اللغة والكتابة

وفد العبريون من جنوب الجزيرة — على القول الراجح — إلى وادي النهرين، ثم هاجروا من جنوبه إلى شماله، وانحدروا — من ثَمَّ — إلى أرض كنعان، وكانت لهم لهجة من لهجات اللغة السامية الكبرى قريبة من سائر هذه اللهجات التي كان يجري الخطاب بها بين قبائل آرام وكنعان، ويسهل التفاهم بها في جملتها مع اختلاف يسير كاختلاف المتكلمين في القُطر الواحد بين إقليمٍ وإقليم.

ومن الواضح أنهم كانوا يبتعدون عن مصدرهم الأول في اللغة كلما ابتعدوا عن موطنهم القديم في الجنوب، فأصبحوا بعد هجرتهم الطويلة يتداولون من الأسماء والأعلام ما لا يفهمون معناه ولا وجوه تصريفه، وهو في لغة «سبأ» من جنوب الجزيرة مفهوم المعنى والمصدر الذي تصرف منه بلفظه واشتقاقه، ويقول مرجليوت في كتابه المتقدم ذكره عن العلاقة بين العرب وبني إسرائيل: «ومن المحقق أن هذه الكلمات لم تأتِ من فلسطين إلى سبأ، ولعلها قد جاءت من سبأ إلى فلسطين.»

ولم تزل لهجة العبريين تنعزل عمَّن حولها كلما أمعنوا في اعتزال الأمم بعبادتهم واعتقادهم التفرد بينها بنعمة الله ورجائه، بل باعتقادهم أن «يهوا» إنما يحقق لهم ذلك الرجاء بتدمير جيرانهم وتمكينهم من رقابهم، فلا سبيل إلى المشاركة باللغة مع هذا الحاجز القائم بين الفريقين، وأصعب ما يكون التفاهم باللغة حين تُستخدم هذه اللغة في العبادة والشعائر المقدسة حين تكون العبادة والشعائر حكرًا لمن يدينون بها ولا يقبلون من غيرهم أن يشاركهم فيها.

وقد تحجرت اللغة العبرية في هذه العزلة، واستطاعت مع هذا التحجر أن تعيش في عصر المملكة وفي إبان الشوكة والسيادة برعاية الملوك والكُهَّان، ولكنها كانت تعيش في الهيكل وتوابعه من «الكنيسات» التي يشرف عليها الأحبار المتعلمون المزوَّدون بالثقافة، وكان أصحابها يتكلمون مع غيرهم خارج المعابد فيُضطرون إلى مخاطبتهم تارةً باللهجات السامية الأخرى وتارةً باليونانية العامية، وقد يتعلمها بعضهم ويتعلم الكتابة بها على خلاف هوى المتعصبين من الهيكليين والغلاة.

وكانت هذه العبرية — حين تحجرت ووقفت عن التطور — لهجة ساذجة قليلة العدة ناقصة التصريف، ويقول فولتير في المعجم الفلسفي تحت كلمة آدم: «إنه من المحقق أن اليهود كتبوا قليلًا جدًّا وقرءوا قليلًا جدًّا، وكانوا على جهلٍ شديدٍ بعلوم الفلسفة والهندسة والجغرافية والطبيعيات؛ فلم يعرفوا شيئًا من تواريخ الأمم ولم يأخذوا في التعلم إلا بعد اتصالهم بالإسكندرية حيث شرعوا في اقتباس المعرفة، وكانت لغتهم البربرية مزيجًا من الفينيقية القديمة والكلدانية المشوهة، وبلغ من فقرها أنها لا تحتوي كثيرًا من الأزمنة في أفعالها.»

ومن المسلَّمات المفهومة بين العارفين بالعبرية والعارفين بتاريخها أنها أخذت من اللهجات السامية ولم تعطِها شيئًا جديدًا من فنون التطور في قواعدها أو آدابها؛ فوقفت حيث بدأت وتركتها اللهجات السامية واقفة في مكانها وهي تتطور وتترقى إلى الشأو الذي بلغته في الأزمنة الحديثة، ولم يكد عصر المملكة اليهودية أن ينقضي حتى كانت اللغة العبرية منقضية بين أهلها في الخطاب وفي الكتابة ما خلا الصلوات والعبادات، ثم انهزمت بين جدران المعابد وعلى ألسنة الأنبياء والكُهَّان، وخلفتها اللغة الآرامية في معاملات الدين ومعاملات المعيشة اليومية، ثم مضى العصر بعد العصر إلى زماننا هذا فأصبح قُرَّاء التوراة بالعبرية أقل عددًا من قُرَّائها بأصغر اللغات.

ولا يُعزى هذا إلى مجرد سقوط الدولة اليهودية ولا إلى نقصٍ في عدد العبريين الذين يدينون بكتبهم المقدسة؛ فإن الدولة الآرامية في وادي النهرين سقطت وسقطت بعدها دول الآراميين المتفرقين بين أنحاء البادية، ولم تزل لغتهم الآرامية تنتشر وتتغلب على نظائرها من اللهجات السامية واللهجات الأجنبية التي تسربت إلى مواطنها من سائر الأقطار، وإنما يُعزى سقوط العبرية إلى عجزها عن «الإنتاج» الذي ينفع الناس، فلم يكن عندها ما تعطيه ولم تكن وعاءً صالحًا يستودعه خُدَّام الفكر والمعرفة ما يعطون.

•••

أما الكتابة فهي أبرز المسائل التي تُمتحن بها قدرة العبريين في تاريخهم القديم على الإنتاج والتصرف في شئون الفكر والثقافة، وهي كذلك من أبرز المسائل التي تُمتحن بها بواعثهم الفكرية التي تدعو الأمة المنتجة إلى اختراع الوسيلة للإفضاء بما عندها لسائر الأمم من رسالات الإنسانية وأماناتها.

أقام العبريون في مصر عدة قرون وأقاموا في سيناء عدة سنين.

وفي مصر — كما هو معلوم — كانت نشأة الكتابة بالصور، وفيها تطورت من الكتابة التصويرية إلى الكتابة المقطعية، ثم تطورت من الكتابة بالمقاطع إلى الكتابة بالحروف التي يستقل كل حرف منها بصوتٍ يدل عليه في كل كلمةٍ مكتوبةٍ.

ولقد كان ينبغي أن يسبق العبريون غيرهم من القبائل السامية إلى اقتباس الكتابة على أنواعها، سواءٌ أكانت بالصور أم بالمقاطع والحروف، بل كان ينبغي أن تكون ألواح الشريعة التي تلقَّوها في سيناء باعثًا لهم على استكشاف الألواح المكتوبة في مناجمها بما عليها من الخطوط والحروف.

ولكن الواقع الذي يسجله تاريخ الكتابة أنهم لم يبتدئوا قط عملًا من أعمال اقتباس الكتابة، ولا من أعمال ترقيتها ونشرها، ولا من أعمال التوفيق بينها وبين مخارج النطق في كلماتهم الملفوظة، وإنما كانوا في كل مرحلة من هذه المراحل مستنفدين يأخذون مما سبقهم ويتحجرون عليه، حتى تقسرهم على تغييره ضرورات المعاملة فيسري التغيير قهرًا — مع الزمن — إلى كتابة الشعائر والعبادات.

فالكلمات العبرية التي وُجدت في رسائل أمراء فلسطين إلى فرعون مصر منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد كانت تُكتَب بالحرف المسماري، كما حقق ذلك الأستاذ جمن Gimmun من أساتذة دار الفنون بليبزج.

ثم وُجدت حروف عبرية تشبه الحروف التي وُجدت على ضريح ميشاع ملك موآب.

وظل العبريون يكتبون بهذا الحرف إلى أيام سبي بابل، فنقلوا الحروف المربعة عن الحروف البابلية، وزادوا عليها حروف الحلق التي كانت شائعة على ألسنة الساميين بين بابل وكنعان — وكلها من مصدرٍ عربيٍّ كما لا يخفى — لاختصاص النطق العربي بأكثر هذه الحروف.

وقد حفظ لنا المزمور التاسع عشر بعد المائة أسماء الحروف التي احتوتها الأبجدية العربية على عهد المملكة؛ لأنه جرى على طريقة التطريز في ابتداء كل مقطوعة بحرفٍ من الحروف الأبجدية، وهي في هذا المزمور على ترتيب «أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت»؛ اثنان وعشرون حرفًا، منها خمسة يتغير نطقها بإغفالها من الإعجام أو ينقلها من اليمين إلى اليسار، وهي: الجيم والواو والكاف والشين.

ومن آثار الاقتباس من النطق العربي أن حرف الغين لم يكن موجودًا بين حروف المزمور، فلما وُجد بعد اختلاطهم بمن ينطقون العربية أضافوه وسموه غيمل أي: على وزن جيمل. ويُلاحَظ أن «جيمل» بمعنى جمل عندهم، أما غيمل فلا معنى لها غير المحاكاة اللفظية، وإنما قاسوها إلى أقرب المخارج فكتبوها كما تُكتَب الجيم وحذفوا نقطة الإعجام للتمييز بينهما.

ولم يكن في نطقهم تمييز واضح بين الخاء والكاف، فلما كثر التمييز بينهما على أسماعهم أيام تعلموا الكتابة، جعلوا للخاء حرفًا سمَّوه الخاف على وزن الكاف، وكتبوه كما تُكتَب الكاف بعد حذف نقطة الإعجام.

ولما اتصلوا بأعاجم الشمال الذين ينطقون الواو «فاءً» كما يقول بعض الطورانيين «فلا الضالين» بدلًا من «ولا الضالين»، نطقوها مثلهم وجعلوا لها حرفًا كالواو في رسمه بعد حذف نقطة الإعجام.

كذلك أخذوا السين الآرامية المسماة بالآرامية سمخ حين كتبوا بهذه اللغة؛ لورودها في كلماتٍ كثيرةٍ من أسفار التوراة، وهذا مع احتفاظهم بالسين، لاختلاف النطق قليلًا بين اللهجتين في أحرف الذلق وأحرف الصفير.

وليس في العبرية ثاء ولا ذال ولا ضاد ولا ظاء، ولكنهم يقربون حروفهم منها بالتفخيم أو يكتفون بما يشابهها من حروفهم فيحدث الالتباس أحيانًا في نقلها إلى العربية؛ ويشتبه الأمر في البحث عن مصدر الكلمة من جراء هذا الالتباس، كما يحدث في كلمة الناصرة هل هي من النصر أو من النذر أو من النظر …؟ وكلها مميزة المعاني والمخارج في العربية ملتبسة كما نرى في العبرية، ويزيد الالتباس أن البلدة كانت قريبة من موقع نصر وكانت مسكنًا للكثيرين من المنذورين للعبادة، وكانت مرقبًا يسهل النظر منه إلى ما حواليه.

وقد نُقِّحَت الكتابة العبرية مرةً أخرى حوالي عصر الميلاد على هدى الكتابة الآرامية، فلم تنجع الحيل في إحياء هذه اللغة التي قُضِي عليها بالموت لعزلتها وفراغها من مادة البقاء التي تكفل الحياة للغات بما تؤديه للعالم من رسالةٍ إنسانيةٍ وعقيدةٍ عامةٍ، ثم هدم الرومان هيكل بيت المقدس فتفرق الكُهَّان في الأرض واتخذوا اليونانية لغة لهم في مصر وأوروبة، واعتمدوا على ترجمة التوراة إليها أو إلى الآرامية للذين تخلفوا عن الهجرة إلى بلادهم، وقد شاعت يومئذٍ تسمية الآرامية بالسريانية للتفرقة بين المتكلمين بها من المسيحيين، والمتكلمين بها من أبنائها الذين لم يدخلوا في المسيحية، ثم اندمجت السريانية المتطورة بعد ذلك في العربية القرشية على أثر ظهور الإسلام.

•••

ولما كان القرن العاشر للميلاد أيقن أحبار إسرائيل ورؤساؤهم بضياع العبرية وقلة صلاحها للبقاء بالتعليم والتلقين في نطاق المعابد المحدودة، فإنها لم تكن صالحة على حالتها في ذلك العهد للتعليم؛ لخلوِّها من القواعد والأصول التي تحفظ اللغة من جيلٍ إلى جيل … فرجع الأحبار إلى النحو العربي يقيسون عليه ويستعيرون منه: وكتبوا «آجُرُّوميَّتهم» الأولى باللغة العربية مقرونة في بعض الأحيان بالترجمة العبرية، وكان أول مَن اجتهد منهم في تحرير كلماتها وجمعها سعيد بن يوسف الفيومي — أو سعديا — صاحب معجم الأجارون وكتاب الفصاحة (٨٩٢م)، وتلاه الرباني بن تميم البابلي، والرباني يهودا بن قريش، والرباني مناحم بن سروت الأندلسي، والرباني سكوم بن جبيرول، وغيرهم وغيرهم من تلاميذ العرب في المغرب ومصر والعراق.

•••

وتتلمذ القوم على العرب في علم الكلام الإسرائيلي أو فلسفة اللاهوت، فكان كلٌّ من فيلسوفهم ابن جبيرول (١٠٢١–١٠٥٨) الملقب بأفلاطون اليهود، وابن عزرا الغرناطي (١٠٧٠–١١٣٨) صاحب الغزل الصوفي، وابن ميمون أرسطو اليهود (١١٣٥–١٢٠٤)؛ تلاميذ للمدرسة الرشدية بالأندلس. وكان ابن ميمون يرى — كما قال — أن وصايا الناصري ورجل إسماعيل — يعني محمدًا عليه السلام — تهدي الإنسان إلى الكمال؛ ولهذا ثار عليه المتعصبون من قومه وسمَّوا كتابه دلالة الحائرين بضلالة الحائرين، وأول هؤلاء — ابن جبيرول — وضع منظومة في النحو العبري على مثال النحو العربي فيما عدا قواعد الإعراب؛ لأن الكلمات العبرية إما ساكنة أو مبنية، لا تجري في تحريك أواخرها على قواعد الآرامية ولا على قواعد العربية الحديثة.

وأهم كتبه في اللاهوت «ينبوع الحياة» منظور فيه إلى التصوف الإسلامي في كثير من التفصيلات.

•••

ولم ينبغ بين اليهود من الفلاسفة العالميين مَن هو أشهر من باروخ سبنوزا (١٦٣٢–١٦٧٧) الذي نشأت أسرته في البلاد الألمانية، وتوفر في صباه على دراسة كلٍّ من ابن ميمون وابن عزرا، ثم خلفه المشتغلون بالفلسفة من اليهود بعد ظهور الفلاسفة الكبار من الألمان، فكان القوم كعادتهم مستفيدين في هذا الفرع الواسع من فروع الثقافة الإنسانية، كشأنهم في كل ثقافة تلقوها بين الأقدمين والمحدثين.

وكانوا حيثما اشتركوا مع العرب في ناحيةٍ من نواحي المعرفة والعقيدة تابعين مسبوقين، ولم يكونوا قط سابقين لهم أو مرشدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤