الفصل الأول

الألفاظ

(١) المجردات العامة

العقبة الأولى هي عقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري؛ بمعنى اختلاف دلالات الأشياء هنا، في الوطن العربي، عنها هناك في العالم الناطق بالإنجليزية.

فالمترجم دائمًا في حاجة إلى التقريب بين معاني هذه الكلمات وتلك، وأحيانًا ما ينجح وكثيرًا ما يفشل. ففي مواجهة المُجَرَّدات تواجهه مشكلة «العادة» أو «الاتفاق»؛ إذ إننا — نحن النَّاطقين بالعربية — نتعلم جانبًا كبيرًا من إنجليزيتنا وفرنسيتنا عن طريق الترجمة إلى العربية، وهذا طبيعي؛ لأننا نُحيل المعاني إلى ما نعرفه، وعندما كنا صغارًا كان يوزَّع علينا كتاب لِلُّغة الإنجليزية ‏(Reader) وملحق (Arabic Companion) يتضمَّن ترجمةً عربية لأهم الكلمات أو للكلمات الجديدة الواردة فيه. وهذه تمثِّل أولَ مشكلة؛ إذ ينشأ الطَّالب (حتى دون ذلك الملحق) وقد استقر في ذهنه التقابلُ بين كلمات بعينها؛ بحيث لا يمكن الفصل بينها في ارتباطها الأبدي؛ إذ يجد في القاموس الصغير أن كلمة pleasure مشتقة من يَسُرُّ to please، فينشأ على ربطها بكلمة السُّرور «الحبور، والغبطة، والارتياح، إلخ». وكلمة delight‏ تواجهها كلمة بهجة، وjoy مَرَح، وهلم جرًّا. وهو بعد ذلك لن يُجهد نفسه في محاولة إيجاد بدائلَ للكلمات العربية التي درج عليها ترجمةً لهذه المجردات، بل سيقنَع بها، وربما أضفى على الكلمة الإنجليزية المعنى الذي توحي به الكلمة العربية وقصَرَها عليه.
كما حدث لأحد أصدقائي ممن تخرجوا في قسم اللغة الإنجليزية، عندما وجد أن كلمة pleasure وقعت في سياق جديد لا بد أن تعني معه شيئًا آخرَ غير السُّرور؛ ألا وهو المتعة (الاستمتاع) أو اللذة، فإن ذهنه لم ينصرف إلى هذا المعنى الآخر قط، بل أسقط معنى السُّرور على معنى المتعة أو اللذة فطمسه؛ لأنه حبس الكلمة في إسار المعنى الذي تشرَّبه صغيرًا عن طريق الترجمة، وهو لا يتصور أن كلمة delight يمكن هي الأخرى أن تدلَّ على السُّرور والحبور؛ بل وعلى نوع من أنواع المتعة، أو أن كلمة joy التي دَرَج على اعتبارها مقصورةً على الفرح والمرح تتضمن هي الأخرى جانبًا من هذا وذاك. ولا أريد الإفاضة في هذه الفروق الآن، بل يكفي أن أؤكد حقيقة بالغة الأهمية؛ وهي أن الطالب بعد التخرج وعند ممارسته الترجمةَ يظل متمسكًا بالمعنى الأول الذي اكتسبته الكلمةُ في ذهنه صغيرًا، وهو لذلك لا يشغَلُ نفسه بالكشف عن معناها في أي قاموس آخر؛ لأنه يعتقد أنه يعرفها؛ ولهذا كثيرًا ما يخطئ في إخراج المعنى المحدد في السياق للكلمة المجردة.

ومعنى عقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختص بالمجردات هو أن الكلمات التي نستخدمها لِتدلَّ على مفاهيم عامة وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مستمَدة من تاريخ محدَّد يرتبط بتطورٍ (أو جمودٍ) فكري محدد. فالمجردات العربية وراءها فلاسفة العرب، وكتَّابهم وشعراؤهم الذين يمتد تاريخهم إلى أكثر من خمسةَ عشرَ قرنًا، وهم الذين أرسَوا المفاهيم التي ما زلنا ندرج عليها، ولا نستطيع أن نكسِر طوقها؛ لأنها جزء من تكويننا الثقافي، وهي راسخة ‏في وِجداننا لا في عقولنا فحسب. وإزاء هذه المفاهيم توجد مفاهيمُ أخرى في العالم الحديث ليس لها مقابلٌ لدينا، وحبسُها في كلمات محددة منذ الصغر يَضُرُّ بها وبنا.

فآباؤنا لم يجدوا مرادفًا لفن الكوميديا الغربي فترجموه بالهجاء، وبعضهم ترجم التراجيديا بالرثاء؛ ونحن في العصر الحديث قد نستخدم الكلمات الأجنبية المُعَرَّبة، وقد نستخدم «مرادفاتٍ» جديدةً لها هي الملهاة (من اللهو) والمأساة (الأسى) وليسا بمرادفَين دقيقين اشتقاقًا، ولكنهما مصطلحان على أي حال؛ أي: إنهما يحملان معنى الكلمتين الأجنبيتين اصطلاحًا، ومن ثَمَّ فهما نافعتان في حدود المصطلح النقدي فحسب، ولا يصلُحان خارجه.

ومثلما وجدنا العَنَت في ترجمة هذا المصطلح وذاك، نجد من الصعب علينا ترجمة معنى فن السخرية الأدبي satire (وربما كان أقرب إلى الهجاء؛ أي: الانتقاد الساخر من الكوميديا)، أو ترجمة الكلمات العسيرة التي تحفِل بها اللغة الإنجليزية المعاصرة؛ مثل: irony أو paradox أو cynicism، فإذا كنا اخترنا كلمةً من التراث العربي لمعنى السخرية (أي الاستخفاف والاستهزاء ‏to mock, ridicule, or make fun of)، وثبَّتناها على جنس أدبي بعينه يجوز أن يتضمن التهكُّمَ (sarcasm) أو الهجوم المباشر (lambasting) أو الفضْحَ المقذِع (pillorying) أو كل هذه جميعًا، فكيف نترجم كلمة ‏irony التي تجمع بين التورية والسخرية والمفارقة؟ إنك إذا قلت irony ونسبتها للقدر أو لشئون الحياة؛ كقولك: irony of fate، أو في التعبير الشائع it is‏ ‏ironical that، كنت تقصد المفارقة والسخرية معًا، فالمفارقة كامنةٌ في «افتراق» ما وقع عما قصدت إليه، والسخرية كامنة في المفهوم القديم: «وتُقدِّرون فتضحك الأقدار!» والتورية كامنةٌ في تواري معنًى عنك أو تواري حدثٍ عنك وأنت تفتقده، واستخداماتها في المسرح أو في الرواية أو القصة أو الشعر تتضمن معنى تَقابُل المعنى الظاهر بشيء آخر خبيء قد تعرفه وقد لا تعرفه. (انظر كتابي: Varieties of Irony الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٦م)؛ ولذلك ترجمتها بالتورية الساخرة (في كتابي «فن الكوميديا»، الصادر عن مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٨٠م)، وترجمها غيري بالمفارقة أو بالسخرية، وربما يترجمها آخرون بالمفارقة الساخرة.
وإذا اختار الكاتب ترجمة irony بالمفارقة فكيف يترجم paradox؟ هل يحدد معناها بالمفارقة اللفظية فحسب؛ على اعتبار أنها تتضمن تناقضًا ظاهريًّا قد يثبُت أنه غير موجود عند إنعام النظر في العبارة؟ وإذا اخترنا هذا التحديد فكيف نترجمها في سياق الشعر والأدب؛ حيث قد تعني الإحساس بموقف يختلف (ومن ثم المفارقة) عن واقعه، أو تعايش الأضداد في صيغة درامية غير لغوية؟ ١
وأما الكلمة الثالثة التي تشترك في معنى السخرية مع satire، فأعترف أنني لم أجد لها ترجمةً مقبولة أرضى عنها رغم اهتمامي بها سنوات طويلة؛ إذ إن كلمة cynicism تتضمن، ولا شك، قدرًا من معنى السخرية، ولكنها سُخرية قائمة على رفض القيم والمُثل؛ بمعنى إنكار وجودها، وتصوُّر نزوع البشر إلى الانحطاط، وافتراض غلبة السلوك القائم على الأنانية؛ فكيف بالله نقول «سخرية» وحسبُ ونحن مطمئنون إلى توازي الكلمتين؟

الخطورة القائمة في افتراض توازي كلمات مفردة بعينها، مهما كان اطمئناننا إلى معناها في السياق الذي وردت فيه أول مرة في نطاق خبرتنا؛ هو التضحية بالمعاني الأخرى التي يمكن أن تكتسبها هذه الكلمات في سياقات أخرى.

وهذه مشكلة كبرى ما فتئ المترجم المحترف يصادفها مع النصوص الجديدة، وكلما ازدادت خبرتُه بمعاني الكلمات في السياقات المختلفة، ازدادت حَيْرته؛ فهو لا يستطيع أن يلجأ في كل مرة يترجم كلمة الكلمات إلى شرح الفروق الدقيقة بينها، بل هو يريد كلمة واحدة إذا أمكن أو كلمتين على الأكثر لنقل المعنى كلِّه أو معظمه إلى القارئ، وقد يترجم الكلمة الإنجليزية مرةً بكلمة عربية معينة، ومرةً أخرى بكلمة مختلفة. والحق أن الكلمات التي سبق ذكرها قد أوحت بها فقرة وردت في الصحيفة الإنجليزية المعاصرة للصحيفة العربية التي سبق اقتطافي بعض كلماتها (٢٥ فبرابر ۱۹۹۱م):
Asked about the civilian victims, the commander cynically replied, “a regular harvest”. Pressed to explain why no attempt had been made to reduce civilian losses, he shrugged his shoulders and smiled mysteriously. Perhaps one had to be cynical to win a war.
«عندما سُئل القائد عن الضحايا من المدنيين أجاب بنبرة ساخرة: «إنه الحصاد المعتاد.» وعندما ألح السائلون عليه أن يوضح سبب عدم محاولته تقليلَ الخسائر المدنية هزَّ كتفيه وابتسم ابتسامةً غامضة. هل على الإنسان أن يكون بليدَ الإحساس حتى يكسب الحرب؟»

والواضح أن الكلمة تُرجمت مرةً هنا بالسخرية ومرةً ببلادة الإحساس؛ إذ إن السياق أوحى بهذا الاختلاف في المعنى، وإن كانت الكلمة الأولى توحي بجزء من معنى الكلمة الثانية، والثانية تتضمن جزءًا من معنى الكلمة الأولى. فالإجابة الساخرة تتضمن في الحقيقة قدرًا من الاستهانة بأرواح البشر؛ مما يدل على بلادة الحِس، وبلادةُ الحس في الكلمة الثانية تتضمن قدرًا من الاستهزاء والسخرية بالحياة المدنية (من وجهة النظر العسكرية).

وإذا كنتُ قد ضربت أمثلة حتى الآن من المجردات الإنجليزية؛ فذلك لأنها مألوفة لدى دارسي الأدب، ولأن هذه الكلمات تمثِّل مشكلاتٍ دائمةً في الترجمة الصحفية التي تحاول الإفادة من التراث الأدبي.

وقد كان هدفي في هذا القسم أن أمثِّل لخطورة تصور الترادف التام بين كلمة إنجليزية مجردة ونظيرتها العربية، والذي يرجع إلى «تدخُّل» اللغة الأم في تعلُّمنا اللغةَ الأجنبية، كما سبق أن أوضحت. أما مَغبَّة هذا التصور فتتضح عند تصدي المترجم الأجنبي للكلمات العربية المجردة التي تتضمن المفهوماتِ المتغلغلة في صلب تراثنا الثقافي؛ إذ إنه حين يترجم نصوصًا عربية تراثية لن يجد في المعاجم العربية غَوْثًا، بل سوف تحيِّره حيرةً أكبر، فهي تنزِع بصفة عامة إلى افتراض قدرٍ ما من المعرفة باللغة العربية، ولم أجد معجمًا واحدًا يتبع المنهج الحديث في تحديد المعنى أو المعاني التي تدل عليها الكلمة؛ مثل المعاجم الأجنبية الحديثة، ولا أدلَّ على ذلك من ترجمات الأجانب لمعاني القرآن الكريم والأحاديث النبوية والشعر العربي قديمِه وحديثه. أما ابن العربية فهو يشعر بالفروق الدقيقة بين المعاني المختلفة للكلمة في السياقات المختلفة، وأما المبتدئ فيواجه المشكلة التي أشرت إليها.
فالذي دَرَج على ترجمة كلمةِ رحمة بكلمة mercy لن يتصور أن للكلمة معانيَ أخرى، ولن يُجهد نفسه في البحث عن كلمة أخرى، وهذا مكمن الخطأ في ترجمة Arberry لمعاني القرآن الكريم؛ إذ إنه حدد لكل لفظة عربية لفظةً مقابِلة بالإنجليزية؛ فكانت ترجمته لفظيةً لا معنوية، وضاع منه المعنى في آياتٍ كثيرة. فالمترجم الصادق لن يكتفي بما درَج عليه، ولكنه سيحاول أن يجد الكلمة التي تناسب معنى السياق؛ ولو اختلفت عن كلمة القاموس المترجمة. فكلمة الرحمة في القرآن لها معانٍ كثيرة؛ فلا يستوي معنى الرحمة في الآية الكريمة: يُبَشرُهُمْ رَبهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَناتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (التوبة: ٢١)، وفي الآية الأخرى: فَلَما جَاءَ أَمْرُنَا نَجيْنَا صَالِحًا وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنا (هود: ٦٦)، وفي الآية الثالثة: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحْمَةِ (الإسراء: ٢٤)، وفي الرابعة: وَإِذَا أَذَقْنَا الناسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا (الروم: ٣٦)، وفي نفس السورة: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (٥٠) صدق الله العظيم. فالواضح أن المعنى المألوف للكلمة قائم في الآية التي من سورة التوبة، وتعريفُها الدقيق هو الامتناع عن إيقاع العقاب أو الضرر (لمن يملك القدرة على ذلك)، وهذا هو المعنى المعروف للكلمة الإنجليزية mercy (في قاموس أكسفورد الكبير مثلًا  O. E. D.، وكولينز، ووبستر الأمريكي)، وفي هذا تقترب الكلمة من معنى العفو (التي يوردها المعجم الوسيط إيضاحًا للفعل العربي) والغفران وإن لم تكن توازيه موازاةً كاملة؛ رغم إيراد القاموسالمحيط أيضًا لهذا المعنى، بينما تقترب الكلمة في الآية من سورة هود من المعنى الذي أوضحه الراغبُ الأصفهاني في كتابه المفردات في غريب القرآن، وهو «رِقَّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تُستعمل تارةً في الرقة المجردة، وتارةً في الإحسان المجرد عن الرقة» (ص ١٩١)، أما في الآية التي من سورة الإسراء، فربما كان معناها أقربَ إلى العطف والرأفة (الرقة)، وأما في الرابعة، فمعناها أقربُ إلى الخير والنعمة؛ كما يقول المعجم الوسيط (الذي لا يورد إلا هذا المعنى للاسم)، أو الإحسان في لغة الأصفهاني، وهو نفس المعنى تقريبًا في الآية الأخرى من سورة الروم. ومن هنا يتضح أن الإصرار على استخدام كلمة mercy أو ruth‏ القديمة (.arch) في كل حالة؛ لا يتَّسم بالدقة، ومن يبغي ترجمة معاني القرآن، عليه أن يحاول اكتشاف المعنى الكامن في كل لفظ وَفقًا للسياق الذي يَرِدُ فيه.

وكما هو الحال بالنسبة للكلمات الإنجليزية، فإن اكتشاف هذه المعاني الكثيرة التي تدل عليها الكلمة في كل سياق يوجِد مشكلاتٍ جديدة؛ لأن معاني الكلمات المقترحة في كل حالة تتداخل كالدوائر، ويشتبك بعضها مع بعض في مساحات معينة، وتظل الفروق قائمةً بينها؛ أي: إن كلمة الرحمة قد تترجم (في سياق النص الحديث) بأي لفظ من الألفاظ التالية مضافًا إليه جزءٌ من لفظٍ آخر أو أجزاءٌ من ألفاظ أخرى، وفيما يلي هذه الألفاظ:

mercy – ruth (archaic) – compassion – forgiveness – indulgence – grace – leniency – clemency – pity – kindness – sympathy – gentleness – ease – comfort – bounty.
والمشكلة كما نرى هي كيف نختار المعنى الذي نظنه أقربَ المعاني إلى الكلمة الواردة في السياق، وهل من حقنا اختيار كلمتين لترجمة كلمة واحدة؟ وإن كنا سنفعل ذلك فأي الكلمات نختار؟ لن تسعفنا القواميس؛ لأن هانز فير٢Hans Wehr يورِد ثلاثًا من هذه الكلمات ويتركها دون تحديد، ولكنه يُغفل أهم معاني الكلمة كما وردت في القرآن.

والمشكلة في رأيي تتمثل في أننا نقدم نصًّا خاصًّا، يتطلب من المترجم أن يقرر بدايةً إذا كان عليه أن ينقُل المعنى المجرد فحسب أيًّا كانت الألفاظ المستخدمة، أم أن عليه إيجادَ «حالة ثقافية» بين النص المترجم والقارئ تُشبه «الحالة الثقافية» القائمة في النص الأصلي. ولغة القرآن لغة فريدة، ومن ينشأ عليها مثلما نشأتُ يجد في نفسه معانيَ كثيرةً لكل كلمة، بعضها ظاهر وبعضها خفي، كما يجد أن دلالاتِ ألفاظ الكتاب الكريم كثيرًا ما تختلط بالمشاعر التي تدُفُّ بين جوانحه منذ الطفولة، ولا بديل لها بالإنجليزية ولا بالعربية، وإيجاد «الحالة الثقافية» يتطلب تحديدًا لنوع القارئ. تُرى من سوف يقرأ هذه الترجمة لمعاني القرآن؟ إنه، لا شك، معاصر، ولغته هي اللغة الحديثة، فكيف يمكن أن نوحيَ له بالمعاني الخفية (إذا استطعنا ذلك) دون الاستعانة بكلمات لها من عمق التاريخ ما لمعاني كتاب الله العظيم؟ هذه مهمة شِبه مستحيلة؛ ولذلك أجدني أميل إلى الحل الأول؛ وهو نقل المعنى فحسب؛ أيًّا كان عددُ الألفاظ المستخدمة في نقله.

وقد رأيت أن أضرب هذا المثل حتى أشير إلى مشكلة عويصة في اللغة العربية؛ هي تعدد مستوياتها.٣ فاللغة القديمة (ما يسميه بدوي بلغة التراث) لم تختف من حياتنا، وهي لا تقتصر على التراث الديني أو التراث الأدبي (وكل ما كُتب بها في العصور الخوالي)، بل هي تحيا في اللغة العربية المعاصرة (بدوي: لغة العصر)، وهي مبثوثة في ثناياها بصورة ينبغي عدمُ التهوين من شأنها، وإذا كانت قد اختفت بصورتها القديمة كلغة مستقلة فهي لم تختفِ إلا لتتطور في صورة العربية المعاصرة، بل والعامية الجَزْلة (بدوي: عامية المثقفين)، وعلى المترجم أن يكون واعيًا بهذا كلَّ الوعي إذا أراد أن يُنصِف النص الذي يترجمه من العربية إلى الإنجليزية مثلًا.
وقد عرضت لهذه القضية بصورة غير مباشرة حين كتبت دراسةً مطولةً بالإنجليزية عن تطور لغة الرواية عند نجيب محفوظ، وكيف أنه كان متأثرًا في بداية حياته الأدبية بلغة التراث تأثرًا كبيرًا، ثم اضطرته الموضوعات التي يعالجها إلى ابتداع بلاغة جديدة، تُعتبر تطويرًا للفصحى المعربة القديمة.٤
ويكفي أن نقرأ كتابات أيٍّ من معاصرينا لنرى: كيف تمتزج المستويات اللغوية امتزاجًا رهيفًا؛ وخصوصًا في الكتب العلمية والأدبية؛ بل وفي الحوار اليومي الذي يدور بين المثقفين. وقد تغيرت، ولا شك، معاني كلمات كثيرة، ولكن بعض المجردات التي أتحدث عنها لا تزال قائمةً في التراث الديني الذي يَكمُن خلف تفكير الجميع مهما كانت درجة ثقافتهم. واقرأ معي هذا الحوار الوارد في رواية حديثة:
نظر المعلم إلى صبيِّه في قلق، وسأله ثانيًا عن موعد قدوم الزبون، ولم يجد الصبي ما يقوله غير ترديد ما قاله قبل، وإن كان قد أردفه هذه المرة، ربما بسبب الخوف، بكلمة تقريبًا.
وهاله ردُّ الفعل غير المتوقع:
«يعني إيه الساعة سبعة تقريبًا؟ سبعة ولا مش سبعة؟»
وانحشرت الكلمات في فم الصبي، وأحسَّ كأنما كان مسئولًا عن عدم وصول الزَّبون في الموعد، فعاد يقول في هَلَع: «سبعة .. سبعة والله.»
وأشفق المعلم على الصبي فقال في صوت خفيض: «يعني مش تقریبًا؟»
«لأ.. سبعة.»
فأردف المعلم في رقَّةٍ: «طب اتوكل انت.»
«وخرج الصبي من الورشة يتواثب على الرصيف، وقد نسي ما كان فيه من محنة منذ دقائق معدودة.»
The “master” looked at his apprentice anxiously and asked again about the time of arrival of the customer. The boy had nothing to say: he repeated his earlier statement, accompanied this time, perhaps out of fear, with the word “about.” He was shocked at the unexpected reaction.
“What do you mean ‘about’ seven? the master screamed,“is it seven or not?”
The words stuck in the boy’s throat: he felt as though he was responsible for the customer’s not being on time and, in terror, repeated,“seven by Allah, seven!”
Mellowing, the ‘master’ said in a low voice, “not ‘about’ seven?”
“No, seven.”
The ‘master’ said gently,“right, off you go.”
The boy left the workshop quickly, leaping on the pavement, having forgotten totally his predicament only a few minutes previously.
إن كلمة «المعلم»، وكلمة «الصبي»، مأخوذتان هنا مباشرة من العامية المصرية، وإن كانت كل واحدة منهما ذات جذور في الفصحى القديمة؛ فالمعلم هنا هو في نفس الوقت «معلم»؛ أي: قائم بالتعليم teacher (ومن ثَم master) وأستاذ في صنعته craftsman أو حتى master craftsman، ومن ثَم فهو أيضًا master، ولكنه بسبب الإيحاءات العامية للكلمة يمكن أن يتضمن أو يوحي بصفات «المعلمين» (بالعامية المصرية)؛ أي: أصحاب الأعمال من التجار لا من الحرفيين فحسب، ومن ثَم فالكلمة توحي بابن بلد يمتلك الورشة (وهي كلمة معربة عن workshop الإنجليزية)؛ ولذلك فاختيار كلمة master لترجمتها تعني نقل الدلالتين الأوليين وحذْفَ الدلالة الأخيرة. وكذلك ترجمة الصبي ﺑ apprentice؛ فالكلمة الإنجليزية تحذف الإيحاء الذي تتضمنه الكلمة الفصحى المشتقة من الصبا، وإن كان المترجم قد أوحى بها فيما بعدُ في boy التي تحمل هي الأخرى دلالاتٍ إنجليزيةً حافلة تكمِّل معنی apprentice؛ رغم تعذُّر الجمع بينهما في عبارة واحدة.
وإذا انتقلنا إلى كلمة «قلق»، وجدنا أن anxious لا تنقُل إلا جزءًا من المعنى؛ وهو التوتر النابع من الخوف المرتبط بالتوقع أو التطلع. أما المعنى الآخر وهو معنى الهم (أي الاضطراب النفسي) والكَدَر worry, uneasiness، فهو هامشي في كلمة anxious، بينما يضيع تمامًا المعنى الاشتقاقي للقلق؛ وهو عدم الاستقرار أو القلقلة، وهو ما توحي به كلماتٌ أخرى مثل restlessness, uncertainty والكلمة المزعجة الأخرى unsettledness؛ ولذلك فإن الذي يترجم النص الإنجليزي (المترجَم) إلى العربية يمكنه أن يقول: «في لهفة» بدلًا من «في قلق» دون أن يَجورَ على النص؛ ذلك أن النص الإنجليزي المترجم لم ينقُل إلا جانبًا من جوانب الكلمة العربية التي تزخر بالمعاني التي ذكرتها، والتي يعود أهمها إلى تراث الفصحى.
وتأتي بعد ذلك كلمة «الزَّبون» المولدة، ولا خلاف عليها، ثم كلمة «تقريبًا» المستخدمة في المعنى العامي المصري، الذي يفيد عدم التأكد أو ترجيح احتمال من الاحتمالات، فنحن نسمع حاليًّا «هو في مكتبه تقريبًا»He’s probably in his office أو I think he’s in his office؛ ولذلك فإن ترجمة تقريبًا ﺑ about غير دقيقة؛ خصوصًا وأن النص يوحي بهذا المعنى العامي، وبعد ذلك تأتي كلمة «الساعة» بالمعنى الحديث ومعها ذلك القَسَم الذي تتعذر ترجمتُه «والله»، فهذا من صميم المصطلح العامي الذي تمتد جذورُه إلى أعماق تراثنا الديني، ولا يقابله بالقطع by God أو مثيلاتها بالإنجليزية، وأقرب المعاني في نظري إلى هذا القسم أيُّ تعبير يدل على التأكيد؛ مثل definitely أو I assure you أو positively وما إلى ذلك، ومن ثَم فإن by Allah التي تحمل الدلالة الثقافية بذكر اسم الجلالة لا تنقُل المعنى بقدر ما توجِد «الحالة الثقافية» التي سبق أن أشرت إليها.
ثم نقف أيها القارئ العزيز أمام ثلاث كلمات مأخوذةٍ من صلب التراث، وإن أصبحت تجري في العامية المصرية والفصحى المعاصرة مجرى المصطلح؛ وأولها كلمة «طيب» (المختصرة إلى «طب») التي توحي بالتوازي مع well الإنجليزية، التي عانت مُرَّ المعاناة في ترجمات المسرح في مصر (والتي لا تعني «حسنٌ» ولا «حسنًا»، ولكنها تكتسب معناها من السياق)؛ فكلمة «طيب» لها معانٍ متعددة تتضمن الزكاة (من زكا يزكو) والطُّهر والجودة والحُسن واللذة والحلال والإخصاب؛ إلخ، أما هنا فلا علاقة لها بذلك كله، ولكنها تستخدم في سياقات تحدد معناها ككلمةِ وصل لا أهميةَ لمعناها في ذاتها، مثل O. K. وall right بل وnever mind that؛ ولذلك تُرجمت هنا بكلمة right البريطانية، وكان يمكن حذفها دون أن يخسَر السياق كثيرًا، والكلمة الثانية هي «اتوكل»، وهي كلمة دينية هي أصلها «توكل على الله»، أي: استسلم لإرادته، وفوِّضْه في أمرك، واعتمد عليه، وثِقْ به، وهو تعبير جرى العرف على استخدامه لتشجيع المرء قبل شروعه في عمل ما أو في السفر، ومن ثَم أصبح مرادفًا لمعنى الشروع في العمل أو للرحيل، بل إن في مصر من يشير بالعامية إلى من مات قائلًا إنه «اتوكل» (أي رحل)؛ ومن هنا جاءت ترجمة «اتوكل» ﺑ off you go. أما الكلمة الأخيرة فهي كلمة «محنة» وهي تُستخدم لتغيير اﻟ tone؛ أي: نغمة نص الكاتب بالمبالغة بعض الشيء في معنى المشكلة التي وقع فيها الصبي، حين اتُّهم بأنه نقل رسالة غير دقيقة عن موعد قدوم الزبون، فاستخدام كلمة «المحنة» هنا يحيلنا إلى المعنى الأصلي للمحنة؛ الذي هو ابتلاء واختبار وتجربة تتضمن قدرًا من العذاب والمعاناة، وذلك ما لم يكن فيه الصبي، وإنما هو التفسير الذي يُضفيه الكاتب ليضخم إحساس الصبي بما كان فيه، وليُبرز التناقض الصارخ بينه وبين ما تلاه مِن تواثُب طفولي فطري جميل. وهنا استخدم المترجم كلمةً موازية لنقل «النغمة»، فلم يبتعد كثيرًا عن الدلالة الأصلية، وإن كان حقه الاختيار بين plight وtrials and tribulations وما شابههما من كلمات.
وينبغي أخيرًا ألا نغفل الكلمة المحدَثة «دقيقة» ترجمةً لكلمة minute (ووافق عليها المجمع) المقرونة بكلمة قرآنية ذاتِ إيحاءات لا تخفى على القارئ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ (يوسف، ۲۰) وَقَالُوا لَنْ تَمَسنَا النارُ إِلا أَيامًا مَعْدُودَةً (البقرة، ٨٠)، والمترجم هنا لم يرجع إلى المقابل الإيحائي ليقول: numbered؛ فالسياق لا يقبلها، فأنت تقول في الإنجليزية: His days are numbered (أي: لن يعيش إلا أيامًا معدودة)، ولا تقول: numbered minutes، وإلا أصبحت تعني الدقائق التي تحمل أرقامًا.
المشكلة إذن هي أنه يكاد يكون من المُحال تطابُق دلالات الكلمات المجردة، أسماءً كانت أو أفعالًا، بسبب دلالتها على مفاهيمَ ذاتِ جذور عميقة في تراث كل لغة، بعضها ديني، ولكن معظمها ثقافيٌّ أو حضاري، ولكلٍّ منها تاريخ طويل أوجدها في سياقات مختلفة ووهبها معانيَ مختلفة. والمشكلة تتعقَّد حين توجَد كلمات في اللغتين توحي بالتوازي فتوقِع المترجم المتسرع في خطأ تصوُّر الترادف، أو تجعله يستخدم كلمة من هذه الكلمات «الموازية»، وهو يضفي عليها معاني الكلمة الأخرى ظانًّا بذلك أن هذه المعاني سوف تصل إلى القارئ، وما هي بفاعلة. وأنا لا أتحدث هنا عن إيراد كلمة ذات معنًى مختلف إذا كان السياق يتطلبها؛ مثل إيراد كلمة mellowing ترجمةً لعبارة بالعربية هي «وأشفق على الصبي»، فالمعنى الذي قصد إليه المترجم هنا هو «رقَّ قلبه»، وهو موجود في الكلمة الإنجليزية التي توحي باتخاذ موقف أقلَّ شدةً أو حِدَّة، وإن كانت mellow تفرض، حتى في نطاق هذا المعنى المحدود، الرقةَ النابعة من النضج أو تقدم العمر، وقاموس أكسفورد٥ لا يورد هذا المعنى. ولا غَرْوَ فهو يترجم الكلمة خارج السياق؛ إذ يورد تعبير «أنيس وحُلْو المعشر»، بعد التعبير الغريب «ذو خبرة واسعة»، أقول: إنني لا أتحدث عن استبدال كلمة بكلمة لا تقابلها تمامًا بل يفرضها السياق، وقد كان بوسع المترجم أن يقول بدلًا منها هنا: softened أو: إن المعلم ‏became more kindly inclined towards the boy، وهي معانٍ تدور في نفس الفلَك، وإنما أتحدث عن أخطاء المترجمين الذين سيتوقفون عند كلمة أشفق فيسرعون إلى تصور معنى الشفقة الذي ارتبط في أذهانهم بكلمة pity،‏ ومن ثم يترجمونها ببساطة he took pity on the boy، وفي هذا تَجَنٍّ على المعنى الأصلي، إذ ليس في «رقَّ قلبُه» (وهو المعنى الذي يوحي به السياق) أيُّ pity التي تحمل معنى التعاطف والأسى لمصائب الآخرين ومعاناتهم، بل قد تحمل معنى إبداء الشفقة في غير هذا السياق؛ فللشفقة والإشفاق في العربية تاريخ طويل، وعندما كنا صغارًا وقرأنا المثل القائل: «الشفيق بسوء الظن مولع» حِرْنا في تفسيره، وأذكر أن الأستاذ محمد منصور جنيد زار مدرستنا (ولا أذكر إن كان ذلك بصفته مفتشًا للغة العربية أو لصداقته مع أستاذنا المرحوم محمود الميقاتي)، وسألنا عن معنى المثل، فقلت له: إن الشفيق يحمل معنى الخوف هنا لا الرحمة والحنان، فبدا عليه السرور، وطلب مني إيرادَ شاهد، وكنت قد فرغت لتوِّي من دراسة سورة الكهف، فقلت دون تردد وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِما فِيهِ (٤٩)، وإذا به ينطلق فيورد عدة آيات أذكر منها: الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ الساعَةِ مُشْفِقُونَ (الأنبياء، ٤٩) ووَالذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبهِمْ مُشْفِقُونَ (المعارج، ۲۷)، وأخذ يشرح الفروق الدقيقة بين الإشفاق والخوف والخشية والتقوى، حتى ظننا أننا ما درسنا ولا قرأنا القرآن. وَلْيَخْشَ الذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُريةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتقُوا اللهَ (النساء، ٩).
أقول: إنني لا أقصد إيراد كلمة ذات معنًى مختلف مكان كلمة، ولكن أقصد تصور الموازاة أو الترادف، وهو وهم؛ فالسخرية التي ناقشتها في بداية هذا الفصل توجد في أنواع أدبية كثيرة وفنون مختلفة في أوروبا لا مثيل لها لدينا؛ فن الكاريكاتير caricature يتضمن سخرية مصدرها تضخيم بعض صفات الشخص أو الموضوع (انظر كتابي فن الكوميديا)، وكذلك فن البيرليسك ‏burlesque الذي يتمثل في المحاكاة الكاريكاتورية التي تهدف إلى السخرية، وكذلك البارودي parody الذي يمكن ترجمته بالمحاكاة الساخرة أو التهكُّمية؛ كما أن ثمة قدرًا من السخرية في فن الجروتيسك grotesque‏ الذي يشترك مع الكاريكاتير في تشويه العلاقات القائمة بين أجزاء الشيء الواحد أو ملامحه؛ بحيث تبدو مخيفةً أو سخيفة أو مفزعة، وما الجارجويل ‏gargoyle، أي: المِزراب المنحوت على شكل وجه إنسان أو حيوان غريبٍ، إلا نوع من أنواع هذه الفنون الجروتيسك.
ولعل القارئ قد لاحظ أنني أستخدم هذه الألفاظ الأجنبية كما هي معرَّبةً دون ترجمة؛ اعترافًا مني باستحالة إيراد المقابل، وللقارئ الذي يريد التبحر أن يطَّلع على معجم مصطلحات الأدب الذي أبدعه الدكتور مجدي وهبة،٦ فهو ذُخْرٌ وكتاب قيِّم ودرس للمترجمين الذين يريدون أن يدركوا أبعاد ما أرمي إليه.

(٢) المجردات الحديثة

أما المجردات الحديثة في العربية فهي ترتبط بمجردات حديثة في معظم لغات العالم، وهي لا تتمتع بنفس العمق التاريخي الذي يهبها ذلك الثراء في المعنى الذي أشرت إليه، وهذا هو ما يجعل التقابل بينها يسيرًا. وأحيانًا ما لجأ المترجمون من جيل آبائنا العباقرة إلى استحداث كلمات لها؛ إما نحتًا أو توليدًا أو تعريبًا، وأضْفَوا على المقابلات العربية المعنى الأجنبي المحدد؛ بحيث ثبت هذا المعنى ولم يعُدْ عليه خلاف. وأحيانًا ما لجأنا نحن، كلٌّ في مجاله، إلى استحداث كلمات عربية لها أضفينا عليها نفس المعاني الأجنبية، فأثبتناها وأرَحنا أنفسنا ومن يأتي بعدنا من المترجمين. فقد تناول آباؤنا الاصطلاحات السياسية الحديثة وعرَّبوها أولًا، ثم ولَّدوا لها كلمات جديدة؛ فأحمد لطفي السيد بدأ بترجمة communism بالكوميونية، ثم تحولت بسرعة إلى الشيوعية؛ ولويس عوض يشير إلى من ترجم اﻟ socialism بالسوسياليزم (والسوسياليست) في كتابه «أوراق العمر»، ولكنها تحولت بسرعة هي أيضًا إلى الاشتراكية. وقد وجدت أقدم استعمال لها في رواية «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل (وهما مصدران صناعيان مثل معظم الكلمات المستخدمة لوصف المذاهب الفنية والسياسية؛ إلخ). واختلف الناس في ترجمة ‏bureaucracy؛ فكتبها البعض كما هي «البيروقراطية»، وفضَّل البعض الديوانية، وإن كان التعريب في هذه الحالة هو الذي ساد وانتشر، مثل: كلمة الديموقراطية democracy والسيريالية surrealism والبرجوازية bourgeoisie.‏ وعلى عكس كلمات أخرى ساد فيها المولَّد؛ مثل: السلوك، وهي كلمةٌ فصحَى لم تكن تعني إلا الطريق أو الذهاب في الطريق أو الدخول فيه (لسان العرب والقاموس المحيط ..) ثم أصبحت مرادفةً لكلمة behaviour‏ الإنجليزية، ثم قرر المجمع موازاتَها بالاصطلاح المستخدم في علم النفس، ومن ثم أصبحت السلوكية هي behaviourism (المعجم الوسيط)، ومثل الرأسمالية capitalism، والثقافة culture؛ رغم ما نشِب وينشَب حول هذه الكلمة من خلافات،٧ فهي من الكلمات التي «أفشاها» سلامة موسى؛ كما يقول هو نفسه في مجلة المقتطف (أبريل ١٩٢٦م)، ترجمة لكلمة ‏Kultur الألمانية، ومن ثَم فقد أصبحت للثقافة في عصرنا معانٍ أبعدُ ما تكون عن معانيها عند السلف؛ فهي تعني حاليًّا، بصفة عامة، كيفيةَ استجابة الإنسان للطبيعة والبيئة؛ كما تتبدى في أسلوب حياته؛ وبصفة خاصة، مظاهرَ سلوك المتحضر؛ كما تعكسها وتجسِّدها الفنون والآداب. فما أبعدَ ذلك عن: ثقَّف الرمحَ؛ أي: قوَّم اعوجاجه وسوَّاه؛ أو: ثقف الناسَ؛ أي: أدركهم. وربما كان أصل إطلاق الكلمة على هذه المعاني الأوروبية الكثيرة افتراضَ الحِذْق والمهارة — وهو لا يكفي للمضاهاة وحده. ومثل الكلمات التي شاعت ترجمةُ كلمة colonialism بالاستعمار، وفي الأصل الاستعمار طلب الإعمار والتعمير — الإعمار بالناس والتعمير بالعمران؛ أي: بالحضارة — ثم انتقل المعنى إلى فرض السلطة بالاحتلال، ومن ثَم بناء الإمبراطورية؛ أي: الدولة الكبرى ذات الأصقاع الكثيرة imperialism. والواقعية realism سواءٌ في الفن؛ أي: الالتزام بمعطيات الواقع دون تزييفه ودون شطَحات الخيال، أو في الفلسفة؛ بمعنی الانطلاق من الواقع والتجربة في مقابل المثالية idealism، وهي افتراض وجود مُثُلٍ عُليا مجردة وإن لم تتحقق في الواقع، والوجودية ‏existentialism؛ وهي المذهب الفلسفي المعروف المبني على حرية الإنسان ومسئوليته عن عمله. والاحتكار monopoly؛ وهو المبدأ الاقتصادي المعروف، والتقدم ‏progress، والعنصرية racism؛ بمعنى التعصب لعنصر بشري بعينه واضطهاد ما سواه، والوعي consciousness واللاوعي unconscious،‏ والبطالة unemployment والتخلف backwardness، والمعاصرة ‏contemporaneity؛ وما إلى ذلك من تعبيرات حديثة حتى في اللغات الأوروبية.
والملاحظ على هذه المجردات الجديدة هو تلوُّن معانيها من مكان إلى مكان؛ خصوصًا السياسية منها، كما تتغير دلالات المصطلحات الثقافية الحديثة على الدوام؛ مما يأتي بمفاهيمَ جديدة تقتضي المتابعة والرصد. ويكفي أن ننظر إلى الطبعات المتوالية من كتاب البروفيسور ريموند وليامز Raymond Williams‏ بعنوان Keywords من عام ١٩٧٦م إلى عام ١٩٩٠م؛ إذ تعرَّض في عام ١٩٨٣م إلى مراجعة شاملة بسبب تغيُّر معاني بعض الكلمات؛ فضلًا عن إضافة كلمات جديدة إلى اللغة وطرح بعض الكلمات القديمة (انظر: كتاب: ‏In-words & Out-words للمؤلف Fritz Spiegel، الصادر عام ١٩٨٩م)، بل إن بعض المفاهيم مما ذكرنا أنه لا يتغير يكتسب دلالاتٍ مختلفة وَفقًا للبلد الذي يطبَّق فيه؛ مثل مفهوم السُّلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية أو The Judiciary (القضاء)، والسلطة التشريعية أو البرلمان The‏ ‏Legislative Power والتنفيذية (الحكومة) The Executive Power‏.
ولذلك فالمترجم أحيانًا يواجه اصطلاحاتٍ مقصورةً على دول بعينها، ويصعب نقل معناها عن طريق الترجمة المباشرة؛ أي: دون شرح وتفسير، مثل الطرد الفوري أو الرفض الفوري summary dismissal، واستخدامات كلمة ‏summary في تعبيرات أخرى؛ مثل summary execution الإعدام دون محاكمة، أو summary trial؛ أي: محاكمة قصيرة (تترجم عادة بمحاكمة فورية، وهي في الحقيقة صورية؛ إذ يكون الحكم بالإدانة معدًّا من قبل) أو الاعتقال الانعزالي incommunicado detention (الذي لا يسمح فيه للمعتقل بالاتصال بأحد)، وهذا غير الحبس الانفرادي solitary‏ ‏confinement (أي: في زنزانة فردية)، أو الترحيل deportation، أو الطرد من البلاد expulsion، أو إعادة الشخص إلى بلاده repatriation، أو الخيانة العظمى high treason؛ وما يتصل بها من اصطلاحات الهجرة والاستيطان migration, immigration؛ مثل مفهوم الأجنبي alien، والمقيم ‏resident، والذي يكتسب الجنسية naturalized، بل والجنسية نفسها ‏nationality؛ فهذه تتفاوت بين البلدان ذات النُّظم المختلفة، وقد يتسبب اختلاف معانيها أو اقتصارها على بلد بعينه في البلبلة؛ إذ تترجِم، مثلًا، بعض بلدان شمال إفريقيا تعبيرًا فرنسيًّا هو garde a vue بالوضع تحت الحراسة، بينما يعني ذلك التعبير في مصر وضْعَ الشخص في معتقل قيد الحجز التحفظي، أما وضع ممتلكاته تحت إدارة الدولة فيقابله custodianship وin‏ ‏state custody، وقانون الإجراءات الجنائية المصري هو code of criminal procedures، يسمى في المغرب قانون المسطرة الجنائية، وهلم جرًّا.

(٣) المجسدات

أما في مواجهة المجسَّدات فالصعوبة حضارية أو ثقافية صرفة، ولكنها أقل تعقيدًا من المجردات؛ إذ إنها تتمثل في «الاتفاق» على أن كلمةً ما في العربية الفصحى (القديمة أو المعاصرة) توازي كلمةً ما باللغة الأوروبية الحديثة، وكلما كان الترادف دقيقًا؛ بمعنى إشارة الكلمتين في اللغتين دون لَبسٍ أو غموض إلى نفس الشيء المجسد، كان المترجم واثق الخطوة في ترجمته. فكلمة dog بمعنى كلب لا خلاف عليها، ولكننا إذا ابتعدنا عن اسم الجنس إلى أنواع الكلاب وسلالاتها برزت لنا مشكلة الاختلاف الثقافي؛ فكلمة cur أيضًا تعني الكلب، ولكنها، عادةً، تتضمن معنى الحِطَّة والدناءة، وكلمة hound تعني كلب الصيد، وcollie كلب الراعي، وكل سلالة من سلالات الكلاب في الإنجليزية لها اسم يشير إلى نوعها؛ سواء كانت أصيلة ‏pedigree أو مهجَّنة mongrel، وعادةً ما ينسُبها اسمها إلى مكان استنباط السلالة أو شيوع وجودها؛ مثل Dalmatian الأبيض المنقَّط بالأسود، و‏Alsatian الذي تستخدمه الشرطة، واﻟ spaniel القصير ذي الفراء الناعم ‏، وdachshund القصير الصغير، واﻟ Pekingese الصغير جدًّا، واﻟ ‏Labrador الضخم السميك، واﻟ Great Dane أضخمها وأعلاها، واﻟ ‏terrier الصغير النشيط المدرَّب لصيد حيوانات الجحور، وهلم جرًّا.
والمترجم عادةً يَحارُ في أسلوب تعامله مع هذه التفاصيل؛ فالعربية لا تُسعفه بكلمات دقيقة محددة لكل هذه الأنواع، وهو مضطرٌّ إلى إضافة صفات في كل حالة بُغيةَ التخصيص، ولكن الصفة نادرًا ما تنقل صورة «الشيء» بدقة، (أو الحيوان في هذه الحالة)، فلا صفةُ الصِّغر وضآلة الحجم بمغنية عن شكل اﻟ Pekingese، ولا صفةُ الضخامة بمغنية عن شكل اﻟ Great Dane، بل ولا اقتباسُ نفس الكلمة الأجنبية وتعريبها، فكلمة البيكينيز لن تعني الكثير للقارئ العربي، ولا حتى الترجمة الحرفية (البيكيني في هذه الحالة، أو الدانمركي الكبير في حالة اﻟ Great Dane) … وخصوصًا إذا كان اسم الكلب ذا إيحاءات خاصة مثل اﻟ bulldog (الكلب الثور)، ولا يعرف مدى المعاناة التي يعانيها المترجم في هذه الحالة مثلُ من اكتوت أصابعه بنار النصوص التي تُسرف في التفرقة بين هذه الأنواع، أو تسرف في الإشارة إليها؛ تارةً بصيغة المفرد، وتارةً بصيغة الجمع، وتارةً بصيغة المؤنث، وتارةً بصيغة المثنى.
وما ينطبق على الكلاب ينطبق على الزهور والطيور والألوان والأشجار والسحب والمياه، وما إلى ذلك مما تحفِل به العربية ولا نعرفه، أو مما لم يعرفه العرب فاحتاج منا إلى تعريب أو تعريف أو ترجمة، فقد أثبت أحد الباحثين في مجال الطيور ornithology أن لدينا في العربية أسماءً لشتى طيور الأرض،٨ وإن كان معظمنا لا يعرفها، وإن عرف بعضها تعذَّر عليه استخدامه الاستخدامَ الصحيح؛ إما لشيوع الخطأ (مثل ترجمة eagle بالنَّسر؛ وهو في الحقيقة عُقاب، أما النَّسر فهو vulture)، أو لعدم وثوقه من فَهم السامع له، فمن ذا الذي يفهمك إذا قلت: «الحسون» ترجمةً لكلمة: finch، مع ورودها في إحدى الأغاني للمطربة اللبنانية فيروز (نهاد حداد)؟ أو إذا قلت: «الزرزور» starling، رغم وجوده في نفح الطيب للمَقَّري؟ أو إذا أشرت إلى «الشُّحرور» blackbird، مع شيوعه في الأغاني الشامية؟ لن يفهمك إلا القليل؛ لأننا في مصر لا نأْلف هذه الطيور، ورحم الله مسيو باكو معلم اللغة الفرنسية في الجامعة؛ إذ سأل الطلبة عن معنى alouette بالفرنسية؛ وهو القُبَّرة lark، فأجاب الطلبة: «عصفور.» فصاح غاضبًا: «كل هاجه أُسفور أسفور!» (بلكنة عربية أجنبية).
والحق أننا سندرك المعانيَ الصحيحة إن كانت تقع في نطاق تجربتنا الشخصية، فإذا خرجت عنها أصبحنا في حَيْصَ بَيْص؛ فقد رأى بعضنا الحِدَأة ‏kite، ويعرف بعضنا الصقر، ولكن كم منا يستطيع التفرقة بين hawk‏ وfalcon؟ وأذكر أنني كنت ذات مرة في أبريل ١٩٦٨م في زيارة لأستاذتي في جامعة لندن بعد الانتهاء من الماجستير، فوجدتها في حالة انفعال شديد وفرح طاغٍ؛ إذ أشارت من نافذة غرفتها في الكلية (وكانت الكلية Bedford College تقع وسط حديقة Regent’s Park في قلب لندن) إلى شجرة بعيدة بنى فيها مالكٌ الحزين heron (وهو طائر خجول يندُر أن يقترب من البشر) عشًّا لأفراخه، وظلِلْنا نتأمل أنثى الطائر، ساعةً أو بعضَ ساعة، وهي تحنو على صغارها، على حين كان الذكر يعود من وقت إلى آخر ليطمئن عليها ويطعم الأفراخ. تُرى: هل سمع أحد بمالك الحزين، ولا أقول رآه، خارج كليلة ودمنة لابن المقفع؟ ولدينا في مصر أسماءٌ غريبة للطيور التي نعرفها والله أعلم بأصولها؛ هل هي فرعونية أم عربية أم أجنبية؟ فما أصل كلمة مثل دغناش shrike أو قرناص great grey shrike؛ وهما من الطيور التي تزور مصر في سبتمبر؟ وما سبب تسمية اﻟ warbler بأم جمعة؟ و Kingfisher ﺑ عم علي الصياد، واﻟ wryneck بالنوانية؟ واﻟ cuckoo بالسقساق (الوقواق)؟ واﻟ flamingo بالبشروش؟ واﻟ teal بالشرشير؟ واﻟ mallard بالبلبول؟ إلى آخر القائمة التي لا تكاد تنتهي.
إن المترجم الذي يحيط بأهم أنواع الأشياء التي ذكرتها؛ يواجه مشكلة «التوصيل»؛ أي: إفهام السامع ما يرمي إليه، وكثيرًا ما يكتفي بذكر اسم الجنس (الطائر) مشفوعًا بصفة أو صفتين، ويعتمد على أن لب المعنى قد انتقل إلى اللغة العربية، ولكن العلم الحديث لم يعُد يقنع بلب المعنى، بل أصبح يريد المعنى كاملًا غير منقوص، ولا مناصَ من ذلك في عصر العلم الصُّلب الثابت، فعالِم الاقتصاد الذي يتحدث عن «تصدير» و«استيراد» الجلود (كلمتان محدَثتان) يفرِّق بين hides وskins وleather؛ حتى لو كانت جميعها تشير إلى ما يكسو الجسم من جلد، فإذا استطاع المترجم أن يتغلب على صعوبة التفرقة بأن يقول «الجلود بأنواعها»، سيواجه المشكلة وجهًا لوجه إذا قال الكاتب:
Some developing countries exchange hides and skins for leather.
وقد وردت هذه العبارة في سياق نص في الاقتصاد الزراعي كنت أترجمه في منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة، فسألت أحد الزملاء المتخصصين، فشرح لي أنهم يقولون: الجلود الكبيرة والجلود الصغيرة للكلمتين الأوليين، والجلود المصنعة للكلمة الثالثة. وسرَّني هذا التصرف أو التحايل؛ لأن فيه اختصارًا للمعنى؛ وهو «جلود الحيوانات الكبيرة» (hides)
و«جلود الحيوانات الصغيرة» (skins)، وتبيانًا للمعنى الكامن في كلمة leather؛ إذ إنها تشير إلى الجلد بعد إعداده processing لصناعة الأشياء الجلدية؛ مثل الحقائب والأحزمة والأحذية وما إليها؛ ومن ثَم يكون المعنى:
إن «بعض البلدان النامية تستبدل بالجلود الكبيرة والصغيرة الجلودَ المصنَّعة»
وعلى مدى ما يزيد على اثني عشر عامًا تعاونت فيها في الترجمة مع المنظمة المذكورة، تعلمت درسًا بالغ الفائدة؛ وهو: ضرورة التعبير الدقيق عن كل معنًى من المعاني في مجال العلوم، مهما كابد المترجم في سبيل ذلك من مشقة.
وأذكر مرةً كنا نترجم موضوعًا عن الأسماك، فوجدت تمييزًا بين الأسماك اﻟ demersal والأسماك اﻟ pelagic، والأولى تعني الأسماك التي تعيش قرب القاع، والثانية تعني الأسماك التي تعيش قرب السطح، وكان العرف قد جرى على ترجمة الأولى بأسماك القاع والثانية بالأسماك السبَّاحة، ومن ثم اعترض البعض على التسمية الأخيرة؛ انطلاقًا أن جميع الأسماك سباحة، ومن ثم عُدلت إلى «أسماك السطح» رغم افتقاد التعبير إلى الدقة الكاملة؛ ولذلك فإن هذه المنظمة، مثل غيرها من المنظمات العلمية، تُخرج قواميس متخصصة بصورة دورية في كل فرع من فروع المعرفة يتصل بالزراعة والأغذية من الألياف التخليقية (الصناعية) synthetic fibres، والخشب الرقائقي plywood (الأبلكاش)، إلى التصحر desertification (زحف الصحراء)، والصرف المغطى tiled drainage.

(٤) المختصرات وما إليها

لا بد، قبل الانتقال إلى الباب التالي، من ذكر صعوبة في اللغات الأوروبية الحية لا نظير لها في العربية؛ وهي المختصرات abbreviations، والتسميات الأوائلية؛ أي: الأسماء القائمة على المختصرات acronyms، والكلمات المشتقة من أسماء أشخاص بعينهم eponyms. أما المختصرات فهي الأحرف الأولى من اسم مركب أو تعبیر ما، وعادةً ما يورده الكاتب كنوع من الاختزال توفيرًا لوقت القارئ. ويتمتع المترجم من الإنجليزية إلى الفرنسية أو إلى أي من اللغات الأوروبية الأخرى بحرية إيجاد مثيله في لغته، أو بإيراده كما هو دون تعديل، حتى دون أن يعرف مدلوله الكامل، بل إن بعض هذه المختصرات قد يكون قائمًا على عبارة أجنبية، ولكنه يستخدم كما هو دون تغيير في الإنجليزية؛ مثل: R. S. V. P.؛ أي: أجب répondez s’il vous plait، ولكنها عادةً ما تعني أن الداعي يطلب الرد بالإيجاب أو السلب على الدعوة التي وجهها. والصحيفة التي أمامي تزخر بشتى أنواع المختصرات، وقد وجدت أنها تتراوح بين الأسماء المألوفة للدول والمنظمات، وبين المختصرات المتخصصة؛ فالشائعة تتضمن على سبيل المثال U. S. A. (الولايات المتحدة الأمريكية) وU. K. (المملكة المتحدة) وU. N. (الأمم المتحدة) وأسماء وكالات الأنباء مثل A. P. (أسوشيتد بريس)، وUPI (يونايتد بريس إنترناشيونال)، وAFP (وكالة الأنباء الفرنسية) وما إلى ذلك. وتتضمن المختصرات المتخصصة، في الصحيفة نفسها، رموزًا لمصطلحات خاصة؛ مثل DNA؛ أي: deoxyribonucleic acid؛ وهو حامض الخلية الحامل للصفات الوراثية، وCFC؛ أي: مادة اﻟ chlorofluorocarbon الموجودة في أنابيب الإيروسول التي تعمل بالغاز المضغوط، والتي يُعزى إليها التآكل في طبقة غاز الأوزون المحيطة بالأرض، وERM أي: exchange rate mechanism، ومعناها آلية ضبط سعر الصرف في السوق الأوروبية المشتركة، وهي تدخُّل البنك المركزي في أية دولة من الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية الأوروبية EEC (European Economic Community) لتثبيت سعر الصرف لعملة من العملات، إذا ارتفع عن سائر عملات المجموعة بما يزيد عن ٦ ٪؛ وما إلى ذلك.
وإذا كان المترجم مطالَبًا بترجمة هذه المصطلحات إلى اللغة العربية، فعليه أولًا أن يدرك ما تعني، وعليه ثانيًا أن يعرف ما اتفق عليه المجتمع الدولي للمترجمين — إن صح هذا التعبير — المتمثل في خبراء الترجمة بالأمم المتحدة ومنظماتها؛ فمعرفة ما اتُّفق عليه مهم وضروري، فلا يُهم مثلًا إذا كان المصطلح عامًّا أن يترجمه المترجم ترجمةً صحفية؛ أي: ترجمة «توصيلية» هدفها توصيل المعنى وحسب إلى القارئ؛ فترجمة FBI أي: Federal Bureau of Investigations بمكتب التحقيقات الفيدرالي، أو المكتب الفيدرالي (أو الاتحادي) للتحقيقات (في الولايات المتحدة) لن تكون موضع خلاف كبير طالما وصل المعنى إلى القارئ، وكذلك ترجمة IFB (أيضًا في أمريكا) بالمناقصة أو الدعوة لتقديم المناقصات Invitation for bids أو حتى الدعوة لتقديم العطاءات. وكذلك ترجمة: RSPCA والتي تدل على:
Royal Society for the Prevention of Cruelty to Animals بالجمعية الملكية لمنع القسوة على الحيوان، أو بجمعية الرفق بالحيوان الإنجليزية. ولكن على المترجم أن يعرف ما اتفق عليه المترجمون في الأمم المتحدة بشأن مصطلح مثل ICCPR؛ أي: International Covenant on Civil and Political Rights؛ أي: العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛ إذ أصبح هذا من أسماء الأعلام ولا يجوز لنا تعديله حتى ولو اختلفنا مع المترجم الأصلي له، وإلا كان لنا أن نعيد ترجمة USA بالدول الأمريكية المتحدة؛ فلقد تُرجمت State بولايةٍ أيامَ الحكم العثماني؛ وذلك قياسًا على ولايات الدولة العثمانية الكثيرة ومنها مصر.
والحق أن مترجمي الأمم المتحدة يتعرضون لشتى الضغوط حيالَ هذه الأسماء التي جرت مجرى الأعلام، ويبذلون جهودًا جبارةً جديرةً بالثناء في التغلب على الصعوبات التي تواجههم؛ إذ تجد مثلًا هيئتين في الأمم المتحدة مختصتين بحقوق الإنسان، وكل منهما لجنة؛ الأولى هي: The UN Committee on Human Rights، والثانية هي: The UN Human Rights Commission؛ فالأولى تترجَم بلجنة حقوق الإنسان، والثانية اللجنة المعنية بحقوق الإنسان. ولا داعي للاستطراد في هذا الباب فإنما قصدت ضرب الأمثلة.

أما المختصرات التي لا بد للمترجم المحترف من الإحاطة بمعناها؛ بحيث لا يضيع وقتًا في البحث عن مقابل لها بالعربية؛ فهي مختصرات المصطلحات الشائعة؛ مثل:

(Bachelor of Arts) B. A.؛ أي: درجة الليسانس في الآداب وما يجري مجراها، مثل B. Sc. (Bachelor of Science) وM. D. (Medicinae Doctor أو (Doctor of Medicine)، والمصطلحات التي ترِد في النصوص غير المتخصصة، مثل: i. e. (id est) (بمعنى: «أي» أو «بعبارة أخرى»)، أو p.m. (مساءً post meridiem) وa.m. (صباحًا ante meridiem) أو videlicit) viz. بمعنى namely وتعني «أي» أو «بالتحديد»، أو etc. (et cetera؛ بمعنى: وهلم جرًّا، أو: إلى آخره «إلخ»)، أو p. s. (post script) ؛ وهي ملاحظة تكتب بعد انتهاء نص (خطاب)، أو IQ (Intelligence quotient أي: معدل الذكاء)، وقِس على ذلك مثل: PoW’s (أي: أسرى الحرب prisoners of war)، أو NCO’s (أي: ضباط الصف non-commissioned officers). والمترجم المحترف لن يستطيع الاستغناء عن قاموس متخصص في المختصرات، وحبذا لو كانت له ترجمة عربية متفق عليها في إحدى وكالات الأمم المتحدة أو في أحد مَقارِّ الأمم المتحدة، سواء المقر الرئيسي في نيويورك أو مقرها الأوروبي في جنيف.
ولديَّ قاموس صغير بالإنجليزية من تأليف Stuart W. Miller وعنوانه Concise Dictionary of Acronyms and Initialisms، وهو صادر عام ١٩٨٨م ولا يتضمن إلا ٢٠٠٠ مختصر، ولا يفي بالغرض، فلقد ترجمت في عام ١٩٩٠م نصوصًا تضمنت، دون مبالغة، مئاتِ المختصرات التي لا يتضمنها هذا الكتاب؛ إذ لكل هيئةٍ مختصراتها، ولكل دولة مختصرات لا تتصور أن يجهلها أحد؛ بينما تحفِل اللغة بالمصطلحات العلمية التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ثقافة العصر.
وربما كان من المهم قبل أن أنتقل إلى القسم الثاني من هذا الفصل أن أنبه المبتدئ إلى ضرورة الامتناع عن محاولة تخمين معنى المختصر إذا كان يجهله، فلهذا عواقبُ وخيمةٌ عانيت منها مُرَّ المعاناة عند مراجعة بعض النصوص العامة؛ إذ كثيرًا ما يحاول المترجم استخدام «الفهلوة» في تخمين الكلمات التي تبدأ بحروفٍ اعتاد على معناها، فيخرج له كيانٌ لا علاقة له بالمقصود. وأذكر مرةً ترجم فيها أحد الزملاء المختصر ICJ باللجنة الدولية للحقوقيين؛ اعتمادًا على «الفهلوة» في تفسير الحروف؛ إذ افترض أنها تعني International Committee of Jurists؛ خصوصًا وأن النص يتضمن إشارةً إلى القضاء، بينما يشير ذلك المختصر إلى محكمة العدل الدولية International Court of Justice. والغريب أنه دافع عن هذا الخطأ قائلًا إنه ارتكبه عدة مرات دون أن يلحظ ذلك أحد. وفي تصوري أن على المترجم أن يكون واعيًا كلَّ الوعي بالسياق، ولا يكتفي بإشارات يسهُل الخطأ في تفسيرها؛ إذ ترجم أحد أصدقائي اختصار L. A. المستخدم في المسلسلات الأمريكية للإشارة إلى بلدة لوس أنجيليس (التي شاعت كتابتها بالعربية لوس أنجلوس) على أنها إشارة إلى ذلك البلد؛ على حين كانت واردةً في سياق بريطاني وفي غمار موضوع يتحدث عن المكتبات في إنجلترا، وكانت تعني في الحقيقة Library Association؛ أي: جمعية المكتبات البريطانية، وهي نوعٌ من الهيئات النقابية لا علاقة لها باسم البلد المذكور، وربما ضلَّله في هذا كتابةُ المختصر بالحروف الكبيرة؛ إذ أحيانًا ما تُستخدم الحروف الصغيرة في تحديد نوع المختصر، مثل: كتابة mp اختصارًا للتعبير الإيطالي mezzo piano؛ بمعنى: اعزف اللحن برقَّة متوسطة؛ على حين تكتب MP للإشارة في بريطانيا إلى عضو البرلمان member of parliament، وفي أمريكا إلى البوليس الحربي military police. أما إذا عكست ترتيب الحرفين فستنشأ لديك مشكلات لن يحُلَّها إلا النص؛ فإن p.m. قد تعني post meridiem ؛ أي: مساءً، وتعني أيضًا premium؛ أي: قسطًا من أقساط التأمين مثلًا، وتعني كذلك post mortem؛ أي: تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة، وإذا كتبتها بالحروف الكبيرة P.M. فسوف تعني Prime Minister رئيس وزراء «بريطانيا»، أو عددًا من الاحتمالات في أمريكا؛ منها past master؛ أي: محنَّك أو خبير، أو police magistrate قاضي الشرطة، أو post master؛ أي: مدير مكتب البريد، أو provost marshal؛ أي: المدعي العام العسكري.

وقد تدهَش إذا علمت أن قاموس المختصرات الذي أشرت إليه، فيما سبق، لا يورد إلا جانبًا محدودًا من هذه الاحتمالات، والاعتمادُ عليه وحده لا يكفي (يورد معنی «مساءً» و«تشريح الجثة» و«رئيس الوزراء» فقط).

وكثيرًا ما تتكون من هذه الحروف كلماتٌ ثابتة تسمى acronyms، بعضها شائع؛ مثل: الإشارة إلى اتفاقية الجات GATT؛ وهي اختصار لتعبير General Agreement on Tariffs and Trade؛ أي: الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة، التي وقعت عام ١٩٤٧م؛ أو لغة الباسيك BASIC في الكمبيوتر؛ وهي اختصار Beginners’ All-Purpose Symbolic Instruction Code؛ أي شفرة التعليم الرمزية للمبتدئين المتعددة الأغراض؛ أو طائرات الأواكس AWACS؛ وهي اختصار Advanced/Airborne Warning & Control System؛ أي: نظام الإنذار والتحكم المبكر أو المحمول جوًّا؛ أو الكلمة الجديدة chunnel؛ ومعناها channel tunnel؛ أي: نفق القنال الإنجليزي؛ أو اختصار الكوميكون Comecon؛ ومعناها مجلس التعاضد الاقتصادي (ترجمة إذاعة موسكو لتعبير Council for Mutual Economic Assistance)؛ أو منظمة البوليزاريو مثلًا؛ وهي اختصار للتعبير الإسباني (Frente) Popular para la liberacion de Saguia El Hamra y Rio De Oro؛ أو «الجبهة» الشعبية لتحرير الساقية الحمراء، وريو دي أورو «نهر الذهب»، وذلك في الصحراء الغربية؛ أو منظمة الأوبك OPEC؛ أي: منظمة البلدان المصدرة للبترول Organization of Petroleum Exporting Countries؛ أو الكلمة المشهورة النابالم napalm؛ وأصلها هو naphthenic and palmitic acids؛ أو طائرات الميج MiG؛ وهي اختصار لاسمي رجلين هما: Mikoyan and Gurevich؛ وهما اللذان وضعا تصميم هذه الطائرة السوفييتية؛ أو الرادار Radar؛ وهي اختصار radio detecting and ranging؛ أي: الكشف وتحديد المسافة بالإشعاع؛ أو الصاروخ SAM؛ وهو اختصار صاروخ أرض جو أو بحر جو surface-to-air missile؛ أو اسم شركة مشهورة مثل سابينا Sabena؛ وهو اختصار Societé Anonyme Belge d’Exploitation de la Navigation Aérienne؛ ومعناها الحرفي الشركة البلجيكية المساهمة لاستثمار الملاحة الجوية، أو اسم المنظمة الشهيرة سوابو SWAPO التي كانت تمارس نشاطها في ناميبيا قبل الاستقلال، ومعناها منظمة شعب جنوب غرب أفريقيا South West Africa People’s Organization؛ وأخيرًا بعض منظمات الأمم المتحدة التي شاعت بصورتها المختصرة، وهي الأونكتاد؛ أي: مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية United Nations Conference on Trade and Development؛ واليونسكو؛ أي: منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة United Nations Educational, Scientific, and Cultural Organization؛ واليونيسيف، واسمها الأصلي United Nations International Children’s Emergency Fund، ولكنها اختُصرت بحذف الكلمتين الثالثة والخامسة إلى صندوق الأمم المتحدة للطفولة، مع احتفاظ المختصر بصورته الأصلية؛ ومثل اليونيدو UNIDO؛ أي: منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية United Nations Industrial Development Organization؛ وتلك المنظمة ذات الاختصار الغريب W. H. O.؛ أي: منظمة الصحة العالمية World Health Organization التي ليست في الحقيقة من منظمات الأمم المتحدة، ولكنها ملحَقة بها.
وسوف يعثر القارئ على تعبيرات جديدة أصبحت شائعة بسبب الصحافة، ولم تبدأ القواميس في رصدها إلا في أواخر الثمانينيات، وهي محيِّرة في الترجمة؛ لأنك لا تستطيع أن تشرح معناها في كل مرة تمر بك؛ إذ أحيانًا ما تتكرر في السياق الواحد عدة مرات؛ مثل: كلمة yuppies؛ وهي جمعٌ لمختصرٍ تقريبي لعبارة Young Urban Professional Persons؛ أي: المِهْنيون الشبان سكان المدينة (والمقصود بهم الذين يتقاضون مرتباتٍ كبيرةً لا تتناسب مع ما يبذلونه من جهد في أسواق المال والتجارة). ويقال إن أصلها Young Upwardly Mobile Professional Persons؛ أي: الشبان المهنيون الذين يرتقون السُّلم الاجتماعي بسرعة خارقة. وقد أضافت الصحافة البريطانية كلمةً جديدة على غرارها هي Yummies؛ وهي اختصار تقريبي لتعبير Young Upwardly Mobile Marxists؛ أي: الشبان الماركسيون الصاعدون؛ وكلمة أخرى كثيرًا ما أغاظتني هي Dinkies؛ وتعني الأزواج العاملين ممن لا أطفال لهم! Double Income-No kids. وكلنا ملمٌّ هذه الأيامَ بتعبير Acquired Immune Deficiency Syndrome الذي أصبح مختصرًا AIDS؛ وهو مرض نقص المناعة المكتسب، الذي أودى بحياة الآلاف في أوروبا وأمريكا.

والمترجم يَحار في ترجمة الكلمات الأخيرة (المستحدثة)، فهل له أن يكتبها كما هي، أو أن يشرح معناها أولَ مرة مع تبيان اختصارها ثم يستعمل الاختصار فيما بعدُ وحسْب؟ انظر مثلًا:

He knew he would be regarded as an outsider among the yuppies of the city: he had to absolve himself, and the way to an executive job lay through the heart of Fiona, the DG’s special PA. If he could win her over, he would be assured of a posting abroad, away from the yuppies’ internecine fight for the astronomically salaried job of senior assistant manager.
كان يعرف أنه سيُعتبر غريبًا وسط الشبان الناجحين الأثرياء في حي المال والتجارة بلندن، وأنه كان عليه أن يشق طريقه بنجاح، وأن السبيل إلى ذلك رضا فيونا عنه، فرضا هذه المساعِدة الخاصة للمدير العام كفيل بضمان وظيفة رئيسية له في الإدارة. فإذا نجح في استمالتها فسوف يضمن الحصول على وظيفة في الخارج؛ وبذلك يبتعد عن التناحر المدمر فيما بين أولئك الشبان للحصول على منصب المساعد الأول للمدير التنفيذي، وهو منصب يتقاضى شاغلُه مرتبًا خياليًّا.
لقد شرح المترجم الكلمة في أول مرة، ثم أشار إلى هؤلاء الشبان وحسب عندما وردت للمرة الثانية؛ أما عن تفسير اﻟ DG (Director General) واﻟ PA (Personal Assistant)، فأوضحُ من أن يحتاج إلى تعليق، وأما حيل البناء والتركيب فسوف يأتي دورها في القسم التالي.
وبالنسبة للكلمات المشتقة من أسماء أشخاصٍ بعينهم، فالمترجم يتبع العرف هنا فحسب، فبعضها ما زال يحمل في العربية اسم الشخص، والبعض الآخر يتجاهله في سبيل المعنى؛ فمثلًا تقول: إن المرأة وَلدت بعد عملية قيصرية Caesarean section، وهي تنسب إلى يوليوس قيصر الذي تقول الأسطورة إنه وُلد بهذه الطريقة عام ١٠٢ق.م.
وتقول: «إن ذلك الشاب روميو!»٩ أو «إنه كازانوفا!» والإشارة إلى عاشق أسطوري في الحالة الأولى، وإلى شخص بعينه في الحالة الثانية هو جوفاني كازانوفا؛ المغامر الإيطالي الذي عاش في القرن الثامن عشر (١٧٢٥–۱۷۹۸م). بل وقد نقول: «دون جوان» نسبةً إلى الأسطورة الإسبانية القديمة التي تحولت إلى قصائد ومسرحيات فيما بعد. وقد تقول: «إنه شوفيني Chauvinist» أو متعصب لوطنه؛ (نسبةً إلى نيكولاس شوفان الجندي الفرنسي المتفاني في حب نابليون).
ونقول: الكتابة بطريقة برايل Braille؛ نسبةً إلى الفرنسي لويس براي الذي اخترع طريقة الكتابة البارزة للمكفوفين في عام ١٨٥٢م. ولكننا لا نقول في العربية جيوتين guillotine، بل نقول المِقْصلة. ونقول رسام السيلويت بدلًا من رسام الظل؛ نسبة إلى Etienne de Silhouette وزير المالية الفرنسي؛ الذي دعا إلى إجراءات توفير قبيل الثورة الفرنسية؛ منها: الاستعاضة بهذا اللون من التصوير عن اللوحات الزيتية.
وفي مجال الملابس نكتفي بأشهر ما أذكره؛ وهو قبَّعة الداربي Derby الشهيرة المنسوبة إلى لورد داربي؛ الذي أنشأ سباق الداربي للخيل في عام ۱۷۸۰م، حيث يرتدي الناس هذه القبعة التي تشبه القبعة الصغيرة ولها طاقة ضيقة. وكلمة بلومرز bloomers (بسبب عودة هذه الموضة)، وتعني السراويل الفضفاضة التي تضيق عند الركبة، والتي تُنسب إلى السيدة إميليا بلومر؛ المصلِحة الاجتماعية الأمريكية في القرن التاسع عشر. وأخيرًا (وهي موضة عائدة أيضًا) الليتار leotard؛ وهو الرداء الملتصق بالجسم الذي يلبسه الراقصون ولاعبو السيرك، وهو أيضًا نسبة إلى أحد الرياضيين الفرنسيين الذي ابتدع هذا الرداء في القرن التاسع عشر.
وقبل أن ننتقل في الباب التالي من البدايات إلى قسم آخر من العقبات يتصل بالتركيب والبناء؛ حيث المشاكل تتكاثر بلا حدود، نورد مشكلةً من مشاكل الألفاظ، ومنها ما نجح المترجم العربي في إيجاد حلول له؛ وهي أن بعضها يولِّد من نفسه ألفاظًا أخرى، أو يُستخدم طورًا في صورة الاسم، وطورًا في صورة الفعل؛ بسبب خَصيصة في اللغة الإنجليزية تفتقر إليها العربية. وأذكر في رواية ترجمتها للروائي الأمريكي أليكس هيلي، مؤلف «جذور»، وهي «عيد ميلاد جديد»١٠ أنني قابلت كلمة «سيلويت» المذكورة فيما سبق مستخدمةً في صورة «فعل»، وكانت على ما أذكر:
Silhouetted against a sky brightening with the Christmas morning, the two men walked on.

والمعنى هنا أن الرائيَ سوف يظن أن الرجلين ظِلَّان من ظلال الليل؛ بسبب الخلفية التي تُشرق فيها أضواء النهار يوم عيد الميلاد. وقد ترجمت العبارة هكذا:

«واستأنف الرجلان السير ومن خلفهما يتدفق نورٌ صبيحةَ عيد في السماء، فتحوَّلا إلى ظلين.»
وقِس على هذا تحويل المقصلة إلى فعل to guillotine (-ed)؛ أي: ينفَّذ حكم الإعدام بالمقصلة، أو يلقى حتْفَه بهذا الأسلوب:
Having guillotined their enemies, the revolutionaries were themselves guillotined.
«وبعد أن قتل الثوار أعداءهم بالمقصلة، (دار الزمان) فقُتلوا هم أنفسُهم بها.»

أي: إننا لم نشتقَّ من اللفظة العربية فعلًا رغم إمكانية ذلك (قصل يقصل).

وذلك ينطبق أيضًا على الكلمات الأجنبية المعرَّبة؛ فالذي يقول لك:
I saw three young men, bloomered in the latest fashion, stare at a young lady, leotarded, but wearing a flowing cape.
Newsweek, 20th March 1991

يقول لك في الحقيقة إنه: «رأى ثلاثة شبان يرتدون سراويل فضفاضةً على آخر موضة، وهم يحدِّقون في فتاة ترتدي رداء ملتصقًا بالجسم (والأرجح أنها سراويل) وعلى كتفيها عباءة (كاب) واسعة.»

ففي كل حالة ينزع المترجم إلى الشرح، ويكون ذلك عادة في عبارة كاملة؛ حتى تستقيم الجملة العربية، والجميع يعرف أننا نترجم عبارة mirrored in ﺑ «انعكست صورته في» أي: إننا أحيانًا نخرج عن الكلمة الحرفية لإيصال المعنى إذا كان ثمة مجالٌ لذلك، وسوف تتضح القاعدة حين ننظر في فنون البناء والتركيب.
١  انظر: محمد عناني؛ النقد التحليلي. ط٢ القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩١م.
٢  Wehr, Hans; A Dictionary of modern written Arabic, ed. by J. Milton Cowan, Beirut, Librairie du Liban, 1980.
٣  انظر الدكتور السعيد بدوي: مستويات اللغة العربية في مصر. القاهرة، دار المعارف، ١٩٧٣م.
٤  “Novel rhetoric: notes on the language of fiction in Naguib Mahfouz”, in Naguib Mahfouz: Nobel 1988; A Collection of Critical Essays, ed. M. Enani, Cairo: General Egyptian Book Organization, 1989. pp. 97–144.
٥  Doniach, N. S.: The Oxford English-Arabic dictionary of current usage, Oxford, The Clarendon Press, 1979.
٦  مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب: إنكليزي-فرنسي-عربي، بيروت، مكتبة لبنان، ١٩٨٣م.
٧  انظر: أحمد حمدي محمود، الثقافة والحضارة، القاهرة، دار المعارف، ١٩٧٦م، سلسلة كتابك (١٥).
٨  محمد محمد عناني: طيور مصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٢م (المؤلف هنا هو والد مؤلف كتاب «فن الترجمة» الحالي).
٩  انظر: مقدمة الترجمة العربية ﻟ روميو وجوليت، بقلم محمد عناني، القاهرة، دار غريب، ١٩٨٦م.
١٠  أصدرها مركز الأهرام للترجمة والنشر بالقاهرة عام ١٩٨٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤