الأنساب

تعليق على ما جاء بسطر ٧ صفحة ٢ جزء أول من ابن خلدون

إن علم الأنساب هو العلم الذي يبحث في تناسل القبائل والبطون من الشعوب وتسلسل الأبناء من الآباء والجدود، وتفرع الغصون من الأصول في الشجرة البشرية بحيث يعرف الخلف عن أي سلف انحدر، والفرع عن أي أصل صدر، وفى هذا العلم من الفوائد النظرية والعملية، بل من الضرورات الشرعية والاجتماعية والأدبية والمادية، ما لا يحصى، فليس علم الأنساب بطراز مجالس يعلمه الناس لمجرد الاستطراف أو للدلالة على سعة العلم، وإنما هو علم نظري عملي معًا. عملي لأنه ضروري لأجل إثبات المواريث التي يتوقف توفيرها لأهلها على ثبوت درجة قرابة الوارث من المورث، وهذا لا يكون إلا بمعرفة النسب.

وكذلك هو ضروري لأجل الدول الراقية المهذبة التي تريد أن تعرف أصول الشعوب التي اشتملت عليها ممالكها، والخصائص التي عرف بها كل من هذه الشعوب بما يكون أعون لها على تهذيبها وحسن إدارتها، فكما أن العالم المتمدن يعنى بتدريس جغرافية البلدان من جهة أسماء البلاد ومواقعها وحاصلاتها وعدد سكانها ومقدار جباياتها، فإنه يجب أن يُعنى بمعرفة أنساب أولئك السكان وطبائعهم وعاداتهم وميزة كل جماعة منهم، وغير ذلك من المعارف التي لا يجوز أن تخلو منها هيئة بشرية راقية، ولما كان من الحقائق العلمية الثابتة المقررة عند الأطباء والحكماء، كما هي مقررة عند الأدباء والشعراء، أن الأخلاق والميول والنزعات المختلفة تتوارث كما تتوارث الأمراض والأعراض الصحية، والدماء الجارية في العروق، فقد كان لا بد من معرفة الأنساب حتى يسعى كل فريق في إصلاح نوعه بطريق الترقية والتهذيب ضمن دائرته الدموية بحسب استعدادها الفطري، لأن الاجتهاد في تنمية القرائح الطبيعية والمواهب المدنية لا يمكن أن يثمر ثمره في قبيل إذا جاء معاكسًا لاستعداده الفطري وهذه الاستعدادات أحسن دليل عليها هو علم الأنساب.

وليس هذا العلم منحصرًا في العرب — كما يتوهم بعضهم ويظنون أن سائر الأمم قليلة الاحتفال به — فإن الأمة الصينية الكبرى هي أشد الأمم قيامًا على حفظ الأنساب، حتى إنهم ليكتبون أسماء الآباء والجدود في هياكلهم، فيعرف الإنسان أصوله إلى ألف سنة فأكثر. وقد تناهوا في الاعتناء بهذا الأمر إلى أن قدسوا آباءهم وجدودهم، وعبدوهم كما يعبدون آلهتهم. وكذلك الإفرنج كانت لهم عناية تامة بالأنساب في القرون الوسطى والأخيرة، وكانت في دولهم دوائر خاصة لأجل تقييدها وضبطها، ووصل آخرها بأولها، وقد بقي ذلك معمولًا به إلى أن ساد الحكم الديموقراطي في أوروبا فضعف عندهم الاعتناء بهذا الأمر بإلغاء الامتيازات التي كان يتمتع بها النبلاء، وكانوا يدققون في الأنساب من أجلها، وبقي الاهتمام بالأنساب من الجهة العلمية لا العملية.

فأما العرب فلا شك في أنهم في مقدمة الأمم التي تحفظ أنسابها، وتتجنب التخليط بينها، فلا تجعل الأصيل هجينًا، ولا الهجين أصيلًا، ولا تحتقر قضية الكفاءة في الزواج، بل تعض عليها بالنواجذ. ولا يقيم العربي وزنًا لشيء بقدر ما يقيم للنسب لا سيما في البوادي التي اقتضت طبيعة استقلال بعضها عن بعض، وتنافسها الدائم فيما بينها؛ أن كل قبيلة فيها تعرف نفسها، وتحصي أفرادها، وتحفظ بطونها وأفخاذها حتى تكون يدًا واحدة في وجه من يعاديها من سائر القبائل، فاقتضى ذلك أن يكون العرب علماء بأنسابهم، يحفظون سلاسلهم العائلية بصورة مدهشة لا تجدها عند غيرهم، فتجد البدوي أحيانًا يجهل أقرب الأمور إليه، ولكنه إذا سألته عن أبيه وجده ومنتسبه فإنه يسرد لك عشرين اسمًا ولا يتتعتع.

وأما في الحواضر فليس الأمر بهذه الدرجة من الضبط، وذلك لعدم الاحتياج الذي عليه البوادي من هذه الجهة، فإن الحواضر مشغولة بصناعاتها ومهنها ومتاجرها ومكفولة بالسلطان الذي يغنيها عن تماسك الفصيلة أو القبيلة، وعن اعتناء كل فريق بجمع أفراده ليقف في وجه عدوه. وكلما استبحر العمران في مصر من الأمصار قل الاعتناء بالأنساب، وصار الناس ينسبون إلى حرفهم ومهنهم، أو إلى البلاد التي جاءوا منها. وكلما قرب المجتمع من حال البداوة اشتدت العناية بالأنساب، واستفحلت العصبيات التي هي من طبيعة الاعتناء بالنسب. وقولنا إن البوادي أشد من الحواضر عناية بهذا الأمر لا يعني أن الحواضر العربية لا تقيم للأنساب وزنًا، فالعرب غالب عليهم الاحتفال بالنسب حاضرهم وباديهم، وأبناء البيوتات منهم، ولو كانوا في أشد الحواضر استبحار عمارة يحفظون أنسابهم ويقيدونها في السجلات، وكثيرًا ما يصدقونها لدى القضاة بشهادات العلماء الأعلام والعدول، ويسجلونها في المحاكم الشرعية. وإذا كانوا من آل البيت النبوي — وهو أشرف الأنساب بالنظر إلى اتصالهم بفاطمة الزهراء التي هي بضعة الرسول ، وهو أشرف الخلق — حرروا أنسابهم لدى نقباء الأشراف، وكتبوا به الكتب المؤلفة، وهذا أمر بديهي لا نزاع فيه، لأن هذا الشرف هو مما يتنافس به، ومما يستجلب لصاحبه مزايا معنوية، وأحيانًا منافع مادية، فلا يريد منتسب إلى هذا البيت الشريف أن يفقد الدليل على نسبته هذه. ولئن كان البيت النبوي هو أشرف الأنساب بالسبب الذي تقدم الكلام عليه فليس سائر بيوتات العرب من ذراري الملوك والأمراء، والأئمة والعلماء والأولياء بأقل حرصًا على حفظ أنسابهم من آل البيت الفاطمي. وجميع قريش مثلًا سواء كانوا من الطالبيين أو من غيرهم يفتخرون بنسبهم القرشي، وكذلك ذراري الأنصار من الأوس والخزرج يفتخرون بأنسابهم القحطانية، وكذلك سلائل الملوك من لخم وغسان، وأمثالهم من العرب القحطانية ليسوا بأقل حرصًا على حفظ أنسابهم من تلك البطون العدنانية الشريفة. والعرب بالإجمال سائرون في النسب على مقتضى قوله تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فكل قبيلة راضية بنسبها، تحفظ مآثر قومها، وتعتز بالاعتزاء إلى سلفها، مع أن القبيلة الثانية التي تنافسها تحفظ لها عورات ومعرات تعتبرها بها عند المفاخرة والمنافرة.

ولشدة اعتنائهم بالأنساب تجد انتصار بعضهم لبعض على نسبة درجة القرابة، فكلما كانت القبيلة أقرب كانت أولى بنصرها، لا يتخلف ذلك فيهم إلا لعوامل غير معتادة. ومهما اشتدت العداوة بين أبناء فخذ واحد فإنهم يجتمعون بطنًا واحدًا على بطن آخر يناوئهم من قبيلتهم، وكذلك تجتمع البطون المنتسبة إلى عمارة لمقاومة عمارة أخرى، وهلم جرًّا. ولا بد أن ينزع عرق النسب في العربي فيميل به إلى الأقرب مهما كان هذا الأقرب بعيدًا في الحقيقة؛ فالقحطاني ينتسب إلى شعب طويل عريض يحصى بالملايين، والعدناني ينتسب إلى شعب لا يقل عنه في العدد والمدد، ولكن إذا اختصما في موقف من المواقف وجدت عرق العصبية نزع في كل عربي، فمال القحطاني إلى قبائل اليمن، ومال العدناني إلى قبائل الحجاز ونجد، أي مضر وربيعة. وقد يؤاخي الفريق منهم من كان يعاديه بغضًا بفريق آخر أشد عداوة لأنه أبعد نسبًا، وعليه قول شاعرهم:

وذوي ضِباب مضمرين عداوة
قرحى القلوب معاودي الأفناد
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم
وهمو إذا ذكر الصديق أعادي
كيما أعدهمو لأبعد منهم
ولقد يُجاء إلى ذوي الأحقاد

ومن أجل هذا التدقيق في قرب النسب وبعده، وترتيب الصداقة والعداوة على درجات هذا القرب وهذا البعد، انقسم العرب إلى ذينك الشعبين الكبيرين: عدنان، وقحطان، وغلب على قحطان اسم اليمن، لأن أكثر منازل العرب القحطانية هي في اليمن، ومن وُجد منهم خارجًا عن اليمن كالأوس والخزرج في المدينة، وكطي وغيرها في نجد مثلًا، فإنما خرجوا بعد أن انهدم سد مأرب، وتفرقت القبائل في البلدان.

وأشهر القحطانيين حمير. ومنهم قضاعة، ومن قضاعة بلى. ومنهم الآن في شمالي الحجاز، وجهينة. ومنهم على سواحل الحجاز يبلغون ١٠٠ الف نسمة، وكلب وهم في بادية الشام، ويقال لهم اليوم الشرارات، وعُذرة المشهورون بالعشق، ولهم بقايا بمصر وبقايا بالشام، وبهراء ومنهم ما بين بلاد الحبشة وصعيد مصر، ونهد، وجرم، وتنوخ وهؤلاء كانوا في شمالي بلاد الشام.

ومن القحطانية كهلان. ومنهم الأزد، ومن الأزد غسان وكانوا بالشام، وكان منهم نصارى، ولذلك تجد كثيرين من نصارى سورية ينتسبون إلى غسان — أو يحبون أن ينتسبوا إلى غسان — ومنهم الأوس والخزرج في المدينة المنورة، وقد تفرقوا في البلاد ولا يكاد يوجد منهم أحد في المدينة في هذه الأيام. ومن كهلان طيئ وهم من أكبر القبائل، ويقال لهم اليوم شمر، وبحتر الذين منهم البحتري الشاعر، وزُبَيْد بضم أوله ففتح فسكون، وكثير من قبائل الشام هم من زبيد، وسُنبس، وجَرم ومنهم في بلاد غزة ومصر. وثعلبة. ومنهم كثير في الديار المصرية. وغزية. ومنهم بطون في العراق وفى الشام والحجاز. وبنو لام، وهم بالعراق ومنهم الظفير.

ومن كهلان مُذحِج، ومن هؤلاء خولان، وجنب، وسعد العشيرة، ومن سعد العشيرة بنو جُعفي بضم فسكون والنسبة إليهم جعفي على مثل لفظه، وكان المتنبي الشاعر جعفيًّا. ومن سعد العشيرة قبيلة يقال لها أيضًا زُبيد بضم ففتح فسكون، وهم زبيد الحجاز الذين ينتسب إليهم عمرو بن معد يكرب. ومن كهلان النخع. ومنهم الأشتر النخعي عامل الإمام علي رضى الله عنه على مصر. ومنهم عنس، الذين منهم عمار بن ياسر رضى الله عنه. ومنهم الأسود العنسي الكذاب. ومنهم بنو الحارث الذين يسكنون في الجنوب الشرقى من الطائف، ومن كهلان همدان ولا يزال منهم في اليمن جموع غفيرة، فضلًا عمن تفرقوا في البلاد. ومنهم الهمداني صاحب كتاب «الكليل» وكتاب «صفة جزيرة العرب» ومن كهلان كِندة، وكان لهم ملك ومنهم امرؤ القيس الكندي الشاعر، وأبو إسحاق يعقوب الكندي فيلسوف العرب. وهم متفرقون في البلاد فمنهم أناس في اليمن، وآخرون في الشام. ومنهم قوم يقال لهم السكون وآخرون يقال لهم السكاسك، جاء في صبح الأعشى: أن النسبة إلى السكاسك سكسكي، ردًّا له إلى أصله، وهذا صحيح. وقبلي صيدا في سواحل سورية مكان يقال له السكسكية.

ومن كهلان مراد الذين منهم قاتل سيدنا علي بن أبى طالب. وأنمار، ومن أنمار تتفرع بطون كثيرة مثل بجيلة، وخثعم، وهم متفرقون في البلاد. ومن كهلان جذام، وقيل إنهم من العدنانية، ولكنهم انتقلوا إلى اليمن. وكثير من أعقاب جذام في الديار المصرية في الصعيد، وفى الشرقية، والدقهلية. ومنهم بنو صخر في الشام، ومن كهلان لخم، وكان منهم ملوك الحيرة من بلاد العراق، وكان منهم بنو عباد ملوك أشبيلية. ومن لخم أمراء لبنان الأرسلانيون، والتنوخيون، وهؤلاء على الأصح ليسوا من التنوخيين سكان شمالي سورية، بل هم ينتسبون إلى جد يقال له تنوخ من سلالة اللخميين ملوك الحيرة. ومن لخم بطون كثيرة في الديار المصرية ومن لخم بنو الدار رهط تميم الداري الصحابي، وذريته في خليل الرحمن بفلسطين ومن كهلان الأشعريون رهط أبي موسى الأشعري الصحابي. وعاملة، ومن عاملة أهالي جبل عاملة بالشام بين صور وصيدا، وهم شيعة الشام، إلا أن رؤساءهم بني على الصغير ينتمون إلى وائل كما علمت منهم.

وأما العدنانية فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وتواريخ العرب تتفق على أن هؤلاء يقال لهم العرب المستعربة، وأن القحطانية هم العرب العاربة، ولكن في مسألة القحطانية يوجد خلاف؛ لأن بعضهم زعم أن العرب العاربة ليسوا قحطان ولكن الذين قبلهم ممن يقال لهم العرب البائدة؛ عاد وثمود وغمليق وطسم إلخ. والرأي الذي عليه الجمهور أن العرب العاربة هم القحطانية، وأن العرب المستعربة هم العدنانية، وهؤلاء العدنانية هم سلالة إسماعيل بن إبراهيم تعلموا العربية من جُرهم الذين هم من القحطانية، جاءوا إلى مكة وأقاموا بها واختلطوا بذرية إسماعيل.

والعدنانية هم نزار بن معد بن عدنان. ومنهم إياد الذين ينسب إليهم قس بن ساعدة. ومنهم بنو أنمار بن نزار. ومنهم ربيعة ويعرف بربيعة الفرس، ومن ربيعة أسد وضبيعة وديارهم بالجزيرة الفراتية تعرف بديار ربيعة، وفى نجد كثير من ربيعة الفرس، وأسد أكثرهم أفخاذًا. ومن أسد بنو عنزة، وكانت منازلهم خيبر من ضواحي المدينة. ثم رحل قسم كبير منهم إلى بادية الشام، وهم أكثر عرب هذه البادية، فمنهم الرولة، وولد علي، والمُعجل، والحسنة، ويقال هؤلاء ضَنَى مسلم ثم السبعة، والقدعان، ويقال لهم ضنى عبيد. وآل سعود الذين منهم ملك الحجاز ونجد عبد العزيز بن سعود في هذا العصر ليسوا من عنزة، ولكنهم مجتمعون مع عنزة في ربيعة. ومن ربيعة جديلة، وكانت ديارهم بتهامة. ثم خرجوا إلى البحرين ومنهم فريق في الجزيرة الفراتية، ومن جديلة بنو وائل، ولوائل بكر وتغلب، ومن تغلب بن وائل كليب الذي قتله جساس واشتعلت لأجله الحرب المعروفة بالبسوس.

وكان الحمدانيون ملوك حلب قديمًا من تغلب، وكان من تغلب نصارى كما كان من غسان، ولما ظهر الإسلام أسلم منهم أناس، وبقي الآخرون متمسكين بنصرانيتهم وأبوا أن يدفعوا الجزية كسائر النصارى بحجة أنهم عرب، وأصر سيدنا عمر على أخذها منهم، وكان سيدنا علي فكر في منعهم من تنصير أولادهم وذلك حتى ينشأ أحداثهم في الإسلام. ولهم حكم خاص في الفقه الإسلامى، واختلفت في شأنهم الأقوال، وجاء في فتوح البلدان للبلاذري عن ابن عباس قال: لا تؤكل ذبائح نصارى بني تغلب، ولا تنكح نساؤهم، ليسوا منا ولا من أهل الكتاب وتظاهرت الروايات على أنه لما أراد عمر أخذ الجزية منهم لحقوا بأرض الروم، فقال زرعة بن النعمان لعمر: أنشدك الله في بني تغلب فإنهم قوم من العرب يأنفون من الجزية، وهم قوم شديدة نكايتهم، فأرسل عمر في طلبهم فردهم، وأضعف عليهم الصدقة. وكتب عمير بن سعد إلى عمر يسأله رأيه فيهم لأنهم هموا باللحاق بمملكة الروم، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يأمره أن يضعف عليهم الصدقة التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض، وإن أبوا ذلك حاربهم حتى يبيدهم أو يسلموا، فقبلوا أن يؤخذ منهم ضعف الصدقة، وقالوا: «أما إذا لم تكن جزية كجزية الأعلاج فإنا نرضى ونحفظ ديننا.»

وقال الزهري: «ليس في مواشي أهل الكتاب صدقة إلا نصارى العرب الذين عامة أموالهم المواشي، فإن عليهم ضعف ما على المسلمين. وكان عثمان رضي الله عنه أمر أن لا يقبل من بني تغلب في الجزية إلا الذهب والفضة، فجاءه الثبت أن عمرًا أخذ منهم ضعف الصدقة فرجع عن ذلك، واتفقوا على أن سبيل ما يؤخذ من أموال بني تغلب سبيل مال الخراج، لأنه بدل من الجزية. وبالاختصار أبت بهم عروبتهم أن يؤدوا كنصارى الأعاجم، وأبى الخلفاء الراشدون أن يعاملوهم معاملة المسلمين فوجدوا لذلك طريقًا وسطًا.

ومن بني تغلب الأخطل التغلبي الشاعر النصراني المشهور وهم كثيرون في نجد.

وأما بكر بن وائل فمنهم شيبان. ومنهم بنو حنيفة رهط مسيلمة الكذاب، وأكثر سكان الرياض عاصمة نجد اليوم من بني حنيفة، ومن بكر بنو عجل بن لُجيم.

وأما القسم الثاني من العدنانية فهم سلالة مضر بن نزار، ويقال مضر الحمراء ولذلك تجتمع عدنان كلها في ربيعة ومضر.

ولمضر فرع جمع عدة قبائل وهو قيس، ويقال له قيس بن عيلان بن مضر وقيل هو قيس بن مضر لصلبه وعيلان مضاف إليه، قيل فرسه وقيل كلبه. ولكثرة بطون قيس غلب على سائر العدنانية، حتى صار في مقابل اليمن كلها، فصاروا يقولون قيس ويمن، وفى جميع الديار الشامية انقسم العرب إلى قيس ويمن، وكانت حروب القيسية واليمنية في لبنان متصلة وانتهت بواقعة عين دارة منذ ٢٢٥ سنة. وأما في فلسطين فلا تزال هذه القسمة موجودة. وأما في الأندلس فكانوا يقولون المضرية واليمنية، ومن أشهر قبائل قيس هوازن، وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، ويقال لهوازن اليوم عتيبة. وهم من أكبر قبائل العرب منهم أناس في الحجاز وآخرون في نجد. وينقسمون اليوم إلى فرعين؛ الروقة، والبرقة، وبعضهم يرى أن أحد الفريقين وهو البرقة من عامر بن صعصعة. ومن هوازن بنو سعد الذين كان النبي رضيعًا فيهم. ويقال لهم بنو سعد بن بكر ذكر صاحب صبح الأعشى أن منهم فرقة بنواحي باجة من المغرب. ومن هوازن بنو عامر بن صعصعة.

ومنهم بنو كلاب، وكان لهم في الإسلام دولة باليمامة، ثم انتقلوا إلى الشام وملكوا حلب مدة من الزمن. ومن بني عامر بن صعصعة بنو هلال وهم أشهر قبائل العرب. وكانوا في الحجاز ونجد. وقد انتقلوا إلى المغرب فملئوه. ثم إن قبيلة حرب الكبيرة في الحجاز من بني هلال، وهم بطون ثلاثة؛ بنو مسروح وبنو سالم، وبنو عبيد الله. هكذا في صبح الأعشى. وأما في كتاب «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» فقد جاء في الصفحة ٣٧٢ ذكر قبائل الحجاز النازلة بين الحرمين، وقد كنت نقلتها عن سجلات الحكومة في المدينة المنورة فهنالك أقول: «أهم هذه القبائل حرب، وهم بنو حرب بن هلال بن عامر بن صعصعة من العرب العدنانية. وحرب خلف أربعة أولاد: سالم، ومسروح، وعبد الله وعمرو. فمسروح أكثرهم ولدًا، وقد دخلت بطون بني عبد الله وبنو عمرو في مسروح.» أما صبح الأعشى فيقول نقلًا عن الحمداني: إنهم ثلاثة بطون؛ بنو مسروح، وبنو سالم، وبنو عبيد الله. وقال: إن من حرب زبيد الحجاز، وذكر أن منهم بني عمرو. ومنازل مسروح من مكة إلى المدينة المنورة وعددهم يزيد على ستين ألف نسمة. وأما بنو سالم من حرب فمنازلهم من مكة إلى المدينة إلى وادي الصفر إلى الحديدة إلى ينبع البحر، وهم يزيدون على خمسين ألفًا. فحرب إذا اجتمعت تزيد على مئة ألف نسمة، وكان شيخ مشايخ حرب خلف بن حذيفة الأحمدي، وكان ناصر بن نصار الظاهر، ومنصور الظاهري، من مشايخ المراوحة من بني سالم من حرب. وبنو مزينة الذين بأطراف المدينة والذين منهم زهير بن أبي سلمى المُزني صاحب المعلقة، داخلون الآن في بني سالم من حرب. والحال أن مزينة في الأصل هم بنو عثمان وأوس ابني عمرو بن أد بن طانجة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر على ما في صبح الأعشى. وكان شيخهم حجاب بن بخيت معدودًا من مشايخ المراوحة من بني سالم إلى آخر ما ذكرناه من أسماء شيوخ حرب في العصر الأخير.

وأخبرني العلامة النسابة الشيخ عبد الله بن بلهيد قاضي قضاة المملكة السعودية أن ما ذكرته عن قبائل الحجاز هو أصح ما اطلع عليه في هذا الباب. ومن بني عامر بن صعصعة أيضًا بنو عقيل، وكانت مساكنهم بالبحرين، وكانوا أعظم القبائل هناك واجتمعوا هم وبنو تغلب على بني سليم بن منصور فأخرجوهم من البحرين، ثم تغلب بنو تغلب على بني عقيل فأخرجوهم إلى العراق، ثم عادوا إلى البحرين وتغلبوا على بني تميم. ومن بني عقيل بنو عبادة، وبنو خفاجة في العراق ومنهم المنتفق. ثم من بطون هوازن بنو جشم؛ كانت مساكنهم بالسروات بين تهامة ونجد، ومن بطون هوازن ثقيف، ويقال للطائف سوق ثقيف، لأنهم سكانها ومحيطون بها من كل جهة. وفى كتابنا «الارتسامات اللطاف» استوفينا الكلام على ثقيف. ومن قبائل قيس باهلة، وبنو مازن، وبنو غطفان، ومن غطفان بنو عبس جماعة عنترة الفارس المشهور. ومنهم أشجع، ذكر صاحب الأعشى أن منهم حيًّا عظيمًا بسجاماسة في المغرب. ومن غطفان دبيان. ومنهم النابغة الذبياني، ومن ذبيان فزارة ومنهم بنو صبيح في برقة ومن هؤلاء رواحة وهيب بأرض برقة إلى طرابلس الغرب وبأفريقيا والمغرب. ومنهم جماعة بالديار المصرية.

ومن قبائل قيس بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان وكانوا في عالية نجد بالقرب من خيبر، وفى وادي القرى وتيماء، ولكن أكثرهم رحلوا إلى مصر، ثم إلى برقة، وأكثر عرب برقة منهم. ومن شاء أن يتوسع في معرفة قبائل برقة فعليه بحواشينا على «حاضر العالم الإسلامى» فإنه يجد في الفصل المتعلق بطرابلس الغرب من صفحة ٦٤ من المجلد الثاني إلى صفحة ١٦٥ كل ما يلزم من المعلومات عن ذلك القطر، ولا سيما عن القبائل بأسمائها القديمة والجديدة مما يطول بنا استيفاؤها هنا. ونحن إنما ذكرنا هنا مجمل أنساب العرب على سبيل التمثيل.

ومن قبائل قيس بنو عدوان وكانوا بالطائف، ثم غلبهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة، وبأفريقيا منهم أحياء بادية، وفى شرق الأردن اليوم عرب العدوان، وهم رؤساء البدو في تلك الناحية، ولا يعلم هل هم من عدوان هؤلاء، أم هو اتفاق في الاسم.

ومن مضر الياس، وكانت تحته خِنْدِف بكسر الخاء وسكون النون وكسر الدال وهي بنت حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة، عرف بنوه بها فقيل لهم خندف وغلب على سائر قيس قال الشاعر، وقد أهانه العدنانية في أسوان وأعزه القحطانية في اليمن:

إذا تم لي في أرض مأرب مأربي
فلست على أسوان يومًا بأسوانِ
إذا جهلت قدري زعانف خندف
فقد عرفت فضلي غطارف همدان

ومن الياس طانجة، ومن طانجة هذه تميم وهي من أكبر القبائل. ومن بطون تميم بنو العنبر، وبنو حنظلة، ومن قبائل طانجة بنو ضبة الذين منهم ضبة الذي هجاه المتنبي وقتل بسبب هجوه أباه. ومن بني تميم قبائل في نجد منهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي ينتسب إليه أهل نجد، فيقال لهم الوهابية. وهم يقولون لأنفسهم السلفية إشارة إلى أنهم على عقيدة السلف الصالح. ومنهم أناس في الدرعية ومنهم كثير من سكان القصيم. ومنهم فريق في جوار حائل مثل أهل قفار والسميرة، وقرى أخرى. ومن قبائل طانجة مزينة الذين منهم زهير بن أبى سلمى ولكنهم دخلوا في حرب كما تقدم الكلام عليه. ومن هؤلاء الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي. ومن إلياس بن مضر بنو قمعة، ثم بنو مدركة، ومن مدركة هذيل ومساكنهم جبال الطائف العليا، وقد ذكرت ذلك في «الارتسامات اللطاف» وهم مجاورون لثقيف. ولمدركة خزيمة وله فرعان الهُون وأسد. ومن بطون أسد الكاهلية وهم بنو كاهل بن أسد ومن خزيمة كنانة وهم قبيلة شهيرة ذات فروع منها ملكان، وعبد مناة، وغفار رهط أبي ذر الغفاري. وبكر بن عبد مناة، ومن بكر الدُّوَل الذين منهم أبو الأسود الدولي. والليث، وبنو الحارث، وبنو مدلج وبنو ضمرة. وجميعهم متفرقون في بلاد العرب.

ومن كنانة عمرو، وعامر، ومالك. ومن مالك هؤلاء بنو فراس بن غنم الذين اشتهروا بإعجاب سيدنا علي بفروسيتهم: (ولو أن لي بألف منكم سبعة من بني فراس بن غنم) ومن العرب العدنانية قريش، وهم فهر بن مالك.

ومنهم بنو الحارث بن فهر، ومن هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة رضي الله عنه وبنو محارب بن فهر.

ومنهم الضحاك بن قيس أحد الأصحاب. وبنو الجد الذين كانوا في الأندلس، ثم صاروا إلى فاس.

ومنهم الأمراء والرؤساء والعلماء هم من بني فهر. ومن قريش بنو غالب بن فهر.

ومنهم بنو لؤي بن غالب، ومن هؤلاء بنو سعد وبنو خزيمة، وبنو عامر بن لؤي، وبنو كعب بن لؤي. ومن بني كعب بن لؤي هُصيص، ومن هؤلاء بنو هم رهط عمرو بن العاص رضي الله عنه.

ومنهم بنو جمح ومن كعب بن لؤي بن غالب بنو عديّ.

ومنهم سيدنا عمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد رضي الله عنهما.

ومن قريش مُرة بن كعب، ومن بني مرة بن كعب تيم، ومن هؤلاء سيدنا أبو بكر الصديق، وطلحة رضي الله عنهما. ومن مرة بن كعب بنو يقظة، وبنو مخزوم. ومن بني مخزوم سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه.

ومنهم سعيد بن المسيب التابعي المشهور.

ومن قريش كلاب بن مرة.

ومنهم بنو زهرة، ومن بني زهرة الصحابيان سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف من العشرة المقطوع لهم بالجنة رضي الله عنهما ومن قريش قصي بن كلاب بن مرة.

ومنهم بنو عبد الدار الذين بأيديهم مفاتيح الكعبة. ومن بني عبد الدار بنو شيبة وهم الشيبيون الذين بأيديهم مفاتيح بيت الله إلى يومنا هذا. ومن قُصي بن كلاب بن مرة بنو عبد العزى. ومن هؤلاء بنو أسد الذين منهم سيدنا الزبير بن العوام أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة رضي الله عنه.

ومنهم خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.

ومن قريش بنو عبد مناف، وهم بنو عبد شمس بن عبد مناف، ومن هؤلاء بنو أمية، وهم بنو أمية الأكبر، وأمية الأصغر ابني عبد شمس، ومن بني أمية الأكبر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان. ومن عبد مناف بن قصي نوفل، وبنو المطلب. ومن بني المطلب الإمام الشافعي رضي الله عنه. وأما هاشم بن عبد مناف فاسمه عمرو، وسُمّي هاشما لهشمه الثريد أيام المجاعة، وكان سيد قريش في وقته. وله عبد المطلب بن هاشم، وكان لعبد المطلب اثنا عشر ولدًا: عبد الله أبو النبي ، وأبو طالب والد سيدنا علي، والزبير، وعبد الكعبة، والعباس والد عبد الله بن عباس، وضِرار، وحمزة، وحجل وأبو لهب، وقثم، والغيداق، والحارث، والعقب منهم لستة؛ حمزة، والعباس، وأبى لهب، وأبى طالب، والحارث، وعبد الله؛ فأما عبد الله فمن ولده سيد الوجود محمد بن عبد الله عليه السلام، وأما العباس فمن ولده الخلفاء العباسيون، وأما أبو طالب فكان له عدا أمير المؤمنين عليًّا كرم الله وجهه جعفر، وعقيل، وذرية أمير المؤمنين من فاطمة منتشرة في جميع العالم الإسلامى، ويقال لهم آل البيت، وهم السنام الأعلى في الشرف.

ومن خيبر إلى الحائط، والحويط، إلى الحرة، قبيلة هتيم. وليست من القبائل المعروفة بالأصالة في العرب، ولكنها كثيرة العدد تصادم شمر، وتصادم حرب وتصادم أية قبيلة كبيرة، ويقال إنها نحو من مائتي ألف نسمة.

جاء في انسيكلوبيدية الإسلام أن هتيمًا مشهورون بالقنص، وأن منهم قيونًا كثيرين، وأن بينهم وبين الشرارات مصاهرات.

ومن القبائل التي لا يختلط بها سائر العرب الصليب، ولا يعرف أصلهم. وقد ذهب بعضهم إلى أنهم من بقايا الصليبيين، واستدلوا على ذلك بمشابهة الاسم والحقيقة مجهولة ولا يعادون أحدًا ولا يعاديهم أحد، وكلما وقعت واقعة بين العرب وفشت الجراحات جاء الصليب هؤلاء وأخذوا الجرحى من الفريقين، وعالجوهم، فهم يتخذون لأنفسهم مهنة الصليب الأحمر في أوروبا. ولذلك لا يعتدي عليم أحد وأحياؤهم آمنة.

وكل من العرب كما تقدم آنفًا مفتخر بنسبه، مستمسك بأصله، فإذا كان عدنانيًّا لم يرض أن يكون قحطانيًّا، وإذا كان قحطانيًّا ساءه أن ينتسب إلى عدنان قال الشاعر:

وما قحطان لي بأب وأم
ولا تصطادني شبه الضلال
وليس إليهم نسبي ولكن
معديًا وجدت أبي وخالي

ومن أراد أن يطلع على سلاسل قبائل العرب وشجرات أنسابهم فعليه «بسبائك الذهب في معرفة قبائل العرب» للسيد محمد أمين السويدي البغدادي، فهو كتاب قد جمع فأوعى في هذا الباب. على أن إفراط العرب في التمسك بأنسابهم قد أوجد بينهم من العصبية بعضهم على بعض ما لا يوجد في أمة سواهم، حتى إن «دوزى» الهولندي الممدود من أوسع المستشرقين علمًا ذكر في كتابه عن مسلمي إسبانيا أن العداوة التي بين العدنانية والقحطانية قد تكون أشد من العداوة التي بين العرب والأعاجم. والحقيقة أن هذه العداوة نفسها هى التي كانت الأصل الأصيل في فقدهم الأندلس، بل في نكوصهم عن قلب أوروبا بعد أن وطئوه بأقدامهم، وكادوا يستولون على تلك القارة. وقد كانوا كلما تم لهم الظفر في واقعة على الأجانب عادوا فاقتتلوا فيما بينهم بين قحطاني ومُضري، ففشلوا وذهبت ريحهم، واضطروا أن يعودوا من حيث أتوا. ولم ينحصر ضرر هذه العصبية في الأندلس والمغرب، بل قد أفنت القبائل العربية بعضها بعضًا في المشرق أيضًا، وصرفتهم عن التبسط في الفتوحات، فما كانوا قد حازوه بشجاعتهم وعلو هممهم فقد فقدوه في منازعاتهم الداخلية بوقوع بأسهم بينهم، لاسيما بين هذين القبيلتين؛ قيس واليمن. وكثيرًا ما كانت تقتتل ربيعة ومضر وكلا الفريقين من العدنانية، ونظرًا لكون مضر أكثر عددًا كانت ربيعة تلجأ إلى اليمن حتى تقف في وجه مضر. وكل عربي تنزع فيه العصبية إلى قومه، فلا يسلم من ذلك أحد، حتى الملوك والخلفاء كانوا يتعصبون للقبائل التي هم منها وهم مع ذلك سادة الجميع.

ومن الأمثال التي تدلك على غلوهم في هذا الباب أن جرير بن عطية الشاعر — وكان من تميم — قال في إحدى مفاخراته للأخطل التغلبي:

إن الذي حرم المكارم تغلبًا
جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك جميعهم
فاعلم فليس أبوكم كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت سلقكم إلى قطينا

فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي ضحك وقال: ما زاد ابن الفاعلة على أن جعلني شرطيًّا عنده! ثم قال وقد نبض به عرق العصبية لمضر: أما والله لو شاء لسقتهم إليه. ولم يكن ليفت في عضد هذه العصبية الغالية سوى العقيدة الإسلامية التي جعلت الإسلام هو العروة الوثقى، وجعلت أخوته فوق كل رابطة. ولذلك قيل: إن العرب لم يكونوا ليتحدوا في يوم من الأيام إلا بالإسلام، ولولا الإسلام لبقوا شعوبًا وقبائل يقتتلون في جزيرة العرب إلى يوم القيامة، وبأسهم أبدًا بينهم. فلما جاء الإسلام ووحد بينهم في الدين، وقال الله تعالى: إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا لم يلبثوا أن خرجوا من جزيرة العرب بقوة هذا الاتحاد؛ ففتحوا نصف العالم في ثمانين سنة، ولم يقف في وجههم شيء! ولكن بعد أن بعد عهدهم بعهد النبوة وخلافة الراشدين ضعفت فيهم العقيدة التي كانت هي مدار العمل عند سلفهم، وعادت فتجددت بينهم العصبيات الموروثة عن الجاهلية، فرجعوا يقتتلون على المضرية واليمنية في الإسلام، كما كانوا يقتتلون قبل الإسلام، ورجع بذلك زرعهم هشيمًا، وبذرهم عرجونًا قديمًا.

فكما أن الأنساب كانت تثير فيهم الحمية والنخوة، وتبعث روح التنافس الحافز لهم على طلب المجد؛ كانت تثير بينهم أيضًا العداوات والفتن التي تصدع وحدتهم وتخمد في النهاية جمرتهم، فأضرت من حيث نفعت. ولقد أجمع المؤرخون، واتفق علماء الاجتماع، أن سبب سقوط سلطنة العرب هو طبيعة هذه الأمة في الانقسام والانفراد، وغرامها في منافسة بعضها بعضًا.

ولولا آفة الانقسام هذه لكان التمسك بالأنساب هو من الفضائل الاجتماعية التي يتنافس بها، ويتمكن بها المصلحون لحكوماتهم وأوطانهم من ترقية أقوامهم بالبحث عن سلائلهم، والاعتناء بحفظ أصالتها ومنع اختلاطها بغيرها مما يشوب نقاوتها.

أفلا ترى كيف ثار الألمان في هذه السنين الأخيرة، وأوجدوا قضية النسب «الآري» ومنعوا بجميع الوسائل اختلاط «السامي» مع «الآري» بالمصاهرات حفظًا للنسب الذي ينتمون إليه، والذي لا يرون لهم رقيًّا إلا به وضمن خصائصه وما فعلوا ذلك إلا بناء على نظريات علمية ثابتة، وهم وإن كانوا غلوا في هذا الأمر إلى حد أوجب انتقاد سائر الأمم لهم فلا يمكن أن يقال إن قاعدتهم هذه غير راجعة إلى أصل صحيح.

ونحن لو نظرنا إلى السبب في حفظ النسب لا نجده منحصرًا في معرفة التاريخ ولا في الامتيازات المادية التي يحوزها أصحاب النسب في العادة، ولكن هناك غرض آخر أعلى من ذا وذا، وهو توارث الأخلاق التي تهتف بالفضائل، والأفعال المجيدة، تزكي الأنفس، فمن المعلوم أن أصل البيوت الشريفة هو أن يبرع أحد الناس على أقرانه، ويبذ أبناء زمانه بطبيعة ممتازة في نفسه قد تكون أسبابها النفسية مجهولة، وإنما تظهر آثارها في أفعاله فيمتاز بين قومه وتحصل له رئاسة وسؤدد، ويشيع ذكره، ويرتفع شأنه، وتتمنى الحوامل أن تلد مثله، وهذا ما يقال له المجد الطريف وبعد ذلك إذا أعقب نسلًا اجتهد نسله أن يقتدوا به بقدر الإمكان، حتى يمتازوا بالأخلاق التي امتاز بها أبوهم، ويحوزوا مثلما حازه من الشرف والسؤدد، وتعب رهطهم في تقوية هذه الروح فيهم طمعًا في استبقاء هذه الغرائز التي أورثهم إياها سلفهم، وهي التي تغريهم بالفضائل، وتبعدهم عن الرذائل، وترتفع بهم عن سفاسف الأمور ويقال لهذا المجد التليد.

ولهذا كان من العادة أنه إذا أقدم أحد أبناء البيوتات الكريمة على عمل خسيس كان أول ما يقرعه به الناس، ويهيبون به إلى التوبة منه؛ أن يقولوا له: أفلست أنت ابن فلان؟ أو من آل فلان؟ أيجمل بك أن تفعل ما هو كذا وكذا! فماذا تركت للسوقة والطغام؟ وأشباه هذه الأقوال التي تدل دلالة واضحة على أن الأصالة مفروض فيها أن تقترن بالنبالة، وبعبارة أخرى إن الأصيل في نسبه ينبغي أن يكون فاضلًا في عمله، بارعًا بأدبه. وما جاء على خلاف هذه القاعدة فيعد شاذًّا.

فإذا تقرر عندنا هذا تقرر أن حفظ الأنساب هو عبارة عن حفظ الفضائل وإمتاع المجتمع بها. ومتى كثرت الفضائل في المجتمع ترقت الأمة وعرجت في سلم النجاح، وأصبحت أمة عزيزة غالبة، لأن الأخلاق الفاضلة هي الأساس الذي يُبنى عليه كيان الأمم.

وقد تقدم لنا أن الأوروبيين شديدو العناية بالأنساب، خلافًا لما يتوهم الشرقيون، وأن الكفاءة في الزواج طالما كانوا يراعونها ولا يزالون يراعونها حتى اليوم، وإن كان قد خف ذلك التمسك القديم بعض الشيء، وذلك بأن النبلاء لا يزوجون بناتهم من الطبقات التي ليست في درجتهم. وأشد الأوروبيين منعة في هذا الأمر هم نبلاء الإنجليز، الذين يأتي الأمريكي المثري فيبذل القناطير المقنطرة من الذهب حتى ينال شرف مصاهرتهم، ولا ينالها إلا لأيًا، وكل هذا لأجل أن «يستقطر بأنبيق ديناره دمهم الشريف في دن نسبه» كما قال أحمد فارس في «كشف المخبأ عن فنون أوروبا». وما قاله أحمد فارس من ثمانين سنة في هذا الموضوع لا يزال تصداقه جاريًا إلى الآن.

وكذلك نجد النبلاء في ألمانيا وفرنسا وغيرهما محافظين على أنسابهم، مفتخرين بها، مستظهرين على صحتها بالكتب والوثائق والشجرات التي يعتقدونها مع أنفس أعلاقهم وذخائرهم، وكثيرًا ما اجتمعنا بأناس من هؤلاء يرفعون أنسابهم إلى عهود بعيدة جدًّا، ويذكرون أن أصول عائلاتهم معروفة من ألف سنة، وألف ومائتي سنة، ولم نجد أشراف العرب أشد اعتناء بأنسابهم من نبلاء الإفرنج، وهم يزيدوننا في شيء واحد، وهي هذه الأشعرة (جمع شعار) التي تمتاز بها كل عائلة منهم وتحفظها في عهود متطاولة. ونحن العرب لا يوجد عندنا هذا الاصطلاح إلا ما ندر وأكثر ما يكون في الأعلام والرايات. فالعباسيون رايتهم السواد، والأمويون رايتهم بيضاء، والفاطميون رمزهم اللون الأخضر، وأمراء مكة رايتهم عنابية وما أشبه ذلك. فنحن نستظهر على حفظ أنسابنا بالتواريخ والوثائق والصكوك القديمة وكثيرًا ما نثبتها بالمحاكم الشرعية، فأما أن تتخذ كل عائلة من بيوتات العرب شعارًا خاصًّا تمتاز به كما هو الشأن عند الإفرنج فليس بمعهود، وإنما جرت العادات عند العرب بأن يتخذ عشائرهم أسماء خاصة يتنادون بها في ميادين القتال، فهؤلاء يقال لهم «إخوة بلجاء» وهؤلاء يقال لهم «إخوة شيخة» وأولئك يقال لهم «رعاة العليا» أو «فرسان الصباح» وما أشبه ذلك من الألقاب والكُنى. فأما نبلاء الإفرنج فلا تكاد تكون منهم أسرة شهيرة بدون شعار تجد صورته على آنيتها ومواعينها وحُلاها وفى كتبها، ويقال إن أصل هذا الاصطلاح عندهم هو من زمان الصليبيين.

وقد غلا نبلاء الإفرنج في التمسك بأنسابهم، ورفعوها أحيانًا إلى أبعد ما يكون من الأعصر، حتى دفع ذلك العقل. وغلا أيضًا علماء الأنساب في مراعاة قواعدهم ودخل بينهم المتزلفون الوضاعون الذين كانوا يتقربون إلى الأسر النبيلة بزيادة رفع الأنساب — أو بوضعها اختراعًا — حتى وقعت الشبهة في الصحيح منها، واتهم النسابون جميعهم بالكذب، وفى أوروبا مثل سائر يقولون «هو أكذب من نسابة».

وكان يوجد عند الملوك في أوروبا وظيفة اسمها وظيفة «نساب الملك» وهو ضابط من ضباط رهبانية روح القدس، ترجع إليه مهمة تثبيت الأنساب، لا سيما أنساب الفرسان الذين يقال لهم «شيفالير Chevalier» وذلك أن النبلاء كانت لهم حقوق لم تكن للعامة، فكان النبيل يدخل في نظام الفرسان عند الملك مثل نظام مالطة، وليون، وسانت كلود، وغيرها. فكانوا يحتفظون بأنسابهم لتكون لهم وسيلة إلى الدخول في هذه الأنظمة، وكان النساء النبيلات أيضًا رهبانيات يدخلن فيها، ويلتزمن لأجل الدخول فيها تثبيت أنسابهن.

وإثبات النسب كان عبارة عن إظهار ورقة المعمودية التي تثبت أن فلانًا هو ابن أبيه فلان، وأن هذا هو ابن فلان وهلم جرًّا. وكانوا يقدمون مع أوراق المعمودية الوصايا، وعقود الزواج، وصكوك الشراء. والبيع والهبة، وما أشبه ذلك من الوثائق، وكانوا إذا حرروا نسب عائلة ضموا جميع فروعها في السجل، وجعلوا بجانب كل فرع جميع ما يتعلق به من وصايا وعقود أنكحة، وصكوك مهمة بتواريخها مع براءات الملوك المتعلقة بذلك الفرع.

وهذه البراءات هى التي يقال لها في الدولة العثمانية «الفرامين» جمع «فرمان» ومعناه الأمر، ويقابل الفرمان في الدولة المغربية «الظهير». وكانوا في أوروبا يذكرون أيضًا في سجلات الأنساب تواريخ الأشخاص المشهورين، ومن قتل منهم في الحروب، ويقال إن هذا الاصطلاح بدأ في فرنسا منذ سنة ١٦٠٠ وإنه من قبل ذلك التاريخ لم تكن للأنساب دائرة خاصة بل كانت الحكومة عندما تريد التحقيق عن نسب من يدلي إليها بطلب ترسل مأمورين إلى البلدة التي ينتسب إليها طالب الوظيفة فيسألون الشيوخ وأهل الخبرة، ويرفعون خلاصة التحقيق إلى الحكومة.

ولما قدمت إلى ألمانيا في أيام الحرب الكبرى، كان ممن تعرفت إليهم من العلماء مؤرخ جليل اسمه الدكتور «ستراد ونتز» وكان مديرًا لمصلحة الأنساب في البلاد الجرمانية، وقد تذاكرت معه طويلًا في مسألة الأنساب، وذكرت له أنساب العرب وسألته عن أنساب الألمان، فعلمت منه أن أقدم أسرة معروفة في ألمانيا ينتهي قدمها إلى القرن التاسع بعد المسيح، ولا يوجد أسرة معروفة يعرف لها نسب لأبعد من هذا التاريخ. قال: وإن الأسرة المالكة في الساكس هي أقدم بيت في ألمانيا، ويوجد من لهم نسب إلى القرن الثاني عشر للمسيح.

وذكر لي أسرًا عريقة من جملتها آل هونلوهيه وكنت عرفت منهم برنسًا ضابطًا وشاهدته في الأستانة، وتكلمنا على نسب آل هوهنزولون قياصرة ألمانيا، وأن أصلهم من جهة بحيرة كونستاتزا في بلاد بافاريا، ومنذ نحو من ست مئة سنة قام جدهم بخدمات جليلة للوطن فأعطاه الإمبراطور سيجموند لقب شرف وجعله أميرًا على براند نبورغ، وهذا هو مبدأ سيادتهم. ومن هناك لم يزالوا يعظمون ويغلظ أمرهم ويتسع ملكهم حتى أوائل القرن الثامن — أي منذ مائتين وعشر سنوات — إذ ترقوا إلى درجة الملك، وصاروا ملوك بروسية. وفى سنة ١٨٧٠ بعد الغلبة على فرنسا توج الملك غليوم الأول إمبراطورا على ألمانيا كلها كما هو معلوم. ومما ذكره لي هذا الأستاذ المؤرخ أنه يوجد في جبال سويسرا أسرة رومانية، أي من الرومانيين القدماء محفوظة النسب، يقال لها «بلانتا» وكان ذلك متواترًا عندهم والناس تنكره ولا يجدون له سندًا حتى كشفوا بطريق الاتفاق كتابة لاتينية على حجر كان قد طمسه التراب فإذا به يؤيد تواتر نسب هذه الأسرة، فهي الآن أقدم عائلة معروفة في أوروبا. انتهى.

وعلم الأنساب مهم جدًّا للتاريخ، مشتبك به اشتباكًا تامًّا، لأنه به يعرف تاريخ مشاهير الرجال الذين قاموا بأدوار عظيمة في العالم، فيتبين من هذا العلم أصلهم، كما يتبين من التاريخ فصلهم. وكذلك تعرف من الأنساب علاقات المصاهرة، وما يحصل بسببها من التوارث، وما ينشأ عن هذا التوارث من دعاوى وخصومات قد تجر إلى الحروب. ولم تنحصر الأنساب في الفترة الآدمية، بل للطبقة العالية من الحيوانات الداجنة أنساب معروفة، ولحفظ أنسابها فائدة عظيمة في تنشئة هذه الحيوانات وتنميتها، فإن تأثير العرق غير مشكوك فيه، وانتقال النجابة من بطن إلى بطن هذا معدود من القواعد العلمية، وإن كان قد تعرض أحيانًا عوارض تمنع انتظام سير هذا التوارث.

ومن الغريب أن الإنسان قد يهمل نفسه أحيانًا، ولا يحافظ على صحة بدنه ولا على متانة عقله، ولا يكترث لقضية تسلسل النجابة في عرقه، ولا لصيانة المزايا التي انتقلت إليه بالإرث الطبيعي من آبائه، وبينما هو يهمل نفسه هذا الإهمال، تجده يعتني بحفظ نسل حيواناته حتى لا يكون الفرع مقصرًا عن الأصل. ولهذا كانت أنساب الحيوانات معتنى بها في كل مكان، وكان ذلك بها جديرًا، وإن كثيرًا من الكتب قد كتب لحفظ أنساب العجماوات. قال لاروس في معجمه الكبير: «إن العرب سبقوا جميع الأمم في حفظ أنساب حيواناتها، وإذا كان الجواد العربي قد بقي محفوظًا بجميع مزاياه الباهرة، فما كان ذلك إلا بطهارة أصله وصفاء عرقه منذ قرون لا تحصى، وهذا بفضل العرب الذين وجهوا لصفاء عرق الجواد أشد الاهتمام، وإن جميع حيوانات العرب الفارهة لها أنساب يعتنى العرب بحفظها بمزيد الدقة.» قال: وليس عند العرب دفتر نفوس عمومي للخيول، ولكن كل فرس كريم معه حجة يتبين منها نسبه، فلا تختلط عندهم الخيل الأصيلة بغيرها. أما الإنجليز فقد نظموا ذلك وجعلوا للخيل دفاتر نفوس رسمية، منها ما يسمونه “Stud-Book” يذكرون به أصل الحصان وسلسلة نسبه، ومنها المسمى “Cing Calender” يذكرون فيها أوصاف الحصان وشياته. وما عملوه لأجل الخيل وحفظ أرسانها عملوه أيضًا لأجل البقر، ولأجل الغنم. ولكن الفرق بين البقر والغنم أن النسب في البقر يكون للثور بمفرده، وأما في الغنم فلا يكون للشاه بل للقطيع كله. ويرى العلماء في تربية الحيوانات أنه لأجل إصلاح جنسها يكون ضروريًّا الوقوف على أنسابها.» انتهى.

والأنساب معروفة للهررة أيضًا، فهي كالخيل الأصيلة، كلما كان الجواد عتيق الأصل كان أحسن جريًا، وكذلك كلما كان الهر أصيلًا كان أحسن صيدًا للفئران. وبالإجمال إصلاح الأجناس بالتزاوج، وبالتربية، وبالتغذية، سواء كان في الآدميين أو كان في الحيوانات الداجنة، يتوقف على حفظ الأنساب، والعناية بعتقها. ولا يزال الحديث الشريف: «اطلبوا كرام المناكح فإنها مدارج الشرف.» من أصدق القواعد العلمية، والحقائق العالمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤