الفصل الثاني

القديس أوغسطين

(٣٥٤–٤٣٠)

(١) حياته

(أ) ولد في طاجسطا من أعمال نوميديا (الآن سوق الأخرس من أعمال الجزائر) من أب وثني وأم مسيحية سجلت اسمه في عداد المرشحين للعماد، ونشأته على محبة المسيح، وتضلع من اللاتينية حتى افتتح في قرطاجنة، وهو في التاسعة عشرة، مدرسة لتعليم البيان، في ذلك الوقت قرأ كتابًا لشيشرون اسمه «هورطانسيوس» (وقد ضاع فيما بعد) كان كاتبه يقرظ فيه الفلسفة ببلاغته المعهودة، فيصورها مدرسة علم وفضيلة، ووسيلة الحياة السعيدة، فاندفع في طلب الحقيقة، حقيقة مصير الإنسان، فقرأ الكتاب المقدس، رجاء أن يجدها فيه، كما تعلم من أمه، ولكن الكتاب لم يجد إلى نفسه سبيلًا: كان أوغسطين متشبعًا بالأدب اللاتيني فلم تعجبه لاتينية الكتاب، وكان متعلقًا بالدنيا ومتاعها فلم تهزه مبادئه، على أنه ظن أنه وجد ضالته في المانوية، فانضم إليها وهو يعتقد أنه لا يزال مسيحيًّا كأمه، لما كانت تبدو فيه المانوية من مظاهر مسيحية، إيمانًا، وعبادة، وإدارة.

(ب) ودفعه طموحه صوب روما، فأنشأ فيها مدرسة للبيان، وفيما هو في ذلك عرض للمسابقة منصب أستاذ للبيان في ميلانو، ففاز به، قصد إلى مقره الجديد، وأخذ يختلف إلى الكنيسة الكاثوليكية ويستمع إلى عظات أسقف المدينة، القديس أمبرواز، وكانت تدور على شرح الكتاب المقدس والرد على المانويين وغيرهم من المبتدعة، فوجد أن الكاثوليك أحسن عرضًا للكتاب ودفاعًا عنه، فتراخت علاقته بالمانوية حتى قطعها بعد أن ظل «سمَّاعًا» فيها سنتين،١ ولكنه لم يدر إلى أين يتوجه، فقد كان قرأ كتابًا آخر لشيشرون هو «المقالات الأكاديمية» أي الأكاديمية الجديدة بعد أن حولها الزعماء من مذهب أفلاطون إلى مذهب الاحتمال، فاضطرب لحجج الشكاك، فوقع في أزمة من الشك حادة، غير أن هذا الشك لم يتناول وجود الله وعنايته بالمخلوقات، إذ كان أوغسطين يرى وجود الله أمرًا بديهيًّا أو كالبديهي، فعاد ونظر في الكنيسة فرأى فيها علاماتٍ أربعًا تدل على أنها من عند الله: ففيها تتحقق نبوءات العهد القديم، ويتمثل الكمال الروحي، وتصنع المعجزات، وهي قد انتشرت بالرغم مما لقيت من عنت هائل، فآمن أن النجاة في الكنيسة، ولكن إيمانه لم يبدد شكوكه، فقد كان مترددًا في إمكان اليقين، وفي حل الإشكالات الأكاديمية، وكان مشغولًا بمسألة الشر التي عالجها في المانوية، وكان يعتقد كالمانويين أن كل موجود فهو مادي بالضرورة، فيتوهم الله جسمًا عظيمًا نيرًا لطيفًا للغاية، ويتوهم النفس جزءًا من ذلك الجسم، وكان لكل ذلك حائرًا في أمره مع الدين الذي اقتنع بصحته.

(ﺟ) ودفعة واحدة عرف إمكان اليقين، وإمكان الروحانية، وأن الشر ليس جوهرًا حتى يقتضي صنع الخالق، وإنما هو عدم الخير، عرف ذلك من «بعض كتب الأفلاطونيين منقولة من اليونانية بقلم فيكتورينوس» وقد وقعت بين يديه في تلك الأثناء، كما يخبرنا هو، لم يحذُ حذو ترتوليان، فلم يستنكف من الاستعانة بتلك الكتب، بل اتخذ له مبدأ أنه «إذا قال الذين يسمون فلاسفة شيئًا حقًّا ومطابقًا لإيماننا، وجب أن نأخذه منهم كما يؤخذ الشيء من غاصبه»، شرع إذن يتفهم المسيحية على ضوء ما اهتدى إليه من فلسفة، ويئول هذه الفلسفة على ضوء المسيحية، وهذه نقطة تجب ملاحظتها، فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الأفلاطونية هي التي قادته إلى المسيحية، والحقيقة أنه كان آمن بالمسيحية بناء على ما ذكرناه من علامات أو أدلة، وأن رسائل أفلوطين أفادته في حل مشكلات عقلية كانت تحول بينه وبين فهم المسيحية كما يجب أن تفهم، يؤيد ذلك أنه توهم، عند قراءته الأولى لها، أنه وجد فيها العقائد المسيحية الكبرى، وهي غير موجودة بلا ريب، وأنه إنما فرح بالفلسفة الأفلاطونية لهذا السبب، مما يدل على أنه كان مسيحيًّا بالقلب قبل أن يطلع عليها، وأنه قرأها بهذا الاستعداد، توهم أنه وجد فيها أن الله خالق العالم والنفس، في حين أن أفلوطين يقول بصدور الموجودات عن المبدأ الأول صدورًا ضروريًّا، وتوهم أنه وجد فيها القول بالكلمة، أي بأن المسيح كلمة الله، مع أن الأقنوم الثاني عند أفلوطين، أي العقل الكلي، متمايز من الأول وأدنى منه مرتبة، على أن أوغسطين يستدرك فيقول: إنه لم يقرأ فيها تجسد الكلمة، ولم يجد ذكرًا للبعث، بحيث يمكن القول: إنه أحال أفلوطين مسيحيًّا، لا أنه انقلب أفلوطينيًّا.

(د) وقصد إلى الريف مع بعض الأصدقاء، بغية النظر في أمر نفسهم في عزلة وهدوء، وقضوا بضعة أشهر يفكرون ويتباحثون، استأنف مطالعته للكتاب المقدس، فوجد فيه هذه المرة ما لم يجده في المرة الأولى وما لم يجده عند الأفلاطونيين، وجد المسيح المُخَلِّص، والنعمة الإلهية التي تعيننا على فعل الخير والتغلب على الشر، ووفد عليهم ذات يوم زائر كريم حدثهم عن حياة الرهبان في مصر وغيرها، وما يتجشمون من ألم وحرمان في سبيل الكمال الروحي، وعن آلاف الناس من جميع الطبقات والأعمار الذين يزهدون في الدنيا ويتبعون دين المسيح، وفي مقدمتهم ذلك العالم الكبير فيكتورينوس، فخجل أوغسطين من تردده واستصغر نفسه، وخرج إلى الحديقة وهو في صراع عنيف مع أهوائه، وإذا بصوت يغني في الجزيرة ويكرر القول: «خذ واقرأ»، فبدا له أن أمرًا إلهيًّا صدر إليه، فتناول رسائل القديس بولس، وكانت على مقربة منه، وفتحها اتفاقًا وقرأ، فإذا الأهواء تسكن، وإذا قلبه يفيض نورًا واطمئنانًا، فوضع نفسه بين يدي الله بغير تحفظ ولا رجعة، وذهب إلى القديس إمبرواز وقبل منه المعمودية، وكان في الثالثة والثلاثين.

(ﻫ) وعاد إلى طاجسطا مع بعض أصدقائه، وعاش وإياهم عيشة الرهبنة ثلاث سنين، ثم طلب أهل إيبونا «من أعمال نوميديا» سيامته كاهنًا يرعاهم، فأجابهم الأسقف إلى طلبهم، وبعد خمس سنين توفي الأسقف، فاقترع الشعب لأوغسطين، فتوفر على نشر الإيمان والدفاع عنه باللسان والقلم خمسًا وثلاثين سنة، وكانت أيامه الأخيرة، مفعمة حزنًا وأسى، فقد كان البرابرة أغاروا على أفريقيا وتقدموا إلى مدينته وحاصروها، وهو يشدد عزائم شعبه ويبث فيه الأمل، وفاضت روحه قبل أن يدخلوا المدينة وينهبوها، ولكنه كان يتوقع ذلك المصير، فراح وقد رأى العالم القديم يتحطم، فهل توقع أن عالمًا جديدًا سيخرج من بين الأنقاض المتراكمة يكون هو أكبر معلميه وهداته؟

(٢) مصنفاته

(أ) بدأ أوغسطين يكتب بعد قراءة «الكتب الأفلاطونية» فكان أول ما عالج مسألة اليقين، لأنه اعتبرها المسألة المقدمة على سائر المسائل، وهذا موضوع كتاب «الرد على الأكاديميين»، ثم نظر في «الحياة السعيدة» التي قال شيشرون إنها الغاية من الفلسفة، ودوَّن كتابًا بهذا الاسم، ونظر في «خلود النفس» فوضع كتابًا بهذا العنوان موضوعه الرئيسي الأسس العقلية للإيمان، وصنف في تلك الفترة الأولى كتبًا أخرى فلسفية وبيانية.

(ب) ولما عاد إلى وطنه وجه همه إلى مناهضة المبتدعة، فكان من أثر ذلك كتاب «أخلاق الكنيسة الكاثوليكية وأخلاق المانويين» وكتاب «في سفر التكوين، ردًّا على المانويين» وكتاب «في الحرية» ضد بدعة أخرى، سنذكرها عند الكلام عن الحرية، وسبق علم الله بالأفعال الإنسانية، ثم خطر له أن يترجم لحياته ويبين كيف قاده الله من الظلمة إلى النور، فوضع كتاب «الاعترافات» (حوالي سنة ٤٠٠) وهو مشهور في الآداب العالمية، لسمو أسلوبه، وقوة تأثيره ودقة التحليل النفساني، وعمق النظرات الفلسفية، ومن أهم مصنفاته بعد ذلك كتاب «الثالوث» في خمس عشرة مقالة حررها في مدى سبع عشرة سنة (٤٠٠–٤١٦) يشرح فيها العقيدة، وينقد الأضاليل، وينثر الشيء الكثير في الفلسفة، و«شرح سفر التكوين» يتصل بالفلسفة كذلك، ولما فتح البرابرة روما سنة ٤١٠، استولى على العالم القديم ذهولٌ عميقٌ؛ لأن الاعتقاد العام كان أن روما لا تقهر، وقال الوثنيون: إن الآلهة غضبوا على المدينة الكبرى، وتخلوا عن نصرتها، لتهاونها في الشعائر السلفية وانتشار المسيحية في أرجاء الإمبراطورية، فأخذ أوغسطين القلم يرد عليهم، فاتسع أمامه مجال القول حتى انتهى إلى كتاب جامع في فلسفة التاريخ هو كتاب «مدينة الله» بدأه سنة ٤١٣ وفرغ منه سنة ٤٢٦، خصص المقالات العشر الأولى لنقد الوثنية، معتقداتها، وأخلاقها، ومذاهبها الفلسفية، والمقالات الاثنتي عشرة التالية للتاريخ العام ومغزاه، وقبل وفاته بثلاث سنين رأى أن يعود على مؤلفاته يراجعها ويثبت حكمه الأخير فيما تضمنت من آراء، إقرارًا، أو رفضًا، أو تصحيحًا، فكان من ذلك كتاب «الاستدراكات» أو المراجعات، ومما يجدر ذكره من هذه الاستدراكات أسفه لإسرافه في الثناء على الأفلاطونيين، فإنه كان قد عرف حقيقية مذهبهم وحقيقة موقفهم من المسيحية فدعاهم بالكفار، تلك هي كتبه البارزة، وله غيرها كثير، وقد بلغت جميعًا مائتين وأربعين متفاوتة الحجم، ضاع منها عدد كبير، أسلوبها من أمتن أساليب الأدب اللاتيني، ولكن تنقصها الدقة في بعض المواضع الفلسفية، وتغلب عليها ثقافته الأولى اللغوية والبيانية، فيكرر المعنى الواحد في صيغ عدة، ويطنب في التمثيل والتصوير، فكان ذلك سببًا في الجدل حول مراده في غير ما مسألة.

(ﺟ) أما مصادره الفلسفية فمقصورة على الكتب اللاتينية، فإنه لم يكن يحسن اليونانية في شبابه، ثم أجادها فيما بعد لمراجعة ترجمات الأسفار المقدسة، ولا يلوح أنه استخدمها للاطلاع على كتب اليونان، وفيلسوفه الأكبر أفلوطين، أما أفلاطون فلم يعرفه حق المعرفة، وكان يعتقد أن الأفلاطونية والأفلوطونية الجديدة مذهب واحد، فقال في كتاب «الرد على الأكاديميين»: إن «أفلوطين شديد الشبه بأفلاطون حتى ليمكن الاعتقاد بأن أفلاطون بُعِثَ في أفلوطين»، وفي «مدينة الله» يذكر «تيماوس» وقد قلنا: إن خلقيديوس نقله إلى اللاتينية، ولعله قرأ «فيدون» لناقل آخر، وحين يذكر «تيماوس» يشير إلى ما بين مطلعه وبين سفر التكوين من مماثلة، ويميل إلى تفسير هذه المماثلة بأن أفلاطون كان له بعض العلم بالتوراة، كما كان يظن كثيرون من اليهود والمسيحيين، لذا نراه يقول عنه: إنه يعلم أن الله خالق، وأنه يجب تفضيل مذهب الأفلاطونيين على سائر المذاهب، وأما أرسطو فلم يعرف منه سوى المنطق، ولا يذكره سوى ثلاث مرات، ويضعه في مرتبة أدنى من أفلاطون، وكان يعتقد أن ليس بين الفيلسوفين فرق جوهري، وهذه فكرة أذاعها الأفلاطونيون الجدد بمحاولتهم «التوفيق بين رأيي الحكيمين»، ويذكر الرواقيين والأبيقوريين وينقدهم نقدًا عسيرًا.

(٣) منهجه

(أ) منهجه الفلسفي صورة حياته: علم من قراءة «هورطانسيوس» أن الفلسفة وسيلة السعادة التي هي طلبة كل إنسان، ففكر في السعادة، فوجد أن الموضوع الذي يحققها يجب أن يتوفر فيه شرطان: أحدهما: أن يكون ثابتًا مستقلًّا عن تقلب المصادفة والحظ، وإلا نغصت السعادة بالقلق عليها وخوف زوالها، والشرط الآخر: أن يكون الموضوع كاملًا لا مزيد عليه، إذ إننا لا نرضى تمام الرضا إلا بالخير الأعظم، وليس يتوفر هذان الشرطان في غير الله؛ لأن الله وحده ثابت كامل، فنحن إذ نطلب السعادة نطلب الله، علمنا بذلك أو لم نعلم: «لقد صنعتنا لأجلك يا رب، وإن قلبنا لا يزال مضطربًا حتى يطمئن لديك.»

(ب) هل تبلغ الفلسفة إلى الله؟ لقد استكشف الفلاسفة حقائق جليلة نافعة، ولكنهم لم يستكشفوا كل الحقيقة الضرورية للإنسان، ووقعوا في أضاليل خطيرة، وليس يستطيع العقل بقوته الطبيعية أن يهتدي إلى الحقيقة بأكملها وأن يحترز من كل ضلال، وفوق ذلك ليس للفلسفة بذاتها قوة على تحويل النفس من مجرد المعرفة إلى العمل الفاضل، فالفلسفة قاصرة من هاتين الناحيتين، والمسيحية وحدها تعرض علينا الحكمة كاملة عن الله والنفس، وتوفر لنا الوسائل الفعالة للحياة الصالحة، والاتحاد بالله، هذه الوسائل وهي النعم تحملها إلينا الأسرار المقدسة، فإذا أردنا السعادة وأردنا الحكمة، وجب علينا الإيمان، والعمل به.

(ﺟ) ليس الإيمان عاطفة غامضة وتصديقًا عاطلًا من الأسباب العقلية، ولكنه قبول عقلي لحقائق، إن لم تكن مدرَكة في ذاتها كالحقائق العلمية، فهي مؤيدة بشهادة شهود جديرين بالتصديق، هم الرسل والشهداء، وبعلامات خارقة هي المعجزات، ليس ينفر الإيمان من نقد العقل ما دام الإيمان لا يوجد إلا في العقل، فعلى العقل مهمة قبل الإيمان، هي الاستيثاق من تلك الشهادة وتلك العلامات، وهو ليس يستوثق من شيء إلا أن يستوثق أولًا من كفاية العقل للمعرفة اليقينية، فالفحص عن اليقين واجب التقديم على الفحص عن الوحي والمعجزات، ففي هذه المرحلة العقلُ سابقٌ على الإيمان ممهِّد له، يقنع بوجوب الإيمان لا بموضوعه، بحيث نقول: «تعقَّل كي تؤمن.»

(د) وللعقل مهمة بعد الإيمان، هي تفهُّم العقائد الدينية، وهنا الإيمان سابق على التعقل، معين له، فإنه يطهر القلب، والعقل أقدر على البحث وأسرع قبولًا للحق، بحيث نقول: «آمن كي تتعقل»، على أن التعقل، في هذه المرحلة الثانية، ليس سواء في جميع القضايا، فإن منها ما هو طبيعي قابل للبرهان كوجود الله وصفاته، ووجود النفس وروحانيتها وخلودها، ومنها ما هو فائق للطبيعة، يقتصر عمل العقل بصدده على تفسير يبدد المحالات الظاهرية من جهة، ويحيل الموضوع شبه معقول من جهة أخرى بما يجد له من صورة ومثال في الطبيعة، والشواهد عديدة عنده على هذين النوعين من التعقل، أثبتنا الكثير منها على النوع الأول في هذا الفصل المخصص لفلسفته، ونثبت هنا شاهدًا مشهورًا على النوع الثاني، هو طريقته في معالجة مسألة الثالوث، أعوص المسائل الدينية البحتة، يبدأ بتحديد العقيدة أخذًا عن الكتاب المقدس وعن آباء الكنيسة، ثم يحل الإشكالات، ويرد على الاعتراضات، هذا القسم ضروري طبعًا لإدارة الفكر والقول على معنى محدد، وقد جاء حافلًا بالموضوعات العميقة والاستطرادات المفيدة، ثم يبحث عن صورة للثالوث تعين على تعقل هذا السر تعقلًا ما، فلا يجد من صورة إلا في الإنسان؛ لأنه بنفسه الناطقة أقرب الخلائق المنظورة شبهًا بالله، ففي النفس الإنسانية ذاكرة وعقل وإرادة، الذاكرة هي النفس متحلية بحقائق معلومة، والعقل هو النفس متعقلة أي متصورة المجردات، والإرادة هي النفس محبة، إننا نذكر كل قوة من هذه القوى على حدة، وفي أوقات مختلفة، ولكنا لا نستخدم إحداها دون القوتين الأخريين، فهي متحدة في جوهر واحد، وثمة صورة ثانية مأخوذة من أفعال هذه القوى: فإن النفس تعلم ذاتها، وتحب ذاتها، وعلمها بذاتها، فهذه ثلاثة متساوية فيما بينها، وماهية واحدة، بل إن الإدراك الحسي، بالحواس الظاهرة وبالمخيلة أو الذاكرة، يعطينا صورة ثالثة، فبالصورة المقبولة في العين أو في المخيلة، وإدراكها في الآن الحاضر، واتحاد الاثنين بفعل النفس المدركة.

(ﻫ) وهذان النوعان من التعقل يؤلفان «الفلسفة المسيحية» التي تنظر في الوجود على ما أوحى الله إلينا، فأوغسطين، مع علمه بأن العقل والإيمان متمايزان بالذات، لم يضع مبدأ يكفل استبقاء هذا التمايز، ولكنه جمع بينهما في حكمة كلية تظهرنا على حقيقة الوجود، وتدلنا على غايتنا الحقة، وتمدنا بالوسائل للبلوغ إليها، هي المسيحية. إذن «آمن كي تتعقل»، وينطبق هذا القول على مضمون الإيمان كله، بما فيه وجود الله، فإن الخطوة الأولى، في رأي أوغسطين مخاطبة الأحمق الذي «يقول في قلبه: ليس يوجد إله» كما جاء في مفتتح المزمور ١٤ لداود النبي، وإقناعه بصدق الكتب المقدسة التي تعلم وجود الله، حتى إذا ما فاز منه بالإيمان بها شرع في بيان ما للإيمان بالله من قيمة عقلية، هذا مع علم أوغسطين بما للدليل العقلي على وجود الله من قيمة ذاتية، وعلمه بأن الفلاسفة عرفوا وجود الله دون توسط الإيمان، وبعد الله النفس النزاعة إلى الله، وهي صورة الله من حيث إنها روحية وعاقلة، مريدة، ذاكرة، وبمعرفة الله والنفس تتم الحكمة في الواقع، وطالما قال أوغسطين: إنه لا يطلب سوى العلم بالله وبالنفس، أما العالم فليس صورة الله، من حيث إنه مادي خلو من العقل والإرادة، وإنما هو أثر الله يحقق بعض الصفات الإلهية على نحو خاص به، فينظر فيه بعد النفس، وأخيرًا «مدينة الله»، أو مصير الإنسانية، أو مبادئ الاجتماع وفقًا للمسيحية، وعلى هذا الترتيب سنعرض المذهب.

(٤) اليقين

(أ) تنقسم مناقشة أوغسطين للشك إلى قسمين: قسم سلبي يبين فيه أن موقف الشك مسرف متناقض، وقسم إيجابي يثبت فيه أننا ندرك إدراكًا يقينيًّا حقائق موضوعية.

(ب) فمن الجهة الأولى يقول: إن الاحتجاج بتخاييل الأحلام والجنون لا ينهض إلا بصدد المحسوسات، ولنا مع ذلك سبيل للاستيثاق من مدركات الحواس إذا رجعنا إلى حكم العقل فيها، بالعقل نعين شرائط اليقين في المحسوسات، فنعلم أن بإمكاننا أن نصدر بشأنها أحكامًا صادقة إذا حرصنا على ألا نضيف للإحساس عنصرًا غريبًا عنه، وحسبنا للأحوال التي تعمل فيها الحواس حسابها — ثم إن الذي يشك في وجود الحقيقة يعبر عن شكه بقضية تبدو له صادقة، وهذا الصدق ينقض دعواه — وإذا انتقلنا من النظر إلى العمل وجدنا الشك يقضي بالجمود التام؛ لأن كل فعل فهو دائمًا عبارة عن وضع قضية موجبة هي أن كذا خير أو كذا شر، وليس يكفي الاحتمال كما يقولون، إذ ما هي القاعدة لتمييز الاحتمال؟ أليس الاحتمال والشك إنما يقالان بالقياس إلى الحقيقة؟

(ﺟ) ومن الوجهة الثانية يقول: إن هناك حقائق مستقلة عن كل ظرف، مطلقة من كل قيد، لا يتطرق إليها الشك مهما تعسف فيه متعسف، منها القوانين المنطقية، مثل إن القضية الصادقة ليست كاذبة، وإن القضية المناقضة لها هي الكاذبة، ومنها الحقائق الرياضية، مثل ٣ × ٣ = ٩، وغيرها كثير معروف، ومنها الحقائق الفلسفية والخلقية، مثل قولنا: يجب طلب الحكمة والسعادة، فإن العقل يرى بالطبع هذا الوجوب، والتسليم به تسليم بالواجب وتعريف لفضيلة الحكمة، ومثل قولنا: يجب إخضاع الأدنى للأعلى، ومعاملة المتساويات بالمساواة، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتلك حقائق ترجع لفضيلة العدالة، وكذلك يرى العقل أن الدائم خير من الزائل وأعلى منه، وفي مراعاة هذا المبدأ تقوم فضيلة العفة، ومن المؤكد أيضًا أنه تجب المخاطرة بكل شيء واحتمال كل ألم في سبيل الخيرات الحقة، وتلك فضيلة الشجاعة، جميع هذه الأحكام ضرورية في العقل عند جميع الناس ولو كانوا يغطون في النوم.

(د) وثمة حقيقة يعرضها أوغسطين على الشكاك، ليشعرهم بيقين لا سبيل للارتياب فيه بحال، تلك هي حقيقة وجودنا وفكرنا، يلح فيها ويذكرها على أشكال شتى، فيقول في موضع: «أنت الذي يريد أن يعرف نفسه، هل تعرف أنك موجود؟

– أعرف ذلك.

– من أين تعرف؟

– لا أدري.

– هل تحس نفسك بسيطًا أو مركبًا؟

– لا أدري.

– هل تعلم أنك تتحرك؟

– لا أعلم.

– هل تعلم أنك تفكر؟

– أعلم.»

ويقول في موضع آخر: «حين تؤكد وجودك لا يمكن أن تخشى الخطأ، إذ إنك إذا كنت تخطئ فأنت موجود»، ويقول بنفس المعنى: «لست أخشى الأكاديميين إذ يقولون لي: وإذا كنت مخطئًا؟ إذا كنت مخطئًا فأنا موجود، ومن لم يكن موجودًا فلا يمكن أن يخطئ»، وأيضًا: «إذا كان يشك فهو يحيا، وهو يذكر موضوع شكه، وهو يعلم أنه يشك، وهو يطلب اليقين، وهو يفكر، وهو يعلم أنه لا يعلم، وهو يحكم بأنه لا ينبغي التسليم بشيء دون روية، فالذي يشك، مهما يكن موضوع شكه، لا يمكن أن يشك في تلك الأمور التي بدونها لا يمكن الشك»، فالشك المطلق مستحيل فعلًا، والحقيقة ماثلة في العقل بالضرورة.

(٥) الله

(أ) يخبرنا أوغسطين في «الاعترافات» أنه لم يشك في وجود الله قط بالرغم مما صادف من اعتراضات، وقد احتلت فكرة الله نقطة المركز من مذهبه كما كانت محور حياته، فقد كان يرى وجود الله واضحًا جد الوضوح لا ينكر إلا بدافع من الأهواء، ومن جانب نفر قليل جدًّا، كان يراه واضحًا باستدلال بديهي انعقد عليه إجماع الناس واتفق عليه أفاضل الفلاسفة، والأمثلة عليه كثيرة عنده، منها قوله: «تنظر إلى الأرض وما فيها من قوة وجمال، وكأنك تسائلها، ولما كان من الممتنع أن تكون حاصلة على هذه القوة بذاتها، فإنك تدرك حالًا أنه لم يمكن أن توجد بقوتها الذاتية»، وقوله: «إن العالم نفسه بتغيره المنظم تنظيمًا عجيبًا وبأشكاله البديعة، يعلن في صمت أنه مصنوع»، وأحيانًا يذكر السبب المضمر في هذا الاستدلال فيقول: «السماء والأرض تعلنان أنهما مخلوقتان، إذ إنهما تتغيران، ويستحيل أن يكون في غير المخلوق شيء إلا وقد كان فيه سابقًا» يعني أن غير المخلوق ثابت؛ لأنه إن تغير حصل على شيء لم يكن له فلم يكن غير مخلوق، والسماء والأرض تتغيران، فهما إذن مخلوقتان، لذا نراه يعتبر الإلحاد جنونًا مطبقًا، ويقول: إن الملحدين إنما ينكرون وجود الله بسبب شهواتهم، وإنهم على كل حال نفر يسير لا يعتد به.

(ب) على أن له دليلًا خاصًّا به يستند إلى فكرة الحقيقة التي انتهى إليها في مناقشة الشك، وهذا مؤداه: أن الحقائق على اختلافها يستكشفها العقل ولا يؤلفها، وهو يراها ثابتة ضرورية، وليس يفهم هذا الثبات وهذه الضرورة إلا بحقيقة قائمة بذاتها، وليس العقل الإنساني تلك الحقيقة؛ لأنه منفعل ناقص يتقدم ويتأخر، فهي جوهر أسمى من العقل، أي الله، هذا الدليل قائم على المشاركة الأفلاطونية التي تصعد مما يبدو في النفس أو الطبيعة من حكمة وخير وجمال ونظام ووحدة، إلى مثال قائم بذاته، وأوغسطين يستخدم هذه المعاني بالفعل لهذا الغرض، كما فعل أفلاطون وأفلوطين، ولكن معنى الحقيقة يجعل سيره مطردًا من اليقين إلى الله مباشرة، فإن خلاصة الدليل أن النفس تدرك الحقيقة إذ تفكر، ثم تدرك الله بإدراك الحقيقة، اعتمادًا على أن ليس شيء حقًّا إلا بالحقيقة بالذات، كما أن ليس شيء خيرًا إلا بالخير بالذات، وهكذا.

(ﺟ) الحقيقة بالذات حاوية جميع الحقائق، والدليل على ذلك أن الخالق يوجد الأشياء على مثال معقولاتها، ولا يمكن أن يشاهد المعقولات خارجًا عنه وإلا كان أدنى منها، فلا بد أن يشاهدها في ذاته، وبذلك يجمع أوغسطين المثل الأفلاطونية أو العالم المعقول في العقل الإلهي، فيتفادى المحالات التي استهدف لها أفلاطون، إذ جعل المثل قائمة بأنفسها، ولكن أوغسطين لم يكن يعلم أن موقفه هذا جديد، بل كان يعتقد أنه متفق فيه مع أفلاطون وأفلوطين، والواقع أن أفلاطون يصور الصانع يصنع وهو يتأمل شيئًا غيره، وأن أفلوطين ينفي عن «الأول أو الواحد» العلم بذاته وبالموجودات الصادرة عنه، ويضع الماهيات المعقولة في العقل الكلي الذي هو في المرتبة الثانية، ولو أنعم النظر لرأى أنه لم ينتهِ في الحقيقة إلى مثل أولي ما دام العقل الكلي عنده ليس موجودًا بذاته، وثمة نتيجة تلزم مما تقدم، هي أنه لما كان الله محل المعقولات وعاقلًا، كان معقولًا وكانت السعادة القصوى تعقله، بينما عند أفلوطين حالة شعورية ليس غير، أي إحساس بغبطة دون تعقل موضوع.

(د) وإذا قلنا إن الله محل المعاني، وإذا أضفنا إليه صفاتٍ، فليس يعني هذا أن في الله كثرة، وأن الصفات متحققة فيه على نحو تحققها في المخلوقات، فإن الله بسيط كل البساطة، وما نتصوره فيه هو عين الجوهر الإلهي، بل يجب الاحتراز من تسميته جوهرًا، لئلا يذهب الفكر إلى أن الله موضوع لصفات أو أعراض متمايزة منه، والأليق أن نقول «الذات»؛ لأن هذا اللفظ لا يتضمن سوى معنى الوجود، والله هو الموجود إلى أعظم حد، فلا بد أن تكون صفاته عين ذاته، إذ إن الحاصل على كمال ما دون أن يكون هو ذلك الكمال، فهو مشارك فيه، ولا يستغرقه كله، ويمكن أن يفقده، فيكون كماله متمايزًا منه، وتكون كمالاته متمايزة بعضها من بعض. وإذن فالله «عظيم (مثلًا) لا بعظمة مغايرة له، بل بعظمة هي عين ذاته»، وهكذا يقال بالإضافة إلى الحياة والعقل والسعادة والقدرة، وعلى هذا النحو تتحد كل صفة إلهية بالذات الإلهية، ومن ثمة تتحد الصفات فيما بينها.

(ﻫ) وإذا كان الله معقولًا فليس يعني ذلك أننا ندركه تمام الإدراك، وأن حديثنا عنه ينطبق عليه بالتواطؤ: «لا لفظ أو لا شيء يقال على الله كما ينبغي لله»، وإنما يصبح اللفظ ملائمًا لله على نحو ما بعد تحويل معناه تحويلًا عميقًا: مثال ذلك «الغضب» فما هو في الله سوى القدرة على العقاب دون الاضطراب الحاصل فينا، ومثل «الغيرة» فما هي سوى العدالة مجردة، ومثل «الندم» فما هو سوى سبق علم الله بشيء يحدث بعد شيء، ومثل «العلم» فما هو سوى بهاء حقيقة ثابتة شاملة دون ما نشاهد في العلم الإنساني من تغير وانتقال من فكرة إلى فكرة، ومن تذكر واقتصار على بعض الموضوعات، فالألفاظ تصلح للدلالة على الله بشرط أن نستبعد من مدلولها ما يلازمه من نقص في المخلوقات، وحينئذ يتاح لنا التأمل في الله دون محاولة التعبير عنه، بحيث يتلخص موقفنا في هذه العبارة الجامعة: «إن تصورنا لله أكثر حقية من تسميتنا له، وإن وجود الله أكثر حقية من تصورنا له»، وهذا هو الموقف الحق بين التجسيم والتشبيه من جهة، وبين التنزيه المطلق على طريقة أفلوطين الذي يجعل الله بمثابة النقطة الهندسية، من جهة أخرى.

(٦) النفس

(أ) وجود النفس لازم من وجود الفكر، فما إن يدرك الفكر وجوده حتى يدرك ذاته كقوة حية، من حيث إن التفكير حياة، بل أرفع مراتب الحياة، ومحال أن يكون الفكر من فعل الجسم، فإن «الأشياء التي نعرف لها خصائص جوهرية متمايزة هي أشياء متمايزة»، والجسم جوهر ممتد في الأبعاد الثلاثة، معلوم من خارج بالحس، بينما الفكر معلوم من باطن بالفكر نفسه، وغير ممتد كما يتبين من أن تصوراتنا توجد معًا في الحس والعقل ولا تشغل حيزًا، هل يمكن للهواء أو النار أو المخ أو الدم أو أية مادة أخرى، أن تنتج الحياة والإدراك والإرادة؟ إن الفكر يستطيع أن يشك في وجود تلك المواد وما إليها، لأنه لا يجد شيئًا منها في نفسه، ولا يستطيع أن يشك في نفسه، فليس الفكر من الجسم، ولكنه من مبدأ آخر، يضاف إلى ذلك إدراكنا المجردات، فإنه يدل على أن المبدأ المدرك مجرد، هذا المبدأ هو النفس الناطقة، وهي تقوم بجميع أفعال الإنسان، ولا ضرورة لوضع نفوس ثلاث كما فعل أفلاطون، ولا ضرورة لتسمية مبدأ الحياة في النبات نفسًا، أما الحيوان فله نفس؛ لأن له أفعالًا مماثلة لأفعالنا الحسية، فهي نفس على قدره.

(ب) النفس الإنسانية صورة الله: روحانيتها تجعلها واحدة غير منقسمة كما أن الله واحد، والعقل والإرادة والذاكرة تجعلها ثلاثية في وحدتها كما أن الله ثالوث، وليس في النفس قوى متمايزة منها، وإنما هناك أفعال لها مختلفة، على أن النفس متغيرة مثل كل مخلوق، والتغير يتم في موضوع، وموضوع التغير المادة: فهل نضيف للنفس ضربًا من مادة روحية؟ سؤال ألقاه أوغسطين ثم لم يجب عنه، وتركه بمثابة فرض محتمل، ألقاه بمناسبة النظر في الملائكة، وفي الفرق بينهم وبين الله من جهة، والموجودات الجسمية من جهة أخرى، وارتأى أنهم يفترقون عن الله في كونهم مخلوقين، وبهذه المثابة متغيرين بالطبع وحاصلين على موضوع للتغير، ويفترقون عن الجسميات في أن تأملهم لله يثبتهم دون تغير بالفعل فيجعل اتحاد المادة والصورة فيهم دائمًا، ويجعلهم من ثمة خارج الزمان، وكان طبيعيًّا أن يثير هنا مسألة النفس وتغيرها، ولكنه توقف عن القطع بتركيبها من مادة وصورة، ولن يتوقف الأوغسطينيون فيما بعد، بل سيبتُّون في المسألة بالإيجاب كما بت هو بصدد الملائكة، ولِعَيْنِ السببِ.

(ﺟ) ما أصل النفس؟ مسألة عسيرة الحل وإن يكن من الميسور نقد الآراء الشائعة فيها، من هذه الآراء قول المانويين: إن النفس صادرة عن ذات الله، هذا القول يستلزم إحدى اثنتين: إما أن النفس ثابتة كالله، أو أن الله متغير كالنفس، وكلتا النتيجتين باطلة، ومنها قول أفلاطون وغيره من الفلاسفة: إن النفس قديمة هبطت إلى الأرض وتعود إليها بالتناسخ، وهذا حديث خرافة معارض للشعور وللعقل، فإننا لا نذكر حياة سابقة، ومحال أن تتقمص النفس جسمًا حيوانيًّا أو نباتيًّا لما بين الطرفين من مغايرة تامة، ومنها أن النفس تولد من بذرة مادية، أو من نفس حيوانية، وهذان الرأيان يبطلان روحانية النفس الإنسانية وهي ثابتة، فأي حل نصطنع؟ الواضح من الكتاب المقدس أن الله خلق نفس آدم، فهل نقول: إن النفوس صدرت عنها بالتوالد؟ كان أوغسطين يميل ميلًا ظاهرًا للأخذ بهذا القول، ولكنه لم يرَ كيف يكون هذا التوالد، ووجد فيه خطرًا على الشخصية الإنسانية، كما أنه يعتقد بإمكان خلق الله لكل نفس على حدة لتحل في جسم المولود، ولكنه لم يتقيد بهذا الرأي، وقد ظل مترددًا طول حياته كما يبدو من كتاب «الاستدراكات».

(د) ولكنه لم يتردد، ولم يكن يمكن أن يتردد، في مسألة مصير النفس، إن الخلود ثابت من كون النفس جوهرًا روحيًّا مباينًا للجسم، على أن أوغسطين في كتاب خلود النفس، يقدم دليلين يحتذي فيهما دليلين لأفلاطون واردين في «فيدون»، الأول: أن الحقيقة غير فاسدة طبعًا، والنفس محل الحقيقة، فالنفس غير فاسدة — وكان أفلاطون قال: إن المثل بسيطة ثابتة، فلا بد أن تكون النفس التي تعقلها شبيهة بها. والدليل الثاني: أن النفس تدرك ذاتها أنها قبلت وجودها من الموجود بالذات، وليس للموجودات بالذات ضد سوى اللاوجود، وليس للاوجود وجود حتى يسلب النفس وجودها — وكان أفلاطون قال إن النفس حياة، فهي مشاركة في الحياة بالذات، وليست تقبل الماهية ضدها، فلا يمكن أن تقبل النفس ضدها وهو الموت. وله دليل آخر مستمد من الاشتهاء الطبيعي للسعادة، فقد رأينا [القديس أوغسطين، ٣، أ] أن شرط السعادة دوامها، فالنفس التي تطلب الدوام طلبًا طبيعيًّا ضروريًّا يجب أن تكون دائمة.

(ﻫ) ولما كان أوغسطين يصور النفس جوهرًا مفكرًا تامًّا في ذاته، على طريقة أفلاطون، فقد حار في تفسير اتصالها بالجسم، يقول: إن اتحاد النفس والجسم أمر جد عجيب، لا يدركه الإنسان، مع أن هذا الاتحاد هو الإنسان نفسه، كيف يمكن أن يرتبط جوهر روحي بجسم لكي يحييه، وكيف نعلل جهل النفس بكثير مما تعمل في الجسم وهي مدبرته؟ يتردد أوغسطين بين موقفين، فمن ناحية ينبذ قول أفلاطون والمانويين: إن الإنسانَ النفسُ فحسب، وإن الجسم غلاف لها أو سجن، وإنه شيء رديء بالذات، وإن اتصالها به عقاب على خطيئة، فإن هذه الأقوال تعني أن الإنسان مركب قسرًا من جوهرين متنافرين، بينما المسيحية تعلم أنه كائن طبيعي صور الله جسمه ونفخ فيه النفس، وجعل انفصالهما بالموت هو العقاب، وأعلن أنه سيردهما الواحد للآخر بالبعث، فماذا يصنع أوغسطين؟ إنه يستكشف في النفس ميلًا طبيعيًّا لأن تحيا في الجسم، ويرى أنها هي التي تمنحه صورته وحياته، ويقول: «إن النفس والجسم لا يؤلفان شخصين بل إنسانًا واحدًا»: النفس هي «الإنسان الباطن» والجسم هو «الإنسان الظاهر» دون أن تصير النفس جسمًا، أو يصير الجسم نفسًا، وليس محل النفس جزءًا معينًا من الجسم، كالرأس أو القلب، بل الجسم كله، وهذا لازم من بساطة النفس، وظاهر من أنه حين يحس أدق جزء من الجسم تعلم بذلك النفس كلها، فأوغسطين يقترب هنا من النظرية الأرسطوطالية، وهي تعتبر الإنسان كائنًا طبيعيًّا، ولكنه من ناحية أخرى يفسر الاتحاد بأنه «انتباه» النفس للجسم، ومزاولة قدرتها فيه بواسطة الهواء والنار، وهما أقرب العناصر الجسمية إلى الروحانية — فلم يتحرر من النظرية الأفلاطونية، وسنرى شاهدًا على ذلك في الكلام على المعرفة الحسية.

(٧) المعرفة

(أ) تشتمل المعرفة على نوعين من المدركات: مدركات مادية، وأخرى معنوية، فأما الأولى فناشئة من انتباه النفس للتغيرات الحادثة في الجسم، هذه التغيرات جسمية بحتة، يعقبها الإدراك وهو فعل النفس وحدها، إذ ليس انفعالُ الجسم تأثيرًا في النفس؛ لأن الأدنى لا يؤثر في الأعلى، وهذا مبدأ مطرد عند أوغسطين وعند أفلوطين، ولكن الانفعال نداء من الجسم للنفس وهي حاضرة في الجسم كل تغير فيه، لتكفل حسن تدبيره، أما كيف يتنوع الإدراك بتنوع التغير الجسمي، على ما بينهما من مغايرة؟ وما قيمة الإدراك في الدلالة على الأشياء؟ فهذان سؤالان لا تمكن الإجابة عنهما في المذهب الأفلاطوني، ولكن أوغسطين يستمسك برأيه إلى النهاية، فتراه يؤاخذ نفسه في «الاستدراكات» على قوله: إن العين ترى، ويقول: إن هذا يجوز للذين يعتقدون أن الإحساس فعل جسمي، أما هو فيعتقد أن الإحساس فكر، ويستخرج من ذلك دليلًا ضد المادية فيقول: إذا كان إدراك الأجسام وظيفة لا جسمية، فقد بلغنا إلى النفس منذ النظر في الإحساس — وفاته أن ضرورة النفس للإحساس لا تستلزم مفارقتها للعضو الحاس، وأنه إذا صح أن الإحساس في الإنسان فعل نفس مفارقة للجسم، انسحب هذا على الحيوان أيضًا.

(ب) وأما المدركات المعنوية، فمثل الله والنفس والملائكة، والأحكام التي نصدرها على الماديات والروحيات، الموجودات الروحية نعرفها بالاستدلال، كيف نفسر ما لأحكامنا من صفتي الكلية والضرورة، وليس في المخلوقات شيء ثابت، وليس العقم الإنساني ثابتًا؟ إن المسألة تعود إلى مسألة الحقيقة، وحلها هين بعد ما أسلفناه: إن الحكم الكلي الضروري يصدرها عنا بفضل إشراق من الله، الله هو «المعلم الباطن» هو «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى هذا العالم» كما يقول القديس يوحنا في مفتتح إنجيله، وهكذا نرجع إلى الوحي الذي صدرنا عنه، فتبدو هذه الآية مقدمة ونتيجة في آن واحد ولكن من جهتين مختلفتين: هي مقدمة مسلمة بالإيمان، ونتيجة مبرهنة بالعقل، كما هو الحال في جميع قضايا مذهبه.

(ﺟ) تلك هي نظرية الإشراق المشهورة عن أوغسطين، وسيكون لها شأن كبير عند المدرسيين حين يقفون على نظرية أرسطو في العقل الفعال ونظرية الإشراق عند الإسلاميين، وسيتقلدها مالبرانش فيذهب إلى أننا نرى الله، ونرى في الله المعاني الجزئية والكلية والمبادئ الضرورية، وقد قال أوغسطين بالفعل: «كما أننا نرى الماديات في ضوء الشمس، فكذلك خلقت النفس الناطقة بحيث تستطيع أن ترى المعقولات في ضوء لا جسمي يشرق عليها» وقال أيضًا: «إن الله مرئي لنا أكثر من مصنوعاته المادية»، و«إن الله شمس النفس»، ولكن هذه الأقوال وأمثالها مرسلة عنده بمعنى مجازي، فإن معناها الحرفي يستتبع نتيجتين يرفضهما رفضًا صريحًا: ذلك أنه لو كان النور الإلهي هو الله نفسه لما كان هناك فرق بين معرفتنا لله في الحياة العاجلة، ومعرفتنا في الحياة الآجلة، وهو يعلن أننا نعرف الله بالاستدلال في الأولى، وبالمعاينة في الأخرى، ولو كنا نرى الأشياء في الله لكنا نعرفها دون النظر إليها، وهو يقول: إن الإشراق لا يغني النفس عن الالتفات إلى الجسم، وإن الفاقد حاسة فاقد المعارف المقابلة لها، وإن الملائكة هم الذين يدركون الماديات في الله مباشرة، فالنور الإلهي شيء مخلوق متمايز من الله ومن النفس، كما أن نور الشمس متمايز من العين: هو مدد من علٍ، أو مشاركة في العلم الإلهي، إذ إن نور عقلنا مستفاد كما أن وجودنا مستفاد.

(٨) الإرادة

(أ) بعد المعرفة الإرادة، وأوغسطين يؤكد حرية الإرادة الإنسانية غير عابئ بإنكار أفلوطين، وهو يعرِّفها بأنها «القدرة على قبول تصور ما أو رفضه» فليست الحرية إذن القدرة على الاختيار بين الخير والشر؛ لأن اختيار الشر نقص، ولو كان شرطًا للحرية لما كان الله حرًّا، وكيف لا يكون الله حرًّا وهو واهبنا الحرية؟ وأول دليل على الحرية شهادة الوجدان: «إذا لم تكن الإرادة التي بها أريد ولا أريد ملكًا لي، فلست أدري ما الذي أستطيع أن أقول عنه إنه ملك لي»، والذي يجادل في وجودها واقع في عماوة تمنعه من أن يرى إلى أي حد حججه الباطلة الكافرة صادرة عن الإرادة نفسها، بالحرية تنكر الحرية، وإنكارها يحمل معه التناقض، والناس مجمعون على المدح والذم والإثابة والمعاقبة، بناء على ما يشعرون في أنفسهم من حرية، ويؤيد الحرية اختلاف الأفعال في ظروف متشابهة، مما يبين استقلال الأفعال عن الظروف، ويؤيدها أيضًا أن أوامر الله ونواهيه تكون لغوًا إذا لم نكن مسئولين عن أفعالنا، إذ لا تكليف ولا تبعة بغير حرية، فالإنسان رب أفعاله، لا يخضع لقدر أعمى، ولا لتأثير النجوم، وقد أخطأ أفلوطين وأشياعه في القول بالتنجيم، فليس توجد رابطة معقولة بين النجوم والمستقبل الإنساني، وإذا صدق المنجمون فما ذلك إلا من قبيل المصادفة ليس غير.

(ب) للإرادة قانون يجب عليها اتباعه، هو قانون طبيعي ندركه حالما ننظر في أنفسنا وفي الأشياء، فإن هذا النظر يظهرنا على أن لكل موجود ماهية ثابتة ونظامًا وميلًا طبيعيًّا إلى غايته، الموجود غير العاقل يتجه إلى غايته طبعًا، والموجود العاقل يتجه إليها بإدراك وحرية، ومتى علمنا ذلك لزم لدينا أن علينا احترام هذا الترتيب، إذ يستحيل أن يضعه الله ثم لا يريدنا على احترامه، فما القانون إلا أمر باحترام الطبائع ونظامها ليتحقق النظام العام، وعلى هذا فالخير خير لأنه يطابق النظام، والشر شر لأنه يعارضه، وطاعة القانون فضيلة تستحق الثواب، ومخالفته رذيلة تستحق العقاب، والمبدأ الأساسي للقانون الخلقي هو: إخضاع الحواس للعقل، وإخضاع العقل لله، بحيث تتجه حياتنا كلها إلى الحصول على الله؛ لأن ذلك هو الترتيب الطبيعي، والمجرمون أنفسهم يسمعون صوت القانون في ضمائرهم، ويحاولون خنقه فلا يفلحون.

(ﺟ) وكما أن الحرية محدودوة بطبائع الأشياء، فإن أفعالها تابعة لله الذي هو وحده مطلق، وقد برزت هذه القضية وذاعت بين عامة المسيحيين بمناسبة قضية مناقضة لها، قام راهب اسمه بيلاج يذيعها وينشئ شيعة تعلم أن للإنسان — دائمًا ووحده ومن تلقاء نفسه — أن يريد الخير وأن يفعله، دون احتياج لنعمة إلهية، فإن وجدت النعمة ظلت خارج الإرادة عديمة التأثير فيها، وعلى ذلك فلا اختيار من جانب الله يقرر مصير كل مخلوق، بل كل ما هنالك سبق علم الله بالمستقبل، فعارض أوغسطين هذه البدعة معارضة شديدة، قال أولًا: من المحال ألا يعلم الله بالمستقبل، ومن المحال أن يعلم أفعال المخلوقات من المخلوقات أنفسها، فيكون منفعلًا بها وهو العلة الفاعلية الأولى، بل إن كل إرادة فهي خاضعة لله حتمًا، غير أن الإرادة الصالحة تخضع حرة، والإرادة الشريرة تخدمه خدمة الأمة. ثانيًا: أن النعمة الإلهية ضرورية لكل فعل خير، وبنوع خاص في المجال الفائق للطبيعة، أي للإيمان بالحقائق الموحاة، وإعطاء الأفعال خيريتها فائقة الطبيعة، الأفعال أفعال الإنسان، ولكنها أيضًا أفعال الله، بحيث يكون لها علتان إحداهما خاضعة للأخرى فاعلة بتوجيهها وقدرتها، فليست النعمة ملاشية للحرية، وإنما هي معونة لفعل الخير، وليس سبق علم الله بالأفعال حجة ضد الحرية، فإن توقع الفعل الحر، ولو كان توقعًا محققًا، لا يرفع عنه صفة الحرية، إن الله يتوقع الفعل، وإذن سيكون الفعل، والله يتوقع الفعل حرًّا صادرًا عن ميل الإرادة واختيارها، وإذن سيكون الفعل حرًّا مختارًا، مما يمكن أن تشكو الإرادة؟ إن الله هو الخير بالذات، ولا يوجه المخلوق إلا للخير، والخير هو المطلوب، ولأجل هذا أعطانا الله العقل نعلم به الخير، وأعطانا المحبة نميل بها إلى الخير المعلوم، والعقل والمحبة مبدآ الحرية، وكلما طاوعنا هدى العقل وتحررنا من الشر ازدادت الإرادة حرية.

(د) والقانون الخلقي موضوع مشتهى فوق كونه واجبًا؛ لأنه خير بالإضافة إلينا فوق كونه خيرًا في ذاته، وهو بذلك يدفعنا إلى طلبه لذاته لا لمجرد كونه واجبًا، فتتلاقى إرادتنا وإرادة الله، بل إذا نظرنا إليه من حيث هو واجب قلنا إنه يقتصر على الوصايا التي تحصر نشاطنا في دائرة النظام العام، وإذا نظرنا إليه من حيث هو مشتهى وجدناه يفتح أمامنا مجالًا لا حد له، فإن الحياة الكاملة غير واجبة بدقيق العبارة، إذ ليس الكمال مقدورًا للكل في كل الظروف، ولكن الإنسان مدعو إليها مندوب لها، والفضيلة الكبرى محبة الله واضع النظام والمعين نفسه غاية لنا، وهي تتضمن سائر الفضائل: فهي الحكمة من حيث إنها الوصول إلى قمة الخير، وهي الفطنة من حيث إنها تجعلنا نحذر كل ما خلا الله، وهي الشجاعة بفضل قوة اتحادنا بالله، وهي العدالة من حيث إنها فوز النظام، فالسعادة والفضيلة متطابقتان، أو ما الفضائل في حد ذاتها إلا وسائل لغاية أبعد منها، وليست غايات كما اعتقد الأبيقوريون والرواقيون، فإنها إذا نصبت غايات وقطعت الصلة بينها وبين الغاية الحقة، انقلبت رذائل، انقلبت كبرياء ولذة مقنعة، ولا تتحقق السعادة الكاملة إلا في الحياة الآجلة، حتى إن النفس لتشتهي الموت بعد أن كانت تخافه أشد الخوف — وهكذا تصل النفس إلى الله من طريق الإرادة، كما تصل إليه من طريق العقل، وهكذا تبرز فكرة الواجب ضرورية، وتقوم الأخلاق على أساس عقلي متين.

(٩) العالم

(أ) بعد النظر في الله، وفي النفس وصلتها بالله، يأتي النظر في العالم، ليس العالم صورة الله كالنفس، لانتفاء الشبه أو المماثلة بين المادة والروح، ولكنه أثر الله تتألق فيه الصفات الإلهية، كالوحدة والحقيقة والخير والجمال، ناقصة متفاوتة بسبب نقصه وتفاوت موجوداته، وذلك أن كل موجود فهو واحد بماهيته، ولكن ثمة فرق بين وحدة الجسم القابل للقسمة بما هو جسم، وبين وحدة النفس التي لا تنقسم بحال وإن ميزنا فيها قوى أو أفعالًا مختلفة، وكل موجود فهو حق من حيث إنه يحقق ماهيته، ومحل الماهيات الذات الإلهية، فحقيقة الموجودات تقوم في مشابهتها للحقيقة بالذات، وكل موجود فهو خير؛ لأنه موجود، والموجود خير من المعدوم، ولأنه ماهية ما واحدة متناسقة، وكل موجود فهو جميل من حيث إن التناسق أو الوحدة بين الأجزاء هي مظهر الجمال في الشيء، طبيعيًّا كان أو صناعيًّا، فالمشابهة التي تولد الوحدة تولد الجمال، والعالم في جملته واحد حق خير جميل، لذا كان وسيلة لتأمل الله، ولكن بعد النفس وإلى حد أقل.

(ب) وليس العالم صادرًا عن ذات الله صدورًا ضروريًّا أزليًّا، كما ذهب إليه أفلوطين والمانويون، إن هذا القول يعني أن الذات الإلهية تتجزأ، وأن جزءًا منها يصير محدودًا متغيرًا، والله بسيط لا متناه ثابت كامل، وإذن فقد خلقت الموجودات من العدم بفعل حر، يدل على ذلك أيضًا أن ليس العالم أزليًّا، إن السؤال عما كان الله يفعل قبل الخلق، كما يقولون في الرد على حدوث العالم، عبث لا طائل تحته، فإن إرادة الله أزلية، وفعله أزلي بلا منازع، ولا يوجد قبل وبعد إلا في مفعولاته، لقد وجد الزمان بوجود العالم، من حيث إن الزمان عدد الحركة، وهو متعاقب بالذات، وليس بكون المتعاقب أزليًّا لا متناهيًا، ولكنه معدود بالضرورة، ومهما نفرض له من مقدار فهو محدود دائمًا، وما بالهم لا يسألون: «لم خلق الله العالم في هذا المكان ولم يخلقه في مكان آخر؟» والواقع أن لا وجود للمكان دون العالم، ولا وجود للزمان دونه، والمخيلة هي التي تتوهم زمانًا ومكانًا مستقلين عنه، فالقول بأزلية العالم، حتى مع القول بالخلق، مضاد للعقل مضادته للوحي، وإنما رأى أفلوطين الخلق الحر ممتنعًا لظنه أنه يفترض في الله تقديرًا وحسابًا، وأن هذا الافتراض يدخل التغير على الخالق وينزل به إلى مستوانا، ولكن التقدير والحساب يختلفان في الخالق والمخلوق كما تختلف سائر الأفعال والصفات، على ما تبين آنفًا.

(ﺟ) كيف كان الخلق؟ هل أوجد الله الأشياء على التوالي في ستة أيام؟ إن في هذا التصور تشبيهًا لله بالصانع الإنساني يصنع في الزمان، فلا ينبغي فهم الكتاب على ظاهره، والكتاب نفسه يشهد بأن الأيام الواردة فيه ليست كأيامنا، من ذلك أنه يذكر خلق الكواكب في اليوم الرابع، وكيف تكون أيام وليال بلا شمس؟! وأن يومًا واحدًا يمثل زمن تكاثر الحيوانات على وجه الأرض، ومثل هذه السرعة في التكاثر يفوق ما للطبيعة من قوة معروفة، وأن الله استراح في اليوم السابع، يعني أن الله كف عن الخلق وأن الراحة مستمرة إلى وقتنا، وإذن فليس اليوم السابع يومًا عاديًّا، وليس المراد أن الله أحدث العالم على ما نرى اليوم، إنما تم الخلق في لحظة، والأيام الستة تفصيل لتلك اللحظة غير المنقسمة.

(د) خلق الله بعض الأشياء بالفعل، وهي الدائمة الثابتة على صورتها، والبعض الآخر بالقوة، وهي الكائنة الفاسدة، الطائفة الأولى تشمل الملائكة والنور والجلد والعناصر الأربعة والكواكب ونفس الإنسان الأول، والطائفة الثانية تشمل النبات والحيوان خلقها الله في «أصول بذرية» غير محسوسة أودعها طين الأرض على أن يتعهدها بعنايته ويبلغها إلى النضج والظهور فتخرج منها أجيال الأحياء على مر الزمان، كل جيل ينطوي على أصول الأجيال التالية إلى آخر الدهر، لا متمايزة كأنها جراثيم بمعنى الكلمة، بل بالقوة والعلية تنمو وتظهر كلما صادفتها ظروف ملائمة، على نحو ما يشاهد الآن من تولد بعض النبات والحيوان من الجماد وخاصة من الطين، وهي ليست متولدة عن الجماد بما هو كذلك، بل عن أصول كامنة فيه، وتلك كانت الطريقة لأول ظهور الأحياء، وكذلك خلق جسم آدم في أصوله، ثم أخرجته أصوله في الوقت المحدد من الله فاتحدت به النفس المخلوقة في اللحظة الأولى، وقد جاء في سفر التكوين: «صنع الله الإنسان من طين الأرض» و«لتنبت الأرض نباتًا عشبًا يبذر بذرًا، وشجرًا مثمرًا يخرج ثمرًا بحسب صنفه» و«لتفض المياه زحافات ذات أنفس حية، وطيورًا تطير فوق الأرض» و«لتخرج الأرض ذوات أنفس حية بحسب أصنافها»، وكل هذه الآيات تدل على أن الله لم يخلق الأحياء مباشرة، فلا يبقى إلا أنه خلق أصولها كما تقدم، وخلق أصولًا للموجودات والأحداث غير المألوفة أو المعجزات، تخرج منها بتدخل قدرته، مثل خروج حواء من ضلع آدم، وبذلك لا تكون المعجزة خارقة للطبيعة، بل خارقة لما نعرفه عن الطبيعة، فإن الله لا يفعل شيئًا ضد الطبيعة، ولا ينقض القوانين التي رتبها لها، وبذلك يرتفع التناقض البادي بين الفصلين الأولين من سفر التكوين: يقول الأول: إن الرجل والمرأة خلقا بفعل واحد، ويقول الثاني: إن المرأة استخرجت من ضلع الرجل، فالفصل الأول يقصد الخلق البذري، والثاني يروي تدخلًا جديدًا من لدن الله، وبذلك أخيرًا نفسر واقعة الأتان التي نطقت، والعاقر التي حبلت، والغصن اليابس الذي أورق، وغير ذلك مما ورد من معجزات.

(ﻫ) أجل، كان أوغسطين قد وجد نظرية الأصول البذرية عند الرواقيين جعلوها في العقل الإلهي الحال في مادة العالم، وعند أفلوطين وضعها في النفس الكلية، فجعلها هو جزءًا من العالم السفلي، وقصد بها إلى تفسير التوراة، مع تسليمه بإمكان تفسير آخر، فإنه يترك حرية واسعة لمفسر سفر التكوين، ولا يقيده إلا باحترام حرف الكتاب وعدم ادعاء التعبير عن فكر موسى، وجاءت هذه النظرية أيضًا تفسيرًا معقولًا للاعتقاد بالتولد الذاتي، فهي تختلف عن رأي أرسطو الذي يضيف قوة التوليد للشمس، وتختلف كل الاختلاف عن رأي فريق المتقدمين والمتأخرين القائلين بخروج الحياة من القوى الفيزيقية والكيميائية فحسب، وتختلف كذلك عن مذهب النشوء والارتقاء، فإن الأصول البذرية ليست متجانسة بحيث يخرج أي نوع من أي أصل، وقد بين أوغسطين رأيه بكل صراحة، قال: «عناصر هذا العالم المادي حاصلة على قوة معينة وكيفية خاصة يرجع إليها ما يستطيعه أو لا يستطيعه كل منها، ونوع الموجودات التي يمكن أن تخرج أو لا تخرج من كل منها، وهذا هو السبب في أنه لا يولد فول من قمح، ولا قمح من فول، ولا إنسان من الحيوان الأعجم، ولا الحيوان الأعجم من الإنسان»، على أن النظرية تصلح تفسيرًا معقولًا للتطور — إن ثبت — من حيث إنها تبين حينئذ أن ما يبدو جديدًا هو جديد في الظاهر فقط، فتتفادى التناقض الذي يقع فيه أنصار التطور، إذ يستخرجون المتنوع من المتجانس، والنظام من المصادفة، والأكمل من الأنقص.

(و) إذا كان العالم صنع الله، وكان الله الخير بالذات، فكيف يوجد الشر في العالم؟ مسألة شغلت أوغسطين منذ انضمامه للمانوية، وأعانه أفلوطين على حلها، نقول: «أعانه»، ونعني أنه أعطاه فكرة طبقها هو تطبيقًا جديدًا، فحصل على حل جديد، الفكرة هي أن كل موجود فهو خير بما هو وجود، وأن الشر، وهو عدم الخير، هو من ثمة لا وجود، فيذهب أفلوطين إلى أن الموجودات، في صدورها عن الموجود الأول، تتضاءل بالتدريج حتى تبلغ إلى المرتبة الأخيرة التي هي المادة «اللامعينة اللامصورة الناقصة أبدًا المنفعة كلية»: فالمادة لا وجود، ومن ثمة لا خير، هي الشر بالذات، وهي أصل الشر في الموجودات المركبة منها أو المتصلة بها، هي أصل الجهل والرذائل والأمراض، أما أوغسطين فيرى أن أفلوطين، مهما يبالغ في ضآلة المادة، فهو مضطر آخر الأمر إلى اعتبارها وجودًا ما، وإلا لما دخلت في تركيب الأشياء، ومهما تكن لا معينة، فهي على الأقل موضوع للصورة وللتعيين، ومتى اعتبرها وجودًا وجعلها شرًّا بالذات، فقد خالف مذهبه من وجهين، أحدهما: قوله: إن الوجود والخير متساوقان، فلا يمكن أن يكون موجود ما شرًّا بالذات. والآخر: قوله: إن الموجود الأول هو الخير بالذات، بحيث لا يمكن أن ينتهي الصدور عنه إلى شر، فالمادة خيرة من حيث هي وجود، ومن حيث هي صادرة عن الله، ومن التناقض أن يشخص الشر، الذي هو لا وجود، في المادة مع أفلوطين، أو في إله مع المانويين، وحقيقيته أنه «عدم خير في موجود هو خير بما هو موجود» أي إنه فساد إحدى خصائص الموجود، ويتفاوت بتفاوت الفساد، مثل العمى، وهو عدم الرؤية في حيوان أو إنسان هو خير بسائر أعضائه السليمة، وعلة مكان فقدان المخلوق خيرًا ما هي أن وجوده وصفاته ليست له بالذات، ولو كان صادرًا عن ذات الله، كما يقول أفلوطين، لكان من طبيعة الله، ولما أمكن أن يفسد، ومع ذلك ليست الشرور طبيعية ولا ضرورية في العالم، كما يقول أفلوطين أيضًا، إنها إخلال بالنظام، ولو خلا العالم منها لكان أجمل.

(ز) الشر نوعان: خلقي وطبيعي، وفي الحالين لا ينسب إلى الله، ولكن الله يسمح به، ثم يستخرج منه الخير، ما دام الشر عدمًا، فليس البحث عن علته بحثًا عن مصدر وجود، بل عن مبدأ نقص، وليس مبدأ النقص إلا في المخلوق، فالشر الخلقي أو الخطيئة سواء في استعمال الحرية بنبذ الخير الدائم، والإقبال على خير زائل، فهو عدم النظام في الإرادة، إن القول مع الأفلاطونيين والمانويين بأن النفس تخطئ بسبب الجسم والحواس، إسراف ظاهر، أجل، إن الجسم يثقل النفس، ولكن الأدنى لا يحكم الأعلى، وليس فساد الجسم وسوء تأثيره في النفس سبب الخطيئة الأولى، ولكنه نتيجتها والعقاب عليها، وكيف يفسرون خطيئة الشيطان وهو بلا جسم؟ إنها خطيئة الكبرياء والحسد والاغتباط بالذات، ولم يكن آدم وحواء ليخطئا لو لم يبدآ بالاغتباط بنفسهما حين وسوس لهما الشيطان بأنهما إن أكلا من الشجرة المحرمة صارا كإلهين، فالإرادة علة الخطيئة، أو الخطيئة عدم محبة الله في إرادتنا، بعكس الخير فإنه وجود ويتطلب علة ثبوتية، يوجهنا الله إليه، وتستطيع الإرادة أن تقبل هذا التوجيه، وحينئذ تفعل الخير بالشركة مع الله مصدر كل فعل، وإن سأل سائل: كيف أعطانا الله حرية تخطئ؟ أَوَلَيْسَ هو المسئول عن الشرور؟ أجبنا أن الإرادة خير من حيث هي قدرة على الاختيار، وهي رديئة شريرة حين تكون على غير ما ينبغي أن تكون، فهنا أيضًا لا يوجد الشر خارج الخير، إنه لكمال أن نقدر على العمل باختيارنا، وأن نراعي بإرادتنا الحرة النظام الموضوع من الله فنساهم على نحو ما في فعل الخالق: فكيف كان يمكن أن يحرمنا الله إياها؟

(ﺣ) أما الشر الطبيعي، فهو في الماديات فساد كيانها أو زواله، وهو ليس شرًّا بمعنى الكلمة؛ لأن في فساد البعض كون البعض: في فساد العناصر كون المركبات منها، وفي فساد مركب كون العناصر المؤلف منها، أو كون مركب آخر، فالفساد هنا داخل في النظام العام الناتج من تنوع الكائنات وترتيبها بعضها بالإضافة إلى بعض، والشر الطبيعي الذي يحسه الإنسان في ذاته أثر الخطيئة وعقاب عليها؛ لأن الخطيئة تمرد على النظام، وأثرها اضطراب في كيان الإنسان، ولكنه لا يخلو من فائدة: فهو عند الحكيم يكمل خبرته وحكمته ويستحق له ثوابًا، وعند غير الحكيم هو طريق الحكمة، وعند الشرير هو عقاب عادل.

(١٠) الأخلاق

(أ) لكل إنسان في الواقع نظرية أخلاقية بمبادئها ونتائجها، والمبدأ يمثل نوع السعادة الذي يختاره، والنتائج تمثل الطرق الموصلة إلى هذه السعادة، ونظريات الفلاسفة إفصاح عما يختلج في صدور سائر البشر، وتحليل له منطقي عميق، مبدأ أفلاطون أن للإنسان نفسًا روحية هبطت من العالم المعقول، وأنها ستعود إليه بممارسة الفضيلة، ومبدأ أبيقور أن ما يسمى نفسًا إنسانية ما هو إلا اجتماع ذرات مادية تنفصل بالموت، وأن السعادة في اللذة الجسمية، وأن كل ما يؤدي إلى هذه اللذة هو الغاية المنشودة، ومبدأ المدرسة الرواقية أن السعادة في الحكمة والفضيلة دون نظر إلى ظروف الحياة، وبالرغم من مادية العالم ومادية النفس وفنائها، والمدارس الثلاث تزعم أن للإنسان القدرة على تحقيق السعادة، فهذه هي المسألة الكبرى التي يتعين حلها بادئ ذي بدء.

(ب) لا يصعب علينا أن نستخرج من كتب أفلاطون وأفلوطين عبارات توحي بافتقار الإنسان إلى مدد إلهي، كي يزاول الحياة الفاضلة، بيد أن فكر أفلاطون متردد قلق، ولا يصعب علينا أن نستخرج من كتبه عبارات توحي بالعكس، وأفلاطين يجاوز من غير شك الحد المقبول في مذهبه، والله عنده لا يعلم العالم، بل لا يعلم ذاته، فلا يعني بسيرتنا ولا يمنحنا مددًا ما، فلننظر في المدرستين الأخريين.

(ﺟ) كان أوغسطين يحتقر أبيقور احتقارًا شديدًا، ويعجب كيف أمكن لرجل يدعي الحكمة أن ينكر النفس وعظمتها وعلوها على الطبيعة المادية إلى حد أن يجعل منها أمة للجسد، وكيف جرؤ أن يزعم أن اللذة الجسمية هي الخير الأعظم وألا سعادة إلا سعادة الشهوات الجسدية، إن التجربة لتدل على أن اللذة لا تسعدنا، فالحواس لا تقنع أبدًا بما تناله منها، ولكنها تطلب المزيد دائمًا وتتمرد على الحياة، وهنا يستشهد أوغسطين بخبرته الشخصية، فقد كان أبيقوريًّا في فترة من شبابه، فهو يتكلم عن بينة، يستشهد بالعقل فيقول إنه يرى أوضح رؤية أن الجسد مرتب للنفس، لا أن النفس مرتبة للجسد، فخير ما يملكه الجسد، أي النشاط والجمال والحس، ليس آتيًا منه هو، بل من النفس منبع صفاته وعواطفه، ومركز هنائه وسعادته، والنفس هي الجزء الأهم في الإنسان، وهي التي يجب مراعاتها عند تحديد الأخلاق.

(د) هذا ما يفعله الرواقيون، وجوهر الأخلاق عندهم الفضيلة لأجل الفضيلة، يتحصَّن الواحد منهم في حكمته كأنها قلعة لا تفتح، ويتحدى الحظ، ويزدري المال والمناصب، ويربأ بنفسه عن الانفعالات، سواء منها المحبة والشفقة والبغض واللذة والألم، ويعلن أنه في قمة السعادة، ولو تراكمت عليه الهموم والمتاعب، نسلم إذن بتفوق الرواقية على الأبيقورية، ولكن مسألتنا تظل قائمة: هل للفضيلة الكفاية لإسعادنا تمام الإسعاد؟ تحاول الحكمة الرواقية أن ترتفع فوق الإنسانية، فتذهب في الحقيقة إلى إعنات الإنسانية بتكليفها المحال، فإن التجرد عن الحساسية مناقض للطبيعة، وليست الانفعالات للجسد وحده، ولكن جذورها تغوص في أغوار النفس، وإذا حاولت النفس كبتها وإعدامها فإنها تعمل على إعدام ذاتها، والواقع المؤيد لهذا الرأي أن الحكيم الروائى لم يوجد قط إلا في خيال الرواقيين، فما من فضيلة تستطيع التغلب على الحساسية ومحوها من كيان الإنسان، والأسباب المانعة للحكيم من أن يصير سعيدًا تمام السعادة هي أولًا: أن السعادة هي الاغتباط الكامل الدائم للنفس والجسد أيضًا، فالسعادة المحدودة ليست السعادة. ثانيًا: أن توقع انتهائها ينغص حياتنا ويحزننا، لذا نرغب في الخلود، هو شرط لا غنى عنه للسعادة، فإننا نتمنى أن نحيا سعداء وإلى الأبد، وكيف يمكن للنفس الإنسانية أن تجد في ذاتها تمام الهناء وبها حاجة متصلة للهناء تدل على شفائها وعدم استقرارها؟ فمهما تفعل فلن تستطيع حكمتها، ولن تستطيع فضيلتها أن تستنبط من ذاتها ما لا وجود له في ذاتها.

(ﻫ) إذا كانت خيرات النفس وخيرات الجسد لا ترضي نزوعنا الطبيعي إلى السعادة، فهل هذا النزوع عبث؟ كلا، إن في الطبيعة نظامًا وغائية يجد العقل من الضروري الإقرار بهما كقانون كلي، فالنزوع الطبيعي الذي لا ينتهي إلى غايته تناقض صريح وشيء غير معقول، فلا يبقى إلا أن نقر بموجود أعلى كامل سرمدي هو الخير الأعظم وهو سعادتنا الكاملة الدائمة، فكما أن حياة الجسد هي النفس، فكذلك حياة النفس هي الله، ونحن حين ننزع إلى الخير الكامل أو السعادة، ننزع في الحقيقة إلى الله نزوعًا طبيعيًّا تلقائيًّا، ومهما نفعل فنحن نفعل ما يريده الله، فعلينا أن نطابق بين إرادتنا والإرادة الإلهية، وأن نحوِّل القضية المعربة عن الواقع إلى قضية معربة عن الواجب، فإن فلسفة أخلاقية لا تتصور بدون إلزام وبدون جزاء، فقد نرى بوضوح أين توجد السعادة الحقة، ثم نريد ونختار سعادة أخرى، فلا تبقى حرمة للفضيلة ولا يبقى لها سند، إذا كان الله قد وضع نظامًا معينًا فينا وفي سائر الأشياء فإنما وضعه لكي يحترم، كما قدمنا.

(و) والجزاء معاينة الله، وهي نصيب المختارين في الحياة الآجلة، معاينة عقلية لا حسية، فليس يمكن لعين الجسد أن ترى الله، لا في هذه الحياة ولا بعدها، سيكون لهم جسد محرر من جميع النقائص والآفات، وسيكون لهم إدراكات حسية لا نستطيع تصورها ما دمنا في الحياة الراهنة، كما أننا لا نستطيع تصور السعادة الناتجة من الرؤية الإلهية، وقد نقول: إذا سكن اضطراب الجسد، وتوقفت النفس عن التفكير في ذاتها فجاوزت ذاتها، وإذا ارتقت شروط المعرفة فلم يبقَ شيء من الغوامض التي يضل فيها العقل الإنساني في كل آن، وإذا استمر ذلك وابتعدت الرؤى الدنيا، وأثارت تلك الرؤية وحدها ذلك الذي يتأملها واستوعبته وغمرته في الأفراح الباطنة، واستمرت حياة لا نهاية لها على ما كان ذلك الآن الذي عرض للعقل — أليس يكون هذا تحقيق الكلمة القائلة: «ادخلوا فرح إلهكم».٢

(١١) المجتمع

(أ) دخل الشرُّ الأرضَ بمعصية آدم، فتفرق الناس طوائف، كل منها يسعى لخير ما، إذ ليس المجتمع حشدًا من أناس يجهل بعضهم بعضًا، كما يتفق لشهود التمثيل قبل بدايته، وإنما المجتمع اشتراك في الفكر والعاطفة، كما يشترك شهود التمثيل في الإعجاب بممثل فيؤلف هذا الإعجاب منهم وحدة معنوية، فالمدينة أو الدولة جماعة من الناس تؤلف بينهم محبة مشتركة لموضوع ما، وفي الإنسان محبتان: محبة الذات إلى حد امتهان الله، ومحبة الله إلى حد امتهان الذات، فهناك مدينتان ترجع إليهما سائر المجتمعات البشرية: المدينة الأرضية أو مدينة الشيطان، والمدينة السماوية أو «مدينة الله»، ليست هذه خيرة بالطبع، وتلك شريرة بالطبع، كما يذهب إليه المانويون، وإنما ينتمي كلٌّ إلى إحدى المدينتين بمحض إرادته، وبينهما منذ البداية حرب هائلة، تجاهد الواحدة في سبيل العدالة، وتعمل الأخرى على نصرة الظلم، ولن تزال هذه الحرب مستعرة إلى نهاية العالم، حتى يفصل بينهما المسيح في آخر الأزمان، فتنعم الواحدة بالسعادة الأبدية، وتلقى الأخرى جزاءها في النار التي لا تنطفئ.

(ب) ينقسم تاريخ المدينتين إلى وقتين يفصل بينهما ظهور المسيح: فمن قايين إلى إبراهيم كانتا مختلطتين، ولما جاء إبراهيم أبو المؤمنين بدأتا تتميزان سياسيًّا: المدينة السماوية يمثلها بنو إسرائيل، والمدينة الأرضية تشمل باقي الإنسانية، حتى بلغت ذروتها في الإمبراطورية الرومانية، على أنه كانت تضمهما وحدة ما ناشئة من تقدمهما معًا نحو المسيح، مع تفاوت طبعًا في هذا التقدم: فإنه يتحقق في إسرائيل بتدخل الله تدخلًا متصلًا يزداد وضوحًا وإلحاحًا بمر الزمان، ويتحقق في الوثنية بشيء من المشاركة غير المقصودة وغير المباشرة في التمهيد للمسيحية سياسيًّا وعقليًّا، بناء على تدبير العناية الإلهية، بحيث كانت مدينة الله ممثلة تمثيلًا ماديًّا في شعب إسرائيل، ثم كانت تجاوزه فتشمل جميع الذين شاركوا في الحركة الموجهة للعالم نحو المسيح، وبالمسيح ينتهي التمايز السياسي بين المدينتين، فتختلطان من جديد وتعود كل منهما وحدة معنوية لها أعضاء في الإنسانية جمعاء، فالمدينة السماوية هي جماعة المختارين في الماضي والحاضر والمستقبل، وكما أنه وجد صالحون قبل مجيء المسيح وتكوين الكنيسة، يوجد الآن خارج الكنيسة، بل في عداد مضطهديها، مختارون مستقبلون يخضعون لها قبل مماتهم، ويوجد في الكنيسة كثيرون لن يكونوا في عداد المختارين، ولكن الكنيسة هي الجماعة البشرية التي تعمل على بناء المدينة السماوية، وأرادها الله وأسسها لهذه الغاية، وما يزال يؤيدها في تحقيقها.

(ﺟ) المدينتان تلتقيان إذن في الحياة الراهنة، ويشارك أعضاء المدينة السماوية في مزايا المدينة الأرضية وأعبائها، ولكن الاختلاط ظاهري بالرغم من هذه المشاركة، ذلك بأن الخيرات المادية عند أهل المدينة الأرضية غايات يتنازعون عليها ويستمتعون بها لذاتها، وعند أهل المدينة السماوية هي وسائل يستخدمونها لصيانة حياتهم وتحقيق الغاية الحقة التي هي الفضيلة والكمال الروحي، فالدولة أدنى من الكنيسة وخاضعة لها باعتبار الموضوع والغاية. وإذا استرشدت في تشريعها بأصول الأخلاق الفاضلة كانت أداة نظام وسلام مساعدة للكنيسة في العمل لغايتها، وساد الوفاق بينهما، وقد حدد المسيح العلاقة بينهما حين قال: «أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.» فحين يطلب قيصر ماله يعطيه المسيح إياه، لا محبة بقيصر بل محبة بالله، وسواء أكان الحاكم صالحًا أو طالحًا فنحن نعلم، وقد صرح بذلك القديس بولس، أن سلطانه من عند الله، وإذا خفيت علينا الحكمة الإلهية في تسليط الشرير، فنحن نؤمن أن الله هو الذي سلطه، إذ لا وجود للصدفة عند المسيحي، وحين يطلب قيصر ما هو لله وحده يأباه المسيحي عليه، لا بغضًا لقيصر بل حبًّا بالله، يأباه عليه، ولكنه لا يثور، بل يؤثر تحمل الظلم، فلا خوف على الدولة من المسيحيين.

(د) يعترض البعض بأن تعاليم المسيحية مخالفة لمقتضيات الدولة، فهي تقول بعدم مقاومة الشر، وبعرض الخد الأيمن للصفع بعد الخد الأيسر، وبإعطاء ستة لمن يسأل خمسة، والجواب أن الناس في كل عصر أكبروا هذه الأفعال، كما نقرأ في كبار الكتاب: ألم يمدح الملوك والأقوياء بالتجاوز عن الإساءة؟ فكيف نعجب بذلك حين يأتيه الوثنيون، ثم ننكره إذا صنعه المسيحيون؟! الحقيقة أن المسيحية، لو فهمت على وجهها، عادت على الدولة بما لم تعرفه الدولة الرومانية نفسها في أزهى أيامها من القوة والفلاح، ما الدولة إن لم تكن جماعة متآلفة، وأي ضمان للتآلف خير من المحبة المسيحية؟ إنها تذهب بالحقد والأثرة، وتمنع الشر الظاهر، وتشفي الشرير من شره الباطن فينقلب إنسانًا طيبًا مسالمًا نافعًا للمجتمع، بينا مقابلة العدوان بمثله ترسخ الشر في قلب المعتدي وتدخل الشر إلى قلب المقاوم، وتنشر الشِّقَاق، على أن المحبة لا تنافي الحزم، فهناك أحوال تقتضينا تأديب الشرير لأجل مصلحته وإن كَرِهَ، ذلك ما يصنعه الوالد مع ولده دون أن يكف عن محبته، إذ أنه لا يضرب إلا ليقوِّمَ الاعوجاج، وما على الذين يزعمون أن شريعة المسيح ضارة بالدولة إلا أن يوفروا لبلدهم حكامًا وجنودًا وقضاة وأزواجًا وبنين كما يريدهم المسيح، ثم يروا إن كانت النتيجة شرًّا أم خيرًا عميمًا.

(ﻫ) أساس الحياة الاجتماعية القانون الطبيعي، وهو قانون يستكشفه الناس جميعًا بالعقل ويحترمونه جميعًا، فإنه يرجع كله إلى قضيتين ضروريتين: الواحدة ألا يصنع المرء بالآخرين ما لا يريد أن يُصنع به، والأخرى أن يعطي كل ذي حق حقه، ولكن آدم عصى ربه، فانحط عن المرتبة التي رفعه الله إليها، وحط معه ذريته، فأضحى الإنسان خلوًا من المواهب الإلهية، مختل الطبيعة، ميالًا للعبث بالقانون الخلقي، فوجب تقرير القانون الوضعي وجزاءاته تؤيده القوة لوقف العابثين عند حدهم، وإصلاح سيرتهم، وتوفير الطمأنينة للأخيار، هذه المهمة هي التي تسوغ السلطة الزمنية، كما يقول القديس بولس، وبها نشأ نظام ثانوي، ولكنه طبيعي؛ لأنه النظام الذي تقتضيه طبيعة خاطئة مختلة، وإليه يرجع حق السلطان في الإكراه وكل ما يلازمه من سيف وحرب وملكية فردية ورق، فإن هذه الأمور عقاب على الخطيئة، وضمان للنظام بعدها.

(و) وللقانون الوضعي ضوابط، فأولًا: يجب أن يصدر عن القانون الطبيعي، فليس القانون الجائر قانونًا، ولا يمكن أن يخلق لنفسه حقًّا ويفرض على الرعية واجبًا؛ لأن أساس الحق العدالة لا منفعة الأقوى، وأساس استخدام القوة أنها وسيلة جعلتها الخطيئة ضرورية لتأييد العدالة. ثانيًا: القانون الوضعي أضيق نطاقًا من القانون الطبيعي، فهو لا يتناول سوى الأفعال الظاهرة، ويغض الطرف عن بعض الشرور، ليتفادى شرورًا أعظم، تاركًا لله المعاقبة على ما لا يعاقب هو عليه. ثالثًا: القانون الوضعي تابع إلى حد ما لظروف الزمان والمكان، فإن من العدل تدبير الأخلاق بحسب اختلاف أحوال الإنسانية الخاطئة، فلا ينبغي اتهام شعب بالرذيلة إذا ما بدت لنا حكمته أدنى من حكمة شعب آخر أو عصر آخر، إن العدالة ثابتة، ولكن الناس متغيرون.

(ز) ويذهب حق تأييد العدالة بالقوة إلى حد الحرب، أجل، إن للحرب خصومًا يزعمونها مضادة للأخلاق، ويشفقون من ويلاتها، الحرب الممقوتة هي التي يحدوها حب الفتح أو الحقد والانتقام، أما المدينة المعتدى عليها فلها كل الحق في المقاومة، وليس يؤدي الامتناع عن المقاومة إلا إلى انتصار الأشرار، وهو نكبة خلقية، وإغراء لهم بالتمادي، وفتنة للآخرين، بينا تكف المقاومة شرهم، وتردهم إلى العدالة، فالحرب مشروعة متى كانت الوسيلة الوحيدة لصيانة الحقوق المهددة، والذين يموتون فيها مائتون حتمًا يومًا ما، وهم إنما يموتون لكي تحيا الأجيال التالية في كرامة وسلم، فعلى الجند الطاعة، وهم لا يعتبرون قتلة؛ لأن القتل الذي حرمه الله هو الصادر عن هوى شخصي، عليهم الطاعة حتى ولو كانوا يشكون في عدالة حربهم، فإن الإثم يقع على صاحب السلطان لا عليهم، ولا يحق لهم العصيان إلا إذا كانوا على يقين تام بمنافاة حربهم للعدالة، على أن الحرب، إذا كانت ضرورة، فهي ضرورة محزنة، فلا أقل من أن تسودها الرحمة بحيث لا يؤتى فيها من الأفعال إلا الضروري للانتصار، كم تكون الإنسانية سعيدة لو أنها صغيرة يعامل بعضها بعضًا معاملة الأسر المتحابة!

(ﺣ) وعلى الدولة إقرار الملكية الفردية وحمايتها، المالك الحقيقي هو الله خالق الأشياء، ولكن الحيازة المشروعة والشراء والبدل والهبة والإرث، تخول الحق في الملكية، أما الاستيلاء بطرق أخرى على ملك الغير فسرقة واغتصاب، ولا يبطل سوء تصرف المالك حقه في ملكه، ولو أريد توزيع الخيرات والمناصب على قدر العدالة والكفاية والفضيلة، لتعرض النظام الاجتماعي لتقلبات لا تحصى، فإن مثل هذا التوزيع عسير التحقيق، إن لم نقل: إنه مستحيل، وهو على كل حال قصير الأجل، ولا ينبغي أن نتوقع العدالة التامة في هذه الحياة كما لو كانت المدينة السماوية ممكنة التحقق على هذه الأرض.

(ط) تلك خلاصة فلسفة أوغسطين، وإننا لنرجو أن يكون قد بان منها كيف تكون فلسفة مسيحية، فكر أوغسطين في حاله ومصيره، كما يجب أن يفعل كل إنسان، فتجلت له ضرورة الإيمان، وما إن آمن حتى أراد أن يتعقل إيمانه، فوجد المسائل تتفرع أمامه كما تتفرع الأقطار من مركز الدائرة، مسائل المعرفة والله والنفس والعالم والمجتمع، فنظر فيها باعتبار بعضها أساسًا للإيمان، وبعضها الآخر جزءًا منه، فليست الفلسفة عنده مذهبًا مستقلًّا بموضوعه، بل ليس التفلسف عملًا مستقلًّا بمنهجه، فإن الانتقال من التفكير في النفس إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى التعقل، لا يتم بدون تطهير القلب بمعونة النعمة الإلهية، أي إنه عمل يشترك فيه العقل والإرادة.

١  السماعون في المانوية هم المعتنقون للمذهب غير العاملين به بعد، أما أتباعه الأوفياء علما وعملا فهم الصديقون أو المختارون، انظر كتاب الفهرست لابن النديم.
٢  كتاب الاعترافات، مقالة ٩، فصل ١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤