الرسالة الأولى

في بيان الهَيُولَى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أُضيف بعضُها إلى بعض

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

اعلم أيها الأخ — أيَّدك الله وإيانا برُوح منه — أنا قد فرغنا من الرسائل الرياضية بجملتها حسب ما وعدنا في صدر الكتاب، واستوفينا الكلام في ذلك حسب ما يَلِيق بنا، فعلينا أن نشتغل بذكر القسم الثاني وهو في «الجسمانيات الطبيعيات»، فلنبدأ بالرسالة الأُولَى منها في «الهَيُولَى والصورة» فنقول: لما كان النظر في علم الطبيعيات جزءًا من أجزاء صناعة إخواننا — أيَّدهم الله — والأصل في هذا العلم هو معرفة خمسة أشياء؛ وهي: الهَيُولَى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أُضيف بعضها إلى بعض، احتَجْنا أن نذكِّر في هذه الرسالة طرفًا من معاني الهَيُولَى والصورة؛ شبه المدخل والمقدمات؛ ليكون أقرب من فهْم المبتدئين عند النظر في الطبيعيات، وأسهل على تعليمهم، فنقول: اعلم — وفَّقك الله — أن معنى قول الحكماء: «الهَيُولَى» إنما يَعنون به كلَّ جَوْهر قابلٍ للصورة، وقولهم: «الصورة» يعنون به كلَّ شكل ونقش يَقبَله الجوهر.

واعلم أن اختلاف الموجودات إنما هو بالصورة لا بالهَيُولَى؛ وذلك أنَّا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد وصُوَرها مختلفة؛ مثال ذلك: السكين والسيف والفأس والمنشار، وكل ما يُعمَل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أجْل اختلاف صورها لا من أجْل اختلاف جواهرها؛ لأن كلها بالحديد واحد، وكذلك الباب والكرسي والسَّرير والسفينة، وكل ما يعمل من الخشب، فإن اختلاف أسمائها إنما هو بحسب اختلاف صورها، فأما هَيُولاها التي هي الخشب فواحدة، وعلى هذا المثال يعتبر حال الهَيُولَى والصورة في المصنوعات كلها؛ لأن كل مصنوع لا بد له من هَيُولَى وصورة يُركَّب منهما.

واعلم أن الهَيُولَى على أربعة أنواع؛ منها: هَيُولَى الصناعة، وهَيُولَى الطبيعة، وهَيُولَى الكل، والهَيُولَى الأولى، فهَيُولَى الصناعة: هي كل جسم يَعمَل منه وفيه الصانع صنعته كالخشب للنجَّارين، والحديد للحدَّادين، والتراب والماء للبنَّائين، والغزل للحاكة، والدقيق للخبَّازين، وعلى هذا القياس كل صانع لا بد له من جسم يعمل صنعته منه وفيه، فذلك الجسم هو هَيُولَى الصناعة، أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها فهي الصورة، فهذا هو معنى الهَيُولَى والصورة في الصنائع، وأما الهَيُولَى الطبيعية فهي الأركان الأربعة؛ وذلك أن كل ما تحت فلك القمر من الكائنات، أعني النبات والحيوان والمعادن، فمِنها تتكوَّن، وإليها تستحيل عند الفساد، أما الطبيعة الفاعلة لهذا فهي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية، وقد بيَّنَّا كيفية فِعْلها في هذه الهَيُولَى في رسالة أخرى، وأما هَيُولَى الكل فهي الجسم المطلق الذي منه جملة العالَم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع؛ لأنها كلها أجسام، وإنما اختلافها من أجْل صُوَرها المختلفة، وأما الهَيُولَى الأولى فهي جوهر بسيط معقول لا يُدرِكه الحس؛ وذلك أنه صورة الوجود حسب، وهو الهوية، ولمَّا قبلتِ الهوية الكمية صارتْ بذلك جسمًا مطلقًا مشارًا إليه أنه ذو ثلاثة أبعاد، التي هي الطُّول والعَرْض والعُمْق، ولمَّا قَبِل الجسم الكيفية وهي الشكْل كالتدوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال صار بذلك جسمًا مخصوصًا مشارًا إليه أي شكل هو، فالكيفية هي كالثلاثة، والكمية كالاثنين والهوية كالواحد، وكما أن الثلاثة متأخِّرة الوجود عن الاثنين كذلك الكيفية متأخِّرة الوجود عن الكمية، وكما أن الاثنين متأخِّرة الوجود عن الواحد، كذلك الكمية متأخِّرة الوجود عن الهوية، والهوية هي متقدِّمة الوجود على الكمية والكيفية وغيرهما، كتقدُّم الواحد على الاثنين، والثلاثة، وجميع العدد.

ثم اعلم أن الهوية والكمية والكيفية كلها صور بسيطة معقولة غير محسوسة، فإذا تركتَ بعضها على بعض صار بعضها كالهَيُولَى وبعضها كالصورة، فالكيفية هي صورة في الكمية، والكمية هَيُولَى لها، والكمية هي صورة في الهوية، والهوية هَيُولَى لها، والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورة في الثوب، والثوب هَيُولَى له، والثوب صورة في الغزل، والغزل هَيُولَى له، والغزل صورة في القطن، والقطن هَيُولَى له، والقطن صورة في النبات، والنبات هَيُولَى له، والنبات صورة في الأركان، وهي هَيُولَى له، والأركان صورة في الجسم، والجسم هَيُولَى لها، والجسم صورة في الجوهر، والجوهر هَيُولَى له، وكذلك الخبز صورة في العجين، والعجين هَيُولَى له، والعجين صورة في الدقيق، والدقيق هَيُولَى له، والدقيق صورة في الحَب، والحَب هَيُولَى له، والحَب صورة في النبات، والنبات هَيُولَى له، والنبات صورة في الأركان، وهي هَيُولَى له، وهي صورة في الجسم، والجسم هَيُولَى لها، والجسم صورة في الجوهر، والجوهر هَيُولَى له.

وعلى هذا المثال يُعتَبَر حال الصورة عند الهَيُولَى، وحال الهَيُولَى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلها إلى الهَيُولَى الأولى التي هي صورة الوجود حسب، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهر بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابل للصور كلها، ولكن على الترتيب كما بيَّنا، لا أي صورة كانت تأخَّرت أو تقدَّمت، بل الأول فالأول، مثال ذلك أن القطن لا يقبل صورة الثوب إلا بعد قبوله صورة الغزل، والغزل لا يقبل صورة القميص إلا بعد قبوله صورة الثوب، وكذلك الحَب لا يقبل صورة العجين إلا بعد قبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبل صورة الخبز إلا بعد قبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قبول الهَيُولَى للصُّوَر واحدةً بعد أخرى.

ثم اعلم أن الأجسام كلها جنس واحد من جوهر واحد وهَيُولَى واحدة، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورها، ومن أجْلها صار بعضها أصْفَى من بعض وأشرف، وذلك أن عالم الأفلاك أصْفَى وأشْرف من عالم الأركان، وعالم الأركان بعضها أشرف من بعض، وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطف منه، والماء أصفى من التراب وأشرف منه، وكلها أجسام طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض؛ وذلك أن النار إذا أُطفئت صارت هواء، والهواء إذا غلُظ صار ماء، والماء إذا غلُظ وجمد صار أرضًا، وليس للنار أن تلطف، أو للأرض أن تغلظ فتصير شيئًا آخر، بل إذا تكونت أجزاؤها يكون منها المولدات، أعنِي المعادِنَ والنبات والحيوان، لكن يكون بعضها أشرف تركيبًا من بعض؛ وذلك أن الياقوت أصفى من البلور وأشرف منه، وأن البلور أصفى من الزجاج وأشرف منه، والزجاج أصفى من الخزف وأشرف منه، وكذلك الذهب أشرف من الفضة وأصفى منها، والفضة أصفى من النحاس وأشرف منه، والنحاس أصفى من الحديد وأشرف منه، والحديد أشرف من الأُسْرُب، وكلها أحجار معدنية أصلها كلها الزئبق والكبريت، والزئبق والكبريت أصلهما التراب والماء والهواء والنار، فهَيُولاها واحد وصورها مختلفة، وصفاؤها وشرفها بحسب تركيبها واختلاف صورها، وكذلك حكم الحيوان والنبات فإنها بالهَيُولَى واحد، وإن اختلافها وشرف بعضها على بعض بحسب اختلاف صورها.

(١) فصل في الأجسام الجزئية

اعلم أن الأجسام الجزئية منها ما يَقبَل صورةَ الكلِّيِّ إذا صُوِّر فيه، فيصير بقبوله تلك الصورة أفضل وأشرف من سائر الأجسام الجزئية الساذجة، والمثال في ذلك قطعة من النحاس إذا صُوِّر فيها الفلك مثل الأَصْطُرْلاب وذات الحلق والكرة المصورة، فإنها عند ذلك تكون أشرف وأفضل وأحسن من أن تكون ساذجة، وكذلك كل جسم قَبِل صورةً ما فإنه عند ذلك يكون أفضل وأشرف وأحسن من كونه ساذجًا، فهكذا الحكم في جواهر النفوس؛ وذلك أنها كلها جنس واحد وجوهر واحد وأن اختلافها بحسب معارفها وأخلاقها آرائها وأعمالها؛ لأن هذه الحالات هي صور في جواهرها وهي كالهَيُولَى، وكذلك النفس الجزئية إذا قَبِلت علمًا من العلوم تكون أفضل وأشرف من سائر النفوس التي هي أبناء جنسها.

ثم اعلم أن العلوم في النفس ليستْ بشيء سوى صور المعلومات انتزعتْها النفس وصوَّرتْها في فِكْرها، فيكون عند ذلك جوهر النفس لصور تلك المعلومات كالهَيُولَى، وهي فيها كالصورة.

واعلم أن من الأنفُس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يُقارِبها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولًا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء — علَيهِم السلامُ — فإنها لما قَبِلتِ بصفاءِ جوهرها الفَيْض من النفس الكلية أتَتْ بالكتب الإلهية التي فيها عجائب العلوم الخفية والمعاني اللطيفة والأسرار المكنونة التي لا يمسُّها إلا المُطهَّرون من أدناس الطبيعة، وما وضعت من الشرائع العلمية النافعة للكل والسُّنَن العادلة الزكية، فاستنقذوا بها نفوسًا كثيرة غريقة في بحر الهَيُولَى وأسْر الطبيعة، ومثل نفوس المحقِّقين من الحكماء التي استنبَطَتْ علومًا كثيرة حقيقية، واستخرجتْ صنائع بديعة، وبَنَتْ هياكل حكيمة، ونصبتْ طلسمات عجيبة، ومثل نفوس الكَهَنة المُخبِرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية، وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: «الفلسفة هي التشبُّه بالآلة بحسب الطاقة الإنسانية.» وإليها أشاروا بقولهم: «مِن خاصية العقل المُنفَعِل أنْ يَقبَل الجزءُ منه صورةَ الكُلِّ.» وإليها أشار القائل بقوله:

كلُّ الهياكلِ صورةٌ مذمومة
إلا التي في صورة الأفلاك
وأتمُّها بينَ الذوات لأنها
قَبِلَتْ تمامًا صورة الإدراك
كم بين نفس شامخ في ذروةٍ
أو ما يكون حجارة الحكاك

وإليها أشار القائل بقوله:

وما كان إلا كوكبًا كان بيننا
فوَدَّعَنا جادتْ معاهدَه رُهْمُ
وأصبح روحًا لم يقيِّدْه منزل
وأضحى بسيطًا ليس يدركه وَهْمُ
رأى المَسْكنَ العلويَّ أوْلَى بمثله
ففاز وأضحى بين أشكاله نجْمُ

واعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضة على الأنفس الجزئية دفعةً واحدة مبذولة لها دائمَ الأوقات، لكن الأنفُس الجزئية لا تُطِيق قبولَها إلا شيئًا بعد شيءٍ في ممر الزمان، والمثال في ذلك فيض الأنفس الجزئية بعضها على بعض؛ وذلك أن الأب الشفيق والمعلِّم الحريص على تعليم تلميذه يوَدُّ أنْ يُعلِّم كلَّ ما يُحسِنه ويَعلَمه لتلميذه دفعةً واحدة، ولكنَّ نفْسَ المتعلِّم لا تَقبَل إلا شيئًا بعد الشيء على التدريج.

ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعة واحدة هو لأجْل استغراقها في بحْر الهَيُولَى وتراكُم ظلمات الأجسام على بصرها؛ لشدة مَيْلها إلى الشهوات الجسمانية وغرورها باللذَّات الجرمانية، فمتى انتبهتْ من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وصَحَتْ من سَكْرة عمايتها، وأفاقتْ من غَمرة غشيتها، وأخذتْ ترتقي في العلوم والمعارف، ودامتْ على تلك الحال لَحِقَتْ بالنفس الكلية، وشاهدتْ تلك الأنوار العقلية والأضواء البهية، ونالتْ تلك الملاذَّ الروحانية والسرورات الديمومية الأبدية التي كلها أشرف وأعلى منزلة مما كان فوق ما تقدَّم قبلَه ودونَ ما يأتي بعده، ومتى هي أعرضتْ عمَّا وصفْنَا وأقبلتْ على طلب الشهوات الجسمانية والزينة الطبيعية بعدتْ من هناك، وانحطَّتْ إلى أسفل السافلين، وغَرِقَتْ في بحْر الهَيُولَى، وغشيتْها أمواجُها، وتراكمت على بصرها ظلماتُها، وإلى هاتين الحالتين أشار — عزَّ اسمُه — بقوله تَعالَى: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ … الآية، ثم قالَ تَعالَى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ … الآية.

(٢) فصل في أقاويل الحكماء في ماهية المكان

أما المكان عند الجمهور فهو الوعاء الذي يكون فيه المتمكِّن، فيُقال إن الماء مكانه الكوز الذي هو فيه، وإن الخلَّ مكانه الزِّقُّ الذي هو فيه، وعلى هذا القياس مكان كل شيء هو الوعاء الذي هو فيه، وكما يُقال إن مكان السمك هو الماء، ومكان الطير هو الهواء، وبالجملة مكان كل متمكِّن هو الجسم المحيط به، وقيل أيضًا إن المكان هو سطح الجسم الحاوي الذي يَلِي المحويَّ، وقيل لا، بل المكان هو سطح الجسم المحويِّ الذي يَلِي الحاويَ، وعلى كِلَا الرأيَيْن والقولَيْن يجب أن يكون المكان جوهرًا، وقيل إن المكان هو الفصل المشترك بين سطح الجسم الحاوي وسطح المحوي، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان عَرَضًا، وقيل أيضًا إن المكان هو الفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهبًا طولًا وعرضًا وعمقًا، وإن مكان كل جسم مثله سواء، فإن كان الجسم مدوَّر الشكل، أو مربَّعًا أو مثلَّثًا أو غيرها من الأشكال فإن مكانه مثله سواء لا أصغر ولا أكبر، حتى قيل في المثل: إن المكان مكيال الجسم، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهرًا، واعلم أن الذين قالوا إن المكان هو الفضاء إنما نظروا إلى صورة الجسم ثم انتزعوها من الهَيُولَى بالقوة الفكرية وصوَّروها في نفوسهم وسمَّوْها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهَيُولَى سمَّوْها المكان، وهذا يدل على قلة معرفتهم أيضًا بجوهر النفس وكيفية معارفها ومعانيها.

واعلم أن مِن شرف جوهر النفس وعجائب قواها وظرائف معارفها أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصوِّرها في ذاتها، وتنظر إليها خلوًا من الهَيُولَى، وتفرق بين الهَيُولَى والصورة، وانظر إلى كل واحد منهما تارةً مفردة وتارةً مركبة، وإن من شدة قوَّتها الوهمية أنها تارةً تنظر إلى العالَم وكأنها خارجة منه، وتارةً تنظر إليه وكأنها داخلة فيه، وربما ترفع العالم من الوجود أصلًا، وربما تقدمت الزمان الماضي، ونظرت إلى بدء كون العالم، وبحثتْ عن عِلَّة كونه بعد أنْ لم يكن شيئًا، وربما سبقت الزمان المستقبل، ونظرت إلى فناء العالَم قبلَ حينه، وتصور كيف يكون ذلك، وإن من شدة قوَّتها أيضًا أنها تُضاعِف العدد إلى ما لا نهاية له، وتُجري المقادير إلى ما لا نهاية لها، وتتوهم أيضًا أن خارج العالَم فضاءً إلى ما لا نهاية له، وما يُشاكِل هذا من أفعالها العجيبة، وما يتصور بقوتها الوهمية، فمَن ظن أن الفضاء هو جوهر قائم بنفسه وأن خارج العالم فضاءً لا نهاية له، وأن المدة جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهَيُولَى يتجزأ أبدًا وما شاكل هذه المسائل، فكل هذه الأقاويل قالوها لقلة معرفتهم بجوهر النفس وعجائب قواها وكيفية تصرفها في المعارف والعلوم.

(٣) فصل في أقاويل الحكماء في ماهية الحركة

الحركة — يُقال — على ستة أوجُه: الكَوْن والفساد والزيادة والنقصان والتغيُّر والنقلة، فالكون هو خروج الشيء من العَدَم إلى الوجود، أو مِن القوة إلى الفعل، والفساد عكس ذلك، والزيادة هي تباعُد نهايات الجسم عن مركزه، والنقصان عكس ذلك، والتغيُّر هو تبدُّل الصفات على الموصوف من الألوان والطعوم والروائح وغيرها من الصفات، وأما الحركة التي تُسمَّى النقلة فهي عند جمهور الناس الخروج من مكان إلى مكان آخر، وقد يُقال إن النقلة هي الكون في محاذاة ناحية أخرى في زمان ثانٍ، وكلا القولين يَصِحُّ في الحركة التي هي على سبيل الاستقامة، فأما التي على الاستدارة فلا يصح؛ لأن المتحرِّك على الاستدارة ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصير في محاذاة أخرى في زمان ثانٍ، فإن قيل إن المتحرِّك على الاستدارة أجزاؤه كلها تتبدَّل أماكنها، وتصير في محاذاة أخرى في زمان ثانٍ إلا الجزء الذي هو ساكن في المركز، فإنه ساكن فيه لا يتحرك، فليعلم مَن يقول هذا القول ويظن هذا الظن، أو يقدِّر أن هذا الرأي صحيح أن المركز، إنما هو نقطة متوهَّمة وهي رأس الخط، ورأس الخط لا يكون مكان الجزء من الجسم، وليعلم أيضًا أن المتحرك على الاستدارة بجميع أجزائه متحرك، وهو لا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصير محاذيًا بالشيء آخر في زمان ثانٍ، فأما الحركة على الاستقامة فلا يمكن أن تكون إلا بالانتقال من مكان إلى مكان، والمرور بمحاذيات في زمان ثانٍ، فإذا قيل إنه يمكن ذلك فإن الإنسان مثلًا قد يُحرِّك يدَه أو بعض أجزائه وهو لا ينتقل من مكان إلى مكان فماذا ترى كيف يكون حال اليد؟ هل يجوز أن تتحرك ولا تخرج من مكان إلى مكان؟! وكذلك حكم الإصبع هل يجوز أن يتحرك ولا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يمر بمحاذاة أخرى في زمان ثانٍ؟!

واعلم أنه متى تحركت الأجزاء من جسم فقد تحركت تلك الجملة، ومتى تحركت تلك الجملة فقد تحركت تلك الأجزاء؛ لأن تلك الأجزاء ليست غير تلك الجملة، وذلك أنه إذا تحرك الإنسان فقد تحركت جملة أعضائه، وإذا تحركت أعضاؤه فقد تحرك هو، وإن تحركت يده وحدها فقد تحركت أجزاء اليد كلها؛ لأن اليد ليست شيئًا غير تلك الأجزاء، وكذلك إن تحرك إصبع واحد فقد تحركت أجزاء الإصبع كلها؛ لأن الإصبع ليست غير تلك الأجزاء، فمَن ظن أنه يجوز أن تتحرك الأجزاء ولا تتحرك الجملة، أو تتحرك الجملة ولا تتحرك بعض الأجزاء فقد أخطأ.

واعلم أنه قد ظن كثير من أهل العلم أن المتحرك على الاستقامة يتحرك حركات كثيرة؛ لأنه يمر في حركته بمحاذيات كثيرة في حال حركته، ولا ينبغي أن تعتبر كثرة الحركات لكثرة المحاذيات، فإن السهم في مروره إلى أن يقع حركة واحدة يمر بمحاذيات كثيرة، وكذلك المتحرك على الاستدارة فحركته واحدة إلى أن يقف، وإن كان يدور أدوارًا كثيرة.

ثم اعلم أنه لا تنفصل حركة عن حركة إلا بسكون بينهما، وهذا يعرفه — ولا يشك فيه — أهل صناعة الموسيقى؛ وذلك أن صناعتهم معرفة تأليف النَّغَم، والنغم لا يكون إلا بالأصوات، والأصوات لا تحدث إلا من تصادم الأجسام، وتصادم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا تنفصل بعضها عن بعض إلا بسكونات تكون بينها، فمِن أجْل هذا قال الذين نظروا في تأليف النغم إن بين زمان كل نقرتين زمان سكون، وقد بيَّنَّا طرفًا من هذا العلم في رسالتنا تأليف اللحون ما هي؟ وكم هي؟ وكيف هي؟ فاعرفها من هناك.

واعلم أنه ينبغي لمَن ينظر في حقائق الأشياء ويبحث عن ماهيتها أن يبتدئ أولًا وينظر ويبحث هل الشيء جوهر أو عرض أو هَيُولَى أو صورة جسمانية أو روحانية، فإن كان جوهرًا فأي جوهر هو؟ وإن كان عرضًا فأي عرض هو؟ وإن كان هَيُولَى فأي هَيُولَى هو؟ وإن كان صورة فأي صورة هي؟ وكيف هي؟

واعلم أن الحركة في بعض الأجسام جوهرية كحركة النار، فإنها متى سكنتْ حركتُها طُفئَتْ وبطلتْ وبطَلَ وجودُها، وفي بعض الأجسام عرضية لها الحركة كحركة الماء والهواء والأرض؛ لأنها إن سكنتْ حركتُها لا يبطل وجدانها.

واعلم أن الحركة هي صورة جعلتْها النفس في الجسم بعد الشكل، وأن السكون هو عدم تلك الصورة، والسكون بالجسم أولى من الحركة؛ لأن الجسم ذو جهات لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة وليست حركته إلى جهة أولى به من جهة؛ فالسكون به إذن أولَى من الحركة.

واعلم أن الحركة وإنْ كانت صورة فهي صورة روحانية متمِّمة تسري في جميع أجزاء الجسم، وتنسلُّ عنه بلا زمان، كما يسري الضوء في جميع أجزاء الجسم الشفاف، وينسلُّ عنه بلا زمان، فإنك ترى السراج إذا دخل البيت أضاء البيت من أوله إلى آخره دفعة واحدة، وإذا خرج أظلم الهواء في البيت دفعة واحدة بلا زمان، وكذلك الشمس إذا طلعت بالمشرق أضاء الهواء من المشرق إلى المغرب دفعة واحدة، فإذا غابت بالمغرب أظلم الهواء دفعة واحدة، فالحرارة إذا بدتْ تدبُّ أولًا فأولًا يَحمَى الجوُّ بزمان، وكذلك إذا طلعت الشمس يَحمَى الجو أولًا فأولًا بزمان، وكذلك إذا غابت الشمس برد الهواء أولًا فأولًا بزمان.

واعلم أن الحركة حكمها كحكم الضوء، وذلك لو أن خشبة طولها من المشرق إلى المغرب نُصبت ثم جُذبت إلى المشرق أو إلى المغرب عقدًا واحدًا لتحركت جميع أجزائها دفعة واحدة.

واعلم أن بعض أفعال النفس في الجسم بزمان، وبعض أفعالها بلا زمان، دلالة على أن جوهرها فوق الزمان؛ لأن الزمان مقرون بحركة الجسم، والجسم مفعول النفس، وأن النفس لما جعلت الجسم الكلي كري الشكل الذي هو أفضل الأشكال؛ جعلت حركته أيضًا الحركة المستديرة التي هي أفضل الحركات.

(٤) فصل في ماهية الزمان من أقاويل العلماء

أما الزمان عند جمهور الناس فهو مرور السنين والشهور والأيام والساعات، وقد قيل إن عدد حركات الفلك بالتكرُّر، وقد قيل إنه مدة يعدُّها حركات الفلك، وقد يَظن كثير من الناس أن الزمان ليس بموجود أصلًا إذا اعتُبر بهذا الوجه، وذلك أن أطول أجزاء الزمان السنون، والسنون منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلا سنة واحدة، وهذه السنة أيضًا شهور منها ما قد مضى، ومنها ما لم يجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلا شهرًا واحدًا، وهذا الشهر منه أيام قد مضت، وأيام لم تجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلا يومًا واحدًا، وهذا اليوم ساعات، منها ما قد مضت، ومنها ما لم تجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلا ساعة واحدة وهذه الساعة أجزاء، منها ما قد مضى، وآخَر ما جاء بعدُ، فبهذا الاعتبار ليس للزمان وجود أصلًا.

فأما الوجه الآخر إذا اعتُبر؛ فالزمان موجود أبدًا، وذلك أن الزمان كله يوم وليلة أربع وعشرون ساعة، وهي موجودة في أربع وعشرين بقعة من استدارة الأرض تكون حولها دائمًا، بيان ذلك أنه إذا كان نصف النهار في يوم الأحد مثلًا في البلد الذي طوله تسعون درجة، فإن الساعة الأولى من هذا اليوم موجودة في البلدان التي طولها من درجة إلى خمس عشرة درجة، والساعة الثانية موجودة في البلدان التي طولها من ست عشرة درجة إلى ثلاثين درجة، والساعة الثالثة موجودة في البلد الذي طوله من إحدى وثلاثين درجة إلى خمس وأربعين درجة، والساعة الرابعة موجودة في البلدان التي طولها من ست وأربعين درجة إلى ستين درجة، والساعة الخامسة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وستين درجة إلى خمس وسبعين درجة، والساعة السادسة موجودة في البلدان التي طولها من ست وسبعين درجة إلى تسعين درجة، والساعة السابعة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وتسعين درجة إلى مائة وخمس درجات، والساعة الثامنة موجودة في البلدان التي طولها مائة وست درجات تمام مائة وعشرين درجة، والساعة التاسعة موجودة في البلدان التي طولها مائة وخمس وثلاثون درجة، والساعة العاشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وخمسين درجة، والساعة الحادية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وخمس وستين درجة، والساعة الثانية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وثمانين درجة.

وفي مقابلة كل بقعة من هذه البقاع من استدارة الأرض ساعات الليل موجودة كل واحدة كنظيرتها، ولكل موضع من الأرض أقدار مختلفة من الليل والنهار، والشمس تُضيء في نصف الأرض أبدًا حيث كانت، ويستر قطر الأرض عن نصفها الآخَر الذي كان أشرق على نصفها الذي يلي الشمس، فيكون ما طلعت عليه الشمس نهارًا، وما سترت بقطرها عن نصفها من ضوء الشمس ليلًا، وكلما دار النهار دار الليل معه كل واحد منهما ضد صاحبه، وكلما زال أحدهما زال الآخَر معه، فالليل والنهار يبتديان الإقبال من مشرق الأرض ثم يسيران على مسير الشمس فيسبق طلوع الشمس على أول الأرض طلوعها على آخرها باثنتي عشرة ساعة، وكذلك الليل، فإن شككتَ فيما قلنا فاسأل أهل الصناعة الناظرين في علم المَجَسْطي يخبروك بصحة ما قلناه، فإنه قد قيل استعينوا على كل صناعة بأهلها.

ثم اعلم أن من كرور الليل والنهار حول الأرض دائمًا يحصل في نفس مَن يتأمَّلها صورة الزمان كلها، يحصل فيها صورة العَدَد من تكرار الواحد؛ وذلك أن العدد كله أفراده وأزواجه، صحيحه وكسوره، آحاده وعشراته ومئاته وألوفه ليست بشيء غير جملة الآحاد تحصل في نفس مَن يتأملها كما بيَّنَّا في رسالة العدد، وهكذا الزمان ليس هو بشيء سوى جملة السنين والشهور والأيام والساعات تحصل صورتها في نفس مَن يتأمَّل تكرار كرور الليل والنهار حول الأرض دائمًا، فهذه الخمسة الأشياء التي أَتَيْنا على شرحها وهي: الهَيُولَى والصورة والمكان والزمان والحركة محتوية على كل جسم، فمَن لم يكن مرتاضًا بالنظر في هذه الأشياء فلا يَسَعُه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كُنْه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضًا في الأمور الطبيعية فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية؛ لأنه لا يمكنه أن يعرفها كُنْه معرفتها.

فتفكَّر فيما ذكرنا يا أخي في هذه الرسالة من أقاويل العلماء لتفهَم ما قالوه، وتصور ما وضعوه من معاني هذه الأشياء، فإن كان عندك زيادة عليها أفِدْناها، وإن أنكرتَ شيئًا ممَّا قالوه فبيِّنْه لنا، وإنِ اشتبه عليك شيء مما حكيناه فلا تتهمنا بأننا قصَّرْنا في البيان أو قلنا ما ليس بالحق.

ثم اعلم أن لكل صناعة أهلًا، ولكلِّ أهلِ علْمٍ وصناعةٍ أصولًا هم فيها متفِقون، وفي فروعها يتكلمون، وعلى تلك الأصول يقيسون فيما يختلفون.

واعلم بأن النظر في الأمور الطبيعية جزء من صناعة إخواننا الكرام، أيَّدهم الله تعالَى، والأمور الطبيعية هي الأجسام وما يعرض لها من الأعراض اللازِمة والمُزايِلة، وقد عمِلْنا في هذه العلوم سبْعَ رسائل أولُها هذه الرسالة التي ذكرنا فيها الهَيُولَى والصورة والحركة والمكان والزمان؛ إذ كانت هذه الأشياء الخمسة محتوية على كل جسم، وقد ذكرنا في رسالة الحاسِّ والمحسوس الأشياء العارِضة للأجسام بقول وجيز، ثم يتلو هذه الرسالة التي ذكرنا فيها السماء والعالم، ووصفنا فيها تركيب الأفلاك وكميتها وسعة أقطارها وسرعة دورانها وعِظَم الكواكب وفنون حركاتها وأوصاف البروج وتخصيصها، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها الكون والفساد وماهية الأركان الأربعة التي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض وصفْنَا فيها كيفية استحالة بعضها إلى بعض وحدوث الكائنات منها، ثم يتلوها الرسالة الرابعة التي فيها حوادث الجو والتغييرات التي تحدث في الهواء، ثم يتلوها الرسالة الخامسة التي ذكرنا فيها جواهر المعادن، ووصفْنَا كيفية تكوُّنها في باطن الأرض وجوف الجبال وقعر البحار، ثم يتلوها الرسالة السادسة التي ذكرنا فيها أمْرَ النَّبات ووصفنا أجناسَه وأنواعَه وخواصه ومنافعه ومضارَّه، ثم يتلوها الرسالة السابعة التي ذكرنا فيها أجناس الحيوانات وأنواعها واختلاف طباعها بقول وجيز.

وقد عملنا خمس رسائل أُخَر قبل هذه الرسالة في الرياضيات؛ أوَّلها رسالة العدد وخواصه وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين، ثم يتلوها الرسالة الثانية التي ذكرنا فيها أصول الهندسة وأنواع المقادير وكيفية نشوئها من النقطة التي هي في صناعة الهندسة كالواحد في العدد، ثم يتلوها الرسالة الثالثة التي ذكرنا فيها النجوم، ووصفنا الأفلاك والكواكب وبينَّا أن نسبتها إلى الشمس كنسبة العدد من الواحد ومنشأ مقادير الهندسة من النقطة، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها النسبة العددية والهندسية والتأليفية وأن منشأها كلها من نسبة المساواة كمنشأ العدد من الواحد وكمنشأ مقادير الهندسة من النقطة، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها المنطق ووصفنا فيها المقولات العشرة التي كل واحد منها جنس الأجناس وبينَّا كمية أنواعها وخواصها وأن الواحد منها هو الجوهر والتسعة الباقية هي الأعراض وتعلقها في وجودها بالجوهر كتعلق العدد بالواحد الذي قبل الاثنين، وقد تكلم في هذه الأشياء مَن قبلَنا مِن الحكماء الأوَّلين ودوَّنوها في الكتب، وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن من أجْل أنهم طوَّلوا فيها الخطب، ونقلوها من لغة إلى لغة أُغلق على الناظرين في تلك الكتب فهْم معانيها، وضاعت في الباحثين معرفة حقائقها، من أجْل هذا عملنا هذه الرسائل وأوجزنا القول فيها شبه المدخل والمقدمات؛ لكيما يقرب على المتعلِّمين فهْمُها ويسهل على المبتدئين النظر فيها.

فصل

واعلم — إنْ كنتَ محبًّا لأهل العلم والحكمة — أنك تحتاج أن تسلك طريق أهلِها، وهو أن تقتصر من أمور الدنيا على ما لا بد منه وتترك الفضول وتجعل أكثر همَّتك وعنايتك في طلب العلوم ولقاء أهلها ومجالستهم بالمذاكرة والبحث، وأن تروِّض نفسَك بالسيرة العادلة التي وُصِفت في كُتُب الأنبياء عليهم السلام، وبالنظر في هذه العلوم التي تقدَّم ذكرُها، وهي التي كانوا يروِّضون أولاد الحكماء بها، ويُخرِّجون بها تلامذتَهم ليقوَى فهمُهم على النظر في الأمور الإلهية التي هي الغرض الأقصى في المعارف.

ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصُّوَر المجرَّدة من الهَيُولَى، وهي جواهر باقية خالدة لا يَعرِض لها الفساد والآفات كما يعرض للأمور الجسمانية، واعلم أنَّ نفسَك هي إحدى تلك الصور، فاجتهِدْ في معرفتها لعلك تخلِّصها من بحر الهَيُولَى وهاوية الأجسام وأسْر الطبيعة التي وقعنا فيها بجناية كانت من أبينا آدَمَ — عليه السلام — حين عصَى ربَّه فأُخرج هو وذريته من الجنة التي هي عالَم الأرواح، وقيل لهم: «اهْبِطُوا منها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ َفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ» فقد قيل في المثل: إن أول أناس إذا نُفخ في الصُّور وشُقَّ عليهم القبور يوم البعث والنشور وقيل: انطلقوا إلى ظلٍّ ذي ثلاث شُعب هو عالَم الأجسام ذو الطُّول والعَرْض والعمق، فاجتهد يا أخي في معرفة هذه المرامي والرموز التي ظهرتْ في كتب الأنبياء — عليهم السلام — لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف الربَّانية، وتعيش بحياة العلوم الإلهية، وتَسلَم من الآفات الطبيعية.

واعلم أن النفس بمجردها لا تَلْحَقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحَرُّ والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحدثان؛ لأن هذه كلها تَعرِض لها من أجْل مقارنتها للجسد؛ لأن الجسد جسم قابل للآفات والفساد والاستحالة والتغيُّر، فأما النفس فإنها جوهرة روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.

واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفةُ أنفسِهم لتركهم النظر في علم النفس والبحث عن معرفة جواهرها والسؤال من العلماء العارفين بعلمها، ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلب خلاصها من بحر الهَيُولَى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسْر الطبيعة، والخروج من ظلمة الأجسام لشدة مَيْلهم في الخلود إلى الدنيا، واستغراقهم في الشهوات الجسمانية، والغرور باللذَّات الحيوانية، والأنس بالمحسوسات الطبيعية، ولغفلتهم عما وُصف في الكُتُب الإلهية والنواميس الشرعية النبوية من نعيم الجنان، وما في عالَم الأرواح من الرَّوْح والريحان والنعيم والسرور واللذَّة والكرامة وبقاء الأبد التي وُعد المتقون: «فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ والنَّخِيلِ وَالْأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يؤمنون …» الآية.

وإنما قلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما أَخْبرَتْ به الأنبياء — عليهم السلام — وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء مما يَقصُر الوصفُ عنه من لطيف المعاني، ودقائق الأسرار، فانصرفتْ هِمَم نفوسِهم كلها إلى أمْر هذا الجسد المستحيل، وجعلوا سعْيَهم كلَّه لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال والمآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب، وصيَّروا نفوسَهم عبيدًا لأجسادهم وأجسادهم مالكة لنفوسهم، وسلَّطوا الناسوت على اللاهوت، والظلمة والشياطين على النور والملائكة، وصاروا من حزب إبليس وأعداء الرحمن.

فهل لك يا أخي بأنْ تنظر لنفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلب نجاتها، وتفك أسرها، وتخلِّصها من الغرق في بحر الهَيُولَى وأسْر الطبيعة وظلمة الأجسام، وتخفف عنها أوزارها، وهي الأسباب المانعة لها عن الترقِّي إلى ملكوت السماء والدخول في زمر الملائكة والسيحان في فسحة عالم الأفلاك، والارتفاع في درجات الجنان، والتشمُّم من ذلك الرَّوْح والريحان المذكور في القرآن، وأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، وإخوان لك فضلاء، وادِّين لك كُرَماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفسهم، قد خلعوا أنفسَهم من خدمة أبناء الدنيا، وجعلوا عنايتهم وكدَّهم في طلب نعيم الآخرة، بأن تسلك مسلكهم، وتقصد مقصدهم، وتخلص سِرَّك معهم، وتتخلَّق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم لتعرِف اعتقادَهم، وتنظر في علومهم لتفهَمَ أسرارَهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية والمعارف الحقيقية والمعقولات الرُّوحانية والمحسوسات النفسانية، إذا دخلتَ مدينتَنا الروحانية، وسِرْتَ بسيرتنا الملكية، وعملتَ بسنَّتِنا الزكية، وتفقَّهتَ في شريعتنا العقلية، فلعلك تؤيَّد برُوح الحياة لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء مخلدًا مسرورًا أبدًا بنفسك الباقية الشريفة الشفافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغير المستحيل الفاسد الفاني، وفَّقك الله وإيَّانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا للرشاد، حيث كانوا في البلاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.

(تمَّتْ رسالة الهَيُولَى والصورة وتتلوها رسالة السماء والعالم.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤