الرسالة السادسة

من الجسمانيات الطبيعيات في ماهية الطبيعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

(١) فصل

اعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيَّدك الله وإيانا بروح منه — أنه لما فرغنا من ذكر الصنائع البشرية في الرسالة الملقَّبة بالصنائع العملية نريد أن نذكر في هذه الرسالة الصنائع الطبيعية، وكيفية أفعالها في الأركان الأربعة وكيفية مواليدها التي هي الحيوان والنبات والمعادن، والغرض منها تنبيه لنا عن أفعال النفس وماهية جوهرها والبيان عن أخبار الملائكة، ويسميها الفلاسفة روحانيات الكواكب، فنقول أولًا: «ما الطبيعة؟»

واعلم يا أخي أن الطبيعة إنما هي قوة النفس الكلية الفلكية، وهي سارية في جميع الأجسام التي دون فلك القمر من لدن كرة الأثير إلى منتهى مركز الأثير.

واعلم أن الأجسام التي دون فلك القمر نوعان؛ بسيطة ومركبة، فالبسيطة أربعة أنواع: وهي النار والهواء والماء والأرض، والمركَّبة ثلاثة أنواع: وهي المعادن والنبات والحيوانات، وهذه القوة — أعني الطبيعة — سارية فيها كلها، ومحرِّكة ومسكِّنة ومدبِّرة لها، ومتمِّمة ومبلِّغة لكل واحدة منها إلى أقصى مدى غاياتها بحسب ما يَلِيق بواحدة واحدة منها، كما شاء باريها وكما بيَّنَّا في الرسائل الخمس، وهي رسالة الكون والفساد، ورسالة الآثار العلوية، ورسالة المعادن، ورسالة النبات، ورسالة الحيوان.

واعلم أن النفس الكلية هي روح العالَم كما بيَّنَّا في الرسالة التي ذكرنا فيها أن العالَم إنسان كبير، والطبيعة هي فعلها والأركان هي النار والهواء والماء والأرض، هي الهَيُولَى الموضوعة لها والأفلاك والكواكب كالأدوات لها، والمعادن والنبات والحيوانات كلها مصنوعاتها.

واعلم يا أخي أن الصُّنَّاع البشريين يعلمون أعمالَهم بأبدانهم وأيديهم وأرجلهم، وهي كلها مصنوعات للطبيعة كالخشب والحديد والقطن والحب وما شاكلها — كما بيَّنَّا في رسالة الصنائع العملية — ويُظهِرون صنائعهم بأدوات اتخذوها من مصنوعات الطبيعة أيضًا كالفأس والمنشار والإبرة والقلم وما شاكلها، فهيولاهم وأدواتهم خارجة من ذواتهم، وأما الطبيعة فهيولاها من ذاتها التي هي الأركان الأربعة وهي لها بمنزلة الأربعة الأخلاط في بدن إنسان واحد، وهي سارية فيها كلها وصانعة منها وفيها مصنوعاتها، ومصنوعاتها أيضًا ليست بخارجة من ذاتها، وهي كلها كالأعضاء في جسد حيوان واحد، وهي ثلاثة أجناس: معادن ونبات وحيوان، وكل جنس منها تحته أنواع، وكل نوع تحته أنواع، إلى أن تنتهي أنواع تحتها أشخاص، فأما الأنواع والأجناس فهي محفوظة معلومة صورها في الهَيُولَى، وأما الأشخاص فهي غير معلومة ولا محفوظة فيها، والعلة في حفظ صُوَر الأجناس والأنواع في الهَيُولَى هي ثبات عِلَلها الفلكية، وأما تغيير الأشخاص وسيلانها، فمن أجْل تغييرات نظامها، وذلك أن العلة الفاعلة لهذه المصنوعات هي النفس الكلية الفلكية بإذن باريها، وكانت الأركان هَيُولَى لها، والطبيعة فعلها، والفلك والكواكب كالأدوات لها، وكان الموضوع في أحكام النجوم ثلاثة أنواع: وهي الأفلاك والكواكب والبروج، وكانت تأثيراتها في هذه الأركان بحسب المناسبات الثلاث، كما بيَّنَّا في رسالة الموسيقى، وهي مناسبة أعظام أجرامها ومناسبة أبعاد مراكزها ومناسبة حركات بعضها من بعض، ولما كانت المناسبات التي بين فلك الكواكب الثابتة وبين هذه الأركان الأربعة محفوظة أبعادها وأعظامها وحركاتها صارت الأجناس الثلاث محفوظة صورها في الهَيُولَى، ولما كانت أيضًا المناسبات التي بين مراكز الأفلاك الحاملة وبين هذه الأركان محفوظة أبعادها وحركاتها وأعظامها صارت صور أنواع هذه الأجناس أيضًا محفوظة في الهَيُولَى، ولما كانت المناسبات من أجرام الكواكب السيارة وأفلاك تداويرها وبين هذه الأركان غير محفوظة صارتْ من أجْل ذلك أشخاص هذه الأنواع وصورها غير محفوظة في الهَيُولَى.

واعلم يا أخي أن العالم جملته إحدى عشرة كرة — كما بيَّنَّا في رسالة السماء والعالم — وأن الشمس مركز جرمها في أوسط الأكر؛ وذلك أن خمس أكر فوقها وخمس أكر دونها، فالتي فوقها كرة المِرِّيخ وكرة المُشتَرِي وكرة زُحَل وكرة الكواكب الثابتة وكرة المحيط، والتي دونها كرة الزُّهَرة وكرة عُطَارد وكرة القمر وكرة النار والهواء وكرة الماء والأرض، وأن حكم الكرتين اللتين فوق كرة زُحَل غير حكم الأكر الباقية، كما أن حكم الكرتين اللتين دون فلك القمر غير حكم الآخرين، وذلك أن كرة الأشخاص بين الكرتين في الطرفين وهي كرة الكواكب الثابتة وكرة الهواء، لكن تلك الكرة ثابتة صورها وهَيُولاها جميعًا، وهذه الكرة ثابتة بصورها، وهيولاها سيَّالة، فقد جعلتِ الحكمة الإلهية والعناية الربانية الكواكب السيارة واسطة بين الطرفين اللذين هما المركز والمحيط؛ لكيما إذا صعدتِ الكواكب في أوجاتها قربت من تلك الأشخاص الفاضلة واستمدَّت منها الفيض، وإذا انحطَّتْ في الحضيض أوصلتْ تلك الفيوضات إلى هذه الأركان، فتكوَّنتْ منها هذه الكائنات المتولدات التي هي المعادن والحيوان والنبات.

واعلم يا أخي أنه إذا سَرَتْ تلك الفيوضات من هناك نحو مركز العالم نزلت البركات من السماء إلى الأرض، وهي الأرزاق والرحمة والوحي والتأييد والنصر، فأول ما تسري تلك القُوَى في الأركان فتكون منها المزاجات الكائنات في باطن الأرض لتكوين المعادن المختلفة الجواهر الكثيرة المنافع، وعلى ظاهر وجهها يكون النبات الكثير الفوائد، وفي الهواء الحيوانات الكثيرة الصور العجيبة الأغراض باختلاف أنواعها وفنون أشخاصها، حتى إذا بلغ كل شيء منها إلى أقصى مدى غاياتها في أدوار الألوف عطفت تلك القوة راجعة نحو المحيط كما بدأ أول مرة، فيكون منها البعث والنشور والمعراج والقيامة، كما ذكر الله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.

واعلم أن تأثيرات الكواكب في هذه الأركان ومولداتها تكون بحسب مناسباتها، ومناسباتها تكون بحسب أعظام أجرامها وأبعاد مراكزها وحركات أجرامها، كما أن تأثيرات نغم الموسيقى تؤثِّر في النفوس بحسب مناسباتها وبحسب دقة أوتارها وغلظها وخرقها واسترخائها وثقل تحريكها وخفَّتها، كما بيَّنَّا في رسالة الموسيقى.

واعلم يا أخي أن المناسبات التي هي بين الأركان ومولداتها وبين الكواكب السيارة ومركز أفلاكها مختلفة تارةً تكون على نسبة الأفضل وتارةً تكون على نسبة الأدون وتارةً بين ذلك، فإذا اتفق أن تكون الكواكب عند استئناف الأدوار على نسبة الأفضل تكون الكائنات على أفضل حالها في تلك الأدوار، ويكون البشر أكثرهم أخيارًا وفضلًا مثل الملائكة الذين كانوا قبل آدم أبي البشر، وإذا كانت على نسبة الأدون كانت بالضد من ذلك ويكون البشر أكثرهم أشرارًا مثل الذين يكونون في أواخر الزمان عند خراب العالَم، وإذا كانت متوسطة فبحسب ذلك تكون الكائنات، وأفضل حالات الكواكب أن تكون في صعودها أو إشرافها أو في أوجاتها، وأدوَنها أن تكون في مقابلة هذه المواضع أو وسطًا بين ذلك.

واعلم يا أخي أن كل كائن تحت فلك القمر وكل حادث في هذا العالم له وقت معلوم يحدث فيه لا يكون قبلُ ولا بعدُ، وله سبب موجب لكونه لا يكون إلا به، وله بقعة مخصوصة لا يوجد إلا هناك، لا يعلم تفصيلها إلا الله — عزَّ وجلَّ — ولكن نذكر منها طرفًا مجملًا ليكون على صحة ما قلنا ويتصور المتفكرون حقيقة ما وصفنا، وذلك أن الله — جلَّ ثناؤه — جعل الفلك محيطًا بالأرض من جميع الجهات كما بيَّنَّا في رسالة جغرافيا، ولما كان الفلك مقسومًا أربعة أقسام، وكل ربع منه مسامتًا لربع من الأرض، وكل كوكب يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، فإنه يكون موازيًا الدائرة على بسيط الأرض، وتكون مطارح شعاعاته على بسيط الأرض ويكون لتلك الشعاعات زوايا ثلاث قائمة وحادة ومنفرجة، ولكل زاوية منها تأثيرات مختلفات كما بيَّنَّا في رسالة الآثار العلوية.

واعلم يا أخي بأن الباري — جلَّ ثناؤه — جعل حركات تلك الأشخاص في دورانها سببًا موجبًا لكون الحوادث في هذا العالم.

وعلة فاعلة للكائنات تحت فلك القمر وجعل الأوقات المعلومة بحسب اجتماعاتها ومناظراتها واتصالاتها في درجات البروج، وجعل البقاع المسامتة لها ولمطارح شعاعاتها مختصة لكونها وحدوثها، وذلك أن الأقاليم السبعة التي في الأرض كالأفلاك السبعة، والبلدان في الأقاليم كالبروج في الأفلاك، والمدن والقرى في البلدان كالوجود والحدود في البروج، والأسواق والمحال في المدن والقرى كالدرجات والدقائق في الحدود، والدور والمنازل والبيوت والدكاكين كالثواني والثوالث في الدقائق، واجتماعات الكواكب في درجات البروج بسبب اجتماعات الحيوانات والجواهر المعدنية والنبات في البلدان والمدن والقرى.

فحدود زُحَل في البروج سبب وعلة لحدوث الأنهار والجبال والبراري والآجام والغدران والشوارع والطرقات وما شاكلها من حدود البقاع.

وحدود المُشتَرِي في البروج سبب لحدوث المساجد والهياكل والبِيَع ومواضع الصلوات وبقاع القرابين، واجتماعات الكواكب في حدوده علة لاجتماعات الناس في الجمعات والأعياد وتعلُّم أحكام النواميس وقراءة الكتب النبوية والتفقُّه في الدِّين والحكومة عند القضاة والحكام وما شاكل ذلك.

وحدود المِرِّيخ في البروج سبب وعلة لحدوث مواقد النيران ومذابح الحيوان ومعسكر الجيوش وأماكن السباع ومواضع الحروب والخصومات وما شاكل ذلك، واجتماعات الكواكب واتصالاتها في حدود المِرِّيخ علة لاجتماعات الناس والنبات والجواهر المعدنية في هذه المواضع والأماكن.

وحدود الزُّهَرة في البروج سبب لحدوث البساتين ومواضع النزهة ومجالس اللهو والأكل والشرب والفرح والسرور واللذة والمناظر الحسان، واجتماعات الكواكب ومطارح شعاعاتها في حدودها علة لاجتماعات الناس والنبات والحيوان في هذه المواضع.

وحدود عُطَارد في البروج سبب لحدوث الأسواق ومواضع الصناع ومجالس الكلام والعلوم ودواوين الكُتَّاب وجموع القُصَّاص ومناظرات العلماء، ودرجات أشرافها سبب لمنازل الملوك وسادات الناس، ودرجات هبوطها سبب لمواضع المَحْق والسقوط والحبوس وما شاكل ذلك.

(٢) فصل

في كيفية وصول تأثير الأشخاص الفلكية الثابتة الوجود الدائمة الدوران إلى هذه الأشخاص السفلية الكائنة عن حركاتها الفلكية القليلة الثبات الدائمة السيلان.

واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيانا بروح منه — أنه قد قامت البراهين الهندسية على أن الأرض هي مركز العالَم، وأن الهواء والأفلاك محيطة محدقة بها من جميع جهاتها.

واعلم أن مثال الأرض في وسط العالم كمثل بيت الله الحرام في وسط الحرم، وأن مثل الفلك المحيط وسائر مراكز الأفلاك في دورانها حول الأركان الأربعة كمثل الطائفين حول البيت.

وأن مثل الكواكب الثابتة مع مطارح شعاعاتها من المحيط نحو مركز الأرض كمثل المصلِّين المتوجِّهين من آفاق البلاد شطر البيت.

وأن مثل الكواكب السيارة في مسيرها ذاهبة وجائية تارةً من أوجاتها نحو المركز وتارةً ذاهبة من حضيضها نحو المحيط كمثل الحُجَّاج تارةً ذاهبين من بلدانهم نحو البيت وتارةً منصرفين عن البيت الحرام راجعين إلى بلدانهم، فإذا مروا متوجِّهين نحو البيت حمل كل واحد ممَّا في بلده من الأمتعة والنفقة والتحف والهدي والقلائد آمِّين نحو البيت الحرام، فيجتمع هناك في الموسم ممَّا في كل بلد طوائفه وخواص أمتعته، وتجتمع الأمم من كل مذهب يتبايعون ويتشَارَوْن، فإذا قَضَوْا مناسكهم انصرف كل أهل بلد بطوائف ما في سائر البلدان ومغفرة من الله ورضوان.

فهكذا يا أخي حكم سريان قوى تلك الأشخاص العالية من محيط الفلك نحو مركز العالم، وذلك أنها إذا اجتمعتْ مطارح شعاعاتها على بسيط الأرض وتخلَّلتْ أجزاء الأركان وامتزج بعضها ببعض وسَرَتْ تلك القوى فيها يتكوَّن من امتزاجها ضروب المتولدات الكائنات من الحيوان والمعادن والنبات المختلفة الأجناس المفننة الأنواع المتعائرة الأشخاص، لا يَعلَم كثرة عددها واختلاف أحوالها إلا الله سبحانه.

ثم إن تلك القوى إذا بلغتْ أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها المقصودة منها عطفت عند ذلك راجعة نحو المحيط، فيكون سببًا لبعث النفوس ونشر الأرواح، إما بربحٍ وغِبْطة، وإما بخسران وندامة كمثل الراجعين من تجار الحاج، إما بربحٍ وغفران، أو بندامة وخسران.

فانظر يا أخي وتفكَّرْ كيف يكون انصرافك من عالَم الكون والفساد إلى عالم الأفلاك التي جاءت من نفسك، واعتبر نسبة إلى الحُجَّاج إذا قضوا مناسكهم كيف ينصرفون مشتاقين إلى بيوتهم وأوطانهم.

واعلم يا أخي أن جميع مناسك الحج وفرائضه أمثال ضربها الله — عزَّ وجلَّ — للنفوس الإنسانية الواردة عن عالم الأفلاك وسعة السموات إلى عالم الكون والفساد؛ لكيما يتفكر العاقل ويعتبر وينبِّه نفسَه من سِنَة الغفلة ورقدة الجهالة وتَذكُر مبدَأَها ومعادَها وتَشتاق فترجع كما جاءتْ وتجيب الداعي إذا ناداها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فتقول: «لبيك اللهم لبيك.»

واعتبر يا أخي كيفية انصراف الحاج إلى بلدانهم، فإنك ترى لأهل كل بلد قافلة وطريقًا يمرون فيها متعاونين ذاهبين وراجعين، فهكذا وردت النفوس إلى هذا العالم في كل أمة بدلالة كوكب وبرج في قران، ولا تنصرف الدنيا إلا بدِين ومذهب، ويكون زاد كل نفس ما كسبت من خير وشر، فلا تظن يا أخي أنك تقدر على أن ترجع بنفسك وحدها.

واعلم أن الطريق بعيدة والشياطين بالمرصاد قعود كقُطَّاع الطريق، فاعتبر فكما أنك لا تقدر على أن تعيش وحدك إلا عيشًا نكدًا ولا تجد عيشًا هنيًّا إلا بمعاونة أهل مدينة وملازمة شريعة، فهكذا ينبغي لك أن تعتبر لتعلم بأنك محتاج إلى إخوان أصدقاء متعاونين لتنجو بشفاعتهم من جهنم، وتصعد إلى ملكوت السماء بمعاونتهم، وتدخل الجنة بلا حساب.

واعلم يا أخي علمًا يقينًا أنه لو كان يمكن أن تنجو نفس وحدها بمجردها لما أمر الله — تعالى — بالتعاون حيث قال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وقال: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا، وكذلك قال: «ويوم نبعث من كل أمة فوجًا»، وقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.

وانظر يا أخي بنور عقلك وتفكَّر بفهمك وقِفْ في مقامك وتوجَّه نحو البيت، لعلك تعرف بوقوفك على جبل عرفات ما عرف أهل المعارف الذين أشار إليهم بقوله — جلَّ ثناؤه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ؛ يعني بعلاماتهم فيزدلف بك معهم إلى المزدلفة، وتبلغ نحو المنى المتمنَّى، وهم يطمعون إذ تدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

واعلم يا أخي أن مَن حجَّ البيت بقلب ساهٍ ونفسٍ لاهية بلا علم ولا بصيرة ورأى تلك المناسك وسُنَنها ولم يعقل معانيَها ولا دَرَى ما الغرض منها ولا عرف شيئًا من أغراضها المقصودة بها رجع من هناك بقلب غافل، ونفس شاكَّة، وفكر متحيِّر؛ لأنه متى رآها ولم يدرِ معانيَها ولا عرف أغراضها، تخيل له عند ذلك أنها كلعب الصبيان من رمي الحصا والسعي بين الصفا والمروة والإحرام والتلبية والطواف والعمرة وما شاكلها من السنن والفرائض، وعلى هذا القياس لكل أمة من أمم الناس في بيوت عباداتهم من سنن مفترضات دياناتهم وقرابين هياكل صلواتهم أمثلة وأشائر ومرامي ومرموزات لواضعها، وإلى هذا المعنى أشار إبراهيم خليل الرحمن.

واعلم بأن غرض الأنبياء — عليهم السلام — وواضعي النواميس الإلهية أجمع غرض واحد وقصد واحد، وإنِ اختلفت شرائعهم وسُنَن مفترضاتهم وأزمان عباداتهم وأماكن بيوتاتهم وقرابينهم وصلواتهم، كما أن غرض الأطباء كلهم غرض واحد ومقصد واحد في حفظ الصحة الموجودة واسترجاع الصحة المفقودة، وإن اختلفت علاجاتهم في شرباتهم وأدويتهم بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأبدان في الأوقات المختلفة والعادات المتغايرة والأسباب المفننة من الأهوية والبلدان.

وذلك أن غرض الأطباء كلهم هو اكتساب الصحة للمريض وحفظها على الأصحاء ودفع الأمراض وإزالتها عن المرضى، فهكذا غرض الأنبياء — عليهم السلام — وغرض جميع واضعي النواميس الإلهية من الفلاسفة والحكماء، وذلك أنهم أطباء النفوس وغرضهم هو نجاة النفوس الغريقة في بحر الهَيُولَى وإخراجها من هاوية عالم الكون والفساد وإيصالها إلى الجنة عالم الأفلاك وسعة السموات بتذكيرها ما قد نسيت من مبدئها ومعادها كما قال الله — تعالى عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وقال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وقال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فتئوبون وترجعون كما قال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً.

فصل

واعلم يا أخي بأن سنن الديانات النبوية وموضوعات النواميس الفلسفية ومفروضات الشرائع كلها، ومناسك بيوتات العبادات وقرابين الهياكل والصلوات كلها إشارات ومرامي إلى ما أشار إليه إبراهيم خليل الرحمن في بنائه البيت الحرام ووضعه الحجر والمقام وتعليمه المناسك ذريته ودعائه الناس فيهم بالحج إلى البيت الحرام ليشهدوا منافع لهم، وذلك أن الإنسان العاقل اللبيب الفهيم الذكي إذا حجَّ ولبَّى وطاف وصلَّى ورأى البيت وشاهد كيفية الحج وما يفعل الحاج والمحرمون من عجائب سنن المناسك ومفروضاتها من الإحرام والتلبية والطواف والسعي ووقوف الحج بعرفات والمبيت بالمزدلفة والتضحية بمنًى والحلق والرمي وما شاكلها من فرائض الحج وسنن المناسك، وتفكَّر فيها بقلب مستيقظ، واعتبرها بعين بصيرة ونفس زكية، فطن لما أراده إبراهيم خليل الرحمن — عليه السلام — فيما سنَّ واحدة واحدة، وما الغرض الأقصى منها كلها، وعرف وفهم واهتدى قلبه واهتدت نفسه وانتبهت وأبصرت فتراجعت وشاهدت ورأت ما أشار الله — تعالى — إليه بقوله: «وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤمِنونَ بِهِ ويَستَغفِرونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ.»

واعلم يا أخي أن الملائكة الحافِّين بالعرش هم حَمَلة العرش، وهي الكواكب الثابتة الحافَّة بالفلك التاسع من داخله كما يحفُّ الحاجُّ بالبيت في طوافهم من خارجه فهم يسبِّحون بحمد ربهم كما قال: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، ويؤمنون به ويقرُّون بأن مِن وراء مراتبهم ومقاماتهم أمورًا أخرى هي أشرف وأعلى يقصر علمهم عنها ويقف فهمهم دونها، كما يقرُّ الحاجُّ من المؤمنين بأن من وراء السموات البيت المعمور وحوله جموع الملائكة طائفين يحجون إليه في كل يوم ألوف ألوف لا يعودون إليه أبدًا ويقولون إن هذا البيت الحرام في الأرض بحذاء ذلك البيت المعمور الذي في السماء، وأن هذه السنن والمناسك أمثلة وإشارات إلى تلك السنن والمناسك التي تنسكها الملائكة حول البيت المعمور.

فصل

وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إليه فنقول إن قومًا من العلماء تكلموا في أحكام النجوم، فأثبتوا دلائلها على الكائنات وأنكروا أفعالَها من عالم الكون والفساد، وقوم أثبتوا دلائلها وأفعالَها جميعًا، وقوم آخرون أنكروها جميعًا، فأما الذين أثبتوا دلائلها فعند الاعتبار عرفوها، ولكن لم ينظروا إلى حقائق الأشياء كيف هي فلم يعرفوها.

وأما الذين أنكروا دلائلَها وأفعالَها فلتركهم النظر في هذا العلم، وأما الذين أثبتوا دلائلها وأفعالها فإنما عرفوا ذلك بعد النظر والبحث الشديد والاعتبار والتصفح لأمور الموجودات شيئًا بعد شيءٍ، حتى أَتَوْا على أواخرها، ثم نظروا إلى أوائلها فرَأَوْا أنَّها كلها مربوطة رباطًا واحدًا عن علة واحدة ومبدع واحد مثل العدد، ولما كنا قد قلنا فيها قبل إن هذه الأشياء كلها مفعولات الطبيعة، وإن الأشخاص الفلكية كالأدوات لها، وقوى تلك الأشخاص كالمعاونين للطبيعة احتجنا أن نبيِّن حقيقتَها فنقول: إنا قد بيَّنَّا معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير له جسم ونفس، وبيَّنَّا تركيب جسمه في رسالة السماء والعالم، فنزيد أن نبيِّن كيف كان سريان قوى نفسه في الأجسام التي تحت فلك القمر.

واعلم يا أخي بأن جسم العالَم بأسره بمنزلة جسم إنسان واحد، وأن جميع أفلاكه وطبقات سمواته وكواكب أفلاكه وأركان طبائعه ومولداتها من جملة جسمه بمنزلة أعضاء بدن إنسان واحد ومفاصل جسده، فإن نفسه تُدِير أفلاكَه وتحرك كواكبها بإذن الباري — جلَّ وعزَّ — كما تحرك نفسُ إنسان واحد أعضاءَ جسده ومفاصل بدنه، وإن للنفس بحركات كواكبه فيما دون فلك القمر من الأركان ومولداتها أفعالًا فيها وبها ومنها لا يُحصي عددَها إلا الله — سبحانه — كما أن لنفس الإنسان الواحد في جميع بدنه ومفاصل جسده أفعالًا كثيرة، كما بيَّنَّا في رسالة تركيب الجسد، وذلك أن جسم العالَم مركَّب من إحدى عشر كرة، كما بيَّنَّا في رسالة تركيب الجسد، وأن العالَم مقسوم بنصفين، كما أن جسد الإنسان شِقَّان، وأن في الفلك اثنَيْ عشر برجًا لمسير كواكبه، منها ستة شمالية وستة جنوبية، كما أن في الجسد اثني عشر ثقبًا ستة منها في الجانب الأيمن وستة منها في الجانب الأيسر لمجاري حواسه وسريان قوى نفسه، وأن في الفلك سبعة كواكب مدبِّرة بها قوام أمره، وهي سبب الكائنات بإذن الباري — عزَّ وجلَّ — كما أن في الجسد سبع قوى فعَّالة بها قوام أمر الجسد وصلاح حاله، وهي القوة الجاذبة والقوة الماسكة والقوة الهاضمة والقوة الدافعة والقوة الغاذية والقوة النامية والقوة المصورة، ولكل قوة من هذه عضو مخصوص من الجسد، منه تسري القوة إلى جميع أعضاء الجسد، وبه تُظهِر أفعالَها في البدن وهي المَعِدة والكَبِد والقَلْب والدِّماغ والرِّئة والطحال والمرارة، فكما أن من هذه الأعضاء تبث للنفس هذه القوى في البدن وتنشر أفعالها في الجسد، فهكذا حكم أفعال هذه الكواكب السبعة في الفلك، فإن النفس الكلية تنبثُّ قوتها في جميع العالم، وبها تظهر أفعالها في الكائنات التي تحت فلك القمر، وكما أن مِن إفراط أفعال هذه القوى ونقصانها يعرض في البدن الاضطراب والتألُّم كما يعرف الأطباء، فهكذا من إفراط تأثيرات هذه الكواكب ونقصان أفعال قوتها تكون المناحس والفساد في عالم الكون، كما يخبر بها أصحاب أحكام النجوم، وكما أن شرح علم الطب طويل، والصناعة عجيبة والعمر قصير كما قال بقراط حكيم اليونانيين، فهكذا شرح أحكام النجوم طويل، كما قال حكيم الفرس بزرجمهر كارهست مردينست.

ولكن نذكر منها طرفًا، فنقول: إنه ينبثُّ من جرم الشمس قوة روحانية في جميع العالم فتسري في أفلاكه وأركان طبائعه ومولداتها في جميع الأجساد الكلية والجزئية، وبها يكون صلاح العالم وتمام وجوده وكمال بقائه كما تنبعث من القلب الحرارة الغريزية في جميع الجسد التي بها تكون حياة البدن وصلاح الجسد، ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما انبثَّ منها في العالم روحانيات الشمس، وذلك بحسب اختصاصها بجسم جسم كاختصاص الحرارة الغريزية بعضو عضو من الجسد وشرح كيفيتها يطول، وقد ذكرنا في رسالة أفعال الروحانيات طرفًا منه، وفي رسالة المعادن والنبات والحيوان، ويُسمِّي الناموس هذه القوة مَلَكًا ذا جنود وأعوان، وإسرافيل منهم صاحب الصور، وهكذا ينبثُّ من جرم زُحَل قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها تكون تماسك الصور في الهَيُولَى وانبثاثها كما تنبثُّ من جرم الطحال قوة الخلط السوداوي في جميع الجسد ومفاصله، وبها يكون تماسك الأجزاء في البدن من العظام والعصب والجلد وجمود الرطوبات التي لو لم تكن لسال هَيُولَى الجسد كما يسيل الماء والهواء، ويسمي الفلاسفة هذه القوة روحانيات زُحَل، والناموس يُسمِّيها مَلَكًا ذا جنود وأعوان، وملك الموت منهم ومنكر ونكير أيضًا، وهكذا ينبثُّ من جرم المِرِّيخ قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع والنهوض نحو المطالب والنشاط نحو الأعمال والصنائع والترقِّي في المعالي، وطلب الغايات للبلوغ إلى التمام والوصول إلى الكمال في الموجودات كلها، وتسمِّي الفلاسفة هذه القوة وما ينبثُّ منها في العالم روحانيات المِرِّيخ، ويسميها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، وجبرائيل ومنهم مَالِك الغضبان وخَزَنة جهنم أجمعون وسريانها في العالم وانبثاث قواها كما ينبث من جرم المرارة والقوة الصفراوية المميزة للأخلاط الموصِّلة بها إلى مواضعها المقصودة من أطراف البدن ونهايات الجسد المثيرة للغضب والحقد والحَمِيَّة وما يُشاكِلها، وهكذا ينبثُّ من جرم المُشتَرِي قوة روحانية تسري في جميع العالم بها يكون اعتدال الطبائع المتضادات وتأليف القوى المتنافرات، وسبب المتولدات الكائنات وحفظ النظام على الموجودات كما ينبثُّ من الكبد رطوبة الدم التي بها يعتدل أخلاط الجسد، ويستوي مزاج الطبائع، وينمو الجسد، وتنشأ الأبدان، وتطيب الحياة، ويلذُّ بالعيش، وتأنس الأرواح، وتألف النفوس، وتسمِّي الفلاسفة هذه القوة وما ينبثُّ من أفعالها روحانيات المُشتَرِي، ويسميها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، ورضوان خازن الجنان منهم.

وهكذا ينبثُّ من جرم الزُّهَرة قوة روحانية فتسري في جميع العالم وأجزائه، وبها تكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره ورونق الموجودات وزخرف الكائنات والتشوق إليها والعشق لها والمحبات والمودات أجمع، كما ينبث من جرم المعدة شهوة الملاذِّ إلى جميع مجاري الحواس التي بها تُستلذُّ المشتَهَيَات وتُستطاب النِّعَم وتُستحسَن الزينة، ومن أجْلها يُراد البقاء في الدنيا، ولا يُتمنَّى الوصول إلى الآخرة، ويُسمي الفلاسفة هذه القوة وما يتفرَّغ منها روحانيات الزُّهَرة، ويسمِّيها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، منها الحور العين وخُزَّان الجنان.

وهكذا ينبثُّ من جرم عُطَارد قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه بها تكون المعارف والإحساس في العالم والخواطر والإلهام والوحي والنبوة والعلوم أجمع، كما تنبثُّ من الدماغ القوة الوهمية وما يتبعها من الذهن والتخيل والذِّكْر والروِيَّة والتمييز والفراسة والخواطر والإلهام والشعور والإحساس والمعارف والعلوم أجمع، وتسمِّي الفلاسفة هذه القوة وما يتبعها روحانيات عُطَارد، ويسميها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، والوِلْدان والذين هم خُدَّام أهل الجنان والكرام البررة والكرام الكاتبون منهم.

وهكذا ينبثُّ من جرم القمر قوة روحانية تسري في جميع العالم وأجزائه، وتكون النفس للموجودات في العالَمَيْن جميعًا؛ تارةً من عالم الأفلاك إلى عالم الكون والفساد من أول الشهر، وتارةً من عالم الكون والفساد نحو عالم الأفلاك من آخِر الشهر، وهي القوة المتوسطة بين عالم الأفلاك معدن البقاء والدوام، وبين عالم الأركان معدن الكون والفساد، كما ينبثُّ من جرم الرئة القوة التي يكون فيها التنفس تارةً باستنشاق الهواء من خارج لحفظ الحرارة الغريزية على الجسد، وتارةً يكون التنفس بإرساله إلى خارج لترويحه، ويُسمِّي الفلاسفة هذه القوة وما ينبثُّ عنها من الأفعال روحانيات القمر، ويسمِّيها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، فبهذه القوة تنزل الملائكة بالوحي والبركات من السماء، وبها يُصعد بأعمال بني آدم إلى السماء، وبها تَعرج الأرواح، والمُعقِّبات منهم.

وهكذا ينبثُّ من كل كوكب من الثوابت قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم من أعلى الفلك الثامن الذي هو الكرسي الواسع إلى منتهى مركز الأرض كما ينبث من نور الشمس في الهواء والأجسام الشفافة، وبهذه القوة تحفظ صور أجناس الموجودات في الهَيُولَى، وبها صلاح العالم وقوام وجوده بإذن الباري — عزَّ وجلَّ — ومنها ثبات سكان السموات والأرضين، وإليها أشار بقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، وقال حكاية عنهم: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، وحَمَلة العرش منهم.

وأما الملائكة الذين سجدوا لآدم أبي البشر، فهم الذين في الأرض خلفاء لهؤلاء الذين هم في الأفلاك وهي نفوس سائر الحيوانات الساجدة لآدم وذريته بالطاعة المسخرة لهم إلى يوم القيامة.

واعلم بأن خراب العالم إنما يكون سببه فساد الكون، وهذا يكون بغلبة أحد الأركان إما بطوفان من الماء مثل ما كان في زمان نوح النبي — عليه السلام — وإما بطوفان من النار مثل ما وعد في القرآن يكون في آخِر الزمان بقوله: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، وسبب ذلك أن تستولي القرانات على البروج المائية والكواكب المائية فيكون طوفان الماء، والبروج النارية والكواكب النارية فيكون طوفان النار، فإذا بلغ قلب الأسد إلى حد المِرِّيخ في بروج الأسد بعد سنين فيكون طالع القران وطالع أشهر البروج النارية ويستولي المِرِّيخ عليها، فيشبه أن يكون طوفان من النار في ذلك الزمان، وكيفية ذلك أن يَحمَى الهواء فيصير نارًا سمومًا، فيحترق الإنسان والحيوان، ويبقى العالَم — أعني وجهَ الأرض — خرابًا بلا حيوان، ثم إن الله — سبحانه وتعالى — يُنشئ النشأة الآخِرة، كما وعد في القرآن بقوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ؛ يعني النشأة الآخرة، وقال تعالى: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، فعند ذلك يحصل أهل الجنة فيها منعمون وأهل النار فيها مخلدون، وقد بيَّنَّا في رسالة البعث كيف يكون ذلك، فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة واستعدَّ واعمل للمعاد والنشأة الآخرة، لعلك تُبعث يوم القيامة من السعداء، وتصعد إلى ملكوت السماء، وتدخل في زمرة الملائكة الذين هم الملأ الأعلى، ولا تكونن مع الذين يريدون الخلد في الدنيا عالم الكون والفساد لابثين فيها أحقابًا، لا يذوقون فيها بردَ عالم الأرواح ولا شراب نسيم الجنان، كلما نضجتْ جلودهم بالبِلَى بُدِّلوا بالكون جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب، أعاذك الله أيها الأخ من عذاب النار، وبلَّغك وإيانا وجميع إخواننا دار القرار مع الأبرار، إنه على ما يشاء قدير.

(تمَّتِ الرسالة والحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على محمدٍ رسوله وآله الأئمة الطاهرين وسلَّم تسليمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.)
(تمَّتْ رسالة ماهية الطبيعة، وتتلوها رسالة أجناس النبات.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤