الفصل الثالث

قصة انتحار أعظم كاتب ياباني

لغز عويص الفهم

قبل أن أصل إلى اليابان بيوم، كانت الجزر اليابانية الأربع تهتزُّ بحدث وإن لم يكن الأول من نوعه في تاريخ اليابان، فإنه فريد في بابه، وخطير وغريب.

كان «ميشيما» كاتب اليابان الأول، وأعظم روائي ظهر فيها بعد الحرب، كانت هذه الشخصية الفريدة ذات الأبعاد العشرة؛ فهو كاتب، ومخرج سينمائي، وممثل، وبطل مصارعة وركوب خيل، ورياضي، وقائد جيشٍ خاصٍّ من صُنعِه، وذو نهم شديد إلى النساء، وذواقة للساكي «النبيذ» الياباني الشهير المصنوع من الأرز، شخصية تكاد تكون أشهر شخصية أدبية في كل شرق آسيا، كان قد أقدم على الانتحار بالطريقة المشهورة «الهيراكيري».

وكانت ضجة الحدث داخل اليابان وخارجها على أشُدِّها؛ فقد كان السبب غريبًا، والملابسات أغرب، وشيء كجوِّ الأساطير القديمة، كنفحة من رائحة آسيا الغامضة الدفينة قد بدأ يتسرب ويداعب الأنوف.

ولم يحنقني شيء في هذا كله قدر حنَقي على «آرثر ميلر» الكاتب المسرحي الأمريكي المعاصر، وأنا كنتُ دائمًا بيني وبين نفسي أتحاشَى الحكم على ميلر؛ فمِن قراءاتي ومشاهداتي لأعماله كنت أُسميه بيني وبين نفسي أيضًا الكاتب الذي يحاول أن يكون عبقريًّا. ولأن العبقرية ليست وليدة الاجتهاد، بل إنَّ الاجتهاد للوصول إليها أمر يحسب على الشخص لا له؛ فقد بقي ميلر في خاطري كاتب تمثيليات إذاعية أتقن صنعة الدراما وعالج بها مواضيع تُساير تيار التقدم في العالم، فرفعه السابحون في التيار إلى مصافِّ العباقرة الكبار. ولم أكن أعتقد أن رأيي هو الصواب، ولكني أيضًا لم أتوقع أن يتأكد ظني فيه بالذات في تلك المناسبة وعلى هذه الصورة.

figure
ميشيما، الكاتب الياباني.

ففي مجلة «النيوز ويك» كان موضوعها الرئيسي هو انتحار ميشيما ومغزاه ودلالته، ولتغطية الحدث تولَّت المجلة أخذ رأي بعض الشخصيات الأمريكية الهامة فيه. وكان ميلر على رأس القائمة، وكان ما قاله أسخف ما قيل؛ فبعد أن اعترف بميشيما ككاتب رواية وجرحه بشدة ككاتب مسرح، قال ما معناه: إن ما فعله ميشيما ليس سوى فاصل استعراضي أنهى به حياته؛ لأنه تأكد أنه لم يَعُد لديه ككاتب ما يقوله. ميشيما بالمناسبة مات في الخامسة والأربعين ولا أعتقد ولا يُمكن أن يعتقد أحد أن كاتبًا خصبًا مثله ينتهي في سنٍّ كهذه أو يدفعه تأكُّده أنه انتهى ككاتب ليُنهي حياته كإنسان.

وأيضًا ليست هذه هي القضية، لقد بدا لي رأي ميلر بعد جولة آسيا واستقراري في اليابان وبداية تعرُّفي على عناصر اللغز الآسيوي، أن تعليقه حتى بفرض أنه كاتب تقدمي، لا يَختلف عن معظم التصرفات الأمريكية الرعناء تجاه آسيا، وأن الإنسان الآسيوي سيظلُّ لغزًا عويص الفهم، بل ربما مستحيل الفهم حتى على أولئك الذين من جملة عقيدتهم وعملهم فهم الآخرين وتقادير وجهات نظرهم.

ولستُ أعرف كيف كان بإمكاني أن أجسد ما أريد قوله لو لم تجئ قضية ميشيما في وقت الزيارة وتُزوِّدني بكثير من الحقائق والشواهد لم أكنْ أحلم به.

ولكن — قبل الفهم وقبل أي شيء آخر — كان الحادث قد مسَّ قلبي بعُنف، ولو تأمَّله كل منا قليلًا لما استطاع أن يُفلِت ما مِن تفسيره، ولم لا أقول: إني ترجمت الحادث إلى واقعنا فورًا وتصوَّرت أكبر كاتب لدينا، وقد رتَّب لعملية إجهازه على نفسه وكأنما يُرتِّب لعمل فني، وبنفس الإحكام؟ كان عليه أن يُكمل الجزء الأخير من رباعيته الروائية التي تتناول حياة اليابان خلال الستين عامًا الأخيرة، كان ثمة فصلان ناقصان لإنهاء الجزء الرابع والأخير. وبأي ذهن وأعصاب ووجدان كان يَقضي ميشيما معظم ليالي الأسبوع الأخير من حياته ساهرًا لكي يَنتهي من العمل تمامًا قبل حلول اليوم الذي كان قد حدَّده من قبل لتنتهي حياته فيه، حتى والموت الإرادي قادم متصوِّر أنه لا بدَّ أن تطير له العقول شعاعًا، لم يَطِر له عقله.

صبيحة يوم الانتحار

وبإتقان شديد أكمل الفصل، وفي صبيحة يوم انتحاره أسلَمَه للناشر مكتوبًا على الآلة الكاتبة ومصحَّح الأخطاء، وهو أبدًا ليس رجلًا من فولاذ، إنه فنان مُرهَف الحس تمامًا، لديه مخزون هائل من الإحساس، وهؤلاء المُرهَفون المزوَّدون بالإحساس الأعظم لم يكونوا يومًا ما رجال الإرادة التي لا تتزحزح، ولا رجال الأفعال التي لا يقدم عليها إلا أرباب الإرادات. وكان الناس في هذا نوعَين؛ رجال الكلمة ورجال الفعل. رجال الكلمة يُتقنونها وينبغون فيها لأنهم بتكوينهم غير قادرين على الفعل الكبير، ورجال الأفعال الكبيرة يقومون بها لأنهم عاجزون عن خلق الكلمة الكبيرة التي تحلُّ محلَّ الفعل أو تقوم مكانه. الكُتَّاب إذن ما كانوا أبدًا أرباب السيف؛ فبطولتهم ليست في ضربة يُطيحون فيها برأس خصم، بطولتهم الحقة في كلمة تنطلق منهم مرة يكون لها قوة ألف ضربة، وتظل تضرب وتطيح برءوس من وما هو أقوى من الخصم والشخص ما ظلَّت عائشة وحية، وبمقدار صدقها والبطولة في قولها تظلُّ تعيش وتحيا.

إنه إذن ليس طبعه الذي أخذ به نفسه، وليسَت طبيعته، إنما هو الإحساس بالواجب المقدَّس ذلك الذي أملى عليه فعلًا هذه المرة بدل الكلمات، وهو نفس الإحساس الذي دفعه أن يَقهر كل كوامن الضعف في ذاته المُرهَفة الحساسة ويُحيل ما فيها من تحمل إلى كتل صخر، ويعود من الشرفة بعد فشله الذي كان يتوقَّعه في مهمته ليرتدي الكيمون، ويعقد أربطته وأزراره منتهى ضبط النفس والإتقان؛ فلقد فحصت الصور جيدًا وأدركت أن صاحبها أبدًا لم يُفلِت منه زمام السيطرة على أعصابه إلى آخر لحظة. يجلس وحوله أركان حربه، ويَجيء المصوِّرون ويلتقطون له ولرفاقه الصور التذكارية. تم يُمسِك بسيف «الساموري» العتيد الذي كان يحتفظ به رغم مخالفة هذا للقانون، ويرفع السيف ثم بسرعة يغمده في أعلى بطنه إلى المنتصف، وهنا فقط يُطلِق صرخة قال عنها قائد قوات الدفاع المدني الذي كانوا قد أسروه، قال: كانت صرخة ألمٍ بشعة، لم أسمع مثلها في حياتي.

وما كاد يَحدث هذا حتى كان مساعده الأول منتصبًا خلفه، يرفع سيفه ويَهوي به في سبع ضربات شداد يجتزُّ به عنق قائده حتى يَفصل رأسه عن جسده ليسقط إلى جوار الجثة. ثم يجلس المساعد نفس جلسة رئيسه، ويتولى إغماد سيفه في بطنه. تم يتولى الضابط الثاني مهمة الإجهاز عليه وجزَّ عنقه بسبع ضربات أخرى من ضربات سيفه حتى يسقط الرأس في بركة الدماء. وإلى هنا كان المشهد الأعظم قد انتهى؛ إذ كانت أوامر ميشيما لرجاله أن لا يَموت سواه وسوى مُساعدِه الأول.

انتهى مشهد الهيراكيري كما ابتدعه وزاوله فرسان «الساموري» في اليابان القديمة. كل ما في الأمر أن الرأس الذي سقط هذه المرة لم يكن رأس قائدٍ فشل في حرب، أو ضابط أهمل واجبه، ولكنه كان رأس أعظم موهبة أدبية يابانية في تاريخها الحديث، رأسًا منذ ساعات كان يكمل بحماس زائد وبخيال مُلتهِب أهم عمل أدبي كتبه ميشيما أو غيره عن أهم فترة في تاريخ اليابان.

وجه آخر لدنيانا

وقد نفهم أسباب انتحارِه أو لا نفهم، وقد نستطيع التعاطُف معه أو نكتفي برميه بالأوصاف والتُّهم. ولكنَّنا إذا ترجمنا الحدث إلى واقعنا، وإذا تصوَّرنا أن أشهر كاتب وأعمق مُبدِع فينا قد أنهى حياته بيده وعلى هذه الطريقة البالغة البشاعة وهو في أوج مكانته وشهرته وفي عنفوان فحولته، وجائزة نوبل تخطو متهادية إليه، واسمه وأعماله تَخطف الأبصار في أركان الدنيا الأربعة؛ إذا ترجمنا هذا للغتِنا نحن ولحياتنا ولواقعنا ربما أمكننا البدء في إدراك ما حاولت في المرة الأولى طرحه، من أننا إزاء إنسان مُختلِف، إزاء وجه آخر لدنيانا، إزاء أشياء من الواجب أن نُفيق من غفوتنا المخدَّرة بالسأم والتافه والهايف ونفتح أعيننا ونمسح تعابير العبط والاستعباط من فوق وجوهنا وننتبه.

مرة أخرى لنصحُ ونَنتبهْ.

الإغماءة طالت.

وليتها رغمًا عنَّا.

إنه إغماء ابتكارنا نحن، إغماء بالإرادة، لا يُغمى علينا فيه، وليس هناك مبني للمجهول في المسألة، إنما نحن الفاعل ونحن المفعول، والظرف غير مناسِب على الإطلاق.

الشعور القومي الأمثل

إذا صدق الكاتب فإنه يعيش ما يكتبه، وإذا ازداد صِدقُه فإنه يكتب ما يعيشه، أما ما فعله ميشيما فهو نوع آخر من «الكتابة–الفعل»، نوع كالمسرح الحديث الحي، حيث لا شيء فيه تمثيل، وإنما كل ما يدور حقيقي وصادق أيضًا. وميشيما لم ينتحر كما رأى ميلر لأسباب نفسية أو أزمة شخصية اعترتْه، إنما انتحَر لسبب قد يبدو للبعض تافهًا غاية التفاهة، وبالذات قد يبدو لنا هنا حيث الانتحار لا يتمُّ إلا لأسباب تتعلَّق بكيان الشخص ذاته أو بمصيره أو بفشله هو، أما أن ينتحر إنسان مثلًا لأن نظام التعليم لا يُعجبه، أو لضيقه بالسياسة، فذلك ما لا عهد لنا به وما لا نَستطيع أن نتصوره.

ولكنَّك من داخل اليابان آسيا تستطيع. إنَّ الشعور القومي هناك، رغم كل محاولات إخفائه والتستُّر عليه، شعور طاغٍ تحفل به الأعماق. إنه أول بلد أفاجأ في أول لحظات وجودي فيه ببعض الناس يضعون رباطًا طبيًّا حول أنوفهم أو يُغطون به عينًا من عيونهم، وحين سألت عن السبب قيل لي إنهم يفعلون هذا حتى لا يُلوِّثوا الجو حولهم بالميكروبات ويَنقلوا العدوى إلى الآخرين.

إلى هذه الدرجة يهتمُّ الفرد الياباني العادي بالآخرين ويحرص عليهم، حتى وهو في مرضه يُفكِّر فيهم. إنه إذن الشعور القومي الأمثل. والغريب أن هذا الشعور لا تجده في اليابان وحدها، إن كل مناطق آسيا تحفل به، ذلك الإحساس المتين العميق بالقومية وبالشخصية القومية، وبأنك مهما كنتَ جزءٌ مِن كل.

قص على صديق مصري يعيش هناك قصة فتاة يابانية أعجبتْه وأعجبها، بل كان واضحًا أنها مُدلهة به، وانسياقًا وراء هذا الشعور دعاها إلى حجرته وتناولا معًا الطعام والشراب، وانسياقًا أيضًا وراء هذا بدأ يَقترب منها كرجل، وفوجئ بها تَغضب غضبًا لا مُبرِّر له من وجهة نظره على الإطلاق، ولكن كان له مبرِّر واحد قوي — على الأقل — من وجهة نظرها؛ فقد قالت له: لا تنس أني لستُ نفسي فقط معك هنا، إنما أنا هنا أمثل المرأة اليابانية، وأيضًا لا تنسَ أنك تُمثِّل الرجل المصري أمامي. وهي قصة طويلة تلك التي استطاع بها الصديق المصري أن يُقنِع فتاته اليابانية بإبعاد شبح مائة وخمسة وثلاثين مليونًا من البشر، هم مجموع الشعب الياباني والمصري من حجرته، ليستطيع أن يَنفرِد بها وحدها وتنفرد به. قصة طويلة لأن اقتناع الفتاة كان حقيقيًّا وصادقًا بأن كل حركة منها أو تفريط إنما ستُحسَب على المرأة اليابانية بشكل عام، وقد تكون هي راضية وموافقة، ولكن المحافظة على صورة المرأة اليابانية في نظر رجل أجنبي أهمُّ بمراحل من كل رغباتها ونوازعها الشخصية.

هذا الإحساس القومي ليس مرَضيًا أو غريبًا، «ذلك الذي يدفع اليابانيين والآسيويين عمومًا لموقف التخوُّف والتشكك من الغريب.»

مناطق معزولة

إن معظم مناطق آسيا معزولة عن بعضها البعض بعوامل جغرافية في بعض الأحيان. بل إنَّ اليابان بالذات معزولة عن آسيا نفسها، مثلها مثل إنجلترا، مجموعة من الجزر تقع شرق القارة مثلما تقع بريطانيا غرب أوروبا. ولقد بقيَت اليابان في عزلة تامَّة منذ حوالي عام ٧٠٠ ميلادية إلى حكم الإمبراطور «ميجي» في العصر الحديث، معزولة تمامًا عن العالم، حتى إنَّ الآسيويين كانوا يُسمونهم «الأقزام السمر». هذه العزلة الطويلة أنضجت وعتقت الشعور القومي إلى درجة تكاد تكون مبالغًا فيها، إلى درجة تكاد تكون النقيض لما جرت به الأحوال هنا في مصر بالذات، حيث البلاد مفتوحة على الدوام مشاعة على الدوام، مستعدَّة على الدوام للاختلاط بالحابل والنابل.

ومن أجل هذه العزلة وبسببها فقد نما هذا الشعور القومي الياباني متمثلًا في تقاليد عريقة في الشخصية وفي العادات الاجتماعية وفي طريقة الحياة هناك، حيث شاعت وترعرعت ديانة «الزن» التي جاءت ثورة على البوذية، والتي تَستحِق وحدها وقفة أطول بكثير؛ فهي في رأيي أخطر وأهم الديانات الآسيوية، فهي ليست دينًا بقدر ما هي معادلة تكاد تكون — بمفهومنا نحن العِلمي — معادلة علمية لطريقة الحياة؛ فالدين ليس إيمانًا أو صلاة بقدر ما هو سلوك، والإنسان فيها لا يَشغل نفسه بقضايا الغيب وما وراء الواقع وإنما شُغله الشاغل هو هذه الحياة التي يحياها وكيف يحياها.

•••

هكذا، حين تعتَّق الشعور القومي طويلًا، كان لا بدَّ له في النهاية أن يبدأ يغلي، وينسكب، ولا بدَّ حينئذ أن يبدأ العالم يراه. وأول مرة لمح فيها العالم ذلك الشعور كان في عام ١٩٠٤ حين اشتبكت اليابان في حربها مع روسيا وهزمتها، ثم بعد ذلك بعدة أعوام حين احتلت أجزاء كثيرة من الصين، ثمَّ أخيرًا حين اشتبكت في حرب الباسيفيكي مع الولايات المتحدة.

الانفجار الاقتصادي المعاصر

ولكني أعتقد أن كل هذه الأعراض العسكرية للقومية اليابانية ليست أخطر الأعراض، والدليل أنها جميعها فشلت. إنَّ العلامة الأهم في رأيي والأكثر دلالة هي الانفجار الاقتصادي الياباني المعاصر؛ فلقد غيَّر اليابانيون التكنيك تمامًا، وبدلًا من الاصطدام مع آسيا مرة ومع الغرب أو غيره مرات، تعلموا — بدل الصدام — الامتصاص، امتصاص كل ما لدى آسيا من قدرة على العمل الدائب وطاعة النفس والتخطيط الطويل المدى، وامتصاص كل ما لدى الغرب من علم وتكنولوجيا وأسرار صناعة، وبهذا المزيج من القدرة البشرية والقدرة الآلية العِلمية استطاعت الشركات الخمس الكبرى في اليابان، والثلاثون عائلة التي تُمسك بمقاليد الأمور أن تتمكَّن، وفي ذكاء شديد، من تفجير تلك القُنبلة الصناعية الأشد خطرًا في رأيي — وحتى من وجهة نظر عسكرية — محضة من قنابل الأيدروجين والكوبالت.

ولكن المشكلة التي كانت تورق ميشيما وغيره من مُمثلي الضمير الأعمق للقومية اليابانية بدأت تظهر إلى الوجود شيئًا فشيئًا؛ «حسن جدًّا، لقد رأينا كيابانيين أن نَستعين بحضارة الغرب وعلومه وصناعاته لقهر الغرب والتفوُّق عليه. كانت هذه هي الخطة، وكان هذا هو البرنامج، ولكن الشيء الذي لم يكن في الحسبان قط هو أن يبدأ هذا العلم الأمريكي الأوربي، وتبدأ صناعة الغرب نفسها وتقاليده الصناعية، تبدأ تعمل عملها في الإنسان الياباني، وبالذات في أجياله الجديدة، وتبدأ الصناعة نفسها تَخلق لها جيلًا وثقافة وتقاليد مختلفة تمامًا عن تقاليد اليابان القديمة وأخلاق «الساموري – الفرسان اليابانيين»، وحتى عن تقاليد «الشرق» نفسها ونمطها السلوكي. لقد جاء الإنسان الياباني إذن بالصناعة ليستخدمها كوسيلة للتفوُّق، فتولت الصناعة نفسها تغييره، تولت إذابة التعاليم التي تراكمت أجيالًا فوق أجيال، تولت تخفيف هذا الإكسير القومي وإضافة كل بهارات الغرب من الإل إس دي والشذوذ الجنسي والجاز والاستهتار بالحياة نفسها كحياة، والتساؤل والقلق عما هو الهدف. ماذا بعد التفوق الصناعي والعلمي والحضاري؟ ماذا حتى لو وصلنا إلى أن نصبح أكثر البلاد دخلًا وأكثرها إيرادًا قوميًّا؟

«جيل جديد طاغٍ مُكتسح نشأ، وسائل حديثة من راديو وتليفزيون وصحافة تمسح الماضي كله وتُحيل مسرح الكابوكي الشهير إلى المتحف، وتقاليد الجيشا العتيدة إلى مركز كمركز الفنون الشعبية يحتفظ به اليابانيون الأذكياء ليُفرِّجوا عليه السياح ويذيقوهم جرعة من خمر اليابان القديمة ويلتقطوا معهم الصور والتذكارات.»

جيش خاص من الشبان

ولم يكن أمام الجيل الذي يُمثِّله ميشيما ومن هم أكبر إلا أن يقفوا حيارى مذهولين أمام ما حدث لليابان وما يَحدث. لم يكن أمامهم إلا أن يبدءوا يَستنهضون همم الأجيال الجديدة ويُذكِّرونهم بما فات، ويقصُّون عليهم قصص الأمجاد. لم يكن على «ميشيما» إلا أن يبدأ يُكوِّن جيشًا خاصًّا من الشبان الجدد، جيشًا لم يتجاوز عدده ٩٨ شابًّا، كان يُمرِّنهم بنفسه على المصارعة اليابانية وعلى أساليب القتال المختلفة، وكان يعدُّهم ليُكوِّنوا نواة الجيش الإمبراطوري الذي لا بدَّ في رأيه أن يوجد، ولا بدَّ أن يقودَه الإمبراطور مرةً أخرى ليُعيد لليابان عصرها الذهبي الذي — في رأيه — قد ولَّى.

وحين أحسَّ ميشيما أنه إنما يُؤذن في مالطة، قرَّر أن يقوم بما لا تستطيع الكتابة نفسها أن تقوم به، قرَّر أن يقوم «بالفعل» بما هو أكبر وأعظم وأهم من الكلمة. وهكذا خطط للعملية كلها مع جيشه الصغير.

وفي صباح ذات يوم من أسابيع مضَت ذهب بجيشه واقتحم مكتب الجنرال قائد قوات الأمن «وهو الجيش الذي سمحتْ قوات الاحتلال الأمريكية بتكوينه» وأخذه كرهينة حتى يَجمعوا له تلك القوات ويخطب فيها وإلا قتَل القائد. ولبوا نداءه. وجمعوا له حوالي الألف من جنود هذه القوات وضباطها، وأخذ يخطب فيهم مطالِبًا إياهم بالقيام بشبه انقلاب يُغيِّر من شكل الحكم في اليابان، بحيث تتمكَّن من استعادة قدرتها على التسلُّح وعلى تكوين ما تريده من جيش. ويقولون إن القوات ظلَّت تنظر له بسخرية وتضحك مما يدعوها إليه خاصة حين دعاهم لأن يموتوا جميعًا معه حتى يوقظوا ضمير الأمة ويُحقِّقوا بموتهم ما لم يستطيعوه وما لن يستطيعوه بحياتهم.

وحين فشل تمامًا في إقناعهم، غادر الشرفة التي كان يخطب منها ودخل حجرة القائد الرهينة وأمامه قام بعملية «الهيراكيري» كما رأينا.

والحقيقة أني لم أكن قد قرأتُ شيئًا لميشيما قبل الآن، وكان أول ما فعلته أني اشتريت الكتب الأربعة التي تُرجمت له إلى الإنجليزية وقرأتها جميعًا، والحقيقة أني تولاني الذهول. إنه كاتب موهوب — وأرجو أن أتمكن من ترجمة شيء له ونشره قريبًا — ما في ذلك شك. قدرته ما في ذلك شك. قدرته وافرة على الرؤى، وخياله يرفرف في انطلاقة الطائر الطروب. كاتب عذب كأنه عقدة آسيا كلها تنحلُّ بين يديك، كأنه «القزم الأسمر» يَنفتِح له قلب من أحلام وذهب. كيف بإنسان مثله يقوم بدوره الدون كيشوتي هذا؟ كيف بإنسانيته الحريرية تتصوَّر وتُطيق ليس فقط أن تطعن نفسها بسيف من أعلى البطن ولكن ما هو أبشع، أن يَنهال سيف المساعد على رقبتها بعد هذا في سبع ضربات شداد يجزُّ بها الرقبة؟ بل كيف بهذا الفنان العظيم يضمُّ ذاته على هذا الإحساس السياسي الغريب، إحساسه بإمبراطورية تقوم من جديد أو جيش وحروب وأهوال؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤