجبال البُنية، حتى ارتفاعٍ يصل إلى أربعة وعشرين ألفَ قدَم. كانت هذه هي سلسلةَ جبال هندوكوش، وهي سلسلةُ جبال كبيرة تمتدُّ على طول الحدود الشرقية لطاجيكستان، وأفغانستان، وباكستان، وتفصل تلك البلدانَ عن الصين. إنها في الحقيقة جزءٌ من جبال الهيمالايا. وعلى الرغم من اسم «سَقْف العالم» الذي يُطلَق عليها، فإنه من الأنسب التفكيرُ بها على أنها جدارٌ أو مِتْراس؛ فعلى مدى عصورٍ عديدة، كانت أبعدَ نقطة شرقًا وصَل إليها أيُّ شخص. وتُمثل هذه الجبالُ للثقافات البشرية ما تُمثله الشِّعابُ المرجانيةُ للحياة البحرية؛ فهي غنيةٌ ومتنوِّعة. ففي القسم الأفغاني من هندوكوش، على سبيل المثال، في منطقةٍ بحجم ولايةِ نيو جيرسي توجد عِشرون لغةً أصلية وغير مفهومة بعضها لبعض.

وصل الإسكندرُ الأكبر إلى هذه الجبال لكنه لم يبذل أيَّ جهد لعبورِها؛ ربما معتقِدًا أنها كانت تُشكِّل حافَةَ العالم في أقصى الشرق. سخر منه سُكانها، ولم يخافوا من حقيقةِ أنه كان قاهرَ بلاد فارس وحاكمَ أعظم إمبراطورية شهدها العالمُ حتى الآن، وقالوا إنه للاستيلاء على مَلاجئهم التي يتَعذَّر الوصولُ إليها، سيحتاج إلى «جنودٍ بأجنحة». في إحدى هذه المعارك، أصيب الإسكندرُ بسهمٍ في كتفه. لم يكن القائدُ العظيم قد خسر معركةً مطلقًا في الثماني سنوات التي تلَتْ مغادرتَه لوطنه في شمال اليونان. لكن هؤلاء الخصوم، كما سجَّل أحدُ مؤرخي الإسكندر، كانوا أقوى مُقاتلين واجَههم في حملتِه الهندية بأكملها. أُعجِب بهم الإسكندرُ بشدة لدرجة أنه تزوجَ من فتاةٍ محلية تُدعى روكسان (كانت «أجمل امرأة رأَوها في آسيا»، كما اعتقد جنودُه، فقط باستثناء الإمبراطورة الفارسية).

لم يكن الإسكندرُ الغازيَ الوحيد الذي صمَد أمامه سكانُ هندوكوش. ويبدو أن الجيوش العربية التي أتَت بالإسلام إلى أفغانستان وشمال الهند منذ القرن السابع وما بعده قد اكتفَت بحُكم مدُن السهول الغنية، وترَكَت سكانَ الجبال وشأنَهم. وفي القرن الرابعَ عشر، أوشكَ الغازي الوحشيُّ من آسيا الوسطى تيمورلنك أن يغزوَهم؛ حيث شقَّ طريقه بالقتال حتى وصل إلى أعلى قلعةٍ في الجبال. ومع ذلك، لم يستطع الحفاظَ على سيطرته، ولم يعتنق السكانُ المحليون الإسلام أبدًا. وبعد مدةٍ طويلة من تيمورلنك، كان الناس في هذا المكان لا يزالون يُقدمون القرابينَ لآلهتهم إمرا وجيش، ويشربون الخمر، ويرقصون — النساء والرجال معًا — على منصات خشبيةٍ قاموا بتجهيزها بشكلٍ مؤقت في قُرًى تتشبثُ بالجبال الشديدةِ الانحدار مثلما يتشبَّث البطلينوس بصخرته. وأطلق عليهم جيرانُهم المسلمون الخائفون وصْفَ «الكفار»، وهي تسميةٌ يبدو أنهم قَبِلوها باستمتاعٍ في ذلك الوقت. وسُميت المنطقة التي كانوا يعيشون فيها كافرستان.

لم يهتمَّ ماركو بولو بهم عندما مرَّ بهم في القرن الثالث عشر. وكتب: «إنهم وثَنيُّون وهمج لأبعد الحدود، ويعيشون بالكامل على مُطاردة الحيوانات ويرتَدُون جلودها. وهم سيِّئون بكل ما تحمله الكلمةُ من معنًى.» لم يكن ذلك غيرَ دقيق تمامًا — فالكفار كانوا بالفعل يلبسون جلودَ الحيوانات، ولم يُمارسوا الزراعة — لكن من المشكوكِ فيه أن بولو اقترب منهم. فقد مرَّ وقتٌ طويل بعد زيارة الإسكندر قبل أن يُفكر أيُّ غربي في هندوكوش مرةً أخرى.

•••

يُعتقد أن مبشِّرَين كاثوليكيَّين قد دخلا كافرستان في نهاية القرن الثامنَ عشر (بناءً على قصص رَواها سكانُها للزوار فيما بعد). قتل الكفارُ أحدَهما بعدما ظنوا أنه روحٌ شريرة؛ ولم يترك أيٌّ منهما أيَّ تسجيل لما رأى. في عشرينيات القرن التاسع عشر، سافر موحِّدٌ اسمه ألكسندر جاردنر من ولاية إلينوي، لديه أصولٌ إسبانية ويتحدث بلهجةٍ أيرلندية، وتلقى تعليمه على يدِ أقباط كاثوليك، إلى آسيا الوسطى بحثًا عن وظيفةٍ تتَّسم بالمغامرة (حيث سيُصبح، بعضَ الوقت، قاطعَ طريق). وعلى حدِّ تعبير كاتبِ سيرته الذاتية المعجَبِ به، اتَّسمَت المدةُ التي قضاها في المنطقة «بالكمائن، والأعمال الانتقامية الشرسة، وعمليات هروب بشِقِّ الأنفس، وأحداثٍ مليئة بالوحشية والقسوة لا يمكن تصوُّرُها في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تكون مليئةً بالأعمال الخيرية النابعة من القلب والإخلاص حتى الموت». وأُطلق عليه الاسمُ المحلي جوردانا خان.

زعم جاردنر أنه دخل كافرستان مرتَين، لكن سِجلَّه الأصلي للزيارة ضاع عندما قُتل السير ألكسندر بيرنز، المبعوثُ البريطاني إلى كابول، الذي كان يملك النسخةَ الوحيدة، على يدِ مجموعةٍ من الغوغاء في بداية الحرب الأفغانية (قال البعضُ في ذلك الوقت إن مَن دفَع الغوغاء إلى قتله هم الرجال الأفغان الذين خانَتهم زوجاتُهم مع بيرنز المتأنِّق). كان بيرنز، ابنُ عمِّ الشاعر الأسكتلندي روبي بيرنز، يتحدَّث اللغة الفارسية بطلاقةٍ وقد ترك سِجلًّا من الشهادات التي تلقَّاها من الكفار في كابول، وهي شهاداتٌ تكشف ممارساتِهم المتمثلةَ في دفن موتاهم في توابيتَ في الهواء الطَّلْق، وبيع بناتهم بسعرٍ يُحدده حجمُهن، وإنهاء الخلافات الدموية بين الرجال عن طريق مصِّ بعضهم حلمات بعض.

بعد وفاة بيرنز، مرَّت سنواتٌ عديدة لم يزُر فيها أحدٌ كافرستان. وأصبح يُطلق عليها اسم «البقعة المظلمة على خريطة آسيا»؛ فهي مكانٌ لم يتمكَّن من اختراقه حتى الحكومةُ الإمبراطورية البريطانية في الهند، التي أرسلَت جواسيسَ لوضع خُطة مفصَّلة لأكثرِ الأماكن المحظورة التي يتعذَّر الوصولُ إليها على حدودها. وفي نهاية القرن التاسع عشر، خطَّط البريطانيون لكتابة معجمٍ جُغرافي عن كافرستان، كما فعلوا لكلِّ منطقة أخرى لها حدودٌ مع الهند، لكنهم في هذه الحالة — بشكلٍ استثنائي — تخلَّوا عن الفكرة.

ومع ذلك، كان لدى السلطاتِ البريطانية اهتمامٌ كبير بمعرفة المزيد عن أماكنَ مثل كافرستان، التي كانت مُلاصِقة للحافةِ الشمالية لممتلَكاتهم البريطانية؛ حيث كان التهديدُ الخارجي الأكبر لإمبراطوريتهم في الهند في أواخر القرن التاسعَ عشر هو روسيا، التي كانت تبتلعُ آسيا الوسطى وتتقدَّم جنوبًا بوتيرةٍ سريعة. وأصبح استكشافُ مناطقَ مثل كافرستان الواقعةِ بين البريطانيِّين والروس، بهدفِ إما ضمِّها بوصفها حليفًا أو الاستيلاءِ على ممتلكاتها، مسعًى استمرَّ عقودًا من الزمن وعُرِف باسم «اللعبة الكبرى». هكذا وجَد ملازمٌ يُدعى ماكنير، وهو من قُدامى المحاربين في الحرب الإنجليزية الأفغانية الثانية، نفسَه على حدود كافرستان في عام ۱۸۸۳ أثناء إجازته الرسمية، حيث دهَن بشَرته بعُصارة الجوز ليجعلَ لونها أغمقَ ووضع أدواتِ قياسٍ في حقيبةٍ طبِّية زائفة. كان يُحول نفسه إلى «صاحب جول ماكنير حسين شاه» ويأمُل أن يدخل كافرستان بصحبةِ صديقَين من قبيلةٍ بشتونية محلية. لا بد أن ماكنير فكَّر مَليًّا قبل أن ينزل من على مسارٍ يصطفُّ على جانبَيه رُكام من الأحجار الصخرية التي كانت تُغطي بشكلٍ غيرِ مثالي جثثَ الرحالة السابقين الذين قُتِلوا على يد الكفار الذين كانوا يحمون عُزلتَهم بوحشية. كتب ماكنير: «من بينِ جميع الأفعال البارزة كان ذبحُ [مسلم] يحتلُّ المقامَ الأول بين الكفار». وكان رأسُ الضحية يوضَع على شجرةٍ طويلة. ولحُسن الحظ، كان الرجلان اللذان كانا مع ماكنير ينتميان إلى قبيلةٍ كان الكفارُ يتعاملون معها بفزعٍ ناجم عن الخرافات، ومن ثَمَّ كان يُسمَح لأفرادها عمومًا بالمرور دون التعرض لأذًى.

كانت زيارةُ ماكنير للكفار قصيرةً للغاية ولم يكتشف سِوى القليل. قَدَّر عددَهم بمائتَي ألف. وأضاف أن: «أصنامهم عديدة، ففي كلِّ وادٍ وجدولٍ توجد مجموعةٌ منها غيرُ معروفة إلا لهذه المنطقة فقط، ومن المفترض أن هذه الأصنامَ تُجسِّد الأبطال الذين عاشوا بينهم في الأيام الغابرة والذين أصبحوا الآن أرواحًا تشفع لهم لدى الإله إمرا.» اعتبر أنَّ خمرهم كانت ضعيفةَ الأثر، وقد اندهَشوا من الويسكي الذي كان، بعدَ تمَعُّن وتفَكُّر قد أحضره معه. والأهمُّ من ذلك أنه أشار إلى أنهم «كانوا على استعداد تام لمساعدة البريطانيِّين … ولن يتردَّدوا في وضعِ خدماتهم تحت تصرُّفنا، إذا تطلَّب الأمرُ ذلك.» سجَّل كلَّ هذا في كتيبٍ مختوم بكلمة «سري» قدَّمه إلى قسم الاستخبارات في وزارة الحربية البريطانية. وكتب قائمةَ مفردات، كمُلحَق له، توضِّح ما كان يرى أن الزائر قد يحتاج في المستقبل إلى قوله، مثل «إنه شديدُ الانحدار وقد أسقط» و«سأقدم عنزةً قُربانًا إلى إمرا».

كانت رُؤى ماكنير ضَحْلة، وظلَّت كافرستان لغزًا حتى وصولِ جورج سكوت روبرتسون. كان روبرتسون في الأصل طبيبًا بالجيش، وكان من جُزر أوركني البرِّية النائية. وربما وجد صَدًى لموطنه في «بلد الجن الحقيقي» الذي رآه من قمةِ جبلٍ عندما كان يعمل مسئولًا في أقصى الحدود الشمالية الغربية للهند البريطانية. ووصفَ إطلالةَ كافرستان بأنها «تمتدُّ بعيدًا إلى ما وراء العدَم». ومنذ تلك اللحظة، كما يُخبرنا في كتابٍ كتبه لاحقًا عن رحلته الاستكشافية، أصبح متعلقًا بها. وأثناء إقامته بصفته ضابطًا سياسيًّا بريطانيًّا في جلجت المجاوِرة، راقَب أيَّ كافر قد يجدُه هناك، وفي النهاية زار البعضُ منهم المنطقةَ وقُدِّموا إليه. في البداية، وجَد مظهرهم مثيرًا للاشمئزاز، لكنه رأى بعد ذلك أن «الرِّداء البنيَّ القذر، الذي يتخطَّى الكعبَين ويصل إلى الأرض، يُخفي أجسادًا نشيطةً رياضية، وأن الوجوه اللطيفة المتملِّقة ذكيةٌ وجذَّابة، ويمكن أن تنظرَ في بعض الأحيان نظرةً محدقةً ثابتةً جريئة، أو نظرةً خاطفة متوحِّشة مثل نظرة الصقر؛ وأن الرجال الذين يلعبون دور المتسوِّلين الأذلَّاء … قادرون في أي لحظةٍ على التخلُّص من قِناع التواضع وإظهارِ صفاتهم الأصلية.» وقد اكتشف مدى صحةِ ذلك عندما تمكن من الحصول على إذنٍ ليس فقط لزيارة الكفار وإنما للعيش بينهم لمدةٍ وصلَت إلى عام كامل.

واكتشف أن مَن يُسمَّون بالكفار كانوا ينقسمون إلى العديد من القبائل، التي اختلفَت لُغاتها وممارساتها. علاوةً على ذلك، كانت ديانة الكفار يومًا ما مشتركةً بين الشعوب المجاورة الأخرى التي كانت تعيش حينئذٍ في ظل الحكم الإسلامي. أحدُ هذه الشعوب كان يُسمى الكلاشا. وعلى عكس أولئك الكفار في الجبال العالية الذين ظلُّوا أحرارًا، فقد غزا «مهاتير» (أي أمراء) شيترال الأراضيَ المنخفضة التابعة لشعب الكلاشا، واضطُرُّوا إلى دفعِ الجِزْية في شكل عملٍ قَسري. لم يكن شعبُ الكلاشا ذا فائدة لروبرتسون، الذي أراد أن يجدَ رجالًا مقاتلين؛ فقد كانوا كما قال مستنكرًا: «عِرقًا ذليلًا ومُنحطًّا تمامًا.» وعلى النقيض من ذلك، كانت القبيلة التي اختار العيشَ معها، وهي الكام، أكثرَ القبائل حروبًا بين جميع الكفار. وعندما حاول يومًا ما أن يصفَ لقبيلة الكام ما يبدو عليه الرجلُ السمين، واجهَ صعوبةً في جعلِهم يفهمون. فقليلون منهم مَن رأَوا مِثل هذا من قبل. ولم يُحالفه النجاحُ إلا عندما تحدَّث إلى الكاهن المحلي، الذي «شعر بالحيرة مدةً طويلة. واتضحَ له المعنى الذي أقصدُه عندما هتف فجأةً: «أتذكر قتل رجلٍ بالقرب من [مدينة] أسمر كان تمامًا كما تصف؛ الكلمة هي «سكيور»».»

لم يكن الكاهن وحده مَن تلطَّخَت يدُه بالدماء. فالخلافات الدموية لم تكن مجردَ حادثٍ عرَضي بين شعبِ قبيلة الكام؛ بل كانت أسلوبَ حياة. كانت أقربُ القرى المسلِمة أهدافًا للإغارات القاتلة، وغالبًا ما كانت تُشنُّ من أجل الغنائم (ففي مثل هذا المجتمع المحلي الفقير، قد يُقتل رجلٌ لمجرد الحصول على ملابسه) أو للانتقام من التعدِّي المستمر للقبائل المسلمة على أرض الكام. قدَّم روبرتسون قائمةً بالصفات التي أُعجِب بها شعبُ الكام، وفي مقدمتها القدرةُ على القتل؛ يليها «رجل الجبل الجيد، الذي يكون على استعدادٍ دائم للشِّجار، ويتمتَّع بنزعةٍ شهوانية.» غالبًا ما كان لدى الكام ثأرٌ لبعضهم ضدَّ بعض، لكنَّ عادةً لطيفةً مكَّنَتهم من تفادي الثأر إذا رغبوا في ذلك؛ إذ لم يكن يلْزم الرجلَ إلا التظاهرُ بالاختباء من قاتله المحتمل، الذي كان تظاهَرَ بدوره بعدمِ رؤيته.

وأفرادُ القبيلة الذين فَشِلوا في قتل ألدِّ أعداء القبيلة قد يقذفهم قومُهم بالرماد. وقد يُصبحون موضوعًا للنِّكات والسخرية، وفي المآدب العامة كانت زوجاتهم يُشِحْن وجوهَهنَّ عنهم عند تقديم الطعام لهم. فقد كان «الجال»، أي العار، دافعًا قويًّا بين أفراد قبيلة الكام. وكذلك كان النظام الطبقي. فأولئك الذين انزلَقوا لقاع السُّلَّم الاجتماعي قد ينتهي بهم الأمرُ بين أبناء الطبقة الدنيا «البروجان» الذين كانوا عُرضة للشراء والبيع مثل عبيد العصور الوسطى. ومن ناحيةٍ أخرى، سُمح لشابٍّ قتَل خمسَ ضحايا بارتداء وشاحٍ أزرق مصنوع من ملابسهم، ورأى روبرتسون القليلَ جدًّا من هذه الأحداث خلال زيارته. كما التقى توراج ميراك، الرجل الذي يبدو أنه خرَج مباشرةً من رواية مغامرات من العصر الفيكتوري. جاء ميراك، «أغنى رجلٍ في كافرستان»، لرؤية روبرتسون مرتديًا رداءً أحمرَ لامعًا وكان يحمل دِرعًا برونزيًّا. «كان لديه ملامحُ سامية قوية، وانسدَلَت على كتفَيه المزركشَتَين خصلاتُ شعره الطويلة، المضفَّرةُ مع ذيول الفئران، وبين الفَينة والأخرى كان يُلقي نظرةَ فخرٍ ليرى ما إذا كان الغريب يُقدر عظَمته.»

زعم ميراك أنه قتل أكثرَ من مائة شخص، كثيرٌ منهم من النساء والأطفال، وللاحتفال بهذه الحقيقة، ربَط جرسًا صغيرًا بنهايةِ عصاه. كتب روبرتسون: «في عينَيه القاتمتين، كان ثَمة عالمٌ من الشفقة. إنهما تُكذِّبانه تمامًا. ففي صميم قلبه يوجد همجيٌّ يعوي، بينما في سُكونه تعكس ملامحُه رجلًا أحزنَه التحديقُ في صور معاناةِ عالم مضطرب.» ولحُسن حظ روبرتسون أن كونه مسيحيًّا كان يعني اعتبارَه رفيقًا غيرَ مسلم ونوعًا من الكفار الفخريِّين. وكان البريطانيُّون يتمتعون بالفعل بسمعةٍ طيبة بين شعب الكام، على الرغم من كونها من نوعٍ غريب إلى حدٍّ ما؛ فقد أخبَروا روبرتسون أن جِيش، إلهَ الحرب لديهم، قد ذهب للعيش في لندن.

بأي حال، كان من الصعب تجاهلُ الموت بين أفراد قبيلة الكام. فقد دفَن جميع الكفار موتاهم في الهواء الطلق، ربما لمجرد أنه كان من الصعب عادةً الحفرُ في الأرض المتجمِّدة. وعلَّق روبرتسون أن رائحة الجثث المتعفنة كانت تنتشرُ في القرية عندما تهب الرياح في الاتجاه الخاطئ. وتتميَّز جنازاتهم بأداء رقصة؛ مع وضع الجثة على كرسيٍّ وسط الراقصين.

لم يُثْنِ عليهم روبرتسون في وصفه مثلما فعَل ماركو بولو قبل قرون. فقد كتب أن أفرادَ شعب الكام لم يكونوا يغتسلون أبدًا، وأنهم كانوا يسرقون منه باستمرار، وأن «الكذب لديهم كان بسهولة التنفُّس». ولكن عند روبرتسون، الذي كان غارقًا في التقاليد العسكرية للإمبراطورية البريطانية، كان الأثر السلبيُّ لهذه الصفات يتلاشى أمام «شجاعتهم الرائعة، وعواطفهم الداخلية، وحُبِّهم الشديد للحرية». ومن نَواحٍ أخرى، كما يقول، أصبحوا كذلك بسبب الظروف. «فبالنسبة إليهم، لم يُصبح العالم ألطفَ مع مرور السنين … ولو كانوا مختلفين، لكانوا مستعبَدين منذ آونةٍ طويلة.»

وعلى الرغم من إعجابه بحبِّهم للحرية، كان هو نفسُه، عن غيرِ قصد منه، نذيرًا باستعبادِهم. فقد كان لرحلته غرضٌ خفي؛ حيث كانت السلطاتُ البريطانية تُحاول أن تُقرر ما إذا كانت قبائلُ الكفار تستحقُّ الاندماجَ في إمبراطوريتها. وكانت مهمةُ روبرتسون، التي كُشف عنها في الأوراق السرية لمكتب الهند، هي «دراسة تنظيمِهم القبَلي واكتشاف قيمتِهم باعتبارهم حُلفاء وَدودين مستعِدِّين للمساعدة ولكن مُحايدين، أو مناضلين نشطين في الحرب». وكان قراره أنه ينبغي تركُهم وشأنَهم. وكتب إلى رؤسائه أن الكفار لم تكن لهم «أي أهميةٍ استراتيجية أو سياسية على الإطلاق … ولا ينبغي التدخلُ في شئونهم بأي شكل من الأشكال.» ربما كانت هذه سياسةً حكيمة، مقترحة لدوافعَ جيدة، لكنها كانت إيذانًا بنهاية كافرستان.

في ذلك الوقت كان يحكم أفغانستان، التي كان يُجاور الكفارُ أراضيَها، عبد الرحمن خان، الذي أطلَق عليه البريطانيون «الأمير الحديدي». في مذكراته، زعم الأمير المسنُّ أنه كان يريد الكفارَ في جيشه لأنهم «كانوا عِرقًا شُجاعًا من الناس لدرجة أنني اعتقدتُ أنهم بمرور الوقت سيُصبحون جنودًا مفيدين للغاية تحت حكمي». (كان مُحقًّا؛ فبعد قليلٍ أصبحوا من النخبة في الجيش الأفغاني.) كما أراد التفوُّق على تيمورلنك بغزو كافرستان. وعلى الرغم من أنه لم يكن متعصبًا دينيًّا — فقد استعان، على سبيل المثال، بسكرتير هندوسي — أراد أن ينال مجدَ الجهاد ضد غير المؤمنين. وفي عام ۱۸۹٥، تقدَّمَت ثلاثُ وحدات عسكرية مُوالية لعبد الرحمن باتجاه كافرستان مستخدمةً تكتيك الكماشة لتطويق الكفار. هجمَت في ذروة الشتاء، عندما كان الكفار يجدون صعوبةً في الهروب. وبالنظر إلى أن أعداءه، مهما كانوا شُجعانًا ووحشيِّين، لم يكونوا قد أتقَنوا بعدُ استخدامَ البندقية، وكانوا في الغالب يقاتلون بالأقواس والسهام، فقد كان فوز عبد الرحمن مضمونًا. وخُيِّر الكفار بين اعتناق الإسلام أو الموت؛ وفي خمسينيات القرن الماضي، عُرِض على كاتب الرحلات البريطاني إريك نيوباي حَجرٌ أحمرُ اللون مخضَّبٌ بدماءِ أولئك الذين اختاروا الإعدام. وفاز عبد الرحمن بلقب ضياء الملة والدين. وأُعيد في النهاية تسميةُ المنطقة التي احتلها عبد الرحمن إلى نورستان، «أي أرض النور»، احتفالًا بتحوُّلِها القسريِّ إلى الإسلام.

•••

قد تكون نورستان مسلمةً الآن، لكنها شرسة ولا يمكن ترويضها كما كانت قبل مجيء عبد الرحمن. في فجرِ الثالثَ عشر من يوليو ۲۰۰۸، استيقظ تسعةٌ وأربعون جنديًّا أمريكيًّا في معسكرٍ مؤقت في وانات، مقاطعة نورستان، على مشهدٍ كارثي؛ حيث رأَوا أشخاصًا في الضوء الخافت فوق التِّلال البعيدة. وكشَفَت المراقَبة عن كثبٍ أن الأشخاص كانوا تابعين لحركة طالبان ويحملون قاذفاتِ صواريخ. ظهر المزيد والمزيد من الصور الظِّلية لأجسادٍ غير واضحة، حتى كان هناك ما يقرب من مائتين منهم. وفجأةً أطلقوا النار، مما أجبَر المعسكر الأمريكي على إخراج الأسلحة الثقيلة في الدقائق القليلة الأولى. وكانت الساعات القليلة التالية عبارةً عن فوضى من الدِّماء والضجيج. وفي مرحلةٍ ما، اخترق المهاجمون دفاعات المعسكر، وعندما انسحَبوا أخيرًا بعد بِضع ساعات من الهجوم المتواصل، خلَّفوا تسعةَ قتلى أمريكيِّين وسبعةً وعشرين جريحًا. كانت معركةُ وانات، كما عُرِفَت فيما بعد، هي أكثرَ الاشتباكات الأمريكية كُلفةً في أفغانستان منذ عام ۲۰۰۱. وسلَّطَت تقاريرُ عن المعركة في الصحافة الأمريكية الضوءَ على سُمعة نورستان باعتبارها «المكان الأكثر دمويةً على وجه الأرض» و«مركز القاعدة وطالبان». هناك ثلاثةُ أشياء جعلَتها جذابةً بشكل خاص للمسلَّحين الإسلاميين: تضاريسها القاسية (فالجبال التي تتكوَّن منها المقاطَعة يصل ارتفاعها إلى ۱۹٥۰۰ قدم)، وحقيقةُ أنها تقع بجانب الحدود مع باكستان، والحماسةُ الدينية لشعبها وشجاعتُهم في المعارك (حيث كانت أولَ مقاطعة تُعلن الجهاد ضد السوفييت عام ۱۹٧۹). وكما هو الحال في زمن الإسكندر، أثبَتوا هم وجيرانُهم في مقاطعة كونار، الواقعةِ إلى الجنوب قليلًا، أنهم المقاتلون الأشرسُ في المنطقة.

ومع ذلك، أثناء المعركة، وعلى بُعد أميال قليلة منها بأقصرِ الطرق، نام مدرِّسٌ يوناني هانئًا خلال كلِّ ذلك. فقد عاش أثناسيوس ليرونيس في قريةٍ تُسمى بومبوريت وارتدى زيَّ السكان المحليِّين، وزيَّن بالزهور قبعةً صوفيةً بُنِّيةً مسطَّحة. وعلى الرغم من أنه كان غريبًا، فقد سُمح له بالانضمام إلى احتفالات الانقلاب الشمسيِّ المحلية: التضحية بالماعز لآلهتهم وإلاهاتِهم العديدة، وشُرب النبيذ المَحليِّ الصنع والبراندي القوي، والرقص طوال الليل الذي تُرى فيه النساء بأزيائهنَّ المشرقة باللون الأحمر والأصفر وأغطيةِ الرأس المصنوعة من الصَّدَف، يُشكِّلن دوائرَ حول الرجال ويتمايلنَ بلطفٍ على صوت الإنشاد. وكان يعيش بين آخِر الوثنيين في باكستان، متمركزًا تقريبًا في قلب المنطقة الخاصة بالإسلاميين المسلحين.

كان هؤلاء الناسُ هم شعبَ الكلاشا. لقد نجَوا من التحول القسريِّ إلى الإسلام الذي وقَع على أبناء عمومتهم الكفَّار في الجبال العالية؛ حيث كان «مهاتير» شيترال يخضعون للحماية البريطانية ولم يتمكَّن عبد الرحمن من دخول أراضيهم. ولهذا السبب أيضًا، يقع واديهم في باكستان، التي استولَت على شيترال في عام ۱۹٦۹. يقول الكلاشا إنه في وقتٍ ما كان كلُّ أبناء شيترال يتبعون دينَهم؛ لكن الآن جميعهم مسلمون باستثناء أربعةِ آلاف فرد. يعيش جميعُ أفراد قبيلةِ الكلاشا المتبقِّين البالغ عددُهم أربعةَ آلاف في ثلاثة وِدْيان في شيترال بجوار الحدود مع نورستان. لم يترك لهم العيشُ في الجبال أيَّ خيار سوى ممارسةِ زراعة الكفاف — زراعة القمح للخبز والعنب للنبيذ، ورعي الماعز والأغنام النحيلة والأبقار الهزيلة — وفي الشتاء تتجمَّد أراضيهم وتصبح مُغطاةً بالثلوج. ومع ذلك، فقد وفَّرَت لهم الجبالُ أيضًا الحمايةَ من جميع الغُزاة تقريبًا، ويمكن أن تظلَّ وديانهم تنعم بالسلام حتى عندما تكون ثمة فوضى وعنفٌ على بُعد أميال قليلة.

في عام ۱۸۳۹، قال الأفغان لأول وكيل سياسي بريطاني في أفغانستان، السير ويليام ماكنجتن: «ها هم أقرباؤك قادمون!» كانوا يقصدون وفدًا من كافرستان. كانت الفكرة القائلةُ بأن أعضاء هذا الوفد كانوا «أبناءَ عمومةٍ فقراءَ للأوروبيِّين»، كما كانوا يوصَفون أحيانًا، ناتجةً عن لونِ بشَرتهم الفاتحِ وعاداتهم المختلفة التي كانت تُعتبر أوروبيةً على نحوٍ مميز؛ مثل الجلوس على الكراسيِّ والمصافحة بدلًا من الجلوس على الأرض ومَسْك الكتفَين مثلما يفعل معظمُ الأفغان. وفي مرحلةٍ ما، أُضيف مزيدٌ من التفاصيل إلى نظرية الأصول الأوروبية لشعب هندوكوش. وقيل إنهم من نسل الإسكندر الأكبر وجنودِه. وانتشرَت القصة، في أثينا وسالونيك وما بعدهما، أن قبيلة الكلاشا على وجهِ التحديد كانت قبيلةً إغريقية مفقودة. وتدفَّقَت التبرُّعات. وفي مرحلةٍ ما، ذهب السيَّاح اليونانيون إلى القُرى الباكستانية حاملين صورًا للإسكندر ليُقارنوا ملامحَه بملامِح الكلاشا، الذين يتمتَّع بعضُهم بشعرٍ أشقر وعيون زرقاء. انتشرَت الفكرة أيضًا بين أفراد قبيلة الكلاشا: حيث غيَّر صبيٌّ مَحلي اسمَه إلى ألكسندروس عندما بلغ الثامنةَ عشرة من عمره. وفي غضونِ ذلك، استخدم ليرونيس التبرُّعات لإنشاء إمداداتِ مياهٍ نظيفة، ومَراحيض، ومدارس، ومُتحف يحتفي بتراث الكلاشا ودينهم ويُحافظ عليهما.

قد يوجد أكثرُ من تفسير للملامح التي تبدو أوروبيةً لهذه القبائل المعزولة في هندوكوش. فأثناء مدةِ إقامتي في أفغانستان من عام ۲۰۰٧ إلى عام ۲۰۰۹ لأتعلَّمَ لُغاتِها، كثيرًا ما كنتُ أصادف كلماتٍ تبدو إنجليزية. ففي اللغة الدارية، وهي إحدى اللغتين الرئيسيتَين في أفغانستان، تُستخدَم الكلمات lip (أي شفة)، وbad (أي سيِّئ)، وam (أي أنا)، وتحمل المعانيَ ذاتها التي تحملها في اللغة الإنجليزية. ويكاد يتطابق تمامًا نطقُ الكلمات التي تعني أمًّا، وأخًا، وابنةً والتي تُنطَق «مادر، وبرادر، ودختر» مع مرادفاتها الإنجليزية: mother، وbrother، وdaughter. وكلمة «تو»، المرادفة لكلمة «أنت»، قريبة من كلمة thou في الإنجليزيةِ القديمة. وتكاد تتطابق جملٌ كاملة مع نظيرتها الإنجليزية. فجُملة «برادر إتو أم» تعني «أنا أخوك». وكلما سمعتُ هذه العبارات في بيئة كابول التي تبدو غريبةً في كثير من الأحيان، وسط جبالها الثلجية، من رجالٍ يرتدون مَعاطف «شابان» متعددة الألوان وقبعات «باكول» صوفية مسطَّحة وعانَوا من الفوضى والقتل أكثرَ مما كنتُ أتخيل، كنتُ أشعر كما لو أن «يدًا امتدَّت، وأخذَت بيدك» — مستعيرًا عبارةً من آلان بينيت عن شعور العثور على شخصيات متعاطفة في التاريخ.

يعود سببُ ذلك إلى ثلاثة أو أربعة آلاف عام، قبل حقبةٍ طويلة من ظهور الإمبراطورية البريطانية، أو حتى الإمبراطوريات الأفغانية السابقة، عندما كان كلٌّ من أوروبا وأفغانستان مستعمَرتَين من قِبَل الأشخاص ذاتهم: الرعاة الرحَّل من القوقاز الذين نشَروا لغتَهم الهندو-أوروبية عبر مساحةٍ شاسعة من الأرض. ففي صحراء تاكلاماكان، شرقيَّ هندوكوش، اكتُشِفَت جثةٌ محنَّطة لأحد هؤلاء المستوطنين في عام ۱۹۸۰. ويعود تاريخُ المومياء إلى ما يقرب من ۳۸۰۰ عام، ويُطلق عليها اسمُ «جميلة لولان». كانت ذاتَ شعر بُني مائل إلى الحُمرة، وعظامِ وجنتَين بارزتين، وأنفٍ مرتفع. يُظهر وجودُها فيما يُعرف الآن بغرب الصين إلى أيِّ مدًى وصل المستوطنون الهندو-أوروبيون. ولا عجب أن الإسكندر، عندما وصَل إلى هندوكوش، تذكر وطنَه وبحث عن الأماكن التي ظهرَت في أساطير شعبِه. وكان يأمُل أن يعثر في هندوكوش على الجبل الذي قُيِّد فيه بروميثيوس بالسلاسل، عقابًا من الآلهة لأنه علَّم الإنسانَ سرَّ النار؛ وبينما كان يسير جنوبًا نحو الهند، اقتنَع بأنه يسيرُ على خُطى الإله ديونيسيوس، الذي تصور أنه تعرَّف على طقوسه بين العادات المحلية. ربما كان اعتقد أنه قد وصل إلى نهاية العالم — المكان الذي صارت فيه الأساطير حقيقةً — وكان يُفرِط في تفسير الصُّدَف. أو ربما كان يرى أوجُهَ تشابهٍ ثقافي تعود إلى ذلك الاستيطان المبكر.

لذا فإن الشعر الأشقر والعيونَ الزرقاء اللذَين يُميزان أفرادَ قبيلة الكلاشا لا يُثبتان أنهم من نسلِ جنود الإسكندر، ولكن لم تكن تلك الفكرةُ مستحيلةً على الإطلاق. بعد وفاة الإسكندر، حكَم مُلوكٌ إغريق جنوبَ أفغانستان وجزءًا كبيرًا من باكستان أكثرَ من قرنَين. واشتهرَت «إمبراطوريتهم المكوَّنة من ألف مدينة» بالثراء وأقاموا علاقاتٍ تِجاريةً مع الصين وأقاموا علاقاتٍ دبلوماسيةً مع ملوك الهند. ولا يزال اسمُ سكندر (الإسكندر) شائعًا في كشمير، ولا تزال مدينةُ قندهار الأفغانية تحمل اسمَ الملك اليوناني المميز. واستمر الحكَّام المسلمون في بدخشان، وهي مقاطعةٌ في شمال كافرستان، في الادِّعاء بأنهم ينحدرون من نسل الإسكندر نفسِه حتى أواخرِ القرن الخامسَ عشر. ولم تكن مقدونيا المجاورةُ لليونان، التي كانت أيضًا تدَّعي أحقيَّتَها في إرث الإسكندر، على استعدادٍ ليتغلَّب عليها اليونانيون بعلاقتهم بالكلاشا. فدَعَتْ أميرَ هونزا لزيارةٍ خاصة في عام ۲۰۰۸، لأن هذا الأمير، الذي يعيش في منطقةٍ تقع شمالَ شيترال مباشرةً، يدَّعي أيضًا أنه من نسل الإسكندر. ولدى الكلاشا تراثٌ شِفاهي يُرجِع أصلَهم إلى «شلق شاه»، في إشارةٍ محتملة إلى سلوقس، قائد جيش الإسكندر. وبالفعل، يبدو أن دراسةً للحمض النووي لسكان الكلاشا أُجرِيَت في عام ۲۰۱٤ تؤكِّد أسطورتهم. إذ أظهرَت أنه في وقتٍ ما بين عام ۹۹۰ و۲۰٦ قبل الميلاد، دخَلَت جينات أجنبية، ربما أوروبية، في تجمُّع جينات الكلاشا.

•••

علمتُ بنورستان بعد مدةٍ وجيزة من وصولي إلى كابول. في ذلك الوقت، لم أرَ الجبال ذاتَ القمم الثلجية التي تُحلق فوق العاصمة الأفغانية على جانبها الشرقي — الذي يعتبر جزءًا من هندوكوش — بسبب ضباب الصيف الناتجِ عن الأبخِرة والدخَان الذي كان يُخيم على المدينة، ولكن عندما سقَطَت قذائفُ الهاون على المدينة، قيل لي إنها أُطلِقَت من تلك الجبال. ومنذ ذلك الحين، اعتبرتُها أماكنَ تجمعُ بين الرعب والجمال. ففي نهاية الأمر، الاسم «كوش» يبدو إلى حدٍّ كبير مثلَ الكلمة الأفغانية «كشتن» التي تعني القتل. ومع ذلك، فقد أثار اهتمامي أنه لا تزال توجد في تلك الجبال أماكنُ لن أستطيع الوصولَ إليها؛ لذا قرأتُ بشغفٍ كتبَ الأشخاص الذين زاروا نورستان، بمن في ذلك روبرتسون وأيضًا إريك نيوباي، وهو كاتب رحلات بريطانيٌّ بلغ المقاطعةَ في عام ۱۹٥٦. واقتربتُ في بعض الأحيان من المكان، ورأيتُ صورًا لقُرًى جبلية مذهلة، محفوفةٍ بالمخاطر، لكن في الواقع لم تطأ قدماي أرضَ نورستان.

وبدلًا من ذلك، قررتُ في عام ۲۰۰۸ المغامرةَ بدخول منطقة هندوكوش من الجانب الآخَر. وسافرتُ من بكين بالقطار والسيارة غربًا عبر مقاطعة شينجيانج المضطربة في الصين إلى مقاطعة هونزا شمال باكستان. وقد زار روبرتسون هذا المكانَ وكتب بعد ذلك كيف وجد نفسَه مضطرًّا إلى تسلُّق شجرة بزيِّه الشعائري الكامل، والسيف، والخوذة النحاسية؛ إذ كان الحاكم المحليُّ يعيش على فروعها لتجنبِ الاغتيال. كانت المنطقة في كثيرٍ من النواحي شبيهة جدًّا بأفغانستان، لكنها خاليةٌ من الخطر. فقد كان بإمكاني ركوبُ الحافلات المحلية الصغيرة، والذَّهابُ للتسوق في الأسواق، والتحدث بحريةٍ مع الناس (بالقليل من اللغة الدارية، وعمومًا كانت الإنجليزيةُ منتشرةً لأن المنطقة ليس بها لغةٌ مشتركة واحدة). لقد كان شعورًا مبهجًا. وحيث إننا كنا في فصل الشتاء، كانت ملاعبُ البولو فارغة، وتخيَّلتُ أنها في الصيف لا بد أن تكون ممتلئةً بالأعيان المحليين على ظهور الخيل وهم يتدافعون، ويصرخون، ويُلاحقون كرةً بيضاء. كانت الماشية الهزيلة ترعى في المروج غيرِ المستخدَمة التابعة للفنادق المحلية، التي كانت تستضيف السياحَ في المواسم الصيفية السابقة. لعبت الكريكيت مع صبيٍّ في الجبال وقال إنه يريد اللعب لمنتخب إنجلترا، رغم أن اسمه كان صدام حسين. وجلسَت الفتيات في فِناءِ مدرسةٍ يُطل على الطريق الرئيسي وأخَذْن يُضايقن الأولاد عندما كانوا يمرُّون أمامهن. مررتُ دون أن يُضايقْنَني؛ فكل إهاناتهنَّ كانت ستذهب سُدًى. وبدلًا من ذلك، استدعَينَني للمشاركة في مسابقةٍ غنائية، كلٌّ منا بلُغته.

كنتُ أقيم في منزلِ رجل اسمه حسين، ودَعاني لزيارة الكاهنة المحلية، أو الشامان كما دَعاها. مشَينا إلى منزلها في ممرات القرية الصغيرة. قال: «إنها تعيش بجوار سفح الجبل. مثلما يفعل كلُّ الشامانات.» وفي منزلها — التقليديِّ المبنيِّ من الحجر، ونار الموقِد المشتعلة تحت وعاءٍ به خبزٌ شبهُ جاهز للأكل — كانت تنحني فوق صينية كانت قد نثرَت عليها مجموعةً من الدبابيس. حصل حسين، وهو شخصية محلية قوية من عائلة ثرية، على مجموعةٍ ثاقبة من التنبُّؤات: «سيبغضك بعضُ الناس في القرية … فهُم يشعرون أنك متغيِّب أكثرَ من اللازم، وأنك لا تُولي مجتمعَك سوى القليلِ من الاهتمام.» فيما يخصُّني، صلَّت بالعربية وأعلنَت حُسن الحظ: «ستنتهي من كتابك.» الغريب في الأمر أنني لم أكن قد أخبرتُ أحدًا أنني كنت أكتب كتابًا.

وبينما كنا نُغادر، سألتُ حسين كيف أصبح شخصٌ يعيش في منزل يقع تحت الجبال العظيمة شامانًا. قال إن الأمر يتعلَّق بقضاء بِضعة أشهُر في القِمَم العالية، حيث تعيش الوُعول، لا يأكل إلا الخبزَ ولا يشرب إلا الشاي. وعندما تُنجب الوعلةُ صِغارها، كان على الشامان المحتمل أن يشربَ من حليبِها، ثم ينزل إلى الوادي لاختبار قُوى التنبُّؤ بالمستقبل المكتشَفة حديثًا. ويعود هذا التقليدُ جزئيًّا إلى الاعتقاد بأن الجنيات (يُطلق عليها «بري» في اللغة المحلية) تسكن الجبالَ العالية. ويُعتقَد أن قضاء وقتٍ بين الجنيات يمنح الشخصَ قُوًى خارقةً للطبيعة (وتعتبر كلمة «بري جهره»، أي تملك وجهًا يُشبه الجنيات، مجاملة محلِّية). يومًا ما كانت مثلُ هذه التقاليد والمعتقَدات واسعةَ الانتشار في تلك المنطقة، حتى بين المسلمين، لدرجة أن أحدَ الكتب اقترح أن منطقة هندوكوش بأكملها، هونزا، وواخان ونورستان، وشيترال، يمكن أن يُطلق عليها اسمُ «بريستان»، أي أرض الجنِّيات. أخبرني حسين أنه توجد قبيلة تُسمى الكلاشا لم تعتنق الإسلامَ بعد، وعرض عليَّ فرصة الذَّهاب إليهم لرؤيتهم. كانت الرحلة ستستغرق بضعةَ أيام بسيارة جيب عبر طرقٍ جبلية غيرِ ممهَّدة من هونزا إلى شيترال. لم يكن لديَّ وقتٌ لتلك الرحلة وقتَذاك، لكنني وعدتُ نفسي بأنني سأعود.

•••

مرَّت أربع سنوات قبل أن أُحاول العودة، وهذه المرة أصبح الحصولُ على تأشيرةٍ باكستانية أصعبَ. واستدعتني المفوضيةُ العليا للبلاد في لندن، بعد عدةِ أشهر من تقديم الطلب. قدَّمتُ نفسي إلى الموظَّف عند الشباك. قال رجلٌ صغير مفعَم بالحيوية وله لحيةٌ طويلة: «آه نعم، سيد راسل. أنت غني عن التعريف!» أخبرني أنهم كانوا يعملون عليها منذ أسابيع. ربما كان هذا هو السببَ في أن الملفَّ الخاص بي كان قد أصبح ضخمًا جدًّا. رأيتُه عندما طُلب مني الاتصال بمسئولٍ مهذَّب ولكنه ضَجِر في مكتبٍ ضخمٍ كان أنيقًا في يوم من الأيام. فقد كان الملفُّ مفتوحًا على المكتب أمامه. وقال: «شخصٌ ما في باكستان يُشكك في سمعتك. ما السبب في ذلك؟»

عندما قلت إنني كنت أعمل في كابول، ومَضَت نظرةُ فهمٍ في عينَيه مدةً وجيزة، وتوقَّف عن طرح أي أسئلة أخرى. كنتُ أعرف أن أفغانستان وباكستان تنظر إحداهما إلى الأخرى بقدرٍ كبير من الشكِّ المتبادَل: من الواضح أن مجرد العيش في إحداهما كان عائقًا أمام زيارةِ الأخرى. ومع ذلك حصَلتُ على التأشيرة في النهاية، وبعد بضعة أسابيع كنتُ في مطار إسلام أباد، عاصمة باكستان الحديثة، الفوضويِّ إلى حدٍّ ما. لكن ما زال أمامي تحدٍّ آخرُ قبل أن أتمكن من الوصول إلى وجهتي. فشيترال تقع على بعد ۱٥۰ ميلًا شمال إسلام أباد، على الحدود الأفغانية. وهذه المنطقة محاطةٌ بالجبال، ولا يوجد سوى طريقٍ واحد على ارتفاعٍ منخفض لدخولها أو الخروج منها، وهو (بسبب الحدود التي رسَمها البريطانيون، كما أوضح لي السكان المحليُّون) يمر عبر أفغانستان وكان مغلقًا حاليًّا. لذلك كان سيتعيَّن عليَّ أن أستقلَّ طائرةً للوصول إلى هناك، ومع أن شيترال كانت منتجعًا سياحيًّا مشهورًا ومشمسًا في الصيف، فإن التأخير في الحصول على التأشيرة كان يعني أننا الآن في منتصف الشتاء، حيث تكون الثلوجُ والرياح العاتية أمرًا شائعًا. ما خفَّف من سوء الموقف أنني إن وصلتُ إلى وادي الكلاشا في الوقت المحدَّد، ربما أتمكن من حضور الاحتفال بانقلابِ الشمس الشتوي، حيث يُقيمون عيدًا يُسمى «تشوموس» مدةَ أسبوع.

جاهدتُ رحلتي الأولى بالطائرة للوصول إلى مطار شيترال، ولكن بسبب الطقس، انتهى بي المطاف بالطيران في دوائرَ واسعةٍ حول الوادي التالي، مما أتاح لي الاستمتاعَ بإطلالةٍ رائعة على هندوكوش. استطعتُ أن أفهم كيف تخيَّل الإسكندر الأكبر أن الجبال تُشكل حافَةَ العالم؛ فحتى مِن الطائرة، لم يكن ثَمة شيءٌ مرئيٌّ سوى القمم والجروف المتتالية، على مدِّ البصر من خلال السحب الساطعة والضباب الذي كان يُغطيها. وبالأسفل، وفوق شيترال، كانت السحبُ أكثرَ قتامةً وكثيفة للغاية؛ حيث حاولَت الطائرة بتردُّدٍ الاتجاهَ إلى أسفل عبر الطبَقات العُليا من السحب، ولكنها سرعان ما استسلمَت وعادت. كان الأمر سيستغرق المزيدَ من الأيام والرحلات للوصول إلى المطار قبل أن أتمكَّن من الوصول إلى الوادي الواقع تحت تلك السحب.

في كل مرةٍ كنتُ آتي فيها إلى المطار، كنت أرى لافتةً تقول وداعًا. كان مكتوبًا عليها «الله حافظ»؛ تذكيرًا بالتنازُع الذي يحدث الآن على الإرث اللغويِّ للمستوطنين الهندو-أوروبيين القُدامى في المنطقة. فقد كانت «خُدا حافِظ» هي العبارة القديمة لكلمة «الوداع» في باكستان، كما هي الآن في أفغانستان وإيران. ومع ذلك، يعتقد بعضُ المسلمين أن كلمة «خُدا» المرادفةَ لكلمة الله في اللغة القديمة، والتي تُشبه نطق مرادفتها الإنجليزية God، مع استخدام الخاء بدلًا من الجيم، هي كلمةٌ ليست إسلاميةً مقارنةً بالكلمة العربية «الله». لقد رأيتُ في إيران كيف شدَّد الشعر الفارسي على الاختلاف بين الفارسية والعربية من خلال إحياء لغةِ ما قبل الإسلام القديمة. كانت باكستان تسير في الاتجاه المعاكس؛ متأثرةً جزئيًّا بروابطها التجارية والسياسية مع العالم العربي، الذي يعمل به عشَراتُ الآلاف من الباكستانيين، والذي ينظر عادةً إلى إيران وكلِّ شيء فارسي ببعض الرِّيبة.

تعود حملةُ إحلال الكلمات العربية محلَّ الكلمات الفارسية إلى زمنِ ضياء الحق، الديكتاتور العسكريِّ الذي أطاح بالرئيس الباكستاني الاشتراكي الديمقراطي، ذو الفقار علي بوتو، في عام ۱۹٧۸. وعلى الرغم من سياسة بوتو، كان قد وضع باكستان بالفعل على طريق النهج الإسلامي المحافِظ من خلال تمرير قانونٍ ضدَّ ازدراء الأديان، كان الكثيرُ من ضحاياه من الأقليات الدينية. واتخذ ضياء إجراءاتٍ أكثرَ جدية، حيث فرَض الجَلْد العلنيَّ عقوبةً لشُرب الخمر والرجمَ حتى الموت عقوبةً للزنى. ودعمَت باكستان أكثرَ الجماعات المتمردةِ وحشيةً في أفغانستان المجاورة في مواجهة السوفييت. وأتاح تعزيزُ القضايا الإسلامية هدفًا موحدًا أكثرَ وضوحًا لباكستان، تلك الدولة التي تكوَّنَت في عام ۱۹٤۸ من تجمُّعِ مجموعةٍ من المقاطعات معًا — بما في ذلك شيترال — لا تشترك في شيء سوى الدِّين. وساعد أيضًا التوترُ المستمرُّ مع الهند، جارةِ باكستان من جهة الشرق ذاتِ الأغلبية الهندوسية، في خلق شعور بأنه كلَّما زادت درجةُ إسلاميَّتك، زادت وطنيتُك. وخلق الفساد المتفشِّي شعورًا بأنه لا يمكن الوثوق إلا بالمتديِّنين لإدارة الأمور بأمانة. ولم يتراجع خلفاءُ ضياء أبدًا عن التغييرات التي أجراها.

عندما وصلَت الطائرة التي كنتُ على متنها في نهاية المطاف إلى شيترال، رأيت أن أرضية الوادي كانت مسطَّحة وخضراء، تنتشر في أرجائها المباني عشوائيًّا؛ ويجري نهرٌ عريض في اتجاه حافَتِها الجنوبية، وترتفع على كِلا الجانبَين سفوحُ جبالٍ جرداء شديدة الانحدار. وفي مرحلةٍ ما، عبَرنا المنحدرَ الحادَّ الذي جاء منه ماكنير، مارًّا بجثثِ المسافرين المتوفَّين. وخيَّم ضبابٌ خفيف على الوادي، وهو الأثر الوحيد المتبقِّي من سُحب العاصفة الكثيفة. وقد كان هذا الوادي ولايةً أميرية مستقلة، يحكمها المهاتير، عندما مرَّ بها ماكنير وروبرتسون. توجَّهتُ إلى فندق كان يخصُّ ابنَ عم المهتار الحالي. وكان جَدُّه الأكبر قد حكَم الواديَ في زمن روبرتسون، وفعل كلَّ ما في وُسعه لمنع روبرتسون من الوصول إلى كفار قبيلة الكام — وصل الأمر إلى رِشوة أفراد قبيلة الكام لقتلِه — خوفًا من أن يأمُلَ البريطانيون في الاستيلاء عليها بالإضافة إلى كافرستان وشيترال. (في الواقع، ظلَّت شيترال ولايةً أميرية، تُسيطر على شئونها الداخلية، حتى استولت عليها باكستان عام ۱۹٦۹.)

على النقيض من ذلك، كان حفيده، شهزاده سراج المُلْك، متعاونًا للغاية. فقد كان يعمل طيَّارًا في الماضي، وكانت زوجتُه، غزالة، حاصلةً على شهادةٍ في توريد الأطعمة. وعندما لم يكونا يستضيفان الدبلوماسيِّين في صالونهما الأنيقِ في إسلام أباد، كانا يعتنيان بالصيَّادين، والرحالة، والكُتَّاب في الفندق الذي كانا يُديرانه معًا. وبينما كنتُ جالسًا بالقرب من مدفأةٍ مفتوحة في قاعة الطعام، أعطاني سراجٌ كتابًا مهترئًا عمره ثمانون عامًا، من تأليف الكولونيل ريجينالد شومبيرج. كان شومبيرج يتحدث ستَّ لغات، وحائزًا العديد من الميداليات العسكرية، وأحد أعضاء الجمعية الجغرافية الملَكية، وقد زار شيترال خلال العِشرين عامًا التي قضاها في استكشاف آسيا الوسطى. (في نهاية حياته كان يريد الانضمام إلى الكهنوت الكاثوليكي.) كتب هذا الكتاب «الكفار والأنهار الجليدية» أثناء أسفاره. وأظهرَت الملاحظاتُ المكتوبة بسخطٍ على هوامش الكتاب اعتراضَ والدِ سراج مرةً على ملاحظات الكتاب الفظَّة عن أهل شيترال. وكان شومبيرج قد توقَّع توقعًا متشائمًا عن الكلاشا، القبيلةِ الوحيدة غير المسلمة في شيترال، على وجه الخصوص. وكتب: «عمَّا قريب، سيُقنَعون — بلطفٍ شديد، ووداعة مفرِطة، ولكن بحزم — باتباع محمد وسيُصبحون مسلمين سيئين بدلًا من وثنيِّين صالحين.»

سرعان ما أُتيحَت لي فرصةُ التوصل إلى استنتاجي الخاص بشأن هذا الموضوع؛ لأنني انطلقتُ في اليوم التالي لرؤية أقربِ وادٍ لقبيلة الكلاشا بصُحبة سراج ذاتِه، وسائق، ومصوِّر باكستاني يُدعى ذا الفقار كان يُقيم أيضًا في الفندق وكان يتوق إلى رؤية أهل الكلاشا. ونظرًا إلى وجود ثلاثِمائة ألف شيترالي إجمالًا، منهم أربعةُ آلاف فقط من الكلاشا، لم أُفاجَأ من أن الطريق التي سلَكْناها كانت تصطفُّ فيها لافتاتٌ عليها أسماء الله الحسنى: الرحيم، المجيد، المُعز، المُذل. وبعد نصف ساعة عبرنا نهر شيترال، الذي كنتُ قد رأيته يجري على الجانب الجنوبي من الوادي الرئيسي، واتجهنا نحوَ ممرٍّ ضيق بدَت جوانبُه الطينية اليابسة، المليئة بأخاديدَ معقَّدة، مثل شلال متجمِّد. وعلى عُمق ثلاثين قدمًا أو نحو ذلك تحتنا، هبط أحدُ روافد نهر شيترال، وهو نهر الكلاشا، في قاع الممر الضيق مُحدِثًا صوتًا مُدوِّيًا. وكان الطريق يتَّجه إلى أعلى، نحو أعالي الجبال.

تأوَّهَت نوابضُ سيارتنا عندما اصطدمَت بسطح الطريق الصخري، وكان الممرُّ الضيق في بعض الأماكن لا يكاد يتَّسع لمرور السيارة وكان على السائق التركيزُ للتأكد من اختيار الزاوية الدقيقة التي لن تخدشَ أبواب السيارة في الجرف عن يسارنا ولن تُوجِّه عجلاتها نحو حافةِ الهاوية عن يميننا. لقد ذُهِلت عندما علمتُ أن حافلةً صغيرة كانت تقوم بهذه الرحلة بانتظام. وعلى طول الطريق، امتدَّت الأسلاك الكهربائية أميالًا وأميالًا؛ مما يدل على أنه حتى لو كانت الدولة الباكستانية ضعيفةً وهشَّة، فإنها لا تزال قادرةً على تقديم بعض الخدمات لشعبها.

figure
تتمتع قرية جروم الواقعة في وادي رامبور الخاص بقبيلة الكلاشا بالكهرباء، لكن لا يزال يتعيَّن عليها مواجهةُ البرد والثلج في معظم شهور السنة. لقد أدى فقرُ الكلاشا وموقعهم القصيُّ إلى حمايتهم من الضغط لاعتناق الإسلام. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

بعد مدةٍ زاد اتساعُ الممرِّ الضيق ليصبح واديًا. ومرَرْنا من حينٍ لآخرَ بمنازلَ على جانب الطريق: في البداية كانت تلك المملوكة لعائلات مسلمة، كما استطعتُ أن أرى من حقيقة أن الفتيات الواقفات بالخارج كنَّ محجبات. وبعد أن قُدنا السيارة مدةَ ساعةٍ أخرى أو نحوَ ذلك، رأيتُ ملابسَ زاهيةً أكثرَ بكثير تتدلَّى لتجفَّ على أغصان الأشجار على جانب الطريق، ثم رأيت امرأةً ترتدي ثوبًا أسودَ مطرَّزًا تطريزًا معقَّدًا بالأحمر، والأبيض، والأصفر وغطاء رأس مصنوعًا من صوفٍ متعدِّد الألوان، وأصداف بيضاء، وكرة خيط حمراء، بالإضافة إلى أقراطٍ تُصلصل. كنا بين أفراد قبيلةٍ الكلاشا في وادي رامبور، أحد المواقع الثلاثة التي لا يزال من الممكن العثورُ عليهم فيها. كانوا في خِضمِّ الاحتفال بعيد انقلاب الشمس الشتوي. توقفَت سيارتنا في قريةٍ صغيرة تسمَّى جروم. كان الوادي، الذي يبلغ عَرضُه هنا نحو مائتَي ياردة، ذا جوانبَ شديدةِ الانحدار مغطَّاة بالثلج وتتناثر فيه أشجار التنوب، بينما كانت حقولُه بُنية بلون الطين. كانت الساعة نحو الثانية بعد الظهر، لكن سرعان ما كانت الشمس ستغيب وراء قمة التل. توجَّهنا إلى منزل مبنيٍّ على طراز الأكواخ السويسرية بصخور الأردواز وعوارضَ خشبية. وخرج رجلٌ من الكلاشا يُدعى عظيم بيك — وبيك هو لقبٌ شرفي وليس اسمَ عائلة؛ لأن الكلاشا لا يستخدمون أسماءَ العائلة عمومًا — واستقبل سراج بتعليق العديد من أكاليل الورود زاهيةِ الألوان حول رقبته. (كان الكثير من أفراد قبيلة الكلاشا يرتدونها للاحتفال بالعيد.) ودعانا إلى حظيرةٍ خشبية لا تزال قيد الإنشاء، حيث وقَفنا نرتجف بضعَ لحظات عندما هبَّت ريحٌ باردة من خلال إطارات النوافذ الخالية من النوافذ. بدا أن عظيم بيك لم يُلاحظ برودةَ الطقس. انضم إلينا طفلاه الصغيران، صبيٌّ وفتاة، وأحضَرا مزيدًا من أكاليل الزهور بألوانٍ مختلفة، وقلائد من اللوز. قالا: «إيشباتا» وتعني «مرحبًا» بلغة الكلاشا.

أحضر رجلٌ كبير السن وعاءً به جمراتٌ مشتعِلة لتدفئتِنا وقدَّم لنا الشايَ والنبيذ. وقال: «أضيفُ النبيذَ إلى الشاي؛ فهو يُحسِّن النكهة.» في القرن السابعَ عشر قبل أن يصل الغربيُّون إلى مملكتهم الجبلية، وصل نبيذ الكفار بطريقةٍ ما إلى اليسوعي البرتغالي بينتو دي جوز ونال استحسانَه. وجَدتُه جيدًا بشكلٍ مدهش أيضًا، ودعَوتُ عظيم بيك لتجرِبةِ بعضه. مدَّ يده للحصول عليه لكنه تراجع. وقال: «لقد نسيتُ أننا في منتصف العيد، وهذا البيت نجس. لا يجوز لي أن آكل أو أشرب في بيت نجس.»

تبيَّن أن هذه القاعدة أساسيةٌ في حياة الكلاشا. كان الكفار، كما وصفهم روبرتسون، عبارةً عن مجموعة من القبائل التي تبايَنَت عاداتها (على سبيل المثال، كان الكام مولَعين بالحرب أكثرَ من الكلاشا) ولكنها كانت تشترك بشكلٍ أساسي في الدين ذاتِه. إذ كان لكلِّ الكفار، على سبيل المثال، مجموعةٌ كاملة من المبادئ المتعارضة التي تحكم حياتَهم. كانت اليدُ اليمنى، والذكور، والجبال العالية، والطهارة، والأعداد الفردية، والحياة كلُّها مرتبطة بعضها ببعض؛ وكانت تتعارض معها اليدُ اليسرى، والإناث، والأودية المنخفضة، والنجاسة، والأعداد الزوجية، والموت. لذا كان الرجال يجلسون على الجانب الأيمن من بيوتهم والنساء على الجانب الأيسر. وبالمثل، كان الرجال هم مَن يرعَون الماعزَ، والنساءُ يزرعنَ المحاصيل، والرجال يذهبون إلى الجبال، والنساءُ إلى الوِدْيان، وكذلك كنَّ عُرضةً لجميع أنواع النجاسة.

لا تزال قبيلة الكلاشا تحتفظ بالكثير من هذه القواعد. على وجه التحديد، تُخصَّص الأماكن المرتفعة في الجبال للرجال فقط خلال الأشهر التي تلي تشوموس. والبيت النظيف للعيد هو البيت الذي طُهِّر بأغصان العرعر ولا يوجد بيتٌ نجس أعلى منه على سفح الجبل. بعد مدةٍ وجيزة من إقامتنا في الحظيرة، تعرَّضتُ للتوبيخ لأنني لمستُ منزلًا في القرية عندما مررتُ به؛ لأن هذا جعَله نجسًا، مما يعني أنه يجب حرقُ المزيد من أغصان العرعر لاستعادةِ طهارته.

ومع ذلك، فإن الكلاشا متسامحون عندما يتعلق الأمر بمسائل الطهارة. وبينما كنا نقف في الحظيرة، أحنى سائقُ سراج الملك المسلمُ الطويلُ اللحية رأسَه بخنوعٍ لتلقِّي إكليل العيد من صبيٍّ صغير من أهل الكلاشا. ولم يُفاجَأ أهل الكلاشا عندما وقف السائق، بعد بضع دقائق، على منضدةٍ تستند إلى حامِلَين — سطح أنظف من الأرضية — وسجَد مؤديًا الصلاةَ الإسلامية. فقد اعتادوا العيشَ جنبًا إلى جنبٍ مع المسلمين؛ لأن بعض الكلاشا في القرية اعتنقوا الإسلام. والنساءُ اللاتي اعتنقنَ الإسلام يبدون واضحاتٍ بسبب فساتينهنَّ المحتشمة ذاتِ الألوان الهادئة وحجابهن. لم يختلف زيُّ رجال الكلاشا عن المسلمين المحليِّين. وكان شيئًا غريبًا إلى حدٍّ ما أن أرى، أثناء سَيري في قرية الكلاشا، رجلًا يُشبه تمامًا البشتون المسلمين المتشدِّدين، مرتديًا القميصَ والسروال المعروفَين باسم «شالوار كاميز»، ويعلوهما بطانيةٌ لصدِّ البرد، وقبعة شيترال مسطَّحة على رأسه، ويُحدق فيَّ بنظرة ثابتة، والشيء الوحيد الذي أثبتَ أنه لم يكن مسلمًا هو إكليل الزهور ذو الألوان الزاهية حول رقبته والريشةُ في قبَّعته؛ فقد كان مجرد واحد من أهل قبيلة الكلاشا في طريقه للاحتفال لتكريم واحدٍ من آلهته.

عاد سراج إلى الفندق، بينما اتَّجهنا أنا وذو الفقار — إذ كنا سنُمضي الليلةَ هناك — نحو وسط القرية، حيث سيرقص القرويُّون لاحقًا للاحتفال بانقلاب الشمس الشتوي. في الطريق مررنا ﺑ «البشالي»، وهو منزلٌ في وسط القرية يجب على النساء البقاءُ فيه خلال أوقات حيضِهن. في ثلاثينيات القرن الماضي، جعله شومبيرج يبدو كأنه مكانٌ فظيع، حيث لا يمكن حتى للقابلة الدخولُ إلا بعد تجريدها من ملابسها، ولا يمكن لأي رجل الاقترابُ منه. يبدو أن سبعين عامًا قد غيَّرَت هذه العادة إلى حدٍّ ما إلى الأفضل. فالبشالي الآن هو مبنًى خشبي مشيَّد مؤخرًا بأموال جمَعها البروفيسور ليرونيس، وكانت النساء الثلاث المقيمات هناك يقِفن عند المدخل ويتحدَّثن بمرحٍ إلى المارَّة.

figure
يجب على نساء الكلاشا أن يذهبنَ إلى «البشالي» أثناء وقتِ حيضهن، لكي يعِشن منفصِلات. ومع ذلك، لا تُطبَّق القاعدة بقسوة، حيث خرَجَت هؤلاء النساءُ الثلاث للاختلاط مع المارة. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

عبَرنا جسرًا خشبيًّا فوق نهر الكلاشا، ممسكين بالدرابزين بإحكامٍ لتجنُّبِ الانزلاق على سطح الجسر الجليدي. على الجانب الآخر، كانت توجد براميلُ خشبية ضخمة على حافَة النهر. لاحظتُ أنه لم تكن ثمة حاجةٌ إلى أن توصَد، فقد تُرِكَت مفتوحة، وخزنَت كلُّ أسرة مخزونها الخاصَّ من النبيذ والمكسرات بداخلها. رأيتُ هنا مثالًا على الطريقة التي تتعايش بها ديانتان، حيث رأيتُ راعيًا يقود الماعزَ من أجل قُربان تشوموس مارًّا بمدرسةٍ اسمها «صوت القرآن». ورافقَ استعداداتِ الاحتفال أذانُ الصلاة، الذي كانت تبثُّه مُكبرات الصوت من المسجد وتَردَّد صَداه في سفوح التلال الثلجية.

عندما ذهبتُ أنا ورفيقي الضيفُ ذو الفقار إلى مكان الرقص، أخَذونا إلى مكانٍ بعيد قليلًا عن الراقصين. ووقف بهدوءٍ أمامنا صفٌّ من الفتيات المسلِمات الفضوليات، اللائي كنَّ يُعِدْن ضبط حِجابهن باحتشامٍ من وقتٍ لآخَر، ويُراقبن أبناءَ عمومتهن الأكثر صخبًا. فيما يخصُّ ديانة الكلاشا، يُعتبر المسلمون غيرَ طاهرين في وقتِ الاحتفال لأنهم لا يخضعون لطقوس التطهير التي يبدأ بها الاحتفال (والتي من أجلها يجب أن يُضحِّيَ الرجال بماعز وتتعطَّر النساء برائحة خشب العرعر المحترق). وإذا أقاموا في بيتٍ أو لمسوا صَحْن طعام، فإنهم يجعلونه نجسًا، ولا يجوز لهم الاشتراكُ في الاحتفالات الدينية، ولكن يمكنهم مشاهدتها عن بُعد. سجَّل شومبيرج مثالًا مشابهًا للتمييز العنصري أثناء حضور عيد الربيع للكلاشا في عام ۱۹۳٥. وذكَر قائلًا: «احتشدَت بعيدًا على أحد الأسطح مجموعةٌ من [معتنقي الإسلام] يبدو عليهم الحزنُ الشديد ويشاهدون بأعينٍ مليئة بالشوق فرحةَ إخوانهم السابقين في الدين.»

figure
أكيكو، امرأة يابانية، انضمَّت إلى مجتمع الكلاشا عندما تزوَّجَت رجلًا من قبيلة الكلاشا منذ عشرين عامًا. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

جاء عظيمٌ إلينا أنا وذو الفقار. وقال: «أعتذر عن عدم قدرتكما على الانضمام إلينا. فلا يُمكن مشاركةُ إلا أولئك الموجودين هنا في الوادي منذ بداية الاحتفال. لو كنتما هنا منذ البداية، لما كانت هذه مشكلة: فلا يُسمح للمسلمين بالانضمام للاحتفال، لكن يُسمَح للأجانب بذلك.» وفي الواقع، كان بإمكاني رؤيةُ رجل ألماني، يضع الكاميرا حول رقبتِه، وزوجته يدوران حول نفسهما ويلوحان بذراعَيهما برشاقةٍ مثل أهل الكلاشا. ومن المفترض أنه كان هناك من أجل التضحيةِ بالماعز. كانت هناك أيضًا سيدةٌ ترتدي الزيَّ الكامل لأهل الكلاشا، بالإضافة إلى الأصداف؛ ولكن، على عكس أيِّ امرأةٍ أخرى بين نساء الكلاشا، كانت ترتدي أيضًا نظَّارة. وكانت ملامحُها بالتأكيد لا تُشبه أفراد قبيلة الكلاشا. كانت يابانية. في وقتٍ لاحق أُتيحت لي فرصةُ التحدث معها مدةً وجيزة. قالت إن اسمها أكيكو وكانت تعيش في الوادي منذ خمسةٍ وعشرين عامًا. وقد جاءت لتصوير المنطقة ووقعَت في حبِّ رجل محلي. وقالت إنها هناك شعرَت بأنها جزءٌ من العائلة، لكن عندما ذهبَت لزيارة اليابان، بدَت وكأنها مكان غريب يتَّسم بنزعة فردية.

قبل ذو الفقار، وهو رجل مسلم، استبعاده بخُلق طيب، حتى إنه اعتذر لعظيم لأنه صافحه (حيث لا بد أن ذلك تسبب في جعلِه نجسًا). وقال لي معلِّقًا: «من المفيد لهم أن تكون لديهم هذه القاعدة. فهي تمنع قدومَ عددٍ كبير من الزوَّار.» لم تكن هذه مشكلةً محتملة في الشتاء، لكن قيل لي إن الاحتفال الصيفي يجتذبُ العديد من السيَّاح الباكستانيين الذين كانوا مفتونين بالمنطقة بقدرِ أولئك القادمين من اليونان أو البلدان الأبعدِ من ذلك. وكان العديدُ من الزائرين وَدودين، لكن جاء البعض يحملون معهم فكرةً خاطئة؛ توقَّعوا أنه لأن نساء قبيلة الكلاشا لم يرتدينَ الحجاب ولم يكنَّ مسلِمات، فإنهن سيُصبحن متاحاتٍ لممارسة الجنس. ساعدَت في نشر هذه الفكرة حكاياتٌ صادمة عن تقليدٍ يُسمى «بودالوك» — عندما يقع الاختيار على رجلٍ من الكلاشا مرةً واحدةً في السنة، ويُكرس نفسه ليصبح كاهنًا بقضاءِ بعض الوقت في الجبال العالية، ثم يُجامع أكبرَ عدد ممكن من النساء. في الواقع، يتحفَّظ أهل الكلاشا تحفظًا شديدًا فيما يتعلق بالجنس، وخلال وقت الاحتفال بتشوموس يُحظر تمامًا ممارسة الجنس حتى بين المتزوِّجين. لكن هذا لا يمنع البَغايا من القُدوم من أجزاءَ أخرى من باكستان لاستغلال الأسطورة من خلال ارتداءِ ملابس تُشبه ملابس نساء الكلاشا، مستغلات هذه الرغبةَ في ممارسة الأمور الغريبة.

على أي حال، على الرغم من أننا أنا وذا الفقار لم نُشارك بالفعل في رقصةِ ما بعد الظهر، فقد كان لدينا موقعٌ مميز وحصَلنا على مشاهدة جيدة. بدأ الأمر بتحرُّك نساء الكلاشا في اتجاهات مختلفة — مُشكِّلاتٍ قوسَ قزح كاملًا بأقمشة فساتينهنَّ الاصطناعية ذاتِ الألوان البرتقالية، والوردية، والصفراء بالإضافة إلى اللون الأحمر والأسود التقليديَّين — والرجال الذين ارتدَوا ملابسَ أقلَّ بهرجةً مثل الشالوار كاميز وقبعة شيترال. ارتدى صبية قبيلة الكلاشا الملابس الغربية وقبعات البيسبول. في وسط الحشد استطعتُ أن ألاحظَ بعض الأفراد الشجعان يرقصون وهم مُحاطون بدائرةٍ من المشاهدين يُهلِّلون ويهتفون. وتدريجيًّا، شكَّل الرجال والنساء سلاسلَ بشرية وبدَءوا في الرقص بإخلاص.

لم يكن الرجال والنساء يرقصون كشركاءَ بل في مجموعاتٍ منفصلة وكانوا يُغنون وهم يرقصون. سألتُ عظيم بيك عمَّا تعنيه الكلمات. فأجاب: «الأمر يتعلَّق بعودة الإله ومجيئه للانضمام إلينا مرةً أخرى. ويقولون إن أبناء أعمامنا وبنات خالاتنا جاءوا للاحتفال معنا.» وذكر أن الترانيم تتغيَّر كلَّ عشرين دقيقة. وعلى مدار الاحتفالات، شكَّلَت الترانيمُ المختلفة أنشودةً مطوَّلة لبليمان، إلهِ العيد، الذي يأتي من بعيدٍ على حصان مجنَّح لجمع التماساتِ أهل الكلاشا. اندفع الأطفال بين الراقصين الكبار، ولعبوا ألعابَ المطاردة. لم يوبِّخهم أحدٌ على الإطلاق تقريبًا. في بعض الأحيان كان الصِّبية يُشكلون مجموعاتٍ صغيرة، ويشبكون أذرعَهم ويُغنون للفتيات. وتبيَّن أن هذا خطأٌ استراتيجي. وأدركَت إحدى الفتيات أن الصبيان، بعد أن شَبكوا أذرعهم، سيجدون صعوبةً في انفصال بعضهم عن البعض في الوقت المناسب لمطاردتها. لذا ركَلَت الصبي الأوسط بين رجلَيه وابتعدت بسرعةٍ ضاحكةً بمرح.

بعد مدة، بدأ الرقص النهاريُّ يهدأ، وتوجَّه أهل الكلاشا إلى منازلهم للاستعداد لرقصةٍ أخرى تُقام في الليل. ذهبتُ إلى دار الضيافة حيث قضَينا الليلة السابقة، تلك الدار التي كانت تُديرها قريبةُ عظيم، زارماس جول وزوجها. (مرةً أخرى، «جول» ليس اسمَ العائلة بل اسم تحبب — يعني «زهرة» — يُضاف إلى نهاية اسمها الأول.) شاهدتُ زارماس جول جالسةً أمام موقدِ حطبٍ تصنع خبزًا بلحم الضأن، كان يُشبه فطيرة الكورنيش، لكنه كان أفضلَ بكثير لأنه كان مصنوعًا من لحمٍ طازَج. كان جهاز كمبيوتر قديم يُصدِر موسيقى هنديةً بالتناوب مع موسيقى البوب الأمريكية، وأثناء انتظار ارتفاع درجة حرارة الموقد، تمايلَت بلطف مضيفتنا من أهل الكلاشا، بثوبها المطرَّز بإتقان، على إيقاع أغنية لريانا. وجلسَت ابنتُها على مقربة، مرتديةً سترةً رياضيةً بدلًا من الفستان التقليدي المطرَّز (أخبرني عظيم بيك لاحقًا أنها: «تُحب التشبُّه بالصبيان، لكنها توافق على ارتداء فستان الكلاشا عند الذَّهاب إلى المدرسة»)، وكانت في بعض الأحيان تستحوذ على الكمبيوتر لتلعبَ عليه.

figure
زارماس جول تُعدُّ خبز الشباتي التقليدي باللحم من أجل عيد تشوموس، انقلاب الشمس الشتوي، عندما تطول ساعاتُ النهار وتقصر ساعات الليل. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

وعلى الرغم من هذه التدخُّلات للحصول على أسلوب حياة أكثرَ حداثة — أتاحته، بالطبع، خطوطُ الكهرباء التي رأيتُها تمتدُّ على طول الممرِّ الضيق — فإن روتين أهل الكلاشا اليوميَّ، بخلاف ذلك، يظل غيرَ مدعوم بوسائلِ الراحة الحديثة. فحتى أصغرُ وجبة في القرية تحتاج إلى تحضير — فيجب تقطيعُ الخشب، وجمعُه، وتخزينه، وإبقاؤه جافًّا، وحتى لقلي بيضة، كان لا بد من إشعال النار. فكَّرت في مدى صعوبةِ غَسل الملابس في هذا الشتاء القارس. كان العزاء الوحيد هو أن الموقد سرعان ما جعل الغرفةَ دافئة للغاية وزاد شعورنا جميعًا بهذا الدفء لأننا كنا نعرف مدى برودةِ الجو في الخارج.

لا بد أن الظروف كانت أصعبَ بشكلٍ لا يمكن تصوُّره على الكام في زمن روبرتسون — في مكانٍ أعلى في الجبال، ودون كهرباء أو دخلٍ من السياحة. ومع ذلك، قال روبرتسون إنهم «لم يشعروا بالحزن أبدًا» — ربما لأنهم كانوا اجتماعيِّين بلا كلَل. فهم لم يفهموا أبدًا، على سبيل المثال، أنه في بعضِ الأحيان كان يريد أن يكون بمفرده. وأشار بإحباطٍ في ملاحظاته أنه عندما كان ينسحب إلى غرفته على أملِ الكتابة بسلام، كانوا يفترضون أن ثمة ما يُضايقه ويأتون خصوصًا إلى غرفته لمحاولة إسعاده. (لم يكن بإمكانه التخلصُ منهم إلا من خلال أن يطلب منهم تعليمَه لغتَهم؛ فتعليمه كان يُضجِرهم لدرجة أنهم كانوا دائمًا يخرجون على الفور.) بدَت قبيلة الكلاشا راضيةً أيضًا في واديها. واختار قِلةٌ من أفرادها، حتى من بين أولئك الذين اعتنَقوا الإسلام، المغادرةَ للعمل في المدن. من وجهة نظري الغربية، بدا أن كلَّ يوم يُمثل صراعًا لهم، لكنني قلتُ في نفسي، متأملًا، إنهم لم يُضطَروا أبدًا للتعامل مع المشكلات التي يُواجهها سكان المدن المعاصرة: مثل الوجود وسط حشدٍ من الغرباء، وأن تكون مختلفًا عن الآخرين، ووحيدًا.

في ذلك المساء، بدأت الجولةُ الثانية من الرقص بعد حلول الظلام. ومن دار الضِّيافة التي كنا نمكث بها، كان بإمكاني أنا وذو الفقار أن نرى مشاعلَ متوهجةً تظهر من بعيدٍ أسفل الوادي، ونسمع صوتَ الغناء الآتي من بعيد. ثم ظهرَت ببطءٍ من الظلام مجموعةٌ من الشبان والشابات واتجهَت نحو حقلٍ قريب. تبِعناهم، محافظين على مسافةٍ بيننا وبينهم. وفي الحقل رأينا نقاطًا مضيئةً تظهر في جميع أنحاء التلال، وتبيَّن أنها مشاعلُ حطبٍ يحملها أهلُ الكلاشا النازلون من قُراهم الجبلية. حدَثَت جلَبة عندما تبادل الناسُ التحية، ففي بعض الأحيان لا يتقابلون شهورًا. استمرَّ الرقص طوال الليل، على ضوء ألسنةِ لهبِ نارٍ هائلة. وعلى الرغم من تساقط الثلوج دون توقُّف، بدا أن أهل الكلاشا لم يُلاحظوا ذلك. فقد كان الدفءُ والنور والحيوية البشرية يُبعدون الظلامَ والبرد، مما يُبشر بالصيف القادم. عندما استيقظتُ في صباح اليوم التالي، كان عظيم بيك لا يزال مستيقظًا؛ حيث كان قد ذهب في الصباح الباكر، بعد الرقص، لتهنئة عددٍ من الأزواج الذين تزوَّجوا في اليوم السابق.

كان والد عظيم أحدَ شيوخ الكلاشا، لكنهم كانوا عادة شعبًا ديمقراطيًّا يؤمن بالمساواة دون أن يكون لديهم قادةٌ دائمون. ووجد روبرتسون أنه عندما كان على قادة الكام اتخاذُ قراراتٍ مهمة، كانوا دائمًا ينتظرون أعضاءَ القبيلة الآخَرين للتعبير عن رأيهم ثم يُوافقون على ما قالته الأغلبية. وفي الحالات التي كان فيها انقسامٌ كبير ولا توجد بها أغلبيةٌ واضحة، كان سياسيُّو الكام يلجَئون إلى تكتيكٍ نادرًا ما يستخدمه السياسيون في الديمقراطيات الغربية؛ كانوا حرفيًّا يختبئون حتى يتمكَّنوا من تجنبِ اتخاذ قرارٍ مسبِّب للشقاق. ومن بين أهل الكلاشا، يوجد شيوخٌ يُدْعون «جاديراكان» يتفقَّدون الأمر للتأكدِ من أن المجتمع يؤدِّي طقوسَه بشكل صحيح؛ وهم متطوعون بلا أجر، وليسوا كهنة بالمعنى التقليدي.

•••

في تلك الليلة، نمتُ في أحد بيوت الكلاشا، حيث كان الجمر المتوهِّج في الموقد يحافظ على دفء الغرفة. وفي الصباح، بعد أن قلَّلَت الشمسُ المشرقة من حدةِ برودة الليل في الوادي، أُتيحت لي فرصةُ رؤية أسلوبٍ مختلِف من الرقص. كانت تجري احتفالاتٌ بانقلاب الشمس من نوع مختلفٍ إلى حدٍّ ما في وادٍ آخر من وديان الكلاشا يُدعى بيرير — أبعدِ وادٍ عن رامبور، على بُعد رحلة تستغرق عدةَ ساعات بالسيارة. وكانت زارماس جول من الوادي وأخبرَتنا عن الاحتفال، على الرغم من أن رفقائي من أهل الكلاشا لم يبْدُ عليهم أنهم على معرفةٍ به؛ بدا أن الأخبار لم تكن تنتقل كثيرًا بين بيرير ورامبور، ربما لأن قلةً من الكلاشا لديهم سياراتٌ أو يعتقدون أن رؤية مجتمعات الكلاشا الأخرى ليس سببًا قويًّا لتركِ وديانهم والقيام برحلةٍ شاقة سَيرًا على الأقدام. جاء معي عظيم ووزير، وهو من أهل الكلاشا الذين اعتنَقوا الإسلام.

يستقبل وادي بيرير عددًا قليلًا من السيَّاح وظروفُه أفقرُ من رامبور، حيث يعيش العديدُ من أهل قبيلة الكلاشا في بيرير في مبنًى خشبيٍّ كبير على جانب التل. وكان المبنى على الطراز القديم؛ فهو مبنيٌّ من عدة مستويات وتربط السلالمُ بين الشرُفات المشتركة، ولكلِّ أسرة غرفةٌ به. وتسبَّب الانحدار الحادُّ لسفح التلِّ في تدرُّج الشرفات بعضِها فوق بعض. وبالرغم من تميُّز المبنى بروعةٍ تفوق المبانيَ الأحدث في رامبور (ناهيك عن تلك الموجودة في الوادي الأوسط، بمبوريت، التي حُدِّثَت بدرجةٍ كبيرة)، فقد كان أيضًا أضيقَ بكثير.

كانت توجد أيضًا مجموعةٌ من المنازل على أرض الوادي، ومررنا عبرها، وسِرنا بعدها مسافةً طويلةً إلى أعلى الوادي، ثم صعدنا طريقًا قصيرًا على سفح التل، إلى موقعٍ مميز حيث كان يوجد معبدٌ يُسمى «جيستاك هان»؛ مكرَّس لعبادة جيستاك، إلهةِ الأسرة. كان هذا هو المكانَ الذي يُقام فيه الاحتفال. وتعيَّن أن يطَّلِع أحد حراس الشرطة خارج الباب على جواز سفري قبل أن يسمح لي بالدخول إلى المعبد؛ الذي كان مكونًا من غرفة واحدة، تصطفُّ على جانبَيها أعمدة، وكلُّ ذلك مصنوعٌ من الخشب. وعلى الرغم من أن المعبد قد بُني حديثًا، كان يتمتَّع بطابَعِ العصور القديمة. ربما كان هذا بسبب الأعمدة الداخلية التي بدَت كأنها نسخةٌ غريبة من الأعمدة الأيونية؛ وربما كان السببُ خيوطَ العنكبوت على تلك الأعمدة، التي حجَبَت الرموزَ المنحوتة في الخشب. وكان معظم الغرفة مظلمًا، باستثناء جدار المعبد الذي أضاءه شعاعان رفيعان من أشعَّة الشمس تسلَّلا من خلال فتحةٍ مربَّعة في السقف، ونافذة كانت تُطل على السفح الجليدي للجبل. وكان يحدق بنا من خلال الفتحة حشدٌ من الفتيان والفتيات، الذين كانوا يجلسون على السطح؛ خمَّنت أنهم ربما كانوا مسلمين ممنوعين من الدخول.

كان يوجد ما قد يصل إلى ثمانين أو حتى مائةِ فرد من الكلاشا في الغرفة. جلس بعضُهم على مقعدٍ طويل في الخلف، لكن معظمهم كان واقفًا؛ واصطفَّت النساءُ بفساتينهن متعددةِ الألوان في الظلام. كان الأصدقاء يتبادلون التحيةَ ويقفون يتحدَّثون بعضَ الوقت. ووقف آخَرون بهدوءٍ يستمعون إلى ثلاثة رجال يرتدون شالوار كاميز وقبعات شيترال: كان أحدُهم يرتدي عباءةً برَّاقة من الألياف الاصطناعية باللونَين الأحمر والذهبي. وأنشد هؤلاء الثلاثةُ ترنيمةً بسيطة على سُلَّمٍ موسيقي صغير، تتكون فقط من نَغْمتَين موسيقيتَين توحيان بالحزن. وفي زاوية معبد «الجيستاك هان»، قرَع رجُلان مع الترنيمة طُبولًا مختلفةَ الحجم. وحول حافَاتِ الغرفة شكَّلَت أربعون أو خمسون امرأةً صفًّا طويلًا بأذرعٍ متشابكة وردَّدن الترانيمَ وراء المغنِّين، ولم يلتزمنَ بالتوقيت بدقَّة، وامتلأت الغرفةُ بنغمات نشاز حزينة. وبينما كنتُ واقفًا بين الرجال في وسط الدائرة، حظيتُ بتجرِبةٍ مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت في رامبور. فقد كان الاحتفالُ في رامبور فوضَويًّا، في حين أن هذا بعَث شعورًا بالوقار والروحانية. فالطبول كانت تدقُّ ببطء، والنساء يتحركن عكسَ اتجاه عقارب الساعة حول حافات الغرفة، والرجال يُنشدون. كان رجال الكلاشا يقصدون المنشِدين من وقتٍ لآخر ويضَعون الروبيات المكرمشة في قبعاتهم، وهي طريقةٌ تقليدية لمكافأة الإنشاد الجيد.

أخبرني عظيم وهو يُفسر الأغنية أن أحد المنشدين حلم بهذه الترنيمة، وأنها تدور حول مكانٍ في الوادي كان يرقص فيه الكلاشا في الماضي للاحتفال بالعيد. وترجَم قائلًا: «الإله يتساءل لماذا لا نستخدم الواديَ كلَّه للاحتفال بتشوموس؟» تقلَّص نطاق الاحتفال على مدى عقودٍ حيث تضاءل حجمُ الطائفة. وأصبح المسلمون يمتلكون الآن الأماكنَ التي كانت تُقام فيها الاحتفالات من قبل لذا تعتبر غيرَ طاهرة. تساءلتُ عن عدد الأشخاص الذين لا بدَّ أنهم قد حافظوا على هذا الرثاء على مرِّ السنين مع وصول الإسلام، أو المسيحية، أو الديانات التبشيرية الأخرى إلى أوطانهم؟

figure
منشدٌ من أهل الكلاشا كوفئ على إنشاده في عيد التشوموس بعباءةٍ برَّاقة. وها هو يرتديها بفخر، خارج المعبد حيث يُحتفَل بالعيد بالرقص. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

تغيَّر الإيقاع. وتسارعَت الطبول. وانقسمَت النساء إلى مجموعاتٍ مكوَّنةٍ من أربعٍ وانضم إليهن بعضُ الرجال، ورقصوا في الأنحاء عشوائيًّا، وأحيانًا كانوا يدورون حول أنفسِهم هنا وهناك. أصبح صوتُ قرع الطبول عاليًا وسريعًا، وانضممتُ أنا ووزير وأصدقاؤه في الرقصة الجديدة. كانت مجموعاتٌ من أربعة، الرجال والنساء على حِدَة، تُسرع حول ساحة الرقص — عكسَ اتجاه عقارب الساعة كما كان من قبل — وكلما التقَوا بالمجموعة التي أمامهم، كانوا يصطدمون بها. وكان على كلتا المجموعتين بعد ذلك أن تتواجَها وتضحَكا بصوت عالٍ. أو بدلًا من ذلك، يمكن للمجموعة أن تدور لمواجَهة المجموعة التي تقف خلفها وتفعلَ الشيء ذاتَه. عندما جلستُ دون المشاركة في إحدى الجولات، رأيت أن دويَّ الطبول المستمر، والضحك المتقطع الصاخب بعض الشيء، ومشهد الناس وهم يندفعون في جميع أنحاء الغرفة؛ خلق جوًّا جنونيًّا رائعًا. بعد ذلك هدأت الطبول واستؤنف الرقصُ الأكثر وقارًا.

figure
في يناير ۲۰۱۳، كانت نساءُ الكلاشا يحتفلن بتشوموس، انقلابِ الشمس الشتوي، بالرقص في معبدٍ يُسمى «جيستاك هان». لدى الكلاشا آلهةٌ كثيرة: جيستاك هي إلهة الأسرة. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

عندما انتهى الرقص أخيرًا وغادَرنا معبد «جيستاك هان»، سمعنا المزيدَ من الضحك والغناء في الوادي، بالقرب من المنزل الخشبي القديم الذي كنتُ قد رأيته عندما وصلنا. قال لي عظيم بيك: «هؤلاء هم الأولاد الطاهرون»: كان يقصد الأولاد البِكر، وهم مجموعةٌ كانت تُعتبر طاهرةً على نحوٍ خاص من حيث الطقوس. في الاحتفال بالعيد، كان يُعتقد أنهم يُمثلون أسلافَ المجتمع المتوفَّين، وكانوا ينتقلون من منزلٍ إلى آخر، لجلب الحظ السعيد والحصول على ملابسَ جديدة في المقابل. كان الأولاد لا يزالون يُغنون أثناء عودتنا سيرًا إلى أسفل الوادي من «جيستاك هان»، ومررنا في طريقنا بممرٍّ مغطًّى حيث كان بعضُ معتنقي الإسلام في الوادي يُعِدون لأنفسهم الكباب.

أوضح لي عظيم في رحلة العودة إلى منزله في وادي رامبور: «قلوبنا مفتوحة؛ لذلك نُصلي في العراء.» في الواقع، كان يوجد عددٌ من المعابد الحجرية في رامبور، لكنها كانت صغيرة ولم تكن مِحور العبادة الجماعية. وأُطلق على مكان العبادة في الهواء الطلق اسمُ «ساجيجور» (وهو أيضًا اسم الإله الذي كان يُعبَد هناك)، وكان يقع في بستانٍ من الأشجار وراء الحافَة الشمالية للقرية، التي كان محظورًا عليَّ دخولُها أثناء الاحتفال. لكن عندما عُدنا إلى رامبور، كان الاحتفال قد انتهى ووافق وزير على مرافقتي إلى هناك. كان ذلك يعني الخروجَ من القرية من الناحية الشمالية العُليا (حيث كانت توجد تلالٌ على جانبَي الوادي، لكن أرض الوادي أيضًا كان بها انحدارٌ ملحوظ في هذه المنطقة)، والتوجُّهَ على طول طريقٍ زلق يُغطيه الجليد إلى جسر عبر النهر، يقع على الجانب الآخر منه البستانُ في حقلٍ واسع. أخبرَنا الشبابُ الذين التقيناهم على طول الطريق أنه يمكننا أن نُلقيَ نظرةً على «الساجيجور» بشرط ألا نلمسَ شيئًا. لذلك وقفنا على حافة البستان ونظرنا من خلال الأشجار إلى خمسة تماثيلَ خشبية، وكنا حريصين على عدم لمسها. قال وزير، محاولًا بجهدٍ الدفاعَ عن أقاربه ضدَّ تهم عبادة الأصنام، إن هذه التماثيلَ لم يكن المقصود منها تمثيل الآلهة. فهي في الواقع تماثيلُ لرجال مهمِّين في الطائفة لَقُوا نَحْبهم، وتتذكَّرهم عائلاتهم بعد عام من وفاتهم. وأظهرَت بقعةٌ ملطخة على الأرض بالقرب منهم المكانَ الذي ضُحِّيَ فيه بمئات الماعز في الأيام السابقة. وكانت تُقام مَراسمُ للأولاد الذين بلَغوا سنَّ ارتداء السراويل عند كومة أحجارٍ مكدَّسٍ عليها أغصانٌ — حيث يُلقي كلُّ واحد منهم غصنًا على الكومة كجزءٍ من الطقوس.

نظرتُ مرةً أخرى إلى التماثيل الخشبية، مما جعلني أفكر في واقعةٍ حدثَت في رواية روديارد كيبلينج «الرجل الذي سيُصبح ملكًا». ففي الرواية، قرَّر جنديَّان سابقان سيِّئا السمعة تنصيبَ نفسَيهما ملِكَين وثنيَّين. ويقول أحدُهما للآخَر: «يُطلقون عليها اسم كافرستان. إنها تقع، حسَب اعتقادي، في الزاوية اليُمنى العُليا من أفغانستان، ولا تبعد أكثرَ من ثلاثمائة ميل عن بيشاور. لديهم اثنان وثلاثون صنمًا وثَنيًّا هناك، وسنُمثل نحن الصنمَ الثالث والثلاثين.» وبفضل معرفتِهم بالرموز الماسونية، التي تبيَّن في قصة كيبلينج أنها جاءت إلى الكفار من جَدِّهم الإسكندر الأكبر الذي مات منذ زمنٍ طويل، يُفلِت الاثنان بحيلتِهما بعضَ الوقت قبل أن ينقلبَ عليهما الكفار؛ حيث يُقتَل أحدهما ويُصاب الآخر بالجنون. ذكَّرَتني هذه التماثيلُ الخشبية بقصة كيبلينج وبالهوس بكافرستان الذي اجتاح المجتمعَ البريطاني الفيكتوري عندما كُتبَت هذه القصة.

•••

جعلَني بعضٌ من أثر ذلك الهوس أرغب في السَّير شمالًا أعلى الوادي بالقرب من الحدود مع نورستان. وقال لي وزير إن قرية النورستانيِّين تقع بين قرية الكلاشا والحدود الأفغانية. وهؤلاء لم يكونوا من نسلِ قبيلة الكلاشا بل من قبيلة الكام التي عرَفها روبرتسون؛ فخلال غزوِ عبد الرحمن، هرَب أسلافهم من اعتناق الإسلام قسرًا بالفرار عبر الحدود واللجوء إلى رامبور. وفي جيلٍ لاحق، اتبَعَت طائفتهم الإسلامَ على أي حال، حيث وجَدوا أنه من المستحيل الحفاظُ على قواعد النجاسة عندما أصبح جميعُ أبناء عمومتهم في نورستان من المسلمين. في زمن شومبيرج، أُطلق عليهم اسمُ الكفار الحُمر وألقى أهلُ الكلاشا باللَّوم عليهم في جميع أنواع الأذى الذي تعرَّضوا له. سألتُ وزير إن كان بإمكانه اصطحابي إلى قريتهم، فقال إنه يعرفهم ويُمكنه تقديمي إليهم. لذلك واصَلْنا المشي شمالًا من «ساجيجور»، وعبَرْنا النهر مرةً أخرى بالانزلاق على جذع شجرة متجمِّد غير مستقر، والتسلُّقِ بجهدٍ للعودة إلى المسار الرئيسي. في هذه البقعة فوق المسار على سفح التل، كانت توجد بعضُ منازل أهل الكلاشا الصيفية، التي كانت محرَّمةً على النساء بعد تشوموس. نزل صبيٌّ صغير من أحدها حاملًا عَنْزة، وواضعًا قدمَيه بحذرٍ في الثلج المكدَّس الملتصق بجانب التل الشديدِ الانحدار. صفَّقنا له عندما نزل بسلام، وركَض بخجلٍ مبتعدًا مع العنزة نحو القرية. واصلنا السيرَ وتحدثت مع وزير عن الدين.

كان وزير من الكلاشا الذين اعتنَقوا الإسلام؛ مما يعني أنه يمكن أن يُعطيني نظرةً ثاقبة عن التحدِّيات التي واجهَت الطائفةَ أثناء محاولتها التمسُّكَ بأعضائها القلائلِ المتبقِّين. أخبرني وزير أنه كان الفتى الوحيدَ من قبيلة الكلاشا في فصله في المدرسة الثانوية. وقال لي: «سأل المعلمُ إذا كان يوجد أيُّ تلاميذَ من الكلاشا، فرفعتُ يدي. كنتُ التلميذَ الوحيد. وكنتُ أتعرَّض لكثيرٍ من السخرية.» وعندما كانوا يسألونه حول معتقَداته، لم يكن لديه إجاباتٌ ليُعطيَها لهم. وكما أخبرني: «إذا سألتَ أهل الكلاشا: لماذا نفعل هذا الشيء؟ أو لماذا نتبعُ هذا التقليد؟ سيقولون فقط: «هكذا فعل أجدادنا.» لكنهم لا يعرفون المغزى من وراء ذلك.» وبصفته صبيًّا مفكرًا، وبسبب عدم وجود أيِّ إجابة لديه يُقدمها للأولاد والمدرسين الآخرين عندما كانوا يتحدَّونه؛ وافق في النهاية على أن يُصبح مسلمًا، وهي خطوة لا تتطلَّب سوى قولِ جملة واحدة («أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله») وهو أمرٌ لا رجوع فيه فِعليًّا. وإذا لم يستمرَّ وزير بعد اعتناق الإسلام في ممارسة شعائرِه، فإنه سيُعرِّض طائفته كلَّها للخطر. فمع أن هجر الإسلام عمَليًّا ليس مخالفًا للقانون في باكستان، فإنه في استطلاع رأيٍ أُجري عام ۲۰۱۰، قال ستةٌ وسبعون بالمائة من الباكستانيين إنه يستحقُّ عقوبة الإعدام. وحتى مجرد إشاعةِ أن شخصًا ما قد ترك الإسلامَ يمكن أن تُثير عُنف الغوغاء.

وبسبب هذا النوع من المعاناة، اختار العديد من عائلات الكلاشا عدمَ إرسال أطفالهم إلى المدرسة على الإطلاق. لكنَّ أنصار الطائفة من اليونانيِّين بنَوا مدارسَ ابتدائية في الوديان الثلاثة، بالإضافة إلى مدرسةٍ ثانوية في بومبوريت متاحةٍ للكلاشا وللمسلمين. وفي هذه المدارس، كان على الأقل بعضُ المدرسين من الكلاشا، وكان بإمكان الفتيات ارتداءُ ملابسهن التقليدية. وبدأَت الطائفة أيضًا في الاحتفال بتُراثها الخاص؛ ففي «جيستاك هان» في بيرير، كنتُ قد رأيت رجالًا من الكلاشا يحملون جهاز تسجيلٍ كبيرًا قديمَ الطِّراز بينما سجَّل آخَرون مقاطعَ فيديو للرقص على هواتفهم المحمولة. وبدأ مُتحف في بومبوريت في تجميع التراث الشفاهيِّ للطائفة. وربما بسبب هذا الاعتزاز المتجدِّد بهُويتهم، لم يعُد الكلاشا المتعلمون (كما أخبرني وزير) يعتنقون الإسلام. ومع ذلك، ظل صحيحًا أن عددًا قليلًا جدًّا من الكلاشا لديهم الكثيرُ ليقولوه عن معتقداتهم، على عكس معظم الفِرَق الإسلامية، حيث غالبًا ما يكون للإسلام مُدافعٌ مُفوَّه واحدُ على الأقل. وبالمناسبة صادف روبرتسون مشكلةَ وزير نفسَها حيث كتب: «إذا طلَب الغريبُ الحائر شرح الممارسات والأعراف، فسيكون الردُّ دائمًا … هذه هي عادتنا.»

تاريخيًّا، شجَّعَت عواملُ أخرى أيضًا الكلاشا على اعتناق الإسلام؛ وهي عواملُ تظهر مِرارًا وتَكرارًا في تاريخ الأديان. كان لدى الكلاشا، مثلِ غيرهم من الكفار، عبيدٌ يُطلق عليهم اسم «البَيراس»، وكان الكلاشا يشترونهم ويبيعونهم وكانوا يُمنَعون من الزواج من الكلاشا الأعلى مقامًا. ولا غرابة في أنَّ هؤلاء التعساء كانوا أولَ من اعتنقوا الإسلام، كما لاحظ شومبيرج عندما زار رامبور في ثلاثينيات القرن الماضي (بعد أربعين عامًا فقط من تطبيق اعتناق الإسلام قسرًا في كافرستان). رأى شومبيرج فرقًا كبيرًا بين قبور «البَيراس» قبل اعتناق الإسلام، التي قارنَها بكومة من صناديق التعبئة، وقبورهم بعد الإسلام، مما كشف عن قفزةٍ في المكانة واحترام الذات. (وبالمثل، كان فيما مضى بعضُ المسيحيين الباكستانيين البالغُ عددهم ثلاثةَ ملايين تقريبًا من الطبقات الدُّنيا من الهندوس. وبدا في إيران أيضًا أن الطبقة الكهنوتية للزرادشتيين كانت هي التي تمسَّكَت بدينها أطولَ مدَّة.)

ويمكن أن يوفر اعتناقُ الإسلام المالَ للأسرة أيضًا. فخلال كل عيد، يتعيَّن على الأُسَر في قبيلة الكلاشا أن تُقدم ثلاثَ عنزات أو أربعًا للتضحية. ويمكن أن تكون الجنازاتُ باهظةَ الثمن بدرجةٍ تعجيزية؛ فهي تدوم ثلاثة أيام، ويمكن أن تشمل التضحيةَ بأكثرَ من ثمانين عنزة وأربع بقَرات. أما الإسلام فهو يتضمَّن نفقاتٍ شخصيةً أقل بكثير. وملابسُ نساء الكلاشا هي تكلفةٌ أخرى لم يعُد يجب على مُعتنِقي الإسلام أن يأخذوها في الحسبان، حيث تميل النساءُ المسلمات إلى ارتداء أقمشةٍ بسيطة وأرخص ثمنًا. ويمكن أن يُتيح تغيير الدين أيضًا فرصًا جديدة، خاصة للنساءِ اللواتي، كما قال لي وزير، يُشكِّلن غالبيةَ مَن يغيرون دينهم مؤخرًا. فاجأني ذلك لأنه كان يعني التخلِّيَ عن حُرياتهن. لكنني علمتُ أن بعض النساء قد وقعن في حبِّ مسئولين أو رجالِ شرطة قادمين من شيترال، وأن الزواج من أحد هؤلاء الرجال يعني لهن حياةً أكثرَ راحة.

على النقيض من ذلك، في حالة وزير، لم يكن لتغيير الدين فائدةٌ تُذكر. في الواقع، لقد أدى ذلك إلى تعقيدِ حياته بشكل كبير؛ لأنه كان المسلِمَ الوحيد في قريته وكان يواجهُ صعوبةً في العثور على زوجة. تساءلتُ عمَّا إذا كان قد ندم على اختياره. تحدَّث عن فضائلِ الكلاشا بحزن شديد. وقال: إن الناس يثقون بعضهم في بعض. ويمكن ترك الماعز دون حراسةٍ لأنه لن يسرقها أحد. وكان يُعاقَب على السرقة بأقسى عقوبةٍ فرضَها الكلاشا، وهي طردُ الجاني من الطائفة. ولم تكن توجد عقوبةٌ لممارسة الجنس قبل الزواج، وإذا أرادت المرأةُ أن تترك زوجها وتتزوجَ شخصًا آخر، فلا يحقُّ لزوجها منعُ ذلك (رغم أنه كان له الحقُّ في أن يتقاضى ضِعف المهر الأصلي للعروس). أما في الإسلام فتُواجه الزوجات صعوبةً أكبر في طلب الطلاق. وأضاف وزير: «عندما أزور أحدَ بيوت الكلاشا، يمكنني الجلوسُ مع جميع أفراد الأسرة في غرفهم. لكن عندما أزور صديقًا مسلمًا، يجب أن أجلس في غرفةٍ منفصِلة»؛ لأنه في المنازل الإسلامية الصارمة، لا ينبغي أن يرى المرأةَ رجال غير أقاربِها.

في تسعينيات القرن التاسعَ عشر، لاحظ روبرتسون السلوكَ المتهاون الذي ساد بين الكفار وصُدم ممَّا أسماه ﺑ «العلاقات الغرامية». ووجد أنهم يعتبرون الزنى، في معظم الأحيان، مسألةَ مرحٍ عام. فعندما كان يُمسَك برجلٍ وامرأة متزوجة وهما يُمارسان الجنس، تأتي القبيلةُ لمشاهدة الأمر وتضحك؛ ولا يجد الرجلُ الذي قام بهذه الواقعة ذلك ممتعًا، حيث كان عليه أن يدفع للزوج الذي خانته زوجتُه معه غرامةً كبيرة (ولم يكن على المرأة دفعُ غرامة). وزُيِّنَت المقاعد «النورستانية» الخشبية، التي يمكن التعرف عليها من خلال الأنماط الدائرية المنحوتة على ظهورها والحلي ذات القرون الطويلة التي تبرز منها، صالونات المثقفين والمغتربين في كابول؛ ويعرف قلةٌ من مالكيها أن الدوائر كانت تُمثل في الأصل فروج النساء، وأن الحلي الناتئة كانت يومًا ما أزواجًا يمارسون الجِماع، وأن الكراسيَّ (التي يستخدمها الرجال فقط) كانت رموزًا للخصوبة. على النقيض، يتمتَّع أهل الكلاشا بسلوكياتٍ أكثرَ تحفظًا من الكفار، لكنهم — كما أشار وزير — أكثرُ ليبراليةً من المسلمين في نواحٍ معيَّنة.

figure
تقع قرية النورستانيين هذه على قمة وادي رامبور التابع لقبيلة الكلاشا. وقد أسَّسها لاجئون هربوا من الإكراه على تغيير الدين الذي تعرَّض له سكان المنطقة التي تُسمى الآن نورستان. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

بينما كنتُ أنا ووزير نتسلَّق جانب الجبل في طريقنا إلى الحدود مع نورستان، التقينا مجموعة من أصدقائه المسلمين. قال وزير وهو يُقدمني لهم: «إليك مزيجًا من الجميع هنا: شيترالي، وكلاشا اعتنق الإسلامَ مثلي، وجوجار، ونورستاني.» كان الرجلُ قبل الأخير الذي ذكَره من مجموعةٍ بدوية ذات بشرة داكنة بشكلٍ خاص، وكان الرجل الأخير لديه شعرٌ بني وبشرة فاتحة بشكل ملحوظ. وكان رجل الكلاشا الذي اعتنق الإسلام يحمل بصلابةٍ صندوقًا كبيرًا كان قد ربطه حول كتفيه، وكان يُخطط لتسليمه إلى متجر في القرية النورستانية. وبينما كنا نسير، انفتح الصندوق وسقطَت منه ستة أكياس من الخبز الحلو. قدَّم كلٌّ منا له يدَ المساعدة بحمل كيس. كثيرًا ما كنتُ أتخيل زيارةَ إحدى قرى النورستانيِّين، لكنني لم أتخيل أبدًا أنني سأُسلمهم إمدادَهم اليومي من البريوش في برِّية تكتسحُها الثلوجُ بالقرب من حدود أفغانستان. كما أنني لم أتوقع أنهم يلعبون الجولف — «الجولف النورستاني»، كما أسماه وزير. كانت مجموعةٌ من الشباب النورستاني تقف على حافَةِ المجرى الذي احْتَفَره نهر الكلاشا — الذي يبدو هنا أشبهَ ما يكون بالجدول — في الوادي الضيق، ويضرب أفرادُها كراتٍ خشبيةً عبره بقطعٍ طويلة من الخشب على شكل عِصِيِّ الهوكي بينما كان أطفالٌ صغار يركضون لاستعادتها. وكان الفائز ببساطة هو الشخصَ الذي يضرب الكرات إلى أبعدِ مسافة. كان وزير لاعبًا محترفًا.

كانت القرية ذاتُها تتألَّف من مبنًى واحد مصنوع من الخشب، مثل المبنى الذي كنتُ قد رأيته في بيرير. وكان لكلِّ عائلة غرفة، وكانت الغرف متصلًا بعضُها ببعض بشُرفاتٍ وسلالمَ خشبية خارجية. وبمجرد دخولي، وجدتُ أن الممرات تفوح منها رائحةُ البول. وكان هناك رجلٌ مسن يرقد على سرير، يبدو ضعيفًا ويسعل، وكان الموقد في وسط الغرفة، واصطفَّت الأسِرَّة الأخرى بجانب الحوائط، وعُرِضَت مجموعةٌ من الأواني المعدنية اللامعة على مجموعة من الرفوف. (ذكر روبرتسون أن عَرْض الأواني الفِضية يرمز للمكانة بين الكفار.) أعدَّت زوجةُ الرجل المسن الشاي لي ولوزير بينما جلس صبيَّان صغيران، من الواضح أنهما كانا حفيدَيها، يحدقان في كل ما أفعله. طلب أحدُهما الحصولَ على واحدٍ من أكاليل الكلاشا الخاصة بي. أعطيته إياه، وبعد ذلك لم يتركني الآخَرُ وشأني، وأخذ يجذب أحدَ أكاليلي المتبقية على أملِ أن أتركَه يأخذُها. طلبتُ التقاط صورةٍ لفتاة صغيرة كانت تُراقبنا من الخارج، لكن يبدو أن الطلب أثار استياءَ الجَدة؛ فقد كان التقاط صورٍ للأولاد مسموحًا به، ولكن ليس للفتيات. ومع ذلك، لم تكن الأسرةُ صارمةً مثل البعض، فقد سمَحوا لنا بدخول غرفتهم. كانت الغرف بحُكم الضرورة مشتركةً بين النساء والرجال؛ لذلك ما كان بعض المسلمين سيسمحون لنا بالدخول. عندما نهضتُ للذَّهاب، تحركَت كومة من أغطية الأسرَّة على جانب الغرفة، وتحدثَت امرأة من تحتها.

بعد تناول الشاي، نزلنا أنا ووزير إلى الطابق الأسفل، وطرَق بابَ منزل آخر لإلقاء التحية. عند الإشارة إلى وجود أجنبي في الخارج، أخرجَت فتاتان صغيرتان وجهَيهما من الباب ثانيةً واحدة فقط ثم اختفَتَا ولم يكن من الممكن إقناعُهما بالخروج مرةً أخرى. ومع ذلك، كان رجالُ القرية سعداءَ جدًّا بالتقاط صورٍ لهم، ويَلفِتون انتباهي إلى مَلامحهم المميزة وشعرهم الفاتح، ويومِئون بفخرٍ إلى مسجد قريتهم، المبنى الوحيد لديهم القائمِ بذاته إلى جانب منزلِ قريتهم.

•••

عندما حان الوقت لمغادرة الوادي، قاد عظيم بيك السيارةَ بنا إلى شيترال، وسألني إذا كان من الممكن أن نتوقَّف عند منزلٍ عند سفح وادي الكلاشا، حيث جميع السكَّان مُسلمون (في الواقع، كان يقع في البلدة نفسِها التي بها مدرسةُ وزير). كان يُقدم التعازيَ للأسرة التي تعيش هناك ودَعاني للانضمام إليه. لقد لاحظتُ كم كان سفيرًا جيدًا مع أهله، وأن جزءًا من هذا تمثَّل في تقليله من أهميةِ هُويته بوصفه فردًا من الكلاشا. فيمكن اعتبار اسمِه اسمًا مسلمًا (قال لي أحدهم إنه منذ عشرين عامًا لم يُسمَّ أي طفل باسمٍ قديم الطِّراز من أسماء قبيلة الكلاشا). وقد دعا مع الأسرة بالطريقة المسلِمة، حيث رفع يدَيه ومسح بهما على وجهه رمزيًّا. قد يكون كسبُ احترام المسلمين بهذه الطرق مفيدًا جدًّا عند الحاجة. ففي مرةٍ أُخذ بعض أفراد الكلاشا رهائنَ أثناء نزاعٍ على الأرض، وساعد عظيم هذه الأسرةَ في إطلاقِ سَراحهم.

figure
تشتهر قبيلة الكلاشا بالنبيذ والبراندي المَحليِّ الصُّنع، اللذَين لا يحظرهما دينُهم. يظهر هنا وزير علي (على اليسار)، وعظيم بيك (الثالث من اليسار)، والمؤلِّف (بينهما) يتذوَّقون النبيذ خلال عيد تشوموس في يناير ۲۰۱۳.

احتاج الكلاشا إلى الدبلوماسية لأنهم كانوا مستضعَفين. وقد أظهر كتابٌ لمسلم باكستاني متحمِّس مُدافع عن الكلاشا في عام ۱۹۸۲ صورةً قاتمةً للعلاقات بين الكلاشا والمسلمين؛ بدءًا من تخريب الأماكن المقدَّسة الخاصة بالكلاشا، إلى عرضِ المال على أفراد الكلاشا الذين يعتنقون الإسلام، و«النشاط التبشيري لمُعلمي المدارس وتشهيرهم المستمرِّ بثقافة الكلاشا.» يعتقد الكاتب، على حدِّ تعبيره، أن «الغرباء الذين يُعانون من الشعور بالثقافة المتفوِّقة» يُدمرون التقاليد القديمة. وكان يُظهِر جزئيًّا الجهودَ التي بُذلت في خمسينيات القرن الماضي، بعد الاستقلال بوقتٍ قصير، ليُغير أفرادُ الكلاشا قسرًا دينَهم إلى الإسلام.

قال عظيم بيك ووزير إن الأمور قد تحسَّنَت على مدى العقودِ القليلة الماضية. وكانت الشُّرطة الباكستانية تتحكَّم في إمكانية الدخول إلى الوادي ولا تسمح بدخولِ بعضٍ من المبشِّرين الأكثر عُدوانية. قالا لي إن أعدادهم كانت في تزايُد. ومن الواضح أن السياحة — على الرغم من انخفاضِها — قد أفادت قُراهم التي لديها الآن عددٌ من المنازل الجديدة المشيَّدة جيدًا. ومع ذلك، فقد أخبَرني رجلٌ من الكلاشا أن الزوَّار المسلمين يُزعجونه دائمًا بسؤالهم: «لماذا لم تُغير دينك بعد؟»

كنت أخشى أن يكون في انتظارهم ما هو أسوأ بكثير. فقد كانت باكستان دولةً متناقضة. أسَّسها مسلم شيعي ليبرالي، ولكن في السنوات العشرين الماضية، قُتل أربعةُ آلاف شيعيٍّ هناك، ونُشر قانون ازدراء الأديان بشكلٍ قمعي ضدَّ الأقليات في البلاد، واقتطع المتطرِّفون الدينيون مناطقَ تكاد تكون ذاتيةَ الحكم في مناطق البشتون بالقرب من شيترال، حيث لا يعترضهم إلا الطائراتُ الأمريكية بدون طيار المميتةُ والمثيرة للجدل. يمكن للسياسيين الباكستانيين الذين يرَون مجموعةً كاملة من الدوائر الانتخابية الصعبة التي يجب عليهم شراؤها أن يتدبَّروا أمرَ واحدة رخيصة؛ فالأصوليون المتديِّنون سوف يُقدمون دعمهم مجانًا إذا مُنِحوا نفوذًا على التعليم وأخلاق الناس. كل ما هو مطلوبٌ هو المقامرة بالمستقبل.

ومع ذلك، لا يزال من الممكن العثورُ على قدرٍ قليل من التسامح في باكستان حيثما أُبعِد الأصوليون، وكانت شيترال معزولةً إلى حدٍّ كبير عن بقية باكستان بتضاريسها والحدود التي رسمَتْها بريطانيا، والتي وضعَت جزءًا من الوادي في أفغانستان. وفي فصل الشتاء، كان الطريق البريُّ الوحيد لمدةٍ طويلة شاقًّا للغاية؛ حيث كان يتضمن إما صعودَ ممرِّ لواري (على ارتفاع عشَرة آلاف قدَم) أو القيامَ برحلةٍ عبر الأراضي الأفغانية. ولكن في وقتِ زيارتي، كان نفَقٌ يُحفَر أسفلَ الممر، وعند فتحه بالكامل سيوفر طريقًا سهلًا بين شيترال وبقية باكستان. وسيُعزز الاقتصادَ المحليَّ ولكنه قد يجلب أيضًا تغييراتٍ أخرى غيرَ مرغوب فيها. قال لي المصور الباكستاني ذو الفقار بحزن: «عندما يُفتح هذا النفق، أتساءل إلى متى ستستمرُّ قبيلة الكلاشا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤