هل فشلت الديمقراطية؟

كان الاستبداد المطلق مقدسًا في زعم رجال الدين الذين كانوا يستعينون به على حفظ مكانتهم، وقضاء مآربهم، وكان هو يستعين بهم على تقرير نفوذه، وشمول سلطانه على الضمائر والأجسام، وكان لحقِّ الحكم مصدر إلهي يتلقاه الحاكم المستبد من السماء، فلا يُسأل عنه، ولا يكون للشعب إلا أن يطيعه كما يطيع خالقه، ويؤمن بحكمته التي تخفى عليه كما يؤمن بأسرار حكمة القدر؛ فالحكومة رسالة سماوية معصومة على هذه الأرض الخاطئة، والشك في الحكومة كالشك في العقيدة، كلاهما كُفر يعاقَب عليه بالحرمان السرمدي من رحمة الله.

كان هذا هو مصدر الحكومة المستبدة إلى ما قبل القرن الثامن عشر، وكان الإيمان به عامًّا شائعًا لا يَشك فيه إلا أفراد معدودون من أحرار الفكر، يخفون آراءهم كما يُخفي المجرم جريمته، والآثم وصمة عاره، فلما انتقل سلطان الحكم من الملوك المستبدين إلى مشيئة الشعوب انتقلت القداسة معه إلى المصدر الجديد، وأصبح حق الحكم مقدسًا — مرة أخرى — من طريق الشعب لا من طريق الصوامع والكهان، وتَغيَّر النظام القديم ولم يَتغير قالبه الذي صنعته العادات المتأصلة والمصالح المتشعبة والعقائد الموروثة، وربما بدأت هذه القداسة الشعبية على سبيل المجاز في التعبير، يلجأ إليه دعاة النظام الحديث للمقابلة بين أساس الحكومة الغابرة وأساس الحكومة الحاضرة، ثم أضيفت إلى هذا المجاز حماسة الفكرة الناشئة، وروح الأمل في المستقبل، والنقمة على الماضي، فأصبحت القداسة الحديثة عقيدة في الضمير يشوبها من الإبهام كل ما يشوب العقائد التي تستعصي على متناوَل العقول.

أصبحت الديمقراطية عقيدة مقدَّسة في العرف الشائع، فجاءها الخطر من هذه الناحية في عصر الشك والسخرية من جميع «المقدسات»، وسَمِع الشاكُّون والساخرون بهذه «المقدسة» الجديدة، فعلموا أن هناك شيئًا طريفًا يُظهرون فيه براعة التنفيذ، وقدرة التصغير والتقييد، فأسرعوا إليه في جد ووقار، وأعنتوا أنفسهم كثيرًا ليقولوا: إن الديمقراطية شيء لم يهبط على الأرض من السماء، وإن القداسة هنا مجازٌ لا حقيقة له في العلم والاستقراء. فكان الجاحدون لقداسة الديمقراطية والمؤمنون بتلك القداسة المنزَّهة عن الشوائب بمنزلة واحدة من الفهم والسداد؛ لأن قداسة الديمقراطية لم تكن مسألة علمية يبحثها الناقدون الممحصون على هذا الاعتبار من جانب القبول أو من جانب الإنكار، فالذين يضعونها هذا الوضع ينظرون إليها من أضيق حدودها التي يعرفها المجازيون والجهلاء، ولا ينظرون إليها من أوسع الحدود التي يحيط بها مَن يعرف حقيقتها، ويقيسها بمقياسها الصحيح، وإذا كان المتكلم الذي يقول: إن الماء العذب شهد حلو المذاق مخطئًا في صيغة التعبير العلمي، فأشد منه إمعانًا في الخطأ والغفلة عن الحقيقة مَن يحمل الماء العذب إلى المعمل الكيمي؛ ليثبت أن الماء ماء، وليس بشهد حلو المذاق كما يقولون في لغة المجاز.

•••

في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت «السيكولوجية» أو علم النفس، وتفرعت فروعه، وكثر الاشتغال بتطبيقه على الأفراد والشعوب، ولعل أغرب ما استغربه الناس من قضايا هذا العلم وصفه لأطوار الجماعات والأساليب التي يَجري عليها في تكوين عقائدها، وتوجيه أهوائها، وتسيير حركاتها، وإثارة خواطرها، فقد جاء هذا الوصف بعد شيوع الديمقراطية في العالم الحديث بأكثر من جيلين، فلاح لمعظم الناس كأنه غريب، وكأنه مخالف للمقرر في الأذهان، أو لِما يجب أن يتقرر في الأذهان، ولو أنه جاء قبل ذلك بمائتي سنة، أو لو أنه تَقدم في عصر الإصلاح مثلًا لَما وقع من الأفكار موقع الغرابة في شيء، ولا أحاط به ذلك السحر الذي يحيط بكل هجمة مخالفة للمألوف، ثم لجأت الديمقراطية حتمًا في سياقها الطبيعي دون أن يخيَّل إلى أحد أن حقائق علم النفس تُعارِض الحكم الديمقراطي أو تعارض حكم الشعوب؛ لأن الديمقراطية كانت نتيجة لازمة لفساد حكم الاستبداد، ولم تكن نتيجة لجهل الناس بالسيكولوجية وخطئهم في تفسير حركات الجماعات، فلو عَلم الناس في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر أن حركات الشعوب غير مقدَّسة، ولا منزَّهة عن عيوب الطبيعة البشرية، لَما كان ذلك مانعًا لوقوع تلك الحركات في أوانها، ولا واقيًا للأنظمة العتيقة من التداعي والسقوط، ولكن «السيكولوجية» ظهرت بعد الديمقراطية، فنشأت غرابتها من ثَم، وكان استغراب الناس إياها وهمًا متولدًا من الوهم القديم الذي تطرَّق إليهم من تقديس الشعب بعد تقديس العواهل المستبدين، فلولا الخرافة الداثرة؛ خرافة المستبدين الإلهيين، لَما وُجدت خرافة الشعوب الإلهية، ولا اتُّخذت أطوار الجماعات التي استعرضتها مباحث العلماء النفسيين دليلًا على بطلان الديمقراطية، ولا قيل: إن نظامها قائم على أساس واهن؛ لأنه قائم على مشيئة لا توصف بالعصمة! وقديمًا عرَف الناس من أطوار الأفراد أنهم يطمعون ويستأثرون، وأنهم ينقادون للهوى، ويَخضعون للشهوات، وأنهم عرضة للخطأ الكثير والضلال البعيد، وأنهم غير معصومين بحال، فلم يكن هذا العلم بأطوار الأفراد هو الذي قضى على حكومة الفرد، ولم تتقوض النظم الأولى إلا حين تعذر التوفيق بينها وبين أحوال الرعايا ومطالب الأمم.

•••

لم تنقضِ على الديمقراطية سنوات حتى خيبت آمال الحالمين فيها، وخيبت آمال أولئك المظلومين الذين صوروا زمانها المترقب في صورة الفردوس الأرضي، أو العصر الذهبي الذي تغنى به الشعراء، وتحدثت به الأساطير، فلا ظلم ولا إجحاف ولا تمييز بين القوي والضعيف أو القريب والبعيد: كأنما صوت الشعب المنطلق من غيابات الأسر نغمة ساحرة كنغمات «أورفيوس» يتجاور في سماعها الليث والحمَل والضاريات والنقاد، ومتى كان كل هذا منتظرًا من الديمقراطية فلا جرم يخيب فيها الظن، ويحكم عليها الحاكمون بالفشل بعد أول صدمة مع وقائع الحياة، وعثرات التجربة الأولى، وهي لا تخلو من النقائض، ولا تسلم من الاضطراب، فلم يكن أقسى على الديمقراطية ولا أظلم لها من غلاة المؤمنين بها الذين كانوا يكلفونها ما ليس يكلفه نظام في هذه الدنيا أية كانت قواعده من الصحة، ونيات القائمين به من الإصلاح.

هذه كلها أسباب يصح أن تسمى بالأسباب المصطنعة للشك في حقيقة النظام الديمقراطي، والأخذ فيه بالعرض دون الجوهر المقصود، على أنها ليست بجميع الأسباب المصطنعة التي يمكن أن تُعدَّد في هذا المقام. فهناك أسباب مثلها دعت إلى الشك في حكومة الشعب قلما تتجاوز العرضيات إلى دخائل الأمور، فمنها أن عيوب الحكومة الشعبية مكشوفة ذائعة لاستفاضة علاقاتها، واشتراك المئات والألوف في دعواتها وأعمالها، فليس لها حجاب من الفخامة والروعة كذلك الحجاب الذي كانوا يسترون به عيوب الحكومات المستبدة، ويتعاون فيها الكهان والمداح والبلاطيون على التمويه والتزويق، وخليق بهذا التكشف أن يغض من فضائلها بعض الشيء، ويرسل عليها ألسنة الثراثرة والفضوليين ومَن لا ينظرون إلى عواقب الكلام.

ومن الأسباب المصطنعة أن نقد الديمقراطية يرضي غرور تلك الفئة التي تحب أن تتعالى عن «الشعبيات»؛ لِما في ذلك من الامتياز والادعاء، ومنها أن المستبدين الطامعين في رجعة الحكم القديم يسعون سعيهم سرًّا وجهرًا لتشويه كل نظام غير نظامهم، وتأليب الناقمين على الحكم الحديث، ولا بد في كل حكم من راضين وناقمين، ومنها أننا في زمن تتوالى فيه المخترَعات، ويسألون فيه أبدًا عن أحدث الآراء، وأغرب الأخبار، فإذا مضت خمسون سنة على الناس وهم يمدحون الديمقراطية، فالذي يفاجئهم بعد ذلك بنقدها لا يَعدم له سامعين بين طلاب الزي الطريف في كل مجال.

فأنت ترى أن نقد الديمقراطية يصادف من العناية أضعاف ما تستوجبه الأسباب الحقيقية التي لا دخل فيها للوهم والغرض والفضول، وأما الأسباب المصطنعة، فما هي؟ وما مبلغ ما تجيزه؟ هي أشياء لا تجيز لأحد أن يحكم بفشل الديمقراطية، ولا بأنها في طريق الفشل القريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤