الفصل الرابع

مذاهب علم الأخلاق ونظرياته

أشرنا في الفصل الماضي إلى أن الناس في أحكامهم على الأشياء يراعون مقياسا خاصا، فيحكمون على الشيء بأنه طويل أو قصير ويحتكمون في ذلك إلى «المتر» مثلا، ويحكمون على الشيء بأنه خفيف أو ثقيل ويحتكمون في ذلك إلى «الأقة» أو «الرطل» أو نحوهما، فما الذي نراعيه في أحكامنا الأخلاقية؟ إنا نقول: الصدق خير والكذب شر فما هو المقياس الذي عرفت به ذلك؟ وإذا عرض موقف حرج وأردت أن أعرف أأصدق فيه أم أكذب، وتجادل المتجادلون فيه بين محبذ للصدق ومحبذ للكذب فإلى أي المقاييس نحتكم؟ والناس يقولون: إن الصدق والعدل والشجاعة والعفة فضائل، وأضدادها رذائل، فما الشيء الذي فيها حتى جعلها فضائل أو رذائل؟ وبأي مقياس قاس الناس حتى حكموا هذا الحكم؟

هذا الموضوع هو الذي يسمى «المقياس الأخلاقي» ولم يتفق الباحثون فيه ولم يجيبوا عن الأسئلة الماضية جوابا واحدا، بل تعددت فيه المذاهب، ونحن نذكر أهمها:

(١) مذهب السعادة١

لما بحث العلماء في مقياس الخير والشر بحثا علميا ذهب كثير منهم إلى أن هذا المقياس هو «السعادة» وقالوا: إن السعادة هي الغاية الأخيرة للحياة، وهي التي تحرك جميع الناس للعمل، فإذا حللت عمل أي إنسان رأيت أنه إنما يطلب بعمله «السعادة» فالطالب يتعلم، ومحب المال يجمع، والرجل يتزوج، والعالم يؤلف، والكاتب يكتب، والقاضي يقضي، والصانع يصنع، وكل هؤلاء لو حللت أغراضهم من أعمالهم وجدت أن الغاية الأخيرة التي يرمون إليها هي تحصيل السعادة.

ولكن السعادة كلمة غامضة، وإنما يعني بها أصحاب هذا المذهب «تحصيل اللذة وتجنب الألم» فهم يقولون: إن الإنسان في أعماله: من سعى لتحصيل الرزق، وتحصيل العلم، ومداواة مرض، وأكل وشرب، وتأليف، ونوم، ورياضة، إنما يطلب أحد شيئين: إما تحصيل لذه، أو تجنب ألم، ولا يمكن أن يخرج عمل يعمله عن هذين الغرضين.

واللذة هي مقياس العمل، فالعمل يقوم بحسب كمية اللذة التي ينتجها، فيقال: إن هذا العمل خير وذاك شر لأن الأول ينتج من اللذة أكثر من الألم، والثاني ينتج ألما أكثر من اللذة.

وليس مذهب السعادة يقول: ينبغي أن يطلب الإنسان السعادة (اللذة) فحسب، لأن ذلك من طبيعة الإنسان، وكل الناس إنما يبحثون وراء اللذة، وكل عمل لا يخلو من لذة، وإنما يقول: ينبغي أن يطلب أكبر سعادة، أو بعبارة أخرى أكبر لذة، فإذا خير بين جملة أعمال ينبغي أن يطلب أكبرها لذة، والإنسان المفرط في شهواته لا يلام لأنه يطلب اللذة، فكلنا يطلب ذلك، ولكن يلام لأن إفراطه في الشهوات يسبب من الآلام أكبر مما يسبب من اللذائذ، والذى كذب إنما يلام لأنه حصل بكذبته لذة صغيرة وأنتج ألما كبيرا وهكذا.

وقال أصحاب هذا المذهب: إن اللذائذ يمكن أن تقارن، ويجب عند تفضيل لذة على لذة مراعاة الشدة والمدة، وكذلك الألم، لأنه يعتبر لذة سالبة، فإذا سئلت عن عملين أيهما أفضل: بناء مستشفى مثلا، أو التصدق على الفقراء بالمال؟ فاحسب حساب ما ينتج عن كل من اللذائذ، ومدة هذه اللذائذ، فإذا كان الأول ينتج لذة بمقدار ٨٠ مثلا في مدة عشر سنوات، والثاني ينتج ٢٠٠ في مدة سنتين، كان العمل الأول هو الواجب، لأن لذته مع مراعاة مدتها أكثر وهكذا.

ولكن إذا قلنا: إن السعادة هي الغاية الوحيدة للإنسان ولا شيء غيرها، وأنها هي المقياس الذى نقيس به العمل لنعرف أخير هو أم شر، فسعادة من نريد؟

هل ينبغي أن يطلب الإنسان أكبر سعادة لشخصه هو، فالعمل خير إذا كان يسبب للعامل نفسه لذة أكبر من الألم، وشر إذا كان ينتج لنفسه ألما أكثر من اللذة؟

أو ينبغي للإنسان أن يطلب اللذة للعالم الذى يعيش فيه، فالعمل خير إذا كان ينتج لذة للناس أكبر مما ينتج من الألم — ولو كان ينتج للعامل نفسه ألما أكبر — وشر إذا كان ينتج للناس ألما أكبر؟ هذان مذهبان للقائلين بالسعادة:
  • (أ)

    مذهب السعادة الشخصية.

  • (ب)

    مذهب السعادة العامة، ويسمى أيضا مذهب المنفعة.

(أ) مذهب السعادة الشخصية٢

هو المذهب القائل: إن الإنسان ينبغي أن يطلب أكبر لذة لشخصه، ويجب أن يوجه أعماله للحصول عليها.

فعلى هذا المذهب إذا تردد إنسان بين عملين، أو تردد في عمل أيعمله أم يتركه، فليحسب ما فيه من اللذائذ والآلام لشخصه ويوازن بينهما، فما رجحت لذائذه فخير، وينبغي فعله، وما رجحت آلامه فشر وينبغي تركه، وما تساوت فيه اللذائذ والآلام كان فيه مخيرا.

وقال أصحاب هذا المذهب: إن كل إنسان يجب أن يبحث وراء لذائذه هو وسعادته، ويعمل ما يوصله إلى ذلك، والعمل الذي يوصل إلى تلك الغاية أو يقربه منها يكون خيرا.

ومن أكبر زعماء هذا المذهب في العصور القديمة «أبيقور»٣ ويرى أن ليست تقاس الأعمال باللذات والآلام الوقتية فحسب، بل الواجب أن يرمي الإنسان بنظره على جميع حياته، ويحسب ما يستتبعه العمل من لذة وألم في الحياة، فشرب الدواء المر يسبب ألما ولكن لأنه قد يذهب ألما أكبر منه — وهو ألم المرض — يكون خيرا، والعاقل ينبغي أن يرفض لذة حالة للحصول على لذة أكبر منها مؤجلة، ومن أجل هذا فضل «أبيقور» اللذة العقلية على اللذة الجسمية، فإن اللذائذ الجسمية سريعة الزوال لا تعد شيئا إذا قيست بتلك اللذة الباقية — لذة العقل وتحصيل العلم — التي بها تطمئن النفس، ومنها يتخذ الإنسان عدة لحوادث الدهر، وصروف الزمان.

وقال: إن خير اللذائذ هدوّ البال وطمأنينة النفس، وأن سعادة الإنسان تعتمد على حالته النفسية أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، فليس المال الكثير والجاه الكبير ونحو ذلك يعين على السعادة أكثر مما تعين صفات الإنسان الخلقية والعقلية، ومع ذلك فقد قال «أبيقور»: إن اللذائذ الجسمية الطاهرة ليست محرمة، ولا مرذولة، ولا ضرر على العاقل من أخذ حظه منها من غير إفراط.

وعلى هذا المذهب إنما كانت الفضائل فضائل لأنها تسبب للعامل لذة كبرى، فالعفة مثلا فضيلة، والفجور رذيلة، لأنه لو دقق في حساب ما يجده العفيف من اللذة في رضائه عن نفسه، وبعده عن الآلام التي ينتجها الفجور، واحترام الناس له، وثقتهم به، لوجد أنه يرجح ما يجده الفاجر من لذة وقتية، يتبعها ألم النفس، وفقد الثقة، وتعريض الصحة والمال والشرف للضياع، وهكذا القول في الصدق والكذب، والأمانة والخيانة.

وقد غلط بعض الناس ففهموا أن مذهب «أبيقور» يدعو إلى الإنهماك في اللذات الجسمية والجرى وراء الشهوات، حتى أطلقوا كلمة «أبيقوري» على الفاجر المنهمك في شهواته، مع أن تعاليم أبيقور بعيدة عن ذلك، وقد ندد هو نفسه في بعض كتبه بمن يفهم من قوله هذا الفهم السقيم.

[وفي العصور الحديثة قال بهذا المذهب «هوبز» الفيلسوف الإنجليزي (١٥٨٨–١٦٧٩م) وبنى مذهبه الأخلاقي على أبحاث نفسية، فكان يرى أن الإنسان مخلوق وفي طبيعته حبه نفسه، والعمل لإسعادها، وأن أساس أعماله الأثرة، (حب الذات) وليس يعمل عملا إلا من أجل نفسه، وليس حبه جاره أو صديقه إلا ضربا خفيا من ضروب حب النفس. نعم إنه قد يعمل الخير لغيره، ولكن الباعث الحقيقي له على عمله هو حبه نفسه، وطلبه اللذة لها أو دفع الألم عنها، وكل ما يسمى «إيثارا» أو نفعا للناس ليس — بعد الفحص الدقيق — إلا نتيجة رغبة في منفعة شخصية يراد تحصيلها عاجلا أو آجلا، ومن أجل هذا قال: يجب أن نساير طبيعة الإنسان فلا نكلفه ما ليس من طبعه، بل نأمره أن يأتي من الأعمال ما فيه أكبر لذه له ويتجنب ما فيه أكبر ألم له].

وعيب هذا المذهب (مذهب السعادة الشخصية) أنه يجعل صاحبه أثرا (أنانيا) لا ينظر في أعماله إلا لنفسه، مات الناس أو عاشوا. انتفعوا أو تضرروا، إذا رغب في وصول منفعة للناس فإنما ذلك لأنها تجر المنفعة إليه، وإذا تألم من شر نال أحدا فإنما يكون لأن جزءا من الشر يناله هو، وفي الناس في كل زمان قوم يسيرون في حياتهم العملية على هذا المذهب وإن لم يسمعوا به ولم يعرفوا شيئا عنه، تراهم في كل طبقة من طبقات الناس، في الأغنياء والصناع والعمال والموظفين والتجار، أولئك لا يلاحظون في أعمالهم إلا أنفسهم، ينظرون إلى غيرهم من الناس كما ينظرون إلى متاع يستخدمونه لمصلحتهم، عندهم الإنسانية والوطنية والتضحية ونحوها سخافات، إنما الفضيلة في نظرهم أن يبحثوا وراء لذتهم وينشدوا مع الشاعر:

إذا مِتُّ ظَمآنا فلا نَزَلَ القَطْرُ

وقد رد كثير من العلماء على «هوبز» فقالوا: إن في الإنسان عاطفة حب الناس بجانب عاطفة حبه النفس، وإن نفوسنا تهتز عطفا على الناس، ورحمة بالمنكوبين، وغضبا على المجرمين، ويحن الوالدان على أولادهم حنينا قد يصل إلى حد أن يتمنوا أن يفدوهم بأنفسهم، فليس من الصواب — إذن — أن يكون مقياس الأخلاق لذة العامل وحده، وأن تكليفنا له بمراعاة الناس والعمل لخيرهم لا ينافي طبيعته.

وقد جاءت الأديان من نصرانية وإسلام فأوجبت التضحية عند الحاجة، وحببت إلى الناس الإيثار والإحسان، فكان في انتشار هذه التعاليم ما عاق هذا المذهب عن الإنتشار، فإن الشرف والتضحية والإيثار لا تتفق مع الأثرة وحب النفس.

وقد اعترُض على مذهب السعادة الشخصية هذا بجملة اعتراضات:
  • (١)

    إذا كانت اللذة الشخصية هي المقياس فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل، عد الإحسان فضيلة، مع إجماع الناس على عده كذلك.

  • (٢)

    هذا المذهب يستلزم احتقار من ضحوا بلذتهم وحياتهم لمنفعة الناس، وتكريم من ضحى بسعادة الناس وحياتهم لمصلحته هو — ولا قائل بهذا —

(ب) مذهب السعادة العامة٤ أو مذهب المنفعة

هذا المذهب يقول: إن ما ينبغي أن يطلبه الإنسان في الحياة ليس سعادته الشخصية، وإنما ينبغي أن يطلب أكبر سعادة للناس، بل لكل حساس، ولتوضيح ذلك نقول: عندما نريد الحكم على عمل بأنه خير أو شر يجب أن ننظر فيما ينتجه العمل من اللذائذ والآلام لا للعامل نفسه — كما يقول المذهب الأول — بل لكل الناس، بل ولكل حيوان يتلذذ أو يتألم من هذا العمل، ثم نجمع ما ينتجه العمل من اللذائذ وما ينتجه من الآلام،٥ فإن رجحت لذاته آلامه فخير وإن رجحت آلامه لذاته فشر، فإذا سئلت — مثلا — هل يحسن أن تتعلم البنات مع البنين في مدارس واحدة أو لا، فاحسب حساب ما ينتجه ذلك من الفوائد والمضار للأمة جميعها، وقارن بينهما، فما رجح فاحكم بمقتضاه، وإذا سئلت هل من الحق أن تذبح الحيوان لتأكله فاحسب حساب ألم الحيوان من ذبحه، وتلذذ الآكلين من أكله، وما يستفيده الآكلون صحيا، وما تستفيده الأمة من صحة أبنائها وهكذا، وقارن بين اللذائذ والآلام، ثم احكم على العمل بأنه خير أو شر وهكذا.

وإذا خيرت بين جملة أعمال فاحسب حساب ما ينتج كل من اللذائذ والآلام، فأيها زاد رجحان لذائذه على آلامه فهو الخير، وهو الذي ينبغي أن يعمل.

وسعادة الجميع يجب أن تكون مطمح نظر كل إنسان، لا سعادته هو وحده — والفضائل إنما عدت فضائل لأنها تنتج للناس لذة أكثر من الآلام — فهي فضائل ولو آلمت بعض الأفراد، بل ولو آلمت العامل نفسه، وكذلك كانت الرذائل رذائل لأن آلامها للناس ترجح لذائذها، فهي رذائل ولو أفادت العامل نفسه.

فالصدق — مثلا — إنما كان فضيلة لأنه يزيد سعادة المجتمع وبه يرقى ويبقى، ذلك لأننا محتاجون في الحياة إلى طبيب يرشدنا إلى ما فيه حفظ الصحة، وإلى مهندسين نعتمد على أقوالهم في بناء الجسور ونحوها، وإلى كيمائي يبين لنا خواص الأجسام، وإلى مدرس يثقف عقول المتعلمين بما ينفعهم، ولولا الصدق ما كان لنا أن نثق بأقوال هؤلاء ولا ننتفع بآرائهم، فلما رأينا ما ينجم عنه من السعادة للمجتمع حكمنا بأنه فضيلة، وأوجبنا على الأفراد أن يصدقوا، وإن كان في الصدق ألم لبعض الناس.

ورشوة القاضي — مثلا — إنما كانت رذيلة لأن القاضي إذا ارتشى أطلق سراح المجرم، وهذا يشجعه هو وأمثاله على ارتكاب الجرائم، لاعتقاده أنه يستطيع الفرار من العقوبة بالرشوة، وبذلك تكثر المظالم، ويضيع كثير من الحقوق. وفي هذا آلام كثيرة للمجتمع، فحرِّمت وإن انتفع بها القاضي المرتشى.

وهكذا الشأن في جميع الأعمال، فإن أردت الحكم على عمل بأنه خير أو شر فابحث عما يجلبه من اللذائذ والآلام للمجتمع، مع بعد النظر، ودقة البحث، وتجردك من الهوى ومن تحيزك لنفسك، ثم وازن بين لذائذه وآلامه.

ووزن الأعمال بهذا الميزان بطيء، لأنه يتطلب حسابا دقيقا، ونظرا بعيدا، إلا أن النتيجة موثوق بصحتها، على أن مما يسهل عملية الوزن والمقياس أن أصول الفضائل والرذائل قد وزنت بهذا الميزان وحكم عليها بالخير أو الشر مثل الكرم فضيلة، والبخل رذيلة، والصدق خير، والكذب شر، فإن أردنا أن نحكم على جزئية من جزئياتها فلنرجع إلى أصل من تلك الأصول التي حكم عليها، كأن يكون العمل من قبيل الصدق أو الكذب، ولا حاجة حينئذ إلى هذا المقياس، وإنما نحتاج إليه فيما لا يرجع إلى تلك الأصول، كالعادات التي اختلف الناس في استحسانها واستقباحها، وكالمسائل التي لا ترجع إلى هذه الأصول، فإن أداك بحثك الدقيق إلى أن آلام العمل أكثر من لذائذه فاحكم بشره وإن حكم الناس عليه بالخير، وإن رأيت من الأعمال ما لا ضرر فيه أو ما آلامه أقل من لذائذه فاحكم بأنه خير وإن عده الناس جريمة، ويسمى هذا المذهب «مذهب المنفعة» ومن أكبر دعاته الفيلسوف الإنجليزي بنتام (١٧٤٨–١٨٣٢م)٦ وجون ستوارت ميل (١٨٠٦–١٨٧٣م).٧

واللذة التي يريدها أصحاب مذهب المنفعة تشمل اللذات الحسية والمعنوية، الجسمية والعقلية، بل قد صرحوا بأن اللذات النفسية أفضل من اللذات الجسمية، وكلما رقى الإنسان طمح إلى أشرف اللذات وأرقاها، فكما أن سعادة الإنسان تختلف عن سعادة الحيوان كذلك تختلف سعادة العاقل عن سعادة الجاهل، واللذائذ الوضيعة سهلة المنال ولذلك كان حصول الجاهل على لذاته أيسر:

وإذا كانت النفوس كبارا
تَعِبَتْ في مُرادها الأجسامُ

قالوا: والواجب ألا يبحث الإنسان عن أكبر لذة بل عن أشرف لذة، وعن خير أنواعها، ولا يتيسر ذلك له إلا بأن يوسع فكره، وأن يكون عنده من حب الخير للناس ما عنده لنفسه.

هذه هي خلاصة هذا المذهب، وقد وجهت إليه اعتراضات كثيرة أهمها:
  • (١)

    أنا لو اتبعنا هذا المذهب وجب ألا نحكم على عمل بأنه خير أو شر إلا بعد أن نحسب كل ما ينشأ عن العمل من لذة وألم لكل إنسان، ولكل كائن حساس، وبعبارة أخرى نحسب حساب ما يناله الأقارب والأباعد من اللذائذ والآلام، وما يناله الأحياء وأعقابهم وهكذا، وإذا كان كذلك فمن الصعب الوقوف على نتائج العمل وحسابها، فقد نرى عملا ينفع أمتنا ويضر الأجانب، وقد ينفع معاصرينا ويضر الأجيال المستقبلة، والأجيال المستقبلة كثيرة العدد، من أجل هذا ونحوه يصعب الحساب ويدق البحث حتى لا نستطيع أن نحكم على بعض الأعمال بأنها خير أو شر، فمثلا هل تنتفع الأمة الآن بما عندها من مناجم إذا كان ذلك يضر أبناءها؟ وهل تستدين الحكومة إذا خيف أن يكون الدين حملا ثقيلا على الخلف؟ كل ذلك من الصعب تصفية حسابه على هذا المذهب.

  • (٢)

    إن هذا المذهب يدور حول اللذة والألم ويتخذ لذائذ الناس وآلامهم مقياسا، ولكنا نرى أن اللذة والألم تختلف باختلاف الأشخاص، فقد يرى أحد في عمل لذة كبيرة ويرى فيه آخر لذة أكبر أو أقل، فيترتب على ذلك اختلاف الناس في الحكم بالخير أو الشر، كما يترتب عليه ارتباك في حساب مقدار اللذة والألم، فمثلا قد يسمع جمع من الناس أصواتا موسيقية فيطرب منها بعضهم طربا كبيرا بينا نجد بجانبهم من لم يأبه لها ولم ينفعل بها أي انفعال، فكيف بعد ذلك نستطيع تقدير اللذائذ والآلام ونتخذها مقياسا تقاس به الأعمال.

  • (٣)

    إن هذا المذهب يجعل الناس باردين لا ينظرون في الأعمال إلى جمالها وشرفها، والباعث الشريف الذي بعث عليها، بل لا ينظرون إلا إلى لذاتها وآلامها، فضلا عن أن القول بأن الحياة لا غاية لها إلا اللذة والآلم يحط من شرف الإنسان، ولا يليق إلا بالعجماوات.

وقد أجاب أنصار هذا المذهب عن هذه الإعتراضات، وطال بين الباحثين فيها الجدال، مما لا يتسع له هذا المقام.

ومع هذا فإنا نستطيع أن نذكر هنا أن هذا المذهب من أكثر المذاهب انتشارا في العصور الحديثة، وهو أرقى من مذهب السعادة الشخصية، وكان له فضل كبير في إيقاظ العقول، ومطالبتها أن تكون غير متحيزة في أحكامها، فقد طلب من الشخص أن ينظر إلى لذائذ الناس كما ينظر إلى لذاته هو، وطالب المتشرعين ألا ينظروا عند تشريعهم إلى طبقة خاصة وأفراد معينة، بل ينظروا إلى خير الناس كافة، فما يعد جرائم يعاقب عليها القانون وما لا يعد إنما يلاحظ فيه لذائذ المجموع وآلامه، والعقوبات التي توضع بإزاء الجريمة يجب أن يلاحظ فيها أنها تأتي بلذائذ للناس أكبر مما تسبب من الآلام وهكذا.

(٢) مذهب اللقانة٨ (البصيرة)

رأى قوم أن مذاهب السعادة أو مذاهب اللذة غير صحيحة، وأن اللذة وإن كانت أحيانا دليل الخير فإنها في كثير من الأحيان باعث على الشر، فلا يصح — بعد — أن تكون غاية نطلبها ونقيس الأعمال بها، وإنه لمن الضعة أن تسير الإنسان في الحياة اللذة فقط وألا يسير في أعماله إلا طلبا للذة أو تجنبا لألم، وألا يبعثه على فعل الخير الا توقعه ما فيه من لذة، وألا يجنبه الشر إلا حسبانه ما فيه من ألم.

وقالوا: إن الحق أننا نعرف الخير والشر من غير أن نقيسه باللذة والألم، وأننا نحكم على الصدق والعدل والشجاعة بأنها خير وعلى أضدادها بأنها شر لا بالنظر إلى نتائجها وما يتبعها من نفع وضر، ولكن لصفات ذاتية فيها، فالصدق خير في ذاته، والكذب شر في ذاته، من غير أن نحسب حساب ما ينتج عنهما.

وأن في كل إنسان قوة غريزية باطنة، بها يميز بين الخير والشر بمجرد النظر، منحناها كما منحنا العين لنبصر بها والأذن لنسمع بها، فكما نستطيع إذا نظرنا إلى شيء أن نقول: إنه أبيض أو أسود (من غير تعليل) وأنه طويل أو قصير، وإذا سمعنا صوت موسيقى أن نقول: إنه جميل أو قبيح، كذلك نستطيع إذا رأينا عملا من الأعمال أن نقول: إنه خير أو شر.

وقد تختلف هذه القوة اختلافا قليلا باختلاف العصور والبيئات، ولكنها متأصلة في نفس كل إنسان، فهو إذا نظر إلى شيء حصل عنده نوع من الإلهام يعرفه قيمته فيحكم عليه بأنه خير أو شر، ومن أجل هذا اتفق أكثر الناس على عد الصدق والكرم والشجاعة والعدل فضائل، كما اتفقوا على عد أضدادها رذائل، ألا ترى إلى الأطفال يحكمون على الكذب بأنه شر من غير إعمال فكر، ويحتقرون السارق، ويعدون السرقة جريمة ولو لم يكن لهم من النظر البعيد ما يرون به الآلام التي تحيق بالمجتمع من وراء الكذب أو السرقة، وكذلك القبائل التي لم تأخذ بحظ من المدنية، وليس عندهم نظر دقيق يقيسون به ما ينتج من اللذائذ والآلام يكادون يتفقون على الفضائل والرذائل.

هذه القوة التي في طبائعنا نسميها «اللقانة» ونسمي المذهب القائل بها «مذهب اللقانة».

وقد تصاب هذه القوة بالمرض فترى الخير شرا والشر خيرا، كما تصاب العين فلا تدرك بعض الألوان، أو تحكم على الواحد بأنه اثنان، وكما تصاب القوة العقلية فتحكم أحكاما خطأ ولكن العين السليمة والعقل السليم يصححان هذا الخطأ كذلك اللقانة قد تخطئ ولكن اللقانة السليمة تدرك هذا الخطأ وتصححه.

ويمتاز هذا المذهب عن مذهب السعادة بنوعيه بأنه:
  • (١)

    يرى الفضائل فضائل في جميع الظروف، وفي كل زمان ومكان، وليس كونها فضيلة تابعا لغاية إذا وصلت إليها كان خيرا وإن لم توصل كانت شرا.

  • (٢)

    إن الفضائل أمور بديهية ليست في حاجة إلى البرهنة على صحتها.

  • (٣)

    وأنها ليست محلا للشك، فمن المحال أن نرى يوما ما أن ضدها هو الخير وأنها هي الشر.

وهذه القوة في طبيعة كل الأنواع البشرية، العالي منها والسافل، ولسنا نعني أنها على درجة واحدة من الرقي، وإنما نعني أنها طبيعية في الناس جميعا كحاسة السمع والنظر، وإن اختلفت قوة وضعفا، وأنها ككل ملكات الإنسان قابلة للترقية بالتربية.

وعلى الجملة فهذا المذهب يرى أن الإنسان يجب أن يكون أرقى من أن تسيره اللذة والألم، وليس قانون الأخلاق وأوامره خاضعة لنتائج العمل، ولا لما فيه من اللذائذ والآلام، وإنما ركب في أنفسنا ضمير يناجي الإنسان ويأمره بالخير وبالواجب، ثم إن هذا الخير أو الواجب قد يثمر لذة وسعادة، وقد تسير الإنسان إلى حد ما رغبته في اللذة وفراره من الألم، ولكن هذا الضمير لا يخضع لذلك، بل قد يتطلب أحيانا أن يضحي باللذة والسعادة والحياة نفسها للواجب، والواجب واجب ولو منع لذة واستتبع ألما، والخير خير في ذاته مهما كلف من المشاق، وإنه لحط من كرامة الإنسان أن يمسك دائما ميزانا يزن به كل عمل قبل أن يعمل ليرى ما ينتجه من لذائذ وآلام، فإن هذا عمل التجار. أما الأخلاقي فيجب أن يكون أشرف من ذلك، يصغى لصوت ضميره، ويسمع لما يوحى إليه من أوامر ونواه، وهذا هو ما يشرفه ويضعه في أسمى مكان يليق به.

وممن ذهب هذا المذهب طائفة من الفلاسفة الأقدمين يسمون (الرواقيين) وهم أتباع زينون، فيلسوف يوناني (٣٤٢–٢٧٠ق.م) كان يعلم أصحابه في رواق مزخرف في أثينا، ومن ثم سمي أصحابه بالرواقيين (Stoics) وقد كان زينون معاصرا لأبيقور ومعارضا له في تعاليمه. فبينا يرى أبيقور أن الغاية من الحياة هي الوصول إلى أكبر لذة ممكنة للعامل، وأنه يجب إحياء الشهوة وإرواؤها، كان زينون يرى أنه يجب ضبط النفس وقمع الشهوات وعمل الواجب للواجب.

كان هؤلاء الرواقيون يرون أن اللذة ليست هي الغاية للإنسان، ولا هي بالخير دائما، وإنما الغاية نيل الفضيلة لأنها فضيلة. وطلبوا من الناس أن يكفوا عن اتباع الشهوات وأن يمرنوا أنفسهم على تحمل الآلام في سبيل الفضيلة.

والرواقي لا يجعل أكبر همه أن يكون غنيا ولا متلذذا، إنما أكبر همه أن يعيش حكيما فاضلا، في أى حال كان، في فقر أو غنى، وأن يستعمل ما حوله من الأشياء خير استعمال، ومثلوا الناس في الدنيا بالممثلين على مراسح التمثيل، قالوا: إن منهم من يمثل الملك، ومنهم من يمثل السائل الفقير، ولسنا نثنى على الأول لأنه مثل دور الملك ولسنا نعيب الثاني لأنه مثل دور الفقير، إنما نثني على من أجاد دوره ملكا أو فقيرا ونعيب من لم يجد ملكا أو فقيرا، كذلك الشأن في الحياة، فالإنسان يجب أن يمدح أو يذم لإجادته في عمله أو عدمها، لا لمنصبه الذي يشغله وماله الذي يملكه.

وضرب أحد رؤساء هذا المذهب وهو «إبيكتيتس» (٥٠–١١٥م) مثلا لذلك من لاعبي الكرة، قال: إنهم لا يلعبون للكرة نفسها ولا يهمهم ملكها ولا من ملكها، وإنما يمدح اللاعب لأنه يعرف كيف يلعبها وكيف يجيد رميها، يريد بذلك أن الأشياء الخارجية لا قيمة لها في أنفسها، وإنما يمدح الإنسان على حسن استعمالها لا على ملكها.

والغربيون الآن يطلقون «رواقي» على من اعتاد أن يقابل الأشياء بهدوء وطمأنينة على الرغم مما يحيط بها من خطر وآلام.

ومن القائلين باللقانة في العصور الحديثة «كانت»٩ فقد كان يرى «أن عقل الإنسان هو أساس الأخلاق. وليس الإنسان في حاجة إلى أن يتعلم أن العمل خير أو شر بواسطة الملاحظة أو التجربة، أو قياس ما ينتج عنه من لذائذ وآلام، ولكن العقل بطبيعته يرينا الخير والشر، فإذا عرض أمامنا عمل ما فعقلنا يرشدنا إن كان خيرا أو شرا من غير عمليات حسابية، والعقل يأمرنا دائما أن نعمل ما نحب أن الناس يعملونه، فيأمرنا بالصدق لأننا نحب أن الناس يصدقون، وبتجنب الكذب لأننا نحب أن الناس لا يكذبون. ويجب أن نخضع لصوت العقل وأن نجعل إرادتنا تنفذ ما يأمر به وما ينهى عنه، وإذا جرينا على هذا المبدأ دائما ولو خالف ميولنا وشهواتنا فقد أدينا ما علينا من الواجب وسرنا سيرا أخلاقيا».
وقد اعترض على هذا المذهب (اللقانة)، القائل بوجود غريزة في الإنسان يميز بها الخير من الشر، كالحاسة التي يميز بها بين الألوان والأصوات:
  • (١)

    بأن الناس يختلفون في الحكم على الأشياء اختلافا كبيرا حتى في البديهات، ففي «سبارطة» كانت تعد السرقة عملا ممدوحا، ويعد القتل في «داهومي» واجبا من الواجبات فكيف يقال بعد: إن الناس منحوا غريزة لإدراك الخير والشر؟ مع أنا نراهم لا يختلفون هذا الإختلاف فيما يدرك بالحواس، فلا يقول قوم على الأسود أبيض، ولا يقول آخرون: إن الاثنين أكبر من الأربعة.

  • (٢)

    وبأنا نشاهد أنا في كثير من الأعمال نتوقف عند الحكم عليها بأنها خير أو شر، ونحس أننا نحتاج فيها إلى إمعان النظر واستعمال الروية، ولو كان الحكم يرجع إلى حاسة فينا ما احتجنا إلى ذلك، كما لا نحتاج إلى إمعان النظر في إدراك الأسود والأبيض والجميل والقبيح.

(٣) نظرة عامة إلى هذه المذاهب

رأينا أن العلماء مختلفون فيما بينهم في معرفة المقياس الأخلاقي، وأن كل مذهب من المذاهب لم يسلم من اعتراضات ترد عليه، ولم يخل كذلك من وجهة نظر صحيحة.

وإذا ألقينا عليها الآن نظرة عامة رأينا أن من الخطأ الواضح الجري على مذهب السعادة الشخصية، لأن الإنسان لا يعيش وحده في هذا العالم، وهو مضطر في معيشته إلى التعاون مع أبناء جنسه، فليس من الحق إذن أن يبحث فقط وراء سعادته هو، فضلا ًعن أنا إذا رجعنا إلى الطبيعة الإنسانية رأيناها تدعو إلى عمل الخير للناس كما تدعو لعمل الخير لنفسه، فكثير مما يعمله الآباء والأمهات لأولادهم لا يعملونها لأنفسهم، بل هم قد يبذلون أنفسهم لخير أولادهم، وكأعمال الخيرين الذين يقصدون إلى إيصال الخير إلى الناس مهما نالهم من الأذى، بل نحن في أعمالنا اليومية نشعر بميل إلى إغاثة الملهوف، وإنقاذ المشرف على الخطر، ومساعدة المنكوبين ونحو ذلك ولو لم يعد علينا من ذلك منفعة خاصة، مما يدل على تأصل عاطفة الخير فينا، وحب الناس، وأن ليس شخصنا هو المحور الوحيد الذي تدور عليه الأخلاق.

وقد جاءت الأديان المختلفة لمحاربة «الأثرة» والتفاني في حب النفس، وحببت إلى الناس «الإيثار» والعمل لخير الناس، ووضعت المبادئ العامة لذلك نحو: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» و«أحب لأخيك ما تحب لنفسك» ومدح الله قوما بقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، نعم إن الطبيعة ركبت فينا حب ذاتنا ولكنها ركبت فينا أيضا حب غيرنا، وجعلت في استطاعتنا ألا نغلو في ذلك، وأن نحب الخير لنفسنا وللناس، ومن شاء أن يكون عظيما فليحب الخير أكثر مما يحب نفسه ويتبعه حيث كان.

ويقول «سبنسر»: إن الواجب ألا نبالغ في الأثرة ولا في الإيثار، لأنا إذا بالغنا في أيهما أضعنا المقصود منه، فلو أن كل إنسان يبحث عن لذة نفسه فقط لكان ذلك شر طريق لحصول الإنسان على لذائذه الشخصية، لاحتياج كل إنسان إلى الآخرين، فلو قصر كل إنسان في جمعية نظره على نفسه لتضرر الجميع، وكذلك الإيثار، فلو قصد كل إنسان بكل عمل نفع الآخرين وأهمل نفسه لم يكن ذلك في مصلحة الناس، لأنه باهمال نفسه يضعف ويقعد عن عمل الخير للناس، وليس يستطيع غيره أن يقوم بمصالحه هو، لأنه أدرى بها — والنتيجة التي وصل إليها «سبنسر» أنه يجب أن نوفق بين الأثرة والإيثار، وكلما رقيت أمة مالت لديها الأثرة والإيثار إلى الإتحاد وتكوين عنصر واحد — فالإنسان في الجمعية الراقية لا تتعارض في نفسه الأثرة والإيثار، بل يرى خيره في حبه للناس ويرى نفسه عضوا من جسم، فائدة العضو تفيد الجسم وفائدة الجسم تفيد العضو.

— إذن — لا يصح أن نتبع المذهب القائل: بأن المقياس سعادة الشخص. كذلك لا نرى من الحق اتباع مذهب السعادة العامة وإن كان أرقى مما قبله وأشرف، لأن هذا المذهب يجعل الناس لا يحكمون على عمل إلا بعد حساب لذائذه وآلامه، فهو يجعل الحكم الأخلاقي عملية حسابية، والفضيلة ليست فضيلة في ذاتها، وإنما هي فضيلة لأنها تنتج لذة أكبر، وهذا يفقدها ما فيها من جمال وتقديس، واتباع هذا المذهب يجعل الناس جامدين ليس لديهم الشعور القوى نحو الفضيلة، إنما ينظرون إلى النتائج الجافة للأعمال، فضلا عن أنه يترك تقدير ما ينتج عن العمل من اللذائذ والآلام إلى الشخص نفسه، والشخص عرضة لأن يخطئ في الحساب، خصوصا وهذا المذهب يتطلب بعد النظر وحساب النتائج القريبة والبعيدة معا، وكثيرا ما يخدع الإنسان نفسه في حساب اللذائذ والآلام إذا رأى في العمل مصلحته الشخصية، فيوهم نفسه أن في العمل منفعة عامة، وبذلك يتعرض لخطأ شنيع.

ونحن أميل إلى نوع من أنواع اللقانة، وهو أن الإنسان خلق وفي أعماق نفسه قوة تريه بعض الأعمال خيرا وأخرى شرا، لا بالنظر إلى ما ينتج عنها من لذائذ وآلام ولكن لأنها نفسها كذلك، فهو يحس بطبعه بفضيلة ورذيلة، ويشعر أنه مأمور من نفسه بأن يعمل الفضيلة ويتجنب الرذيلة، وهو مكلف أن يطيع هذا الأمر مهما كانت نتائجه، وأن يضحى لذلك بكل اللذائذ التي يتوقعها، فهو يرى الصدق فضيلة، وشعوره أو عقله يريه ذلك كما تريه عينه الأسود أسود والأبيض أبيض، وكما أنا لا نحكم على الأسود بأنه أسود نظرا لنتائجه فكذلك لا نحكم على الصدق بأنه خير لنتائجه، ولكن لأن نفسي تريني أنه فضيلة وأني ملزم بالعمل على وفقه، وإذا كذبت شكلت لي محكمة في باطن نفسي تحكم علي بالإساءة، وتوقع علي عقوبة التأنيب، تلك طبيعتنا التي خلقنا عليها.

والقانون الأخلاقي الذي يرينا الخير والشر ويأمرنا وينهانا جزء من طبيعتنا، وهو — وإن اختلف عند الناس حسب بيئتهم وتربيتهم فأساسه موجود فيهم، في المتوحش والمتمدين، وفي الراقي وغير الراقي — ففي باطن الإنسان شعور بالواجب، وأمر بعمله، وعقوبة على مخالفته، ومكافأة على طاعته، وكل إنسان يشعر بذلك من غير أن ينتظر حساب ما في العمل من لذائذ وآلام، وأمعن الناس في الإجرام وأشدهم قسوة يضطرب إذا أجرم، لا خوفا من العقاب فقط ولكن لأنه خالف أيضا قانون الأخلاق، وكل إنسان مسئول أمام ضميره عن إطاعة هذا القانون الأخلاقي، ومسئول كذلك أمام الله، فقد ربط الله الثواب والعقاب بهذا القانون، وجعل الجنة جزاء العدل والصدق والشجاعة ونحوها من الفضائل، كما جعل النار عقابا لأضدادها من ظلم وكذب وجبن، وأن هذا القانون الأخلاقي الذي في نفوس الناس هو الرابطة بينهم جميعا، على أساسه يمدحون ويذمون، ويكافئون ويعاقبون.

فنحن ندرك الخير والشر بطبعنا، ونحس الواجب، ويكلفنا ضميرنا أن نعمله من غير نظر إلى اللذائذ والآلام، بل يأمرنا أحيانا أن نضحي باللذائذ والسعادة للخير والواجب.

هذا المذهب هو الذي يليق بشرف الإنسان ومنزلته في العالم، فليس هو بهيمة يبحث عن لذته أو لذة غيره، إنما هو مخلوق راق يبحث عن الفضيلة حيث كانت، ويأمره ضميره بالعمل بها، وليس يعوقه عن الوصول إلى الدرجة الرفيعة الخلقية إلا تغاليه في حب ذاته، وإغضاؤه عن صوت الضمير إرضاء لشهواته، والمثل الأعلى إنسان يحب الخير للخير، ويتطلب الفضيلة لأنها فضيلة، ويؤدي الواجب لأنه واجب، ويسمع صوت ضميره في أداء ذلك دائما، يجعل ذلك مبدأه في حياته، وقانونه الذي يسير عليه أبدا.

١  يسمى هذا المذهب بالإنجليزية Hedonism.
٢  يسمى هذا المذهب Egoistic Hedonism.
٣  أبيقور Epicurus فيلسوف يوناني (عاش من سنة ٣٤١–٢٧٠ قبل الميلاد) وقد أسس مدرسة في أثينا سنة ٣٠٦ق.م. يعلم فيها مذهبه، واستمرت أكثر من ستة قرون.
٤  يسمي هذا المذهب (Universalistic Hedonism) أو (Utilitarianism).
٥  مع ملاحظة أن الألم ليس إلا لذة سالبة.
٦  بنتام Bentham عالم انجليزي اشتهر ببحثه في الأخلاق والقانون، وهو من أكبر دعاة مذهب المنفعة وربما عد مؤسسه، وهو القائل بأن «مقياس الخير والشر أكبر لذة لأكبر عدد» وقد ألف في أصول القوانين كتابه الشهير (أصول القوانين) وطبقه على مذهب المنفعة وترجمه المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول.
٧  ميل Mill فيلسوف انجليزي كتب في المنطق والإقتصاد السياسي والسياسة وكتب رسالة في الحرية عربها طه أفندي السباعي ورسالة في مذهب المنفعة ألفها سنة ١٨٦٣ وهو يعد من أكبر مؤسسي هذا المذهب.
٨  وضعت كلمة اللقانة ترجمة لكلمة Intuition وأصل معنى الكلمة الإنجليزية النظر الى الشئ، ثم أطلقوها في علم الأخلاق على الحاسة التي يدرك بها الخير والشر، وكلمة اللقانة من لقن الشيء إذا فهمه في سرعة، يقال: فتى لقن أى سريع الفهم فاستعملناها في هذا المعنى.
٩  «كانت» فيلسوف ألماني عاش من سنة (١٧٢٤–١٨٠٤م) وكان يعيش عيشة دقيقة منظمة، فكان قيامه من نومه وشربه لقهوته وكتابته ومحاضرته وأكله ومشيه كل ذلك في أوقات محددة، وكان جيرانه يعلمون أن الساعة يجب أن تكون الرابعة والنصف بالضبط حينما يرونه خارجاً من منزله في معطفه الرمادي وبيده عصاه يتمشى بين أشجار الزيزفون في الشارع الذى سمى بعده «ممشى الفيلسوف» وكان يمشى هذا الشارع ثماني مرات روحة وجيئة كل يوم في كل فصول السنة، وإذا ساء الجو وأنذر السحاب بالمطر ترى خادمه العجوز يتبعه متأبطا مظلة كبيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤