إلمامة

بقلم  كامل كيلاني

١

ليس أروع للنفس من تمثل مصارع الناس والاستماع إليهم في ساعاتهم الأخيرة، وتعرف ما قالوه وقت حلول الأجل، وآخر ما تفوهوا به من الكلم قبل أن يفارقوا هذا العالم — خيره وشره — فراقًا أبديًّا لا عودة لهم بعده.

وإذا كان هذا هو شعورنا بجلال الموت وروعته، فلا جرم أنه يعظم ويزداد إلى أقصى حد حين يقترن بعظمة الملك وأبهته، وليس أشجى للنفس من تمثل مصرع خليفة أو قائد كبير أو شاعر عظيم، من أولئك الذين تركوا في هذا العالم أكبر أثر ونقشوا في تاريخه صفحات لا يمحوها الزمن.

ولعل خير ساعة يستعرض فيها المتأمل تاريخ حياة إنسان هي ساعة احتضاره، فإنه يرى — حينئذٍ — أمام كل صورة من صور الضعف صورة أخرى من صور القوة، ويلمح بجانب تلك الصور المشجية الحزينة ما يقابلها من الصور الماضية البسامة المشرقة.

٢

ألا ترى إلى «الوليد الثاني» مثلًا من موقفيه أمام المصحف؛ يخرقه بالنشاب — وهو في جبروته وطغيانه — ثم يقرؤه معتبرًا والناس يحاصرونه، وليس بينه وبين الموت إلا دقائق معدودة!

ألا ترى إلى عثمان — وهو الشيخ الوقور — كيف يصرع ويأبى عليه الثائرون أن يدفن، وتظل جثته كذلك ثلاثة أيام، ثم يدفن خلسة، بعد أن يحمل على باب ويسرع الناس به خوفًا من الثائرين فيقرع رأسه الباب؟١

ألا ترى إلى الأمين — وهو محاصر مهموم — يطلب الخلاص أو النجدة، فلا يجد إلى ذلك سبيلًا — بعد أن ضيق عليه طاهر سبيل النجاة — وقد علمت ما كان له من عز وسلطان وبطش؟

ألا ترى إليه يجيئه — من قبل — نبأ هزيمة قائده «علي بن عيسى» وقتله — والأمين حينئذ على الشط يصيد السمك — فيقول لمحدثه: «ويلك، دعني فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئًا بعد؟»

فانظر إلى تلك الخاتمة المروعة التي انتهت بها حياة هذا المستهتر الباطش العزيز، وهو يستغيث فلا يغاث، ويطلب النجدة فلا يأبه له أحد، ثم يذبح من قفاه فيذكرنا بقول شاعر المعرة:

وما أجل عظيم من رجالهم
— إذا نؤمل — إلا ماعز ذُبحا

ونمثله — في صورة أخرى — باطشًا ولاهيًا، ومترنح الأعطاف زهوًا، ومصعرًا خده تيهًا، وقابضًا على ناصية الخلق متصرفًا في أرزاقهم وأعمارهم، تعنو له الجباه وتنحني أمامه الرءوس وينشده أبو نواس قوله:

وقد كنت خفتك ثم أمنني
من أن أخافك خوفك الله

فسبحان المعز المذل.

هو الموت، مثر عنده مثل مقترٍ
وراكب نهج مثل آخر ناكب
ودرع الفتى — في حكمه — درع غادة
وأبيات كسرى من بيوت العناكب!

٣

هذه التأملات هي الباعث الأول الذي حداني لإخراج هذا الكتاب «مصارع الخلفاء» والكتاب الذي يليه «مصارع الأعيان»، وقد حاولت أن أدون فيهما طائفة من أروع المشاهد التي ذكرها لنا التاريخ، كما حاولت أن أرسم في ذهن القارئ صورًا واضحة مشرقة بالحياة، ولعلي وفقت في هذه المحاولة بعض التوفيق.

هوامش

(١) قال أحد حملته: «حملناه على باب وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمرًا عظيمًا، حتى واريناه في قبره.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤