الثقافة التقليدية وعلاقتها بالتربية القومية

قرأْتُ في العَهدِ الأخيرِ تقريرَينِ عنِ التعليمِ في مِصرَ كتبَهُما عالِمانِ استقدمَتْهما وزارةُ المَعارفِ؛ لِينظُر كلٌّ مِنهُما في ناحيةٍ خاصَّة من نواحي التعليمِ ودرجاتِه، وأَفْضى كلٌّ مِنهُما بآراءٍ ناضجةٍ فيما كُلِّف به من بَحثٍ، فكَتَب مِستَر «مَان» — مُفتِّشُ المَدارسِ وكُليَّاتِ المُعلِّمينَ بإدارةِ المعارفِ بإنجلترا — تقريرًا مُدْعمًا بالإحصاءاتِ فائضًا بالأفكارِ والنظريَّاتِ، وكتَبَ مِسْيو «كلاباريد» — أستاذُ عِلمِ النَّفسِ في كُليةِ العُلومِ بجامِعةِ جِنيف — تقريرًا آخَر عَمَد فيه إلى نظريَّاتٍ حَديثةٍ في عِلمِ النَّفسِ والتربيةِ، لا نَعلَم مِقدارَ ما فيها من خطأٍ أو صوابٍ؛ لأنَّ الحُكمَ في مِثلِ هذه الأشياءِ يَجِبُ أن يُرْجَع فيهِ إلى أَهلِ الاختِصاصِ، وإن كانتِ النظرةُ العاجِلةُ التي ألقيتُها على هذا التَّقريرِ قد أقنعَتْني — وقد أكُونُ مخطئًا — بأنَّ نظريَّاتِ «كْلَابَارِيد» رُبَّما تَكُون قد أسلَمَت به إلى نتائجَ لا يؤيِّدها الواقِع، ولا تَسندُها الحقائقُ التي يَعرفُها كثيرٌ من المِصريِّين معرفةً أوَّليَّةً لا تحتاجُ إلى نَظرٍ علميٍّ ولا إلى استِنتاجٍ مِن مُقدِّماتٍ.

هذا إلى أنَّ العالِمَينِ الأورُوبِّيَينِ إنْ كانا قد بحَثَا في التعليمِ المصريِّ كلٌّ من ناحيةِ اختصاصِه، فإنَّ بحثَهُما إنما جاء قاصرًا على الدائرة التي عيَّنَتْها وزارةُ المَعارفِ وفي ضَوءِ المَعلوماتِ التي زُوِّدوا بها، وفي الحُدود التي رُسِمَت للتعليم في مصر مُنذُ خَمسِين سَنةً مَضَينَ، فإن كانا قد أحسَّا شيئًا من النَّقصِ، أو وَقَع لهما شيءٌ يَستحِق النَّقدَ، فإنما وقَعَ لهُما فيما هو داخلٌ في هذه الحُدودِ أو مَشمولٌ بها، فلم ينظرا مثلًا فيما يَجِب أن يُؤدِّيَ التعليمُ في مِصرَ من حاجاتِ الحياةِ العامَّةِ فيها، وفي علاقةِ التعليمِ بالحالاتِ الجديدةِ التي تَكتنِفُ الحياة المِصرية في تَطوُّرها الحَديثِ، على أن هذا لا يُنْزِل من مَكانةِ ما كتَبَ العالِمَان الفاضِلانِ أو يُقلِّل من قِيمَة آرائِهِما؛ فإنَّ المِصريِّينَ أنفُسَهم أحَقُّ بأن يَتلمَّسوا مَكانَ النقصِ الذي يُحِسُّونه في التعليمِ مِن ناحيةِ علاقتهِ بالحياةِ عامَّةً، وبالحالةِ الاجتماعيةِ خاصَّةً.

ومهما يكُنْ من أَمرِ الباحثِ الأورُوبِّي في الشُّئونِ المِصريةِ، ومهما يَكُن مِن عِلمِه وتَمكُّنِه فيه، فإنه من المُتعذِّر عليه — كما قال مِسْتر «مَانْ» في تقريره — أن يُلِمَّ به إلمامَ المُحيطِ بالحقائقِ الأساسيَّةِ التي يُحِس بها المِصريُّون أنفُسُهم من غَيرِ استعانةٍ بآراءٍ أو نَظريَّاتٍ؛ ذلكَ بأن لِكلِّ أُمَّة إحساسًا بما يَعتوِرُها من نَقصٍ لَنْ يَفقَه الغريبُ عنها شيئًا من خصائصِه إلا بالجهْد الشَّديدِ وطُولِ التأمُّلِ والتفكيرِ، مثلُ ذلك أن التَّقريرَينِ اللَّذَينِ وضعَهُما العالِمَان الأُورُبِّيانِ لم يَلمَسا الحقائقَ الأوَّليَّةَ في حياتِنا الاجتماعيةِ وعلاقتِها بالتعليمِ، ذلك في حِينِ أنَّ كلَّ مِصريٍّ يَشعُر شُعورًا عَميقًا بأنَّ عَصرًا من عُصورِ التطوُّرِ الفِكريِّ قد آذَنَ بأن تُشرِق شَمسُه في سماءِ مِصرَ، وأنَّ عَصرًا آخَر قد أخَذَ في الأُفولِ. أضِفْ إلى ذلك أننا نَشعُر بأن حالاتِنا الاجتماعيةَ قَدِ اتجهَتْ في تطوُّرِها مُتجَهًا أَلقَى على التعليمِ في مِصرَ عِبئًا جديدًا لم يَشعُرْ به آباؤنا، وقَد نَشعُر بعضَ الأحيانِ بشيءٍ منَ القَلَق، وقد نَشعُر بأن هذا القَلقَ قد يَتضاعَف بعضَ الأحيانِ حتى لَيَذهَبُ بِالبَعضِ إلى اليأسِ من مُستقبَلِ آلافِ الطلَبةِ الذين يَتعلَّمون اليَومَ في المَدارسِ وتخرِّجُهم الكُليَّاتُ زُرافاتٍ كلَّ عامٍ، بل إنَّنا أخَذْنا نَشعُر بكُلِّ ما شَعَر به الأستاذُ هنري جيمس عِندَما قال: إن الاحتفاظَ بحالةٍ اجتماعيةٍ ثابتةِ الدعائمِ قَويةِ الأركانِ في جَمعيةٍ يُكتَبُ على المُتعلِّمينَ فيها عَيشُ الفَقرِ والذِّلَّةِ؛ لَأَمرٌ فيه منَ البُعْد عن حقائقِ الطَّبعِ البَشَريِّ بقَدْر ما في مُحاولتِكَ بِناءَ هرَمٍ يَرتكِز على رأسِه لا على قاعدتِه منْ بُعْدٍ عن حقائقِ الطبيعةِ الكَونيَّةِ.١

ولقَد يُمارِي مُفكِّر في أنَّ ذلك الشُّعورَ العَميقَ الذي يَكتنِفُ تفكير الكثِيرينَ منَ المِصريِّين إنَّما له أسبابُه الغامِضةُ البَعيدةُ عن إدراكِ الذين لا يُفكِّرون في التعليمِ إلا بِقَدْر ما يُفكِّرون في أَداةٍ لِتخرِيجِ المُتعلِّمينَ، ولا يَزيدُ خَطرُه في نظَرهِم عن خَطرِ آلةٍ تُخْرِجُ أحذِيةً أو لُفَافاتِ تَبغٍ في نَظرِ عاملٍ يَجهَل حَقيقةَ الآلةِ التي يُديرُها، ولا يَعرِفُ عنها إلا أَمرَينِ: شَكلَها الظاهرَ، وثَمَرَها الذي يَجنِيهِ مِنها.

على أن الثَّمَر الذي أخَذْنا نَجنِيهِ من أَداةِ التعليمِ عِندَنا قد جَدَّتْ عليه ظاهِرتانِ؛ الأُولى: أنَّ طَعمَه أخَذَ يَتغيَّر، والثانيةُ: أن صِنفَه أخَذَ يَنحَطُّ معَ كَثرةِ الإنتاجِ، ولا شَكَّ في أنَّهما ظاهِرتانِ يُعلَّلُ بهما كثيرٌ من الظواهِر الاجتماعيةِ التي تَمُرُّ علينا في كُلِّ يَومٍ صُوَرٌ مِنها، وأَخَصُّها كَثرةُ المُتعطِّلينَ من المُتعلِّمينَ، والجهْدُ الفَادحُ الذي يَلْقَاه المجِدُّون منهم في تحصيلِ رِزقِهِمُ الحلالِ.

ولا رَيبَ في أنَّ هذه الظاهِراتِ تَرجِعُ إلى أسبابٍ أخَذَت تَتجمَّع مُنذُ أكثرَ من نِصفِ قَرنٍ منَ الزمانِ، حتى أَفضَى بِنَا التطوُّرُ إلى الحالةِ التي تَكتنِفُنا اليَومَ. ولمَّا كانَ الغَرَضُ الذي أَرمِي إليه إنَّما يَتجِه إلى وَصفِ العلاقةِ التي تَقومُ اليَومَ بينَ التعليمِ والحالةِ الاجتماعيةِ والمُهِمَّةِ الكُبرى المُلقاةِ على عاتقِ التعليمِ في تَنظيمِ الحالةِ الاجتماعيةِ، ودَرءِ الأَخطارِ التي قَد يَتعرَّضُ لها المجتمعُ المصريُّ بقَدْر ما في مُستطاعِ التعليم أن يَدْرأ منها، وجَبَ أنْ أُظهِرَ أوَّلًا أنَّ أشَدَّ الأخطارِ التي يَتعرَّضُ لها الكِيانُ الاجتماعيُّ في مِصرَ مِن ناحيةِ التعليمِ أنَّ الشابَّ المُتعلِّم في مَدارِسِنا العُلْيا يَفقِد مع التعليمِ استقلالَه الذاتيَّ، باعتبارِه قُوةً لها حقيقةٌ مُستقِلَّةٌ عن القُوى الأُخرى التي تَكتنِفُها، وقَد يَشعُر بذلك الشابُّ المُتعلِّم، وقَد يَشعُر به الذين يُعلِّمون أولادَهم، حتى لقَد نجِدُ أنَّ بعضَ القادرِينَ على التفكيرِ يَنظُرون نَظرةَ تشاؤمٍ إلى المُستقبَل القريبِ، وإنَّ لهم في ذلك لحقًّا، وإنَّ لهُم في تشاؤمهم لأسبابًا تُبرِّره وحقائقَ تُعلِّله، ومن أَجلِ أن نُظهِر تطوُّرَ الحالاتِ التي أفْضَت بِنا إلى هذه النتائجِ يَنبغي لنا أن نَذكُرَ حقائق خَمسًا نَرجِعُ فيها إلى تاريخِنا بعضَ الشيءِ:
  • أولًا: حُكِمَت مصر مُنذُ أبعَدِ العُصورِ على نظامِ تبايُنِ الطبَقاتِ الاجتماعيةِ، وعلى أساسِ الفوارِقِ في الحقوقِ العامَّةِ، غَيرَ أنَّ الطبَقاتِ أخذَتْ تَتقارَبُ حقوقُها الطبيعيةُ وتَنتفي من بَينِها الفَوارِقُ مِن عَهدٍ قريبٍ، فالكُل الآن مُتساوون أمامَ القانونِ ولو نَظريًّا على الأقَلِّ، ولِكُل مصري حقُّ الانتخابِ والحُكمِ مِن طريقِ مَجلسِ النُّوابِ، فأخَذ مَظهَرُ وجودِ طبقتَينِ مُتمايِزتَينِ في الحقوقِ المدنيةِ يَزولُ شيئًا بعدَ شيء، فلقَد كانت مِصرُ القديمةُ مُكوَّنةً من ثَلاثِ طبَقاتٍ؛ هم: الحُكَّام والكَهَنُوت والشَّعْب، ومُنذُ غَزوِ الإسكَندرِ وحُكمِ البَطالِمةِ إلى حُكمِ المماليكِ حتى بَدءِ الاحتلالِ الإنجليزيِّ كانت هناك طبَقاتٌ تَختلِف حقوقُها وامتِيازاتُها، أمَّا الآنَ فقَدِ انتفَتْ هذه الفوارقُ نَظريًّا، ونقول: نظريًّا؛ لأنَّنا لا نَزالُ نَشكُو من بَعضِ مَساوئِها بالرغْم مِن أنَّ أصغرَ فلَّاحٍ في مُكْنَتِه أن يُقاضيَ أعظَمَ عَينٍ في البِلادِ، وأن يأخُذَ حَقَّه مِنه إنْ كانَ له حقٌّ.
  • ثانيًا: بالرَّغْم مِن أنَّ نِظامَ الطبَقاتِ المُتبايِنةِ في الحياةِ والحُقوقِ هُوَ النظامُ الذي اتُّبِع في مِصرَ مُنذُ أبعَدِ العُصورِ، وبِالرغمِ من أنَّ حالةَ مِصرَ الاجتماعيةَ مِن خمسينَ سَنةً مَضَينَ كانت تَكفُل الاستقلالَ الماديَّ لِطبَقتَي ذَوي الامتِيازاتِ والفَلَّاحِينَ معًا بأن تَحمِل طبَقةُ الفلَّاحِينَ — وهيَ الطبَقة العامِلة — عِبءَ كِفايةِ نَفْسِها وكِفايةِ حُكَّامِها بقَدْر الاستِطاعةِ، فإنَّ الحالةَ الجديدةَ، حالةَ التساوِي أمامَ القانونِ في الحُقوقِ، قد أحدَثَتْ ظاهِرةً اجتماعيةً جديدةً، مُجمَلُها أن الفلَّاحَ قد خَرَج مِن كَونِه عامِلًا لا حقَّ لهُ في مِلْكيةِ الأَرضِ إلى رجُل حُر له حقُّ العملِ متى شاء، والانقطاعِ عنهُ متى أرادَ، ولَه فوقَ ذلكَ حقُّ المِلْكِ، بل نقول: إنه انتقَلَ مِن عاملٍ إقطاعيٍّ إلى رجُلٍ حُرٍّ، فحدَثَ بِذلكَ تطوُّرٌ جَديدٌ.
  • ثالثًا: هذا التطوُّرُ الجديدُ الذي حَدَث بتَحريرِ الفلَّاحِ المِصريِّ وعِتقِه مِن نِظامِ الإقطاعِ الذي ظَل خاضِعًا له طَوالَ القُرونِ قد قَلَب آيةَ الحياةِ الاجتماعيةِ في مصر؛ فإنَّ هذا الفلَّاحَ لم يَكُن يَنقُصُه مِن شيء لِيكُونَ مُستقِلًّا تَمامَ الاستِقلالِ في حَياتِه إلَّا قانونٌ يَحميهِ، ونظامٌ اجتماعيٌّ يَجعَلُه يَشعُر بأنه قُوةٌ لها أَثَر في الحياةِ، فلَمَّا وقَعَ ذلِكَ بِالفعلِ أصبَحَتِ الطبَقةُ الدُّنيا — أي طبقةُ الفلَّاحِين المسخَّرين والتي كان عليها أن تَحفَظَ استقلالَها واستقلالَ الطبقةِ التي تَعلُوها — سيِّدَةَ نَفسِها، وأصبَحَتْ طبَقةُ المُلَّاك وأَصحابِ الجاهِ — كما كانتْ في الحالةِ الأُولى — عِبئًا عليها، ولكِنْ في صُورةٍ جَديدةٍ أخذَتْ شَكْل صِراعٍ خَفِي بينَ طبَقتَينِ.
  • رابعًا: ولقَدِ انحصَرَ مَظهَرُ هذا الصِّراعِ في طبَقةٍ تَحرَّرتْ مِن قُيودِ النظامِ الإقطاعيِّ، وهيَ الطبَقةُ المُنتِجةُ العامِلةُ بِيدِها، فأصبَحَت مُستقِلَّةً بِنفْسِها، وهيَ طبَقةٌ قادرةٌ على الحَرثِ والغَرسِ والحَصادِ في بِلادٍ لَنْ يَزرعَها غَيرُها، ولن يَنتفِعَ بها غَيرُها، فهِيَ مُستقِلَّةٌ ما دامَتْ مِن فَوقِ الأَرضِ التي يُغذِّيها النِّيلُ بِشَرايينِه المُحْيِيَةِ، وهذه الخُطوةُ الجديدةُ أحدَثَت ظاهِرةً أُخرى.
  • خامسًا: عكَفَتِ الطبَقةُ الأُخرى — طبَقةُ أصحابِ الجاهِ — على مَطلبٍ آخَر تتَّقِي به النتائجَ التي تتَرتَّب على استِقلالِ الطبَقةِ العامِلةِ، ولم تَجِد مِن وسيلةٍ أَقْربَ مِن تعليمِ أولادِها لِيكونوا حُكَّام البلادِ، ولكِنَّ طبَقةَ الفلَّاحِينَ أخذَتْ تُزاحِمُ الطبَقةَ الأُولى في هذا المِضمارِ، ومَضَى الأثرياءُ مِنهم يُعلِّمون أَولادَهم لِيَكونوا حُكامًا فنجَحوا. ولكِنْ بعدَ أن مُلِئت الحُكومةُ بما تَحتاجُ من حُكامٍ وكتَبَةٍ قامَ شُعورٌ جديدٌ بأنَّ أولادَ مُوظَّفي الحكومةِ والأَثرِياء الذي أَخرَجوا أولادَهُم من مُحيطِ الفِلاحةِ إلى مُحيطِ العِلمِ أَقلُّ استِقلالًا — مع تعَلُّمِهم — من أبناءِ الفلَّاحِينَ الجُهَلاءِ. وأَصبَحْنا الآنَ والمَوقِفُ بين مُتعلِّم مُتعطِّل يَتطلَّع إلى مُرتَّبِ أَبيهِ أو ثَروتِه لِيَعيشَ، وفلَّاحٍ جاهلٍ لا عُمدَةَ له في الحياةِ إلا خِبرتُه المَوْروثةُ في فَلْح الأَرضِ وقُوةُ عضَلاتِه ومحراثُه وفأسُه وماشِيتُه، فهُو رجُلٌ مُستقِلٌّ تمَامَ الاستِقلالِ في الحياةِ، علَى العَكسِ من المُتعلِّمِ المُتعطِّلِ. فإذا كانَتِ الغايةُ منَ التعليمِ تَخريجَ رِجالٍ مُستقِلِّينَ يُكافِحونَ في الحياةِ كِفاحَ المُنتِجِ لا كِفاحَ المُستغِلِّ لِكِفاحِ غَيرهِ، رَأَيْنا أنَّ التعليمَ لم يَفُزْ بِبُلوغِ الغايةِ الأخيرةِ مِنه ما دُمنا نَرى أنَّ ابنَ الفلَّاحِ بِخبرتِه الموروثةِ مُستقِلٌّ في حياتِه مُنتِجٌ بِعمَلِه، في حِينِ أنَّ المُتعلِّمَ يَفقِدُ معَ التعليمِ استقلالَه الذاتيَّ، ويَتطلَّع دائمًا إلى حياةِ الركُودِ لا إلى حَياةِ الكِفاحِ التي يُهيِّئ له تعليمُه طريقَها الواجِبَ.
على أنَّ قليلًا من التأمُّلِ في هذه الإلمامةِ التي ألمَمْنا فيها بأَوجُه التطوُّرِ الاجتماعيِّ الذي انتابَنا منذ خَمسينَ سَنةً خَلَتْ، يَحمِلُ المُفكِّر على المُضيِّ خُطوةً أُخرى في تأمُّلاتٍ إذا أحَطْنا بها نَكونُ قَد فرَغْنا من التمهيدِ للفِكرةِ التي نُريدُ أن تَكُون الدِّعامةَ التي يَقومُ عليها أساسُ التعليمِ في مِصرَ، فنَرى ما يأتي:
  • أولًا: إنَّ طُرُق التعليمِ التي عَكَفْنا علَيها إلى الآنَ شطَرَتِ الأُمةَ مُعسكَرَينِ: الأوَّل مُعسكَر المُتعلِّمينَ على القواعدِ الأورُوبِّيةِ التي اتَّبَعْناها في مَدارِسِنا، وخَرَجوا بهذا التعليمِ عن جَو ثَقافتِنا التقليديةِ، فأَصْبَحوا نِصفَ مِصريينَ، والثاني: مُعسكَر الفلَّاحِينَ الذين أبعَدْناهم عنِ الثقافةِ الحديثةِ، وحافَظْنا على ثقافتِهِم التقليديةِ؛ فَصَاروا بِذواتِهم في القَرنِ العِشرينَ وبِعَقليَّتِهم في مِصرَ الفِرعَونيةِ.٢
  • ثانيًا: كوَّنَّا بهذا طبَقتَينِ غَيرَ مُتجانِستَينِ، بل مُختلِفتَينِ تمَامَ الاختِلافِ، بحيثُ لا تَجمَع بَينَهما مِن رابطةٍ إلا الرابِطةُ الطبيعيةُ التي هيَ رابطةُ الدَّمِ، فكُنَّا بذلك أَشْبهَ بالمُستعمِر الذي يَرغَب دائمًا في أن يَزيدَ منَ الصُّدوعِ التي تَفصِل بَينَ طبَقاتِ الأُمَّة، لا أَشبَهَ بالمُصلِح الذي يَعمَل دائمًا علَى أن يَرأبَ تلك الصُّدوعَ، ويُقرِّب بَينَ الطبَقاتِ حِفظًا للتوازنِ الاجتماعيِّ، ولا شَكَّ في أن هذه السياسةَ تُؤدِّي بِطَبْعِها — وعَن غَيرِ قَصدٍ — إلى حَربِ الطبَقاتِ التي نَحنُ مُقْدِمون علَيها حتمًا إذا استَمرَّ التعليمُ على نماذِجِه الحاضِرةِ، وأخذَتْ تلكَ الصُّدوعُ والفَوارقُ تَزيدُ عامًا بعدَ عامٍ.
  • ثالثًا: دليلُنا على هذا أن ابنَ الفلَّاح إذا أثَّرَت فيه الثقافةُ الحديثةُ — سَواءٌ أكان تعليمُه في مِصرَ أم في إحدى جامعات أُورُبَّا — أصبَح لا يَنشَقُ في جَوِّ بِلادِه نَسيمَ الثقافةِ التي نشَأ فيها، فتَلحَظُ فيه رُوح التبرُّم بأبِيهِ الفلَّاح وأُمِّه الفلَّاحةِ، وتأنَسُ فيه نَزعةً قديمةً تَدفعُه دائمًا إلى حُب العودةِ إلى الجوِّ الذي نشَأ فيه، فتَراه قلِقًا غَيرَ مُستقِرٍّ هدَّامًا لا بنَّاءً، يُريدُ لو تُتاحُ له الفُرصةُ لِيعودَ إلى الجوِّ الذي كانَ فيهِ، فإذا أَعْيَتْه الحِيلَة — كما يَحدُث دائمًا — واضطُر إلى البَقاءِ في جَو بلادِه هجَرَ الريفَ مَرْبَاه الأصيلَ ومَرْبَى آبائِه وأجدادِه مُنذُ قُرونٍ طويلةٍ، ومَنشَأ تَقاليدِه مُنذُ أزمانٍ لا تَعِيها الذِّكْرَياتُ؛ لِيَسكُن مَدِينةً من المُدُن، فيُفضِّلَها معَ عَيشِ الفَقرِ والعَوَز على الرِّيفِ مع عَيشِ الرَّاحةِ والهَناءةِ، وتَراهُ يَنزِع إلى الفَراغِ والدَّعَة في مَدينةٍ دُونَ العمَلِ الذي هو أَجدَرُ بحياةِ الرُّجولةِ في الرِّيفِ. ومِن هُنا تَتكوَّن الطبَقاتُ المُتبرِّمةُ بالحياةِ، العامِلةُ على الهَدْم دُونَ الإصلاحِ، النزَّاعةُ إلى الأفكارِ المُتطرِّفة والثوراتِ، أولئك الذين عَنَاهم العلَّامةُ هنري جيمس بكَلمتِه التي سُقنَاها مِن قَبلُ.
  • رابعًا: وأَنتَ أَينَما ولَّيتَ وَجهَك رأيتَ أثَر المُعسكَرَينِ اللذَينِ كوَّنَهما التعليمُ المِصريُّ ظاهرًا جليًّا، فأنْتَ تَنتزِع الوَلدَ مِن حُضن أبِيه الفلَّاح وأُمِّه الفلَّاحةِ، فكأنَّكَ تَنزِعُه من حُضنِ «مِصرَ الفِرعَونيةِ»؛ لِتُنشِّئَه في حُضنِ «مِصرَ الأُورُبِّيةِ»، وتُخْرِجَه بعد ذلك قاضيًا أو محاميًا أو مهندسًا أو تاجرًا أو رجُلَ إدارةٍ أو غَيرَ ذلك، ولكِنْ برُوحٍ أُورُبِّيةٍ تَكسُوها ثيابٌ مِصريةٌ شفَّافةٌ فَضفاضةٌ، وبالأَحْرى تُخْرِج رِجالًا انبتَّت صِلتُهم بتقاليدِهم الثقافيةِ القديمةِ. وأنتَ — في دُورِ العَدلِ، وفي المتاجِر، وفي مراكِزِ الإدارةِ، وفي عيادةِ الطبيبِ ومَكتبِ المُهندِسِ — واقِعٌ في كُل دَقيقةٍ على مَظهَرٍ من مَظاهِرِ التَّفْرِقة بَينَ المُعسكَرَينِ، فالفلَّاح البعيدُ عن مَدنيةِ المُدُن — وبالأَحْرى البَعيدُ عن جَوِّ الثقافةِ الأورُوبِّيةِ الذي نشَأ فيه القاضِي والمُحامي والتاجِرُ ومأمورُ المركَزِ ومُعاوِنُ الإدارةِ وطبيبُ القَريةِ — يُمثِّل مُعسكَرَ مِصرَ الفِرعَونيةِ، أمَّا هؤلاءِ فإنَّما يمثِّلون «مِصرَ الأورُوبِّية»، ولا شَكَّ في أنَّ هذا مَظهَر من مَظاهِر الانحلالِ الاجتماعيِّ، لا يُسْألُ عنه في مِصرَ شيءٌ بقَدْر ما يُسألُ التعليمُ وأساسُه الذي يَقومُ علَيه.
  • خامسًا: بالرغْمِ مِن أنَّ المُتعلِّمَ قد نزَعَ بفِكرِه نَزعةً أبعدَتْه عن ثقافةِ آبائهِ التقليديةِ، فقَد أثَّرتْ تِلكَ الحالُ في مِزاجِه وتَصوُّراتِه ونَظرتِه الفنيةِ في الحياةِ، تِلكَ النَّظرةِ التي يَجِب أن تَكونَ مِصريةً صَمِيمةً، ويَجِب أن نُحافِظ علَيها نَقِيةً على سَجِيَّتها؛ لِنَكونَ مِصريِّينَ جَدِيرينَ بِالمِصريةِ، وكانَ مِن نتائجِ هذا أن المُتعلِّمِينَ يُفضِّلون أقْذرَ قريةٍ أُورُبِّيةٍ على رِيفِنا الجميلِ وبُحيراتِنا الفاتِنةِ، حتى لقَد تَقْوى النَّزعةُ الأُورُبِّيةُ فِينا على وَحْي النِّيل نَفسِه، والسببُ في هذا أنَّنا كُنَّا في خِلال الخمسين عامًا الماضيةِ كالمُنبَتِّ لا أرضًا قطَع ولا ظَهرًا أَبْقى؛ إذ انتزَعْنا من أَرواح ناشئتِنا «مِصريتَها»، ولم نَترُكْ فيها منَ المِصريةِ إلا لَونَ البَشْرة، ولقَّحناهم بالرُّوح «الأُورُبية» فلم نَبقَ مِصريينَ كأهلِ الرِّيف، ولم نَستطِعْ أن نكون أورُوبِّيينَ كفِتيانِ «بيكادلي سركس».٣
  • سادسًا: بدأَتْ هذه الحالُ تؤثِّر في مَرافقِنا الحيوية، حتى لقد نزَعْنا إلى القول بأن كل ما هو أُوربِّي جميل، وكُل ما هو مِصري رديء، وكل فِكرة مِصرية لَعبٌ ولَهْو، وكل فكرة أُوربِّية جِدٌّ ورُجولةٌ، وكل فَن مِصري بدائي وغير متفق ورُوحَ العصر، وكل فن أُوربِّي — مهما كان فيه من بُعْدٍ وتَضادٍّ مع نزَعَاتنا وتقاليدِنا المِصريةِ، بل ومع آدابِنا المَرعيَّة والعُرف الإنساني — حضارةٌ وتَمديُن، وشمِلت هذه الحال فَتياتِنا وفِتيانَنا، فألسنتهم لا تَتحرَّك إلا بكل ما هو أُورُبي غربي، وقلوبهم لا تَهفو إلا لكلِّ ما هو بعيدٌ عن المِصرية.

    ولا شُبهة في أن المعسكَرينِ يَتهيَّآن الآن: الأولُ للعملِ على خَراب الرِّيف، والثاني لا حولَ له ولا قوةَ، فسوف يَنهزم لِيتركَ الريف خرابًا، وإنما يَخرَب الريف بخَرابِ القُلوب التي يجب أن تؤمِن بأن الريف هو مصر، وأن مصر هي الريف، وأن المُدن أسواقُ لهذا الريف لا أقلَّ ولا أكثرَ. إنما يخرَب الريف بأن نُحب المدينة ونَهجُر الريف، فكأننا هَجَرنا مِصر، ولا مَخرجَ لنا من هذا إلا بأن نَصل ثقافتَنا الحديثة بثقافتِنا التقليدية، فيكونَ المِصري فلاحًا مصريًّا روحًا ونَزْعةً وخُلقًا، ثُم قاضيًا ومحاميًا وطبيبًا ورجلَ إدارةٍ من بعدِ ذلك، يجب أن تكون ماهيَّتُنا مِصرية وأعراضُنا أُورُبية، لا أن نعكس الآية بأن نعمل أولًا على مَحو مِصريتنا، فإذا تمَّ لنا ذلك رُحْنا نَتِيه بأننا أتَينا بأَعْراض أُوربية ولقَّحْنا بها ذواتٍ لا ماضيَ لها، وبالأَحْرى لا ماهيَّة لها.

تلك مُقدِّمات لا بُد منها إذا أردنا أن نبحث حالتَنا الاجتماعية من جِهة علاقتِها بالتعليم، وسنَرى كيف يُمكِن أن نستفيدَ منها.

•••

أظهرتُ في العبارات السابقة الوجوهَ التي تربِط بين التعليم والحالة الاجتماعية، وعدَّدتُ كثيرًا من التأملات التاريخية التي قد يكون لها اتصالٌ — كبيرًا أو صغيرًا — بالحالات الجديدة التي تَكتنِفُنا، غير أنَّ الاقتصار على تَعديل وجوه الارتباط بين التعليم والحالة الاجتماعية، والقَولَ بأن التعليم يَجِب أن يتجِه اتجاهًا اجتماعيًّا أمرٌ يجِب أن يُعزَّز بإظهار المَخاطر الشديدة التي يتعرَّض إليها كِياننا الاجتماعي من جَرَّاء الفصل بين سياسة التعليم وبين مُلابَستِها الاجتماعية.

ولقد ظهَر في العَهد الأخير أن القائمين بأمر التعليم قد اضطُروا في مواقفَ عديدةٍ أن يتجهوا إلى مُعالجة بعض الأمور علاجًا قائمًا بعض الشيء على طبيعة الحالات الاجتماعية، وإني لآسَفُ إذ أقول: إنهم لم يَنجحوا فيما قصَدوا إليه، وليس السبب بِراجعٍ إلى قُصور منهم، أو تقصيرٍ عن أَداء واجباتِهم كاملة، وإنما يَرجِع في الحقيقة إلى أن سياسةَ التعليم الحاضرةَ لا تُواتِيهم بكل الأسبابِ الضرورية التي تُمكِّنهم من تنفيذ برامجَ تتفِق وما تتطلَّب الحالة الاجتماعية من صُنوف العِلاج، ولا أريد أن أعدِّد هنا حالاتٍ بذاتها، وإنما أُريد أن أبحث في مُجمَل الظواهرِ التي تترتَّب على الفَصل بين سياسة التعليم والمُلابَسات الاجتماعية قدْرَ ما تُتيح لي تجارِبي القليلةُ.

كتَب الفيلسوف هربرت سبنسر في أواخر القَرن الفارِط مقالًا عُنوانه «الكائن الاجتماعي» شبَّه فيه بِنْيَة الاجتماع الإنساني بكائن متعضِّن، وأخَذ يَقيس الظواهرَ المتقابلةَ فيهما، ويوازن بين حالات خاصَّة في جسم الفرد وجسم المجتمع، ولا شك في أن هذا الفيلسوف الكبير قد غفَل عن أمر ذي بالٍ جعل بحثَه هذا مُحتاجًا إلى كثير من التحوير، بل لا نُبالغ إذا قلنا: إن غفلَته عن ذلك الأمر قد أثَّرت في النتائجِ التي حاول الوصولَ إليها، فجاءت مُفكَّكة غير مَوصولة ولا مُؤدِّية إلى فكرة مَحدودةٍ ينتهي إليها البحث؛ ذلك بأنَّ بين الحيِّ والكائن الاجتماعي فروقًا رئيسيةً تُميِّز بينَهما تمييزًا لا يَقِف عند حدِّ الظواهر، وإنما يتعدَّى إلى التكوينِ الوظيفي فيهما، وقد يَعلم الذين يَدرُسون عِلمَ الأحياء أن الحيَّ يَتكوَّن من خلايا دقيقةٍ هي وحَداتٌ بسيطةُ التركيب تَحتوي على نَواة هي سِرُّ الحياة، ولكنَّ تجمُّعَ هذه الوَحَداتِ البسيطةِ التركيبِ يُنْتِج حيًّا عَويصَ التركيب مُعقَّد التكوين جَهدَ ما نَتخيَّل، ذلك في حين أن الكائن الاجتماعي إنما هو كُلٌّ بسيط التكوين، يتركَّب من وحَداتٍ غاية في التعقيد، وعلى معرفتِكَ هذا الفَرقَ الوظيفيَّ يَتوقَّف وصولُك إلى النتائج الصحيحة، فالخلايا لا قَوام لها ولا حَياة بغير اندماجها في بِنْية الكُل الحي، أمَّا الوحَدات (الذواتُ العاقلة) التي يتركَّب منها الكائن الاجتماعي فكُلَّما كانت أكثرَ استِقلالًا عن ذلك الكائنِ برَزَ أثرُها وتميَّزت وظيفتُها واستبانت قِيمتُها ورجُل فَرعُها، وأصبحَتْ قُوةً قادرةً على التأثيرِ في الكائن الاجتماعي بما يَحفَظ حياتَه الاجتماعيةَ ويُحرِّكه نَحو الرُّقِي الاجتماعي، ويَبُث فيه رُوحَ التطلُّع إلى الارتقاءِ المدَني، وبالجُملة على جعله كائنًا اجتماعيًّا مُعتزًّا بأثَرِه العِلمي في الحياة، ذلك على الضِّد مما لوِ اندَمَجت هذه الوَحَدات العاقلة في بِنْية الكائن الاجتماعي، فإنها إذ ذَاك تَفقِد استِقلالها وقُوَّتها على التأثير بالعملِ على رُقي الجماعة؛ لأن اندِماجَها هذا إنما يَسلُبها القُدرةَ على التفكيرِ والتأمُّل في حقائقِ الأشياءِ، ويُفقِدها أخلاقَها الشخصيةَ، وبِوَجه عامٍّ يُدمِجها فيما يُسمِّيه الاجتماعيون عَقليَّة الجماهير.

هذه حقيقةٌ أوليةٌ على ما فيها من تعقيدٍ وحاجةٍ إلى الفَهم من الضروري أن نَعِيَها، وأن نجعلَها نُصْبَ أعيُنِنا كلَّما فكَّرنا في وظيفة التعليمِ باعتباره عاملًا من عوامل استِقرارِ الحالات الاجتماعية في كُل أمَّة منَ الأُممِ، أما وقد وعَيْناها فإنَّا نتساءل: أيَفِي التعليمُ عندنا بإخراج رجالٍ فيهم من الاستِقلال الخُلُقي والعِلمي ما يجعلُهم في المُستقبَل قُوًى مُؤثِّرةً في الكائن الاجتماعي؟ أم على العكسِ من ذلك يُخْرج رجالًا قُنَّعًا يَكتَفون من الحياة بالاندماجِ في جسم الكائنِ الاجتماعيِّ فيظَلُّون طَوال أعمارِهِم مَغمورينَ في عقليَّة الجماهير؟ وإني لآسَفُ إذ أقول: إن تعليمَنا بعيدٌ عن أن يُخْرِج رجالًا مستقِلِّين على النمَط الذي تتطلَّبه طبيعةُ الحالاتِ الاجتماعيةِ الجديدةِ التي أخذَت تُشعِرنا بأنَّا مُقدِمون على انقلاباتٍ فِكريةٍ خطيرةٍ.

إذًا فواجبُ التعليمِ يَنبغي أن يَنحصِر في إخراجِ رجالٍ مُستقِلِّين بعيدينَ عن التأثُّر بِرُوح الجماهير، وتكوينُ استقلالِ الفَردِ يَجِب أن يَكونَ بداءةَ التعليمِ ونهايتَه. أمَّا العمَلُ على شَحْن العُقول بشتى المعلوماتِ وتكوين مَلَكاتٍ خاصَّة في الأدَبِ والفنِّ فَلَن يَكونَ لها من أثَرٍ في الحياة، ولن تُقوِّم من عِوَج الكائن الاجتماعي ما لم يَسبِقها الاستقلالُ الذاتيُّ، وتدريبُ المَلَكات الخاصَّة على مُماشاةِ ما تَتطلَّبه مُقتضياتُ ذلك الاستِقلالِ.

ولقد أظهَرْنا من قبلُ أن ابن الفلَّاح أكثرُ استقلالًا في الناحيةِ العَمليةِ من المُتعلِّم الذي فقَد استقلالَه الذاتيَّ بحُكمِ الظُّروف التي نشَأ مُحاطًا بها، غير أن استِقلال الفلاحِ العاملِ استقلالٌ ناقصٌ؛ إذ هو استقلالٌ أشْبَه بالاستقلال الحيواني مِنهُ بالاستقلال الإنساني؛ ذلك بأن عُدَّتَه في هذا الاستقلالِ تَقومُ على قُوةِ عضَلاتِه وعلى صَبرِه واحتمالِه ورِضاهُ بمُحيطِه الذي يَعيش مُكتنِفًا به، وعامَّة ذا ليس فيه شيء من مؤهِّلات الاستِقلالِ الإنسانيِّ، وإنما هو استقلالٌ يُشارِك فيه الفلَّاحُ كثيرًا من الحيوانات. وعلى ذلك نجِد أن ما عندنا من مُكمِّلاتِ الاستقلال الفَرْدي عند الفلَّاح تَنقُصه الناحيةُ الثقافيةُ التي تُمكِّنه من أن يُصبِح ذا أثَرٍ عمليٍّ في تكييفِ حالات الكائن الاجتماعي، ولكِنَّ هذا الاستقلالَ مهما كان فيه من ضُروبِ النقص فهو استقلالٌ على كل حال، أمَّا المُتعلِّم المُتعطِّل فحالتُه تُناقِض هذه الحالَ، فإنَّ تعليمَه لم يُمكِّنْه من أن يكون مُستقلًّا من ناحيةِ الثقافةِ، في حينِ أن نشْأتَه ومُحيطَه قد سلَبَاه ناحيةَ الاستقلالِ الأُخرى.

•••

أمَّا الأسلوبُ الذي يَجب أن يُنْتَحى في التعليم حتى يكونَ أداةً صالحة لتخريجِ رجالٍ مُستقلِّين ذَوي أثَرٍ في تَكييفِ حالاتِ الكائنِ الاجتماعيِّ فسنُفرِد له صفَحاتٍ خاصَّةً، وسنَقصُر كلامَنا الآن على المخاطر التي يتعرَّض لها كِيانُنا الاجتماعي من وجود فلَّاحين استقَلُّوا حيوانيًّا ومُتعلِّمينَ فقَدوا كلَّ ضُروبِ الاستقلالِ.

•••

على الرَّغمِ مِن أنَّ الأخطارَ التي يتعرَّض لها مجتمعٌ تناصَرَت عليه كلُّ هذه الظواهرِ الكثيرةِ المُتعدِّدة، فإن أعظَمَ هذه الأخطارِ وأشَدَّها أثرًا في مستقبله إنما حدَثَ بما يَدعوه الاجتماعيون «التطفُّل الاجتماعي»، والتطفُّل الاجتماعي حالةٌ تُرهِق فيها طبَقاتٌ غيرُ عاملةٍ طبَقاتٍ عامِلةً بمطلوباتِ حياتِها، ولهذا التطفلِ مَظاهرُ عديدةٌ أخبثُها أن تَكونَ الطبَقةُ المتطفِّلةُ هي بذاتِها صاحبةَ السُّلطةِ العُلْيا في المجتمعِ، كما حَدَث في أُوربا في خِلالِ القُرون الوُسْطى، وكما هِيَ الحالُ في كثيرٍ من ممالكِ الشرقِ في حالتِه الحاضرة، والوَيلُ لمجتمعِ تَسودُ فيه هذه الحالُ.

التطفُّلُ حالةٌ طبيعيةٌ لا سَبيلَ إلى نُكرانِها، فهُنالِك حيواناتٌ تَتطفَّل على نَباتاتٍ، ونباتاتٌ تَتطفَّل على حيواناتٍ، وقد يَتطفَّل حيوانٌ على حيوانٍ أو نباتٌ على نباتٍ، فهو ظاهِرةٌ تكادُ تَشتمِل على كل نواحي العالَمِ الحيِّ، وتَحتكِم في الكثير من مَظاهِره الجُلَّى. غير أن نَظرةً واحدةً في هذه الحقيقةِ الطبيعيةِ تُظهِرك على أن التطفُّل حيثما كان — وأيًّا كانت وسيلتُه ومظاهرُه — لن يُنتِج إلا هَدمًا في الحياة، ولن يُبرِز إلا فسادًا، ولن يُؤدِّي إلا إلى إرهاقٍ شاملٍ في القُوى الحيوية تَختلِف درجاتُه ومظاهرُه ونتائجُه باختلافِ الظُّروفِ. وقلَّما يَستطيع عالِمٌ طبيعي أن يُحصِيَ تلك الظروفَ التي يتجلَّى فيها فِعلُ التطفُّل في عالَمِ الأحياءِ؛ فإن ذلك من الأشياءِ التي يَستعصِي على العِلم تعديدُ مَظاهِرها عامَّة وخاصَّة، وفعل كل مُتطفِّل في مُختلفِ الظروف على كل مُتطفَّل علَيه في مُتبايِنِ الحالاتِ. وإنما يَستطِيع الأحيائيُّ أن يدْرُس ظواهرَ التطفُّلِ في حالاتٍ يَقِف عليها، وأن يدْرُس أثَرَ الحيِّ المتطفِّل في بِنْية الحيِّ المتطفَّل عليهِ مُحصِيًا — في كثيرٍ من الحالات — أوجُهَ العِلاقةِ بَينَهما، وتأثيرَ دَورةِ حياةِ الحي المتطفِّل في حاضنِه.

ولن يَعْدوَ العالِمُ الاجتماعيُّ هذه الحالَ عينَها، فليس في مُستطاعِه أن يُحصِيَ أَوجُه التطفُّل الاجتماعي في مجتمَع بعَينِه، ولا أن يدْرُس الحالات درْسَ توفُّرٍ على دقائقِها وتدرُّجاتِها التي تَكفُل له الوُصولَ إلى نتائجَ مقطوعٍ بصحتِها قطعًا تامًّا. والعالِمُ الاجتماعي أضعَفُ وسائلَ من العالِمِ الطبيعيِّ؛ فإن هذا بَيْن جُدران مَعْمله يستطيع أن يحصُرَ الحالاتِ ويُحدِّد الظواهر، في حينِ أن زميله الاجتماعي إنما يتأمَّل من حالاتٍ عامَّة غيرِ محصورةٍ ولا مُحدَّدةٍ تحديدًا تجعلُ الحُكمَ القاطعَ على أُصولها وظواهِرها أمرًا سهلًا هيِّنًا، غير أن هذا كُلَّه لن يَحولَ بينَ الباحثِ الاجتماعيِّ وبين الحالاتِ الكُليةِ التي يَتخِذ درْسَ مَظاهرِ التطفُّلِ الاجتماعيِّ وسيلةً إلى اكتِناهِها.

منَ الحالاتِ الكُليةِ في التطفُّل الاجتماعيِّ، بل ومن أظهر تلكَ الحالاتِ أثرًا في الجماعات الحديثةِ عامَّةً وفي مِصرَ خاصَّةً: تَسلُّط غير ذَوي الكِفاياتِ — وإن شِئتَ فقُل: المُتعطلين — على مَواردِ ما تُنتِج الأَيدِي العاملةِ من ناحيةٍ، وعلى إنتاجِها نفسِه من ناحيةٍ أُخرى مِن غيرِ أن يَكونَ لهؤلاء المُستغلِّين أيُّ ضِلعٍ في تَكوينِ المَوردِ أو في الإنتاجِ، ومن هُنا تَحدُث حالةٌ من حالاتِ التطفُّل الاجتماعي تَستنفِد فيها أيدٍ مُتعطِّلة ثمَراتِ الجُهودِ التي تبذُلُها أيدٍ عاملةٌ، بِغيرِ أن تَنالَ الأَيدي العاملةُ من ثمَراتِ جُهودِها ما يَكفِي لِحِفظِ حيَويَّتِها أو قُدرتِها على العمَلِ والإنتاجِ؛ فإنَّ مِن شأن المتطفِّل أن يجتهِد في استغلال حاضنِه بكل صُورِ الاستغلال، وأن يَبلُغ من الانتفاعِ بحيويتهِ جَهدَ ما يَستطيع، وكُلما قلَّت قوى المُقاوَمة في الحاضِن ازداد المتطفِّل شِرَّةً وبأسًا، حتى يَنتهيَ الأمرُ بما يُسمِّيه الاجتماعيون ﺑ «التنكُّس الاجتماعي»،٤ وهي حالة تَتساوَى فيها طبَقاتُ المجتمَع لا من حيثُ الكِفايات العِلمية، ولكن من حيث العَجْز عنِ العمَل المُنتِج، وما لهذا الأَمرِ من نتيجةٍ إلا الفَوضى الغامِرة، ولا يُنكِر أحدٌ أنَّ في مجتمعنا هذه الظاهرةَ الخَبيثةَ؛ فالأَيدِي العامِلةُ لا تَنالُ من مَنتوجِ عَملِها ما يَكفِي لِلاحتِفاظ بحيويتِها، والأيدي المتعطِّلة تُبدِّد ثمَراتِ تلك الجهودِ، وعِلمُ ما يَترتَّب على ذلك عند الله.

ومن تلكَ الحالاتِ هجرُ الريف والعَيشُ في المدُن، ولقد بَحَث هذه الظاهرة كثيرٌ من الكُتَّاب — منهم: أدمون ديمولاند الفرنسي، والأستاذ إستن فريمان الإنجليزي — في بحوث مستفيضة عالجوا فيها الحالات التي نشأَتْ في فرنسا وإنجلترا، وعطَفوا بعضَ الشيء على حالاتٍ نشأتْ في غيرِها من البُلدان في أُوروبَّا، ولا جَرَم أن هذه الحالاتِ تتَشابَه؛ فالأسبابُ التي تدعو الفرنسي أو الإنجليزي إلى هَجر الريف والإقامةِ في المُدن، أو بالأَحْرى حُب التحضُّر (بمعنى المَعيشة في الحواضِر) تكادُ تَكونُ نفْسَ الأسباب التي تَحمِل المصري على أن يَفعلَ ذلك، غير أن النتائجَ تختلِف باختلاف البُلدان على مُقتضى ما في كُل شَعب من الاستِعداد والصِّفات، وفي الأكثرِ على مُقتضى الثقافة التقليدية التي يَختصُّ بها كُل شَعب منَ الشُّعوب.

ولَسوفَ نُبِين عن فكرتنا في أثَر الثقافة التقليدية في الكِيان الاجتماعي لِكل أُمَّة من الأُمَم، ونَكتفِي الآنَ بأن نَقولَ بأنَّ شَعبًا كالشَّعب المصري، الزراعةُ ثقافتُه التقليدية منذ أبعَد عُصور التاريخِ، لا بُد مِن أنْ يتأثَّر بزيادة المَيل إلى التحضُّر تأثُّرًا عظيمًا لا يُحِسه شَعبٌ آخرُ ثقافتُه التقليديةُ غيرُ زراعية، بل على العَكسِ من ذلك، أَعتقِد أن الشُّعوب التي تَكونُ ثقافتُها التقليدية صناعيةً أو تجاريةً يجِبُ أن تَحتميَ بحياة التحضُّر صيانةً لِمَصالحِها. أما تحضُّر شَعبٍ ثقافتُه التقليديةُ الزراعةُ فتلك هيَ الطامَّة الكُبرى على كِيانه الاجتماعي، وتلك هي الطَّفرةُ العظيمةُ إلى أبشَعِ صُوَر التطفُّل الاجتماعي.

ونَحنُ نَعلمُ عِلمَ اليقينِ بأن مُدنَنا المِصرية مُدُن غير صناعية بالمعنى المفهوم من ذلك في أورُبا، بل أَعتقِد — وأظن أنني أعتقد بحَقٍّ — أن مُدُننا ليسَت إلا أسواقًا تُسْتَهلك فيها مَنتوجات الريف، وهذه الحقيقةُ وحدَها كافِيةٌ لأن تُظهِرَنا على أنَّ مَيْلنا إلى التحضُّر مع التعطُّل عن العمَل يُرهِق المُنتِج ويُرهِق السُّوقَ المُستهلِكة؛ لأن المُتعطِّل في الواقع عِبءٌ على الجَمعيَّة؛ ذلك بأنه قُوةٌ مُستنفِدةٌ لا قُوةٌ مُنتِجة من ناحية؛ ولأن الحاجاتِ التي يَستنفِدها لا يُنتِج ما يُقابِلها لصالحِ الجمعيَّة مِن ناحيةٍ أُخرى، وبذلك يُصبِح المُتعطِّل عبئًا على الحاضرة التي يَسكُنها، وعبئًا على العناصرِ المُنتِجة معًا، وهنا يتَضاعفُ تطفُّله إذ يُصبِح مُتطفِّلًا باعتبارَينِ: الأول أنه يُزاحِم أهلَ المُدن ويُشاركُهم أرزاقَهم من غيرِ إنتاج من ناحية، والثاني أنه يُرهِق العناصرَ العامِلةَ في الريف بأن يَستهلِك ولا يُنتِج، وبالأَحْرى بأن يأخُذ ولا يُعطي.

ومِن تِلك الحالاتِ ما يُسمِّيه الاجتماعيون «الجشَع الاجتماعي» Pleonexia ولا أريد هنا أن أُطْنِب في تعريف «الجشَع الاجتماعي»، ولا أن أُناقِش في مختلفِ التعاريفِ التي وضَعها المؤلِّفون الذين أُتيحَ لي الاطِّلاعُ على مؤلَّفاتهم، وإنما أَقتصِر على ذِكْر حالاتٍ يَستطيع القارئ أن يُدرِك منها — مُطَبَّقة على حالاتٍ تَقوم بين ظَهرانَيْنا — ما يُقْصَد بالجشَع الاجتماعي.

وعندي أنَّ أَخْبثَ ما يؤدِّي إليه الجشَع الاجتماعي من تكييف عقليَّة طبَقات خاصَّة في مجتمعٍ ما بمقتَضياتِه إنما يَنحصِر في أن تَتطفَّل جماعاتٌ لا أفرادٌ على جِسْم الكائن الاجتماعي، وقد تَلبَس الجماعاتُ التي تَنتابُها سَوْرةُ الجشَع الاجتماعي صُورًا مُختلِفة، فمِنَ اتحاداتٍ تجاريةٍ إلى اتحاداتٍ صناعيةٍ إلى جمعيَّات عِلمية أو اقتصادية أو سياسية تَتخِذ التأثيرَ على عقليَّة الجماهير بمُختلفِ الوسائل طريقًا تَسلُكه إلى غَرضِها الذي تَرْمي إليه، والذي يَجعلُها جديرةً بأن تُنْعَتَ بأنها جماعاتٌ مُصابةٌ بجُنون الجشَع الاجتماعي. أمَّا ذلك الغَرضُ فيَنحصِر في أن تَنالَ من الجَمعيَّة أَقصى ما يُمكِن أن تصِلَ إليه من الربح المالي أو النفوذ أو السُّلطة أو الجاه أو الحُكم بأقل جُهدٍ مُمكِن أن يُبْذَل، أو لِتضحيَة يُضحَّى بها مِن ناحيتها.

وفي مِثلِ هذه الحالاتِ تتضاعَف خبائثُ التطفُّل الاجتماعي بأن يصير تطفُّلًا مرُكبًا لا تطفُّلًا بَسيطًا، ونَعني بالتطفُّل «المرُكَّب» أنَّ هذه الجماعات المُصابة بجُنون الجشَع الاجتماعي يَكونُ فيها عُنصرٌ خاصٌّ يَعيش مُتطفِّلًا على جِسمِ الجماعة نفسِها، ذلك العُنصُر هو عُنصرٌ انتهازي لن تَسلَم منه جماعة أُصِيبت بذلك المرَضِ الخَبيثِ، فكَمَا أنَّ الجماعة تَتطفَّل على جسم المجتمَع، يَتطفَّل ذلك العُنصُر الذي هو «واجِب الوُجودِ» فيها — بما يَقتضي تَكوينها النفسي — على بَقيَّة عناصرها.

وتَسِير قافلةُ المُتطفِّلين ولكنْ إلى البَوار الصِّرْف، مَثلُها كمَثَل حُييَّات زُرِعت على مادَّة هُلامية في زُجاجةِ اختبارٍ في مَعمَل من المَعامل، فإنها تَتكاثَر ثم تَتكاثَر، حتى إذا مُلِئ فَراغ الزُّجاجة واستحالتِ المادَّة الهُلامية أجسامًا حيةً انتكس الأمرُ، وبدأتِ الأحياء تَنحدِر إلى الهلاك المحتوم.

هذه إلماماتٌ مُوجَزة في حالات نُشاهِدها قائمة من حَولنا، فهل يُمكِن أن نَتخِذ التعليم أدَاة إصلاح نَتقي بها بعض ما يَكتنِفنا من شرور وخبائث؟ وهل يُمكِن للتعليم أن يؤدِّي إلى الأجيال المقبِلة رسالة إصلاح عملي يَرفع عن كاهلِهم بعض ما نَتوقع لهم من متاعب؟ أظن أننا نستطيع أن نُجيب بالإيجاب، وأن نقول موقنين: «نعم.» لو أن فينا رجالًا وفينا رُجولة.

أرى واجبًا علَيَّ قَبل المُضيِّ فيما سوف أَسوقُ الكلامَ فيه أن أبدأ باستدراك لا بُد منه، فقَد يعيب عليَّ بعضٌ من المفكِّرين أني أُنكِر فيما كتبتُ ناحيةً ذاتَ شأنٍ من نواحي الحياة في مصر لم أُعِرها التِفاتًا، وقد يَعتقِد هؤلاء أن لِتلك الناحية خَطرَها في صَبغِ الحالة الاجتماعية في مصر بصِبغة خاصة، وقد يُشيرون إلى الأَزهر، ولو أنهم أشاروا إلى غير الأزهر إذن لكان لِمَا يَعيبون به عليَّ من الوزن قَدْر غيرُ يَسير، أما وإنهم قد يَعْنون الأزهر، ويَقولون بأنه مُعسكَر ثالِثٌ من مُعسكَرات العوامل المؤثِّرة في الحالة الاجتماعية في مصر، يَنبغي لنا أن نَحسِب حِسابه، وأن نَتناولَه بالتحليل والنقد، وأن نَزِن أثَره في تكييف الحالات الاجتماعية، فأكبرُ ظني أني لن أُسلِّم بِرأيِهم مهما ساقوا في سبيل إثباته من بَيِّنات؛ ذلك بأن بيِّنة واحدة تَكفي لهَدْم جميع ما يُقيمون من دلائل؛ فإن القُوى التي تؤثِّر في حالة اجتماعية بِعَينها إنما هي القُوى المُوجبة لا القوى السالبة، والأزهرُ — ولا شُبهة — قُوة سالبة، قوةٌ اتَّجهَت بكل ما فيها من عوامل الحياةِ إلى الأُخرويَّات لا إلى الدُّنيويَّات.

وأنت تَرى في كل الأطوار التي تقلَّبت فيها الأمم منذ بداءة العَصر الإنتاجي الحديث، أنَّ القُوى السالبة فيها انحصَرت في فئتَينِ: الأولى رجال الدِّين، والثانية رجال الحُكومة، وهُما بما فيهما من صِفات السَّلب والمحافَظة كانتا في كُل الحالات دَريئةً طالما حمَت جِسم المجتمَع مِن كثيرٍ منَ الهِزَّات العنيفة والانقِلابات الخطيرة التي يَجنَح إليها الغُلاة من المُصلِحين أو السياسيين، وإن لهذا الموضوع لظَرفًا آخر غيرَ هذا الظرْفِ قد يُتاح لنا فيه أن نَبحَثه بحثًا أَوفى.

فرَغْنا من الكلامِ في التطفُّل الاجتماعي وأحَطْنا ببَعض ظواهره، وأثبَتْنا أن هذه الظاهرة تَنخُر في عِظام مُجتمَعنا كما يَنخُر السُّوس الحَب، والآنَ نَنتقِل إلى ظاهرةٍ اجتماعيةٍ أُخرى لا تَقِل عن ظاهرة التطفُّل الاجتماعي فِعلًا وأثرًا، تِلك ما أُسمِّيه ظاهرة «الرَّجْعية»، ولا أَعني بها رَجْعية فِكرية أو سياسية أو غيرَ ذلك، فلو أنها كانت من هذا الطابعِ لهَان الخطْب ولما أعَرتُها كبيرَ اهتمامٍ؛ ذلك بأني أَعتقِد أن بعض ظواهر الرَّجعِية كالرَّجعِية الفكرية أو السياسية وما يَجري مَجراهُما تَحمِل في تضاعيفها أسبابًا تولِّد قُوى ارتقائية، وإنما أعني بها الرَّجعِية الاجتماعية، وأَكبرُ ظواهرها عُزوفُنا عن التفقُّه بفِقه ثقافتِنا التقليديةِ.

ولا مِرية في أننا نحتاج إلى تعريف هذه النظرية الجديدة التي نَسوقُها اليوم؛ لتكون أساسًا في علاج حالات اجتماعية بعَينِها، بل نقول: إن بُعْدنا عن دَرْس هذه النظرية سَببٌ كان من الأسباب الرئيسَة التي هيَّأتِ المُقتضياتِ الأوَّليَّة للشعور بأننا قد أقدَمْنا على أزَماتٍ اجتماعيةٍ رُبما أصبحَتْ في المُستقبَل بالغةً مُنتهى الخطورة.

أمَّا مَا نَعني ﺑ «الثقافة التقليدية» فمَجموعة الحالات والمُلابَسات التي يَنشأ شَعب من الشُّعوب مُكتنِفًا بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يَتطلَّب ذلك من العُكوف على فنٍّ خاصٍّ من فُنون الحياة، وبمَعنى أَوسَع تدُل الثقافة التقليدية على العناصر التي وَرِثها شَعب من الشُّعوب على مدى الأزمان مِن طريق التأثُّر الطبيعي بالبيئة والمُحيط، كما تدُل على مُجمَل ما ثبَتَ في عَقليَّته باللِّقاحِ السُّلالي من عاداتٍ وأساطيرَ وعلومٍ وآدابٍ نشأَتْ بنَشأتِه في مَرْباه الأصيل، وعلى الجُملة نقول: إن الثقافة التقليدية لشَعب من الشُّعوب إنما هيَ في الواقع جِماعُ ما يَرِث من صفاتٍ حيويةٍ ومُعتقَداتٍ وفُنونٍ مِن أَسلافِه الأوَّلِين.

وما كان لِشَعب من الشُّعوب أن يُحاوِل الإفلات من أقطار ثقافته التقليدية إلَّا وباءَ بالفشل المُحقَّق فيما يحاول؛ ذلك بأن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يَرتكِز عليه الطَّبع الماثل في أخلاق الأُمم وطُرق سُلوكها في الحياة. وما قَولُك في ثقافةٍ يَرتشِفها الطفل مع ما يَرتشِف من لبَن أُمه وهو رضيع ويَشِب مُكتنفًا بها إذا يَفَع، ويُفتَن بفُنونها إذا تَفتَّى، ويُغرَم بها إذا اكتهَل، ويَموتُ وهي مُرتسِمة في تصوُّراته جميعًا إذا هَرم؟ لا مِرْية في أنها تُصبِح جزءًا من طَبْعه، وركنًا من أركان نفسِه، بل إن شئت فقل: إنها الركنُ الأصيلُ في حياته النفسيَّة والعقليَّة، وما عدَاها تَوابعُ لها ولَواحِق بها، وإنما تَتأثَّر التوابِع بالأَصْل، وتَتكيَّف اللواحِق بالأَرُومة، فما مِن ثقافة حديثة تُضاف إلى ثقافة تقليدية إلا وتَكيَّف الدخيلُ تكيُّفًا يتابع فيه ما يَحتاج إليه الأَصيلُ من مُلابَسات. مثل ذلك أن الطَّبع المصري وإن شئتَ فقلِ: «المصريَّة»، لن تَنسَخ منها الأُوربِّية شيئًا إنْ هيَ احتكَّت بها، وإنما تتكيَّف «الأوربِّية» بعواملِ المصرية إنْ هما تنافَسَتا في مَيدان واحد، وليس في ذلك أيُّ خطر على كِياننا التقليدي، ولكنَّ الخَطرَ كلَّ الخَطرِ أن نُضعِف من مِصريَّتنا بالبُعْدِ عن ثقافتنا التقليدية، فتَكمُن في تضاعيف النفس ولا تَظهَر إلا ضعيفة مَنهوكة، ونُقوِّي من «الأوربِّية» فنأخذها غيرَ مُكيَّفة بمُقتضياتِ ثقافتِنا التقليدية، ناهِيكَ بأننا لسنا أوربِّيين بالدمِ والتقاليدِ، فلا نَستطيع أن نَفهَم من رُوح الأوربِّية على ما يَفهَمها الأوربِّي إلَّا ظواهرَها الكاذبة، فنصبح وقد قَمعْنا مصريَّتنا من ناحية، ولقَّحْنا عُقولنا بالأوربِّية من جهة أخرى، وما كُل هذا إلا طِلاء خادِع، ومِن وَرائه تَختفي الحقيقة التي يجِبُ علينا جميعًا أن نَفطِن إليها وأن نَدْرسها أَوفَر الدَّرْس، وأن نُكِبَّ على تَفهُّم رُوحِها أَقْوم فَهْم حتى نستطيع أن نُهيِّئ للأجيال الآتية سبيل التكيُّف برُوح العصر تكيُّفًا مُطابقًا لثقافتنا التقليدية، فنخطو بثَبات نَحو حالات اجتماعية أَثبتَ من حالتنا الحاضرة. وفيما تقَدَّم من شَرحٍ مُجمَلُ ما نعني «بالرَّجعِية الاجتماعية»: فهي قَمعٌ لمُقتضيات التكيُّف بثقافتنا التقليدية من طريق الفَصلِ بين هذه الثقافة المَوروثة وفُنون الحياةِ في العَصر الحديث.

تتصِل ثقافة الشعوب التقليدية اتصالًا وثيقًا بحالاتها المعيشية أوَّلًا، فإذا استكمَلت هذه الثقافة الأسس المعيشية التي تُعين الشعوب على البقاء أثَّرت هذه الثقافة تأثيرًا آخَر في مِزاج الشعب، نهايتُه أن تتكيَّف فيه أشياءُ ثلاثةٌ هي في الواقع ظواهرُ هذه الثقافة: الدِّينُ واللُّغةُ والفَنُّ، وفي هذه الأشياء جُمَّاع ما يَتجلَّى لناظرَيْك في الأُمم منَ الخصائص الأُخرى؛ كالخُلقِ، والحالاتِ النفسيةِ، إلى غير ذلك.

ولا بُد لنا من أن نَضرب بعض الأمثال لنُفصِح بعض الشيء عن حقيقة هذه النظريةِ، فالبَداوة مَثلًا ثقافة تقليدية لكُل القبائلِ التي تَعيش مُتبدِّية، وجميعُ ما يتصلُ بالبداوةِ من الأُسسِ التي تَقومُ عليها ناحيةٌ من نواحي الحياة في أَهلِ البَدْو، والبَداوة لأهل البادية بِدايةُ الحياة؛ لأنَّ فيها تَتجلَّى رُوح القَبيلة التي بها تَحتفِظ الجَمعيَّة ببقائها وتَصونُ كِيانَها، ومن مَجموعِ التَّصوُّرات والإدراكات التي تَتمثَّل لأَهلِ البادية تَنشأ الفكرة الدينية، ثم تَنشأ اللغة، ثم يَنشأ الفن، ومِن بَعدِ ذلك تتحوَّر الأخلاق، فتأخذ طابَعًا خاصًّا، ومن ثمَّت يتكوَّن قانون العُرف البِدائي وهلُمَّ جرًّا، فهل من المُستطاع مثلًا أن تَنفكَّ جمعية طبيعتُها البَداوة عن كل ما وَرِثتْه على مدى الأجيال، وتَنسلِخَ عن كل ما انتَقل إليها عن أَسْلافها الأقدمِينَ فتَلبَس من الأخلاق ثوبًا جديدًا، وتتبدَّلَ من التصورات والأفكار والأَخْيِلة والعقائد واللغة والفن وغيرها بما لا عِلاقةَ له بثقافتِها التقليدية، ثم تَستطيعَ بعد ذلك أن تَحتفِظ بكِيانِها الأصيل من غير أن يهُزَّ ذلك التغيُّر الطارئ أعماق وجودِها هزًّا عنيفًا شديدًا؟

كذلك الحال في أُمة أُخرى ثقافتُها التقليدية صِناعية كإنجلترا أو فرنسا مثلًا، فإن انفِكاك أُمة منهما عن الصناعة مَعناه: تحطيم لرُوحها المَوْروث، بل ولِكلِّ ما تَقومُ عليه حياتها — أدبيَّة أو ماديَّة — منَ القواعد الأصيلة في نفسيَّتِها وغرائزها. وأظُن أن المصريِّينَ لا يَخرُجون عن مُقتضى هذه القاعدة، فإن لِمصرَ ثقافتَها التقليدية، وهي الثقافة الزراعية التي وَرِثناها بحُكم وجودنا على ضِفاف النِّيل. وواجبُنا كأُمة رشيدة أن نُقيم كِياننا أصلًا على أساس هذه الثقافة المَوْروثة، نُكمِلها بمقتضيات ما يتطلَّب هذا العصر من ضُروب الثقافات الأُخرى. أما عكسُ هذه الآية — وذلك ما نَنتحِيه الآنَ مع الأَسَف — فنهايتُها الخرابُ العاجلُ والدَّمارُ الشاملُ.

إِنَّ ما يُزْرَع من أرضٍ في هذا الوادي الخَصيبِ في هذا الزمن جُزء قليل مما يُمكِن استغلاله، ولكنَّه على قِلَّته لا يُسْتَغل الاستغلال الوافي؛ ولهذا أسبابٌ يَطول بنا شَرحها، وإنما نَذكُر ذلك لِنقولَ بأن كل مُتعطِّلي هذا الزمان إنما هم مُتعطِّلون بحُكم الثقافةِ التي تلقَّوْها، وبحُكْم الظُّروف التعليميةِ التي نَشئوا مُحوَّطين بها، وأن بلادًا كمِصرَ تستطيع أن تعضد من السكان ضعف ما تعضد الآن، من العجيب أن تقوم فيها مُشكِلة تُعْرَف بمشكلة التعطِّل، وأن تُؤلَّف في سبيلها اللِّجان وتُعْصَر الأفكارُ وتَسهرَ الأعيُن الليالي الطِّوال، ونِصف الأرض المزروعُ فيها يَكاد يَكون بُورًا، والنصف المزروع لا يُغِل أكثر من نصف ما يجب أن يُغلَّ إذا أُحْسِن القِيامُ عليه بالطُّرق العلمية الحديثة، وأكبرُ ظَني أن السبب المُباشِر في قيام هذه الحال إنما يَرجِع إلى أننا نَسينا أنَّ لنا ثقافةً تقليديةً يَجِب أن تَكونَ أَساسَ الحياة في هذا الوادي، وإذَن يَجبُ أن تَقومَ سياسةُ التعليمِ أوَّل شيء على فِكرة الاتصال بثقافتِنا التقليديةِ.

لقد مَضَينا حتى الآنَ نُقِيم قواعد التعليم على النظريات لا على طَبيعة بِلادنا؛ لهذا نَرى أن كل النتائج قد اتجَهَت اتجاهًا سلبيًّا لا اتجاهًا إيجابيًّا، وعَكسُ ذلك ما نَطلُب أن يَكونَ.

جَدَّت في مِصرَ مُشكِلة عُرِفت بمُشكِلة المتعطِّلين من التعليم، وما مِن سبَب لهذه المشكلة في الواقع إلا السياسة التي جَرى عليها التعليم في بلادنا بالفَصلِ بين ثقافة أولادِنا التي يتلقَّونها بين جُدْران المدارس وثقافة آبائنا الأقدمِينَ. وحدَث في مصر أنِ انشقَّت مُعسكرَينِ لا اتصال لأَحَدهما بالآخر: مُعسكَر المتعلمِينَ المتعطِّلِينَ الذين لا اتصال لهم بثقافة بلادِهمُ التقليدية، ومُعسكَر الفلَّاحين الذين اتصلوا كل الاتصال بثقافة بلادهم الأصليَّة من غَيرِ أن يُلقَّحوا بشيء من مُقتضياتِ الحياةِ في العَصرِ الحَديث، وبَدأتْ في مصر رُوح التبرُّم بالحياة المصرية نتلقَّى منها كل يوم ألوانًا مما يُنتَج على يَد المتعلِّمِينَ الذين إن لم تُعْوِزهم الهِمَّة إلى العمل فقد يُعْوِزهم المجالُ الذي يَعمَلون فيه، بقَدْر ما هيَّأهم التعليم النظري الذي عكَفوا عليه، ولسوف نتقدَّم خُطوة بعد أُخرى مُتمادِينَ في العمل على زيادة مُعسكَر المتعطِّلينَ ما دُمنا نعكُف على تعليم أولادنا على أساسِ النظريَّات لا على أساس العمليَّات، وما دُمنا نُخرِّج رجالًا لا يَعرِفون عن طَبيعة بلادهم شيئًا. ولن أكون مُبالغًا إذا قُلتُ: إنَّ ابن الفلَّاح الذي يَتخرَّج في كُليَّة من الكُليَّات العُليا ليس بأكثرَ عِلمًا بطبيعة بلاده من زَميلِه ابنِ المَدينةِ الذي يتخرَّج وإيَّاه في مَعهَد واحد، فإذا لم يَجِدا لهما مُرتزَقًا أصبحا صِنْو بَطَالة، ولم يَمتَز ابنُ الفلَّاح على ابن المُتحضِّر بشيء مما امتاز به جُدودهما من أَهلِ الريف من قُدرة على الإنتاج، والعَيْش بما تُغِل سَواعِدهم من ثَمَرات الأرض.

ويُخيَّل إليَّ — وربما كُنتُ على كثيرٍ منَ الحَق فيما أَتخيَّل — أن الخَطأ الذي نَلحظُه في سياسة التعليم في بلادنا غيرُ قاصرٍ على قمع ثقافتنا التقليدية أن يَكونَ لها أثَر في تكوينِنا العقلي والخُلقي، بل إننا أضَفْنا إلى هذه خطيئةً أُخرى هي أننا عَمِلنا دائمًا على تضخيم المعلومات التي يَتلقَّاها الطلَبَة في مَدارسِنا الثانويَّة والكليَّات، فقَد يَخرُج المُتعلِّم إلى مَيدانِ الحياة العمليَّة بَعد حياة أمضاها في جوٍّ من النظريَّات الصِّرْفة وهو يَعتقِد أنه قد مُلِئَ عِلمًا بالحياة، ثُم لا يَلبَث أن يَنكشِف له الحق، وإذا بِه يَرى أن كُل ما يَعرِفه من نظريَّات العِلم والأدَب والفَن لا يَكفِيه رِزقَ يَومِه، ولا يُغنِيه عن الإكباب على ناحية أُخرى من نواحي الحياة العملية يَدْرُسها لِتكونَ له في الحياة عَونًا على تَحصيلِ الرِّزق، ولا شَكَّ أنَّ ذلك يُحْدِث ارتجاجًا عظيمًا في حَياة شابٍّ مَلَأه الأَملُ في الحياة، والزَّهوُ بما تجمَّع في رأسِه من المعلومات، وما مِن رِيبةٍ في أنَّ هذه الصَّدْمة المَعنوِية لها أثرُها البَالِغ في سُلوكِ الشابِّ وتفكيرِه رُبَّما لازَمه طَوالَ حَياته.

يَعكُف الشابُّ المصريُّ بَينَ جُدْران مَعهَده على ناحيةٍ نظريَّةٍ من العُلومِ بَعيدَة عن تَجارِبِ الحياة، ويَتلقَّى أنواعَ المَعارِف المُختلِفة، ويَمضي مُكِبًّا علَيها عُمرًا حتى يَكونَ له نَظْرة خاصَّة، ويتَّجِه بفِكرِه وقَلْبه اتجاهًا مُعينًا، ويُنشِئ في عقليَّته قِيمًا للأشياء، وفنًّا يَنظُر مِن طَريقِه في الحقائق. وعلى الجُملَة يَتخيَّل أنه يَتكوَّن من طَريقِ مَعارفِه تكوينًا يُؤهِّلُه لِأنْ يَكونَ وَحْدةً مُستقِلَّة في جِسْم اجتماعي، فإذا استَبانَ له الواقعُ، وواجَه الحياة بما استَجْمع من مَعارفَ، فعَلِم أنَّ للحياة طريقًا آخَر غَيرَ الطريق الذي صَرف فيه عُمرَه، وأنَّ لها قِيمًا أُخرى غيرَ القِيَم التي يُؤمِن بها، وأنَّ لها فنًّا غَيرَ فَنِّه الذي يَنظُر من طَرِيقه في حَقائقِ الوُجودِ، انقلَب على الماضِي ثائرًا ومن المُستقبَل يائسًا، وخُيِّل إليه أنَّ المجتَمَع جَنى عليه فسَلبه سلاحَ العمَل، وجرَّده من عُدَّة الهُجوم والدِّفاع في مَيدان المُنافسة الاجتماعية. وما بالُك بهذا الشابِّ نَفسِه إذا هو أراد أن يَرتدَّ إلى مِصريَّته فيُصبحَ فلَّاحًا كأبِيه أو جَدِّه، وأن يَتصِل مَرَّة أُخرى بثقافة بِلادِه التقليدية، فيتضح له أنَّ عِلمَه بِطبيعة بلاده ضئيلٌ، وأنَّ علاقتَه بطريقة الحياة فيها لا تُواتيه بالعُدَّة الكافية للحياة في وسَطٍ مصريٍّ أصيلٍ، الفلَّاح سَداه، والفِلاحَة لُحمَته؟

من الأَخطاء التي لا يَنبغي لنا أن نَغفُل عن وَزنِها وَزنًا صحيحًا أن تعليمَنا الأدَبي في الكُليَّات يَنقُل إلى الأَذهانِ صُورًا من الأَخلاق، وفُنونًا من السُّلوك، ومَذاهبَ من الفَلسَفة النَّفْسية، تَختلِط في عقليَّتنا اختلاطًا عظيمًا، حتى لَنُكوِّن منها مَقاييسَ جديدةً بَعيدة جدَّ البُعد عن المقَاييسِ الخُلقية والسُّلوكية التي يُؤمِن بها الفَلَّاح الساذجُ؛ فإنَّ عُصورَ الظُّلمِ والاستبدادِ التي عانى فلَّاحُ مِصرَ في خلالها الأمرَّيْن، وتَوالِيَ الدُّولِ في الحُكم على ضِفاف النِّيل، قَد طبَعتِ الخُلقَ المِصريَّ بَطابعٍ خاصٍّ، وصَبغَتْه بصِبغةٍ خاصَّةٍ، ويَجِب أن يُعْنى بدَرْسها أَوْفى الدَّرسِ المِصريُّ المُتعلِّم، وأنْ يُكبَّ على تفهُّمها كل الإكبابِ قبلَ أن يظُن أنه قادر على أن يُعايشَ ذلك الفلَّاح الخَشِن الجاهل، وأنْ يَعلمَ — في أوَّلِ ما يَجِب عليه أن يَعلمَه — أنَّ جَهل الفلَّاح من جهة العِلم بالنظريَّات قد عوَّضَته عنه الطبيعةُ ذكاءً حادًّا، وقُدرة على التحايُل، وفِطنةً في إدراكِ الحقائقِ، وأَيقظَت فيه قُوى العقل الباطن إيقاظًا شديدًا، حتى يَكاد يَكونُ عند بعضهم إلهامًا في توقُّع الأشياء وحُدوثها. أَضِف إلى ذلك أنَّ طبيعة البلاد قد ثقَّفتْه بثقافةٍ وَرِثها على مَدى العُصور، ثقافة أَحيَت فيه رُوح اليقَظة، يَتلقَّى بها الأحداثَ مُكتمِلَ الهِمة، ثابتَ القَلبِ، قَويَّ الجَنانِ، عظيمَ الثقةِ بنفسِه؛ فإن بلادًا تتوالى فيها دَوْرات الزراعة كبلادِنا، ويَفيضُ فيها النِّيل في مَواعيدَ مَحدودةٍ قد غرَستْ في نفسِه بالتجربة أن الحياة فُرصٌ يَجب انتهازُها، وعلَّمتْه أن إهمالَ ساعةٍ أو يومٍ قد يُفوِّت عليه رِزقَ عامٍ. هذا الفلَّاح الذي اكتمَلتْ ثقافتُه العِلميَّة من هذه النواحي وأمثالِها، وهي كثيرة مُتعدِّدة، هو بِذاتِه مَوضوع دَرسٍ عميقٍ لا يَستغني عن مَعرفته مِصريٌّ يُريد أن يَعيشَ فَوق أرضِ مِصر، وعلى ضِفاف نِيلِها، مُرتزِقًا بغَلَّاتها، مُفتنًّا في إحياء خَيراتِها. ولا شك في أنَّ هذه الناحية الضَّخْمة مِن نواحي ثقافتِنا التقليديَّة مُهمَلة في مَعاهدِنا كُل الإهمال؛ فالمصريون — مع الأسف — أَجهلُ الناس بتاريخ بلادِهم، ذلك في حِينِ أنَّ تاريخ كُل شَعب جزءٌ لا يَتجزَّأ من ثقافتِه التقليديةِ. وأَعني بتاريخ بلادِهم تاريخَها الاجتماعيَّ والنفسيَّ، لا تاريخَ الشُّهورِ والأعوامِ والقُرون والغَزوِ والمَوتِ والحياةِ، تلك الأحداث التي هي عِندي في طبيعةِ الأُمَم والجمعيَّات أَشبهُ بالأحلام.

فالشابُّ المُتعلِّم الذي يَدرُس مَذاهبَ اليونان الفَلسفيَّة، وتاريخَ رُوميَّةَ والأغارقةِ، ومَذاهبَ الأدَب ومُقدِّمةَ القوانينِ — إلى غَير ذلك مما يَتلقَّى الشبابُ بينَ جُدران مَعاهدِنا — من غير أن يَتصِل بثقافة بلاده التقليدية؛ شابٌّ مِصريٌّ بالاسمِ، لا بالرُّوحِ ولا بالتقاليدِ، هو يَجهلُ طبيعةَ بلادِه، وخُلقَ أهلِه، وتاريخَ العُصورِ التي توالَت على وَطنِه أحداثُها، وشَكلَ الحُكوماتِ التي تناوبَتِ الحُكمَ فيه، والمِيراثَ الذي وَرِثه عن أجدادِه الأقدمِينَ. ولا رِيبةَ في أنَّ شابًّا هذا شأنُه إنما يَخرُج من مَعاهدِ العِلم مُتعلمًا جاهلًا، وإن شِئتَ فقُل: يَخرُج مُتعلمًا مَشحون الذِّهن بكثيرٍ من المعلومات التي مِن شأنِها أن تَفصِله عن طبيعة بلادِه، وتُصيِّره في مُحيطِه غريبًا كأنه غَلطةٌ جديدةٌ في طبيعةِ شيءٍ قديمٍ. ومِن هُنا يَكونُ عَجزُه عنِ الكفاحِ في الحياة، وعنْ الاتصالِ بالأرضِ التي أنشأتْه وأَنشأتِ السُّلالةَ التي انحَدر منها مُنذ أَقدمِ عُصورِ التاريخِ.

والمُحصَّل أننا مُشرفون على أزَماتٍ اجتماعيةٍ أساسُها الظاهرُ الآنَ كثرةُ المُتعطلِين منَ المُتعلمِين الذين فصَل التعليمُ بينهم وبينَ ثقافةِ بلادهِم التقليديةِ فأصبحوا فيها غُرباءَ، وسنُعالج في الصفَحاتِ التاليةِ مُجمَل ما صوَّرْنا حتى الآنَ من نقائصِ حياتِنا الاجتماعيةِ مِن حيثُ علاقتها بالتعليمِ.

•••

ظاهرٌ إذن مما سُقتُ القول فيه أنَّ لِكُل أُمَّة من الأُمَم ثقافةً تقليديةً تَرِثها عن أسلافها، وأن هذه الثقافة تُصبحُ بِالوِراثة قِطعةً من غَريزتِها، وجزءًا من فِطرتها، لا تَنفكُّ عنه أُمة من الأُمم أو تكونَ قدِ انفكَّت عن أَخصِّ مُميِّزاتها، وأَعظمِ مَظاهرِها الاجتماعيَّة، وعقَّبتُ على ذلك كُله بمُجمَل العلاقاتِ التي تَربطُ كُل أُمة بثقافتها التقليدية إظهارًا لوِجهةِ نظَري في هذه المسألة الحيويَّة.

على أنَّ ما أحطتُ به فيما سَبق قد قَصر على بَيانِ العلاقة التي تَربطُ الثقافةَ التقليديةَ في كل أُمة بمظاهرِها الاجتماعيةِ، من حيث إنَّها مَظاهرُ اقتصاديةٌ لا غَيرَ، والآنَ أُريدُ قبل أن أَختمَ هذه البُحوث أن أُظْهِر أن لِنظريَّتي في الثقافة التقليدية أَثرًا في تكوينِ العقليةِ الفرديةِ، وتَكييفِ العقليةِ الجماعيةِ مُنشَّأةً في كُل أُمةٍ منَ الأُمم بمُقتضى الظُّروف والحالاتِ التي لابسَتْها منذُ أَقدمِ عُصورِها التاريخيةِ.

ومِن أَجلِ أن نُبينَ عن حقيقةِ ما نَقصِد إليه نَقصُر الكلامَ على أَخصِّ الظواهرِ التي ثارت مِن حَولها عُجاجة النَّقد وكثُر فيها الجدَل، حتى أصبحَتْ مِن عقليَّة الجُمهور المُتعلِّم جزءًا لا يتجزَّأ.

ولا رِيبةَ أنَّ في حياتِنا الحاضرةِ مَظاهرَ هي بحُكمِ العصرِ الذي نَعيشُ فيه والحالاتِ التي تَكتنِفنا أَجلَى من غَيرِها، وأبيَنُ في تَكييفِ عقليَّتنا من كُل الظواهرِ الأُخرى، وأَقصِد بذلك الأدَبَ مِن ناحيةٍ، والوطنيَّةَ من ناحيةٍ أُخرى.

وأوَّل ما يَبدو إلى ذِهنِ الباحثِ في هذا المَقامِ أن يَسألَ: أمِنْ علاقةٍ بينَ الثقافةِ التقليديةِ والأدَبِ؟ أهُناك صِلةٌ بينَ هذه الثقافةِ والوطنيةِ؟ أيَكونُ لماضي الأُمم أثَرٌ في تكوينِ أدَبِها وصَبغِ وطنيَّتها بصِبغةٍ خاصَّةٍ؟ وهلْ مِن رابطةٍ تَربطُ بينَ تَصوُّراتٍ ومَشاعرَ وعواطفَ درَجتْ عليها القُرونُ وبينَ أبناءِ جِيل يُخيَّل إليهِم أنَّهم نفَضوا أيدِيَهم من الماضي، وأَنزلوا عن كَواهلِهم تُراب الأزمانِ الغابرةِ، فأصبحوا خلقًا جديدًا، وأُمةً مُستحدَثةً من عناصرَ لا تَمتُّ إلى القديمِ بسببٍ منَ الأسبابِ؟

ما كان لِباحثٍ أن يسَألَ هذا السؤالَ، وما كان لهذا السؤالِ أن يَدورَ في مُخيِّلة مُفكِّر لو أنَّ لنا بثقافتنا التقليدية صِلةً، أو كان لهذه الثقافة علاقةٌ بأدَبِنا أو صِلةٌ بِوطنيَّتنا، وإنما يَدورُ هذا السؤالُ في مُخيِّلة كُل مُفكِّر يَحكُم أننا قطَعْنا صِلتنا بالماضي، وفرَطْنا عِقدَ رابطتِنا بمصرَ القديمةِ، وبالأَحرى حلَلْنا العُقدة التي تَصلُ بين حَبلِ حياتنا الحاضرة والخُيوطِ التي تَتكوَّن منها شَبكةُ حياتِنا الماضيةِ. ولا شَك في أنَّ الفَرد ثمَرةُ الماضي قبل أن يَكونَ ابنَ الحاضر، وصِلته بذلك الماضي صِلة وِراثة، أما صِلتُه بالحاضر فصِلةُ ضَرورةٍ.

ولا مِريةَ في أنَّ هذا السؤالَ غَير طبيعي في أُمة أَحكمَتْ صِلتَها بماضيها، ووثَّقتْ روابطَها بثقافةِ آبائها الأوَّلِينَ، فهو بمَثابةِ أن تَسأل مثلًا: أمِنْ علاقةٍ بينَ دَمي الذي يَجري في عُروقي ودَم جَدِّي أو جَدِّ جَدِّي؟ وهلْ مِن صِلة بين تصوُّراتي ومَشاعري ومُيولي وبين طبيعةِ الأرضِ التي تغذِّيني، والهواءِ الذي يُنمِّيني، والسماءِ التي تُظلُّني؟ ذلك بأنَّ الأُمم متى أحكمَتْ صِلتها بماضيها، ونَشَقتْ دائمًا عَبيرَ الرُّوح الذي سَرى في كِيانها منذُ أَبعدِ العُصور، لن تَشعُر يومًا بأنها في مُحيطٍ غَيرِ مُحيطِها الطبيعيِّ، أو أنَّها في بيئةٍ غَيرِ بيئتِها الفِطريةِ، فيَظهَر أثَر ذلك كلِّه مَعكوسًا في جُمَّاع مَظاهرِها، وبخاصةٍ في آدابِها وفي وطنيَّتها. أمَّا ونحن نَشعُر الآن بأن أدَبَنا أدَبٌ مَصنوعٌ لا أدَبٌ فِطريٌّ، وأنَّ وطنيَّتنا وطنِيةٌ ظاهريةٌ لا وطنِيةٌ حقيقيةٌ، فإنه من الطبيعيِّ أن نُسائل أنفُسنا عن سبَب ذلكَ، ومنَ الطبيعيِّ أن نَجِد الجواب في النظريَّة التي أَدلَينا بها من قبلُ في العلاقة التي تقومُ بين المَظاهر الاجتماعية والثقافة التقليدية التي تَختصُّ بها كُل أُمة مِن الأُمم، وتَختصُّ مِصرُ بِصورةٍ منها.

قرأتُ مُنذ سَنوات قَصيدة عُنوانها «قُبَّرة شيلي»، وعَكفْتُ — كعادتي في كُل ما أَقرأُ في المترجَماتِ — على مُقابلَتِها بالأَصلِ، فأَلفَيتُ أنَّ الشاعرَ المُترجِم قد أجَاد في المحافظةِ على المعاني الأصِيلة قَدْر ما تُهيِّئ أوزانُ الشِّعر وقَوافِيه ومُفرداتُ اللغة العربية لمُترجِم أن يَنقلَ شِعرًا منَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ، ولقَد أَحسَن الشاعرُ المُترجِم سَبْك المَعاني في قالَبٍ عربيٍّ يُلائم رُوح التَّجديدِ، معَ المحافَظةِ على جَرْس الأُسلوبِ العربيِّ، فأَكبَرتُ القَصيدةَ، وأَعَدتُ تِلاوتَها مَرَّاتٍ مُبالَغةً في الوقوف على ما فيها من أَوجُه النَّقدِ، ووَزْنها على مُقتضى المَعاييرِ التي أُومن بها في تَقييمِ الشِّعر، ولم أَلبَثْ أن أَحلَلتها بينَ ما أَعتقِد أنه من جَيِّد الشِّعر الحديث. غَيرَ أنِّي بَعد كُل هذا كُنت أَشعُر بأنَّ في القصيدة ماهيَّة أُخرى تُبعِدها عن طَبعي، وتُقصِيها عن تصوُّراتي وتَجاريبي، وتُلْقي في رُوعي أني غَريب عنِ الجوِّ الذي تَخلُقه مِن حَولي، فلا الجَوُّ الذي وَصفَه «شيلي» وغَشَّاه بالسَّحابِ القاتِم الشَّديدِ السَّوادِ هو الجوُّ الذي أَعرفُه، ولا الغِناءُ القَويُّ الحَنونُ الذي تُرسِله قُبَّرته هو نَفسُ الغِناءِ الذي أَعهَده في قُبَّراتنا، ولا لَونُها الأصفَر الزِّريابي الذي يَجعلُها تَظهرُ تحت السُّحبِ السُّودِ كأنها شَرارةٌ من لهَبٍ هو لونُ القُبَّرة المُغبَرَّة السَّفعاءِ التي آنسُها في حُقولي، كذلك رأيتُ في ذِكرِ السُّيول والأمطار الغامرة التي تُرسلُها سماءُ إنجلترا شيئًا جديدًا لا علاقةَ له بمُحيطي، ولا صِلةَ له ببِيئتي. وعلى الجُملةِ شَعَرتُ بأني أقرأ خيالًا إنجليزيًّا في شِعر عَربي، خيال يَجذِبني من ناحيته إلى ثقافةٍ غَيرِ ثقافتي التقليدية، بل يُقْصيني عن تَجاريبي ومُشاهَداتي. وإنَّ كل ما يُهيِّئ لي القصيدة من قُدرة على التصوُّر هو ما تَحمِل ألفاظُها العربيةُ من مَعانٍ أتخيَّلها تخيُّلًا وأتصوَّرُها تصوير الحَدْس والوَهْم، وإنَّ آلةَ الأداء — وهي اللغة العربية — هي الناحيةُ الوَحيدةُ التي تُقرِّبني بعضَ التقريبِ منَ الجوِّ الشِّعْري الذي تُكيِّف به القصيدةُ مَشاعِري. ولا شَك في أنَّ الشِّعرَ شيء وآلةَ أدائه شيء آخر، وإنَّما يَكونُ الشِّعر مُتصلًا بطَبعِ الإنسانِ متى استمَدَّ عناصره من ثقافة تقليدية لا يُعْنت التصوُّرَ إدراكُها، ولا يُتعِب الخَيالَ تصويرُها، فيَشتمِل على نواحي النفسِ، ويُخاطِب الرُّوح بديئةً، قبلَ أن يُخاطبَ العقلَ.

عقَّبتُ على هذا بقراءةِ قِصةٍ مُترجَمةٍ عن كاتبٍ رُوسيٍّ مَشهورٍ، فآنَستُ فيها شَططًا في الوَصفِ ومُغالاةً في التقديرِ، وتَحليلاتٍ نفسيةً مُعقَّدةً غايةَ التعقيدِ، بعيدةً كُل البُعد عن بَساطةِ الرُّوح المِصريِّ الذي آنَسُه في الفلَّاح الساذجِ الذي نَشأتُ مُحوَّطًا بثقافته التقليدية. ولا أُريدُ أن أَبحثَ شَخصيَّاتِ هذه الرِّوايةِ لأَحكُم إن كان في الدُّنيا شخصيَّاتٌ حقيقيةٌ تُقابِل الشخصيَّات التي وصَفها الكاتبُ وحلَّل نفسياتِها،٥ وإنما أُريدُ أن أَقولَ: إن تحليلَ ذلك الكاتبِ مهما كان فيه من حَق وبُعْد عن المُغالاة، وسواءٌ أكانتِ الصفاتُ التي أضفاها على شخصياتِه تلك صفاتٍ يُمكِن لِنفسٍ بَشريةٍ أن تنطوي عليها، أم أنَّها شخصياتٌ خياليةٌ لا تقومُ لها حقائقُ في الخارج، فجُلُّ ما أَرمي إليه أن أَقولَ: إنها شخصيَّات لا تَربطُني بها رابطةٌ، ولا تَصِلني بها صِلةٌ، وإنَّ مُحيطِي الذي أَعيشُ فيه يُنكِر وُجودَها ويَنفي حَقيقتَها، وبالرغمِ من أنَّ شخصًا آخر في مُحيطٍ آخر قد يَرى أنها شخصيَّاتٌ طبيعيةٌ، بلْ قد يُجسِّمها خيالُه على مُقتضى تَجاريبِه التي يَشهدُها في حياتِه.

ولا أَقصِد بذلك أن مِثلَ هذا الأدَبِ غيرُ مُفيدٍ في تَوسيعِ مَجالِ الخيالِ، ومدِّ آفاقِه، وتَنويعِ الصُّوَر المُتخيَّلة، وتَوطيدِ قواعدِ الأدَبِ المِصريِّ من حيث صِلته بالآدابِ الأُخرى، وإنما أقول: إنه مهما كان فيهِ منَ المُميِّزات فهو أدبٌ دخيلٌ لا أدبٌ أصيلٌ، أدبٌ لا علاقةَ له بثقافتنا التقليدية، فهو من طَبعٍ غَير طَبعِنا، وفِطرةٍ خِلاف فِطرتِنا، إنما هو أدبٌ تَصويريٌّ لا أدبٌ حقيقيٌّ، مَقيسَةٌ معاييرهُ بِمقياسِ حياتِنا الخاصَّةِ ومُحيطِنا الخاصِّ، أدبٌ لا تَهضِم منه فِطرتنا إلا القليلَ النادرَ. هذا على اعتبارِ أنَّ العِلمَ بالأدبِ شيء وهَضْمَه وتمثيلَه في الرُّوح شيء آخر. ولن يَكونَ للأدَبِ من أثَرٍ في الحياةِ إلا بأن تُمثِّله الرُّوح، فيُصبحَ جزءًا منها، فتَسترشدَ بمُثلِه، وتَتعظَ بمَثُلاتِه، وتُدركَ منه الحقائقَ إدراكَ استيعابٍ، لا إدراكَ عِلم بها دُون الإيمانِ بما فيها من حقٍّ ووقائعَ.

وما أُريدُ أن أستَطردَ في ضَربِ الأمثالِ، فإنَّ فيما أوردت منها غِنًى عن ذِكرِ غيرها؛ ذلك بأنَّ كثيرًا مما نَقرأ في الصُّحف والمجلَّات، وكثيرًا من المُؤلَّفاتِ يجري هذا المَجرى، ويَسيلُ هذا السَّيلَ، حتى لقد أَصبحَ أدبُنا الحديث — لِكثرة ما فيه من الرُّقعِ والرُّتوقِ، ولِكثرة ما فيه من صُوَر الأُمم الأُوربِّية — كأنه «عُصبةُ أُمم» ولكِنْ في صُحفٍ سُطِّرت بِكلماتٍ عربيةٍ.

في وَسَط هذه الصُّوَر العَجيبة المُتنافرة، وفي غَمْرة تلك الفَوضى السائدة في الأدَب على مُختلف أَلوانِه، وعلى مُتضارب وُجوهه ومُتباين ضُروبه، أتقَع على الأدَب المِصري الصحيح الذي يُمثِّل الرُّوح المِصرية؟ بكلمة واحدة أقول: «لا.» وبِودِّي لو يَتسنَّى لي أن أكتُب كلمة «لا» في صَحيفة وَحدَها، وبأَكبَر قَطعٍ تَعرفُه المطابعُ العربيةُ.

يَشعُر كُل المُشتغِلينَ بالأدَب — أدباءَ كانوا أو طلَّاب أدَبٍ، نُقادًا كانوا أو قارِئينَ — بأن الأدَب الذي يَعكُفون على دَرسِه أو قِراءتِه، بينه وبين نفوسهم بونٌ شاسعٌ وصَدعٌ مُتَناءٍ، وأنَّ بينَه وبينَ أرواحِهم المُمثَّلة في أخيلتِهم ومشاعرِهم وعواطفِهم وأمزجتِهم فارقَ ما بينَ السماءِ والأرضِ، وقد يَأخُذهم القَلق حِينًا، وقد تَتملَّكهم الرِّيبة أحيانًا في أحقيَّة ذلك الأدَبِ بالبَقاءِ في بيئةٍ لا تَعرفُه ولا يَعرفُها، ولكِنَّ قَلقَهم لا يَلبثُ أن يَهدأَ، ورِيبتَهم لا تَني إلا قليلًا حتى تَزولَ؛ إذ يَرونَ أنَّ ذلك الأدبَ أدبُ الساعةِ لا أدبُ العُمر، مُستدلِّينَ على ذلك بأنَّ الآثارَ الأدبية التي ظَهرتْ في العِشرينَ عامًا الماضيةِ لم يُفلحْ جُمَّاعُها في تَكوينِ مَذهبٍ واحدٍ ثابتِ الدعائمِ، قَويِّ الأركان، مَحدودِ الغاياتِ بين المُثل، فعَاش ولم يَمُت. أمَّا السبَب في أنَّ كُل إنتاجنا الأدبيِّ إنَّما هو لِلفَناءِ فراجعٌ إلى أنه أدبٌ مَسروقٌ، أو على الأقَلِّ أدبٌ مَسلوبٌ من آداب الأُمم الأُخرى، وليس فيه من أثَر المِصريةِ إلا أنه مَكتوبٌ بِلغةٍ عربيةٍ، ولكنْ بأساليبَ أصبحَتْ بدورها أَضعفَ من أن تُحسِّن أداءَ رسالةِ الأدَب.

ولقَد سَمِعتُ من بعضِ المُشتغلِينَ بالأدَب يقولون: إن نَقلَ الآدابِ الأُوربِّيةِ إنما هو بمَثابة دمٍ جديد يُغذِّي أدبَنا بالحياةِ ويَمدُّه بأسبابِ البَقاءِ. غَير أن هذا الرأيَ على ما في ظاهِره مِن حقٍّ فإنه أَشْبهُ بِحقٍّ يُراد به باطلٌ، ووَجهُ الباطلِ فيه أنَّهم يَفرضون أن لنا أدبًا يُغذِّيه الأدَب الأُوربي، وذلك ما لم يَقُم عليه أيُّ دليلٍ حتى الآن. فأينَ الشِّعرُ المِصريُّ الحقيق بأن يُدْعَى شِعرًا مِصريًّا؟ وأينَ القِصة المِصرية التي تُصوِّر حياةَ مِصرَ تصويرًا صحيحًا مُقتطعًا من الطَّبعِ المِصريِّ ومنَ الثقافةِ المِصريةِ الصحيحةِ؟ بل أينَ الأديبُ الذي عَكفَ على دَرسِ العقليَّة المِصرية، وقَصرَ جُهدَه على تَفهُّم الرُّوح التي تَنطوي عليها ضُلوعُ ذلك الفلَّاحِ الساذجِ الذي هو لُغزُ الألغاز وسِرُّ الأسرار؟ أينَ الأَديبُ الذي أحاط بتاريخِ مِصرَ مُنذ أَبعدِ عُصورها، وكوَّن من ذلك التاريخ صُورًا تَظهرُ مَعكوسةً في أدَبه شِعرًا أو نثرًا؟ وأينَ الأديبُ الذي يُصوِّر ما نَزلَ بنا من نوائبِ الدَّهر وبَلايا الأيَّام، وما حاقَ بِنا مِن مَظالمَ يُصرِّح بها تاريخُنا؟ بل أينَ الأديبُ الذي يُرينا كيف ابتَلعَ الفلَّاحُ الساذجُ الهادئُ الطَّبع الليِّن الجانب — بما فيه من قُوة المقاومةِ السَّلبية — الفُرْسَ والرُّومَ والرُّومانَ والعربَ والمماليكَ والأتراكَ، ولا يَزال مُستعدًّا لابتلاعِ خمسين قَيصَريةً من أمثالِ هذه القَيصَريَّات العِظام، وهو قابع في عُقر حَقله الصغير، وفي كسْر بَيتِه الطيني، تاركًا دَوْرات الحَظ تَدور بالسَّعد حِينًا وبالنَّحسِ حِينًا آخر، وما يهمُّه في الحياة من شيء إلا أن يَضحكَ ساخرًا من الأُمم والأَقدار.

على أن الإطنابَ في مِثلِ هذه الأشياء تحصيلُ حاصلٍ، والاستطرادَ في ذِكرِ الشواهدِ عَبثٌ؛ لأننا نَشعُر شعورًا كاملًا بأن الأدَب المِصري اسمٌ على غَير مُسمًّى، وإن شِئتَ فقل: إنه فَرضٌ لا حَقيقةَ له. وإنَّما أَقصِد بالأدَب المصريِّ الأدبَ المُقتطَع من حياتِنا ومن أَنفسِنا ومن أَخيلتِنا، الأدبَ الذي إذا قرأتَه تَبيَّنتَ فيه مِصر وأرضَ مِصر وسماءَ مِصر وتاريخَ مِصر، وعلى الجُملة كُل ما تُوحي به مِصر من المُوحِياتِ الدَّفينة في نفوسِنا الرَّسيسة في طَبعِنا الحائرةِ في أَرواحِنا.

أمَّا السببُ في كلِّ هذا فهو أننا بَعُدْنا عن ثقافتنا التقليدية، بل إنَّنا قَطَعنا صِلتَنا بالماضي، وهِمْنا في فَلَوات لا نعرف فيها طريقًا يُسْلَك، لا إلى الأمام لِنصيرَ أُوربيين صِرفًا، ولا إلى الوَراءِ لِنعودَ إلى مِصريَّتنا مَرَّة أخرى، وإذن فنحنُ في التِّيه، ولكنَّه التِّيه الذي لن نَخرُج من ظُلماتِه ما دُمْنا غَير قادرينَ على تَقييمِ حقائقِ وُجودِنا تقييمًا صحيحًا، وما دُمنا عاجزينَ عن إدراكِ تلك الحقيقةِ الأوَّليةِ، حقيقةِ أنَّ ثقافتَنا التقليديةَ هي المَلجأ الأخيرُ الذي يُوقظُ فينا «الرُّوح المصرية» التي من طريقها نُكوِّن الأدَب المِصري الذي ينبغي أن يَكونَ من حياتِنا الأدبيةِ بمَثابةِ الجِهازِ الهضميِّ في الحَيوانِ، فيه تُهضَم الآدابُ الأخرى، ثُمَّ تُمثَّل٦ أدبًا جديدًا مُلائمًا لآدابِنا ومشاعرِنا وأخيلتِنا، وفي الوقتِ نفسِه تُطرَد النُّفايات، تلك النُّفايات التي تُسمِّم أدبنا وتُفسِده؛ لأن أدَبنا الجديدَ أَضعفُ مِن أن يُفرِزها إلى الخارجِ جِسمُه المُتهدِّمُ الضئيلُ.

هذا من حيثُ الأدَب، أمَّا الوَطنيَّة المِصرية ووَصفُها بأنها وطنيَّة ظاهريَّة فلا يَرجِع إلى حُب الأغرابِ، ولا إلى حُب النَّقد بغَير دليلٍ يُقام أو حُجَّة مَقبولة؛ لهذا نُقسِّم الوطنيَّة قِسمَين: قِسمًا يُمثِّله الشبابُ المُتعلِّم وعلى رأسه الأحزابُ، وقِسمًا يُمثِّله الفلَّاحُ الساذجُ.

على أنه يَنبغي لنا قبلَ الاستِطراد في شَرحِ صِفاتِ القِسمَين أن نتعرَّف كيف نَشأتِ الوطنية، ومِن أيِّ نَبعٍ تَستمِد تَصوُّراتها. وما مِن شَك في أن الوطنيَّة المصريَّة إنما استَمدَّت أُولى خُطواتها من آدابِ الثَّورة الفَرنسيَّة الكُبرى التي قَلبَت نِظام الحياة في أُوربا في أواخرِ القَرنِ الثامنَ عَشَر. والدَّليلُ القاطعُ على هذا أنه مُنذ عَصر عُرابي إلى اليَوم تَرى أثَر القِسمَين واضحًا جَليًّا في كل ما أدَّتِ الوطنيَّة المصريَّة من الخِدَم الجِسامِ لمُستقبَل مِصرَ الحديثةِ؛ فالقِسمُ الأوَّل يأتَمُّ بالنظريَّات التي ذاعت في فَرنسا في عَصر ثَورتها وظلَّ مؤتمًّا بها حتى الآن، والقِسمُ الثاني ظَل مُستمسِكًا بتصوُّراته القديمةِ التي عَكفَ عليها طَوال العُصورِ التي ظلَّتْ فيها مِصرُ مَيدانًا لِتطاحُن الأُمم والقَيصَريَّات.

أمَّا الفِئةُ الأُولى — وهي الفِئة التي عَكفَت على النظريَّات الأُوربية تَستمِد منها تَصوُّرات الوطنيَّة — فكانت في كُل الأَدوارِ التاريخيةِ مُنذ سِتة عُقود من الزَّمان ذاتَ الأثَر الواضح في تَكييفِ الظُّروفِ التي لابست كِيانَنا السياسيَّ؛ فهي التي بثَّتِ الرُّوح الجديدةَ، وساقَتْها في طريقٍ أَجبرَ مُقاومِيها على أن يُعدِّلوا من مَوقفِهم إزاءَها تَدريجًا على مُقتضى قُوَّتها أو ضَعفِها حتى أصبَحْنا اليَومَ وفي حياتِنا السياسيةِ عُنصرٌ جديدٌ لم تَعرفْه مِصرُ مُنذ عِشرين قَرنًا من الزمان. غَيرَ أنه مَهما قِيل في هذه الوطنيَّة فإن مظاهرَها قاصرةٌ على تَصوُّرات فِئة قَليلة العَددِ، مَقيسةً بِبقيةِ الذين يؤمنون بالوطنيَّة مَسبوكةً في القالبِ الذي صوَّره الفلَّاحُ المِصريُّ لِيكونَ حدًّا لوطنيَّته، وإنَّ كَلامَنا إنما يَنصبُّ على وطنيَّة هذا الفلَّاح دُون غيرِها.

قد تَعجبُ ويَشتدُّ بك العَجبُ إذا أنا قَرَّرتُ هنا أنَّ الفلَّاح المصريَّ شديدُ الوطنيَّة مغالٍ فيها، بل مُتطرِّف في وطنيتِه أَشدَّ تطرُّف، ولكنَّك بجانبِ هذا تسألُ: أين الآثارُ التي تتجلَّى فيها هذه الوطنيَّة؟ فأُجيبُك بأنها تَظهرُ كُل يَوم على صَفحاتِ جرائدِنا الإخباريةِ، وتشغَلُ بها الحُكومة في أكثرِ أيامِ السَّنةِ! ألَا تَقرأُ كُل يَومٍ أن فلاحًا حزَّ رَقبةَ أخيه؛ لأنه اعتَدى على حقِّه فهَدَّ جُزءًا من حدوده؟ ألَا تَسمعُ أنَّ أُسرةً شَهَرتِ السلاحَ في وَجهِ أُخرى؛ لأنَّ أَحدَ أفرادِها أراد أن يأخُذ نَصيبَ آخر من الماء، وأنَّ المَوقعةَ انجَلَت عن قتيلٍ وجَرحى وأَسرى هُم رَهْن التحقيق؟ إذن فاعرِف أن هذه هي الآثارُ التي تترتَّب على وطنيَّة الفلَّاح المِصري. أمَّا الوطنيَّةُ نفسُها فتَنطوي على حُب الحَقل والدِّفاعِ عنه بالمالِ وبالولَدِ وبالرُّوحِ؛ ذلك بأنَّ الفلَّاح الذي فقَد حُقوقه المدنيَّة والسياسيَّة طَوالَ عُصورٍ قلَّما تَعيها الذِّكْرياتُ، ونَزلَ به من الفادِحاتِ ما لا عَينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سَمِعتْ، لم يُصبحْ عِندَه في الدَّنيا من شيءٍ ذي قِيمةٍ إلا ذلك الحَقل بِحدودِه الأربعة، وإلا ذلك النَّزْر منَ الماء المُحيِي الذي يَجودُ عليه بالرِّزقِ الحلالِ.

أمَّا السبب في أن تَنضمِر الوطنيَّة المصريَّة حتى تُصبحَ في نَظرِ الفلَّاح الذي هو أهمُّ عناصرِ مصرَ الحيويةِ مَحوِيَّة في داخل هذه الحدودِ الضيِّقة فراجعٌ إلى أسبابٍ تاريخيةٍ؛ فإنه مُنذ غَزو الإسكندرِ المَقدونيِّ ومن قَبلِه بعَشْر سِنينَ — أيْ مُنذ أن طَردَ الفُرسُ آخر مُلوكِ الفراعنةِ واسمُه «نقطانيبو» — لم يَسُد المِصريُّون في بلادِهم يومًا واحدًا، وظَلَّ المِصريون بينَ الحُقول يَزرعونها لِيعولوا أنفُسَهم، ويَعولوا أسيادَهم الذين يتسلَّطون عليهِم من أيَّة أُمة كانوا وبأيِّ دِينٍ دانوا. فقَدِ استطاعَ المِصريونَ قبلَ الغَزوِ الفارسيِّ الأخيرِ أن يستردُّوا حُريتَهم المَرةَ بَعدَ المَرةِ عُقَيْب كُل غَزوٍ دَهمَتْهم به أُمة أَجنبية كالهكسوسِ وغَيرهِم، وأن يُقيموا على عَرشِ بلادِهم أُسرًا من الفراعنة التي تُحيي تقاليدَ الحُكمِ والثقافةِ واللُّغةِ، تلك التقاليد التي نَشأتْ ورَبَتْ في مَدى عُصورٍ مُتعاقبةٍ. ولكنَّ تلك الغَزوةَ كانت آخِرَ عَهدِ مُلوكِ الفراعنةِ الذين تَجري في عُروقِهم الدِّماءُ الوطنيةُ بالحُكم على ضِفاف النِّيل وإلى آخر الدُّهور. فمُنذ فَتحِ الإسكندرِ خَضعتْ مِصرُ أَلفَ سَنة لحُكَّامٍ هِلِّينيِّي الحَضارة مِن مَقدونيِّينَ ورُومانٍ، وفي نهايتها صارت مصر جزءًا من جِسْم الإسلامِ فبُدِّلت تَبديلًا، وأصبَحتْ لها لُغةٌ أُخرى ونظامٌ اجتماعيٌّ لا عَهدَ لها به، ودِينٌ جديدٌ، ونُبذَ الآلِهةُ — الذين عُبِدُوا في مِصرَ على أنَّهم آلهتُها الخَواصُّ الآلاف من السِّنينَ — نَبذًا أبديًّا، ثُمَّ دُفِنوا في ثَراها.

ومُنذ ذلك التاريخ لم يفُز مصريٌّ أصيلٌ بالحُكم على شُطآن النِّيل، بل لقَد مرَّت عُصور طويلة كعَصرِ البَطالمةِ مثلًا لم يكُن في الحُكومة كلِّها من مِصري شَغل مرَكزًا أَكبرَ من مرَكزِ صرَّاف يَجبي المالَ. بل رأى المِصريون مَعابدَهم المُقدَّسة تُستباحُ فيَتخِذُها المَقدونيون مَوضِعًا لِلَهوِهم وعَبثِهم وسُكْرهم وعَربدتِهم، ورَأَوا الفُرسَ يَذبَحون عِجْلهم المُقدَّس من قبلِ ذلك.

ولقَد كان لهذه المُلابَسات التاريخية آثارٌ كيَّفتِ الوطنيَّة المِصريَّة فحدَّتها بحُدود الحَقل المُقدَّس، وإنما صار الحَقل مُقدَّسًا في عَين المِصري لأنه كان المَلجأ الوَحيدَ الذي لجأ إليه فحَماه منَ الانقراضِ التامِّ، ولَولا ذلك الحَقلُ إذن لأصبَحتْ مِصرُ اليَومَ إمَّا رُوميةً وإمَّا لاتينيةً. ولكِنَّ الحَقلَ قام سَدًّا بينَ الغُزاة وبينَ المِصريينَ أينَ مِنه سَد يأجوجَ ومأجوجَ؛ ذلك بأنَّ ثَرى مِصرَ لم يكُن لِيزرعَه إلا المِصري، ولا يَقوى عليه غيرُ المِصري؛ لِهذا عَبدَه المِصريون بَعد «أبيس» وقدَّسوه في الأَعصُر الحديثةِ تقديسًا ليس فَوقه عِندهم شيء إلا خَشية الله، ففي الحَقل رِزقُه وقُوته، وفي طَرَف منه قِطعةٌ سُوِّيَت لا تزيد مِساحتُها عن بِضعة أقدامٍ مُربَّعة فُرِشَت بنَبات الحَلفاء هي مُصلَّاه. فالحَقلُ للفلَّاح عالَمٌ صغيرٌ مُقدَّسٌ يَذود عنه بالرُّوح، ويَبذل في سبيله الدَّم؛ لأنه مَلجؤه الأَخيرُ ومَلاذُه ومُبتغاه. وبالجُملة أصبَح له كما يقول «هوجو» البَيضةَ والعُشَّ والسَّكَن والوَطنَ والكَونَ.

فلا عَجبَ إذن في أن تَنحصِر الوطنية المصرية — ونَعني بها وطنيةَ السَّوادِ من أهل مصر — في حدود ذلك الحَقلِ ولا تَتعدَّاه، وكَيفَ تَتعدَّاه وقد آنسَتْ فيه الحياةَ آلافَ السِّنينَ، واستَقرَّت في تُربته الأجيال ثُمَّ الأجيال؟

وكما أننا عَجزنا عن أن نُكوِّن أدَبًا مِصريًّا صحيحًا قَويَّ الرُّوحِ والأَخيِلةِ بأنْ بَعُدنا عن ثقافتنا التقليدية، فكذلك عَجزنا عن أن نُخرجَ لهذا السببِ عَينهِ وطنيَّتنا من حدود الحَقلِ إلى حدود مصر. وليس هذا وَحدَه السَّببَ في أن وطنيَّتنا ظاهريةٌ، بل إنَّ هنالك سببًا آخر يَتجلَّى في أنَّ أصحابَ الفريق الأوَّل من وطنيِّينا — وهم الذين يَستمدون تَصوُّراتِهم الوطنية مَنقولةً من أُوربَّا — لم يَتغلغَلوا في صَميمِ مِصرَ لِيَفهموا حقيقةَ السببِ في ضَعفِ الوطنيةِ المصريةِ، وإنما يَجبُ علينا أن نَعكُف على ثقافة تقليدية نَنتزِعُها من صَميمِ مصرَ؛ لتَكونَ عَونَنا في بناء صَرحِ المَجدِ كاملًا اقتصادًا وأدبًا ووطنيةً.

وأمَّا فَشلُنا في هذا حتى الآنَ فإلى أيِّ شيءٍ نَعزوه؟ إلى السياسة التي جَرى عليها التعليمُ في بلادِنا بغَير جِدال. وسنُظهر في ما يتلو من البحث جَهدَ مُستطاعِنا كيف نَنجو بثقافة تقليدية مُستحدَثة تُنقذُنا من البَوار المَحتوم.

لقد بَلغْنا من البحث ذلك المَبلغَ الذي يُهيِّئ لنا أن نَخلُص إلى النتائجِ؛ فقَد شَرحْنا الأسباب التي أفضت بنا إلى تخريج مُتعلِّمينَ مُتعطِّلينَ لا عَملَ لهم ولا بِيئةَ يُمكِن أن يُنْتَفع فيها بما تَعلَّموا، وصوَّرْنا مُجمَل النتائج الاجتماعية التي تَترتَّب على هذه الحال، وطَبَّقْنا النظريَّات فاستنبَطْنا منها صُورةً لِما سوف يَكونُ عليه مُجتمَعُنا في المُستقبَل القَريب، والنَّتائج السَّيئة التي ستَظهرُ آثارُها جَليَّة واضحة في عَجزنا عنْ الاحتفاظِ بحالةٍ اجتماعيةٍ ثابتةٍ قويةِ الأركانِ، وعَطَفْنا من ثَمَّت على وَصفِ صُورةٍ من أدَبنا ووطنيَّتنا، وعَزَوْنا كُل النقائصِ إلى نظريةٍ جديدةٍ مُحصَّلها أن الانفِصالَ عن ثقافتنا التقليدية كان السببَ في أن نُصبحَ ككائنٍ حيٍّ لا مَعِدة له يأكل ولا يَهضِم، فتراكمَتْ في كِيانه كُل النُّفاياتِ التي لا تُلائمُ طَبعَه ولا تَتفِق ومِزاجَه، وأنَّ ذلك كان سببًا في ألا تَظهرَ له شَخصيَّة خاصَّة به، وأصبح كَلًّا على غَيره بأنْ فَقَد استقلالَه الذاتيَّ.

ويَجدُر بنا بَعد ذلك أن نُعيِّن مِمَّ تتكوَّن الثقافة التقليدية لِيتيسرَ لنا أن نُحدِّد البحث تحديدًا مَنطِقيًّا مَقبولًا؟ فإن لِكلِّ ثقافة تقليدية اختَصَّت بها أُمةٌ من الأُمم مُكوِّناتٍ تَنتهي إلى أُصولِ بعَينها. وعِندي أن للثقافة التقليدية عُنصرَين: الأوَّلُ عُنصرٌ عقليٌّ، والثاني عُنصرٌ مَعاشيٌّ وكِلاهما مَوروث، فالأول يَتكوَّن وِراثةً منَ اللغة والدين والتاريخ والأدب والفنون إلخ، والثاني يَتكوَّن وِراثةً من كلِّ ما يَتعلقُ بالأحوال المَعيشيةِ، وهي في مصرَ: الزراعةُ، وما يَتعلقُ بها منَ المُنتَجاتِ. ومِن أَجلِ أن يَكمُل استقلالُ الفَرد استقلالًا عمليًّا في الحياة يَنبغي أن يَتجِه تَنشيئُه إلى أَصلٍ أساسيٍّ، وبالأَحرى إلى سياسة عَمليَّة تَرمي إلى وَصلِه بالعُنصرَين وَصلًا وثيقًا حتى يَستطيعَ أن يُمثِّل جَميعَ ما يُلقَّح به من مُقتضياتِ الثقافةِ الحديثةِ، فيكيِّفها على حَسَب ما تتطلَّبه حاجاتُ ثقافته التقليدية، وأن يَنفيَ عن جِسمِه كُل ما هو غَيرُ مُلائمٍ له، فيَظلَّ سليمًا شأنَ كلِّ كائنٍ حيٍّ اتَّصفَ بكُل ما تُمِدُّه به حَيويةٌ مُكتمِلةٌ منَ الصفاتِ الضروريةِ للحياةِ، وتَتكافأ في كِيانه كلُّ الأفعال التي تَرجِع إلى قُدرة أعضائه على تنظيمِ وظائفِها المُتبادَلة تنظيمًا دقيقًا يُساعِد الطبيعة على أن تُفسِح له في الحياة مَركزًا جديرًا بما يَتصِف به مِن صِفاتٍ، وبما لَه من مَقدِرة على الاستقلالِ بِذاتهِ.

تَتصِل مِصرُ بثَقافتَين من أَمجدِ الثَّقافاتِ التي خلَّفها النَّوعُ الإنسانيُّ: ثقافة العرب دِينًا ولُغةً، وثَقافة المصريين فنًّا وحياةً. ولا شَك في أن الثقافتَين تَمتزجانِ الآنَ في المِصريينَ امتزاجًا عظيمًا حتى ليَتعيَّن علينا أن نقول: إن ما نَعني بالثقافة التقليدية يَنحصِر فيما يُنتِج مَزيجُ الثقافتَين القديمتَين من حالاتٍ تُشعِرُ بأن ماضِيَنا مُكوَّنٌ منها، وأن دَمَنا مُلقَّحٌ بها، وأنَّ تَصوُّراتِنا ومشاعرَنا وجُمَّاع ما فِينا من صِفاتٍ إنما تَنعكِس عنها وتَنبعِث منها. وكذلك إذا قُلنا: «المصرية» فإنَّا لا نَعني بها شيئًا إلا مَزيجَ تَينِكَ الثقافتَين المجيدتَين اللتَين كوَّنتا لنا على مَرِّ العُصور تُراثًا قويًّا نَستنِد إليه، ودعَامةً مُثلى لمجدٍ يَنتظِرنا إذا نحنُ استَوْحَيناه، واستَرشَدْنا بوَحيِهما واتَّخذْناهما أساسًا نُقيمُ عليه لمُستقبَلنا ولم نَعزفْ عنهما شأنَنا الآنَ.

وإذًا يَكونُ لنا من ثقافتنا التقليدية ناحيتان: الأُولى ثقافة تُزوِّدنا بها اللغة العربية والدِّين الإسلامي، وهذه الناحية تُكوِّن أكثرَ ما فينا من نَزعاتِ الأدَب والعِلم، والثانيةُ ثقافةٌ تُزوِّدنا بها مصر القديمة، وهذه بِدَورِها تُكوِّن مُتَّجهَنا الفنيَّ والمَعاشيَّ، ومِنهما يَتكوَّن ذلك التُّراثُ الخالدُ الذي نَدعوه ثقافةَ المِصريينَ التقليديةَ.

ولن يَكونَ هذا البحث كاملًا إلَّا إذا عَرفْنا قِيمةَ اتِّصالِنا بهذه الثقافةِ ومِقدارَ ما نَحتاج إليها في تَكوينِ نهضتِنا الحديثةِ تَكوينًا نَضمنُ مَعه الثمَرة العملية التي تُرْجَى من جيلٍ جديدٍ قادرٍ على الكفاح في الحياة والعمل المُنتِج، الذي يُعيننا على إقرار الحالات الاجتماعية على أساسٍ ثابتٍ. وآمُل أن أَكونَ قد أفلحْتُ بعضَ الشيء في تصويرِ ذلك في سِياقِ هذا الحديثِ.

لا رِيبةَ في أن التعليمَ العامَّ هو الأداةُ التي تُمهِّد لنا سَبيلَ الاتصال بثقافتنا التقليدية، ولقد وَضَح لنا حتى الآنَ أن السياسة التي جَرى عليها التعليمُ في بلادِنا قد أَضعفَت من وسائلِ هذه الأداةِ إضعافًا ظَهرَ أثرُه جَليًّا في كُل مَرافِقنا، بل وفي كُل نواحي حياتِنا عقليَّة وماديَّة.

عَمَد الأُوربيون مُنذ عهد النهضة الأدبية الحديثة إلى الاتصال بثقافتَين أُوربيتَين كانتا العِمادَ الأول والسِّنادةَ العُظمى في تلك النهضة؛ عَمَدوا إلى ثقافةِ اليونانِ وثقافةِ الرومانِ حتى لقد غالَوا في ذلك باتخاذ اللغة اللاتينية لُغةً رسميةً في العِلم وفي الأدَب وفي الفن، فأحيَوا بذلك ثقافتَين لم يَكُن لهما مَناصٌ من إحيائهما؛ لتكونا الوصْلةَ بينهما وبين ماضٍ صَبَغ ثقافةَ حَوضِ البَحرِ المُتوسِّط قُرونًا بصِبغةٍ خاصةٍ ولَونٍ خاصٍّ. ولا تَزال جامعات أُوربَّا حتى اليَومِ تُعنى العِنايةَ كلَّها بتلقيح عقول الناشئين بتُراث الثقافتَين معًا، بل وتَجعلُ دَرْس اللغتَين اليونانيةِ واللاتينيةِ أَصلًا من أُصول التثقيف العالي، فلِمَ كان ذلك؟ ولِأيٍّ من الأسباب الحيويةِ التي شَعرَ بها الأُوربيون في بَدء نهضتهم تَرجِع هذه الظاهرة؟ إنما تَرجِع — كما قُلنا — إلى أنَّ الثقافة التقليدية هي الأَصلُ الذي يَجبُ أن يَظلَّ ثابتًا في بناء الأُمم الأدبي والاجتماعي؛ ليَكونَ مَلْقَحًا للآراء والنظريَّات وضُروب الثقافات الدخيلة احتفاظًا بالطابعِ الأَصيل في الأُمة، ذلك الطابع الذي هو جُزء من كِيانِها وقِطعة من وُجودِها، وليَكونَ في الوقت ذاتهِ العُدة في تمثيلِ ما يَتصِل بثقافة الأُمة من الثقافات المُنتحَلة غَير الأَصيلة، وتكييفِها تكييفًا يَتفِق ونَزعاتها ومَشاعِرها وأَخيِلتها، وعلى الجُملة يَتفِق وثقافتها التقليدية. فهل اتَّبعْنا في نهضتِنا هذه السبيلَ القويمة؟ وهل كَفلَ لنا التعليمُ الوُصولَ إلى هذه الغاياتِ العُليا؟

كَلَّا، لم يَكفُل لنا التعليمُ شيئًا مِن هذا، وأَقصِد به التعليمَ بناحيته: الناحية التي تُمثِّل وِراثتَنا عن العَربِ لغة ودينًا وأَعني بها الأَزهرَ؛ فإنه لم يُلقَّح بشيء من الأساليبِ الحديثةِ التي يَجبُ أن يُلقَّح بها لِتَكونَ له بمَثابةِ الدَّمِ الجديدِ يَجري في العُروق القديمة. وكذلك لم تُعنَ الناحيةُ التي تُمثِّل ثقافتَنا الدخيلةَ — أيِ الثقافة الأوربية — وأَعني بها ناحيةَ التعليم الزمني، بأن تُكوِّن فينا تلك الفِطرة التي تَصِلنا بثقافتنا التقليدية؛ لِتكُون مَعملًا حديثًا يَتحلَّل فيه ما يَصِلنا عن أُوربَّا، ويَخرجُ منه مَصبوغًا بصِبغة مِصريةٍ أَصيلةٍ. ومَثلُ الأزهر في ذلك كمَثلِ كائنٍ حيٍّ هَضمَ ولم يأكُل، ومَثَل التعليمِ كمَثلِ كائنٍ حيٍّ أَكَل ولم يَهضمْ، فناحيةٌ جائعةٌ وناحيةٌ مَتخومةٌ.

لقَد ظَل اتصالُ الأَزهرِ بذلك الجُزء الذي يُمثلُه من ثقافتنا التقليدية غَير مُكيَّف بمُقتضيات العُصورِ والحالاتِ التي قامت خِلالها، وهو أَقلُّ تكيُّفًا بمُقتضياتِ هذا العَصرِ منه بمُقتضياتِ كُل عَصرٍ مَضى. أمَّا إذا آمنْتَ بأن كَلمةَ الثقافةِ تَدلُّ على تكييف الذهن تكييفًا تاريخيًّا أوَّلَ شيء — ونَقصِد بالتكييف التاريخي خَلقَ تَصوُّرات جديدة من تاريخِ الأُممِ القديمةِ — فمَا مِن شَك إذن في أنَّ الأَزهرَ لم يَتصِل بالثقافة التقليدية من ناحيتِها التي تَخلق هذا التصوُّرَ، وإنما اتَّصلَ بناحيةٍ من الثقافةِ التقليديةِ صدَّت التصوُّراتِ عنْ الانبعاثِ في سبيلِ الابتكارِ. وكذلك ظَلَّ تعليمُنا الزمني بَعيدًا عنْ الاتصالِ بثقافتِنا التقليديةِ من جَميعِ نَواحيها تقريبًا، ومن هنا ذلك الصَّدعِ المُتنائي الذي نَلحظُه قائمًا بين الناحيتَين.

ولقَد يُخيَّل إليَّ أن ما مَضَينا فيه من بحثِ هذه الناحية كافٍ للبيان عمَّا نَقصِده من ضرورة الاتصال بثقافتِنا التقليديةِ من الوِجهةِ العقليةِ. أما الوِجهة الفنيَّة المَعاشيَّة، وهي الناحية التي لها الأثَرُ الأكبرُ في علاجِ الحالاتِ الاجتماعية التي قامت حِفافَينا من الناحية الاقتصاديَّة، فتلك ما سوف أُصوِّر كيفيَّة الاتصالِ بها تصويرًا عَمليًّا؛ لأن هذا هو الغَرضُ الأوَّلُ مِن بَحثِنا هذا.

إذا كان ما قُلنا صحيحًا من أن التعطُّل في مِصرَ والتعليمَ أَمرانِ مُتصِلانِ أَشدَّ الاتصالِ، باعتبار أن أحَدَهما مَرضٌ والثانيَ علاجٌ، فالواجب يَقضي علينا — بعد أن أَظهَرنا أَوجُه الاتصال — أن نُبينَ عنِ الطريقِ العمليِّ الذي يَجعلُ العلاج ناجعًا في القضاءِ على الداءِ. ولمَّا كانت ثقافتُنا التقليدية من الوِجهة المعاشية هي الزِّراعة تَحتَّم علينا، بحُكم الضَّرورة، أن نَنقلَ درجتَي التعليمِ الأُوليَين: أيْ الابتدائي والثانوي — وهما الدَّرجتانِ التَّكوينيَّتانِ في مَراحلِ التعليم — منَ المُدن إلى القُرى، وأن نُقيمَهما على سياسةٍ تَختلفُ اختلافًا تامًّا عنِ السياسةِ التي يَجريانِ عليها الآنَ.

•••

تَجري سياسةُ التعليم الآنَ في هاتَين المَرحلتَين على أساسٍ نَظريٍّ بعيدٍ عن أن يَجعلَ لنا أيَّ اتصال بثقافتنا التقليدية من وِجهتَيها العقلية والمعاشية. ولا أَكونُ مُغاليًا إذا قلتُ: إن هذه السياسةَ لا تَصِلنا بثقافة أُوربا أيضًا بحيث تَجعلُنا قادرين على فَهمِ ما نَنقلُ منها فَهمًا صحيحًا مفيدًا. وما قولُك في شابٍّ يَخرُج من التعليمِ الثانويِّ جاهلًا بلُغتهِ العربيةِ وأُصولِها وآدابِها، غَيرَ مُتصلٍ بآداب دينهِ، غَيرَ عارفٍ بشيء من تاريخِ بلادِه، وبالأَحرى من تاريخِ العربِ أو تاريخِ مصرَ، عاجزًا عن التعبير تعبيرًا صحيحًا بأيٍّ من اللُّغتَين الأُوربيتَين اللتَين يَتلقَّاهما في مَراحلِ ذلك التعليمِ؟ أضف إلى ذلك أنه بِجانبِ هذا يَخرجُ من التعليم الثانوي غَيرَ مُتصلٍ بشيء من ثقافةِ بلادهِ التقليديةِ من الوِجهةِ المَعاشيةِ، غَيرَ مُتصلٍ بطبيعة الأرض التي أنشَأتْه أو بطُرق استِغلالها، مَشحونَ الذِّهن بنظريَّات وأوهامٍ يَتعذَّر مَعها أن يُعايِش الفلَّاح، وأَن يُدركَ شيئًا من سِرِّ حياتهِ وتقاليدهِ وخطراتهِ ونَفسيتهِ؛ فكأننا بهذا التعليم نَخلقُ من حَوله جَوًّا مُصطنعًا وبِيئةً عقليةً غريبةً عن طَبعِه، فيُصبحُ بذلك أداةً عاطِلةً في جِسْم الاجتماعِ وبِزرةً حيَّة للتبرُّم بالحالات القائمة من حَوله في مَربَاه، بل ومَنشأً للقلقٍ، ومَرتعًا لغَرسِ الأفكار المُتطرِّفة الخاطئة. وعلى الجُملة يَكونُ مَوضعًا خِصبًا لغَرسِ بُزورِ الشرِّ والفسادِ، والعملِ على قَلبِ النظم الاجتماعية؛ طمعًا في الحُصول على نُظمٍ تُلائم كِفاياتهِ، وتَتفِق ومُؤهِّلاته التي أهَّله التعليمُ لها؛ ذلك بأن كُل عقلية لها تكوينٌ خاصٌّ تَنشُد من طريقه دائمًا البِيئةَ التي تُرضيها، وعَجزُ المُتعلِّم المُتعطِّل عنِ الإنتاج إنما يَحمِله — بمُقتضى مُوحيات عَقله الباطن — على أن يَعملَ على تكوين البيئة التي تُلائمه، مُتخذًا من النُّظم الاجتماعية التي نَشأ فيها مادةً يُجرِّب فيها مِقدارَ ما في نفسِه من قُوة التحليلِ — لا من قُوة التَّشييد — على خَلق البِيئة التي تُرضيه، والنُّظمِ التي تُوائم عَقليته وكِفاياته. وما لَنا أن نَقولَ لهم من شيء إلا ما يَقولُ آرل بلفور لأمثالِهِم من أَهلِ بيئته: بأنهم إذا مزَّقوا القِيمَ القَديمة وأَرسلُوها أَباديدَ، فقد يَتعذَّر عليهم الاحْتِفاظ بالقِيمِ الجديدةِ على وَجه الاستمرار.

إنَّ الخُطوة الأُولى التي نَدعو إليها، وهي نَقل دَرجتَي التعليمِ الأُوليَين من المُدن إلى القُرى، لخُطوةٌ ضَروريةٌ في عِلاجِ سياسةِ التعليمِ، وهي الخُطوة الأساسية في وَصْل التعليمِ بثقافةِ البلادِ التقليديةِ من الوِجهةِ المَعاشيةِ. أمَّا الخُطوة الثانية فتَنحصِر في إقامة مَدارسِ الحُقولِ، فتُشيَّد المَدرسة على أرضٍ فسيحةٍ تَكفي لِأنْ تَكونَ مَيدانًا يَتعلَّم فيه الطلَّاب طُرق الزِّراعة العمليَّة على القواعدِ الحديثةِ، ويَجِب — مع هذا — أن تُلْغَى الشَّهادةُ الابتدائيةُ، ويُكْتَفى بِشهادةِ التعليمِ الثانويِّ، وأنْ يَبدأ الطالبُ حياتَه التعليميةَ في هذه المَدارسِ من الثامنةِ، ويَفرغَ من تَعليمهِ الثانويِّ بَعد عَشرِ سِنينَ، فيَخرجَ منَ المَدرسةِ وله منَ العُمر ثماني عَشْرة سنةً أو عِشرونَ سنةً. فإذا أراد أن يَتخصصَ بَعد ذلك في التعليم العالي فلَه ذلك، ولكنْ بعد أن يَكونَ قدِ اتصلَ بثقافة بلاده التقليدية، وقامت مَعلوماتُه على أساسٍ عمليٍّ رشيدٍ، يَكونُ إليه مَردُّ رِزقهِ إذا تَخصصَ وعَجزَ عن كَسبِ رِزقهِ الحَلالِ.

•••

هذا هَيكلٌ منَ الرأيِ يَحتاج إلى شَرحٍ وَجيزٍ، فإنَّنا لا نَعني أن تعليم الطُّلاب في تلك المَدارسِ الزراعيةِ العمليةِ يَجبُ ألَّا يَصِل الطالبَ بالناحيةِ النظريةِ، وإنما نعني أن يَكونَ أساسُ التعليمِ فيها الزراعةَ العمليةَ، وما يَتصِل بها من العُلوم، وبجانبِ ذلك تعليمٌ نظريٌّ قائمٌ في أوَّل الأَمر على الاتصالِ بثقافةِ المِصريينَ التقليديةِ من الوِجهةِ العقليةِ، مع العِنايةِ بأَمْر اللغاتِ الأُوربيةِ عِنايةً كُبرى حتى يَتيسرَ لَنا الاتصالُ بثقافةِ العَصرِ اتصالًا وَثيقًا صَحيحًا.

أَضِف إلى ذلك أن الطالبَ يَنبغي أن يُلَقَّن كُلَّ ما يَتصِل بالإنتاج الصناعي من الوِجهة الزراعية، فيَخرجَ مُلِمًّا بطائفةٍ من الصناعاتِ المُتصلةِ بمَحصولاتِ بلادهِ الزراعيةِ، عارفًا بِسرِّها ووِجهةِ الانتفاعِ بها. ولا أُغالي إذا قُلتُ: إن كثيرًا منَ الذين يَنجحونَ من أَهلِ أُوربَّا في بلادِنا أكثرُ اتصالًا بثقافةِ بلادِنا التقليديةِ، منَ الوِجهةِ المَعيشيةِ، منَ الطالبِ المُتخرِّج من كُليةٍ عُليا من كُليَّاتنا، وفي هذا سِرُّ نَجاحهِ العَملي، وسِر تَعطُّل شَبابِنا عنِ العملِ؛ ولهذا يَتحتَّم علَينا أن نَدعوَ إلى نَشرِ الصناعاتِ التي تَتصِل أوَّل شيء بمَنتوجاتِنا الزراعيةِ، وأن نَصدِف عن غَيرها؛ لأنها لا تُفيدُنا شيئًا في حَياتنا المعيشيةِ، أو تُثبِّت حالاتنا الاجتماعية المرتجَّة الشاذَّة، وبخاصةٍ إذا وَعَينا أن دُور التعليمِ — على اختلافِ نواحِيها — تُخرِّج كل عام عددًا من المُتعلِّمينَ تعليمًا غَيرَ عِلمي زائدًا عن حاجة البلاد.

وإنما يَجِب أن يَتجِه التعليمُ في الحُقول إلى غايةٍ أخلاقيةٍ مُحصَّلُها أن يُغرسَ في طبيعة المُتعلِّمينَ تَصوُّر جديد في شَرفِ المِهنةِ التقليديةِ التي وَرِثناها عن أسلافِنا ألَا وهي الزِّراعة. فإن التلميذَ يَجب أن يَضع يَده في كُل عملٍ يُمكِن أن يُؤدِّيهُ الفلَّاح بنفسه، وأن يَتصِل — عن طريق عضلاتِه — بكُل ما تتطلَّبه مِهنةُ الزراعة من أَعمالٍ جُسمانية، وأن لا يَرى في ذلك شيئًا خادشًا لعِزتهِ أو مُذلًّا لنفسِه.

•••

أَورثَنا الحُكمُ التركيُّ المَشئومُ عادةَ احتقارِ الفلَّاحِ؛ لأن كلمة «فلَّاح» كانت تُوازي عند التركي أَحطَّ ألفاظِ الشَّتمِ وأشنعَ كلماتِ السِّبابِ، ولِطولِ الأَمدِ الذي اعتَدنا أن نَسمعَ فيه هذه الكلمةَ مُؤدِّية ذلك المَعنى، غُرِس في طبيعةِ المِصريينَ أنفُسِهم — بطريقِ التَّكرارِ ومُوحِياتِ العقلِ الباطنِ — مَيلٌ إلى احتقارِ الفلَّاح واحتقارِ مِهنتهِ، والاعتقادِ بأن العملَ اليدويَّ في الزراعة إنما هو عِقابٌ نفسيٌّ مُرهِق للنفسِ خَادشٌ للعِزَّة. وأَنتَ تَرى أن الأعرابَ في مِصرَ قدِ انتَحلوا هذه العادةَ، فإنكَ إذا سألتَ أعرابيًّا أفلاحٌ أنت؟ أجابكَ على الفَور: «كلا، أنا أعرابيٌّ.» ولكن بنَبراتٍ تَدلُّ على أنه يَعتبِر الكَلِمةَ اعتداءً على مكانتهِ الساميةِ، وقد يَكونُ من خُشاشِ الناس ومن ذؤبانِ العرب مُهلهَل الثِّيابِ قَذرَ المَنظرِ والمَخبرِ.

ولم يَقفِ الأَمرُ عند هذا الحَد، بل إنك تَجد أن الفلَّاح إذا قضى خِدمتهُ العَسكريةَ وسُرِّح من الجيش أنِف أن يَعود إلى الحَقل، أو أن يَحمِل المِحراثَ أو يَقودَ الماشيةَ، فإذا عَجزَ عن أن يَكونَ شُرطيًّا قَضى وقتَه في القَرية عاطلًا أو مُحترِفًا حِرفةً أُخرى غَيرَ الزِّراعة، فتجده نجَّارًا أو حَدَّادًا لا يَملِك قُوت يَومه. وقد يتطرَّف بَعضُهم في احتقارِ مِهنة آبائه، فيَغشى المجالِس عازفًا على قيثارة؛ لأنه كان في مُوسيقى الجيش مُستجديًا بها، كأنما هو يَعتقِد أن الاستجداء بالعَزف على قيثارة أَشرفُ من العمل في الحُقول. ولا شَك في أنَّ هذه الظاهرة قد أورثَتْنا نَقصًا نَفسيًّا يُمكِن تَعليلُه عِلميًّا، ولكن ليس هنا مَكانُ إيضاحه. ولكنَّ ذلك لا يَحولُ دُون القَول بأن هذه الظاهرةَ منَ السَّهلِ علاجُها، بأن نُعوِّد أولادَنا الاعتقادَ بشَرفِ المِهنة التي تُربِّي جُسومَهم، وعليها قامت مدنيَّتهم مُنذ أقدمِ العُصور، على أن نُفْهمهم أولًا أن لهم مَدنيةً وماضيًا جديرَين بالاحترامِ.

•••

والمُحصَّل أننا لن نخلص من نتائجِ التعطُّلِ إلا بالالتجاء إلى إقامةِ سياسةِ التعليمِ على قواعدَ جديدةٍ أساسُها الأوَّلُ الرجوعُ إلى ثقافتِنا التقليديةِ، فنُخْرِج رجالًا مُستقلِّينَ بأنفُسِهم، يَعرفون كيف يَرجعون إلى حُضن أُمهِم الأُولى «مصر» إذا أرادوا الحياةَ سعيدةً هنيةً. ومن أَجْل أن نَصل إلى هذه النتيجة يَنبغي لنا أن نَنتحيَ أُسلوبًا مُعيَّنًا يَنحصِر في تنفيذ الآتي:
  • أولًا: جعْل مُدة التعليمَين: الابتدائي والثانَوي عَشْر سَنواتٍ يَمتزِج فيها التعليمُ النظريُّ بالتعليمِ العمليِّ الزراعيِّ، وأن يُغْرَسَ في الطُّلابِ رُوح الاعتقادِ بِشرفِ مِهنة آبائهِم التقليديةِ، وأن يَقترِن هذا التعليمُ بتَلقينِ الصناعاتِ الزراعيةِ، وبِخاصةٍ ما يَتعلَّق بالزراعةِ العمليةِ منها.
  • ثانيًا: دَرْس تاريخِ العربِ والمِصريينَ دَرسًا تحليليًّا وافيًا.
  • ثالثًا: دَرْس مَبادئِ العُلومِ والآدابِ العامةِ، وهيَ الجِهةُ التي تُلقَّح بها عُقولُنا منَ الثقافةِ الحديثةِ.
  • رابعًا: دَرْس مَبادئِ الأدَبِ ومبادئِ الدِّينِ العُليا.
  • خامسًا: دَرْس عقائدِ المِصريينَ القُدماء وطُرقِ مَعيشتِهم وآثارِهم وأعيادِهم، وعلى الجُملة كُل ما يَتعلَّق بحياةِ الجماعةِ في مِصرَ القديمةِ.

وهُنالِك بجانب هذه أشياءُ يَجِب أن يُهيَّأ الناشئ بِمَعرفتِها، ولكنَّها جميعًا تفاريعُ على هذه الأُصولِ فلا مَحلَّ لِذكرِها.

فإذا تَخرَّج الطالبُ وله منَ العُمر ثماني عَشْرة سنةً أو عِشرونَ، أَصبحَ على الحكومة له واجبٌ تُؤدِّيه، هو أن تَمنحَه قِطعةً من أرضِها المَملوكةِ يؤدِّي لها فيها ثمنًا قليلًا على أقساطٍ طويلةٍ، وأن تمدَّه برأسِ مالٍ إن احتاجَ إليه يُسدَّد مع ثَمنِ الأرضِ؛ لِيكونَ عَونَه على إعدادِ عُدَّته لحياةِ العملِ والكفاحِ.

•••

هذا طريقُ الخَلاصِ، وهو وَحدَه طريقُ القضاء على التعطُّلِ، وإخراجِ جيلٍ جديد مُنشَّأ على طُرق عمليةٍ، جيل مُكافح عامل خالٍ من آثارِ الأمراضِ الاجتماعيةِ، جيل يَشعُر بأنه مُستقِل في الحياة، وأن له عِزَّة الرجولةِ وشَرفَ الانتسابِ إلى مِصرَ الخالدةِ، جيل هو جيلُ الاستقلالِ الحقيقيِّ والعملِ لمَجدِ النِّيلِ.

١  العبارة هنا منقولة بالمعنى لا بالحرف.
٢  قد يَظُن البَعضُ أن الفِتيان والفتَيات ممَّن يَتعلَّمون في المَدارِسِ الأَجنبيةِ قَد يؤلِّفون مُعسكَرًا ثالثًا، ولكِنْ أَعتقِد أن الفارِقَ بَينَ الذين تُخرِّجُهم مَدارِسُنا المِصريةُ والذين تُخرِّجُهم المَدارِس الأَجنبِيةُ — مِن حيثُ الاتصالُ بثقافتِنا التقليديةِ — ضئيلٌ ولا يَكادُ يُرَى.
٣  Picadilly Circus ميدان في لندن.
٤  Social Degeneration.
٥  رواية العلامة الروسي دوستويفسكي: الإخوة كارامازوف.
٦  بالمعنى الإحيائي: أي تتحول جزءًا من الفطرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤