الشعر

إذا كان في نشأة الشعر العربي من الحداء بعض الشك، فليس هنالك أقل شك في الصلة الوثيقة بين الحداء والشعر في تطور تركيبه وتوفيق أوزانه وتقسيم أعاريضه؛ لأن أوزان الشعر التي نظَم فيها شعراء الجاهلية تنتظم فيها الأعاريض جميعًا مع حركة من حركات الإبل في السرعة والأناة، فلا خفاء بهذه الحركة السريعة في هذا البيت:

أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب

ولا خفاء بالحركة المتمهلة في هذا البيت:

ما للجِمال مشيُها وئيدًا
أجندلًا يحملن أم حديدًا

ولا خفاء بحركة الإبل على اختلافها وما يناسبها من أوزان الحداء في كل بيت ينتظم من أمثال هذه التفاعيل.

والحداء نفسه مناسبة شعرية تستوحي الغناء في ليالي البادية القمراء، بين الحنين إلى الموطن الذي بارحه الركب، والأمل في المنتجع الذي يتنقل إليه، وليس لترديد الغناء — بمعانيه الشعرية — مجال أقرب إلى الحياة البدوية وألصق بها من مجال الحداء.

فلا نزاع في الصلة الوثيقة بين الحداء ووزن الشعر العربي، فإن لم يكن كل ما نظمه العرب حداءً يتغنى به الحداة فعلًا، فهو وزن لا يخالفه ولا ينفصل عن نغماته وأعاريضه.

والمرجح إلى جانب هذا أن حداء الإبل كان له عمله المحسوس في التزام القافية، سواء بدأت القافية في سجع الكُهَّان كما يرى الكثيرون، أو كان ابتداؤها في غناء الحداة.

فالمشاهَد من أشعار الأمم في لغات متعددة أن القافية تلتزم في الشعر المنفرد، أي: الشعر الذي يتغنى به ناظمه وراويه، ويصغي إليه المستمعون دون أن يشتركوا في الغناء، ويُلاحَظ هذا في أغاني المنشدين الحماسيين أو المتغزلين التي يسمونها Ballads «بللاد» في بعض اللغات الأوروبية، كما يُلاحَظ في الموشحة Sonnet التي يتغنى بها العاشق لمعشوقته في البلاد اللاتينية حيث كان منشؤها الأول، وقيل: إنهم استعاروها من الموشحة العربية.

وتُهمَل القافية غالبًا في أناشيد الجماعات، سواء كانت مسرحية أو دينية كما يُرَى في أناشيد اليونان والعبريين، وسر ذلك ظاهر لمَن يريد أن يختبره في حالة الإصغاء، أو حالة الاشتراك في الغناء …

فإن السامع المصغي إلى ترتيل غيره يحتاج إلى تنبيه السمع وانتظار مواضع الوقوف والترديد، فيعرفها من القافية المتتابعة في مواضعها.

أما المنشد المشترك في الغناء، فهو يعلم مواضع الإيقاع ومواضع الابتداء والانتهاء، فيغنيه الاشتراك في الإيقاع عن انتظار مواضع الوقوف، وعن تنبيه غيره له بالقافية إلى تلك المواضع، وقد نتبين هذا الفارق فيما ننشده بأنفسنا ولو كان من الكلام المنثور؛ فإننا نتبع الوزن في هذه الحالة ولا يعنينا أن نترقب القافية، بل لا يعنينا أن نترقب شيئًا غير الاسترسال في النغم إلى نهاية الكلام، كيفما كان منتهاه مقفًّى أو بغير قافية، شأنه في ذلك شأن اللحن الموسيقي الذي خلا من الكلمات، فلا يُلتَفت فيه إلى غير امتداد النغمة حسب أوزان الإيقاع.

وكثيرًا ما خطر لنقاد الغرب أن هذه القوافي والبحور في وزن الشعر خاصة من خواص الأمزجة السامية، خالف الساميون بها الأوروبيين لمخالفتهم إياهم في تكوين الفطرة وخصائص العناصر البشرية.

لكنهم فهموا بعد تواتر البحث في أشعار اللغات السامية أن القافية غير ملتزمة في جميع تلك اللغات، وأن كثيرًا من الشعر المنظوم فيها خالٍ من البحور والأعاريض ذات التفعيلات المتكررة، كأنه فواصل النثر التي تنقسم إلى جمل متقاربة، ولا تنقسم إلى شطور متساوية في حركات الأسباب والأوتاد على اصطلاح العَروضيين.

فلا بد إذنْ من البحث عن سبب غير الأمزجة العنصرية، ولا بد أن يكون اختلاف الإنشاد هو سبب هذا الاختلاف بين العرب وسائر الشعوب السامية؛ فإن شعوب وادي النهرين ألفت أناشيد الكُهَّان في الهياكل فترخصت في القافية كما ترخصت فيها الشعوب الآرية التي يتغنى فيها الناس مجتمعين، وقد ألف العبريون العبادة معًا منذ كانوا قبيلة واحدة تنتقل بحذافيرها، وتبتهل بحذافيرها إلى معبودها في حظيرةٍ واحدةٍ، ولم تألف قبائل البادية العربية نوعًا من أنواع الأناشيد المجتمعة؛ فغلبت على شعرها أوزان القصيد المفرد وقوافيه.

ويرى بعض علماء اللغات السامية أن الكلمة التي تفيد معنى الشعر فيها واحدة مأخوذة من أصلها العربي مع قليل من التحريف طرأ عليها بعد انتشار الساميين في وادي النهرين وبادية الشام وأرض كنعان. ويقول العالم القس الأب مرمرمجي في كتابه المعجميات: «إن لفظة الشعر كانت تدل قديمًا على الغناء وإن لم ترد بهذا المفهوم في المعاجم التي بين أيدينا، ويمكن الاستدلال على ذلك بوسيلة المقارنة الألسنية السامية؛ إذ إننا نجده في أقدم اللغات السامية من حيث الآثار المكتوبة — أي اللغة الأكدية — كلمة (شيرو) الدالة على هتاف الكُهَّان في الهياكل، ومن الأكدية انتقلت اللفظة إلى العبرية بصورة (شير، وشيره) ومعناها النشيد، ومنها صيغ الفعل المرتجل (شير) بمعنى أنشد وغنى، ثم إلى الآرامية بصورة (شور) بمعنى أنشد، رنم، غنى؛ ومن ذلك جاء اسم سفر من أسفار العهد القديم وهو (شير هشيريم) أي: نشيد الأناشيد، وقد ورد الفعل العبري (شير) في أقدم أثر للغة العبرية وهو نشيد النبية دبورت، يليه مرادفه (زامر) وكلاهما بصيغة الحاضر (اشيره) أي: أنشد وأزمر. والجدير بالملاحظة كما أشار إلى ذلك لانجدون Langdon أن العبارة الأكدية (زامار شيري) تطابق كل المطابقة العبارة العبرية (مزمورشير) ومفرداههما في العبرية (مزمور، نشيد، أو شعر) … هذا ومعلوم أن أغلب الأحرف الحلقية — ومنها العين — قد سقطت في الأكدية، أو أنها كانت تُلفظ دون أن تمثلها علامة في الكتابة؛ لأن الرسم المسماري المستعار للأكدية السامية من الشمرية غير السامية كان خاليًا من العلامات للحلقيات، لخلوِّ الشمرية منها؛ ولهذا جاز لنا افتراض أن كلمة (شيرو) كان أصلها أو لفظها (شعرو) إلا أنها ولجت العبرية والآرامية وهي خلو من العين كما كانت مصورة في الرسم المسماري، أما العربية فقد ظهرت أو بقيت فيها العين الأصلية … على أن العربية والعبرية قد احتفظتا بالكسرة المحرَّكة بها الشين في الأكدية (شيرو)، فجاء في العبرية (شير) وفي العربية (شعر)، والكلمة (شيرو) مشتقة حسب معناها في الأكدية والعبرية، أي: معنى الهتاف ثم الغناء …»

ولا غرابة في أن تكون كلمة (الشعر) في لغة الجزيرة سابقة لمرادفاتها في وادي النهرين وأرض كنعان؛ لأن الجزيرة كانت مصدر الهجرات المتوالية إلى تلك المواطن كما تواتر في أشهر الأقوال.

على أن المعلوم لنا الآن من أطوار الشعر في اللغات السامية أنه تحول في الآرامية والعبرية من الفقرات المسجوعة على نحو أسجاع الكُهَّان إلى السطور المتوازية على نسقٍ قابل للترنم والإنشاد، ثم توقف به التطور عند هذه المحاولة لارتباطه بالشعائر الدينية. وهذا بينما تطور النظم في بلاد الجزيرة العربية حتى أصبح (فنًّا) مميزًا بأوزانه وأقسامه التي تُعرَف بأسمائها دون أن تُنسَب إلى ناظمٍ معلومٍ، على حين أن القصائد العبرية لا تُعرَف باسمٍ فنِّي يدل عليها، وإنما تُعرَف بأنها قصيدة كالتي نظمها هذا الشاعر أو ذاك من شعرائهم المشهورين، وتُميَّز بعلامات خاصة ولا تُميَّز على قاعدة عامة تُغنِي عن الإشارة إلى ناظميها.

وبعض اللهجات السامية توقفت عند السطور المتوازية، ولم تتطور بها إلى تقسيم الأوزان والتفاعيل الواضحة؛ فكان كثير من شعرها يخلو من التفاعيل والقوافي اعتمادًا على مضاهاة السطر بالسطر والترنيم بالترنيم.

يقول الأستاذ جلبرت موري في بحثه عن الأوزان والأعاريض: «إن إحدى نتائج هذا الاختلاف وزيادة الاعتماد على القافية في اللغات الحديثة؛ ففي اللغتين اليونانية واللاتينية يَنظمون بغير قافية لأن الأوزان فيهما واضحة، وإنما تدعو الحاجة إلى القافية لتقرير نهاية السطر وتزويد الأذن بعلامة ثابتة للوقوف، وبغير هذه العلامة تثقل الأوزان وتغمض، ولا تستبين للسامع مواضع الانتقال والانفصال، بل لا يستبين له هل هو مستمع لكلامٍ منظومٍ أو كلامٍ منثورٍ، وقد اختلف الطابعون هذا الاختلاف في بعض المناظر المرسلة من كلام شكسبير، فحسبها بعضهم من المنثور وحسبها الآخرون من المنظوم. ومما يُلاحَظ أن اللاتين اعتمدوا على القافية حين فقدوا الانتباه إلى النسبة العددية … وأن الصينيين يحرصون على القافية لأنهم لا يلتزمون الأوزان، وأن انتشار القافية في أغاني الريف الإنجليزية يقترن بالترخص في التزام الأعاريض.»

ويستطرد العلَّامة الناقد الأديب إلى الشعر الفرنسي فيقول: «إن اللغة الفرنسية حين رجع فيها الوزن إلى مجرد إحصاء المقاطع وأصبحت المقاطع بين مطولة وصامتة … نشأت فيها من أجل ذلك حاجة ماسة إلى القافية؛ فصارت في شعرها ضرورة لا محيص عنها، ودعا الأمر إلى تقطيع البيت أجزاءً صغيرةً ليُفهَم معناه.»

ومن أسباب الاكتفاء بالوزن دون القافية في أشعار الغربيين ذلك السبب الذي ذكرناه آنفًا ولم يذكره العلامة جلبرت موري: وهو غناء الجماعة للشعر المحفوظ الذي يحفظه المغَنُّون جميعًا بفواصله ولوازمه ومواضع النبر والترديد في كلماته وفقراته؛ فإنهم في هذه الحالة ينساقون مع الإيقاع بغير حاجة إلى القوافي عند نهاية السطور؛ ولهذا نرى أن شعراء هذه اللغات بعينها يلتزمون القافية في أناشيد الأفراد ويكثرون من القافية في المقطوعات التي يرتلها المنشدون المعروفون باسم Bards أو اسم Minstrals وكلهم يرتلون أو يترنمون بما ينشدون … فلا شعر في لغةٍ من اللغات بغير إيقاع، وقد يجتمع كله من وزن وقافية وترتيل في القصيدة الواحدة، ولكنه اجتماع نادر في لغات العالم ميسور في لغةٍ واحدةٍ على أكمل الوجوه؛ لامتيازها بالخصائص الشعرية الوافرة في ألفاظها وتراكيبها وهي اللغة العربية.

فالكلمات نفسها موزونة في اللغة العربية، والمشتقات كلها تجري على صيغ محدودة بالأوزان المرسومة كأنها قوالب البناء المعدة لكل تركيب، وأفعال اللغة مقسومة إلى أوزان مميزة في الماضي والمضارع والأمر، وفي الأسماء والصفات التي تُشتَق منها على حسب تلك الأوزان، ولا نظير لهذا التركيب الموسيقي في لغةٍ من اللغات الهندية الجرمانية ولا في كثيرٍ من اللغات السامية؛ فالذي يميز اسم الفاعل وزن متفق عليه في الأفعال الثلاثية والأفعال الرباعية أو الخماسية، ولكنه في اللغات الأوروبية يأتي بإضافة حروف لا يُعرَف لها وزن مقرر قبل الإضافة ولا بعدها.

ويجب أن لا نتعجل فنحسب أن هذا الفرق في الخصائص الموسيقية يرجع إلى الاختلاف بين الأمم الآرية والأمم السامية — كما توهم بعض المستشرقين وبعض المتعجلين من كُتَّابنا الشرقيين.

فاللغة العبرانية — كما أسلفنا — لغة سامية في أصولها، ولكنها — على ما رأينا — خالية من الوزن والقافية، وتستعيض منهما بالأسطر المتوازية والكلمات المترددة بين السطر الأول وما يليه. وقد كان العبريون يجهلون فنون العَروض عندهم حتى انكشفت للباحثين اللاهوتيين بعد ترجمة التوراة والإنجيل واطلاع علماء اللاهوت على أصول اللغات التي كُتبَت بها أسفار العهدين القديم والحديث، فانكشف للأسقف لوث Lowth في القرن الثاني عشر أن أشعار الكتابين لا تجري على وزنٍ محدودٍ، وأن قوام الشعر عند العبرانيين سطر يرددونه لأغراضٍ ستة، وهي: المجاز والاستطراد والتفسير والمبالغة والمقابلة والمقارنة.

ومن أمثلة الترديد لمقابلة المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي قول المزامير: «من السيف أنقذ نفسي، ومن يد الكلب أنقذ وحيدتي.»

ومن أمثلة الترديد للاستطراد قول أيوب: «هناك يكف المنافقون عن الفتنة، وهناك يكف المتعبون فيستريحون.»

ومن أمثلة الترديد للتفسير قول المزامير: «مَن هو الإنسان الخائف من ربه؟ هو الإنسان الذي يهديه الرب إلى طريقٍ يرتضيه.»

وهكذا سائر الأمثلة في الأسطر المتوازية وإن زادت على سطرين، وقد تزيد بعدد الحروف الأبجدية على طريقة التطريز في اللغة العربية، كما يُلاحَظ في وزن المزمور التاسع عشر بعد المائة فإنه يتألف من اثنين وعشرين حرفًا — عدد أحرف الأبجدية — كل حرف منها يقترن بسطرٍ من المزمور.

وعلى هذه القاعدة بُني النظم في العبارات الموقعة التي ترددت في العهد الجديد، وقد أتينا بأمثلة منها في كتابنا «عبقرية المسيح» نكتفي منها بهذا المثل من وصايا السيد المسيح:
  • اسألوا تعطوا.

  • اطلبوا تجدوا.

  • اقرعوا يُفتَح لكم.

  • لأن مَن يسأل يأخذ، ومَن يطلب يجد، ومَن يقرع يُفتَح له الباب.

  • مَن منكم يسأله ابنه خبزًا فيعطيه حجرًا؟

  • ومَن منكم يسأله سمكة فيعطيه حية؟

  • أو يسأله بيضة فيعطيه عقربًا؟

  • فإذا كنتم وأنتم أشرار تحسنون العطاء للأبناء، فكيف بالأب الذي في السماء؟

•••

فالخواص الشعرية التي امتازت بها لغتنا العربية ليست من خواص اللغات السامية، وليس لها نظير في العبرية ولا في الكلدانية ولا في معظم اللهجات التي تفرعت على أصول الكلام عند الساميين، ولكنها خواص ممتازة تنفرد بها هذه اللغة لأسبابٍ كثيرة لا داعي لإحصائها في هذا المقام، ولا نحب أن نعرض منها للأمور التي يطول فيها الجدل وتضطرب فيها منازع الآراء والأهواء؛ إذ كان امتياز الحروف العربية بالدلالة على الحساسية الموسيقية حقيقة ملموسة لا محل فيها للمحال؛ فالأذن العربية تميز بين الظاء والضاد، وبين الذال والدال، وبين الحاء والخاء والهاء، وبين الصاد والسين والشين، وبين الجيم والغين والعين، وبين القاف والكاف والخاء، وقلما يميز الناطقون باللغات الأخرى بين هذه الحروف، وإذا وُجدت في تلك اللغات حروف لا تُنطَق بالعربية كالفاء والباء الثقيلتين، فهما في الواقع حرف يصدر من مخرجٍ واحدٍ بين التخفيف والتثقيل، وليست ذات قيمة موسيقية مستقلة كالحروف التي ذكرناها في اللغة العربية.

ومن العلامات الموسيقية المركبة في بنية الكلمة أننا نميز بين الحركة وحرف العلة على خلاف اللغات غير السامية، فعندنا الواو والضمة، وعندنا الياء والكسرة، وعندنا الألف والفتحة، وعندنا السكون وما يشبهه من التنوين … وأدل من ذلك على الموسيقية الطبيعية بناء المشتقات على الأوزان واختلاف معنى الكلمة باختلاف الصيغة التي تُبنَى عليها.

ويماثل هذا من الدلائل البدائية التي تُحسَب من حروف الأبجدية في علم الموسيقى أن الغربيين يسقطون (الكوما) من الأصوات المحسوسة، وأن الموسيقى الشرقية تحسب الصوت الذي يُسمَع من ربع (الكوما) وهو همزة تأتي من نصف ملِّيمتر في الوتر الذي يبلغ طوله مترًا كاملًا؛ وتُسمَّى لهذا في اصطلاحهم بالذرة الموسيقية.

•••

ونستخلص مما تقدم أن فن الصياغة الشعرية سلك في تطوره ثلاثة مسالك متفاوتة في أمم شرقية وغربية لا تنتمي إلى سلالةٍ واحدةٍ، وبينها من الاختلاف كما بين الصين وأوروبة الحديثة، أو كما بين الشعوب السامية واليونان في العصور الغابرة.

ففي بعض الأمم يتوقف هذا الفن عند السجع الذي يتردد في الفقرات القصيرة كسجع الكُهَّان، فإذا طالت القصيدة روعي فيها تنسيق الأسطر المتوازية يترنم بها الجماعة في أناشيد العبادة أو التمثيل ولا تُراعَى فيها القافية.

وفي أممٍ أخرى تُراعَى القافية ولا يُراعَى الوزن إلا بالمقدار الذي يسمح بمساوقة الغناء والترتيل، ويُلاحَظ أن شعوب الصين التي غلب عليها هذا التطور وظهرت القافية في صياغة شعرها قد عرفت الجَمل والخيمة، ولا يزال مسكنها المعروف ﺑ «الباجودا» مبنيًّا على أشكال الخيم البدوية وأوضاعها.

وفي الأمة العربية وحدها تم التطور فانتظم الوزن بتفعيلاته وأسبابه وأوتاده وروعيت فيها القافية، وقامت صياغة الشعر فنًّا خالصًا مستقلًّا عن الغناء، يُعرَف بأسماء بحوره وقواعد أوزانه، ولا يلحق بشخص هذا الناظم أو ذاك في تعريف أساليبه وتمييز أقسامه.

ولا يُعزى هذا الفارق النادر إلى الحداء وحده أو إلى انفراد الحادي بالغناء، بل يُعزى إليهما معًا مقترنين بتلك الحساسية السمعية التي تفرق بين مخارج الحروف ودقائق النغم، وهي مشتركة غير مميزة في لغاتٍ كثيرةٍ.

ولسنا هنا بصدد البحث في موضوعات الشعر ولا في مذاهب الشعر؛ فإنه معرض من البحث لا سبيل فيه إلى ترتيب السابق والمسبوق، إنما يعنينا السبق المحقق بشواهد الحس والواقع، وهو السبق إلى فن الصياغة الشعرية، فلا نزاع هنا في تطور هذا الفن بين عرب الجزيرة قبل تطوره بين العبريين من القبائل السامية، وبين اليونان من الشعوب الهندية الجرمانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤