خاتمة

أن يَنتهي الكلام عن آسيا، كأن يَنتهي الكلام عن الجنس البشري والإنسان، مسألة لا يتصوَّرها عقل، هي ليست قارة فقط، ولكنها أكثر من ثلثَي العالم، وبين كلِّ ثلاثة من سكان الأرض تجد اثنين منهم آسيويين؛ فهي أضخم القارات عددًا، وأكثر التناقُضات تناقضًا، ومن الرأسمالية بأبشع صورها الآسيوية في اليابان وتايلاند وفورموزا وغيرها، إلى الاشتراكية بأروع صورها الشيوعية في الصين وكوريا وفيتنام، ومن بلادٍ مُحايدة وعلى شفا الحياد، إلى تجارب في الديمقراطية الاشتراكية المُعتدلة في الهند، إلى دكتاتوريات عسكرية، إلى شعوبٍ يَحكمها الاستعمار ومخابراته، وشعوب انتُزعت حريتها، إلى إنسان يعبد الأصنام لا يزال، والآخرون أخذوا الماركسية العلمية عبادة، من نساء على هيئة جيشا، إلى مقاتِلات تخصَّصنَ في إسقاط الطائرات، من حالة الكفاف إلى دون الكفاف، إلى الديسي والملتي مليونيرات، من الأباطرة إلى الرفاق، ومن بلادٍ لا ينمو فيها القتاد إلى أغنى البلاد، إنها العالم مركَّزًا ومزدحمًا وواصلًا إلى أقصى درجات تناقضاته.

البلد الذي خلب لبي

ومع كل ما رأيت، فإن البلد الذي خلب لبي في آسيا هو الهند؛ الشعب، والحضارة. وفي البطولات ليس أعلى مِن فيتنام. في التحلُّل هناك تايلاند وهونج كونج. في الطموح المُخيف نرى اليابان. في أي مكان لا بدَّ أن تَعثُر على نموذج، والنموذج صارخ، وفي كل مكان تلحظ حركة التاريخ سادِرة سريعة، لا يوقفها شيء. في الواقع آسيا كونٌ، ومهما درتَ مع أفلاكه، في الشرق والجنوب والشمال، فأنى تذهب فستَشعُر حتمًا أن لهذا الكون مركزًا، ثقله من ثقل الشمس، ومكانه الصين. هناك هي الحقيقة الكبرى، ودائمًا هي في الطريق لتُصبح الحقيقة الأكبر.

•••

وآجلًا أم عاجلًا، شاءت أمريكا أم أبت؛ فمصير آسيا للصين، لا للاستعمار الصيني، فالماوتسية لا تستعمر، وإنما للإشعاع العقائدي، والمذهبي والثقافي والسياسي الصيني. ومن الآن ترى الإشعاع يتجسَّد، والأحزاب الشيوعية الصينية النمط تتكاثَر وتُصبح الأقوى، وتملك المنطق الذي لا يُقاوَم؛ الثورة المسلحة التي لا بديل عنها ولا محيص.

بل أكثر من هذا، سمحتُ لنفسي — ولستُ سياسيًّا — أن أتصور الغد الآسيوي، وهو غدٌ يكاد يكون مفاجأة. لقد حاولت أمريكا أن تبني اليابان قاعدة رأسمالية تقود القارَّة إلى معسكر الرأسمال، ومنذ نهاية الحرب واليابان تبدو لأمريكا وكأنها أطوع لها من بنانها في هذا الاتجاه، ولكن المسائل بدأت تَنكشِف، ومع ازدياد القوة الاقتصادية اليابانية بدأت اتجاهاتها، أو رياح اتجاهاتها المستقلة تهب. وإذا كانت أمريكا قد بذلَتِ المستحيل لتضع بين اليابان والصين إسفينًا يُبقي العداوة بينهما إلى الأبد، فإن تقديري الشخصي أن الإسفين سيتحوَّل، بطريقة لم يَحلُم بها أحد وأبدًا، أبدًا لن تدخل اليابان في عراك أو تناقُض مع الصين. ومنذ الآن تضع اليابان خططها لتتكامَل اقتصاديًّا مع العملاق الأحمر المُجاوِر. وبالصين واليابان معًا، بآسيا الاشتراكية والرأسمالية التي بدأت تعود لتُصبِح وطنية بعد أن استنزفَت ما استطاعَت استِنزافه من رأس المال الأمريكي، بهما معًا، في القريب، ستَنشأ كُتلة أو معسكر متكامل مُتناسق أخذ من الغرب كل عمله وأسراره الرأسمالية ومن الشرق كل خلاصة تجاربه الاشتراكية، وبدأ وسيبدأ يُحقِّق لآسيا وجودًا لم يكن لها في يوم من الأيام. ومثلما خُيِّل لبعض المعلِّقين أن احتمال حدوث الحرب بين أمريكا وروسيا أقل من حدوثِه بين الصين وروسيا؛ فالاحتمال الذي سيتكشَّف عنه المستقبل، أن آسيا بغربها وشرقها بصينها ويابانها، ستقف وجهًا لوجه أمام الاتحاد السوفييتي باشتراكيته، والغرب برأسماله.

•••

وإذا كان هذان القطبان الآسيويان في مركز أقل، وليسا الدولتين الأعظم بعد، فإن الانفجار الاقتصادي والصناعي في الصين واليابان يتطوَّر بسُرعة مُخيفة، وعلى يد العقلية الآسيوية الدائبة المتقشِّفة الظامئة إلى الوجود والتفوُّق من زمن طويل، سيَصل إلى آفاق لا يُمكن أن يتصوَّرها أحد.

عصر آسيا

نحن مُقبِلون إذن على عصر آسيا.

والصراع الآن على أشدِّه.

اليابان تُحاول أن تسحب البساط من الرأسمالية الأوربية والأمريكية، وتُصبح هي موردة الصناعة والصناعات لبقية البلاد المُرتبِطة بالرأسمالية.

والصين تُحاول أن تحلَّ محلَّ الاتحاد السوفييتي في قيادة الثورة ضد الاستعمار والنفوذ الاستعماري بكافَّة أشكاله في البلدان التي تَبغي التحرُّر.

وإذا انقسم العالم في بحر السنوات المُقبلة، فإنما سيَنقسِم إلى حضارة رأسمالية نامية مُكتسِحة، وحضارة غربية تُحاول الدفاع عن النفس والوقوف في وجه ثلثَي سكان العالم وقد امتلكوا أخطر أسلحة العصر: العلم والتكنولوجيا، وفوق هذا كله، قوة النمو المتفجِّرة الدامغة بعد طول صبر وطول مقاوَمة.

وسيكون الحياد حينئذ، حياد بقية أوروبا أو بقية آسيا وأفريقيا، حيادًا من نوع آخر. ليس فقط حيادًا بين المذاهب، ولا بين الاشتراكية والرأسمالية، وإنما حياد بين آسيويين لا نهائي العدد، وأمريكي أوربيين انتهَت خلافاتهم المذهبية والنظامية، يَقتُلهم الرعب من الخطر «الأصفر»، الذي طالَما تخيَّلوا بتنبؤاتهم وجودَه خوفًا من وجوده.

figure
بطل أفريقي.

ولكني مع هذا، أتمنى أن يحدث شيء آخر.

أتمنَّى أن يكون وقوف الإنسان الآسيوي على قدمَيه، ووقوف الإنسان الأفريقي على قدمَيه، فرصة أمام الواقفين على أقدامهم فعلًا، لا لكي يُقاوِموا هذا الوقوف من الجانب الآخر أو يَعتبروه الخطر الساحق، وإنما بداية لعالم آخر جديد، وقانون آخر يَسود هذا العالم؛ قانون المساواة، قانون العالم الأنضج الأقوى. قانون لا يعود يسمح بقوة وحيدة ما، أو حضارة واحدةٍ ما، أو مُنتصِر واحدٍ ما يسود ويَخضع له الباقون وإنما نَبلُغ بعقولنا حد الاعتراف أن السيادة المُنفرِدة ولَّت أيامها، وأن العصر عصر تعاوُن السادة، عصر التشارك وليس عصر التفرُّد، عصر التقاسم وليس عصر الاحتكار، عصر التنوع وليس عصر النموذج الواحد، عصر مساهَمة الحضارات أجمع في رقيِّ العالم أجمع، وليس عصر إملاء الحضارة الواحدة على العالم كله.

نعم، أتمنَّى مثلَما أدَّى التوازن الذري والنووي إلى إلغاء الحروب الشاملة، أن يحدث نفس الشيء حين يوجد التوازُن الحضاري والفكري، بحيث يَنتهي جشع كل قومية لاحتلال أرفع مكانة، كل كتلة لسَحقِ الأخرى والانفراد بالزعامة.

أتمنَّى أن يَنتهي الصراع بين الرأسماليِّين دون حرب بين بعضهم البعض، والصراع بين الاشتراكية دون سفْك دماء، وفي النهاية أتمنَّى زوال الرأسمالية كنظام استغلال دون ثمن باهظ، دون حربٍ ضحيتها رجال ونساء وشيوخ وأطفال، حياة أي فرد منهم أثمن عندي من أي شعار؛ فالمذاهب لا توجد لتسود بالقتل وبالمهلكات، وإذا كانت الاشتراكية قد قامت لتمنَع استغلال الإنسان للإنسان، أي قامت بسببٍ نبيل تمامًا وشريف وإنساني، فلا يُمكِن ولا يُعقَل أن يكون الطريق لتحقيقها طريقًا تسيل فيه الدماء، دماء نفس هذا الإنسان الذي قامت لتمنع عنه مجرد الاستغلال.

ولكن المؤسف حقًّا أن الدماء تسيل لأنَّ المستغلين يقاومون زوال الاستغلال بضراوة، المؤسف أنهم يستعملون نفس الذين يسومونهم ويستغلونهم في الدفاع عنهم وعن عالَمهم تحت أزهى وأبهى الشعارات.

المؤسف أن الخداع ما دام قائمًا، وما دام هناك مخدوعون فالصدام حتمي، وأنهار الدماء حتمية، والوحشية في جنسِنا حية لا تزال.

ولا سبيل لإنهاء الخداع إلا بتجديد المواقِف، ليس فقط على كل دولة أن تُحدِّد موقفها من الصراع في العالم، ولا على كل شعب، ولا علينا كهيئات وأحزاب وتنظيمات، إنما حتى على كلٍّ منها كشخص. وذات يوم قالها الفيلسوف: أنا أفكر فأنا موجود، ومنذ قالها تغيَّر العالم، ولم يَعُد التفكير يَحدُث لمجرَّد التفكير، وأنت لا بدَّ أن تُفكِّر اليوم لتتَّخذ في النهاية موقفًا، وعلى ذلك فلتُصبح الكلمة: أنا لي موقفٌ فأنا موجود.

•••

محال أن يَسمح العقل الصحيح لصاحبه أن يكون حيًّا عائشًا في آسيا أو في أفريقيا أو في أمريكا اللاتينية أو أمريكا نفسها وأوروبا، ولا يكون له موقِف في هذا الصراع الدموي الدائر أمام عينيه، صراع حتى الموقف السلبي منه لا يُجدي؛ فالموقف السلبي يخدم في النهاية الاستعمار والمستغلين.

وبعد جولة في آسيا الرأسمالية وأوروبا — وقبلهما أمريكا — لم يَعُد أمامي إلا أن أُعلنها صريحة واضحةً لشَعبِنا ولكلِّ شريف في هذا العالم.

نعبث نحن إذا راودنا أمل: مجرد أمل، في أي نظام رأسمالي.

نعبث نحن إذا راوَدَنا أمل، مجرد أمل، في تناقُضٍ يَحدُث بين الرأسماليِّين هنا أو هناك؛ فالرأسمالية الآن تعلَّمت ونضجت وعرفت قبلنا نحن معنى الوحدة وأهمية التماسُك والتكاتُف.

ولا تُصدِّقوا أن تناقضًا يقوم بين كروب وجنرال موتورز!

ولا بين سوني وجروندنج.

نحن نعيش في ظل رأسمالية شديدة الذكاء والتكيُّف والخُبْث، بارعة القُدرة في التنكُّر، قوية غنية، ليس في جعبتها أيُّ خير أو استعداد لنصرتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤