تمثيل الشعب

في الحكومات النيابية يختلف تمثيل الشعب على حسب اختلاف القوانين الانتخابية، فقد ينتهي الانتخاب على طريقة من طرقه الكثيرة إلى تمثيل طبقة واحدة دون طبقات الشعب كله، أو تمثيلها جميعًا ما عدا طبقة واحدة هي الطبقة الفقيرة التي لا يتيسر لها شروط الكفاءة المالية. وقد ينتهي الانتخاب إلى تمثيل جميع العناصر على نسبة متوازنة يشعر كل عنصر فيها باشتراكه الصحيح في تكوين الحكومة، وقدرته الصحيحة على تبديلها بالوسائل الدستورية. وهذه هي الحكومة الديمقراطية في أحسن أشكالها وأوفاها بالغرض من هذه الحكومة.

لم تُثبت التجربة قط أي فرق في نوع النواب وكفاءتهم العامة بين المجالس النيابية التي انتُخبت من درجة واحدة، والمجالس النيابية التي انتُخبت من درجات متعددة، فنتيجة الانتخاب على درجة واحدة كنتيجة الانتخاب على درجتين أو أكثر من حيث الكفاءة العامة للنواب الذين يقع عليهم الاختيار في النهاية. وكل ما هنالك من فَرق بين الطريقتين أن تعديد الدرجات يسهِّل الغش والإكراه وشراء الأصوات، وأن الانتخاب من درجة واحدة يمنع ذلك جهد المستطاع.

كذلك لم تُثبت التجربة أن حصر الأصوات أو تضييق حقوق الانتخاب أصلح لتسيير الحكومة ومراقبتها من التوسيع والتعميم، بل قد ثبت على نقيض ذلك أن الرشوة والإكراه وعامة الوسائل الشائنة تَروج مع حصر الأصوات، وتَقِل مع إطلاقها وتوزيعها بين أكبر عدد من الناخبين، فكان الانتخاب في إنجلترا قبل قانون سنة ١٨٣٢ أشبه بسوق علنية لشراء الأصوات، ومساومة الناخبين. وما برحت عيوبه القديمة فاشية في تلك البلاد حتى اتَّسعت حقوق الانتخاب في سنة ١٨٨٥، فأخذت تقضي شيئًا فشيئًا على تلك العيوب، ومن عجائب المشاهدات أن توسيع الحقوق الانتخابية لم يؤدِّ إلى تحكيم السلطة التشريعية في الحكومة، كما أنذر بعض المحافظين المتخوفين من تفاقم الحركة الشعبية، وتقييد التاج، ومجلس النبلاء، بل هو قد أدى إلى تقوية الوزارة، وإقامة الموازنة بينها وبين مجلس النواب على نمط يدعو إلى الحكمة والتؤدة في تدبير الأمور، ويعللون ذلك بخوف النواب — ولا سيما بعد أن أصبحت لهم مرتبات — من حل المجلس، ومواجهة الحرب الانتخابية في كل وقت، فإن كان هذا هو السبب أو كان السبب شيئًا آخر غير هذا الذي يقوله المحافظون والمعارضون في توسيع الحركة الشعبية، فينبغي أن نذكر أن مزية الديمقراطية المحققة هي إيجاد هذه الموازنة بين المصالح المتباينة، لا تطهير القلوب البشرية من التفكير في مصالحها، أو إنشاء نواب لسياسة الأمم زهاد وقديسين، وحسنٌ — وليس بقبيح من وجهة المصلحة العامة — ألا يكون إسقاط الوزارات سهلًا هينًا بحيث يندفع فيه النواب مع أول خاطر يخطر على البال. وهناك من الجانب الآخر ضمان الرأي العام، والخوف على السمعة السياسية يحول بين النائب وبين التمادي في مجاراة الوزارة إلى حد التفريط المذموم، فمتى توازنت جميع العوامل الديمقراطية توازنًا يمنع بعض المصالح أن تطغى على جميع المصالح الأخرى، فهذه هي مزية الديمقراطية على الاستبداد، وإذا قيل: إن الديمقراطية تجعل النواب والوزراء ورجال السياسة على العموم ملائكة أبرارًا لا يؤخذون يومًا بضَعف النفوس البشرية؛ فذلك هراء لا يصدقه أحد، ولا يصادف عند الناس إلا ما يصادفه كل ادعاء كاذب من الشك والحذر والاستياء، ولكننا إذا وطنَّا العقول على أن الديمقراطية هي المصالح المتوازنة بين العوامل المشتركة في الحكومة، فقد وطنَّاها على الحق المعقول، وهو في ذاته غاية تستحق كل ما يُبذل في سبيل الديمقراطية من الجهود.

وهذا التوازن الذي لا غنى عنه هو الذي يقضي بألا تُستثنى من الانتخاب طبقة، أو يُصدَّ عنه عدد كبير من أبناء الأمة، فحسب الأغنياء وأصحاب المصالح الكبيرة والمفكرين وذوي النفوذ أنهم أصحاب قوة فعالة في الحياة الاجتماعية والسياسية قد تُرْبي على قوة الأصوات العددية التي يخولها أفراد الجماهير. والاشتراكيون المتطرفون يهزءون بالحكومة النيابية ويقولون عنها: إنها حكومة طبقات أو حكومة ماليين؛ لأن أصوات الناخبين لا تقاوِم النفوذ الذي يناله الماليون بالتواطؤ مع السواس، وتسخير الصحف والكتاب والخطباء، فكيف إذا أصبح الألوف والملايين الفقراء — وهم يُطالبون بالموت في الدفاع عن أوطانهم — ولا أصوات لهم في الانتخاب، ولا رأي لهم على الإطلاق إلى جانب آراء الأغنياء والملاك وذوي النفوذ؟ ومن المغالطة أن يقال: إن الديمقراطية تُسوِّي بين العالِم والجاهل، والغني والفقير؛ لأنها تعطي كلًّا منهم صوتًا واحدًا في الانتخاب، فإن الديمقراطية لن تسوي بين رجل له نفوذ شعبي، ورجل لا نفوذ له على غير نفسه، أو لعله لا يملك النفوذ على نفسه إلا لينقاد به لسلطان الآخرين. أما إذا تَجرَّد العالِم أو الغني من النفوذ الشعبي؛ فذلك — على الأعم الأرجح — دليل على أنه لا يصلح للأعمال الشعبية، وأن مجال صلاحه في ناحية أخرى بعيدة عن أصوات الناخبين. إن باستور لم يمنعه أن يكون باستور وأن يملأ الأرض بعلمه أنه صاحب صوت واحد في الانتخاب، فإذا فرضنا أن شهرته لم تُوله كلمة مسموعة في سياسة قومه، وأنه لم يتسع له الوقت لقيادة الجماهير، فلا خسارة عليه ولا خسارة على الجماهير في التفريق بين كفاءته الشعبية وكفاءته في دائرة العلم والتفكير.

أهم ما في الديمقراطية أن يشعر كل فرد وكل فريق بأنه صاحب رأي في حكومة بلاده، وبغير ذلك لا تتحقق لها مزية، ولا يطمئن المحكومون إلى المجالس النيابية؛ فالحكم النيابي الأيرلندي الذي تقرر إلغاؤه سنة ١٨٠١ لم يفلح في اختلاس ثقة الشعب، ولم يَمنع ثورته الدموية وإلحاحه في طلب الانفصال عن الدولة البريطانية، والبرلمان الذي انتخبه الملكيون في فرنسا بعد هزيمة نابليون لم يفلح في شيء قط حتى خدمة الملكية التي انتخبته! فحلَّته الوزارة على الأثر، وأعادت الانتخاب بطريقة أقرب إلى الحرية والتخيير؛ فالديمقراطية إما أن تكون ثقة شعبية أو لا تكون شيئًا؛ لأنها حين تُزيَّف أو تُحصر لا يطول عليها تعويل الشعب ولا تعويل المستبدين.

وقد تعززت مبادئ التوسع في حقوق الانتخاب عملًا قبيل الحرب وبعدها، فأخذت بها أكثر الأمم في انتخاب مجالس النواب، ففي نحو مائة دستور — يلخصها كتاب الإحصاءات السياسية — لم تشذ غير إنجلترا التي ينص قانونها على شروط مالية غاية في السهولة، وإلا رومانيا التي تشترط في الناخب أن يؤدي ضريبة ما من الضرائب العامة، وإلا جمهورية العبيد التي تشترط الملكية، وإلا بضع ولايات وجمهوريات في أمريكا تشترط أداء ضريبة الرءوس، وقليل جدًّا من الدساتير يشترط القراءة والكتابة في الناخبين؛ لأن الأميين بينهم من جنس آخر، وهم على الأغلب حمر وسود.١
١  أمريكا الوسطى والجنوبية للأستاذ وليام شِبرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤