مصرع المتوكل

ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم، أخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين وأخذ في الشراب واللهو، ولهج يقول: «أنا والله مفارقكم عن قليل!

الطبري
لا أذكر مصرع المتوكل١ دون أن أتمثل معه سوء التصرف، والإسراف في الحذر وسوء الظن وما جناه ذلك عليه من البوار والتلف.

لقد جنى المتوكل على نفسه، وأمعن في الإساءة إلى ابنه المنتصر، ولم يدع فرصة للزراية عليه والتهكم به إلا انتهزها!

لقد أحس قلبه أن مصرعه سيكون على يد ابنه وفلذة كبده، ونما فيه هذا الإحساس حتى أصبح يقينًا.

وللنفس أحوال تظل كأنها
تشاهد فيها كل غيب سيشهد

وثم أصبح لا يطيق رؤية هذا الولد العاق الذي لا يراه إلا تمثل فيه شبح الجلاد!

وهكذا صدق المثل القائل: إن من خشي العفريت لم يلبث أن يراه.

شعر المتوكل أن ابنه المنتصر هو قاتله، ومثل اسمه في ذهنه «المنتظر» فأصبح لا يناديه بغير هذا اللقب، وكثيرًا ما قرعه وأهانه وسلط عليه من يؤذيه ويصفعه من أتباعه، وربما صارحه بما يجنه لهذا الابن من الاحتقار والمقت، وربما قال له إنه لا يطيق أن يرى أمامه قاتلًا يتربص الفتك به، وما أكثر ما استفزه وأمعن في إيلامه امعانًا.

قالوا: وكان يقول له: أنت تتمنى موتي وتنتظر وقتي!

ثم يأمر الندمان أن يعبثوا به.

(١) أسباب الخلاف والكره

قال ابن خلدون:
  • (١)

    كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر، ثم ندم وأبغضه، لما كان يتوهم منه استعجاله الأمر لنفسه. وكان يسميه «المنتظر» «والمستعجل» لذلك.

  • (٢)

    وكان المنتصر ينكر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال والتشيع لعلي! وربما كان الندمان في مجلسه يفيضون في ثلب علي! فينكر المنتصر ذلك ويتهددهم ويقول للمتوكل: «إن عليًّا هو كبير بيتنا، وشيخ بني هاشم، فإن كنت لا بد ثالبه، فتول ذلك بنفسك، ولا تجعل لهؤلاء سبيلًا إلى ذلك!»

  • (٣)

    فيستخف به ويشتمه، ويأمر وزيره «عبيد الله» بصفعه، ويتهدده بالقتل، ويصرح بخلعه.

  • (٤)

    قالوا: وربما استخلف غيره في الصلاة والخطبة مرارًا، وتركه! فطوى من ذلك على النكث.

(٢) نتائج الحقد

وكأنما كان يوحي إليه — بمثل هذه الأعمال — أن يحقق هذه النبوءة المروعة، ويرسم له — بما يأتيه من تلك الحماقات المتوالية — خطة ممهدة واضحة السبيل للفتك به، بعد أن أثبت في روعه أن حينه لن يكون إلا على يديه. وقد أفلح المتوكل في ذلك، وانتهى به الأمر إلى إيغار صدره، وإثارته لمناوأته والفتك به.

(٣) الليلة الأخيرة

جاءت ليلة الأربعاء (٣ شوال سنة ٢٤٧هـ) وكان المتوكل يشرب مع الفتح٢ في قصره المعروف بالجعفري، ومعه جماعة من الندماء والمغنين.
قالوا: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم، وقد أخذ مجلسه،٣ ودعا بالندماء والمغنين، وأخذ في الشراب واللهو ولهج يقول: «أنا والله مفارقكم عن قليل.»

(٤) كيف صرع

بعد العتمة بساعة أغلقت الأبواب كلها، إلا باب الماء — الذي دخل منه القتلة — وكان المتوكل حينئذ ثملًا!

وجاء غلام تركي اسمه «باغر» فضرب المتوكل ضربة، قطع بها حبل عاتقه!

(٥) وفاء صديقين

وليس يسعنا أن نمر بهذا الموضوع دون أن يطيف بخاطرنا ثلاثة أمور: إخلاص الفتح بن خاقان في هذه الساعة الحرجة. ووفاء البحتري له وفاء أذهله عن كل احتياط، وكاد يكون سببًا في إهلاكه. وعقوق ابنه المنتصر، الذي اشترك في قتل أبيه؛ فأما الفتح بن خاقان فإنه أسرع إلى سيده حين رآه مضرجًا بدمائه، ورمى بنفسه عليه، وقال: «ويلكم تقتلون أمير المؤمنين؟» فبعجوه بسيوفهم فقتلوه!

وأما البحتري، فرثاه بقصيدته الخالدة التي نعدها من أروع ما قرأناه في الرثاء، ونرى فيها مثلًا من أعلى أمثلة الإخلاص والوفاء وقد ختمنا بها هذا الفصل، وأما المنتصر، فإن مدته في الخلافة لم تطل. ولم تزد على ستة أشهر.

قالوا: «وهي مدة شيرويه بن كسرى بعد أن قتل أباه!»

(٦) قصيدة البحتري

وإلى القارئ قصيدة البحتري الفذة، التي صرح فيها — كما يقول الثعالبي — تصريح من أذهلته المصائب عن تخوف العواقب، قال:

تَغَيّرَ حُسْنُ الجَعْفَرِيّ وأُنْسُهُ
وَقُوّضَ بَادي الجَعْفَرِيّ وَحَاضِرُهْ
تَحَمّلْ عَنْهُ سَاكِنُوهُ فُجَاءَةً
فَآضَتْ سَوَاءً دُورُهُ، وَمَقَابِرُهْ
وَلم أر مثل القصرِ إذ رِيعَ سرْبُهُ
وإذْ ذُعِرَتْ أطْلاَؤهُ وَجَآذِرُهْ
وإذْ صِيحَ فيهِ بالرّحِيلِ فهُتّكَتْ
عَلى عَجَلٍ أسْتَارُهُ وَسَتَائِرُهْ
إذا نَحْنُ زُرْنَاهُ أجَدّ لَنَا الأسَى
وَقَد كَانَ قَبلَ اليَوْمِ يُبهَجُ زَائِرُهْ
فأينَ عَمِيدُ النّاسِ في كلّ نَوْبَةٍ
تَنُوبُ وَنَاهي الدّهرِ فيهِمْ وآمرُه؟
تَخَفّى لَهُ مُغْتَالُهُ تَحتَ غِرّةٍ
وَأوْلَى لِمَنْ يَغْتَالُهُ لَوْ يُجَاهِرُهْ
صريع تقاضاه السيوف حشاشة
يجود بها، والموت حمر أظافره

•••

حرام على الراح — بعدك — أو أرى
دمًا بدم يجري على الأرض مائره
وهل يرتجى أن يطلب الدم طالب
مدى الدهر والموتور بالدم واتره
فلا مُلِّيَ الباقي تراث الذي مضى
ولا حملت ذاك الدعاء منابره!

هوامش

(١) كان المتوكل أسمر، نحيفًا، حسن العينين، خفيف العارضين، هذه هي صورته التي ذكرها لنا التاريخ.
وقد ولي الخلافة وهو في السادسة والعشرين من عمره سنة ٣٢٣ ومات وهو ابن أربعين عامًا، فهو قد مكث في الخلافة نحو أربعة عشر عامًا وعشرة أشهر.
ومما يجدر ذكره هنا أنه عقد البيعة لبنيه الثلاثة بعد ثلاثة أعوام من ولايته فولى:
  • (١)

    المنتصر: العراق والحجاز واليمن.

  • (٢)

    المعتز: خراسان والري.

  • (٣)

    المؤيد: الشام.

ومن أظهر ما فعله، أنه أمر بهدم قبر الحسين بن علي، وأمر أن يبذر ويسقى موضعه ومنع الناس من إتيانه.
(٢) هو الفتح بن خاقان.
(٣) كان المتوكل — إذ ذاك — في سُرَّ مَنْ رأي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤