مصرع الأمين

ويا دهر لحاك الله
ما هنأت فرحانك
أبو العلاء

فنخسه واحد بالسيف في خاصرته، وركبوه وذبحوه من قفاه.

المؤرخون

(١) حلم الأمين

قال الأمين:

رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس، لم أر مثله في الطول ولا في العرض، وعليّ سوادي ومنطقتي وسيفي، وكان «طاهر» في أصل ذلك الحائط، فما زال يضربه حتى سقط وسقطت، وطارت قلنسوتي عن رأسي.

(٢) في أواخر أيامه

وهكذا امتلأت نفس «الأمين» بالهواجس — في يقظته وفي نومه — فأصبح لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، بعد أن حصره «طاهر» وأخذ عليه الأبواب ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.١

وليس أصدق — في تمثيل ما وصل إليه من الرعب والفزع — من هذا الحلم.

على أن «الأمين» قد حاول أن يرفه عن نفسه أو يذهل عن حقيقة موقفه، فلم يستطع إلى ذلك سبيلًا، وأبى القدر المحتوم إلا أن يتضافر كل شيء على إزعاجه وتكدير صفوه!

قال إبراهيم بن المهدي: خرج الأمين — ذات ليلة — يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر له بناحية «الخلد» ثم أرسل إليَّ فحضرت عنده، فقال: «ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء على شاطئ «دجلة»، فهل لك في الشرب؟»

فقلت: «شأنك».

فشرب رطلًا، وسقاني آخر، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: «ما تقول فيمن يضرب عليك؟» فقلت: «ما أحوجني إليه!»

فدعا بجارية متقدمة عنده اسمها «ضعف».

فتطيرت من اسمها ونحن في تلك الحال، فقال لها: «غني».

فغنت شعر الجعدي:

كليب لعمري كان أكثر ناصرًا
وأيسر جرمًا منك، ضرج بالدم

فاشتد ذلك عليه، وتطير منه، وقال: «غني لنا غير ذلك.»

فغنت:

أبكي فراقكم عيني، فأرّقها
إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم
حتى تفانوا، وريب الدهر عداء

فقال لها: «لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟!»

فقالت: «ما تغنيت إلا ما ظننت أنك تحبه.» ثم غنت آخر:

أما ورب السكون والحرك
إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار، وما
دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان عن ملك
قد زال سلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدًا
ليس بفان، ولا بمشترك

•••

فقال لها: «قومي، غضب الله عليك ولعنك.»

وكان له قدح من بلور حسن الصنعة، وكان موضوعًا بين يديه، فتعثرت الجارية به فكسرته، فقال: «ويحك يا إبراهيم! أما ترى ما جاءت هذه الجارية، ثم ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظن أمري إلا قد قرب!»

فقلت: «يديم الله ملكك، ويعز سلطانك، ويكبت عدوك.» فما استتم الكلام، حتى سمعنا صوتًا: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.

فقال: «يا إبراهيم أما سمعت ما سمعت؟»

قلت: «ما سمعت شيئًا.» وكنت قد سمعت.

قال: «تسمع حسًّا.»

فدنوت من الشط، فلم أر شيئًا، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت بمثله، فقام من مجلسه مغتمًّا إلى مجلسه بالمدينة.

قال: «فما مضى إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل!»

(٣) يوم الوداع

قالوا: ودعا بابنيه، فضمهما إليه، وقبلهما وبكى، وقال: «أستودعكما الله عز وجل.» ودمعت عيناه فمسح دموعه بكمه.

ثم جاء راكبًا إلى الشط، فإذا حراقة «هرثمة» فصعد إليها فأحسن هرثمة لقاءه.

وهنا بغتهم أصحاب «طاهر» في الزواريق، فنقبوا الحراقة فغرقت بهم بعد أن رموهم بالآجر والنشاب، وسقط «الأمين» إلى الماء فشق ثيابه؛ حتى خرج إلى الشط حيث قبض عليه.

(٤) ذلة العزيز

قال من رآه: لما ذهب من الليل ساعة رأيت الباب قد فتح، وأدخلوا الأمين — وهو عريان — وعليه سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة خلقة.

فتركوه معي، فاسترجعت وبكيت فيما بيني وبين نفسي فسألني عن اسمي فعرفته.

فقال: «ضمني إليك فإني لأجد وحشة شديدة.»

قال: «فضممته إليَّ، وإذا بقلبه يخفق خفقانًا شديدًا.»

فقال: «يا أحمد ما فعل أخي؟»

قلت: «هو حي.»

قال: «قبح الله بريدهم، كان يقول قد مات!» (وكأنما قال ذلك معتذرًا من محاربته)

فقلت: «بل قبح الله وزراءك!»

فقال الأمين: «ما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني، أم يفون لي بأمانهم؟»

فقلت: «بل يفون لك.»

وجعل يضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطنة كانت عليَّ، وقلت: «ألق هذه عليك.»

فقال: «دعني، فهذه من الله عز وجل — في هذا الموضع — خير كثير.» فبينما نحن كذلك، إذ دخل علينا رجل، فنظر في وجوهنا فاستثبتها؛ فلما عرفته انصرف، وعلمت أن الأمين مقتول.

(٥) الساعة الرهيبة: عند منتصف الليل

قال: فلما انتصف الليل — أو قارب — فتح الباب، ودخل الدار قوم من العجم معهم السيوف مسلولة،٢ فلما رآها قام قائمًا، وجعل يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما من حيلة؟ أما من مغيث؟ أما من أحد من الأبناء؟»

•••

وجاءوا حتى وقفوا على باب البيت الذي نحن فيه، وجعل بعضهم يقول للبعض «تقدم» ويدفع بعضهم بعضًا٣وقام الأمين، فأخذ بيده وسادة وجعل يقول: «ويحكم، أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، الله الله في دمي.»

(٦) دفاع اليائس

فدخل عليه رجل منهم، فضربه بالسيف ضربة، وقعت في مقدم رأسه، وضربه الأمين بالوسادة على وجهه، وأراد أن يأخذ السيف منه. فصاح. «قتلني! قتلني!»

(٧) كيف صرع الأمين

وهنا دخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته. وركبوه؛ فذبحوه من قفاه. وأخذوا رأسه، ومضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته!

فلما كان السحر، أخذوا جثته فأدرجوها في جل، وحملوها فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد للنظر، وطاهر يقول: «هذا رأس المخلوع محمد.»٤

(٨) الأسباب التي أدت إلى مصرعه

أما الأسباب التي أدت إلى هذه الخاتمة المروعة فهي كثيرة تضيق هذه الإلمامة السريعة عن استيعابها غير أننا نذكر منها الأسباب التالية:
  • (١)

    نكث الأمين وغدره بأخيه المأمون.

  • (٢)

    حقد الفضل بن الربيع على المأمون وإلحافه في إغراء الأمين بنقض بيعته.

  • (٣)

    إهمال علي بن عيسى وغروره بنفسه.

  • (٤)

    يقظة طاهر وبعد همته.

أضف إلى ذلك عناية المأمون بتخيره قواده وأصحاب الرأي، وإلى تحمس الفرس وتعصبهم للمأمون وما أبداه أنصاره منهم من الاستماتة في نصرته. في حين كان الأمين مخلدًا بثقته إلى جماعة من المتملقين وقصار النظر وأصحاب الخلاعة والمجون.

(٨-١) غدر الأمين

أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده ونقض ميثاقه واستخف بيمينه ورد رأي الخليفة قبله.

يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك. لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول.

عبد الله بن خازم٥

ولكن الأمين أبى إلا أن يصم أذنيه عن نصيحة الناصحين، وتملكه الطمع في ملك أخيه، والاستسلام إلى الفضل بن الربيع فبدأ بالغدر بأخيه القاسم فعزله ثم تطلع إلى عزل المأمون بعده.

ولقد استشار القواد — واحدًا بعد الآخر — فحذروه سوء العاقبة، ولكنه أصر على إنفاذ خطته الخاطئة التي أوردته موارد الحتف، وكانت خير مثل يلقاه الباغي المعتدي.

(٨-٢) الفضل بن الربيع

وعلم أن الخلافة — إن أفضت إلى المأمون يومًا وهو حي — لم يبق عليه وكان في ظفره عطبة.

المؤرخون

وهكذا لم يترك الفضل بن الربيع وسيلة من وسائل الإغراء إلا سلكها حتى أقنع الأمين بوجوب الإغارة على ما في يد أخيه من ملك وعزله والدعاء لابنه بدله، كما يقولون.

فقد فكر الفضل بن الربيع — بعد مقدمه من العراق على محمد — أن ينكث بالعهود التي أخذها عليه الرشيد لابنه المأمون.

قالوا: وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يومًا — وهو حي — لم يبق عليه وكان في ظفره به عطبة.

فسعى في إغراء محمد به وحثه على خلعه وصرف ولاية العهد به من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه الوفاء لأخويه عبد الله والقاسم.

قالوا: فلم يزل الفضل يصغر — في عينيه — شأن المأمون ويزين له خلعه.

•••

وهكذا بدأ الأمين أخويه بالغدر.

فعزل أخاه القاسم عما وليه من الأعمال وأقدمه إلى بغداد وكتب إلى عماله بالدعاء لابنه موسى. فعلم المأمون أن أخاه يدبر في خلعه، فقطع البريد عنه.

وانضم قوم إلى المأمون فأكرم وفادتهم وأعد عدته لمناضلة أخيه، وبث العيون والأرصاد وعرف كيف يحصن مواقعه ويحتاط للطوارئ.٦

•••

وقد قال أحد شعراء بغداد قصيدة يندد فيها بالأمين ويذكر فيها تشاغله فيه بلهوه وبطانته وركونه إلى الفضل بن الربيع.

أضاع الخلافة غش الوزير
وفسق الإمام وجهل المشير
ففضل وزير وبكر مشير
يريدان ما فيه حتف الأمير
إلى آخر هذه القصيدة التي لا نسمح لأنفسنا بإثباتها في هذا المقام لما فيها من شناعة التعبير.٧

(٨-٣) علي بن عيسى

أما «علي بن عيسى» فقد عرف كيف يفسر لنا قول صالح بن عبد القدوس:

ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه

فقد كان الظفر له محققًا لولا استسلامه للغرور والحمق واستهانته بأمر طاهر، ولم يكن يرتاب أحد في انتصاره، ولكن للقدر تصاريف عجيبة.

ألا ترى إلى «أم جعفر» تعتقد أن أمر المأمون قد انتهى وتتمثل هزيمته كأنها أمر واقع لا سبيل إلى تلافيه، فتشفق من مصيره، وتوصي «علي بن عيسى» الذي عقد له الأمين على خمسين ألف فارس وراجل من أهل بغداد لمحاربة المأمون فتقول له: «يا علي، إن أمير المؤمنين — وإن كان ولدي — إليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطان.»

ثم تقول: «فاعرف لعبد الله حق والده وإخوته ولا تجبهه بالكلام — فإنك لست نظيره — ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غل ولا تمنع منه جارية ولا خادم. ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير. ولا تركب قبله ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده.»

قالوا: ثم دفعت إليه قيدًا من فضة وقالت: «إن صار في يدك فقيده بهذا القيد.» فقال لها: «سأقبل أمرك وأعمل في ذلك بطاعتك.»

وهكذا يذهب صاحبنا وهو يحسب أنه قد أسر طاهرًا أو كاد، ويبدي من صنوف الغرور ما لا قبل لإنسان بوصفه.

فقد كان يقال له: إن طاهرًا مقيم بالري يعرض أصحابه ويرم آلته.

فيضحك ثم يقول: «وما طاهر؟ فوالله ما هو إلا شوكة من أغصاني أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولى على الجيوش ويلقى الحروب؟»

ثم يلتفت إلى أصحابه قائلًا: «والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلا أن يبلغه عبورنا «عقبة همذان»، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأعنة الرماح.»

•••

فإذا وصل «علي بن عيسى» إلى «عقبة همذان» استقبل قافلة قدمت من «خراسان» فسألهم عن الخبر فقالوا له: «إن طاهرًا مقيم بالري وقد استعد للقتال واتخذ آلة الحرب وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور، وإنه في كل يوم يعظم أمره ويكثر أصحابه وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان.»

فلا يكاد يسمع منهم ذلك حتى يهزأ بأقوالهم ويبدي لهم كل ما يستطيع أن يبديه من صنوف الاحتقار لطاهر وقوته، وإذا بلغ الري وقال له صاحب مقدمته: «لو كنت أذكيت العيون وبعثت الطلائع، وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتخذ خندقا لأصحابك يأمنون به كان ذلك أبلغ في الرأي وآنس للجند.»

أجابه صاحبنا هازئًا: «ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ، إن حال طاهر تئول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبهته أهلها فيكفونا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعًا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه وأتاه يحيى بن علي.»

ويقول له صاحب مقدمته: «اجمع متفرق العسكر واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم، فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار، والثقة أن تحترز، ولا تقل: «المحارب لي طاهر» فالشرارة الخفية ربما صارت ضرامًا، والثلمة من السيل — ربما اغتر بها وتهون — فصارت بحرًا عظيمًا. وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه في الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا.»

فيجيبه صاحبنا على هذه النصيحة الثمينة المملوءة حكمة وتعقلًا وإخلاصًا، بقوله الطائش المغرور: «اسكت فإن طاهرًا ليس في هذا الموضع الذي ترى، وإنما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها.»

•••

وهكذا يمعن صاحبنا في غروره وصلفه واعتداده بنفسه بينما عدوه «طاهر» لا يترك وسيلة من وسائل الحيطة وإحكام الدفاع وترتيب الخطط إلا سلكها، ويأبى القدر إلا أن يعيد لنا حكاية الأرنب والسلحفاة الشهيرة حين تراهنا على السباق إلى غاية، وأهمل الأرنب اعتمادا على قوته، وجدت السلحفاة لتعوض من ضعفها ففازت عليه وسبقته.٨

وقد كان من نتائج هذه المعركة أن قوي بأس المأمون وعز مركزه وتكاثرت عليه وفود المهنئين.

وقد أعلن في ذلك اليوم خلع أخيه ودعا لنفسه بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها.

وأرجف الناس ببغداد وضعف مركز الأمين، وندم أشد الندم على محاربة أخيه وما بدأه به من الغدر.

وعرف قواد الأمين أنه شديد الحاجة إلى اصطناع الرجال فاتفقوا مع الجند على إحداث الشغب ليصطنعهم بالمال، ولا يكاد الجند يشتبكون مع جنود القصر حتى يكفهم الأمين ويأمر لهم بما طلبوه من الأرزاق ويصل قوادهم وخواصهم بما يشتهون، فتكون هذه فاتحة الثورات العديدة التي جلبتها هذه الهزيمة الشنعاء.

(٨-٤) شجاعة طاهر

أما شجاعة طاهر فقد كانت تتمثل في كل مواقفه المشرفة التي تجلت في هذه الحروب الطاحنة، فقد كان يشرف على كل شأن — جل أو حقر — من شئون جيشه، ويتعرف كيف يستميل إليه جنوده ويغري جنود الأعداء بالانضمام إليه.

وكان طاهر لا تلوح له فرصة إلا أسرع إلى انتهازها، وقد رأيت ما أبداه من صنوف الحزم في حربه مع «علي بن عيسى» وليست هذه العجالة بموفية شيئًا من مواهبه وميزاته الباهرة.

(٨-٥) نكبة بغداد

ولا يسعنا أن نختم هذه الكلمة دون أن نشير إلى نكبة بغداد — التي اقترنت بمصرع الأمين — فقد لقي أهلها من صنوف العذاب ما لا قبل لإنسان باحتماله، ونحن ندع الوصف إلى شعرائها الذين شهدوا ما حل بها ورأوا بأعينهم ما أصاب أهلها من الروع والفزع.

فمن ذلك قول بعض فتيان بغداد:

بكيت دمًا على بغداد لما
فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا همومًا من سرور
ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتها — من الحساد — عين
فأفنت أهلها بالمنجنيق
فقوم أحرقوا بالنار قسرًا
ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي «واصباحا»
وباكية لفقدان الشقيق
وحوراء المدامع ذات دل
مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهاب
ووالدها يفر إلى الحريق
ينادين: «الشفيق» — ولا شفيق —
وقد فقد الشفيق من الشفيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا
متاعهم يباع بكل سوق
ومغترب قريب الدار ملقى
— بلا رأس — بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعًا
فما يدرون من أي الفريق
فلا ولد يقيم على أبيه
وقد هرب الصديق بلا صديق

ومن ذلك قول «العتري».

من ذا أصابك يا بغداد بالعين
ألم تكوني — زمانًا — قرة العين؟
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زينًا من الزين؟
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا
ماذا لقيت بهم من لوعة البين؟
أستودع الله قومًا ما ذكرتهم
إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا، ففرقهم دهر وصدعهم،
والدهر يصدع ما بين الفريقين
وقال آخر٩ في وصف وقعة:١٠
وقعة يوم الأحد
صارت حديث الأبد
كم جسد أبصرته
ملقى، وكم من جسد
وناظر كانت له
منية بالرصد
أتاه سهم عاثر
فشك جوف الكبد
وصائح «يا والدي»
وصائح: «يا ولدي»
وكم غريق سابح
كان متين الجلد
لم يفتقده أحد
غير بنات البلد
وكم فقيد بئس
عز على المفتقد

إلى أن قال:

لم يبق في كهل لهم
فات، ولا من أمرد
و«طاهر» ملتهم
مثل التهام الأسد
خيم لا يبرح في الـ
عرصة مثل اللبد
تقذف عيناه — لدى الـ
حرب — بنار الوقد

•••

فقائل: «قد قتلوا
ألفًا، ولما يزد»
وقائل: «أكثر، بل
ما لهم من عدد»
وهارب نحوهم
يرهب من خوف غد

ثم قال بعد أبيات:

قلت لمطعون وفيـ
ه روحه لم تؤد:
«من أنت يا ويلك يا
مسكين من محمد؟»
فقال: «لا من نسب
دان، ولا من بلد»
لم أره قط ولم
أجد له من صفد»
وقال: «لا للغي قا
تلت، ولا للرشد
إلا لشيء عاجل
يصير منه في يدي»

•••

ولعل أبدع وأحفل قصيدة قرأناها في وصف هذه النكبة المروعة التي حلت ببغداد هي قصيدة «الخزيمي» التي نختتم بها هذا الفصل وهي — على طولها — آية من آيات البلاغة وصدق الشاعرية ودقة الوصف، ونحن نختار منها ما يلي:

جنة دنيا، ودار مغبطة
قل من النائبات واترها
درت خلوف الدنيا لساكنها
وقل معسورها وعاسرها
فانفرجت بالنعيم وانتجعت
فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضة أنف
أشرق — غب القطان — زائرها
من غرة العيش في بلهنية
لو أن دنيا يدوم عامرها

•••

دار ملوك رست قواعدها
فيها، وقرت بها منابرها
أهل العلى والثرى وأندية الفخـ
ر، إذا عددت مفاخرها
أفراخ نعمى في إرث مملكة
شد عراها لها أكابره
فلم يزل — والزمان ذو غير —
يقدح في ملكها أصاغرها
حتى تساقت كأسًا مثملة
من فتنة، لا يقال عاثرها
وافترقت — بعد ألفة — شيعًا
مقطوعة بينها أواصرها
يا هل رأيت الأملاك ما صنعت
إذ لم يزعها بالنصح زاجرها
أو رد أملاكنا نفوسهم
هوة غي أعيت مصادرها
ما ضرها لو وفت بموثقها
واستحكمت — في التقى — بصائرها
ولم تسافك دماء شيعتها
وتبتعل فتنة تكابرها
وأقنعتها الدنيا التي جمعت
لها ورغب النفوس ضائرها

إلى أن يقول:

يا هل رأيت الجنان زاهرة
يروق عين البصير زاهرها؟
وهل رأيت القصور شارعة
تكن مثل الدمى مقاصرها؟
وهل رأيت القرى التي غرس الأم
لاك مخضرة دساكرها؟
فإنها أصبحت خلايا من الإنـ
سان، قد ميت محاجرها
ففرا خلا تعوي الكلاب بها
ينكر منها الرسوم داثرها
وأصبح البؤس ما يفارقها
إلفًا لها والسرور هاجرها

ثم يقول بعد أبيات:

فأين حراسها وحارسها؟
وأين مجبورها وجابرها؟
وأين خصيانها وحشوتها؟
وأين سكانها وعامرها؟
أين الجرادية الصقالب والأحـ
ـبش تعدو هدلًا مشافرها
ينصدع الجند عن مواكبها
تعدو بها سربًا ضوامرها
بالسند والهند والصقالب والنو
بة، شيبت بها برابرها
طيرًا أبابيل أرسلت عبثًا
يقدم سودانها أحامرها؟

•••

أين الظباء الأبكار في روضة المل
ـك تهادي بها غرائرها
أين غضاراتها ولذتها؟
وأين محبورها وحابرها؟
المسك والعنبر اليماني والأذ
جوج مشبوبة مجامرها؟
يرفلن في الخز والمجاسد والمو
شى مخطومة مزامرها
فأين رقاصها وزامرها
يجبن حيث انتهت حناجرها
تكاد أسماعهم تسل إذا عا
رض عيدانها مزامرها؟
أمست «كجوف الحمار» خالية
يسعرها بالجحيم ساعرها
كأنما أصبحت بساحتهم
عاد ومستهم صراصرها؟
لا تعلم النفس ما يبايتها
من حادث الدهر أو يباكرها

إلى أن يقول:

يا بؤس بغداد دار مملكة
دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الدهر، ثم عاقبها
لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبالحر
ب التي أصبحت تساورها
حلت ببغداد — وهي آمنة —
داهية لم تكن تحاذرها
طالعها السوء من مطالعه
وأدركت أهلها جرائرها
رق بها الدين واستخف بذي
الفضل وعز النساك فاجرها
وخطم العبد أنف سيده
بالرغم واستعبدت مخادرها
وصار رب الجيران فاسقهم
وابتز أمر الدروب ذاعرها
من ير بغداد والجنود بها
قد ربقت حولها عساكرها

ثم يقول بعد أبيات:

بحرقها ذا، وذاك يهدمها
ويشتفي بالنهاب شاطرها
والكرخ أسواقها معطلة
يستن عيارها وعائرها
أخرجت الحرب من سواقطها
آساد غيل غلبًا تساورها

•••

لا الرزق تبغي ولا العطاء، ولا
يحشرها للقاء حاشرها

ثم يقول بعد أبيات:

والنهب تعدو به الرجال، وقد
أبدت خلاخيلها حرائرها
معصوصبات وسط الأزقة، قد
أبرزها للعيون ساترها
كل رقود الضحى مخبأة
لم تبد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت
للناس منشورة غدائرها
تعثر في ثوبها، وتعجلها
كبة خيل زيعت حوافرها
تسأل: «أين الطريق؟» والهة
والنار من خلفها تبادرها
لم تجتل الشمس حسن بهجتها
حتى اجتلتها حرب تباشرها

•••

يا هل رأيت الثكلى مولولة
في الطرق تسعى، والجهد باهرها؟
في إثر نعش عليه واحدها
في صدره طعنة يساورها
تنظر في وجهه، وتهتف بالثكـ
ل، وعز الدموع خامرها
غرغر بالنفس، ثم أسلمها
مطلولة، لا يخاف ثائرها

•••

وهل رأيت الفتيان في عرصة
المعـرك معقورة مناخرها؟
كل فتى مانع حقيقته
تشقى بها في الوغى مساعرها
باتت عليه الكلاب تنهشه
مخضوبة من دم أظافرها
أما رأيت الخيول جائلة
بالقوم منكوبة دوائرها
تعثر بالأوجه الحسان من القتـ
لى، وغلت دمًا أشاعرها
يطأن أكباد فتية نجد
تفلق هاماتهم حوافرها

•••

أما رأيت النساء تحت المجانيـ
ق تعادي شعثًا ضفائرها
يحملن قوتًا من الطحين على الأ
كتاف معصوبة معاجرها
وذات عيش ضنك ومقعسة
تشدخها صخرة تعاورها
تسأل عن أهلها، وقد سلبت
وابتز عن رأسها غفائرها

إلى أن يقول:

هل ترجعن أرضنا كما غنيت
وقد تناهت بنا مصائرها

وهكذا إلى آخر هذه القصيدة الرائعة.

هوامش

(١) انظر إلى الأمين — وقد ضيق عليه طاهر الحصار — ونفدت أمواله وأمر بعض خدامه ببيع ما بقي في الخزائن فوجد أصحابه قد انتهبوها ولم يبقوا فيها شيئًا.
ثم طلب الناس الأرزاق فقال متضجرًا: «وددت أن الله قتل الفريقين جميعًا وأراح الناس منهم؛ فما منهم إلا عدو — ممن معنا وممن علينا — أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي.»

•••

وانظر إليه، وقد تفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق، لا يلوي أحد منهم على أحد.
قالوا: «وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب.» ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.
وما زال طاهر يضيق عليه الحصار حتى لم يبق عند الأمين ما يأكله، كما يحدثنا بذلك خادمه الذي نترك له رواية ذلك:

سألني الأمين — ذات يوم من الأيام وهو محصور — أن أطعمه شيئًا، فدخلت المطبخ فلم أجد شيئًا، فجئت إلى جارية فقلت: «إن أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء فإني لم أجد في المطبخ شيئًا.»

فقالت لجارية أخرى: «أي شيء عندك؟»

فجاءت بدجاجة ورغيف فأتيته بهما فأكل.

وطلب ماء يشربه فلم يوجد في خزانة الشراب، فأمسى، وقد كان عزم على لقاء «هرثمة» فما شرب حتى أتى عليه.

(٢) وفي رواية أخرى: «وبينما نحن كذلك إذا هدة تكاد الأرض ترجف فيها، وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت — وكان في الباب ضيق — فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه ثم هجموا عليه فحزوا رأسه.»
(٣) قال الراوي: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت خيفة القتل، ولما كان وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جل وحملوها.
(٤) وكان مصرع الأمين ليلة السبت لست بقين من المحرم سنة ١٩٨هـ وعمره سبعة وعشرون عامًا بعد أن حكم أربع سنين وثمانية أشهر.
ومن أروع ما قرأناه في رثائه قول أبي نواس:
طوى الموت ما بيني وبين محمد
وليس لما تطوي المنية ناشر
فلا وصل إلا عبرة تستديمها
أحاديث نفسي ما لها الدهر ذاكر
لئن عمرت دور بمن لا أوده
لقد عمرت ممن أحب المقابر
وكنت عليه أحذر الموت وحده
فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
ومن أشنع ما قرأناه في الشماتة به — وهو كثير — قول أحد البغداديين:
يا ناكثًا أسلمه نكثه
عيوبه — من خبثه — باديه
قد جاءك الليث بشداته
مستكلبًا في أسد ضاريه
فاهرب — ولا مهرب من مثله —
إلا إلى النار أو الهاويه
(٥) ومن غرائب الأمور أن الأمين أغراه بعد ذلك بالمال حتى وافقه على غدره والنكث بعهده.
(٦) قالوا: «ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر المأمون والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر.»
(٧) انظر ص١٤٣ من تاريخ الطبري (ج١).
(٨) قالوا: «وصبر الفريقان جميعًا، وعلت ميمنة «علي» على ميسرة «طاهر» ففضتها فضًّا منكرًا. وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها.»
وهنا قال طاهر لأصحابه: اجعلوا بأسكم على كراديس القلب فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها إلى أواخرها.»
قالوا: «فصبر أصحابه صبرًا صادقًا، ثم حملوا على أولى رايات القلب فهزموهم وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات — بعضها على بعض — وانتقضت ميمنة علي.
ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه فرجعوا على من كان في وجوههم فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى «علي» فجعل ينادي أصحابه، ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله ووضعوا السيف فيهم حتى هزموهم.»
(٩) هو عمرو بن عبد الملك.
(١٠) وقعة بالكناسة باشرها طاهر بنفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤