البجع البريُّ

حذرتني فلو من تجار الرقيق الأبيض، وأوضحت لي كيفية عملهم؛ وهي أن تتعرف عليك امرأة عجوز أشبه بالأم أو الجَدَّة أثناء جلوسها بجوارك في الحافلة أو القطار، ثم تُقدِّم لك حلوى بها مُخدِّر، وسرعان ما تصابين بالوهن وتبدَئِين في الدمدمة بحيث لا تتمكنين من التحدُّث للتعبير عمَّا بكِ. وفي تلك اللحظة، تصيح المرأة مُدَّعِيَةً أن ابنتها (أو حفيدتها) مريضة، وطالبةً المساعدة في إنزالها من المركبة لتستعيد عافيتها في الهواء الطلق. فيقف رجل مهذب عارضًا المساعدة ومتظاهرًا بأنه لا يعرف تلك المرأة. وفي المحطة التالية، يدفعانك كلاهما بقوة لإنزالك من الحافلة أو القطار، وتكون تلك المرة الأخيرة التي ترين فيها العالم المألوف لك. يُبقِيكِ الخاطفون سجينة في المكان الذي يعيش فيه الرقيق الأبيض (الذي تُنقَلين إليه مُخدَّرة ومُقيَّدة على نحوٍ يَحُولُ دون معرفتك بالمكان الذي توجدين فيه) حتى تصلي إلى مرحلة تعانين فيها من المهانة واليأس التام، ويتمزق فيها جسدك إثر اعتداء الرجال المخمورين عليكِ، وتتعرضين للأمراض الكريهة، ويتلف عقلك بالمخدِّرات، ويتساقط شعرك وأسنانك. يستغرق الأمر ثلاث سنوات حتى تصلي إلى هذه الحالة؛ فلا ترغبين في العودة للمنزل، وربما لا تتمكنين من تذكُّره أو الوصول إليه. عندئذٍ، يدفع بكِ الخاطفون إلى الشوارع.

أمسكتْ فلو بعشرة دولارات، ووضعتها في محفظة صغيرة مصنوعة من القماش كانت قد ثبَّتتها بالحياكة في شريط قميص روز الداخلي؛ فمن الأمور الأخرى التي قد تتعرض لها روز سرقة محفظتها.

حذرتني فلو كذلك ممن يرتدون ملابس رجال الدين؛ فهم الأسوأ على الإطلاق، وقد اعتاد تجار الرقيق الأبيض والسارقون استخدام هذا النوع من التنكُّر.

قالت روز إنها لا تعرف كيف يمكنها تمييز الشخصيات المتنكِّرة.

عملت فلو في تورونتو في السابق نادلةً في أحد المقاهي بمحطة قطار «يونيون ستيشن»، ومن هنا استقت كل معرفتها. لم ترَ أثناء عملها ضوءَ الشمس قَطُّ سوى أيام الإجازات، لكنها رأت أشياء أخرى كثيرة. رأت رجلًا يبقُر بطن آخر بسكين، ثم يهندم قميصه، ويذهب لقَصِّ شعره، كما لو كان ما شقَّه بطيخة وليس بطنًا. والمجني عليه مستلقٍ على الأرض ناظرًا لأعلى مندهشًا، ولم يُسعفه الوقت للاعتراض. وأشارت فلو إلى أن ذلك لم يكن شيئًا يُذكَر في تورونتو. كما رأت كذلك امرأتين سيئتي السمعة (هكذا كانت تصف فلو العاهرات) تتعاركان، ورجلًا يضحك ساخرًا منهما، ورجالًا آخرين يتوقفون ويضحكون ويشجعونهما أثناء إمساك كلٍّ منهما بشعر الأخرى في يديها. وأخيرًا، وصلت الشرطة، وألقت القبض عليهما، وهما لا تَكُفَّانِ عن الصراخ والعواء.

رأت فلو أيضًا طفلًا يُحْتَضَرُ إثر إصابته بنوبة مرضية، وقد استحال لون وجهه أسودَ كالحبر.

قالت روز على نحو استفزازي: «حسنًا، أنا لست خائفة. ففي النهاية هناك شُرطة.»

«نعم، الشُّرطة! إنهم أول مَن سيحاول الاعتداء عليكِ!»

اعتادت روز عدم تصديق أي شيء تذكره فلو عن موضوع الجنس، ومن ذلك على سبيل المثال موضوع الحانوتي.

كان رجلًا أصلع قصير القامة ذا مظهر أنيق للغاية يتردد أحيانًا على المتجر ويتحدث مع فلو على نحو استرضائي.

«لا أريد سوى كيسٍ من الحلوى، وربما بعض العلكة، وقطعة شوكولاتة أو اثنتين. هل يمكنكِ لفُّها من أجلي، من فضلك؟»

كانت فلو تؤكد له بلهجتها الموحِية زيفًا بالاحترام أنها يمكنها ذلك. وكانت تلفُّ المشتريات في ورق أبيض متينٍ لتبدو كالهدايا. كان الرجل يتأنَّى في اختياره لما يشتريه، مدندنًا ومتبادلًا أطراف الحديث، ثم يبدِّد بعض الوقت سُدًى. فيسأل فلو أحيانًا عن حالها، ويسأل روز أيضًا عن حالها إذا كانت موجودة.

فكان يقول لروز مثلًا: «تَبدين شاحبة. الفتيات الصغيرات بحاجة لبعض الهواء المنعش.» في حين كان يقول لفلو شيئًا من قبيل: «إنك تبذُلين جهدًا بالغًا في العمل، وفعلتِ ذلك طوال حياتك.»

وكانت فلو ترد عليه متفقةً معه: «لا راحة للأشرار.»

وعندما كان يغادر المتجر، كانت فلو تركض نحو النافذة لتنظر إلى الخارج حيث تقف عربة نقل الموتى القديمة سوداء اللون ذات الستائر الأرجوانية.

وعندما كانت العربة تسير مبتعدة بتؤدة كخطى الجنائز، كانت فلو تقول: «سوف يذهب لملاحقتهن اليوم!» كان هذا الرجل القصير يعمل حانوتيًّا، لكنه كان قد تقاعد آنذاك، والعربة أيضًا لم تعُد تُستخدَم في نقل الموتى. فتولى أبناؤه العمل، واشترَوْا عربة جديدة، في حين ظل هو يقود العربة القديمة متجولًا في أنحاء البلدة بحثًا عن النساء. هكذا قالت فلو، لكن روز لم تصدقها. وأضافت فلو أنه كان يعطي أولئك النساء العلكة والحلوى. فتقول لها روز إنه ربما كان يأكلها بنفسه، فترد فلو بأنه قد شوهِد وسُمِع أثناء فعله ذلك. وعندما يكون الطقس معتدلًا، كان يقود العربة والنوافذ مفتوحة، ويشرع في الغناء لنفسه أو لشخص آخر غير واضح للعِيان في الخلف:

جبينها أبيض كالثلج.
عنقها جميل كالبجعة.

قلَّدته فلو في غنائه. وأثناء سيره، كان يباغت برِقَّة أية سيدة تسير في طريق خلفي، أو تستريح عند مفترق طرق. وبعد المجاملة والملاطفة وتقديم الشوكولاتة، يعرض عليها توصيلها. بالطبع، أية امرأة عُرف أنه طلب منها ذلك كانت تقول إنها رفضت طلبه. لم يكن يزعج أيًّا منهن، ويمضي بسيارته بتهذُّب. كان يزور المنازل، وعندما يكون الزوج في المنزل، كان يجلس ويتبادل أطراف الحديث كعادته. وحكت الزوجات أنه لم يفعل سوى ذلك، لكن فلو لم تصدق ذلك.

قالت فلو: «بعض النساء وقعن في شَركِه … عدد منهن فعل.» أحبَّت فلو كذلك التكهُّن بشكل العربة من الداخل. كانت مبطَّنة بالقطيفة … الجدران والسقف والأرضية كلها مبطنة بالقطيفة. ولون الستائر أرجواني فاتح كلون زهر الليلك الداكن.

كلام فارغ! هكذا اعتقدت روز. مَن يمكنه تصديق ذلك عن رجل في مثل هذه السن؟

•••

كانت روز ذاهبة إلى تورونتو بالقطار للمرة الأولى في حياتها بمفردها. سبق لها زيارة تورونتو مرة واحدة من قبلُ، لكن برفقة فلو، وكان ذلك قبل وفاة والدها بفترة طويلة. أخذت فلو وروز معهما الشطائر الخاصة بهما، واشترتا حليبًا من البائع في القطار. كان مذاقه حامضًا؛ حليب حامض بالشوكولاتة. أخذت روز ترتشف رشفات صغيرة منه، رافضةً الاعتراف بعدم رضاها عن شيء كانت ترغب فيه بهذا القدر. أما فلو، فشمَّته، ثم أخذت تبحث بكافة أرجاء القطار إلى أن وصلت إلى الرجل العجوز ذي السترة الحمراء الذي يخلو فمه من الأسنان، والصينية معلَّقة حول عنقه. طلبت منه تذوُّق الحليب بالشوكولاتة، ومن الأشخاص المجاورين شمَّه، فأعطاها بعضًا من جَعَّة الزنجبيل بلا مقابل، وكانت دافئة بعض الشيء.

بعد أن رحل الرجل، قالت فلو وهي تنظر حولها: «ينبغي عليَّ إعلامه بخطئه. ينبغي عليكم جميعًا إعلام أمثاله بأخطائهم.»

وافقتها إحدى السيدات في الرأي، لكن أغلب الركاب أشاحوا بوجوههم للنظر من النوافذ. شربت روز جعة الزنجبيل الدافئة، لكنها تقيَّأت في دورة مياه القطار، سواء أكان السبب في ذلك هو الجعة، أم ما حدث مع البائع، أم المحادثة التي دارت بين فلو والسيدة التي وافقتها الرأي وسؤال الأخيرة حول المكان الذي أتت منه روز وفلو، وسبب ذهابهما إلى تورونتو، والإمساك الذي أصاب روز صباحًا ممَّا تسبب في شحوبها، أم الكمية الصغيرة من الحليب بالشوكولاتة الذي دخل معدتها. وظلت طوال اليوم خائفة من أن يَشُمَّ الناس رائحة القيء على معطفها.

بدأت فلو الرحلة هذه المرة بقولها لمُحَصِّلِ التذاكر: «أرجو أن تشملها بعنايتك؛ فهي لم تبتعد عن المنزل من قبلُ!» ثم نظرت حولها وضحكت لتوضح أن ما قالته كان مزاحًا. تَوَجَّبَ عليها، بعد ذلك، النزول من القطار. بدا على محصِّل التذاكر أنه لم يكن بحاجة إلى أي مزاح، شأنه شأن روز، ولم تكن لديه أية نية لأن يشمل أيَّ أحد بعنايته. فلم يتحدث مع روز إلا عندما طلب تذكرتها. جلست روز بجوار النافذة، وسرعان ما شعرت بسعادة غامرة؛ إذ أدركت أن فلو — وهانراتي الغربية — تبتعدان عنها، وتخلَّصت من إنهاكها بسهولة تُماثِل سهولة تخلُّصها من أي شيء آخر. كانت تحب المدن التي لا تعرفها. رأت سيدة تقف بباب منزلها الخلفي مرتديةً رداء النوم غير عابئة برؤية كلِّ مَن في القطار لها. كان القطار متوجهًا جنوبًا مبتعدًا عن منطقة الحزام الثلجي ومُقبِلًا على ربيع مبكِّر ومناظر طبيعية أكثر رقةً حيث يستطيع الناس زراعة أشجار الخوخ بالفِناء الخلفي لمنازلهم.

استجمعت روز في ذهنها كل الأشياء التي ستبحث عنها في تورونتو؛ أولًا: أشياء من أجل فلو، جوارب خاصة لدوالي الساقين، نوع خاص من الغراء للصق مقابض الأوعية، ومجموعة كاملة من لعبة الدومينو.

أما فيما يتعلق بالأشياء التي رغبت فيها لنفسها، فقد أرادت شراء مزيل للشعر لاستخدامه على ذراعيها وساقيها، وإن أمكن بعض بطانة الملابس القابلة للنفخ التي تهدف للتقليل من حجم الأرداف والفخذين. فكَّرت في احتمال وجود مزيل الشعر في الصيدلية في هانراتي، لكن السيدة التي تعمل فيها كانت صديقة فلو، وكانت تروي لها كل شيء؛ فروت لها من قبلُ عمَّن اشترى صبغة شعر ودواء تخسيس وواقيًا ذكريًّا. أما فيما يتعلق بالبطانة، فكان بوسعها طلب إرسالها إليها، لكن من المؤكد أنه سيكون هناك تعليق في مكتب البريد على ذلك، وكانت فلو تعرف بعض الأشخاص هناك أيضًا. خططت روز كذلك لشراء بعض الأساور وسترة صوفية ذات وبر، وأملت في العثور على أساور فضية اللون وسترة صوفية ذات وبر بلون أزرق فاتح. اعتقدت أن هذه الأشياء ستبدِّل من حالها، وتمنحها قوامًا رشيقًا، وتُصلح التجعد في شعرها، وتجفِّف إبطيها، وتمنح بشرتها مظهرًا براقًا.

حصلت روز على المال اللازم لشراء هذه الأشياء، وللقيام بتلك الرحلة، من خلال جائزة كانت قد فازت بها لكتابتها مقالًا بعنوان «الفن والعلم في عالم الغد». أدهشها آنذاك طلب فلو منها قراءة المقال لها. وبينما كانت تقرؤه، علَّقت فلو بأنهم منحوا روز الجائزة بالتأكيد لالتهامها القاموس، ثم استطردت خجلًا: «إنه مقال مثير للغاية.»

كانت روز ستقضي الليلة في منزل سيلا ماكيني، وهي إحدى قريبات والدها. تزوجت سيلا من مدير أحد الفنادق، واعتقدت أنها قد عَلَا شأنها، لكن زوجها عاد إلى المنزل ذات يوم، وجلس على أرضية غرفة تناول الطعام بين كرسيين، وقال: «لن أغادر هذا المنزل بعد اليوم.» ما من شيء غير طبيعي حدث، لكنه قرَّر فحسب عدم الخروج من المنزل أبدًا مرة أخرى، وهو ما فعله بالفعل، حتى توفي. تسبَّب ذلك في أن أصبحت سيلا غريبة الأطوار وعصبية؛ فكانت تغلق الأبواب عليها في الساعة الثامنة. هذا فضلًا عن بخلها الشديد؛ فكان العشاء لديها عادةً عصيدة الشوفان بالزبيب. كان منزلها مظلمًا وضيقًا وتفوح منه رائحة تشبه رائحة المصرف.

أخذ القطار يمتلئ بالركاب، وعند وصوله إلى برانتفورد، استأذن رجل روز في الجلوس بجانبها.

قال لها: «الجو بالخارج أكثر بردًا مما تتخيلين.» عرض عليها جزءًا من جريدته، لكنها رفضت شاكرةً إياه.

وخشيةً منها أن تبدو وقحة في نظره، قالت له بعد ذلك إن الجو بارد بالفعل، وواصلت النظر من النافذة مستمتعة بالصباح الربيعي. لم تعُد هناك أية ثلوج في المكان الذي كان يمر به القطار. وبدا لحاء الأشجار والأجمة أفتح لونًا من الأشجار والأجمة الموجودة في بلدتها. حتى ضوء الشمس بَدَا مختلفًا؛ فكان مختلفًا كاختلاف ساحل البحر الأبيض المتوسط أو أودية كاليفورنيا.

قال الرجل الجالس بجوارها: «نوافذ متسخة، ألا تعتقدين أنه ينبغي عليهم إيلاؤها قدرًا أكبر من الاهتمام؟ هل تسافرين كثيرًا بالقطار؟»

فأجابت بالنفي.

كانت هناك مياه في الحقول، فأشار الرجل برأسه إليها وقال إنها كثيرة ذلك العام.

«ثلوج غزيرة.»

لاحظت روز رُقي لغته واختياره للكلمات، على عكس أهل بلدتها.

«لقد مررتُ بتجربة استثنائية في أحد الأيام الماضية. كنت أقود سيارتي في الريف متوجهًا لرؤية سيدة تابعة للأبرشية تعاني من مرض بالقلب …»

فنظرت روز سريعًا إلى ياقة قميصه، فوجدته يرتدي قميصًا عاديًّا وربطة عنق وبذلة كحلية اللون.

قال لها: «نعم، أنا قس بالكنيسة المتحدة، لكنني لا أرتدي دومًا زي القساوسة؛ فلا أرتديه إلا عند إلقاء العظات في الكنيسة، وأنا اليوم في إجازة.»

ثم استطرد ما كان يرويه: «وبينما كنت أقود السيارة في الريف، رأيت بعض الأوز الكندي يسبح في إحدى البرك، ودققت النظر، فوجدت بعض البجع يسبح معه أيضًا؛ كان سربًا كاملًا وكبيرًا من البجع. كم كان منظرًا رائعًا! أظن أن تلك الطيور كانت مهاجرة هجرتها المعتادة نحو الشمال في فصل الربيع. منظر خلاب حقًّا لم أَرَ مثله قط في حياتي!»

لم تستحسن روز فكرة التحدُّث عن البجع البري؛ إذ خشيت أن تتحول المناقشة من الحديث عن البجع إلى الحديث عن الطبيعة بوجه عام، ثم عن الرب، على النحو الذي يَشعر أي رجل دين أنه مُلزم به. لكنه لم يتحدث عن تلك الأمور، واكتفى بالبجع.

«منظر غاية في الجمال. لو أنكِ كنتِ هناك لاستمتعتِ به حقًّا.»

تراوح عمر ذلك الرجل بين الخمسين والستين؛ هكذا ظنت روز. كان قصير القامة، وذا مظهر مُفْعَمٍ بالنشاط، ووجه مربع متورِّد، وشعر رمادي لامع ومتموج مصفَّف بدءًا من جبهته. وعندما أدركت روز أنه لن يتحدث عن الرب، شعرت بضرورة تعبيرها عن تقديرها لذلك.

فقالت إنه لا بد وأن ذلك البجع كان جميلًا.

«لم تكن حتى بِركة عادية، وإنما مجرد بعض الماء تجمَّع وسط أحد الحقول. وكان تجمُّع الماء في ذلك المكان، ونزول الطيور فيه، ومروري بالسيارة في الوقت المناسب، كل ذلك محض صدفة؛ صدفة بحتة. أعتقد أن تلك الطيور قد أتت من الطرف الشرقي لبحيرة إيري، لكن لم يحالفني الحظ أبدًا في رؤيتها من قبلُ.»

استدارت روز بعض الشيء نحو النافذة، وعاد هو إلى جريدته. ظلت مبتسمة بعض الوقت لكي لا تبدو وقحة أو رافضة للمحادثة برُمَّتِها. كان الطقس باردًا حقًّا ذلك الصباح، فأنزلت معطفها عن الخُطَّاف الذي علَّقته عليه عند صعودها على متن القطار، وفرشته عليها كغطاء يدفئ الساقين، ووضعت حقيبة يدها على الأرض عندما جلس رجل الدين بجانبها لتُفسح له مكانًا. أما هو، فقد فصل أقسام الجريدة بعضها عن بعض، وأخذ يهزها لتُصدر حفيفًا على نحو متمهل وبه تباهٍ. وبدا لروز أنه من نوعية الأشخاص الذين يفعلون كل شيء بأسلوب متباهٍ؛ أسلوب كهنوتي. أزاح الرجل جانبًا الأقسام التي لا يرغب في قراءتها آنذاك، فلمس طرف الجريدة ساق روز عند حافة معطفها بالضبط.

ظلت روز معتقدة لبعض الوقت أن ما لمس ساقها هو الجريدة، لكنها تساءلت بعد ذلك: ماذا إن كانت يدٌ هي التي لمست ساقها؟ كانت هذه هي الأمور التي يمكنها تخيُّلها؛ فكانت تنظر أحيانًا إلى أيدي الرجال، والشعر يغطي سواعدهم كالزَّغَب، ووجوههم التي يبدو عليها التركيز، وكانت تفكر في كل شيء يمكنهم فعله، حتى الأمور الحمقاء. ومن بين هؤلاء البائع الذي كان يجلب الخبز بعربته إلى متجر فلو، فكانت تلاحظ أسلوبه الدال على النضوج والثقة، والمزيج المستقر بين الخفة والانتباه في التعامُل مع عربة الخبز. ولم تكن ثنية بطنه المرتفعة فوق الحزام لتزعجها. وفي مرة أخرى، لاحظت معلِّم اللغة الفرنسية في مدرستها، لم يكن فرنسي الجنسية على الإطلاق، وكان يُدعَى ماكلارين، لكن روز اعتقدت أن تدريس الفرنسية قد أثَّر عليه، وجعله يبدو كالفرنسيين. كان سريع الحركة شاحب البشرة، أكتافه حادة، أنفه معقوف، وعيناه حزينتان. رأت روز أنه قد أخذ يمهِّد طريقه نحو المتع وكأنه الحاكم بأمره في الملذات. تاقت روز توقًا شديدًا للدخول في علاقة مع شخص ما، تاقت لأن تُمارَس معها القوة، وتستمتع، وتشعر بالإنهاك.

ولكن ماذا إذا كانت يدًا؟ ماذا إذا كانت يدًا حقًّا؟ تحولت قليلًا وتحركت ناحية النافذة قدر الإمكان، ظنت أن خيالها هو الذي صوَّر لها هذه الحقيقة، الحقيقة التي لم تكن مستعدة لها على الإطلاق؛ إذ شعرت بالإنزعاج، وأخذت تركز على ساقها، وعلى ذلك الجزء من بشرتها الذي يغطيه الشراب. لم تستطع إرغام نفسها على النظر. هل كان هناك ضغط على ساقها أم لا؟ تحركت ثانيةً. كانت ساقاها متلاصقتين بقوة، وظلَّتا كذلك. لقد كانت يدًا بالفعل، وما كانت تشعر به هو ضغط تلك اليد على ساقها.

«كلا، أرجوك!» كان هذا ما تحاول أن تقوله. صاغت الكلمات في عقلها، وحاولت أن تنطق بها، لكنها لم تستطع. لماذا؟ أهو الإحراج أو الخوف من أن يسمعها الناس؟ كان الناس يحيطون بهما من كل اتجاه؛ فما كان من مقعد فارغ في القطار.

لم يكن ذلك السبب الوحيد.

تمكَّنت روز من النظر له دون رفع رأسها، وإنما التفتت إليه بحذر، فرأت أنه قد أمال مقعده للخلف وأغلق عينيه، وكُمُّ بذلته كحلية اللون مختفٍ تحت الجريدة. كان قد فرد الجريدة بحيث تتداخل مع معطف روز، ومن تحت الجريدة وضع يده عليها كما لو كان قد مدها دون قصد أثناء نومه.

في تلك اللحظة، كان بوسع روز تحريك الجريدة، وإبعاد معطفها. وإن لم يكن نائمًا، سيُضطر لإبعاد يده، وإن كان نائمًا بالفعل ولم يبعدها، فيمكنها أن تهمس له: «من فضلك!» وتضع يده بحزم على ركبته. إلا أن هذا الحل لم يطرأ على ذهنها، رغم وضوحه الشديد ونتيجته المضمونة. لكنها تساءلت بدلًا من ذلك: «ولِمَ لا؟» لم تكن يد رجل الدين — أو بالأحرى لم تكن حتى تلك اللحظة — مُرَحَّبًا بها على جسدها؛ فقد جعلتها تشعر بعدم الارتياح، والامتعاض، والاشمئزاز بعض الشيء، والمحاصرة، والتحفُّظ. لكنها لم تستطع تحمُّل مسئوليتها أو صدها، لم تستطع التأكيد على أنها موجودة بالفعل، بينما بدا هو مصرًّا على عدم وجودها. كيف يمكنها تحميله المسئولية وهو مستلقٍ في ذلك المكان بمظهر واثقٍ لا يوحي بأي أذى لينال قسطًا من الراحة قبل أن يبدأ يومه المشحون بوجه سليم وراضٍ؟ إنه رجل أكبر من والدها — لو كان لا يزال حيًّا — ومؤكد أنه اعتاد على التبجيل والاحترام، شخص يقدِّر الطبيعة، ويستمتع بالبجع البري. كانت موقِنة أنها إذا قالت له: «كلا، أرجوك!» فسوف يتجاهلها، كما لو كان يتجاهل بعض الحماقة أو سوء الأدب من جانبها. علمت أنها عندما ستنطق بهذه الكلمات ستتمنى ألا يسمعها.

بَيْدَ أن ثمة أمرًا آخر تَدخَّل في قرارها؛ ألا وهو الفضول. كان فضولها أكثر قوةً واستبدادًا من أي شهوة. كان هو الشهوة في حَدِّ ذاته، شهوة تدفعك للتراجع والانتظار طويلًا والمخاطرة بأي شيء في الغالب؛ بغية أن ترى ما سيحدث، ما سيحدث فقط.

بعد عدة أميال قطعها القطار، بدأت اليد تضغط على ساقها وتتفحصها على نحو شديد الرقة والحذر. لم يكن الرجل نائمًا، ولو كان، فإن يده لم تكُن. شعرت روز بالاشمئزاز، والدوار، والغثيان. أخذت تفكِّر في اللحم: كُتَل من اللحم، أنوف وردية، ألسنة كبيرة، أصابع فظة؛ كل هذه الأشياء تسرع وتتسلل وتتثاقل وتفرك بحثًا عن راحتها. تذكرت القطط في الأيام الحارة وهي تفرك أجسادها بالجزء العلوي من الأسيجة الخشبية، وتموء معبِّرة عن شكواها البائسة. كل ذلك الحك والدفع والضغط كان مثيرًا للشفقة وكأنه حركات طفولية. أنسجة إسفنجية الشكل، أغشية ملتهبة، أطراف عصبية معذبة، روائح مخزية، خزي ومهانة.

كل ذلك كان في بدايته. وأخيرًا تمكنت يده — تلك اليد العنيدة الصبورة التي ما كانت روز لترغب أبدًا في الإمساك بها أو الضغط عليها في المقابل — من تحريك غرائز روز وإثارة رغبتها.

رغم ذلك، لم ترغب في حدوث ذلك، وأخذت تردد من النافذة: «أرجوك، أنزل يدك! توقَّف من فضلك!» قالت ذلك لأرومات الأشجار والحظائر. تحركت اليد أعلى ساقها مارةً بالطرف العلوي لجواربها وصولًا إلى بشرتها المكشوفة، ثم انتقلت إلى أعلى لتصل إلى تحت رباط الجوارب، ثم إلى سروالها الداخلي والجزء الأدنى من بطنها. كانت ساقاها حتى تلك اللحظة لا تزالان متقاطعتين ومتلاصقتين. طالما ظلت ساقاها على هذا الحال، كان بمقدورها أن تدَّعي البراءة، وعدم قبولها بأي شيء. فكانت لا تزال معتقدة أن بإمكانها إيقاف كل ذلك في لحظة واحدة. لم يكن سيحدث أي شيء أكثر من ذلك؛ فما كانت ساقاها لتتباعدا أبدًا.

لكنهما كانتا تتباعدان بالفعل. وبعبور القطار جرف نياجرا فوق مدينة داندس، مطلًّا على الوادي الذي يعود تاريخه إلى ما قبل العصر الجليدي، والتلال الصغيرة بما عليها من صخور متناثرة وأخشاب ذات لون فضي، ثم هبوطه إلى سواحل بحيرة أونتاريو، قامت روز بذلك الإعلان البطيء والصامت والمؤكد الذي ربما أحبط صاحب اليد بقدر ما أرضاه. لم يرفع جفنيه، ولم يتبدل وجهه، ولم تتردد أصابعه، لكنه نفَّذ ما أراده بقوة وسرية. اجتياح وترحيب تزامَن مع توهُّج ضوء الشمس في الأفق وسقوطه على مياه البحيرة والبساتين المكشوفة الممتدة لأميال حول بيرلنجتون.

كان الأمر مخزيًا، وكان بمثابة استجداء. لكن ما الضرر في ذلك؟ دومًا نطرح على أنفسنا ذلك السؤال في مثل هذه اللحظات. وما الضرر في أي شيء؟ كلما ساء الأمر، كان أفضل. هذا ما نقوله لأنفسنا عند ركوبنا تلك الموجة اللامبالية من الطمع أو القبول الطامع. يد غريبة، خضراوات جذرية، أو أدوات المطبخ البسيطة التي يمزح الناس بشأنها، العالم مليء بالأشياء ذات المظهر البريء التي تنتظر اللحظة الملائمة للإعلان عن نفسها على نحو مراوغ وملزم. انتبهت روز لأنفاسها، لم تصدق ما كان يحدث؛ ضحية وشريكة في الجرم يحملها القطار مارًّا بمصنع جلاسكو للمربى وأنابيب معامل تكرير البترول الضخمة النابضة بالحركة. انحدر بعد ذلك القطار نحو الضواحي حيث رفرفت في إيحاء خبيث ملاءات الأسِرَّة والمناشف المستخدمة في التخلص من بقع العلاقات الحميمية على حبال الغسيل، وحيث يمرح الأطفال ببذاءة في أفنية المدارس. تجلت أمام عينها كل هذه التصرفات الغريبة الخبيثة والمناظر المألوفة، وظهرت بوابات أرض المعارض وأبراجها، وحلَّقت القباب والأعمدة الملونة بشكل مذهل في السماء الوردية التي رأتها أسفل جفونها، ثم تفرقت معبِّرة عن الاحتفال. يشبه ذلك تجمُّع سرب من الطيور كالبجع البري أسفل إحدى القباب الضخمة، ثم إثارتها فجأة لتندفع محلقةً في السماء.

حاولت روز جاهدة أن تمسك لسانها عن الكلام. وسرعان ما مَرَّ محصل التذاكر عبر القطار لتنبيه الركاب وإفاقتهم.

وفي الظلام الذي خَيَّمَ على القطار بوصوله المحطة، أفاق قس الكنيسة المتحدة، وفتح عينيه، وطوى جريدته، ثم سأل روز إن كانت بحاجة لأية مساعدة في معطفها. عكست كياسته رضًا عن الذات وإبعادًا لروز وكأنه يصرفها عنه. أجابت روز قائلةً: «لا.» بلسان متألم، فنزل من القطار مسرعًا أمامها. لم تَرَهُ في المحطة، ولم تره قَطُّ بعد ذلك في حياتها، لكنه ظل موجودًا في ذاكرتها لسنوات طِوال مستعدًّا للظهور في اللحظات المهمة دون أي احترام، فيما بعد، محلَّ زوج أو حبيب. ما الذي كان يزكيه لديها؟ لم تستطع فهم ذلك أبدًا. ربما بساطته، أو تعجرُفه، أو افتقاره للوسامة على نحو جذاب، بل وللذكورة الناضجة أيضًا. فعندما نهض بجانبها، لاحظت أنه أقصر ممَّا كانت متصورة، وأن وجهه وردي ولامع، وكان به شيء يعلن عن عدائية وفجاجة ولكنه في ذات الوقت شيء طفولي.

هل كان قسًّا حقًّا؟ أم ادَّعى ذلك؟ تحدثت فلو عن رجال ليسوا برجال دين، لكنهم يرتدون ملابسهم، لكنها لم تذكُر شيئا عن رجال دين لا يرتدون ملابس القساوسة، أو الأغرب من ذلك من ليسوا قساوسة حقيقين، لكنهم يدعون أنهم كذلك ولا يرتدون ملابس القساوسة. إلا أن اقترابها بهذه الدرجة ممَّا حذرتها منه فلو جعلها تشعر بالانزعاج. سارت روز في محطة «يونيون ستيشن» شاعرةً بالمحفظة المحتوية على عشرة دولارات وهي تحتك بجسدها، وعلمت أنها ستظل تشعر بها طوال اليوم.

لم تتوقف عن تذكُّر رسائل فلو لها، حتى بعد أن حدث ذلك الأمر. وهي في محطة «يونيون ستيشن»، تذكرت وجود فتاة هناك تُدعَى ميفيس كانت تعمل في متجر الهدايا عندما كانت فلو تعمل في المقهى. عانت ميفيس من بثور في جفنيها بدت وكأنها ستتحول إلى دُمَّل العين، لكنها لم تفعل واختفت. ربما تكون قد أزالتها. لم تسألها فلو عن ذلك. كانت جميلة للغاية بدون هذه المشكلة وأشبه بإحدى نجمات السينما آنذاك، وهي فرانسيس فارمر.

فرانسيس فارمر. لم تسمع روز عن تلك الممثلة قط.

كان ذلك اسمها. اشترت ميفيس لنفسها قبعة كبيرة أمالتها فوق إحدى عينيها، وفستانًا مصنوعًا بالكامل من الدانتيل، وذهبت في إحدى إجازات نهاية الأسبوع إلى خليج جورجيان، وحجزت بالمنتجع باسم فلورنس فارمر لتوحي للجميع بأنها فرانسيس فارمر الحقيقية، لكنها ادَّعت الاسم فلورنس لتستمتع بإجازتها دون أن يتعرف عليها أحد. كان لديها مبسم سجائر صغيرٌ أسود اللون ومصنوعٌ من عرق اللؤلؤ. قالت فلو إنه كان من الممكن إلقاء القبض عليها لجرأتها.

اقتربت روز من متجر الهدايا لترى ما إذا كانت ميفيس لا تزال هناك، وإذا كانت ستتمكن من التعرُّف عليها أم لا. رأت روز ذلك شيئًا لطيفًا حقًّا؛ أن تتحول على هذا النحو، وأن تملك الجرأة على الفعل وتُفلت من العقاب، وأن تدخل عالم المغامرات المنيع بشخصك، لكن تحت اسم جديد تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤