لم تفشل الديمقراطية

لم تفشل الديمقراطية ولا ظهر إلى الآن من آثارها وعلاماتها إلا ما يدل على نجاحها وثباتها، وأنها ستكون أساسًا للحكم في المستقبل تُبنى عليه قواعد الحكومات، ويُرجع إليه في إصلاح كل ما يحتاج منها إلى الإصلاح.

أما تلك الأسباب المصطنعة التي ألممنا بها، فأكثر مَن يتعلق بها، ويعمل لترويجها هم أنصار الحكم المطلق والرجعة إلى الاستبداد القديم، وهم أقل الناس حقًّا في تجريح الديمقراطية، بعدما تَبين من فشل حكمهم في بلاد كثيرة وأحوال مختلفة، فإذا بطلَ إيمان الناس بقداسة الديمقراطية — مجازًا أو حقًّا — فمن المقرر المقطوع به أنهم لا يرجعون إلى الإيمان بقداسة المستبدين وما يزيفونه من الدعاوى والجهالات.

وإذا قيل: إن الجماهير تنخدع للزعماء، وتؤخذ بالمظاهر، وتستمال إلى العقائد التي تُبث فيها بالإيحاء والتكرار، فهذه الأطوار لم تكن ملغاة في العصور الماضية، ولا كان شأنها ضعيفًا في تصريف الأمم وقيادة الحكومات. وماذا كان يصنع المستبدون طوال العصور الماضية إلا أن يستعينوا على خداع الجماهير تارة بالخرافات والأوهام، وتارة بالمظاهر والوجاهات والألقاب والأسماء، وتارة أخرى بالعطايا والمواعيد، إلى سائر ما هو معروف من أساليبهم في تمويه الأعمال، وإخفاء الحقائق، والتحيل على الغرائز والشهوات.

ولو أُحصيت الحروب التي أريقت فيها دماء الألوف من المحاربين والمسالمين لخداع الشعوب وتمليقها، أو لو أُحصيت الأرواح البريئة التي أزهقها أعداء الحرية والمعرفة، أو لو أُحصيت الثورات والقلاقل التي شجرت بين الحكام والرعايا من أجل المظاهر والأسماء والمنازعات الصبيانية والدعاوى الفارغة، أو لو أُحصيت الدسائس والجرائم التي انغمس فيها طلاب الحظوة وأعوان الطغيان لكان في بعض ذلك شاهد على حقيقة مَن تنفعهم غفلة الجماهير ومَن يُضِرهم انتباهها، وأن تلك الغفلة لم تدم كما دامت في عهود المستبدين، ولم تفد أحدًا كما أفادتهم، ولم يحذروا شيئًا قط كما حذروا يقظتها، ولا رغبوا في شيء قط كما رغبوا في بقائها واستطالتها.

وإنما الفرق بين الاستبداد والديمقراطية أن المجال يتسع في هذه لأقوال شتى تنكشف الحقيقة من بينها، ولكنه لا يتسع في عهد الاستبداد لكل قائل، ولا يصعب فيه التواطؤ على الغش والكتمان.

وإن مجرد القول: بأن الشعوب لا تصلح للديمقراطية دليل على أنها درجة عالية يجب أن تتوجه إليها آمال المصلحين وطلاب الكمال، في حين أن القول بجهل الشعوب واضطرارها من أجل ذلك إلى الحكم المطلق دليل على مصلحة الحكام المطلَقين في بقاء ذلك الجهل، وتخليد هذه الحالة التي بها يخلدون.

ومما يُضعف جانب الحكام المطلَقين في دعوتهم هذه أنهم يعيبون على الجماهير أطوارها؛ ليتخلصوا من ذلك إلى تزكية الحكم الدكتاتوري أو الحكم المطلق، مع أن التجارب الكثيرة — والتجارب الحديثة منها على الخصوص — قد أظهرت أن الدكتاتوريين الصالحين هم رجال الشعوب، وثمرة تلك الأطوار، وأن الجماهير لا تنقصها البديهة التي تفطن بها إلى مقدرة القادة، وتوليهم إعجابها، وتخصهم بثقتها وإقبالها، وتسلمهم زمامها حتى حين يجترئون على عاداتها التي تغار عليها وتغضب للمساس بها إذا مسها مَن ليست له تلك القدرة، وذلك الإعجاب، فإذا احتاجت الجماهير إلى المصلح النافذ في إصلاحه، فليس أقدر على هذا المطلب من زعيم شعبي تبرزه البديهة الشعبية، ولا أسرع منه في حث غريزة الأمم، ومغالبة ما فيها من العيوب، وكأن هذا المصلح هو الزوج المحبوب الذي يطاع لأن طاعته سرور، ويقاس مقدار حبه بمقدار المشقة التي تُبذل في إطاعة أمره. وقد يكون الزوج زوجًا بالصيغة الرسمية، ولكنه لا ينال هذه المكانة، ولا يأمن الرياء والخيانة إذا تكفلت له الصيغة الرسمية بالطاعة الظاهرة.

وعبثٌ ولا ريب أن تعاب أطوار الجماهير، وأن يقتصر الأمر فيها على النقد والزراية، وهي هي الأطوار التي لازمتها في كل ما تمخضت عنه الإنسانية من الثقافات، وفي كل مَن تمخضت عنهم من الدعاة والمصلحين، فأصلَحُ الطبائع لإحياء الشعوب هي الطبائع التي بينها وبين الشعوب مجاوبة في الشعور، ومساجلة في عناصر الحياة، وإذا كانت الشعوب تخطئ في عرف العلماء، فليس عرف العلماء هنا هو المقياس الذي يُرجع إليه في تقدير الدوافع والنتائج؛ لأن الطبيعة لا تستشير العلماء فيما تعمل وفيما تريد، بل ليس العلماء أنفسهم بنجوة من الخطأ على حسب مقياسهم؛ لأن أخطاءهم — قديمًا وحديثًا — في تصور الحكومات النافعة أكثر وأكبر من أخطاء الشعوب كلها مجتمِعات.

وللديمقراطية عيوبها، ولكنها عيوب الطبيعة الإنسانية التي لا فكاك منها، وقد يكون لهذه العيوب في مجموع الحضارات الإنسانية فضل كفضل المحاسن المصطلح عليها إن لم يزد عليه، ولا تقارَن الديمقراطية بحكومة المَثل الأعلى المنشودة في الخيال، والموصوفة في الأحلام؛ إذ هذه الحكومة لا موضع لها في عالمنا، ولن يكون لها موضع، ولكنها تقارَن بالأنظمة الأخرى في جملتها، ويُنظر في عيوبها بصدق وإخلاص وتقدير لجميع الظروف، فلعل هذه العيوب بعض لوازم الحسنات التي لا يُستغنى عنها، أو لعلها طارئة يزيلها المزيد من الديمقراطية؛ إذ كان من المحقق أن محاربة الديمقراطية لم تُزلها فيما مضى، ولا يرجى أن تزيلها فيما بعد، وكذلك لا يصح أن نقيس الديمقراطية بمقياس الأغراض التي أعلنها دعاتها، والآمال التي عقدوها عليها؛ لأن هؤلاء الدعاة لم يخترعوها، ولا يتأتى لهم أن يحصروها ويسيطروا عليها، وإنما تقاس مزاياها بالضرورات التي أدت إليها أولًا، ثم بالفوائد التي نجمت عنها فعلًا ولا تزال تنجم، فهي بلا ريب قد أوجدت للعصبيات الحزبية مخرجًا غير الفتن الدموية، وأقنعت الشعوب بأن عليها تبعة في الحكم، وأنها قادرة على تبديل الحكام، فضعفت فيها نزعة الثورة بقدر ثقتها من الاشتراك في الحكومة، والقدرة على تبديلها، وهي في مدى خمسين سنة قد صاحبت في عالم الصناعة والعلم تقدمًا لم تبلغه الإنسانية في خمسين ألف سنة. وكلما ازداد هذا التقدم صعب على الناس أن يؤمنوا بتلك الخرافة التي كانت تهيئ لفرد واحد أن يملكهم له ولأبنائه من بعده ملك السيد للعبيد.

•••

يقول بعض الباحثين — ومنهم الأستاذ ساروليا الذي ألقى محاضراته في هذا الموضوع على طلبة الجامعة المصرية: إن الحكم النيابي تراث إنجليزي غير قابل للتعميم في الأمم الأخرى، ويضرب «ساروليا» المثل بالأمة الفرنسية التي لا تستقر فيها الوزارات طويلًا؛ لاختلاف الأحزاب وصعوبة التوفيق بينها إلى زمن طويل. ويُعتبر ذلك الاختلاف من أعراض الحكم النيابي، ومن الدلائل على أنه لا يصلح لكل أمة! ولو كان الحكم النيابي هو الذي خلق العصبيات الحزبية في فرنسا لكان قول الأستاذ وقول أمثاله صحيحًا في هذا المعنى، وكانت فيه حجة من بعض الوجوه على الحكومة النيابية، ولكن الواقع أن العصبيات الحزبية لم تفتأ تمزق فرنسا كل ممزق في عهود حكامها المُطلَقين، ولم يخلُ جيل واحد في تاريخها من فتنة على وراثة العرش، أو فتنة على المذاهب الدينية، أو فتنة على القحط والإفلاس، أو نزاع بين التاج والنبلاء، أو حروب تثار لإخفاء هذه المنازعات، حتى توطدت فيها الديمقراطية، فانحصرت «العصبيات» في مناوشات الأحزاب، وسكنت الثورات، وبطلت المجاعات، ولم يمنعها اختلاف الأحزاب أن تتماسك بعد الحرب العظمى، وأن تستفيد من سمعة الديمقراطية أنصارًا لا ينكر إفادتهم لها منكِر، وأن تُوسِّع مستعمراتها وقد كانت تفقدها في عهد الملوك الشموس، وأن تكون هي وزميلاتها المنتصرات عنوانًا لانتصار الحرية الشعبية، وآية على أن حكومات الشعوب تحتمل من الصدمات ما لم تحتمله حكومات القياصرة والطغاة، فانكسرت الروسيا والنمسا وألمانيا، وكان نصيبهن من التماسك بعد الحرب على قدر نصيبهن من الحرية والمشاركة في الشئون العامة بين الشعب والحكومة، وخرجت الأمم من تلك المحنة بعبرتها التي لا تضيع.

وقد فعل تراث الحكم النيابي فعله في إنجلترا كما فعل فعله في الأمة الفرنسية، فوقاها الثورات والخصومات الدامية، وكانت وشيكة أن ترتطم فيها مرتين في القرن التاسع عشر عند الخلاف على تقسيم الدوائر الانتخابية وتعديل شروط الانتخاب، وهو في جوهره أشد من الخلاف الذي أفضى إلى الثورة الجائحة في عهد الاستبداد.

ومن النظريات التي أذاعها بعض المؤرخين — وفي طليعتهم فلندرس بتري العالِم المشهور في الأثريات المصرية — أن الحكومة الشعبية كانت هي الدور الأخير من أدوار الدول في التاريخ القديم، ولا سيما تواريخ الدول المصرية: يبدأ الدور بفاتح عظيم، ثم يَضعف الفاتح العظيم فينازعه الحكم أفراد القادة الغالبون، ثم يَضعف القادة ويستسلم أبناؤهم للترف والصغائر، فتثور عليهم العامة، وتتولى الأمر الحكومة الشعبية، ثم يسطو عليهم مغير جديد، فيبدأ الدور الأول كرة أخرى، وهكذا دواليك عصرًا بعد عصر في سجلات الفراعنة ومَن جاورهم من المشارقة والمغاربة، فإذا صح هذا فهو مختلِف عما نحن فيه اليوم؛ لأن الحكومة الشعبية كانت في التاريخ القديم فترة منفردة تقع في إحدى الدول، ثم لا تكون الدول المحيطة بها مجارية لها في تلك الفترة، بل ربما كانت في بداية الدور الأول — دور الفاتح العظيم — فتحدُث الغارات من ثَمَّ وتتجدد الأدوار. أما اليوم فالحكومة الشعبية حركة عامة، ومبدأ مشترك، وليس بالفترة المنفردة ولا بالدور المقصور على بعض الحكومات.

على أننا إذا قدَّرنا أن السنة القديمة تتكرر اليوم كما تكررت في دولات الفراعنة وجيرانهم، فكل ما يُستخرج من هذه النظرية أن الحكم قد تعذَّر على الطغاة والقادة لعجزهم واضمحلالهم، فصار الأمر إلى الشعوب تحكم نفسها إلى حين، ويبقى علينا أن نسأل أنفسنا متعجبين: هل يُعقل اليوم أن هذه الحرية الشعبية التي وصلنا إليها إن هي إلا فترة موقوتة جاء بها وباء عامٌّ أصاب الطغاة والنبلاء في مقدرتهم على الحكم دون الكافة والأوساط، ثم نعود بعد زوال هذا الوباء إلى عهد يكون فيه لنا طغاة مقدَّسون وملوك مستبدون عصيانهم حرمان من ملكوت الله؟ لقد كانت الديمقراطية بالأمس حكومة الشعب، وكان الشعب هو العامة. أما ديمقراطيتنا فليس نصيب العامة فيها إلا جزءًا من سلطان الأمة، وهي كل شامل يدخل فيه السوقة والسراة والأمراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤