الفصل التاسع

المثل الأعلى

(١) معنى المثل الأعلى

قبل أن نشرع في بناء بيت يضع المهندس له رسما، وقبل أن يضع هذا الرسم كانت في ذهنه صورة كاملة للبيت يستملي منها صورته التي يرسمها. وكذلك الشأن في واضع الرواية، قبل أن يخرجها إلى الوجود كانت مرسومة في ذهنه، وكل إنسان يجب أن تكون عنده صورة كاملة لما يود أن تكون عليه حياته المستقبلة، وكثيرا ما يسائل الإنسان نفسه: ماذا أكون؟ ما الذي أطمح أن أكونه في مستقبل حياتي؟ ما الإنسان الكامل الذي أسعى لأن أتمثله يوما ما؟ فالصورة التي في ذهننا نود تحقيقها ونستملي منها لنجيب على هذه الأسئلة تسمى في عرف الكتاب الحديثين «المثل الأعلى».

وهو يميز الإنسان عن غيره من الحيوان، فإنا نرى الحيوانات تعيش على نمط واحد، ليست في رقي مستمر، فمعيشة القط قديما هي معيشته اليوم، وكان النحل يبني خلاياه على أشكال سداسية كما يبنيها الآن، أما الإنسان فدائم الرقي، هو اليوم غيره في القرن الماضي بل غيره بالأمس، لأن أمامه «مثلا أعلى» يجد في الوصول إليه، وكلما قرب منه سبقه المثل.

ويجب أن يكون لكل إنسان «مثل أعلى» يسعى لتحقيقه ويوجه أعماله للوصول إليه، ذلك لأن الإنسان في هذه الحياة كقائد السفينة في البحر المتلاطم الأمواج، لا يمكنه أن يصل إلى المرفأ حتى يعرف أين المرفأ، ويرسم خطة للوصول إليه، وإلا تنكب، وكانت سفينته عرضة للارتطام، وكذلك يحيط بالإنسان قوى مختلفة: شهوات تتجاذبه، وصعوبات تعترضه، ومؤثرات متباينة، فإن لم يحدد غرضه ويعين مثله الأعلى تقسمته هذه القوى واضطربت مسالكه.

وللمثل الأعلى تأثير في النفوس، فهو دائم الشخوص أمام نظر الإنسان يجذبه نحوه ويدعوه لأن يحققه. وإن أعمال الإنسان وطريقته في الحياة تدل على مثله الأعلى «ما هو»، وكل المؤثرات في الأخلاق من بيئة ومنزل وتعليم إنما تصلح الإنسان بواسطة إصلاح المثل الأعلى، أما المؤثر الوحيد مباشرة فهو ذلك «المثل».

(٢) اختلاف المثل الأعلى

تختلف المثل العليا عند الناس اختلافا يكاد يكون بعدد رءوسهم، فهذا مثله الأعلى رجل غني متمتع بكل ملذات الحياة، وذلك مثله إنسان كامل العقل، قد تفوق في العلوم وتضلع من المعارف، وآخر مثله وطني يدافع عن حقوق وطنه ويرفع مستوى أمته، كذلك يختلف سذاجة وتركبا فقد يكون مثل شخص صورة ساذجة رسمها مما يسمعه من والديه، وقد يكون مثل آخر صورة مركبة قد رسمها بعد أن بحث في الأخلاق بحثا علميا، وعرف الفضائل ورتبها حسب ما صح عنده من مقياس الخير والشر.

والإنسان الواحد يختلف مثله من حين لآخر، والأمة الواحدة تختلف مثلها كلما تدرجت في معارج الرقي، وليست الصعوبة أن يجد الإنسان أو الأمة مثلا أعلى، فالمثل كثيرة لا عداد لها، وإنما الصعوبة اختيار أحسنها وأنسبها.

وليس في وسع الأخلاقي ولا الفيلسوف أن يرسم مثلا أعلى دقيقا يوافق كل إنسان وكل أمة، فالمثل الذي يتفق مع غرائز إنسان ودرجة عقله من الرقي والبيئة التي تحيط به ربما لا يوافق الآخر، لاختلافه فيما ذكرنا، اللهم إلا إذا رسم الأخلاقي أو الفيلسوف صورة عامة اقتصر في رسمها على ما يوافق سواد الناس، كالخياط يعمل ثوبا واسعا يصح أن يلبسه كثيرون مع تعديل بسيط.

وكل الذي نستطيع أن نقوله: إنه ينبغي أن يكون المثل الأعلى للشخص صورة كاملة تمثل خير إنسان يستطيع الشخص أن يكونه في كل شأن من شؤون حياته، ففي عمله مثله أن يكون أحسن ما يستطيع: من جد وأمانة وإتقان ومهارة، وفي سياسته لنفسه مثله أن يكون ضابطا لنفسه، يعمل بإرشاد عقله، وفي معاملته للناس مثله أن يعاملهم كما يحب أن يعامل، وأن يحب الخير لهم كما يحبه لنفسه.

(٣) مم يتكون المثل الأعلى

أهم عامل في تكون المثل المنزل والمدرسة والدين، فتربية الناشئ المنزلية، وما يسمعه من أبويه، والنظام الذي يسير عليه بيته وما يراه في المدرسة، وما يسمعه من مدرسيه، وما يلزمونه بقراءته من الكتب، وما يحببونه إليه من عظماء الرجال، والدين الذي يتدين به، وما يحويه من نظام، وما يرسمه من شكل الحياة الأخرى، كل ذلك له أكبر الأثر في تكوين المثل الأعلى، وكذلك غرائز الإنسان الطبيعية لها أثر كبير في انتخاب الصورة التي تتخذ مثلا، فالميول الموروثة من شجاعة وهمة أو جبن وخمول تعين على تحديد المثل الأعلى، وهى عامل قوي في تكوينه.

(٤) نمو المثل الأعلى (رقيه وانحطاطه)

يكاد يكون لكل إنسان مثل أعلى ولكن لا يشعر به من أين أتاه، وسبب ذلك أن المثل يتكون مع الإنسان في نشأته وينمو بنموه، فلم يكن شيئا جديدا منفصلا عنه حتى يشعر به، ويعرف متى أتاه، ومن أين جاءه، يتكون المثل جرثومة في أثناء التربية المنزلية، ويكون لما يسمعه من القصص — ولو خرافية — دخل في تكوينة، ثم يتوارد عليه التغير كلما وجد مؤثر جديد، من رواية يقرؤها أو حكاية يسمعها أو تمجيد لعمل عظيم، أو ذم لعمل حقير، وإن في طبيعة الناشئين في أول حياتهم ميلا إلى سماع قصص الأبطال وكبار الأعمال وعجائب الحوادث، وذلك — ولا شك — مما يساعد على تنمية المثل عندهم، فإذا خرج الشاب إلى معترك الحياة كان لتجاربه في عمله، وتبادل الأخذ والعطاء مع الناس ما يحدد غايته في الحياة وينير أمله ويوضح مثله، وباتساع نظر الإنسان في الحياة وكبر عقله، يكمل المثل وتتم أجزاؤه.

وكما أن المثل عرضة للكمال والإتساع كما بينا كذلك هو عرضة للنقص والضيق، فالعمال الذين يقضون حياتهم في عمل يدوي محدود، ثم لا يصادفون بعد قضاء نهارهم ما يفيد عقلهم، أو يوسع نظرهم، يضيق مثلهم، ويتحدد أملهم، وذلك شأن طائفة كبيرة من العمال وكتبة الدواوين الذين لا يؤدون في الحياة غير عملهم الآلي، فلا يرقون مداركهم، ولا يوسعون أنظارهم، وحياتهم ليست إلا يوما واحدا متكررا.

وفي ضيق المثل خطر عظيم، فالمثل هو الذى يبعث في الإنسان روح العمل، ويزيد في نشاطه وقوته، وهو الذى يصحح حكمه على الأشياء، فالإنسان عادة عند الحكم على شىء أو نقده يقيسه بمثله، ثم يحكم بالخطأ أو الصواب، وبالخير أو الشر، فإذا تحدد المثل وضاق قل نشاطه وساء حكمه، وعلى العكس من ذلك إذا ترقى مثله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤