الترك

تعليق على ما جاء في السطر ٢ من الصفحة ٢٧ من الجزء الأول من ابن خلدون

هذه الأمة هي بدون شك من أشهر أمم الكرة الأرضية، وأكثرها عددًا وأشدها شكيمة وأوسعها فتوحات، وأمجدها تاريخًا، وقد حررت خلاصة تاريخها في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» بما أرى مناسبًا إعادته هنا مع زيادة تفصيل.

قلت هناك: إن الترك هم من أكبر وأشهر الأمم الآسيوية، وإنهم معدودون من الشعوب الطورنية، وهم متشابهون في الخلقة مع الصين والتبت واليابان عبرة بما تجده من سحناء أتراك الأستانة والأناضول، فإن هؤلاء قد تولدوا وتناسلوا في غربي آسيا من قرون متطاولة، واختلطوا بالأمم الأخرى كالقوقازيين والمكدونيين والأرناءوط والروم والبلغار والأكراد والصرب وبقايا أهالي الأناضول القدماء، وتولدت منهم أمة لا تشبه المغول ولا الصين، ولكن الترك الأناضوليين الذين لم يختلطوا بهذه الأمم الغربية يشبهون كثيرًا أتراك بخارى وخيوه وكاشغر، وهم ذو ملامح ظاهرة الشبه مع أهل الصين والتبت والمغول.

كان الترك من على عنق الدهر في جبل الذهب بين سيبيريا والصين، ثم أخذوا ينتشرون في الأقطار، فهاجروا إلى شمالي سيحون وجيحون، وإلى الشرق الشمالي من بحر خوارزم، وإلى الشمال الغربي من الصين والخطا، فكان منهم قسم الغرب وهم «المجار والفنلانديون» — أهل فنلاندا على البلطيك — والبلغار وهؤلاء هم الذين يقال لهم «الأوراليون» وكان منهم قسم في الشرق وهم الذين يقال لهم «المانشو والتونغوز» وقسم في الجنوب الشرقي وهم «المغول».

وكان لهم مناسبات ومحاربات مع الأمة الفارسية وقيل إن هيرودتس أبا المؤرخين أشار إليهم تحت اسم تاركيتاوس.

وباني أول دولة منهم أوغوز خان بن قرة خان، وكان له ستة أولاد، وهم كون خان، وآي خان، ويلديز خان، وكول خان، وطاغ خان، ودكز خان. فمن هؤلاء ثلاثة سكنوا الشرق وثلاثة سكنوا الغرب، وكان لكل منهم أربعة أولاد فصار لأوغوز خان ٢٤ حفيدًا هم رؤساء القبائل التركية هكذا قال نسابوهم.

ومن البداية انقسم الترك إلى قسمين؛ الساكنين في شرق تركستان وهم «الاويغور» والسكانين في الغرب منها وهم «الترك أو التركمان» وكان «الاويغور» بادئ ذي بدء أرقى وأرق وأكثر مدنية، وكان لسانهم لسان الترك الأدبي وكان لهم خط ومؤلفات. ثم جاء رهبان من النساطرة ونصروا بعضهم وعلموهم خطًّا مأخوذًا من السريانية، وموجود بهذا الخط كتب تركية إلى اليوم.

وفي سنة ٨٥ للهجرة غزا «قتيبة الباهلي» بالمسلمين العرب بلاد الترك، وافتتح بخارى، ومرو، وخوزارزم، وسمرقند وغيرها، واجتمع عليه ملك السند وملك الشاش وغيرهما فهزمهم وأثخن في الترك فصالحوه على أموال يؤدونها إليه، وكان في صلحة بيوت الأصنام والنيران فأخرجت الأصنام فسُلبت حليتها، وكانوا يقولون إن هناك أصنامًا من استخف بها هلك، فلما حرقها قتيبة بيده أسلم من الترك خلق وهذا أول إسلامهم.

وفي خلافة هشام بن عبد الملك تولى خالد بن عبد الله القسري العراقي، وأخوه أسد بن عبد الله خراسان، وغزا أسد بلاد الترك ومنها «جبال نمرود» فصالحه نمرود وأسلم ثم استعمل هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، فدعا أهل ما وراء النهر إلى الإسلام، وطرح الجزية عن الذين أسلموا فسارعوا إلى الإسلام، ثم لما صارت الخلافة إلى بني العباس وتولى المأمون خراسان — وذلك قبل خلافته — أخذ يغزو السند وأشروسنة، وفرغانة، ويقول البلاذري في «فتوح البلدان» إنه كان مع تسريته الخيول إليهم يكاتبهم بالدعاء إلى الإسلام والطاعة والترغيب فيهما.

نعم، ولما تولى المأمون الخلافة سنة ١٩٨ دخل في الإسلام كاوس ملك أشروسنة بعد حروب ومقاتلات تغلب فيها العرب على أهالي تلك البلدان، وكان المأمون رحمه الله بينما هو يغزو الترك من جهة يدعوهم إلى الإسلام من جهة أخرى، قال البلاذري: «وكان يوجه رسله فيفرضون لم رغب في الديوان وأراد الفريضة من أهل تلك النواحي وأبناء ملوكهم ويستميلهم بالرغبة، فإذا وردوا بابه شرفهم وأسنى صلاتهم وأرزاقهم، ثم استخلف المعتصم بالله فكان على مثل ذلك، حتى صار جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر من السند والفراغنة والأشروسنة، وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم بابه وغلب الإسلام على من هناك»ا.هـ.

ولا يخفي أن البلاذري كان قريب العهد من هذه الحوادث لأنه الخليفة المعتصم مات سنة ٢٢٧ والمؤرخ أحمد بن يحيى البلاذري مات سنة ٢٧٩.

وسنة ٣٥٠ أسلم سالورخان سلطان التركمان سلالة طاغ خان وتسمى قره خان وأسلم معه قومه، وجاء ابنه فبنى جوامع وفتح عمه بفراخان كاشغر، وأخذ بخارى من السامانية، وجاء بعده أحمد خان بن أبي نصر فأكمل إسلام من لم يهتد من الأتراك، وازداد تردد الترك إلى بغداد، وامتلأت منهم العراق وأرضوروم وأذربيجان، ووصلوا إلى الشام وصار منهم أمراء جيش الخلافة، واستبدوا بأمورها وصاروا يكتبون بالعربي، وبعضهم اتخذ اللسان الفارسي ولم يهتم أحد منهم بلسان «الأويغور التركي القديم» ولم يجعلوا التركي لسانًا رسميًّا إلا في زمان بني سلجوق في الأناضول، ثم ترقي هذا اللسان في زمان الأتراك آل عثمان الذين خلفوا آل سلجوق، لا سيما في أيام محمد الفاتح وسليم وسليمان، وفكر سليم في جعل العربي لسان الدولة الرسمي فلم يطيعوه، لكن بقي لسان الدين والعلم، وأما لسان الأويغور فقد كان في زمن جنكيز خان ترقى كثيرًا لكنه عراه بعد ذلك التوقف، وهو الذي يعرف ﺑ«جغطاي» ثم بتوالي الزمن تباعد «التركي الغربي العثماني» عن «التركي الجغطائي» كثيرًا. ثم هناك «تركي تتر القريم» وهو متوسط بين الفريقين.

وعلماء الألسن يجعلون التركي خمسة أقسام؛ الأول: الأويغوري أو الجغطائي، الثاني: التتاري، والثالث: القيرقيز، الرابع: الياقوتي، الخامس: العثماني، وليس للقيرقيز والياقوت أدبيات في ألسنتهم، والقرقيز مسلمون لكن الياقوت لا يزالون وثنيين، وقيل إن الياقوتي هو أصل التركي، والباقي فروع عنه، ويقول المدققون إن التركي يشبه في الدرجة الأولى لسان التونغور والمانشو من الألسنة الطورانية، وفي الدرجة الثانية لسان المغول، وفي الدرجة الثالثة لسان المجاور والفنلانديين.

هذا والفرقة الأنقرية من الأتراك المستبدة بأمر تركيا اليوم تعلم في مكاتب تركيا مذهبًا جديدًا في التاريخ، وهو أن أصل الترك الذين في الأناضول وغربي آسيا من الحثيين، وأن هذه البلدان هي لهم من أربعة آلاف سنة، وهم في هذا الكشف التاريخي الجديد يستندون إلى تخمينات بعض مؤرخين محدثين من أصحاب النظريات الجديدة في أوروبا ولكن شيئًا من هذا لم يثبت.

وأكثر مؤرخي الأوروبيين يقولون إن أصل الحثيين من جهة الدم لم يتحقق بعد، وغاية ما تقرر — تاريخًا — أنهم أخذوا مدنيتهم عن السومريين والأكادييين أهل بابل، وقلدوهم في الكتابة والديانة والشعائر الدينية، ومزجوها كلها بمدنيتهم وديانتهم، وتقرر أيضًا عند بعض المؤرخين أن الحثيين هم كانوا الواسطة بين المدينة السامية والمدنية الإغريقية، ولا يزال تاريخ الحثيين هي هندية أوروبية أم قوقاسية؟ وغاية ما لحظوا أن فيها دخيلًا من لغات أخرى.

أما الأكاديون من أهل بابل فإنهم ساميون بلا نزاع، ولغتهم سامية والأرجح أنهم جاءوا من جزيرة العرب مهد الساميين.

وأما السومريون فلا يعرف أصلهم وقصارى ما نرجح من أمرهم أنهم غير ساميين وأنه يوجد مدنية معاصرة لمدنيتهم في جهات بحر الخزر.

ولا يعلم أحد ما فائدة أتراك أنقرة من تعليم آراء تاريخية جديدة واهية لا تستند على قواعد متينة؟ وهل إذا كان ترك الأناضول آتيين من فرغانة وسمرقند وكاشغر من ألف سنة فقط يسقط حقهم بالأناضول؟ ولا بد من أن يثبتوا أن هذه البلاد بلادهم منذ آلاف من السنين حتى يستحقوها؟ كل هذا من جملة الغرائب التي ولدت مع الانقلاب الأنقري، انتهى ما كتبته في «حاضر العالم الإسلامي».

وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية أن لفظة «ترك» هي محرفة عن لفظة «توكو» عند الصينين، وهو شعب ظهر في القرن السادس بعد المسيح، وأسس ملكًا طويلًا عريضًا امتد من بلاد المغول وشمالي الصين إلى البحر الأسود، وكان أصحاب هذا الملك من القبائل الرحالة، وكان مؤسس هذا الملك الكبير رجلًا يقال له «تومان» عند الصينيين، و«ترك بومين» عند الأتراك، وقد مات سنة ٥٥٢ للمسيح. وكان أكثر الفتوحات على يد خاقان الذي مات سنة ٥٧٦، والصينيون يقولون لهؤلاء ترك الشمال والغرب وكانوا قد انفصلوا عن ترك الشرق، وفي القرن السابع للمسيح خضع الترك جميعًا الشرقيون والغربيون لسلالة تانغ الصينية، ولكن ترك الشمال عادوا فاستقلوا في سنة ٦٨٢ للمسيح، وفي مدة هذه الدولة التركية الغربية وجدت الكتابة المسماة بكتابة أورخون نسبة إلى نهر في بلاد المغول يقال له «أورخون»، وهي أقدم كتابة تركية، واشتهر في قبائل الترك الغربية قبيلة ترغش وحاز أمراؤها لقب «خان» في أواخر القرن السابع المسيحي، وفي ذلك الوقت جاء العرب فقضوا على ملك الترغش هؤلاء في زمان نصر بن سيار سنة ١٢١ للهجرة. ا.هـ كلام الانسيكلوبيدية.

قلت: في زمان هشام بن عبد الملك تولى نصر بن سيار بلاد طخارستان، فغزا «أشروسنة» وذلك في أيام الخليفة مروان بن محمد الأموي، وقد كان مضاء العرب في فتح خراسان وما وراء النهر من أبدع ما جاء في التواريخ، ومما يدل على أن العرب إذا أستقام أمرهم لم يقف في وجههم قبيل فإن الترك الذين تغلب العرب عليهم مشهورون بشدة البأس وقوة المراس وقد حشدوا للعرب من كل حدب، فما نالوا منهم نيلًا، وتغلب العرب عليهم في أوساط بلادهم وأثخنوا فيهم، ولم يكفوا عنهم حتى دخلوا في الإسلام، فكان الإسلام هو الذي أنجاهم في الدنيا فضلًا عن الآخرة.

وفي زمن معاوية استولى العرب على خراسان، وكان الوالي عبيد الله بن زياد وهو لا يزال ابن خمس وعشرين سنة، فقطع النهر في ٢٤٠٠٠ مقاتل فأتي «بيكند» وقصد إلى بخارى، فأرسلت «خاتون» ملكة بخارى إلى الترك تستنجدهم، فزحفوا إلى العرب فهزمهم العرب واستولوا على بخارى ورامدين وبيكند، ثم ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان خراسان فقطع النهر بجنده، وكان معه رجل يقال له رفيع أبو العالية الرياحي، فتفاءل بهذا الاسم خيرًا وقال: رفيع أبو العالية رفعة وعلو. وبلغ خاتون ملكة بخارى عبوره النهر فحملت إليه الصلح، وأدت الإتاوة، وبينا هي داخلة في الطاعة أقبل الترك من «السند وكش ونف» في مئة وعشرين ألف مقاتل والتقوا ببخارى، وندمت خاتون على طاعتها للعرب، ونكثت العهد، إلا أن العرب هزموا الترك فرجعت خاتون إلى الصلح، ودخل سعيد بن عثمان بن عفان مدينة بخارى، ثم زحف إلى سمرقند وحلف أن لا يبرح أو يفتحها، وما زال يضيق عليها الحصار حتى صالحوه وأعطوه رهائن من أبناء ملوكهم، ثم أقام على الترمذ وما زال يضيق عليها حتى فتحها ثم انتفض أهل الترمذ ففتحها قتيبة بن مسلم الباهلي.

وفي فتح بلاد الترك استشهد قم بن العباس بن عبد المطلب، كان مع سعيد بن عثمان فلما بلغ خبر شهادته أخاه عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: شتان ما بين مولده ومقبره. ولم يوجد أناس تباينت قبورهم مثل أولاد العباس بن عبد المطلب؛ فقد توفي عبد الله من عباس بالطائف، وتوفي الفضل بن عباس شهيدًا بوقعة أجنادين بفلسطين، وقيل بطاعون عمواس واستشهد معبد وعبد الرحمن ابنا عباس بأفريقيا وقيل إن معبدا مات شهيدًا بأفريقيا، وعبد الرحمن مات بالشام، واستشهد قم بن العباس بسمرقند، ومات عبيد الله بن العباس بالمدينة، وقيل باليمن، ثم إنه بعد موت معاوية ولى ابنه يزيد بن معاوية سلم بن زياد ما وراء النهر، فصالحه أهل خوارزم على أربع مئة ألف وحملوها إليه، وقطع النهر ومعه أمرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاصي الثقفي، وكانت أول عربية عبرت النهر، وأقام سلم بن زيادة بالسند وسرح جيشًا إلى «خنجدة» وفيهم أعشى همدان الشاعر، فانهزم هذا الجيش فقال الأعشى:

ليت خيلي يوم الخجندة لم تهـ
زم وغودرت في المكر سليبا
تحضر الطير مصرعي وتروحـ
ت إلى الله في الدماء خضيبا

ثم رجع سلم بن زياد إلى مرو وحشد هناك جيشًا وغزا بلاد الترك، فجمع له أهل السند فقاتلهم ودوخهم، ثم إن سلم بن زياد انصرف عما وراء النهر وتولاها عبد الله بن خازم السلمي بعهد من سلم بن زياد، فعصاه سليمان بن مرثد من بني سعد بن مالك من المراثد بن ربيعة واقتتلا، وكان ذلك في أثناء فتنة ابن الزبير مع بني أمية، وطال القتال بين العرب، فانتهز الترك الفرصة وشنوا الغارات حتى بلغوا قرب نيسابور، ولكن انتهت هذه الفتنة بين العرب بالطائلة لابن خازم، وكانت العصبية العربية بين القبائل هي العامل في تلك الفتن كما كانت في الأندلس وفي بلاد الإفرنجة، وكان عبد الله بن خازم لا يتولى غير عبد الله بن الزبير، ولا يطيع عبد الملك بن مروان، فكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح يوليه خراسان، فقاتل ابن خازم وتغلب عليه وقتله وأرسلوا برأسه إلى عبد الملك بن مروان فنصبه بدمشق، واشتدت ا لفتنة بين العرب في خراسان إلى أن كتب وجوه العرب إلى عبد الملك بن مروان أنه لا تصلح خراسان بعد هذه الفتنة إلا برجل من قريش، فولى عبد الملك على خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وغزا أمية بلاد الختل فافتتحها، ثم جاءت أيام الحجام بن يوسف وكانت خراسان من جملة ولايته فولاها المهلب بن أبي صفرة من الأزد وذلك سنة ٩٩، فغزا مغازي كثيرة وانتقضت الختل في أيامه فدوخها وفتح خجندة وأطاعت له السند وكش ونسف، ومات المهلب فقام بعده ابنه يزيد بن المهلب فغزا مغازي كثيرة في بلاد الترك، وفتح «البتم» ثم غزا يزيد خارزم ثم ولى الحجاج بن يوسف المفضل بن المهلب بن أبي صفرة ففتح المفضل بلدانًا منها بادغيس وشومان، وكان موسى بن عبد الله بن خازم السلمي بعد قتل أبيه قد امتنع بالترمذ فاستنجد أهل الترمذ الترك على موسى فهزمهم موسى، وحدث مع موسى هذا وقائع كثيرة وحروب ذات بال تغلب فيها كلها.

وكان أهل خراسان يقولون عن موسى بن عبد الله بن خازم السلمي هذا: ما رأينا مثل موسى قاتل مع أبيه سنتين لم يفل، ثم أتى الترمذ فغلب عليها وهو في عدة يسيرة وأخرج ملكها عنها، ثم قاتل الترك والعجم فأوقع بهم، إلا أنه لما تولى المفضل بن المهلب خراسان أرسل جيشًا يقاتل موسى على الترمذ، فانهزم موسى وقتل وتولى الترمذ مدرك بن المهلب، وكان قتل موسى في آخر سنة ٨٥ وقيل إن رجلًا ضرب ساق موسى وهو قتيل، فلما تولى قتيبة الباهلي وعلم به قتله، ثم ولى الحجاج بن يوسف قتيبة، وهو أشهر فاتح عربي لبلاد الترك، خرج يريد بلاد «آخرون» فلما كان ببلاد الطالقان تلقاه داهقين بلخ، فعبروا معه النهر، وقدم عليه ملك الصغانيان بهدايا وأعطاه الطاعة واستعان به على ملك «آخرون» و«شومان» الذي كان عدوًّا لملك الصغانيان، ثم أقبل على قتيبة ملك «كفيان» وقدم له الطاعة فانصرف قتيبة إلى مرو، وخلف أخاه صالحًا على ما وراء النهر، ففتح صالح «كاسان» و«أورشت» من بلاد فرغانة و«بيمنخر» و«خشكت» وكان في جيش صالح هذا نصر بن سيار المشهور، وأطاع ملك «الجورجان» وقدم على قتبة ثم غزا قتيبة «بيكند» سنة ٨٧ فاستصرخ أهالي «بيكند» أتراك السند فهزمهم قتيبة وفتح «بيكند» ثم فتح «تومشكت» ودخلها صلحًا، ثم أوقع بالسند وافتتح «كش ونسف» وكان ملك خارزم قد عصاه أخوه خرزاد فالتجأ الملك إلى قتيبة، فوجه قتيبة أخاه عبد الرحمن بن مسلم بجيش فقاتل خرزاد فقتله وأوقع بجماعته، وأعاد الملك إلى أخيه ثم وثب الأهالي بالملك فقتلوه، فولى قتيبة أخاه عبيد الله بن مسلم على خارزم، ثم غزا قتيبة «سمرقند» فاجتمعوا لقتاله، وكتب ملك السند إلى ملك الشاش (الشاش ما يقال له اليوم طاشقند) فنهدوا إليه في خلق كثير فقاتلهم المسلمون وهزموهم، وصالحهم أهل سمرقند على ألف ومائتي ألف درهم في كل عام وعلى أن يصلي قتيبة في المدينة، فدخل قتيبة سمرقند وصلى واتخذ مسجدًا، وخلف بها جماعة من المسلمين فيهم الضحاك بن مزاحم (صاحب التفسير) وكان في صلح قتيبة بيوت الأصنام والنيران، فأخرج قتيبة الأصنام وسلب حليتها وأحرقها وكانوا يعتقدون بها، فلما رأوا قتيبة قد أحرقها بيده ولم يحصل له سوء أسلم منهم خلق.

وفي زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفد قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم غدرًا وأسكنها المسلمين، فكتب عمر يأمر بنصب قاضي للنظر فيما ذكروا، فنصب لهم جميع بن حاضر الباجي فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء، فكره أهل سمرقند الحرب وبقي المسلمون فيها، ثم فتح قتيبة عامة بلاد الشاش وبلغ «اسبيجاب» وقالوا إن قتيبة فتح خارزم وسمرقند عنوة، وقد كان سعيد بن عثمان بن عفان قد تغلب على سمرقند وخارزم صلحًا، ولكن قتيبة استقل هذا الصلح وأبى إلا فتحها بالقوة، ثم فتح بيكند وكش ونسف وقيل والشاش وبعض فرغانة وغزا أشروسنة. ولما تولى الخلافة سليمان بن عبد الملك كان قتيبة بن مسلم الباهلي مستوحشًا، كارهًا لخلافته، فكتب سليمان إلى قتيبة يأمره بإطلاق كل من في حبسه، وأن يعطي الناس أعطياتهم، ويأذن لمن أراد القفول في القفول، وكانوا متطلعين إلى ذلك، وكان من مقاتلة أهل البصرة أربعون ألفًا، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف، ومن الموالي سبعة آلاف، فلم يأذن قتيبة في القفول، فثاروا به فانتصر له العجم على العرب وكانت حرب بين الفريقين فظفر العرب بقتيبة وقتلوه، وهو الذي مهد لهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وقتل معه جماعة من إخوته وقتلت زوجته ونجا أخوه ضرار بواسطة بني تميم، وأخذت الأزد رأس قتيبة وخاتمه وبعثوا به إلى الخليفة مع سليط بن عطية الحنفي، وكان قتيبة يوم قتل ابن ٥٥ سنة، وبعد أن قتل قتيبة رحمه الله تولى خراسان وكيع بن حسان بن قيس التميمي، وأراد سليمان بن عبد الملك أن يثبته في الولاية فقيل له: إن وكيعًا ترفعه الفتنة وتضعه الجماعة وفيه جفاء وأعرابية، وكان وكيع يدعو بطست فيبول والناس ينظرون إليه، فلم يكن يصلح للولاية، فقدم عليه يزيد بن المهلب وآليًا فقدم يزيد ابنه مخلدًا فعزا مخلد «البتم» ففتحها، ثم نقض أهلها العهد فكر عليهم وفتحها ثانية، وأصاب بها مالًا وأصنامًا.

ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى ملوك ما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام، فإنه همه كان نشر الإسلام قبل كل شيء فأسلم بعضهم، وكان عامل عمر على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي، فوجه الجراح أحد قواده عبد الله بن معمر اليشكري إلى ما وراء النهر فأوغل في بلاد العدو وهَمّ بدخول الصين، فلما تكاثر عليه الترك رجع إلى الوراء وامتنع ببلد الشاش، ورفع الخليفة رضي الله عنه الخراج عمن أسلم بخراسان، وفرض العطاء للمسلمين منهم، وبنى الخانات. وكان الجراج بن عبد الله الحكمي قد كتب للخليفة أنه لا يصلح خراسان إلا السيف، فاغتاظ عمر من كلامه هذا، وعلم أنه والٍ يستخف بالدماء فعزله، ولكن قضى الدين الذي عليه، ثم ولى عبد الرحمن بن نعيم الغامدي حرب خراسان وعبد الرحمن بن عبد الله القشيري خراجها، وفي خلافة يزيد بن عبد الملك تولى خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية، فنزل خراسان وبعث ابنه إلى ما وراء النهر فنزل «اشتيخن» فزحف إليه الترك فقاتلهم وهزمهم، ثم لقي الترك مرة ثانية فانهزم أصحاب سعيد، فولى سعيد نصر بن سيار على الجيش وشخص قوم من وجوه خراسان إلى مسلمة بن عبد الملك وإلى العراق وشكوا سعيدًا فعزله مسلمة، وولى سعيد بن عمر الجرشي على خراسان فافتتح الجرشي عامة حصون السند.

وقال البلاذري: إنه نال من العدو نيلًا شافيًا، وفي خلافة هشام بن عبد الله تولى العراق عمر بن هبيرة الفزاري، فعزل الجرشي واستعمل على خراسان مسلم بن سعيد، فغزا «الأفشين» فصالحه على ستة آلاف رأس، ودفع إلى قلعته وتولى طخارستان نصر بن سيار كما تقدم الكلام عليه فخالفه خلق من العرب فأوقع بهم ثم سفرت بينهم السفراء فاصطلحوا.

ثم تولى العراق خالد بن عبد الله القسري من قبل الخليفة هشام بن عبد الله فولى خالد أخاه عبد الله بلاد خراسان، وبلغ ذلك مسلم بن سعيد فسار إلى فرغانة وأناخ على مدينتها وعاث فيها، فاجتمع عليه الترك وعليهم خاقانهم، فارتحل عن فرغانة، وغزا أسد بن عبد الله القسري «جبال نمرود» فصالحه نمرود وأسلم وغزا «الختل» فلم يقدر عليها.

ثم استعمل الخليفة هشام أشرس بن عبد الله السلمي فدعا أهل ما وراء النهر إلى الإسلام وأمر بطرح الجزية عمن أسلم، فسارعوا إلى الإسلام وانكسر الخراج، ثم استعمل الخليفة هشام سنة ١١٢ الجنيد بن عبد الرحمن المري علي خراسان، فحارب الترك وهزمهم وظفر بابن خاقان فبعث به إلى الخليفة هشام ولم يزل يقاتل الترك حتى دوخهم، وأمده الخليفة بعمرو بن مسلم في عشرة آلاف رجل من أهل البصرة وبعبد الرحمن بن نعيم في عشرة آلاف من أهل الكوفة، وحمل إليه ثلاثين ألف قناة وثلاثين ألف ترس، وأطلق يده في الفريضة، ففرض لخمسة عشر ألف رجل، وكانت للجنيد مغاز كثيرة وفي زمانه عصت نواح من طخارستان ففتحها، وكانت وفاته بمرو، فولى الخليفة هشام عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي.

وكان نصر بن سيار غزا «أشروسنة» أيام الخليفة مروان بن محمد فلم يقدر عليها، وكان من بعده من الخلفاء يولون عمالهم فينتقصون حدود أرض العدو، ويحاربون من نقض العهد، وبقي الأمر كذلك إلى أيام المأمون يوم مقامه بخراسان، فكان يغزو بلاد الترك من السند وأشروسنة وفرغانة ويوالي عليهم الغارات، ولكنه من جهة ثانية يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليه كاوس ملك أشروسنة يسأله الصلح على مال يؤديه على شرط أن لا يغزي المسلمين بلده، فأجيب إلى ذلك، فلما تولى المأمون الخلافة امتنع كاوس من الوفاء بالصلح، فأرسل المأمون أحمد بن أبي خالد الأحول الكاتب لغزو أشروسنة في جيش عظيم، فاستصرخ كاوس الترك فزحفوا لنجدته، ولكن أحمد بن أبي خالد أناخ على أشروسنة قبل وصول الأتراك فاستسلم كاوس له، وورد كاوس مدينة السلام وأظهر الإسلام، وملكه المأمون على بلاده ثم ملك ابنه «خيذر بن كاوس» الملقب بالأفشين بعده (واسمه بالخاء المعجمة كما رأيت في تاريخ أبي الفداء). وكان المأمون رحمه الله يكتب إلى عماله في خراسان يغزو من لم يسلم من الترك ويسني العطاء لمن أسلم، وإذا ورد ملوك الترك بابه بالغ في تشريفهم وإكرامهم وأدر عليهم الأرزاق، ثم جاءت خلافة المعتصم، فكانت رغبته في الترك أكثر من كل الخلفاء، وصار أكثر جيشه من أهل السند وفرغانة والأشروسنة والشاش، وغلب الإسلام على تلك البلاد، وصار أهلها يغزون من وراءهم من الترك، وأغزى عبد الله بن طاهر ابنه طاهر بن عبد الله بلاد الغوزية ففتح مواضع لم يصل إليها أحد قبله وكان قتيبة الباهلي أسكن العرب في أرض فرغانة والشاش.

والأفشين هذا هو الذي بعد أن أسبغ عليه الخفاء النعم الجسام عاد فظهر أنه لم يكن إسلامه إلا خداعًا، وأنه لم يكن طهر قلبه من عبادة أصنامه، فانتهى الأمر بأن المعتصم قاتله وأخذه، وبعد وقوعه باليد أحرقه، وفي ذلك يقول أبو تمام الطائي شاعر الحضرة.

يا رب فتنة أمة قد بزها
جبارها في طاعة الجبار
جالت «بخيذر» جولة المقدار
فأحله الطغيان دار بوار
كم نعمة لله كانت عنده
فكأنها في غربة وإسار
كسيت سبائب لؤمة فتضاءلت
كتضاؤل الحسناء في الأطمار
صادى أمير المؤمنين بزبرج
في طيه حُمَة الشجاع الضاري
حتى إذا ما الله شق غباره
مستكن الكفر والإصرار عن
ونحا لهذا الدين شفرته انثنى
والحق منه تانئ الأظفار
هذا النبي وكان صفوة ربه
من بين بار في الأنام وقار
قد خص من أهل النفاق عصابة
وهمو أشد أذى من الكفار
واختار من سعد لعين بني أبي
سرح لوحي الله غير خيار
حتى استضاء بشعلة النور التي
رفعت له سجفًا عن الأسرار

ومنها:

ما كان لولا فحش غدرة خيذر
ليكون في الإسلام عام فجار
ما زال سر الكفر بين ضلوعه
حتى اصطلى سر الزناد الواري
نارا يساور جسمه من حرها
لهب كما عصفرت شق إزار
مشبوبة رفعت لأعظم مشرك
ما كان يرفع ضوأها للساري
صلى لها حيًّا وكان وقودها
ميتًا ويدخلها مع الفجار
قد كان بوأه الخليفة جانبًا
من قلبه حرمًا على الأقدار
فسقاه ماء الخفض غير مصرّد
وأنامه في الأمن غير غرار
فإذا ابن كافرة يسر بكفره
وجدا كوجد فرزدق بنوار
وإذا تذكره بكاه كما بكى
كعب زمان رثى أبا المغوار
دلت زخارفه الخليفة أنه
ما كل عود ناضر بنضار
يا قابضًا يد آل كاوس عادلًا
أتبع يمينًا منهم بيسار
واعلم بأنك إنما تلقيهم
في بعض ما حفروا من الآبار

وذلك أن الأفشين خيذر بن كاوس كان مقربًا عند المعتصم ولخيذر جهاد عظيم في حروب الروم ولا سيما في فتح عمورية، وهو الذي هزم بابك الخرمي الذي خرج على الخلافة في جبال طبرستان، واشتد أمره وهزم عساكر المعتصم مرارًا، فرماه المعتصم بالأفشين فما زال يقاتله حتى أخذه، ولكن في سنة ست وعشرين ومائتين غضب المعتصم على الأفشين خيذر بن كاوس وحبسه إلى مات في حبسه، وأخرج فصلب إلى جانب بابك كما هو مبسوط في التواريخ.

وجاء في الانسكلوبيدية الإسلامية أن الخليفة هشام بن عبد الملك كان قد دعا ملك الترك إلى الإسلام، وأن مؤلفي العرب لم يبدءوا بالكتابة عن الترك الا في القرن الثالث للهجرة، فذكروا من أصنافهم «الطوغوزغوز» و«الغزغز» و«الكيماك» و«الغز» أو «الأوغز» و«القارلق» وكان الغزغز أبعدهم مكانًا عن العرب، وكان الأوغز والقارلق هم الساكنين على حدود المملكة العربية مثل جرجان وفاراب وأربيجان، وكان الطريق من المملكة العربية إلى الصين مارًّا ببلاد القارلق، فكان المسافر يمشي ثلاثين يومًا من حدود فرغانة الشرقية في بلاد القارلق إلى أن يصل إلى البحر المحيط.

وذكر ابن خرداذبه قبيلًا من الترك كان يسكن بقرب مشاتي القارلق وهم الخالاج، وذكروا أن مدينة «خاقان ترغش» كانت بقرب نهر كو، وكان الترغش ينقسمون إلى «تخسي» وإلى «آز» وكان التخسي يسكنون على ضفاف «كو» ولهم مدينة اسمها «صوياب» وكان إلى الشرق منهم قبيل يقال له «الصيغل» وكان إلى الجنوب من نهر «مارين» قبيل يقال له «يغمه» من الطوغوزغوز، وفي بلادهم كانت مدينة «كاشغر» وقال محمود الكشفري: إن اليغمة والتخسي كانوا يسكنون على ضفاف نهر «اللي» وكان بالقرب منهم قسم من «الصيغل» وكان هؤلاء الصيغل ثلاثة أقسام: «صيغل اللي» و«وصيغل كاشغر» والصيغل الذين بقرب «تاراز»، وكان الأوغز يسمون جميع الترك من سيحون إلى الصين «صيغل» ويقول محمود الكشغري: إن الاوغز والقارلق كان يقال لهم «التركمان».

وذهب بعضهم إلى أنه قد يكون التركمان من سلائل الإيرانيين الرحالة وقد استتركوا بكرور الأيام، لأن سحنتهم تختلف عن سحنة سائر الترك، ويظنون أن «التاتار» هم من قبائل «الكيماك» السبع وأصلهم من الطوغوزغوز، وقسم بعضهم الترك إلى قسمين: الشمالي والجنوبي، وقالوا إن كلًّا منهما عشرة شعوب؛ فالشماليون هم البجنك والقبيحاق والأوغز واليمك والباشكرد والباسميل والقاي والياباكو والتتر والغرغز. وإن الجنوبين هم الجيكيل، والتخسي واليغمة والاغراق والجاروق والجومول والأويغور والتنكوت والخيطاي والتقناق. وقد يقع اختلاف في هذا التقسيم لأن شعوبًا منسوبة إلى الشمال قد ثبت أنها سكنت في الجنوب.

ومن شعوب القسم الشمالي من كانت لهم لغات مخصوصة بهم مثل القاي والياباكو والتتر والباسميل، ولكنهم كانوا يعرفون اللسان التركي العام، وكان الياباكو يسكنون على ضفاف النهر الكبير «يامار» الذي يظن أنه النهر الذي يقال له اليوم «أومور»، وقد روى بعض المؤرخين أن جيشًا إسلاميًّا عبر النهر في القرن الحادي عشر للمسيح تحت قيادة أرسلان تكين، الذي ذهب يغزو الياباكو والباسميل، وأما الشعوب الجنوبية من الترك، فكان منهم شعب «الجومول» يتكلم بلغة غير التركي، ولكنه يعرف التركي، وقيل مثل هذا «الأويغور» فقد كانت لهم عدا التركي لغة خاصة، وأما «التنكوت» فكانوا قبيلًا غريبًا في الحقيقة، سكن في وسط الترك وكذلك أهل «خوطان» و«التبت» فقد كانت لهم لغات خاصة بهم، وفي بلاد الصين وماسين كان للأهالي لغة غير التركي، وإنما كانوا يعرفون التركي، وفي أصناف الترك «الجاروق» وكانوا يسكنون في مدينة برقوق التي هي اليوم «مار الباشي» وكان في بلاد الأويغور خمس مدن، منها «بشبالق» و«قوقو» و«قرة خوجة» وكان الاويغور بوذيين يعبدون الأصنام، وقد ذكر محمود الكشغري قبائل تركية أخرى ليست داخلة ضمن الشعوب العشرين التي ذكرناها، من جملتها «الأدغيش» و«الكوجات» الذين كانوا في خوارزم وقد ذكروا من جملة من هم من أصل تركي «البلغار» و«الصوغار» وذهب الكشغري إلى أن لغة البلغار والصوغار والبجنك كلها لغة واحدة، ولكن الإصطخري يقول: إن لغة البلغار والخزر، تفترق عن لغة الترك، وكانت لهجات القرغز، والقبيجاق، والأوغز والتخسي واليغمة والصيغل والاغراق والكاروق تركية محضة، ويقرب منها لغات اليمكة والباشكير. وبالإجمال فالترك الرحالة الساكنون بين «الايتل» و«اليامار» كانوا يتكلمون بلغة أنقى من لغات أهل المدن، وقد كانت اللغة الصغدية مستعملة إلى جانب التركي في المدن، وكان يغلب على لغة الأوغز — أو التركمان — لهجة الشعوب التركية الجنوبية. ثم جاء في الانسكلوبيدية الإسلامية أن ظهور العرب على الترك في أول الدولة العربية لم يؤثر في قضية اتخاذ الترك الإسلام دينًا، وكانوا يروون الحديث النبوي: «اتركوا الترك ما تركوكم.» وما أسلم الترك إلا اختيارًا في القرن الرابع للهجرة (وقد ظهر لك مما تقدم أن الإسلام بدأ في الترك من أيام بني أمية، ثم فشا فيهم لعهد المأمون والمعتصم).

وأنه في سنة إحدى وتسعة وتسعين ومائتين للهجرة، كان زحف ا لترك الوثنيين على المملكة السامانية فدحرهم المسلمون، وفي سنة اثنين وثمانين وثلاث مئة للهجرة دخل الترك المسلمون بخارى واستولوا عليها، وفي القرن الخامس للهجرة فتح الترك المسلمون تحت راية بني سلجوق بلاد الأناضول. وقد رويت أحاديث عن الرسوم عليه السلام بخلاف الحديث السابق، أي أنه كان يحرض على تعلم لسان الترك لأنه سيكون لهم ملك طويل العهد — وأظنه من الأحاديث الموضوعة — ولم يعلم شيء عن تاريخ الحادث الذي قيل فيه إن شعبًا تركيًّا يبلغ مائتي ألف خيمة قد أسلم في يوم واحد.

(قلت ورد هذا في صبح الأعشى) والمظنون أن لهذا الحادث علاقة بدولة «ألك خان» من قبيلة «أفرآسياب» وكان أمراء كاشغر المسلمون استولوا على بلاد «خوطان» ولم تعلم تفاصيل هذا الاستيلاء، وكانت بلدة «كوزن» وقلعة «بوغور» وغيرها معدودة ثغور الإسلام في بلاد التركستان الصيني، وكان دخول الأتراك الذين في الغرب متأخرًا عن دخول الذين كانوا في الشرق في الإسلام.

وقد روى ابن الأثير أن شعبًا تركيًّا كان يشتو في بلاد «بالازاغون» ويصيف في بلاد «بلغار» بقرب «الاورال» قد أسلم في شهر صفر سنة خمس وثلاثين واربع مئة، وروى أنهم كانوا عشرة آلاف خيمة، وكان القبجاق في أواسط القرن السادس للهجرة لما يدخلوا في الإسلام، وذلك يستفاد من كتاب قيل فيه عن وصول أمير القبجاق إلى «جند» ثم يقول صاحب الرواية عنه: «رزقة الله الإسلام، وكان الروس منذ أواسط القرن الثاني عشر للمسيح يسمون جميع أصناف الترك ما عدا القبجاق «سرونيكلوبوكي» أي الطرابيش السود. ومن هؤلاء قبيلة «البكنج» يظن أن أصلها ليست من الترك بل أمة غربية، وهم يخالفون الأتراك الطارئين من أواسط آسيا بكونهم يربون البقر، وقد أسلموا كسائر من أسلم من الترك، ولما تأسست سلطنة قرة خيطاي التركية بعد سنة ثلاثين ومئة وألف مسيحية، كان الإسلام قد فشا في الترك، ولكن هذه السلطنة كانت وثنية فأخذت تضطهد الإسلام، ولكنها لم تقدر عليه، وكانت إمارة «بالازاغون» الواقعة في الشمال إمارة إسلامية، وعند انحلال سلطنة قرة خيطاي كانت توجد إمارات إسلامية في شمالي «اللي» مثل إمارة «قارلق» وإمارة أخرى في بلاد «قلجة» وكانت بلاد «ماناس» هي الحد الفاصل بين الترك الإسلامية وغير الإسلامية.

أما دخول الأتراك في الأناضول وقبل ذلك في أذربيجان فما بدأ إلا في زمن السلاجقة، وقد تم تتريك تلك البلاد فيما بعد.

وفي زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان يوجد أتراك في مصر ومنها دخلوا إلى أفريقيا، وبعد ذلك إلى الأندلس كما ذكر عبد الواحد المراكشي، ولكن لم يكن أثر يذكر للترك في الأندلس. انتهى كلام الانسكلوبيدية الإسلامية ملخصًا. وفيه بعض خطأ، وهو في ظنه أن الترك لم يعرفوا مصر إلا في زمن صلاح الدين بل عرفوا مصر قبل صلاح الدين بكثير وقبل الفاطميين.

وآل طولون هم من الترك وقيل: إنه كان في مجلس الخلفاء الفاطميين أناس من الترك، فبعد انصرافهم سئل عنهم فقال: «هؤلاء الذين سيكونون أمراءنا في الغد.»

قلنا: إنه في القرن الحادي عشر للمسيح كانت جميع بلاد الأناضول التي يقال لها «آسيا الصغرى» مع بلاد «قيلقية» أي ولاية «أطنة» الحاضرة، ومع شمالي سورية كأنطاكية، واللاذقية، ومع أرمينية كلها داخلة في ملك القسطنطينية وكان الإسلام يومئذ منقسمًا إلى دولتين: الخلافة العباسية في بغداد والفاطمية في مصر. وكانت فارس الغربية تخص بني بوية الذين استأثروا بالأمر في بغداد وحجروا على الخلفاء العباسيين، وأما في شرق إيران فكانت الدولة السامانية تارة في بخارى وتارة في سمرقند، وبقيت مستتبة إلى زمان محمود الغزنوي التركي الذي استولى على خراسان وعلى قسم من بلاد العجم، ولو لم يشغل بفتوحات الهند لربما كان تقدم إلى بغداد، فشغلت الهند الدولة الغزنوية، وبذلك اتسع المجال لدولة أخرى تركية من الغوز يقال لها «الدولة السلجوقية» وكان آل سلجوق أتباعًا للغزنويين في بادئ الأمر، فظهر منهم رجل يقال له طغران بك، واستولى على نيسابور قاعدة خراسان، فأراد الغزنويون أن يقضوا عليهم، ولكن جاءوا متأخرين بما شغلهم من فتوحات الهند، وظهر طغرل بك على الغزنوية، فتمكن طغرل بك من خراسان وانتشر أبناء عمه في البلاد الغربية مثل إيران، وكرجستان، وأرمينية.

وكان طغرل بك أحسن السلاجقة سياسة، وأوفرهم عقلًا، فاتخذ لنفسه خطة معينة وصار يفتح بلدًا بلدًا حتى وصل إلى بغداد، وكان بنو بويه غلبوا على بغداد وحجروا على الخلفاء، وكانوا شيعة متعصبين، فجاء طغرل بك إلى بغداد ورفع منار السنة وأيد الخلافة العباسية، وقلده الخليفة السلطنة وسماه بملك الشرق والغرب. وكان في ذلك الوقت أرسلان البساسيري قد دعا للخليفة الفاطمي في وسط بغداد وانهزم القائم العباسي من وجهه، فجاء طغرل بك وهزم البساسيري وقتله، وأعاد الخليفة إلى مكانه ثم تزوج طغرل بك بابنة الخيفة، وعاد أمر الخلافة العباسية كما بدأ من القوة، وانتصرت السنة أيضًا على يد طغرل بك السلجوقي، ومنذ أن تمكن طغرل بك من بغداد نشر غاراته هو وأبناء عمه في بلاد الأناضول وأخذ ينتقص أطرافها، فبدأ السلاجقة بأرمينية وفارس وأغار عليها طغرل بك بذاته سنة ١٠٥٤ مسيحية، وكان إمبراطور بيزنطية في ذلك الوقت قسطنطين التاسع المسمى مونوماك فعجز عن دفعهم، وجاء بعده قسطنطين العاشر الملقب دوكاس فوصل الترك في زمانه إلى سيواس في قلب الأناضول، ثم توفي طغرل بك وخلفة ألب أرسلان ابن أخيه، فزحف صوب مملكة الروم واستولى على «أرمينية» وهزم ملوك الأرمن، وهكذا انفتحت أمامه مسالك الأناضول، فبث فيها الغارات من كل جانب ووصل إلى قيصرية وتولى الأمر في القسطنطينية قيصر شديد الشكيمة اسمه «رومان ديوجينوس» فجهز الجيوش وزحف إلى الأتراك، وكانت الحرب بين الفريقين سجالًا، وكان ألب أرسلان قد كر راجعًا إلى إيران بسبب عصيان أولاد عمه عليه، فلما فرغ من قتالهم عاد إلى الأناضول فنهد إليه «رومان ديوجينوس» بمئة ألف مقاتل وذلك سنة ١٠٧١ مسيحية، فتلاقى الجمعان في ١٩ أغسطس/آب سنة ١٠٧١ عند بلدة «مالا زغرد» بقرب «خلاط» فدارت الدائرة على الروم، وجرح «رومان ديوجينوس» ووقع في الأسر، وكان ذلك أعظم خطب حل بالنصرانية في الشرق وانقصم بمعركة «مالازغرد» ظهر السلطنة الرومانية البيزنطية.

ووصلت الأخبار إلى الغرب فهاج هائج جميع العالم المسيحي ورأوا أن المملكة البيزنطية أصبحت لا تصلح خصمًا للإسلام ولا حاجزًا دون تقدمه صوب أووريا. ومن ذلك اليوم تولدت فكرة الحرب الصليبية، ومعناها أن المسيحيين الشرقيين لا يقدرون أن يقفوا في وجه الإسلام، فيجب على المسيحيين الغربيين أن ينهضوا ويزحفوا إلى الإسلام في عقر داره، وبرغم الحروب الصليبية لم يزل الترك يتقدمون في آسيا الصغرى حتى بلغوا بحر مرمرة، وذلك في زمان ملك شاه بن ألب أرسلان وبمعاونة ابن عمهم «سليمان بن قطولش»، ووصل الأتراك إلى أزمير في سنة ١٠٨١ وأخذ ظل الروم يتقلص عن تلك البلاد الواسعة. نعم إن الصليبين أخروا تتريك الأناضول مدة من الزمن ولكن عاد الأتراك فأتموا فتح هذه البلاد، ووجدت دولة ثانية تركية غير السلاجقة وهي الدولة «الدانشمندية» التي تأسست في «كيادوكية» وكانت لها قيصرية، وسيواس، وأماسية، وأخيرًا جاء بنو عثمان وخلفوا السلاجقة والدانشمندية وفتحوا بورسة وجعلوها دار مملكتهم، ثم أجازوا إلى الرومللي ونقلوا دار ملكهم إلى أدرنة قبل أن يفتحوا القسطنطينية.

ثم وفق الله محمد الثاني الملقب بالفاتح فاستولى على عاصمة النصرانية في الشرق واستصفى بلاد الأناضول كلها وعاد فأكمل فتح الرومللي واستولى على جميع ملحقات الملك القسطنطيني، وأوغل في بلاد البلقان حتى استولى على بلاد الصرب وبوسنة وأكمل خلفاء عمله فاستولوا على جميع الممالك التي في شبه جزيرة البلقان وأدخلوها في الحكم العثماني، واستلحقوا مملكة المجار، ووصلوا إلى بولونية، وحصروا فيينا، ولولا قليل لكانت سقطت في أيديهم. ولم يبدأ تقلص الأتراك عن شبه جزيرة البلقان إلا عند ظهور الروسية، فأصبح الترك بإزاء عدوين كبيرين معًا، السلطنة الألمانية، والسلطنة الروسية، فما مضى بعد ذلك أربعة قرون حتى عاد الأتراك فخرجوا من جميع تلك الممالك التي كانوا افتتحوها في البلاد البلقانية ولم يبق لهم إلا القسطنطينية وربضها الذي ينتهي عند أدرنة، وسنذكر شيئًا عن تتمة تاريخ الأتراك العثمانيين بعد الانتهاء من مبحث الترك الأصلي.

ونعود إلى تاريخ الترك في أيام زحف المغول من الشرق إلى الغرب فنقول: إن المغول شعب آخر غير الترك ولكنهم من أصل واحد، وقد دخل من المغول كثير في الترك فصاروا منهم، ولما زحف جنكيز خان وأعقابه كان يقال لهم «المغول» ويقول لهم أيضًا «التتار» ولكن بعد أن أسلمت الدولة المغولية في القرن الرابع عشر للمسيح غلب على المغول اسم التتار، فتأسست سلطنة في قازان وسلطنة أخرى في استراخان وسلطنة أخرى في القريم، ولكها كانت دولًا تترية إسلامية. ثم تأسست دولة تترية إسلامية في سيبريا بقرب طوبولسك الحاضرة، وغلب اسم التتار على جميع الأتراك غير العثمانيين، وهذا هو اصطلاح الروس واصطلاح كثير من الأوروبيين وذلك بأن يسموا بالترك أتراك السلطة العثمانية وبالتتر الأتراك الذين في الروسية الحاضرة. ومن هؤلاء شعب يقال لهم الأوزبك تغلبوا في القرن السادس عشر المسيحي على «بخارى» و«خيوه» وأزالوا مملكة «الجغطاي» ثم أسسوا دولة «خانات خوقند» وجاء شعب آخر اسمه «النوغاي» من الترك فكانت لهم دولة في بلاد «الفولغا» ثم غلب عليهم شعب تركي آخر اسمه «الكلموك». ومن الشعوب التركية المعروفة شعب يقال له القزق كانوا مستقلين وإن كانوا جيرانًا للأوزبك.

وقد كانت تأسست في كاشغر من التركستان الصيني دولة تركية على إثر سقوط دولة الجغطاي واتخذت الإسلام دينًا في أواسط القرن الرابع عشر، أي منذ نحو أربع مئة وخمسين سنة، واشتهر منها أمير يقال له محمود خان اعتنى جدًّا بنشر الإسلام، وكان المغولي أو التركي الذي لا يلبس عمامة يدق له مسمار في رأسه! وأخذت الديانة البوذية تتقهقر من تلك الديار وكان الأويغور من أشهر شعوب الترك لا يزالون بوذيين، فانتشر الإسلام فيهم أيضًا ولم يبق على البوذية إلى يومنا هذا إلا قسم منهم يقال لهم «الأويغور الصفر».

ومما يجب أن يُعْرَف أن الأتراك العثمانيين هم من جنس الترك الذي يقال له «التركمان»، وهؤلاء التركمان منهم قسم يقال له «الخروف الأسود» وقسم آخر يقال «الخروف الأبيض» وقد انتشروا في غربي آسيا ودخلت منهم أقوام في البلاد العربية. وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر للمسيح تغلب الكلموك على هؤلاء التركمان كما تغلب الكلموك على الغرغز والقزق. ثم سقطت دولة الكلموك، ومن الغزغز فرقة تسكن في بلاد بني «زاي»، ويقال لهم اليوم «خاكاس» ليسوا كسائر أصناف الترك تابعين للمدنية الإسلامية، كما أنه يوجد في جبال «الألطاي» ترك غير مسلمين، والروس يقولون لهم «كَلْموك الجبال» وليس هؤلاء مسلمين، وكذلك الأمة المسماة بالياقوت هم أتراك غير مسلمين، ولغتهم لغت تركية قديمة، وقد كانت جميع البلاد إلى النصف الأول من القرن السادس عشر للمسيح من شبه جزيرة البلقا،ن وشطوط البحر الأسود إلى الصين ممالك إسلامية متصلة، كما ورد في الانسيكلوبيدية الإسلامية، ولكن كان قد بدأ دخول هذه الممالك في دور الانحطاط، فتقلص ظل المدنية وعادت البداوة القديمة، وكان قد بدأ الروس من ذلك العهد يتغلبون على من جاورهم من الترك فاستولوا على مملكة قازان سنة ١٥٥٢ وعلى مملكة استراخان سنة ١٥٥٤، فقطعوا ما بين الترك المشارقة والترك المغاربة أي العثمانيين.

ومذ ذلك الوقت أخذ الروس يزحفون صوب الشرق فيستولون على مملكة مملكة من هذه الممالك التركية الإسلامية، واتفقوا مع الصين على أنه لا يجوز أن يبقى للإسلام ملك من بحر الخرز إلى حدود الصين، فالذي لم يدخل تحت حكم الروسية يجب أن يدخل تحت حكم الصين، وقد انعقد هذا الاتفاق بين الروسية والصين بمعاهدة تاريخها (٢٤ فبراير/شباط ١٨٨١) وبرغم هذا فيقول «بارتولد» محرر هذا الفصل من الانسيكلوبيدية الإسلامية: إن الإسلام والتركية لم يرجعا إلى الوراء في الروسية وأنه بعد الانقلاب الروسي والحكومة البلشفية تأسست للأتراك في الروسية جمهوريات تابعة لموسكو مثل جمهوريتي «الأوزبك» و«التركمان» وجمهورية «أذربيجان» في القوقاز، وبالإجمال فللأتراك تحت حكومة السوفييت الحاضرة سبع جمهوريات لها شبه استقلال، وهي جمهورية القريم وجمهورية قوفاس وجمهورية الباشكيرد وجمهورية التتار وجمهورية القزق وجمهورية الغرغز وجمهورية ياقوت. ويوجد نواح لها أيضا إدارة مستقلة، وأكثر أهلها من الترك وهي بلاد قره كاي وبالكار وقره كالبكيك وأويرات، ويقول: إن هذا الدور قد أحيا أسماء القبائل التركية القديمة. ويذكر أن أكثر هؤلاء الأتراك قد عولوا في الكتابة على الحروف اللاتينية أما «الكوفاش» و«الكاكاس» و«الأوبرات» فقد بقوا متمسكين بأحرف الهجاء الروسية.

قلنا: إن السبب في هذا هو الدعاية الأنقرية والدعاية البلشفية نفسها، فإن كلًّا من موسكو وأنقرة أخذتا بالحروف اللاتينية، فالأتراك المسلمون في الروسية قلدوا في ذلك أنقرة، وأما الأتراك غير المسلمين مثل «الكاكاس، والأيرات» فبقوا متمسكين بالحروف الروسية، وذلك لأنه لا يجمعهم بأنقرة جامعة إسلامية حتى يقلدوها، وقد بلغ من انقلاب الأوضاع أن صارت الحروف اللاتينية هي موضوع دعاية الأتراك المسلمين، ويقلد بعضهم بعضًا فيها، وأن الأتراك غير المسلمين لا يعرفونها، وجاء في الانسيكلوبيدية أنه في إحصاء سنة ١٨٨٥ كان عدد الترك في الروسية ٢٦ مليونًا، وقيل إن هذا العدد مبالغ فيه، وأن أتراك الروسية ليسوا غير ١٦ مليونًا، وأن جميع الأمة التركية في العالم ثلاثون مليونًا، ولكن كتاب الأترك ومؤلفيهم يجعلون للترك أكثر من هذا العدد بكثير، فأحمد أغاييف يقول: إنهم من سبعين إلى ثمانين مليونًا، ومصطفى كمال باشا يقول: مئة مليون. انتهى ما في الانسيكلوبيدية الإسلامية.

والحقيقة أن الذين قالوا إن الترك بأجمعهم ثلاثون مليونًا قد نقصوا عددهم كثيرًا، كما أن كتاب الترك قد يكونون زادوا العدد على ما هو الحقيقة ولا شك أن الترك الذين في الروسية لا يقلون عن ثلاثين مليونًا كما أن الترك الذين في التركستان الصيني يبلغون عشرة ملايين، فيبقى ترك الأناضول ومن يليهم من الترك الذين في تراقية وبلاد البلغار ورومانيا، فهؤلاء كلهم لا يقلون عن خمسة عشر مليونًا، ويجب أن نضيف إلى هذا العدد أتراك إيران وهم أربعة إلى خمسة ملايين فالجميع ستون مليونًا وهذا أقرب تعديل.

وقد جاء في «صبح الأعشى» في الجزء الخامس خبر كيفية استيلاء الترك على بلاد الأناضول بعد أن كانت كلها للروم قال: إن ثغور المسلمين كانت من جهة الشام «ملطية» ومن جهة أذربيجان «أرمينية» إلى أن دخل بعض قرابة «طغرل بك» أحد ملوك السلجوقية في عسكر إلى بلاد الروم هذه، فلم يظفروا منها بشيء، ثم دخلها بعد ذلك «مماني» أحد أمرائهم بعد الثلاثين وأربع مئة ففتح وغنم، وانتهى في بلادهم حتى صار من القسطنطينية على خمس عشرة مرحلة، ثم فتح «قطلمش» بن إسرائيل بن سلجوق «قونية» و«أقصرا» وأعمالها. ثم وقعت الفتنة بين قطلمش وبين ألب أرسلان السلجوقي وقتل قطلمش في حربه سنة ست وخمسين وأربع مئة وملك البلاد من بعده ابنه سليمان ومات سنة ثمان وسبعين وأربع مئة. وملك بعده «قلج أرسلان» ثم خلفه بقونية وأقصرا ابنه مسعود، ثم توفي مسعود سنة إحدى وخمسين وخمس مئة، وملك بعده ابنه قلج أرسلان. وهذا قسم المملكة بين أولاده، فأعطى قونية وأعمالها ابنه غياث الدين كيخسرو، وأعطى أقصرا والسيواس ابنه قطب الدين، وأعطى «دوفاط» ابنه ركن الدين، وأعطى أنقرة ابنه محيي الدين، وأعطى ملطية ابنه عز الدين قيصر، وتخلى إلى ابنه غياث الدين عن الأبلستين، ولابنه نور الدين محمود عن قيسارية، وأعطى أماسيا لابن أخيه. ثم ندم على هذه القسمة وأراد انتزاع هذه الأعمال من أولاده، فخرجوا عن طاعته إلا ابنه غياث الدين فإنه بقي معه، وحاصر قلج أرسلان ابنه محمود في قيسارية فتوفي وهو محاصر لها سنة ٥٥٨، ووقعت الحروب بين الإخوة، وتغلب عليهم أخيرًا ركن الدين صاحب دوفاط، وخلفه ابنه قلج أرسلان، ثم قبض عليه أهل قونية وملكوا عمه غياث الدين كيخسرو، وبقي حتى قتل في حرب مع صاحب القسطنطينية، وملك بعده ابنه كيكاوس الغالب بالله وبقي حتى مات سنة ٦١٦، وخلفه أخوه علاء الدين فتوفي سنة ٦٣٤، وملك بعده ابنه غياث الدين كيخسرو، وتوفي سنة ٦٥٤ وملك بعده ابنه علاء الدين.

ولماء جاء المغول واستولوا على بغداد كان الملك لعز الدين كيكاوس، وركن الدين قلج أرسلان، فخضعا لهولاكو سلطان المغول، وبعد هلاك هولاكو غلب ركن الدين على جميع ملك الترك في الأناضول، وكان هولاكو أقام رجلًا اسمه «البرواناه» وكيلًا من قبله في بلاد الأناضول فغلب على ركن الدين قلج أرسلان ثم قتله، وحجر على ابنه غياث الدين كيخسرو. وفي تلك الأيام دخل الملك الظاهر بيبرس صاحب الديار المصرية إلى بلاد الروم سنة ٦٧٥ ولقيه صمغان بن بيدو الشحنة من جهة التتار فهزمهم وثار بيبرس إلى قيسارية فملكها، وجلس على تخت آل سلجوق بها، ثم رجع إلى مصر وبلغ ذلك «أبغا» بن هولاكو صاحب إيران فسار في جموعه إلى قيسارية ورأي مصارع قومه، فشق عليه واتهم البرواناه بمالأة الظاهر بيبرس فقبض عليه وقتله، واستقل بالملك غياث الملك بن ركن الدين قلج أرسلان، وبقي في الملك حتى قتله «أرغون بن أبغا» صاحب إيران سنة ٦٨١، وجعل مكانه مسعود ابن عمه كيكاوس، وجعل شحنة في الأناضول رجلًا اسمه هولاكو وليس لمسعود بن كيخسرو من الملك إلا الاسم. وبعد ذلك استقل الشحنة بالمملكة وصار ملوك التتر يرسلون إلى الأناضول شحنة بعد شحنة (أصل معنى الشحنة حامية البلد من قبل السلطان) وربما عصى عليهم بعض هؤلاء فلجئوا إلى صاحب مصر، وكثيرًا ما تقلدوا الإمارة بعهد من صاحب الديار المصرية مثل «الناصر محمد بن قلاوون»، وصارت الأناضول من مضافات الديار المصرية، وكان في بلاد الأناضول — وصبح الأعشى يقول بلاد الروم — طوائف كثيرة من التركمان كان السلاجقة يستعينون بهم في الحروب، فظهر منهم أمراء وأسسوا ممالك مثل «أولاد قرمان» أصحاب «أرمتاك» و«قسطمونية» و«بنو الحميد» أصحاب «أنطالية» و«وبنو آيدين» أصحاب البلاد التي يقال لها «أزمير» اليوم و«بنو منتشة» وبلادهم إلى الجنوب من أزمير «وبنو أورخان بن عثمان جق» وهو صاحب «بورسة». وكان قد اتخذ «بورسة» دارًا لملكه لكنه لم يفارق الخيام إلى القصور، وكان ينزل بخيامه في ضواحي بورسة ولم يزل على ذلك إلى أن مات.

قال القلقشندي في صبح الأعشى: وملك بعده ابنه «مراد بك» وتوغل في بلاد النصرانية فيما وراء الخليج القسطنطيني في الجانب الغربي، وفتح بلادهم إلى أن قرب من خليج البنادقة، وصير أكثرهم أمراء ورعايا له، وأحاط بالقسطنطينية من كل جانب حتى أعطاه صاحبها الجزية، ولم يزل حتى قتل في حرب الصقالية سنة ٧٩١، وملك بعده ابنه أبو يزيد فجرى على سنن أبيه، وغلب على البلاد فيما بين سيواس وأنطالية والعلايا، ودخل بنو قرمان وسائر التركمان في طاعته، ولم يبق خارجًا عن ملكه إلا سيواس التي كانت بيد قاضيها إبراهيم المتغلب عليها وملطية الداخلة في مملكة الديار المصرية، ولم يزل أبو يزيد حتى قصده «تمرلنك» بعد تخريب الشام في سنة ثلاث وثمان مئة وقبض عليه، فبقي في يده حتى مات، وملك بعده ابنه سليمان شلبي، وبقي حتى مات، وملك بعده أخوه محمد بن أبي يزيد بن مراد بن عثمان جق، وهو القائم بمملكتها إلى الآن. انتهى بتصرف.

قلنا: أيام زحف جنكيز خان على بلاد خوارزم جاء رجل يقال له «سليمان شاه بن كيالب» من بعض قبائل الأوغرز ومعه خمسين ألفًا من قبيلته ونزل على شواطئ الفرات بين أرزنجان وخلاط، وذلك في سنة ١٢٢٤ مسيحية، وتوفي سليمان شاه هذا غريقًا في الفرات، وبعد وفاته رجع أكثر قومه إلى خراسان، وبقي منهم أربع مئة عائلة مع ولديه «دندار» و«أرطغول» وتقدم أرطغرل إلى الغرب. وكانت حصلت في ذلك الوقت حرب مع «علاء الدين السلجوقي» فخدمه أرطغول ونصره فأقطعه السلجوقي إقطاعات معلومة مكافأة له، ثم تقدم عنده فأقطعه بلادًا على مقربة من «بني شهر» وولد لأرطغول ولد سماه عثمان، وكان عثمان يخطب ابنة شيخ من الأولياء اسمه «آده بالي» ووالدها يأبى أن يزوجه بها، فرأى يومًا فيما يرى النائم أنه تزوج بملك خاتون ابنة الآده بالي وخرج من حجرها هلال وصعد إلى صدرها، ثم ظهرت من جوانبها شجرة عمت البر والبحر، إلا آخر ما تحدثوا عن هذا الحلم … فلما أصبح الصباح قص رؤياه على الشيخ الآده بالي فأزوجه ابنته، وولدت له ابنه أورخان، وكان عثمان كبير أولاد أرطغرل، وكان المقدم عند سلطان قونية، فحسده الأمراء على حظوته عند السلطان، ثم ملك عثمان بلدة «قره حصار» وزاد السلطان في إقطاعه ومنحه حق ضرب السكة، وصار اسمه يقرن باسم السلطان في صلاة الجمعة، وكان المغول قد غزوا بلاد الأناضول سنة ١٣٠٠ للمسيح، فانهزم علاء الدين الثالث الذي كان يقال له سلطان الروم، والتجأ إلى «ميشيل باليوغ» ملك القسطنطينية، فمات من حبسه وصار كرسي ملك الإسلام في الروم فارغًا، فتولى عدة أمراء منهم: بنو قرمان ومنهم بنو قرمسي ومنهم بنو صاروخان ومنهم بنو ايدين ومنهم بنو حميد ومنهم بنو منتشه ومنهم بنو عثمان الذين كان بيدهم بني شهر وما والاها.

وكان عثمان شديد البأس صارمًا، وكان لا يزال للقسطنطينية قلاع وبلاد في الأناضول، فأرسل عثمان إلى قواد هذه القلاع يخيرهم بين الإسلام أو الخضوع له، وكان له صاحب من الروم اسمه ميشيل كيوز فأسلم، وأقطعه عثمان بلادًا، وهذا هو جد عائلة ميكال أوغلو التي لها ذكر شهير في الدولة العثمانية، وخضع له بعض أمراء الروم وأدوا الجزية، ثم استولى ابنه أورخان على بورسة أخذها من أيدي الروم، وكانت أحصن بلدة في آسيا الصغرى، وذلك الفتح كان سنة ١٣٢٦ مسيحية، ومات عثمان وحزن عليه قومه لأنه كان بطلًا مغوارًا، وهو الذي أسس هذا الملك فقيل الدولة العثمانية من ذلك الوقت، وكان زاهدًا يقتدي بأصحاب رسول الله ، ولم يكن يدخر مالًا، بل يوزع كل ما يدخل في يده على أصحابه، وكان يعيش في بيته من قطيع غنم لا يزال في ذريته حتى اليوم في نواحي بورسة.

بويع للسلطان عثمان مؤسس السلطنة السمانية في سنة ٦٩٩ تسع وتسعين وست مئة، وقد كان الأدبالي الذي تزوج السلطان عثمان ابنته من علماء القرامان وتفقه في البلاد الشامية، وكان عاملًا عالمًا عابدًا زاهدًا وكانوا يرجعون اليه بالمسائل الشرعية.

ومن العلماء المعروفين في أيام عثمان المولى طوسون ختن الأدبالي، وقد قرأ عليه وقام مقامه في أمر الفتوى.

ومنهم المولى خطاب بن أبي القاسم القره حصاري، قرأ أيضًا في البلاد الشامية وله شرح نافع على منظومة الشيخ عمر النسفي في الخلافيات.

ومنهم مخلص بابا من بلاد قرامان، وكان يرافق السلطان عثمان في فتوحاته.

ومنهم ابنه عاشق باشا وكان عابدًا زاهدًا متصوفًا.

ومنهم ابن عاشق باشا المذكور وكان أيضًا على قدم الصلاح نظير آبائه.

ومنهم العارف بالله الشيخ حسن وكانت له زاوية ببلده بروسة.

وكان أكبر أولاد عثمان علاء الدين إلا أنه كان مشغوفا بالعلم محبًّا للعزلة، فعهد عثمان بالملك لولده أورخان، فعرض أورخان على أخيه الأكبر قسمة الملك، فأبى علاء الدين وأراد الاعتزال جانبًا واختار أن يقيم على ضفة نهر «نيلوفر» الجاري في مرج بورسة، فعرض عليه أورخان نصف قطعان الغنم التي خلفها لهم أبوهم فرفض أيضًا، فقال له أورخان: من حيث إنك رفضت أن تأخذ حصتك من الغنم والبقر والخيل، فإني أعرض عليك أن ترعى رعيتي وتكون وزيرًا لي. فلم يسعه إلا القبول وصار وزيرًا لأخيه وأحسن الإدارة. وكان عثمان لم يضرب السكة باسمه فالذي ضربها هو ولده علاء الدين في أيام أخيه أورخان، ثم جعل علاء الدين للمملكة جيشًا دائمًا، ولكن هذا الجيش لم يطل أمره، فاتفق أورخان وأخوه علاء الدين على حله، واعتمدا على طريقة أخرى أشار بها خليل جندرلي، وهي تأسيس وجاق الانكشارية، وكانوا يأتون بأحداث من أبناء النصارى وغيرهم، فيربونهم في الإسلام، فأكثر الانكشارية هم من هؤلاء، ولما أسسوا هذا الجيش باركه الحاج «بكتاش» وهو الي أعطاه اسم «يني شاري» وفي البداية لم يكن هذا الوجاق أكثر من ألف جندي، ولكنه صار يزداد سنة فسنة. وقضية أخذ أولاد النصارى وتربيتهم في الإسلام وجعلهم جنودًا كان العثمانيون قد أخذوها عن الروم، أصحاب القسطنطينية، الذين كانوا إذا غزوا بلاد الإسلام سبوا كثيرًا من الأولاد وربوهم في النصرانية، وجعلوهم جندًا يقاتلون بهم المسلمين، ولما استولى «نيقوفورفوقاس» على حلب سبى عشرة آلاف ولد من أهلها، ورباهم في دار ملكه وعمدهم وصيرهم من أعز جنوده، وكذلك عندما استولى البطريق ميشيل بوتسنريس على أنطاكية سنة ٩٦٩ سبى من أولاد المسلمين عشرة آلاف أيضًا وربوهم في القسطنطينية، فخرجوا نصاري وصاروا جندًا. فالعثمانيون لم يعملوا إلا ما عمله البيزنطيون من قبل، ورتب أورخان وأخوه عدة أصناف من الجيوش منهم: الجيش الذي يقال له «العزب»

ومنهم الخيالة وهم أنواع «السباهية» و«السلحدارية» و«العلوفة جيه» و«الغرباء» و«المسلمان» و«الايكنجي» وبقيت قيادة الابكنجي — وهم الكشافة — في ذرية عائلة ميكال أوغلي مدة أعصر.

وجعل أورخان وأخوه مدينة بورسة قاعدة المملكة وأخذا يفتتحان كل يوم بلدًا جديدًا، وحاصرا «نيقية» التي كانت العاصمة الثانية لمملكة الروم، وبعد حصار سنتين أخذاها عنوة، وهي البلدة التي انعقد فيها المجمع النيقي الذي به تقررت العقيدة الكاثوليكية، فحول الأتراك كنيسة المجمع المقدس جامعًا وأسس أورخان وأخوه في نيقيه مدرسة عالية وملجأ للفقراء، وشيدا فيها عمارات كثيرة، وعهدا بقيادة موقع نيقية إلى سليمان باشا كبير أولاد أورخان، الذي صار فيما بعد خلفًا لعمه علاء الدين في الوزارة.

ثم مضى العثمانيون في فتوحاتهم فاتسعت المملكة، وكان أولاد أمير قرسي قد اختلفوا بعد موت والدهم، فوضع أورخان يده على هذه الإمارة وعمرت بورسة في ذلك الوقت، واجتمع فيها العلماء والأدباء والشعراء، وصارت عاصمة حقيقية، ولا تزال عماراتها ومآثرها إلى اليوم تدهش الأبصار، وفيها مدافن ستة من سلاطين آل عثمان. وكان دوشان ملك الصرب جمع الصقالبة وافتتح بلاد البلغار، وأراد أن يزحف على القسطنطينية، فأرسل ملك القسطنطينية «يوحنا باليولوغ» وعرض على أورخان أن يزوجه ابنته حتى يستعين به على قتال الصقالبة، ولكن دوشان مات قيل أن يتمكن من الزحف على بيزنطية، وفي سنة ١٣٥٧ أجاز سليمان باشا ابن السلطان إلى البر الأوروبي بستين مقاتلًا فقط، ثم أجاز بعده ثلاثة آلاف مقاتل واستولوا على مدينة «غاليبولي» على الدردنيل، ثم على «كونور» و«بولايير» و«مالاجره» و«ابسالة» و«رودستو» وبينما سليمان باشا يتقدم في الفتوحات تردي به جواده فمات ولم يلبث أبوه إلى أن لحق به.

بويع للسلطان أورخان بالسلطنة في سنة ست وعشرين وسبع مئة، وقد نبغ في زمانه المولى داود القيصري القراماني؛ قرأ في مصر، وكان له قدم راسخة في التصوف وشرح فصوص ابن العربي، ولما بنى السلطان أورخان مدرسته في بلدة أزنيق انتدبه للتدريس بها.

ومنهم المولى تاج الدين الكردي، وكان فقيهًا علامة، ولما مات داود القيصري جعله السلطان أورخان مكانه في التدريس.

ومنهم المولى علاء الدين الأسود وقرأ في بلاد العجم وله مؤلفات، ودرس في مدرسة ازنيق.

ومنهم المولى خليل الجندري، وهو أول قاض من قضاة العساكر، وصار فيما بعد وزيرًا وكان من أقارب الشيخ أدبالي.

ومنهم المولى محسن القيصري وقرأ في البلاد الشامية، وله نظم في علم الفرائض وشرح عليه.

ومنهم الشيخ الغزال ومولده ببلدة «خوى» من بلاد العجم، وكان يركب الغزال، وحضر فتح بروسة مع السلطان أورخان وكان متجردا عن العلائق الدنيوية، وكان السلطان أورخان يحبه حبًّا جمًّا، فأقطعه موضعًا قريبًا من مقامه مع ما حوله من القرى، فلم يقبل ذلك الشيخ وقال: الملك والمال هما مما يلزم الملوك والأمراء، ومما لا يحتاج إليه الفقراء.

ومنهم الشيخ العالم بالله قره جه أحمد، وأصله من بلاد العجم سلك مسلك الزهد.

ومنهم الشيخ العارف بالله أخي أوران.

ومنهم الشيخ المجذوب موسى أبدال، حضر مع السلطان أورخان فتح بروسة.

ومنهم أبدال مراد وهو أيضًا حضر فتح بروسة مع السلطان.

ومنهم بد اوغلو بابا وهو أيضًا من المجاهدين الذين حضروا ذلك الفتح.

ثم جلس على كرسي السلطنة مراد بن أورخان أخو سليمان باشا، وكان سلطانًا عظيمًا في حب الفتوحات وحسن التدبير، وهو الذي استولى على أدرنة في البر الأوروبي، ونقل إليها كرسي ملكه، وهي من أهم المدن واقعة في ملتقى ثلاثة أنهار، ومن أدرنة زحفت جيوشه فاستولت على كملجنة في تراقية وعلى فاردار وفيليولي وبنى مراد جامعًا كبيرًا في أدرنة.

ولما رأى أهالي بلاد البلقان تقدم العثمانيين وتوالي فتوحهم هالهم الأمر وعمدوا إلى مصادمتهم، وكان البابا «أوروبانوس» الخامس، نادى بالحرب الصليبية، فزحف أورشق الخامس ملك الصرب ومعه أمراء بوسنة والفلاخ والمجر قاصدين الأتراك في أدرنة، وكان السلطان مراد يحاصر بلدة «بيغا» في الأناضول، فالتقاهم الحاج «إلبيكي» من قواد مراد وهزمهم هزيمة شنيعة سنة ١٣٦٣، واستولى الترك على أثر هذه الوقعة علي «قيزل أغاج» و«يانبول» و«إستيمان» و«سماكوف»، ثم رجع مراد فاستولى على «قرق كلية» و«آيدوس» ومدن أخرى، وفي تلك المدة أزوج مراد ابنه بايزبد المسمى «بلدرم» — الذي تقدم أن تيمور لنك أخذه أسيرا — وذلك من ابنة أمير «كوتاهية» واستولى عليها، وأجبر أمير حميد في الأناضول أن يبيعه إمارته، وسرح «تيمور طاش» أحد قواده فافتتح «مناستير» و«بيرايبة» و«إشتيب» في بلاد الصرب، وافتتح أيضًا «صوفيا» من بلاد البانار، ثم سرح جيشًا آخر بقيادة الصدر الأعظم خير الدين، فافتتح «سلانيك» وكان خير الدين هذا من أحسن الوزراء تدبيرًا، فلما مات طمع أعداء العثمانيين وزحف البلغار من جهة أوروبا، وأمراء قرامان في الأناضول في وقت واحد، فأسرع مراد إلى صد أمير قرامان وهزمه وأسره، وعاد إلى البلقان لقتال الصرب والبلغار، وزحف الوزير «علي باشا» فاستولى على بلاد البلغار، وأسر «سيسمان» ملك بلغاريا ولم يقتله وعين له مرتبًا يعيش به، وصار ابن ملك البلغار من أتباع السلطان. وأما ملك الصرب «اليعازر» فكان قد جمع جموعه وزحف بالصرب والأرناءوط، فالتقى الجمعان في صحراء «قوصوه» فكانت معركة من أشد ما عرف التاريخ، وانهزم الصرب وأحلافهم، وبينما السلطان مراد يسير على أشلاء قتلى الصرب نهض أحد الجرحى فأغمد فيه خنجره، فجرح السلطان جرحًا بليغًا مات به، ولكن بعد أن أمات اليعازر ملك الصرب.

وكان لقبه عند الناس «غازي خداوندكار» بويع له سنة إحدى وستين وسبع مئة، ونبغ في زمانه: المولى محمود قاضي بروسة، وكان قاضيًا بالعدل تقيًّا متورعًا، وكان له ولد اسمه محمد فبرع في العلوم إلا أنه مات شابًّا، وكان له ولد آخر اسمه موسى باشا ارتحل إلى بلاد العجم، وقرأ على علماء خراسان وما وراء النهر، وبلغ شهرة عظيمة واتصل بخدمة ملك سمرقند «أولغ بك»، وكان هذا الملك محبًّا للعلوم الرياضية فقرأها عليه لأنه كان من علماء هذه العلوم، ومن المؤلفين فيها وشرح أشكال التأسيس في الهندسة، وله كتاب في علم الهيئة، وقرأ على السيد الشريف ولكن لم تحصل الملاءمة بينهما فتركه، وقال السيد الشريف في حقه: غلبت عليه الرياضيات.

ومنهم الشيخ جمال الدين محمد بن محمد الأقصرائي، كان علامة في العلوم العقلية والنقلية، وله كتب منها كتاب في الطب، ويقال إنه من نسل الفخر الرازي.

ومنهم المولى برهان الدين أحمد قاضي أرزنجان، وكان عالمًا فاضلًا ورعًا، وصار أميرًا على أرزنجان، وقتل في أواخر سنة ثمان مئة في إحدى الوقائع.

ومنهم الحاج بكتاش وكان من الأولياء، وجاء في «الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية» أنه انتسب إليه فيما بعد بعض الملاحدة نسبة كاذبة، وهو بريء منهم.

ومنهم الشيخ محمد الكشتري، أصله من العجم توطن بروسة.

ومنهم بيوستين بوش، أصله من العجم بني له السلطان مراد زاوية في قصبة يني شهر.

ثم تولى السلطنة بعد مراد ابنه «بايزيد يلدرم» أي الصاعقة وفي أيام بايزيد صارت مملكة الصرب تابعة للمملكة العثمانية، ولكن بقي «إتيان بن اليعازر» أميرًا عليها يؤدي الجزية لبايزيد، وكانت بقيت لمملكة القسطنطينية في الأناضول بلدة فيلادلفيا، والأتراك يقولون لها «آلاشِهَر» فأراد السلطان بايزيد أن يلحقها بمملكته وحاصرها، فأرسل السلطان إلى ملك القسطنطينية باليولوج بأن يأمر القائد بتخيلة البلدة، فزحف باليولوج إلى البلدة وأجبر أهلها على تسليمها للسلطان، وفي ذلك الوقت استولى السلطان على إمارة «آيدين» وعلى قسم من إمارة قرامان، ثم حاصر بايزيد القسطنطينية، وزحف صوب بلاد الفلاخ من رومانيا الحاضرة ودوخها حتى ارتضى أهلها بدفع الجزية. ثم استولى بايزيد على مملكة «قرامان» كلها وعل «طوقات» و«سيواس»، فلم يبق في آسيا الصغرى مملكة تركية مستقلة إلا إمارة «قسطموني» والتجأ إليها الأمراء الذين كان بايزيد أخذ بلادهم، فطلب بايزيد من أمير قسطموني تسليم أولاد أمراء «منتشة» و«آيدين» فرفض طلبه، فزحف إليه واستولى على صمصون وعثمان جيك وغيرهما، وفر أمير قسطموني لاحقًا بتمرلنك. وفي أيام بايزيد استلحقت السلطنة العثمانية مملكة البلغار تمامًا، وأسلم ابن الملك «سيسمان» فاعترض «سيجسموند» ملك المجر على استلحاق بايزيد لبلاد البلغار كلها، وتأهب للحرب وأرسل يستصرخ الفرنسيس والبابا، فأعلن البابا الحرب الصليبية على العثمانيين، وأرسل دوق برغونية ستة آلاف مقاتل لمعاونة المجر وأنضم إلى ذلك الجيش أكابر أمراء فرنسا مثل الدوق «دوبور بون» والدوق «دويار» أولاد عم ملك فرنسا والماريشال «بوسيكو»، وانضم إليهم كثير من الألمان من بافاريا واستيريا، ولما تلاقي هذا الجيش مع المجر وزحفوا لقتال الأتراك كان عدد هذا الجيش الصليبي ستين ألفًا، ولكن جيش آل عثمان كان مائتي ألف، فعندما التقى الجمعان هجم الفرنسيس على مقدمة العثمانيين، فأحاط هؤلاء بهم فانهزموا، فلما رأى الهزيمة جيش الميمنة من الصليبيين تحت قيادة «لازكوفيتش» أمير تراتسلفانيا تقهقر إلى الوراء وكذلك تقهقر «مانيس» قائد الميسرة المؤلفة من الفلاخيين، وثبت القلب وكان فيه المجر والألمان، واشتد القتال وكادت تزلزل أقدام العثمانيين إلا أنهم تغلبوا في الآخر على أعدائهم بعد معركة تشيب لها الاطفال هي من أشهر معارك التاريخ.

ويقال إن العثمانيين لم يقهروا الجيش الصليبي ذلك اليوم إلا بعد خسائر تفوق التصور، حتى إن بعض مؤرخي الإفرنج ذكروا أن المسلمين خسروا في تلك المعركة ستين ألف قتيل، مما أهاج غضب السلطان حتى أمر بقتل عشرة آلاف أسير من الإفرنج، وأستحيا السلطان منهم «الكونت دي نيفير Nevers» الذي يقال له «جان بلا خوف» وأربعة وعشرين أميرًا من أعظم نبلاء فرنسا، فهؤلاء لم يقتلهم السلطان بل اكتفى بأخذ الفدية منهم، ولما سرح الكونت «دي نيفير De Nevers» قال له: «أنت في حل من العهد الذي تعهدت به أن لا تقاتل عساكري، وذلك أنك لو أتيتني بكل جيوش النصرانية لما كان ذلك إلا سببًا في انتصاري عليهم.» وأدى باليولوج ملك القسطنطينية الجزية السنوية لبايزيد وبنى جامعًا ومحكمة في القسطنطينية وكان للمسلمين فيها قاضٍ شرعي قبل أن فتحوها!

وقال بايزيد إنه لا بد أن يطعم حصانة الشعير في روما، وصارت إيطاليا كلها ترتجف منه، وبينا بايزيد في أوج عظمته إذ التجأ إليه «أحمد جلاير» أمير بغداد الذي كان تمرلنك تغلب على بلاده، فبعث تمرلنك إلى بايزيد يطلب تسليم أحمد جلاير، فقابل بايزيد تلك الرسالة بالازدراء، فزحف تمرلنك إلى الأناضول واستولى علي سيواس وقتل أرطغول بن بايزيد في المصاف، فسار بايزيد إلى قتال تمرلنك بجيوشه، وتلاقى الجمعان في سهل أنقرة، فكان بايزيد في ذلك اليوم صاعقة كما اسمه، ولكن طالع الحرب لم يكن معه فانهزم وتردي به جواده فوقع أسيرًا في ٢٠ يوليو/تموز سنة ١٤٠٢، وأُسر معه ابنه موسى، ونجا أولاده الثلاثة سليمان ومحمد وعيسى، واختفى ابنه مصطفى، ولم يطل أسر بايزيد إذ مات غمًّا في السنة التالية، فأخذ الأمير موسى جثة والده تمرلنك ودفنها في بروسة. ويقال إنه في زمن بايزيد ابتدأ فساد الأخلاق في الدولة وانتشرت الرشوة، إلى أن السلطان أمر في يوم واحد بقتل ثمانين قاضيًا.

بويع لبايزيد في رابع رمضان سنة إحدى وتسعين وسبع مئة، ومن علماء زمانه شمس الدين محمد بن حمزة الفتاري، قال ابن حجر: كان الفناري عارفًا بالعلوم العربية وعلمي المعاني والبيان، وعلم القراءات، كثير المشاركة في الفنون، أخذ على علماء بلاده ثم ارتحل إلى مصر، ثم رجع إلى الروم وتولى قضاء بروسة، وكان مقدما عند السلطان، ويقال إنه أثرى إلى الغاية حتى كان عنده من النقد خاصة مئة وخمسون ألف دينار، وحج مرتين وزار القدس، ثم أصابه رمد أشرف به على العمى، ثم رد الله إليه بصره، فحج بعد ذلك الحجة الأخيرة، وله كتاب يسمى «فصول البدائع في أصول الشرائع» وشرح «الرسالة الأثيرية في الميزان» شرحًا لطيفًا وشرح «الفوائد السراجية» وعلق على «شرح المواقف للسيد الشريف» تعليقات تتضمن مؤاخذات لطيفة على السيد، وبلغ من الجاه والثروة الدرجة القصوى، وتزاحم الناس على بابه، وخلف عشرة آلاف من الكتب، وقيل إنه شهد السلطان أمامه شهادة في قضية فرد شهادته، فسأله عن السبب في ردها فقال له: إنك تارك للجماعة. فلم يترك السلطان الجماعة بعد ذلك، ثم اختلف المولى الفناوي مع السلطان والتحق بصاحب قرامان، ولكن السلطان ابن عثمان عاد فاسترضاه ورجع إلى بروسة.

ومنهم المولى حافظ الدين بن محمد الكردي المشهور بابن البزازي، وله «الفتاوى البزازية» وكتاب في مناقب الامام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، وقيل إنه تباحث مع المولى الفناوي فغلب عليه في الفروع، وغلب الفناري في الأصول وسائر العلوم.

ومنهم مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزآبادي صاحب القاموس، وكان ينتسب إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، قال صاحب «الشقائق النعمانية»: وربما يرفع نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، دخل بلاد الروم واتصل بخدمة السلطان بايزيد يلدرم، وأنعم عليه، وحظي عند السلطان وجول في البلدان، وبرع في العلوم كلها لاسيما الحديث والتفسير واللغة، وله تصانيف كثيرة تنيف على الأربعين، وأجل مصنفاته «اللامع المعلم العجاب، الجامع بين المحكم والعباب» وكان تمامه في ستين مجلدًا ثم لخصه في مجلدين، وسماه ﺑ«القاموس المحيط والقابوس الوسيط فيما تفرق من كلام العرب شماطيط» وكان آية في الحفظ والاطلاع. ولد سنة تسع وعشرين وسبع مئة وتوفي باليمن قاضيًا بزبيد ليلة العشرية من شوال سنة ست أو سبع عشرة وثمان مئة، وهو متمتع بحواسه، ودفن بتربة الشيخ إسماعيل الجبرتي، قال صاحب «الشقائق النعمانية» وهو آخر من مات من الرؤساء الذين انفرد كل منهم بفن فاق فيه أقرانه على رأس القرن الثامن، وهم الشيخ سراج الدين البلقيني في الفقه الشافعي، والشيخ زين الدين العراقي في الحديث، والشيخ سراج الدين بن الملقن في كثرة التصانيف في الفقه والحديث، والشيخ شمس الدين الفناري في سعة الاطلاع على العلوم العقلية والنقلية، والشيخ أبو عبد الله بن عرفة في فقه المالكية، والشيخ مجد الدين الشيرازي في اللغة.

وممن نبغ في زمان السلطان بايزيد يلدرم الشيخ شهاب الدين السيواسي وأصله عبد لبعض أهالي سيواس، تعلم في صغرة ونبغ ومال إلى التصوف وتوطن في بلاد آدين، وأكرمه أميرها، وله تفسير للقرآن العظيم، وله رسالة في التصوف سماها «رسالة النجاة في شرف الصفات».

ومنهم المولى حسن باشا بن المولى علاء الدين الأسود وله شرح «المراح في الصرف» وشرح «المصباح في النحو».

ومنهم المولى صفر شاه، وكان من علماء ذلك العصر.

ومنهم محمد شاه بن المولى شمس الدين الفناري، وكان مطلعًا على ما اطلع عليه والده من العلوم، وفوض إليه في حياة أبيه تدريس المدرسة السلطانية في بروسة، وهو في الثمانية عشرة، وكانت وفاته سنة ٨٣٩. وكان له أخ هو المولى يوسف بن المولى الفناري، وتولى التدريس بمدرسة بروسة واسْتُقْضِيَ فيها.

ومنهم الشيخ قطب الدين الأزنيقي، وكان زاهدًا متورعًا متصوفًا علامة في العلوم الشرعية، قيل إنه لما اجتاز تمرلنك بالبلاد الرومية اجتمع مع هذ الشيخ فقال له: عليك أن تترك صنيعك هذا من قتل عبد الله وسفك الدماء المحرمة. قال له تمرلنك: يا شيخ إني أنزل في منزل وباب خيمتي إلى الشرق، فأجد بابها في الغد إلى الغرب، وإذا ركبت يركب أمامي خمسون رجلًا لا يراهم غيري، فأقفو أثرهم. فقال له الشيخ: كنت سمعت أنك رجل عاقل، فالآن علمت أنك جاهل. فقال: من أين علمت هذا؟ قال: لأنك تفتخر بوصف الشيطان، وهو كونه مظهرًا لقهر الله سبحانه وتعالى. ومات هذا الشيخ سنة ٨٢١.

ومنهم المولى بهاء الدين عمر بن قطب الدين الحنفي، كان من الفقهاء أرباب الفتوى، ومثله المولى إبراهيم بن محمد الحنفي، ومثله أيضًا نجم الدين الحنفي.

ومنهم الشيخ محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي الجزري المكنى بأبي الخير، ولد بدمشق ورحل إلى الديار المصرية، وقرأ بها وجلس للإقراء، ولي قضاء الشام سنة ٧٩٣ وجاء إلى بروسة في زمان السلطان بايزيد بن عثمان، ولما تغلب تمرلنك على السلطان المذكور أخذ تمرلنك هذا الشيخ معه إلى بلاد تركستان، وقرأ عليه الناس في سمرقند. ثم بعد وفاة تمرلنك خرج من تلك البلاد إلى خراسان، ودخل هراة ثم جاء إلى أصفهان ثم إلى شيراز، وكان الناس يقرءون عليه في كل محل، ثم جاء إلى البصرة ثم جاور بمكة والمدينة، وكان متخصصًا في علم القراءات وله التصانيف فيه، وتوفي سنة ٨٣٣ في شيراز. وله ولدان فاضلان أكبرهما محمد أبو الفتح، وكان من العلماء الكبار ذوي التآليف. والثاني محمد أبو الخير وكان أيضًا من العلماء. وولد ثالث اسمه أحمد وكان أيضا كأخويه، ولما وقعت الفتنة التيمورية أرسله تمرلنك رسولا إلى الناصر فرج بن برقوق صاحب الديار المصرية، وافترق عن والده نحوًا من عشرين سنة ثم اجتمعا بمصر.

وأدرك أبو الخير ابن الشيخ الجزري زمان السلطان محمد بن مراد، ونصبه السلطان موقعًا بالديوان العالي وأكرمه إلى الغاية.

ومنهم المولى عبد الواحد بن محمد بن محمد، كان بارعًا في العلوم العقلية والنقلية، وله كتاب في الأسطرلاب ودرس في مدرسة كوتاهية، وأصله من بلاد العجم.

ومنهم المولى عز الدين عبد اللطيف بن الملك، وكان عند الأمير محمد بن آيدين، شرح «مشارق الأنوار» للإمام الصاغاني وله تصانيف أخرى.

ومنهم أخوه محمد بن عبد اللطيف بن الملك.

ومنهم الشيخ العارف بالله عبد الرحمن بن علي بن أحمد البسطامي من أهل أنطاكية، وكان متخصصًا بعلم الحروف والأوفاق والجفر، وله معرفة بالتاريخ، وسكن في بروسة.

ومنهم المولى علاء الدين الرومي، أخذ عن العلامة التفتازاتي والسيد الجرجاني وحضر مباحثهما، وحفظ منهما أسئلة كثير مع أجوبتها.

ومنهم الشيخ العارف بالله فخر الدين الرومي، وكان من العلماء الزهاد.

ومنهم الشيخ رمضان، اتخذه السلطان بايزيد شيخًا لنفسه ثم جعله قاضيًا للعسكر.

ومنهم المولى أحمدي، أصله من كرمان، وصار المولى أحمدي معلمًا للأمير ابن كرميان، وكان المولى أحمدي شاعرًا، وابن كرميان كان محبًّا للشعر، ثم صحب الأمير سليمان بن السلطان بابزيد ولأجله نظم المولى أحمدي الديوان المسمى «إسكندر نامه».

ومنهم الشيخ بدر الدين محمد بن إسرائيل المعروف بابن قاضي سماوة، وكان قد تعلم في الديار المصرية، وقرأ مع السيد الجرجاني علي مبارك شاه المنطقي المدرس بالقاهرة، وعلى الشيخ أكمل الدين، وقرأ عليه السلطان فرج بن برقوق ملك مصر، ثم التحق ببلاد الروم، ولما تسلطن الأمير موسى الملقب بشلبي من أولاد عثمان، وهو أخو السلطان محمد الأول، نصب الشيخ بدر الدين قاضيًا للعسكر، ثم وشوا به إلى السلطان فأمر بقتله بإفتاء مولانا حيدر العجمي، وله تصانيف كثيرة.

ومنهم المولى الحاج باشا، وكان من رفاق الشيخ بدر الدين عندما كان يقرأ بالقاهرة، وتخصص بالطب وفوض إليه بيمارستان مصر فدبره أحسن التدبير، وصنف كتاب «الشفاء» باسم الأمير محمد بن آيدين.

ومنهم الشيخ العارف بالله حامد بن موسى القيصري، وكان يبيع الخبز والناس يشترون منه تبركًا به، ولما بنى السلطان بايزيد الجامع الكبير بمدينة بروسة رغب فيه ومات بمدينة آقسراي.

ومنهم شمس الدين محمد بن علي الحسيني البخاري، ولد في بخارى، وكان له قدم راسخة في التصوف، وجاء إلى بروسة وأحبه أهلها، واشتهر عندهم باسم أمير سلطان، وأحبته بنت السلطان بايزيد فتزوج بها. وكان آل عثمان يتبركون به ومات في بروسة.

ومنهم العارف بالله الحاج بيرم الأنقروي، ولد بقرية قريبه من أنقرة ونبغ في العلوم وصار مدرسًا في أنقرة ومات بها.

ومنهم الشيخ عبد الرحمن الأرزنجاني، كان ساكنًا في الجبال بقرب أماسية.

ومنهم العارف بالله (طابدق أمره) كان من الزهاد النساك يسكن بقرب نهر سقارية.

ولما أسر بايزيد ثارت الممالك البلقانية التي كان السلطان العثماني قد أخضعها مثل بلغاريا والصرب ورومانيا، وكذلك ثار أمراء الأناضول من الأتراك مثل أمراء قرامان، ومنتشة وآيدين وصاروخان، واسترجعوا استقلالهم، ووقع الشقاق بين أولاد بايزيد فصاروا يقتتلون ويستأثر كل واحد منهم بشطر من المملكة، ولكن تمرلنك انكفأ عن آسيا الصغرى قاصدا الصين، وبقي القتال بين أولاد بايزيد بعضهم مع بعض وبينهم وبين أمراء الأناضول الذين استرجعوا استقلالهم وذلك مدة عشر سنوات، والأمور فوضى إلى أن تغلب محمد على الجميع، وكان ملك القسطنطينية باليولوج حليفًا لمحمد، فلذلك عندما صفا الوقت له لم يحاول أن يستولي على بلدته، بل رد له بعض المدن التي كانت من قبل تابعة للقسطنطينية، وكان السلطان محمد هذا وهو محمد الأول عظيم الأمانة، محبًّا للعفو، وقد أجمع المؤرخون على وصف معالي أخلاقه، وهو الذي مهد المملكة تمهيدًا جديدًا ورتق جميع فتوقها بعد أن مزقتها الفتن تمزيقًا، وكان محبًّا للعلم والعلماء متمسكًا بالدين الإسلامي منفذًا لأحكامه.

وهو أول سلطان عثماني أرسل صرة إلى أمير مكة، وفرق الصدقات في الحجاز، وفي زمانه نبغ كثير من الشعراء والأدباء والمؤلفين، ومن جملتهم ابن عرب شاه صاحب تاريخ تيمور المسمى ﺑ«عجائب المقدور» وكان معلمًا لأولاد السلطان محمد، ومات السلطان محمد سنة ١٤٢١ مسيحية.

بويع له بالسلطنة سنة ستة عشرة وثمان مئة، وممن نبغ في ذلك الزمان: الشيخ المسمى بأمير سلطان. ونبغ في زمانه برهان الدين حيدر بن محمود الحوافي الهروي من تلاميذ السعد التفتازاني، له حواش على «شرح الكشاف» للسعد، أورد فيها أجوبة على اعتراضات السيد الجرجاني، وكان تقيًّا ورعًا.

ومنهم المولى فخر الدين العجمي، قرأ على السيد الجرجاني، ثم أتى إلى بلاد الروم وصار مفتيًا في زمن السلطان مراد، وتعين له ثلاثون درهمًا كل يوم، فأراد السلطان أن يزيد عليها فلم يقبل وقال: حقي في بيت المال ما يقوم بكفايتي ولا يحل الزيادة عليه. وكان شديد الوطأة على أتباع فضل الله التبريزي رئيس الطائفة الحروفية الضالة، ومات في أورفة، ولما مَرِضَ مَرَضَ الموت عاده المولى علي الطوسي واستوصاه، فأوصى بأن لا يخلي ظهر العوام من عصا الشريعة.

ومنهم المولى يعقوب الأصغر القراماني وكان عالمًا مدققًا، وجاء إلى بروسة وله رسالة في دفع التعارض بين الآيتين؛ قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وقوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ.

ومنهم المولى المعروف بقرة يعقوب من بلاد قرامان.

ومنهم المولى بايزيد الصوفي، نصبه السلطان بايزيد معلمًا لابنه محمد.

ومنهم العلامة محيي الدين الكافية جي، سمى بذلك لكثرة اشتغاله بكتاب الكافية في النحو، قال السيوطي: شيخنا العلامة أستاذ الأستاذين محيي الدين أبو عبد الله الكافية جي، ولد سنة ثمان وثمانين وسبع مئة واشتغل بالعلم أول ما بلغ، ورحل إلى بلاد العجم وتبريز ولقي العلماء الأجلاء، فأخذ العلوم عن شمس الدين الفناري، والبرهان حيدرة، والشيخ، واجد وابن فرشته شارح المجمع، وحافظ الدين البزازي وغيرهم، ودخل القاهرة وأخذ عنه الفضلاء والأعيان وولي مشيخة الشيخونية لما رغب عنها ابن الهمام، وكان إمامًا كبيرًا في المعقولات كلها: الكلام وأصول الفقه والنحو والتصريف والإعراب والمعاني والبيان والجدل والمنطق والفلسفة والهيئة، بحيث لا يشق أحد غباره بشيء من هذه العلوم، وله اليد الحسنة في الفقه والتفسير، والنظر في علوم الحديث وألف فيه، وأما تصانيفه في العلوم العقلية فلا تحصى بحيث إني سالته أن يسمي لي جميعها لأكتبها في ترجمته فقال: لا أقدر على ذلك.

قال السيوطي: وكان صحيح العقيدة حسن الاعتقاد في الصوفية، محبًّا لأهل الحديث، كارهًا لأهل البدع، كثير التعبد على كبر سنه، كثير الصدقة والبذل لا يُبقي على شيء، سليم الفطرة، صافي القلب، كثير الاحتمال لأعدائه، صبورًا على الأذى، واسع العلم جدًّا لازمته أربع عشرة سنة فما جئته من مرة إلا وسمعت منه من التحقيقات والعجائب ما لم أسمعه قبل ذلك قال لي يومًا: ما إعراب زيد قائم؟ فقلت: قد صرنا في مقام الصغار نسأل عن ذلك! فقال لي: فيها مئة وثلاثة عشر بحثًا. فقلت: لا أقوم من هذا المجلس حتى أستفيدها. فأخرج لي تذكرتها فكتبتها منه انتهى.

قلت: وما سبقنا الأوروبيون في المعارف العمرانية والوسائل المادية إلا بكثرة اشتغالنا يزيد قائم إلى الحد الذي يخرج عن اللزوم، بينما كانوا يقضون أوقاتهم بالعلوم الرياضية والتجارب الطبيعية المفيدة وهكذا تفوقوا وتغلبوا علينا.

وممن نبغ في زمان السلطان محمد الأول العثماني، الشيخ عبد اللطيف المقدسي، وكان عالمًا ثم مال إلى التصوف وسكن بروسة ومات فيها. ومنهم العارف بالله عبد الرحيم بن الأمير عزيز المرزيفوني وكان متصوفًا أيضًا. ومنهم العارف بالله بير الياس الأماسي، وكان من الزهاد الأتقياء، وله مريدون. ومنهم عبد الرحمن شلبي ابن بنت بير الياس. ومنهم شجاع الدين القراماني. ومنهم بدر الدين الدقيق. ومنهم العارف مظفر الدين الأرندوي. ومنهم بدر الدين الأحمر. ومنهم بابا نخايش الأنقروي. ومنهم صلاح الدين البولوي. ومنهم مصلح الدين خليفة. ومنهم عمردده البروساي. ومنهم الشيخ لطف الله، وكل هؤلاء من مشاهير الأتقياء رحمهم الله.

وخلفه ابنه مراد وكان عمر مراد عندما تولي السلطنة ثماني عشرة سنة، وبدأ عمله بمهادنة أمير الفرامان، وملك المجر، وثار على مراد عمه مصطفى، وعضده ملك القسطنطينية فتغلب مراد على عمه وأخذ أسيرًا وشنقه، وزحف على القسطنطينية وجرت معركة شديدة إلا أن الأتراك لم يقدروا ذاك اليوم على فتح البلدة، أما في الأناضول فاستولي مراد على إمارة (آيدين) بعد أن كان أمراؤها استقلوا في أثناء الفتنة التي وقعت بين أولاد السلطان بايزيد، وكذلك استولى على «صاروخان» وعلى «منتشة» وعلى «بلاد القرامان» وعلى نصف إمارة «قسطموني» فاسترجع مراد جميع ما كانت معركة أنقرة المشئومة مع تمرلنك أخسرته إياه من البلدان.

ولما استراح فكر مراد من جهة آسيا وجه همته نحو أوروبا، وكان «جورج برانكوويتش» ملكًا على الصرب، و«سيجيسموند» ملكًا على المجر، فظفر العثمانيون بالمجر ظفرًا عظيمًا فاضطر «برانكوويتش» خوفا على ملكه أن يخضع ويؤدي سنويًّا خمسين ألف دوكه للسلطان مراد، ويقطع كل علاقة مع المجر.

واحتل العثمانيون «كروش واتس» في قلب بلاد الصرب، ثم وجه السلطان قوته صوب بلاد «الأرناءوط» وكان الجنوبي منها يليه «بنو توكشي» والقسم الشمالي يليه «جان كستريوت» فاستولى السلطان على القسمين، ثم زحف نحو بلاد الفلاخ أي رومانية فخضع أميرها «فلاد دارا كول» للسلطان ولكن «سيجيسموند» ملك المجر ثار، ومالأه ملك الصرب وأمير الفلاخ من جهة أوروبا، وأمير القرامان من جهة آسيا، فقهرهم السلطان جميعًا، واستسلم أمير الفلاخ للسلطان، وطلب ملك الصرب العفو، وأزوج السلطان ابنته فبقي ملك المجر وحده برأسه، فعاث الأتراك في بلاده ورجعوا بسبعين ألف أسير، ثم استأنف «برانكو ويتش» ملك الصرب ثورته، فزحف السلطان إلى بلاد الصرب، إلا أنه لم يقدر على بلغراد، فرجع عنها بعد حصار ستة أشهر، وأما المجر فكان ظهر فيهم بطل اسمه «جان هونياد» فهزم العثمانيين وقتل منهم عشرين ألفا مع قائدهم مزيد بك، فأرسل السلطان «شهاب الدين باشا» ومعه ثمانون ألف مقاتل للأخذ بالثأر فكسرهم «هونياد» بفئة قليلة، وأخذ أكابر قوادهم أسرى، ووالى الهزائم على العثمانيين، ثم زحف السلطان بنفسه فانهزم هو أيضًا في واقعة «نيشل» وخسر ألفي قتيل، وأربعة آلاف أسير، وتقهقر إلى الوراء، ثم تقدم هونياد إلى الأمام، واستولى على مدن كثيرة للعثمانيين، فاضطر السلطان مراد للصلح وأعاد إمارة الفلاخ إلى أميرها «دراكول».

وعقد هدنة مع المجر إلى عشر سنوات، وصارت بلاد الصرب وبلاد الفلاخ تابعة لمملكة المجر، فحزن السلطان من هذه الحوادث، وعقب ذلك أن ولده «علاء الدين» توفي فخلع السلطان نفسه وذهب معتزلًا الملك وأقام «بمغنسيا» وتولى مكانه ابنه محمد الثاني وهو في الرابعة عشرة من العمر، ولم يصل السلطان إلى مغنيسيا حتى نقض المجر عهدهم بتحريض البابا الذي أرسل إليهم أن العهد ليس مسئولًا إذا كان مع المسلمين فزحف «هونياد» واستولى على بلاد البلغار، وحاصر «وارنه» فرجع السلطان إلى أوروبا وزحف «هونياد» وهزمه، وكان معه «الكردينال سيزار يني» رسول البابا، فقتل الكردينال في المعمة، وبعد هذه الطائلة على المجر رجع السلطان إلى عزلته وأراد أن يستريح، وإذا بالانكشارية قد قاموا بثورة في أدرنة فجاء السطلان بنفسه فأطاعوا، ثم زحف بستين ألف مقاتل على بلاد اليونان فدوخها وانعطف نحو بلاد الأرناءوط، وكان أمير هذه البلاد المسمى أمير المردريت جعل أولاده الأربعة رهائن عند السلطان.

ومنهم «جورج» الذي تربى في الإسلام، وكان السلطان يحبه جدًّا لشجاعته، وهو الذي أطلق عليه اسم «إسكندر بك» إلا أن إسكندر بك هذا لم ينس وطنه، فانسل خفية وأثار الأرناءوط على العثمانيين وهزم القائد «علي باشا» واستقل بالبلاد، فسرح السلطان اليه «فيروز باشا» و«مصطفى باشا» بعساكر وافرة فتغلب إسكندر بك عليهما، وأخذ مصطفى باشا أسيرًا، فاضطر السلطان مراد أن يخرج من عزلته مرة ثالثة وزحف بمئة ألف مقاتل وهزم الأرناءوط واستولى على «دبرة» بعد معارك شديدة.

وانتهز هذه الفرصة «جان هونياد» المجري وشن الغارة على العثمانيين بجيش عدده أربعة وعشرون ألفًا، منهم عشرة آلاف من الفلاخيين ولم ينضم إليه ملك الصرب خوفًا من السلطان، فتلاقى هونياد وجيشه في صحراء قوصوه مع السلطان مراد وجيشه فبقي القتال ثلاثة أيام، ولكن انتهت الواعقة بانكسار المجر، وتفرغ السلطان لمحاربة إسكندر بك فلم يقدر عليه، وبقي يناوشه القتال معتصمًا بالجبال ومات السلطان مراد في فبراير سنة ١٤٥١.

بويع له بالسلطنة سنة خمس وعشرين وثمان مئة ومن علماء عصره المولى محمد بن أرمغان، انتهت إليه رئاسة الفتوى في بروسة بعد المولى شمس الدين الفناوي.

ومنهم ابنه محمد شاه استقضي ببروسة.

ومنهم ابنه يوسف وكان مدرسًا.

ومنهم المولى محمد بن بشير، وكان من مدرسي بروسة.

ومنهم المولى شرف الدين بن كمال القريمي.

ومنهم المولى سيد أحمد بن عبد الله القريمي ومات بالقسطنطينية بعد فتح السلطان محمد الثاني لها.

ومنهم السيد علاء الدين السمرقندي وكان عالمًا ثم مال إلى التصوف.

ومنهم أحمد بن إسماعيل الكوراني كان فقهيًا أصوليًّا ارتحل إلى القاهرة وأجازه ابن حجر في الحديث وجاء الكوراني إلى بلاد الروم فأجله السلطان مراد الثاني وأعطاه مدرسة جده مراد الأول في بروسة ثم مدرسة جدا بايزيد بلدوم في بروسة أيضًا. روى صاحب «الشقائق النعمانية» أن الأمير محمد بن السلطان مراد — وهو الذي صار فيما بعد السلطان محمد الفاتح — كان أرسل إليه والده عدة من المعلمين ليعلموه فلم يمتثل أمرهم ولم يقرأ شيئًا، حتى إنه لم يختم القرآن، فطلب السلطان مراد رجلًا ذا مهابة وحدة ليتمكن من تعليم ابنه، فذكروا له المولى الكوراني فجعله معلمًا لولده، وأعطاه بيده قضيبًا يضربه إذا خالف أمره، فذهب إليه والقضيب بيده فقال له: أرسلني والدك للتعليم وللضرب إذا خالفت أمري. فضحك السلطان محمد من هذا الكلام، فضربه به المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربًا شديدًا حتى خاف منه السلطان محمد، وختم القرآن في مدة يسيرة، ففرح بذلك السلطان مراد، وأرسل إلى المولى الكوراني أموالًا عظيمة، ثم إن السلطان محمد خان لما جلس على سرير السلطنة بعد وفاة أبيه عرض على الكوراني الوزارة فلم يقبل وقال له: إن من في بابك من الخدام والعبيد إنما يخدمونك لأن ينالوا وزارة آخر الآمر، وإذا كان الوزير من غيرهم تنحرف قلوبهم عنك فيختل أمر سلطتك. فاستحسنه السلطان محمد وعرض عليه قضاء العسكر فقبله، ولما باشر أمر القضاء أعطى التدريس والقضاء لأهلها من غير عرض على السلطان، فأنكره السلطان ولكن استحيا من أن يظهره له، فشاور الوزراء فأشاروا على السلطان بأن يقول له: سمعت أن أوقاف جدي في بروسة قد اختلت فلا بد من أن تداركها. فلما قال له السلطان هذا الكلام قال الكوراني: إن أمرتني بذلك أصلحها، فقال السلطان: هذا يقتضي زمانًا مديدًا، فقلده قضاء بروسة من توليه الأوقاف، فقبل الكوراني وذهب إلى بروسة، وبعد مدة أرسل السلطان إليه واحدًا من خدامه بيده مرسوم السلطان وضمنه أمرًا يخالف الشرع، فمزق الكتاب وضرب الخادم، فاشمأز السلطان لذلك فعزله ووقع بينهما نفور، فارتحل المولى الكوراني إلى مصر وسلطانها يومئذ قايتباي، فأكرمه غاية الإكرام، ثم إن السلطان محمدًا الفاتح ندم على ما فعله، فأرسل إلى السلطان قايتباي يلتمس منه أن يرسل المولى الكوراني إليه فحكى السلطان قايتباي ذلك للكوراني وقال له: لا تذهب إليه فإني أكرمك فوق ما يكرمك هو. قال الكوراني: نعم هو كذلك إلا أن بيني وبينه محبة عظيمة كما بين الوالد والولد، وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر، وهو يعرف أني أميل إليه بالطبع، فإن لم أذهب إليه يفهم أن المنع من جانبك فيقع بينكما خلاف. فاستحسن السلطان قايتباي هذا الكلام وأعطاه مالًا جزيلًا وهيأ له أسباب السفر، وأرسل معه هدايا إلى السلطان محمد، فلما جاء إلى القسطنطينية ولاه السلطان قضاء بروسة ثانية سنة ٨٦٣ ثم قلده منصب الفتوى وعاش في كنف حمايته عيشًا رغدًا، وصنف تفسيرًا للقرآن العظيم سماه «غاية الأماني في تفسير السبع الثاني» عقب فيه على العلامتين الزمخشري والبيضاوي وشرح البخاري وسماه ﺑ«الكوثر الجاري علي رياض البخاري» وله تصانيف أخرى، وكان قوالًا بالحق، وكان يخاطب الوزير والسلطان باسمه، وكان إذا لقي السلطان يسلم عليه ولا ينحني له، ويصافحه ولا يقبل يده، ولا يذهب إليه يوم عيد إلا إذا دعاه، وكان رحمه الله ينصح للسلطان محمد الفاتح فيقول له: إن مطعمك حرام، وملبسك حرام، فعليك بالاحتياط. فاتفق في بعض الأيام أنه أكل مع السلطان فقال له السلطان: أيها المولى أنت أكلت أيضًا من الحرام! فقال: ما يليك من الطعام حرام، وما يليني منه حلال. فحول السلطان الطعام، فأكل المولى فقال السلطان: أكلت من جانب الحرام؟! فقال المولى: نفد ما عندك من الحرام، وما عندي من الحلال، فلهذا حولت الطعام. وتوفي الكوراني سنة ٨٩٣ في القسطنطينية.

ومنهم المولى مجد الدين، صار قاضي عسكر في زمان الفاتح.

ومنهم المولى خضر بك بن جلال الدين، أعطاه السلطان محمد مدرسة جده في بروسة، وكان علامة يلقب بجراب العلم.

ولما فتح محمد الفاتح القسطنطينية جعله قاضيًا فيها، وهو أول قاض بتلك العاصمة، وتوفي فيها ودفن في جوار أبى أيوب الأنصاري عليه رحمه الله.

ومنهم المولى إبراهيم بن الخطيب.

ومنهم المولى خضر شاه من منتشة قرأ في بلاده ثم ارتحل في طلب العلم إلى مصر وعاد إلى الروم، وكان زاهدًا وتوفي قاضيًا.

ومنهم المولى محمد بن قاضي أيا جلوغ وكان عالمًا زاهدًا.

ومنهم المولى علاء الدين علي الطوسي وأصله من العجم وجاء إلى بلاد الروم، ولما فتح السلطان محمد الثاني قسطنطينية جعل ثمانيًا من كنائسها مدارس وأعطى واحدة للطوسي، وهي مدرسة جامع زيرك، وجاءه السلطان محمد الفاتح مرة وأمر بأن الطوسي يدرس كالعادة، وجلس على يمينه وجلس محمود باشا الوزير على يساره، وصار الطوسي يقرأ في شرح العضد للسيد الجرجاني، وحل كثيرًا من الدقائق فطرب السلطان، ويقال إنه قام وقعد من شدة طربه، وخلع عليه بعد الدرس وأعطاه عشرة آلاف درهم، وأحسن إلى جميع الطلبة ثم أعطاه السلطان مدرسة والده السلطان مراد في أدرنة، وعين له كل يوم مئة درهم، ثم أمر السلطان محمد المولى الطوسي والمولى خوجه زاده أن يصنف كل منهما كتابًا للمحاكمة بين تهافت الإمام الغزالي والحكماء، فكتب المولى خوجه زاده كتابه في أربعة أشهر، وكتب المولى الطوسي كتابه في ستة أشهر، ففضل الناس كتاب خوجه زاده وأعطى السلطان محمد كلًّا منهما عشرة آلاف درهم، وزاد خوجه زاده خلعة نفيسة، فكان ذلك سببًا في ذهاب المولى الطوسي إلى بلاد العجم.

ومنهم المولى حمزة القراماني. والمولى ابن التمجيد وكان معلمًا للسلطان محمد.

ومنهم المولى علي العجمي حصل العلوم في بلاده وقيل قرأ على السيد الجرجاني، ثم أتى بلاد الروم ونزل بقسطموني فأكرمه أميرها إسماعيل بك غاية الإكرام ثم أتى إلى أدرنة فأعطاه السلطان مراد الثاني مدرسة جده السلطان بايزيد يلدرم في بروسة، وعاش إلى زمان السلطان الفاتح. ومهم المولى على القومناني وبلده قريبة من مدينة طوقات.

ومنهم المولى حسام الدين الطوقاتي.

ومنهم المولى إلياس بن إبراهيم السينابي.

ومنهم المولى إلياس بن يحيى بن حمزة.

ومنهم المولى محمد بن ميناس.

ومنهم المولى علاء الدين القوجه حصاري ارتحل إلى بلاد العجم وقرأ على التفتازاني والسيد ا لجرجاني.

ومنهم المولى قاضي بلاط.

ومنهم المولى بخشايش صنف رسائل للسلطان مراد.

ومنهم المولى محمد بن قطب الدين الأزنيقي.

ومنهم المولى فتح الله الشيرواني قرأ على السيد الشريف الجرجاني، وقرأ العلوم الرياضية على قاضي زاده الرومي بسمرقند ثم أتى بلاد الروم وتوطن قسطموني.

ومنهم المولى شجاع الدين إلياس ويلقب بشيخ أسكوب درس فيها مدة أربعين سنة.

ومنهم المولى إلياس الحنفي.

ومنهم المولى سليمان شلبي ابن الوزير خليل باشا، وكان خليل باشا وزيرًا للسلطان مراد خان، وتولى هو القضاء بالعسكر المنصور في زمن والده.

ومنهم المولى آقبيق وهو من العارفين.

ومنهم الشيخ محمد بن الكاتب، توطن غاليبولي منقطعًا عن الخلق.

ومنهم الشيخ أحمد بن الكاتب أخوه، وسكن غاليبولي أيضًا.

ومنهم المولى شيخي من بلاد كرميان.

ومنهم مصلح الدين المعروف بإمام الدباغين بمدينة أدرنة.

ومنهم الشيخ بيري خليفة الحميدي.

ومنهم الشيخ تاج الدين إبراهيم بن بخشي فقيه.

ومنهم الشيخ العارف حسن خوجه من بلاد قرصي.

ومنهم شمس الدين من خلفاء حسن خوجه.

وخلفه ابنه محمد الثاني الفاتح بويع له في سنة خمس وخمسين وثمان مئة للهجرة، وكانت آسيا الصغرى أي الأناضول كلها في يده ما عدا إمارة القرامان وولاية طرابزون التي كانت تابعة للقسطنطينية، أما في أوروبا فلم يكن للروم غير القسطنطينية وضواحيها، وأما بلاد اليونان فكانت مقسمة بين البنادقة وبين بعض أمراء من الأهالي، وأما الأرناءوط فكانت تحت حكم إسكندر بك، وأما بوسنة فكانت لها إمارة مستقلة، وأما الصرب فكانت تؤدي الجزية للسلطنة العثمانية، وكان باقي ما بقي تابعًا للسلطنة رأسًا، فلما تولى محمد الثاني فكر في فتح القسطنطينية حتى يجمع شمل المسلمين، وكان «بايزيد يلدرم» بنى من قبل بإزاء القسطنطينية حصنًا، من جهة آسيا، فجاء محمد الثاني فبنى حصنًا يقابله من جهة أوروبا، فلما رأى الإمبراطور قسطنطين مباشرة السلطان محمد هذه البناية أرسل يستعطفه وعرض عليه دفع إتاوة سنوية فاستنكف السلطان عن قبول أي شيء وبدأت الحرب، فاستأصل السلطان الروم الذي في ضواحي القسطنطينية وأجمع كل من الفريقين على القتال، وصنع رجل مجري للسلطان مدفعًا كبيرًا يرسل قذائفه إلى مسافة ميل، كان موكلًا به سبع مئة رجل، فكان تأثير هذا المدفع عظيمًا بضخامته وبعد مرماه.

وكان السلطان محمد يقدر أن يحشد مئات ألوف من المقاتلة، أما الإمبراطور قسطنطين فلم يقدر أن يحشد إلا أربعة آلاف وتسع مئة وثلاثة وستين مقاتلًا، فهذا العدد كان يقابل مائتين وخمسين ألف جندي عثماني، معها أربع عشرة بطارية من المدافع، يعاونها من البحر مئة وثمانون سفينة حربية! فاستصرخ «قسطنطين باليولوغ» ممالك النصرانية فخذلته، وكان ما أنجدته به هو أن البابا وعد بإعلان حرب صليبية إذا كانت الكنيستان الشرقية والغربية تتحدان، وأرسلت جنوة أسطولًا صغيرًا خمس سفائن، وتمكن خمسة آلاف مقاتل من الغرباء من الوصول إلى المدينة فنقل السلطان مراكبه البحرية إلى البر، وأزلقها على الشحم وأنزلها في خليج «قاسم باشا» في ليلة واحدة، ولما أصبح الصباح كان سبعون سفينة حربية في وسط الخليج، وبقي الحصار خمسين يومًا فتهدمت الأبراج، فأرسل السلطان إلى قسطنطين يعرض عليه الاستسلام فامتنع، فعرض عليه السلطان أن يوليه بلاد المورة بدلًا من فروق فاستنكف أيضًا، وفي ٢٩ مايو من تلك السنة قام العثمانيون بهجوم عام، وكان المهاجمون مئة وخمسين ألفًا، فدافع الروم في ذلك اليوم دفاعًا شديدًا، ولكن المسلمين دخلوا من الأسوار، فلجأ الروم إلى كنيسة آيا صوفيا يرجون المعجزة التي تنقذهم، فدخل عليهم العثمانيون من كل جهة وأخذوا البلدة عنوة، وقتل الإمبراطور قسطنطين وهو يقاتل بنفسه، وكان للاستيلاء على القسطنطينية دوي لا يوصف، ووصلت الأخبار إلى المورة فحل من الرعب في قلوب اليونانيين ما لا يحيط به تعريف، وأخذوا يجلون عن بلادهم إلى حيث لا يعلمون، وامتلأ البحر بالسفن التي تشحن الأثقال وتحمل الناس، ولجأ كثيرون من الأروام إلى الجزر الخاصة بالبنادقة والجنوبية، فصدر أمر السلطان بتأمين الناس ونادى المنادي في كل مكان بأن كل رومي يريد الرجوع إلى وطنه فهو آمن على حياته ودينه ومآله، وترك السلطان للأروام عددًا كبيرًا من الكنائس، وكان البطريرك قد قتل في المعمعة، فعين السلطان بطريركًا جديدًا اسمه «جناديوس» وسلمه العصا وقال له: إني أعطيك الامتيازات التي كان يتمتع بها أسلافك. وصار البطريرك منذ ذلك اليوم رئيسًا للأمة الرومية، وكان له في الدولة العثمانية «رتبة وزير» وكانت عنده محكمة، ومجلس روحاني، فكان يحكم بين الأروام في جميع القضايا، وكان المجلس الروحاني أشبه بمحكمة استئناف، وكان أعضاؤه ذوي امتيازات أيضًا فلا يدفعون شيئًا من الخراج، وبالاختصار لم يتعرض الأتراك إلى الأروام في دينهم ولا في أملاكهم إلا كنيسة «آياصوفيا» فقد جعلها السلطان جامعًا.

وبعد أن انتهى السلطان من فتح «العاصمة الرومانية» أخضع بلاد اليونان بأجمعها، ودخلت جيوشه بلاد الصرب، وسبت خمسين ألف نسمة من رجال ونساء، فأرسل «جان هويناد» بطل المجر إلى «برانكو ويتش» ملك الصرب يعرض عليه التحالف للزحف معًا لقتال العثمانيين، فبعث برانكو ويتش إلى هو يناد يقول له: ماذا تصنع فيما إذا تغلبت أنت من جهة الكنيسة؟ فأجابه هو يناد: إنني أقرر العقيدة الكاثوليكية. وكان سفراء برانكو ويتش سألوا السؤال نفسه السلطان محمد الفاتح فأجابهم: بجانب كل جامع أبني كنيسة وكل من الفريقين يعبد ربه كما يشاء. فسار السلطان بمئة وخمسين ألف مقاتل وثلاث مئة مدفع وحاصر بلغراد، لكنه لم يقدر عليها ولحقت به خسائر كثيرة في الحصار، وكان «هويناد» قد جرح في المعركة ومات، فضعفت المقاومة ولم تمض سنتان حتى دوخ العثمانيون جميع بلاد الصرب، وبعد أن انتهوا من الصرب زحفوا إلى «بوسنة» وأخذ محمود باشا قائد الأتراك أمير «البوشناق» أسيرا ولكنه وعده بالأمان على حياته، ثم إن السلطان محمدًا أخذ فتوى من شيخ الإسلام بجواز قتله. وأما الأهلي فمنهم من هاجر

ومنهم من أسلم، وأكثر من أسلم كانوا من طائفة يقال لها «البوغوميل» وكانت مسيحية لكنها لم تكن بعيدة عن العقيدة المسيحية، وكان من هذه النحلة أقوام في بلاد البلغار، ونظرًا لتعصب المجر للكنيسة الكاثوليكية طالما اضطهدوا هؤلاء البوغوميل، وأرادوا إكراههم على قبول الكثلكة، وكانت الباباوات لا تزال تلح على ملوك المجر باستئصال هذه الطائفة، فكان هؤلاء يعانون ألوان العذاب، فلما دخل الأتراك إلى بلاد البلقان التي يقولون لها «الرومللي» بدأ هؤلاء البوغوميل يدخلون في الإسلام، وهذا قبل أن يفتح السلطان محمد الفاتح مملكة بوسنة، ولكن عندما دخل السلطان بجيوشه أسلم سائر البوغوميل اختيارًا من تلقاء أنفسهم، فمؤرخو الإفرنج يزعمون أنه لما دخل السلطان إلى بوسنة خير الناس بين الإسلام والنصرانية، وأن الذي أسلم بقيت له أملاكه ومن لم يقبل الإسلام جرده الأتراك من ثروته، وكل هذا من أكاذيب المؤرخين الأوروبيين، والحقيقة هي ما ذكرناه، ولو كان السلطان محمد الفاتح عامل البوشناق هذه المعاملة لكان أولى به أن يعامل النصارى بها في سائر البلاد، والحال كما هو معلوم ومشهور أن السلاطين العثمانيين لم يتعرضوا لأحد في دينه، فالبوشناق المسلمون لم يكن أصلهم نصارى بالمعنى المعروف، بل كانوا من هذه الطائفة التي وصفنا شيئًا من عقيدتها والتي كانت أرقى من جميع سكان تلك البلاد.

ولنا رحلة إلى بلاد «بوسنة وهرسك» جمعنا فيها كل المعلومات اللازمة عن أصل «البوشناق» وعن أصل «البوغوميل» ومرادنا نشرها في أول فرصة، وقد رأينا بأعيننا قبور «البوغوميل» القديمة وليس عليها شيء من الصلبان، ولا من علامات النصرانية، وبديهي أنه لما كان البوغوميل هم في الأصل ذوي الوجاهة في بلاد بوسنة وهرسك، صاروا هم ذوي الوجاهة في الإسلام أيضًا، وكان استيلاء الأتراك على بوسنة سنة ١٤٦٣، وفي تلك المدة استولى السلطان محمد على بلاد «طرابزون» التي كان يليها ملوك من الأروام من عائلة «كومين» ثم زحف السلطان لفتح بلاد الفلاخ، فقاومه أميرها «فلاد» مدة من الزمن، لكنه انهزم والتجأ إلى بلاد المجر، فجعل السلطان أخاه «رادول» أميرا على الفلاخ، فأما الأرناءوط فكانوا لا يزالون عصاة، وكان إسكندر بك لا يزال مظفرًا في حروبه مع الأتراك فزحف السلطان بنفسه إلى بلاد الأرناءوط، واستولى على بعض المدن مثل «برات» وغيرها ثم رجع وترك القيادة «لبلبان باشا» فلم يوفق، وبقيت ألبانيا متمردة إلى أن مات إسكندر بك.

واشتعلت الحرب بين السلطان وبين جمهورية البندقية، فأرسل السلطان أسطولًا مؤلفًا من ثلاث مئة سفينة حربية عليها سبعون ألف مقاتل تحت قيادة محمود باشا فاستولى هذا الأسطول على جزيرة نيفروبون وأخذها عنوة، وأستأصل حاميتها، فتحالف البنادقة ومملكة نابولي والبابا مع لوزون حسن من أمراء ا لتركمان في شرقي الأناضول، وذلك لمحاربة السلطان، فزحف السلطان لصد أوزون حسن بمئة ألف مقاتل وقهره في واقعة «أو قلق بيلي» وفي ذلك الوقت استولى على بر القرامان في جنوب الأناضول بعد مقاتلات شديدة، وكان السلطان اعتزم فتح بلاد البغدان «من رومانية الحاضرة» فساق مئة ألف مقاتل لفتحها وكان أميرها «إيتيان الرابع» صلبًا شديدًا فقاوم أشد مقاومة وأوقع بالأسرى، فحنق السلطان وزحف من جهة الجنوب وأوعز إلى تتر القرم بالزحف من الشرق، وكان في القرم عائلة مالكة من التتر تنتسب إلى «جنكيز خان» وكانت هذه المملكة تشتمل على شبه جزيرة القرم وبلاد قوبان وبلاد الشركي، ولها جانب من بلاد البغدان وبسرابيا، وكان فيها عدة إمارات تخضع للخان الكبير مثل آل «شيرين» و«آل منصور» و«آل سجد» و«آل إرغين» و«آل بارون» وكل هذه العائلات كانت سلائل أعوان «جنكيز خان» وكان الجنويون قد استولوا على جانب من القرم وأقعوا الشقاق بين أمراء التتر، فجاء السلطان محمد الفاتح وطرد الجنوبية من هناك بأسطول مؤلف من ثلاث مئة شراع، واستولى هو على بلاد القرم، ووضع على كرسي تلك المملكة «منفلي غراني» وصار من الملوك التابعين للسلطنة العثمانية واستولى الأسطول العثماني على مصاب نهر الطونة، وزحف بمئة ألف مقاتل لقتال «إيتيان الرابع» فكانت الحرب سجالًا، وكانت أساطيل البندقية تجتاح سواحل الأناضول، واشتعلت الحرب بين البنادقة والسلطان في ألبانيا، وبعد حصار شديد استولى السلطان على «أشقودره» سنة ١٤٧٩ ثم تصالحت جمهورية البندقية مع السلطان فتفرغ لقتال المجر وزحف أربعون ألف مقاتل من الأتراك إلى ترنسيلفانيا، ثم إن الخلف وقع بين القواد فظفر بهم «إيتيان باتوري» أمير ترانسيلفانيا والجنرال مايتاس كورفين، وهزموا الجيش الإسلامي وارتكبوا من فظائع التعذيب للأسرى ما روته التاريخ، ولكن السلطان لم يتوقف في فتوحاته بل صمم على فتح «إيطاليا» أيضًا وأرسل أسطولًا ففتح عنوة مدينة «أوترانت» في ١٤ أغسطس ١٤٨٠ فوقع الرعب في جميع إيطاليا، وكان مسيح باشا يغزو «رودس» لطرد فرسان مار يوحنا أورشليم، وهم الذين كان يسميهم العرب بالاسبتارية ولهم ذكر شهير في الحروب الصليبية، ولما طردهم المسلمون من فلسطين جعلوا رودس مركزًا لهم، وكانت قاعدة سياستهم محاربة المسلمين، فجاء مسيح باشا بمئة وستين شراعا وحصر رودس، وأنزل العساكر إلى البر، وبقي الحصار مدة شهرين فدافع الاسبتارية دفاعًا شديدًا واضطروا مسيح باشا إلى رفع الحصار، وبعد ذلك بقليل مات السلطان الفاتح في ٢ مايو ١٤٨١. وخلاصة أعمال السلطان محمد الفاتح هو أنه فتح القسطنطينية، وكان ذلك فتحًا مبينًا انتهت به القرون الوسطى فصيرها عاصمة للإسلام وفتح أيضًا ملحقاتها وفتح مملكتي الصرب وبوسنة وبلاد الأرناءوط وجمع جميع آسيا الصغرى في ملكه.

ولم يكن السلطان الفاتح من أعظم الفاتحين في الحروب فقط، بل امتاز بحسن الإدارة، وتنظيم الملك وهو الذي حرر النظام المسمى «بقانون نامه» وفيه جميع أنظمة السلطنة من عملية، وإدارية، وسياسية، وعسكرية، وسارت الدولة العثمانية بموجب هذه الأنظمة مدة طويلة، ولا سيما التراتيب المتعلقة للقضاة والعلماء والمدرسين، فإنه اعتنى بها الفاتح أشد الاعتناء، وكان الفاتح نفسه على جانب عظيم من العلم وحسن الثقافة يتكلم بلغات متعددة، وكان بدون شك من أعاظم رجال الدهر ومن حسنات الإسلام الكبرى، وجميع هؤلاء السلاطين من عثمان إلى الفاتح لم يوجد منهم إلا بطل مجاهد وسلطان عظيم الشأن، وقلما تصادف ذلك في دولة أخرى بهذا النسق خلفًا عن سلف.

وفي زمان السلطان محمد الفاتح نبغ من العلماء:

المولى خسرو قاضي العسكر المنصور أخذ العلم عن المولى حيدر الهريو وصار مدرسًا بمدينة أدرنة، ولما فتح السلطان القسطنطينية جعله قاضيًا فيها مع التدريس في آيا صوفيا، وكان إذا دخل جامع آيا صوفيا يقوم له من الجامع كلهم، ويصلي عند المحراب، وكان السلطان ينظر إليه من مكانه ويقول لوزرائه: انظروا هذا أبو حنيفة رفاقه. وكان كثير الاشتغال بالمطالعة، وله تآليف متعددة ومساجد متعددة بناها في القسطنطينية ومات فيها ونقل جثمانه إلى بروسة.

ومنهم خير الدين خليل بن القاسم بن الحاج صفا.

ومنهم المولى محمد الشهير ﺑ«زيرك وكان مدرسًا بمدرسة السلطان مراد في بروسة ووقعت له مناظر من خواجه زاده، فوقع في نفس المولىزيرك شيء فترك القسطنطينية وذهب إلى بروسة، فعاد السلطان يحاول تطييب خاطره وعرض عليه مناصب عالية فرفضها.

ومنهم مصلح الدين مصطفى بن يوسف بن صالح البورسوي المشتهر بين الناس بخواجه زاده، والمذكور كان أبوه من التجار فمال إلى تحصيل العلم برغم إرادة أبيه، ولم يكن أبوه مع ثروته يعطيه شيئًا فعاش معيشة الفقراء، وتولى القضاء في زمان السلطان مراد، ولما انتهت السلطنة إلى الفاتح — وكان محبًّا للعلم والعلماء — صار هؤلاء يشدون الرحال إليه وكان خواجه زاده ممن قصده السلطان، فلقيه وهو ذاهب من القطسنطينية إلى أدرنة، فلما رآه محمود باشا الوزير الأكبر قال له: أصبت في مجيئك لأني ذكرتك عند السلطان فاذهب إليه وعنده البحث. فذهب إلى السلطان فسأل عنه فقال محمود باشا للسلطان: هو خواجه زاده. فكان من جانب السلطان المولى زيرك وفي الجانب الآخر المولى سيدي علي، فجلس خواجه زاده إلى جانب سيدي على واعترض على المولى زيرك وأفحمه، حتى قال له السلطان: كلامك ليس بشيء. ثم ذهب المولى زيرك وبقي خواجه زاده عند السلطان، ثم جعله السلطان معلمًا لنفسه، وقرأ عليه السلطان متن عز الدين الزنجاتي في التصريف، وصار مقربًا من السلطان إلى النهاية حتى حسده محمود باشا الوزير، وقال للسلطان: إن خواجه زاده بريد منصب قضاء العسكر. فقال السلطان: لأي شيء يريد أن يترك صحبتي؟ فقال الوزير: هكذا يريد. ثم قال الوزير لخواجه زاده: أمرك السلطان أن تصير قاضي العسكر. فقال: أنا لا أريد ذلك. قال الوزير: هكذا جرى الأمر. فامتثل خواجه زاده أمر الوزير وصار قاضيًا للعسكر، وكان والد خواجه زاده لا يزال في الحياة وكذلك إخوته، فجاءوا يزورونه وهو في منصبه العالي ورأوا ذلك الاقبال العظيم، فقال خواجه زاده لوالده: لو كنت أعطيتني مالًا لما صرت إلى هذا الجاه الذي تراه الآن. يشير بذلك إلى أنه في صغره لما عول خواجه زاده على طلب العلم وخالف ملك أبيه في التجارة أمسك أبوه عن الإنفاق عليه، فصار يكد ويجتهد حتى بلغ تلك الدرجة العالية، وكان الشيخ ولي شمس الدين البخاري رأى خواجه زاده وهو يطلب العلم في صباه وثيابه رثة، ورأى إخوته متجملين بالثياب النفيسة فسأل أباهم: لماذا أولادك هؤلاء كلهم عليهم علامات اليسار وولدك هذا وحده بحالة الفقر؟ فقال له: هذا لأني أسقطته من نظري حين ترك طريقتي. فقال الولي شمس الدين: إن هذا الولد سيكون له شأن عظيم ويقوم إخوته أمامه بمقام الخدم. وقد تحقق كلام الولي هذا لأن خواجه زاده عندما صار قاضي العسكر صنع ضيافة عظيمة لأبيه وحشد إليها الأكابر والأعيان والعلماء، فجلسوا على مآدبهم ونظرًا للازدحام لم يوجد مكان في السفرة لإخوة خواجة زادة فلبثوا واقفين كالخدم، وتذكر خواجه زاده قول الولي شمس الدين. وصنف خواجه زاده كتاب التهافت بأمر السلطان وقال المولى الفناري: المصيبة كل المصيبة أن الخواجة زاده قبل القضاء إذ لو داوم على الاشتغال بالتأليف لظهرت له آثار تتحير فيها الألباب.

ثم إن السلطان جعل محمد باشا القرماني وزيرًا، وكان متعصبا على المولى خواجه زاده لميل الوزير إلى المولى على الطوسي، فقال للسلطان الفاتح: إن خواجه زاده يشكو هواء القسطنطينية ويمدح هواء إزنبق. فقال السلطان: أعطيته قضاء أزنيق مع المدرسة التي فيها، فمضى خواجه زاده إلى إزنيق، ثم ترك القضاء واشتغل بالتدريس فقط ثم رجع إلى القسطنطينية بعد وفاة الفاتح، ولما جلس السلطان بايزيد بن السلطان الفاتح على سرير السلطنة أعطاه المدرسة السلطانية في بروسة، مع منصب الفتوى فيها، وكان لا يكتب الفتوى إلا بعد النظر في الفتاوى، وإذا تكررت عليه مسألة واحدة لا يهمل أن يعيد النظر في الفتاوى قائلًا: لو سامحت نفسي في هذه لربما تسامحت في غيرها. وكان إذا لم يجد المسألة في الفتاوى سلك مسلك الرأي، وكان يقول: إني قد أرجح وجهًا من الوجوه ثم إذا طالعت في الكتب وجدت هذا الوجه قد ذهب إليه بعض الأئمة قبلي. وكان يقول: ما نظرت في كتاب أحد بعد تصانيف السيد الشريف بنية الاستفادة. وكان خواجه زاده يقول: إني صابح إقدام وحجام فقيل له: ما تريد بذلك؟ فقال: إذا كملت مطالعتي لا أخاف أحدًا كائنًا من كان، وإذا لم تكمل خاف كل أحد. ونقل عنه أنه قال: إن العلوم على ثلاثة أقسام: قسم منها ما يمكن تقريره وتحريره، وهو المكتوب في المصنفات. ومنها ما لا يمكن تقريره ولا يجوز تحريره، وهو الجاري في المباحثات. ومنها ما لا يمكن تقريره ولا تحريره، وهوما لا يمكن التعبير عنه لدقته إلا إذا حصل لأحد تلك الحالة الذوقية فيتكلم بالإيماء والإشارة. وأمر السلطان بايزيد خواجه زاده أن يكتب حاشية على شرح المواقف فامتثل أمره، وكان قد وقع شلل في يده اليمنى فكان يكتب الحاشية باليد اليسرى. وتوفي خواجه زاده سنة ثلاث وتسعين وثمان مئة. وكان له ولد اسمه الشيخ محمد من العلماء الكبار مال في آخر الأمر إلى التصوف.

ومن علماء عصر الفاتح المولى شمس الدين أحمد بن موسى الشهير ﺑ«الخيالي وكان عالمًا عاملًا ورعًا، ولما توفي تاج الدين الخطيب مدرس أزنيق طلب السلطان محمد الفاتح مدرسًا مكانه فعرض الوزير محمود باشا اسم الخيالي فقال له السلطان: أليس هو الذي كتب الحواشي على شرح العقائد وذكر فيها اسمك؟ قال الوزير: نعم هو ذلك. قال السلطان: إنه مستحق لهذا المنصب. وأعطاه المدرسة المذكورة وعين له كل يوم مئة وثلاثين درهمًا، ومات وهو مدرس فيها وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وكان كثير العبادة، حكى من لازمه أنه لم يره فرح ولا ضحك، وكان دائم الصمت لا يتكلم إلا عند مباحث العلوم.

ومنهم المولى مصلح الدين مصطفى القسطلاني، كان مدرسًا في مدرسة «ديموطقة» في الرومللي، ثم لما بنى الفاتح المدارس في القسطنطينية أعطاه واحدة منها، وصار قاضيًا بالعسكر المنصور، فخافه محمد باشا القراماني لأن القسطلاني كان قويًّا لا يداري أحدًا، فقال الوزير للسلطان: الأولى أن يكون للعسكر قاضيان، أحدهما القسطلاني يكون قاضيًا لعسكر الرومللي، والآخر يكون قاضيًا لعسكر الأناضول، وفي تلك المدة مات السلطان الفاتح وجلس السلطان بايزيد، فعزل القسطلاني عن قضاء العسكر، وكان له تصانيف عالية الدرجة ولم يتفرغ لأكثر منها لكثرة اشتغاله بالدرس والقضاء، وتوفي سنة إحدى وتسع مئة ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري.

ومنهم المولى محيي الدين محمد بن الخطيب كان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان بالقسطنطينية، وادعى مرة أنه يقدر على مباحثة خواجه زاده، فقال له السلطان الفاتح: أأنت تقدر على البحث معه؟ قال: نعم لا سيما أن لي مرتبة عند السلطان. فعزله السلطان محمد لهذا الكلام وكان طليق اللسان جريء الجنان، وقهر كثيرًا من علماء زمانه، ويروى عنه أنه ذهب ومعه جماعة من العلماء إلى السلطان بايزيد فقبل العلماء يد السلطان، وأما ابن الخطيب فلم يقبل يده ولا انحنى له، فلما خرجوا من حضرة السلطان قالوا له: كان الأليق أن تنحني له وتقبل يده! قال: أنتم لا تعرفون يكفيه فخرًا أن يذهب إليه عالم مثل ابن الخطيب وهو راضٍ بهذا القدر. ثم إن السلطان بايزيد جمعه مع المولى علاء الدين العربي وغيره من العلماء، وانتهى البحث إلى كلام غضب منه السلطان فصنف ابن الخطيب رسالة وذكر السلطان بايزيد خان في خطبتها وأرسلها إلى السلطان بيد الوزير إبراهيم باشا، فازداد السلطان غضبًا وقال للوزير: ما اكتفى بذكر ذلك الكلام الباطل باللسان حتى كتبه في الورق! اضرب برسالته وجهه وقل له يخرج من مملكتي. فالوزير كتم ذلك عن ابن الخطيب ولم يشأ كسر خاطره وأرسل إليه عشرة آلاف درهم باسم السلطان والسلطان لا يعلم ذلك وله مؤلفات كثيرة.

ومنهم المولى علاء الدين علي العربي، أصله من نواحي حلب، قرأ أولًا في حلب ثم قدم إلى بلاد الروم فقرأ على المولى الكوراني، وقال الكوراني له: أنت عندي بمنزلة السيد الشريف عند مبارك شاه المنطقي. وتحرير الخبر أن السيد الشريف كان قرأ شرح المطالع ست عشرة مرة، ثم قال في نفسه: أريد أن أقرأ هذا الكتاب على مصنفه، فذهب إليه وهو بهراة والتمس منه أن يقرأ عليه شرح المطالع، وكان الشيخ قد بلغ من الكبر عتيًّا فنظر إلى السيد الشريف فقال له: أنت شاب وأن شيخ كبير لا أقدر على التدريس فاذهب إلى مبارك شاه فهو يقرئك كما سمع مني. وكان مبارك شاه وقتئذ يدرس بمصر، فذهب السيد الشريف من هراة إلى مصر ومعه الكتاب، فقال له مبارك شاه: نعم إلا أنه ليس لك درس مستقل. ولا أذن له بالتكلم بل تقنع بمجرد السماع فرضي السيد الشروط كلها وحضر الدرس. وكان بيت مبارك شاه متصلًا بالمدرسة وله باب إليها، فخرج ليلة إلى صحن المدرسة وبينما كان يدور فيها سمع السيد الشريف يقول: قال الشارح كذا وقال الأستاذ كذا وأنا أقول كذا، وكرر كلمات لطيفة أعجبت مبارك شاه حتى رقص من شدة طربه، فأذن للسيد الشريف أن يقرأ ويتكلم وسود الشريف حاشية شرح المطالع هناك، فالمولى الكوراني قص على المولى العربي هذه القصة وقال له: إني أفتخر بك افتخار مبارك شاه بالسيد الشريف. ودرس المولى العربي بإحدى المدارس الثمان في القسطنطينية ثم صار مفتيًا فيها، وكان رجلًا قوي المزاج إلى الغاية يجلس عند الدرس مكشوف الرأس في أيام الشتاء، ويقال إنه كان يأتي النساء كل ليلة، وكان يغتسل في بيته مهما اشتد البرد، ثم يصلي مئة ركعة، ثم ينام، ثم يقوم للتهجد، ثم يطالع إلى الصبح، وقد ولد من صلبه سبع وستون نفسًا، ولما مرض مرض الموت عاد الوزراء ومعهم طبيب، فأشار عليه الطبيب بالاستحمام فلم يرض، فحمله الوزراء جبرًا على سرير قبض كل واحد طرفًا منه وذهبوا به إلى الحمام.

ومنهم المولى عبد الكريم كان هو والوزير محمود باشا والمولى إياس عبيدًا لمحمد أغا من أمراء السلطان مراد، وقد جيء بهم من بلادهم وهم صغار؛ فمحمود باشا صار فيما بعد وزيرًا للسلطان الفاتح. والمولى عبد الكريم قرأ العلوم بأسرها واشتهر بالفضل وأخذ عن المولى علي الطومي والمولى سنان العجمي ثم صار مدرسًا بإحدى المدارس الثمان التي أحدثها الفاتح بعد فتحه القسطنطينية وصار قاضيًا للعسكر ومات في أيام السلطان بايزيد خان.

ومنهم المولى حسن بن عبد الصمد الصمصوني، كان عالمًا فاضلًا محبًّا للفقراء، أخذ عن المولى خسرو، ودرس في إحدى المدارس الثمان، ثم معلمًا للسلطان محمد الفاتح ثم قاضيًا للعسكر المنصور، ثم قاضيًا لمدينة القسطنطينية، وكان محمود الطريقة في قضائه، وكان له خط حسن، كتب للسلطان الفاتح صحاح الجوهري بخطه.

ومنهم المولى محمد بن مصطفى بن الحاج حسن، قرأ على علماء عصره وصار قاضيًا بمدينة غاليبولي، ثم أعطاه السلطان محمد مدرسة والده بمدينة بروسة ثم اسْتُقْضِيَ فيها ثم استقضي بالقسطنطينية ثم صار قاضيًا للعكسر، ومات في سنة إحدى عشرة وتسع مئة في زمان السلطان بايزيدخان، وله تآليف منها حاشيته على تفسير سورة الأنعام للبيضاوي، وحاشيته في المحاكمة بيد الدواني ومير صدر الدين وكتاب في الصرف اسمه ميزان التصريف.

ومنهم علاء الدين علي بن محمد القوشجي، كان أبوه من خدام أولغ بك ملك ما وراء النهر، وكان حافظ البازي (وهو معنى القوشجي بالتركية) قرأ على علماء سمرقند وقرأ على قاضي زاده الرومي العلوم الرياضية، وكان الأمير أولغ بك أيضًا عالمًا بهذه العلوم فأخذها عنه، وبنى الأمير أولغ بك مرصدًا في سمرقند عظيمًا وتعين له المولى القوشجي هذا، وله زيج شهير. وبعد وفاة أولغ بك لم يعرف أولاده قدر القوشجي فرحل إلى تبريز، وكان أميرها السلطان حسن الطويل فأكرمه كثيرا وأرسله في رسالة إلى السلطان محمد العثماني، فلما جاء إلى الفاتح بالرسالة أكرمه فوق ما أكرمه السلطان حسن ورغب إليه أن يسكن في ظل حمايته فوعده بالمجيء بعد إتمام الرسالة، وعاد إلى السلطان حسن وأدى الجواب ثم أرسل الفاتح من جاء به إلى القسطنطينية بالحشمة الوافرة، وقدم للسلطان رسالة في علم الحساب وسماها المحمدية، ولا يوجد أنفع منها في هذا العلم. ثم حصلت حرب بين الفاتح والسلطان حسن الطويل فاستصحب السلطان المولى القوشجي وهو ذاهب إلى الحرب فصنف له في أثناء السفر رسالة في علم الهيئة سماها «الفتحية» ولما رجع السلطان من فتح العجك أعطى القوشجي مدرسة أيا صوفيا وأكرم أولاده وأتباعه، وكان معه مئتا نفس من الأتباع. ورووا أن المولى القوشجي ذكر مباحثة السيد الشريف مع العلامة التفتازاني ورجح جانب التفتازاني، وكان المولى خواجه زاده يقول: كنت أظن الأمر كذلك إلا أني حققت البحث المذكور، فظهر لي أن الحق في جانب السيد الشريف، فكتبت ذلك في حاشية كتابي وطالعها القوشجي فاستحسن ما كتبت. ولما لقي القوشجي السلطان محمد الفاتح قال له السلطان: كيف شاهدت خواجه زاده قال: لا نظير له في العجم والروم. قال السلطان: ولا نظير له في العرب أيضًا. وللقوشجي حاشية على أوائل شرح الكشاف للتفتازاني توفي في القسطنطينية ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري.

ومنهم المولى على بن مجد الدين محمد بن مسعود بن محمود بن محمد بن عمر الشاهروي البسطامي الهروي الرازي العمري البكري الشهير ﺑ«المولى «مصنفك» والكاف علامة التصغير عند العجم، ولقب بذلك لاشتغاله بالتصنيف مذ حداثة سنة، وهو من ذرية فخر الدين الرازي، ويقال إن الفخر الرازي صرح في بعض مصنفاته بأنه من ذرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل بل هو من ذرية أبي بكر الصديق رضى الله عنه.

ولد المولى «مصنفك» سنة ثلاثة وثمان مئة، وسافر إلى هراة لتحصيل العلم سنة اثنتي عشرة وثمان مئة، وصنف شرح الإرشاد سنة ثلاث وعشرين وثمان مئة أي وهو ابن عشرين سنة، وشرح المصباح في نحو سنة خمس وعشرين، وشرح آداب البحث سنة ست وعشرين، وشرح اللباب سنة ثمان وعشرين وشرح المطول سنة اثنتين وثلاثين، وشرح المفتاح للتفتازاني سنة أربع وثلاثين، وصنف حاشية التلويح سنة خمس وثلاثين، وشرح البردة والقصيدة الروحية لابن سينا في تلك السنة، ثم ارتحل إلى هراة وشرح «القواية» ثم شرح «الهداية» سنة تسع وثلاثين، ثم صنف حدائق الإيمان لأهل العرفان، ثم ارتحل إلى بلاد الروم سنة ثمان وأربعين وشرح المصابيح للبغوي، وشرح شرح المفتاح للسيد الشريف، وصنف شرح الكشاف للزمخشري، وله عدة تآليف بالفارسية، وقرأ العلوم الأدبية على المولى جلال الدين يوسف الأبهى من تلاميذ التفتازاني، وقرأ فقه الشافعي على الإمام عبد العزيز بن الباهري وقرأ الفقه الحنفي على الإمام نصيح الدين محمد بن محمد علاء الدين. وكان سريع الكتابة يكتب كل يوم كراسًا وكان يدرس الطلبة بالكتابة يكتبون إليه مواضع الإشكال فيجيب كلًّا في ورقة ويدفعها إلى الطالب. مات بالقسطنطينية سنة خمس وسبعين وثمان مئة ودفن عند أبي أيوب الأنصاري وأصيب بالصمم في آخر حياته.

ومنهم المولى سراج الدين محمد بن عمر الحلبي، لما أغار تمرلنك على البلاد الحلبية أخذه معه إلى ما وراء النهر فقرأ هناك، ثم قدم إلى بلاد الروم في زمن السلطان مراد خان ونصبه معلمًا لابنه السلطان محمد الذي فتح استانبول ثم أعطاه مدرسة بأدرنة وبقي يدرس ويصنف حتى مات فيها.

ومنهم المولى محيي الدين دويش محمد بن خضرشاه، كان مدرسًا بسلطانية بروسة، وكان في غاية الورع والناس تتبرك به.

ومنهم المولى إياس وكان متصوفًا انقطع للعبادة والمطالعة، وكان له غرام بتصحيح الكتب وكتابة الفوائد في حواشيها، وكان للناس فيه اعتقاد عظيم.

ومنهم المولى خير الدين معلم السلطان محمد الفاتح، وكان له جامع ومدرسة في القسطنطينية، وكان عالمًا فاضلًا متفننًا لذيذ الصحبة حسن النادرة.

ومنهم المولى حميد الدين بن أفضل الدين الحسين وكان على جانب عظيم من الورع والتقوى صبورًا على الشدائد تولى التدريس بمدرسة السلطان مراد في بورسة ثم عزل عنها في أوائل سلطنة الفاتح، وأتي إلى القسطنطينية، وكان الفاتح أحيانًا يخرج ماشيًا في عدة من أعوانه، فصادفه الشيخ حميد الدين فنزل عن فرسه ووقف فقال له السلطان: أنت ابن أفضل الدين؟ قال: نعم. قال: احضر إلى الديوان غدًا. فلما حضر أعطاه مدرسة السلطان مراد في بورسة، وأجرى عليه أرزاقًا تكفيه وأوصاه بالاشتغال بالعلم وقال له: أنا لا أغفل عنك. ثم أعطاه السلطان إحدى المدارس الثمان في القسطنطينية ثم استقضاه، وبعد وفاة الفاتح صار مفتيًا في زمان ولده السلطان بايزيد، وكان شديد الحفظ قلما توجد مسألة شرعية أو عقلية إلا وهو يحفظها ولم يكن يعرف الغضب.

ومنهم المولى سنان الدين يوسف بن المولى خضر بك بن جلال الدين كان عالمًا فاضلًا واسع الاطلاع حاد الذهن، ولشدة ذكائه غلب عليه الشك فصار يشتبه في أكثر الأشياء، وكان والده يلومه على ذلك، وكانا يأكلان مرة معًا فقال له والده: بلغ بك الشك إلى مرتبة أنك قد تشك في أن هذا الظرف من نحاس؟ فقال له: نعم يمكن ذلك لأن للحواس أغاليط. فغضب والده عيه وضربه بالطبق على رأسه، ولما مات والده كان في العشرين من سنه فأعطاه السلطان الفاتح مدرسة بأدرنة، ثم أعطاه دار الحديث ثم جعله من خواصه، وتعلم سنان الدين العلوم الرياضية على المولى علي القوشجي الذي تقدم ذكره، ثم سفر الجو بينه وبين السلطان فعزله وحبسه، فلما عرف العلماء اجتمعوا في الديوان العالي وقالوا: لا بد من إطلاق سبيله وإلا نحرق كتبنا ونخرج من المملكة. فأمر السلطان بتخلية سبيله، ولكنه أخرجه من القسطنطينية إلى سفر حصار، وبقي غضبان عليه، إلا أن السلطان بايزيد عاد فاستدعاه إلى أدرنة وجعله في دار الحديث فيها وأنعم عليه، وكتب هناك حواشي على مبحث الجواهر من شرح المواقف وأورد أسئلة كثيرة على السيد الشريف، فنصحه بعض أصحابه قائلا له: لا بد من انتخاب تلك الأسئلة لأن السيد رفيع الشأن. فأوعز للطلبة بأن يطالعوا تلك الأسئلة فأسقط منها ما أجابوا عنه، ثم ترك المناصب ومات بقسطنطينية ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري سنة إحدى وتسعين وثمان مئة، وكان ينفق كل ما في يده، ولما مات لم يوجد في بيته حطب يسخن به الماء.

ومنهم المولى يعقوب باشا بن المولى خضر بك بن جلال الدين، وكان عالمًا محققًا صالحًا استقضي في مدينة بورسة ومات وهو قاض بها سنة إحدى وتسعين وثمان مئة.

ومنهم أحمد باشا بن خضر بك بن جلال لادين كان أيضًا عالمًا فاضلًا متواضعًا محبًّا للفقراء، أعطاه السلطان محمد إحدى المدارس الثمان وهو دون العشرين، ثم صار مفتيًا بمدينة بروسة في زمان السلطان بايزيد، ومات سنة سبع وعشرين وتسع مئة وقد ذرف على التعسين.

ومنهم المولى صلاح الدين، كان عالمًا عابدًا جعله الفاتح معلمًا لابنه بايزيد وتوفي في بورسة.

ومنهم المولى عبد القادر أصله من «اسبارتة» من ولاية حميد، قرأ على المولى على الطوسي وترقى في المناصب حتى صار من خواص السلطان الفاتح، فنقل الوزير محمود باشا عنه إلى السلطان ما غير خاطره عليه، فذهب إلى وطنه ومات مكسور الخاطر، ومن نكاته أنه كان مع السلطان في قونية، فخرج العلماء لاستقبال السلطان مشاة، وكان المولى عبد القادر راكبًا فقال له السلطان: قد أضناك السفر فانظر إلى هؤلاء العلماء وقوة مزاجهم. فأنشده بيتا بالفارسية معناه: إن الفرس العربي إن كان نحيفًا فهو أجود من جماعة الحمر. فضحك السلطان واستحسن جوابه، ولكنه لم يستحسن منه قوله مرة: إنه لو كان العلامة التفتازاني والسيد الجرجاني في عصره لحملا قدامه غاشية سرجه، فإن السلطان اشمأز من كلامه وأمره بالمباحثة مع خواجه زاده فأفحمه خواجه زاده، كأن السلطان جعل ذلك عقابًا له.

ومنهم المولى علاء الدين علي بن يوسف بالي بن المولى شمس الدين الفناري، كان من العلماء المحققين ارتحل إلى بلاد العجم وأخذ من علماء هراة، ثم عن علماء سمرقند وبخارى ثم عادة إلى بلاده وكان المولى الكوراني يقول للسلطان الفاتح: يجب أن يكون عندك أحد أبناء المولى الفناري. فلما بلغه وجود المولى علاء الدين من ذرية الفناري استقضاه بمدينة بورسة ثم جعله قاضيًا للعسكر المنصور، وفي زمانه ارتقى شرف العلم، وكانت للعلماء سيادة تامة ثم عزل ثم أعاده السلطان بايزيد لقضاء العسكر، ثم عزل وأقام على جبل فوق مدينة بورسة يشتغل بالعلم، وكان يقضي في ذلك الجبل الفصول الثلاثة وينزل إلى بورسة في الفصل الرابع، وكان لا ينام على فراش فإذا غلبه النوم استند على الجدار والكتب بين يديه، وكان ماهرًا في العلوم الرياضية وفي علم الكلام وعلم الأصول وفي الفقه والبلاغة، وسلك أيضًا طريق التصوف، ودخل في خدمة العارف بالله حاجي خليفة، ومع سعة علمه لم يرغب في التأليف، وليس له إلا شرح الكافية في النحو، وكان ينفق كل ما بيده ولم يدخر من رواتبه الكثيرة التي جرت عليه وهو قاض للعساكر أقل شيء، فقيل له في ذلك، فقال: كنت رجلًا سكرانًا ولم يوجد عندي من يحفظ المال. يريد أنه كان سكرانًا بخمرة الجاه، فقال له بعض الحاضرين: إذا رجعت إلى المنصب فيلزم أن تحفظ المال. فقال: لا يفيد فإنه إذا عاد المنصب يعود معه السكر. توفي سنة ثلاث وتسع مئة وقيل إحدى وتسع مئة.

ومنهم المولى حسن شلبي بن محمد شاه الفناري كان عالمًا عابدًا محبًّا للفقراء وكان مدرسًا بالمدرسة الحلبية في أدرنة، وكان ابن عمه المولى علي الفناري قاضيًا بالعسكر في أيام الفاتح، فدخل عليه وقال: استأذن لي من السلطان لأني أريد أن أذهب إلى مصر لقراءة كتاب مغني اللبيب في النحو على رجل مغربي سمعته بمصر يعرف ذلك الكتاب غاية المعرفة. فأذن له السلطان وقال: قد اختل دماغه. وكان السلطان لا يحبه لأنه صنف حواشيه على كتاب التلويح باسم السلطان بايزيد في حياة والده، ثم ذهب غلى مصر وقرأ مغني اللبيب على العالم المغربي قراءة تحقيق وتدقيق، وكتب الكتاب بخطه، وكتب له المغربي إجازة على ظهر الكتاب، وقرأ البخاري على بعض تلاميذ ابن حجر، وأخذ إجازة في الحديث ثم حج ورجع إلى بلاد الروم، فأرسل كتاب مغني اللبيب إلى السلطان، فلما نظر فيه رضي عنه وأعطاه مدرسة إزنيق ثم أعطاه إحدى المدارس الثمان، وفي زمان السلطان بايزيد سكن بورسة وعين له السلطان رزقًا كافيًا، ومات ببورسة وله حواشي على الشرح المطول للتلخيص وحواشي على شرح المواقف للسيد الشريف وحواشي على التلويح للتفتازاني.

ومنهم المولى مصلح الدين مصطفى بن المولى حسام، وكان عالمًا في العلوم الشرعية والعلوم الأدبية ومتصوفًا أيضًا، وكان له اليد الطولى في الإنشاء، وصار مفتيًا في بورسة ومات بها.

ومنهم محيي الدين محمد الشهير ﺑ«أخوين» قرأ على علماء الروم ودرس في إحدى المدارس الثمان في قسطنطينية.

ومنهم المولى قاسم المشتهر ﺑ«قاضي زاده» كان أبوه قاضيًا في مدينة قسطموني، وكان عالمًا عابدًا وكانت له معرفة بالعلوم الرياضية، وتولى القضاء في بورسة، وكان محمود الطريقة، ومات وهو قاض في بورسة.

ومنهم المولى محيي الدين الشهير ﺑ«ابن مغنيسا اتصل بخدمة المولى خسرو وهو مدرس بمدرسة آيا صوفيا، وكان يسكن في الطبقة العليا من المدرسة، ويشعل سراجه طول الليل، ويرى ذلك السلطان محمد من دار السعادة فسأل السلطان يومًا المولى خسرو: من أفضل تلاميذك؟ فقال له: ابن مغنيسا. قال: ثم من؟ قال: ابن مغنيسا. قال السلطان: أهو رجلان؟ قال: لا ولكنه واحد كألف. فقال له السلطان: إنه ساكن في الحجرة الفلانية، وذلك لأنه السلطان كان يرى سراجه موقدًا طول الليل. ولما بنى الوزير محمود باشا مدرسته بالقسطنطينية أعطاها السلطان لابن مغنيسا، ففي أول درس ألقاه قال أستاذ المولى خسرو بحضور جم من العلماء: حضرت درسين أحدهما لمحمد شاه الفناري والآخر هذا الدرس، قال ذلك لشدة إعجابه بتلميذهم صار. قاضيًا بالقسطنطينية ثم قاضيًا بالعسكر المنصور. واتفق أن سافر السلطان الفاتح إلى الحرب في الرومللي فسأل ابن مغنيسا عن بيت من الشعر العربي فقال له: أتفكر فيه بالمنزل ثم أجيب. فقال له السلطان محمد: أيحتاج بيت واحد من الشعر إلى كل هذا. وأمر بحضور المولى سراج الدين — وكان موقِّعًا في الديوان العالي — فسأله عن ذلك البيت ففي الحال أجابه قائلًا: هو للشاعر الفلاني من القصيدة الفلانية من البحر الفلاني. ثم قرأ السباق والسياق، وحقق معنى البيت، فقال السلطان لابن مغنيسا: ينبغي أن يكون العالم هكذا في العلم، ثم عزله عن قضاء العسكر وأعطاه إحدى المدارس الثمان، وقال: هو محتاج بعد إلى التدريس، ثم بعد ذلك استوزره ثم عزله عن الوزارة، وفي زمان السلطان بايزيد رجع قاضيًا للعسكر وتوفي وهو قاض.

ومنهم المولى حسام الدين حسين بن حسن بن حامد التبريزي المشهور ﺑ«أم ولد» لقب بذلك لأنه تزوج أم ولد المولى فخر الدين العجمي، كان عالمًا عابدًا منقطعًا عن الخلق عاكفًا على الدرس والعبادة، أعطاه السلطان الفاتح إحدى المدارس الثمان وكان يحبه لصلاحه ويحسن إليه.

ومنهم ابن المعرف، كان من ولاية بالي كسرى وكان معلمًا للسلطان بايزيد وكان السلطان يقول: لولا صحبتي معه ما صحت عقيدتي.

ومنهم المولى بهاء الدين بن الشيخ الحاجي بيرم كان عالمًا فاضلًا عابدًا، صار مدرسًا بمدرسة السلطان بايزيد بن مراد في بورسة، وأخذ عن الخواجة زاده ودرس في إحدى المدارس الثمان، ولما بنى السلطان بايزيد بن محمد مدرسته بأدرنة أعطاها إلى المولى بهاء الدين المذكور.

ومنهم المولى سراج الدين، كان معيدا لدرس خواجه زاده ثم أعطاه السلطان الفاتح إحدى المدارس الثمان بقسطنطينية، وكان يحفظ جيدًا قصائد العرب، وينظم الشعر العربي، وقد تقدم كونه تغلب على ابن مغنيسا في معرفة الشعر العربي، ومات في عنفوان شبابه وحزن عليه الناس.

ومنهم المولى محيي الدين محمد ابن كوبولو جعله الفاتح قاضيًا بالعسكر المنصور وتزوج بأخته سليمان شلبي بن كمال باشا، فولد له منها ولد اسمه أحمد شاه، وهو المولى العالم الفاضل المعروف بابن كمال باشا.

ومنهم المولى محيي الدين محمد المعروف بمولانا «ولدان» وكان قاضيًا بمدينة غاليبولي ثم جعله السلطان مدرسًا في بورسة، ثم قاضيًا بها ثم جعله قاضي العسكر، ثم عزله وبقي إلى زمان ولده بايزيد خان فأعاده إلى قضاء العسكر، وحصل في زمانه أن أحد خدام السلطان في أدرنة ظهر منه فساد، فأرسل نائب المحكمة أناسًا من قبله لمنعه فلم يمتنع، فغضب النائب وركب إليه بنفسه وقصد منعه فضرب هو النائب ضربًا شديدًا وبلغ الخبر السلطان، فأمر بتله لتحقيره نائب الشرع، فشفع له الوزراء فلم يقبل شفاعتهم، فالتمسوا من مولانا ولدان أن يتوسط في الأمر فقال للسلطان: إن النائب مخطئ في قيامه من مجلس القضاء بسبب الغضب، فلما ذهب فضربه ذلك الغلام لم يكن عند الضرب قاضيًا، بل كان قد أسقط نفسه، فلذلك لا يقال إنه حصل تحقير للشرع يستحق فاعله القتل. فسكن السلطان الفاتح ثم جيء بالغلام بين يدي السلطان فضربه ضربًا شديدًا مرض من بعده أربعة أشهر، ثم برئ بعد ذلك وترقى وصار وزيرا للسلطان بايزيد وكان يترحم على الفاتح ويقول: ما حصل لي هذا الرشد إلا من ضربه.

ومنهم أحمد باشا بن المولى ولي الدين الحسيني، كان مدرسًا بمدرسة السلطان مراد في بورسة، ثم صار قاضيًا بأدرنة ثم جعله السلطان محمد الفاتح قاضيًا بالعسكر ثم جعله معلمًا لنفسه، وكان حلو الفكاهة يقرض الشعر بالتركية واستوزره السلطان ثم عزله وجعله أميرًا على بورسة ومات بها.

ومنهم المولى تاج الدين إبراهيم باشا خليل بن إبراهيم بن خليل باشا، جده الأعلى خليل باشا أول قاض بالعسكر المنصور في الدولة العثمانية، وأما والده خليل باشا فكان وزيرًا للسلطان مراد والد الفاتح، فلما تولى الفاتح عزل خليل باشا ونكبه ومات محبوسًا، وكان ولده تاج الدين إبراهيم باشا قاضيًا بأدرنة فعزله أيضًا وتحولت به الأحوال وصار إلى فقر شديد، ثم ولاه السلطان قضاء أماسية، ولما مات وتولى ابنه بايزيد استدعاه إلى القسطنطينية وجعله قاضيًا للعسكر، ثم جعله رئيسًا للوزراء، وكانت سيرته في القضاء والوزارة محمودة، وكان يأكل من مطبخه كل يوم ست مئة نفس من الفقراء، وعند وفاته لم يوجد في خزانته إلا ثمانية آلاف درهم! وله جامع ومدرسة في القسطنطينية.

ومنهم المولى مصلح الدين مصطفى بن أوحد الدين البرحصاري، كان عالمًا فاضلًا عالي الهمة عظيم الحرمة أخذ عن خواجه زاده ودرس في أدرنة وفي القسطنطينية، اسْتُقْضِيَ فيها أيام دولة السلطان بايزيد، ومات وهو قاض ولم يصنف كتبًا إلا رسالة في تجويز الفرار من الوباء.

ومنهم المولى يوسف بن حسين الكرماسني قرأ على خواجه زاده ودرس في القسطنطينية ثم استقضي فيها، وكان سيفًا من سيوف الحق لا يخاف في الله لومة لائم، خرج مرة إلى المسجد بعمامة صغيرة فطلبة الوزير إبراهيم باشا لمصلحة اقتضت حضوره في الحال فلم يبدل عمامته الصغيرة، فسأله الوزير عن ذلك فأجابه: حضرت خدمة الخالق بهذه الهيئة ثم لما استدعيتني لم أجد في نفسي رخصة في تغيير الهيئة لأجل الوزير. فوقع هذا الكلام عند الوزير موقع القبول ورواه للسلطان بايزيد فسر السلطان بذلك وأنعم عليه.

ومنهم المولى ابن الأشرف قرأ على خواجه زاده ثم على المولى على الطوسي ونبغ نبوغًا عجيبًا ولكنه التحق أخيرًا بزمرة الصوفية ورغب في السياحة إلى أن مات.

ومنهم المولى عبد الله الأماسي كان مدرسًا عظيم الشأن في أماسية زاهدًا في الدنيا.

ومنهم المولى حاجي بابا الطوسي اشتغل بالتدريس وأخذ عنه الكثيرون وله تصانيف كثيرة في النحو.

ومنهم المولى ولي الدين القراماني والد الشاعر المشهور ﺑ«نظامي» توفي ولده نظامي في حياته.

ومنهم المولى علاء الدين على الفتاري — وليس من أولاد المولى الفناري — تولى القضاء في بورسة ثم صار قاضي عسكر الأناضول ومات في أيام السلطان بايزيد، وكان له ملكة في الإنشاء بالعربية.

ومنهم سنان الدين يوسف المشهور ﺑ«قرة سنان» كان ماهرًا في العلوم العربية والأدب شرح مراح الأرواح في الصرف وشرح الشافية في الصرف أيضًا.

ومنهم المولى مصلح الدين مصطفى بن زكريا القراماني، قرأ في القاهرة، ثم عاد إلى بلاد الروم، وله التصانيف.

ومنهم المولى مصلح الدين مصطفى أخو زوجة المولى عبد الكريم، كان مدرسًا بمرادية بورسة.

ومنهم المولى شمس الدين أحمد الشهير ﺑ«قراجه أحمد، كان مدرسًا بمرادية بورسة، وله تصانيف.

ومنهم المولى شمس الدين أحمد الشهير ﺑ«دنقوس» كان مدرسًا في بورسة وصنف شرح المراح في الصرف، وله شرح على كتاب المقصود في الصرف.

ومنهم المولى طشغون خليفة، وكان متصوفًا توفي في زمان السلطان بايزيد.

ومنهم المولى مصلح الدين مصطفى الشهير ﺑ«البغل الأحمر، وكان عالمًا حافظًا لجميع المسائل درس مدة في بورسة، ثم في أدرنة وكان عظيم الجثة جدًّا لا يحمله إلا فرس قوي.

ومنهم المولى شمس الدين، أصله من ولاية آيدين ارتحل إلى بلاد العجم وقرأ على علمائها ثم إلى بلاد العرب وقرأ أيضا على علمائها، وبرع في علم النغمات، واتصل بالفاتح ثم غضب عليه، فذهب إلى بورسة واختل عقله في آخر عمره من حزنه لأجل مفارقته للسلطان، وكان ينظم القصائد العربية والفارسية والتركية، وكل قصيدة إذا صُحِّحَت من أولها إلى آخرها يحصل منها هجو كما جاء في الشقائق النعمانية.

ومنهم المولى المليحي، مهر في العلوم وذهب إلى بلاد العجم فأخذ عن علمائها، وكان يحفظ صحاح الجوهري كله، ولكنه ابتلي في آخر الأمر بالخمر وسقطت منزلته ونقل إلى السلطان الفاتح أن المليحي شرب الخمر في سوق البزازين، وصب الخمر على الناس، فأرسل فأتوا به فسأله: لماذا شربت الخمر وصببته على الناس؟ فكان المليحي يقول: عجبًا للسلطان كيف صدق قولهم أن المليحي صب الخمر على الناس مع أن الميحي إذا وجد الخمر لا يضيع منها قطرة! وقد تاب المليحي عن الخمر في زمان السلطان محمد، فلما توفي رجع إلى شأنه عفا الله عنه والله يعفو عن كثير.

ومنهم المولى سراج الخطيب، وكان من بلاد العجم جاء إلى بورسة ثم إلى استانبول فجعله السلطان الفاتح خطيبًا في الجامع الذي بناه المعروف بالفاتح وكان له في رعاية النغمات شيء عظيم لم يلحقه به أحد بعده.

ومنهم قطب الدين العجمي، كان وزيرًا لبعض ملوك العجم ثم جاء إلى بلاد الروم وخدم السلطان الفاتح، فأكرمه جدًّا وكان يعرف علم الطب غاية المعرفة.

ومنهم الحكيم شكر الله الشيرواني، وكان طبيبًا ماهرًا وعالمًا بالعلوم العربية، ولما حج أقام بمصر وقرأ على علمائها كالشيخ السخاوي وغيره، وأجازه بالروم المولى الكوراني، واتصل بخدمة السلطان محمد ومات في أيامه.

ومنهم خواجه عطا الله العجمي، جاء من بلاد العجم إلى بلاد الروم في أيام الفاتح، ومات في أوائل سلطنة بايزيد وكان ماهرًا في الفلك والرياضيات ومعرفة الأزياج واستخراج التقاويم، قال صاحب الشقائق النعمانية: رأيت له رسالة كبيرة في العلوم الرياضية لحل الأسطرلاب والربع المجيب والمقنطرات ورسالة لطيفة في معرفة الأوزان.

ومنهم يعقوب الحكيم كان يهوديًّا، وكان من أمهر الأطباء فحظي عند السلطان محمد لأجل طبه، ثم أسلم فاستوزره السلطان، ولما مرض السلطان الفاتح رحمه الله عالجه يعقوب الحكيم هذا فلم ينجع علاجه، فأشار الوزير محمد باشا باستدعاء الحكيم اللاري فعالج السلطان بخلال معالجات يعقوب فازداد ضعف السلطان، فاستدعى يعقوب مرة ثانية، فلما عاينه عرف أن مرضه غير قابل للشفاء، فصوب رأي الحكيم اللاري ولم يلبث السلطان إلا قليلا حتى مات روح الله روحه، وجزاه عن الإسلام خيرًا.

ومنهم الحكيم اللاري العجمي، اتصل بخدمة الفاتح.

ومنهم الحكيم «عرب» حصل الطب في بلاد العرب ثم جاء إلى بلاد الروم واتصل بخدمة عيسى بك بن إسحاق بك أمير أسكوب، ثم اتصل بخدمة السلطان محمد.

ومنهم ابن الذهبي، كان عالمًا عابدًا زاهدًا ورعًا، وكان ماهرًا في معرفة الأعشاب، وكان لا يؤتى إليه بشيء منها إلا عرفه باسمه ورسمه ومنافعه، وكان طبيبًا حاذقًا.

ومنهم محمد بن حمزة الشهير ﺑ«آق شمس الدين» نجل العارف بالله شهاب الدين السهروردي ولد بدمشق الشام، ثم أتى مع والده إلى بلاد الروم، وكان مائلًا إلى التصوف، واتصل بخدمة الشيخ بيرم، وكان طبيبًا للأبدان كما هو طبيب للأرواح، ولما عزم السلطان محمد علي فتح القسطنطينية دعا هذا الشيخ للجهاز، فقال الشيخ آق شمس الدين: سيدخل المسلمون القلعة من الموضع الفلاني في اليوم الفلاني، وقت الصحوة الكبرى، وكان الأمر كما قال فاعتقد فيه السلطان محمد مزيد الاعتقاد وقال: ما فرحت بهذا الفتح كفرحي بوجود مثل هذا الرجل في زماني. ثم جاءه السلطان يومًا من الأيام وهو مضطجع في خيمته فلم يقم للسلطان فقبل السلطان يده وقال له: جئتك لحاجة! قال: ما هي؟ قال: أريد أن أدخل الخلوة عندك أيامًا. فقال الشيخ: لا. فألح السلطان مرارًا والشيخ يقول لا فقال له السلطان وهو غضبان: إن واحدًا من الأتراك يجيء إليك وتدخله الخلوة بكلمة واحدة، فلماذا تمنعني أنا وحدي؟ فأجابه الشيخ آق شمس الدين: إذا دخلت الخلوة تجد فيها لذة تسقط السلطنة من عينك وتختل أمورها، فيمقتنا الله، والغرض من الخلوة إنما هو تحصيل العدالة، فأنت عليك أن تفعل كذا وكذا. وذكر ما بدا له من النصائح ثم قام السلطان من عنده والشيخ مضطجع لا يقوم له، فقال السلطان لابن ولي الدين: ما قام الشيخ لي؟ وكان مستاء من ذلك فقال له ابن ولي الدين: إن الشيخ خان عليك الغرور لهذا الفتح الذي لم يتيسر لغيرك من السلاطين العظام، والشيخ كما لا يخفى هو مرشد. ثم دعا السلطان الشيخ في الثلث الأخير من الليل وجاء والليل مظلم، فما رآه بالبصر ولكن عرفه بالروح، فعانقه وضمه وجلس إليه حتى طلع الفجر، فصلى السلطان خلفه، وبعد الصلاة قرأ الشيخ الأوراد والسلطان جالس أمامه على ركبتيه، فلما أتمها التمس السلطان من الشيخ أن يعين له موضع قبر أبي أيوب الأنصاري، وكان يروي في التواريخ أن قبره بموضع قريب من سور القسطنطينية، فقال آق شمس الدين: إني أصدقك، ولكن أريد علامة يطمئن بها قلبي. فتوجه الشيخ ساعة ثم قال: احفروا هذا الموضع من جانب الرأس من القبر مقدار ذراعين يظهر رخام عليه خط عبراني تفسيره كذا، فحفروا مقدار ذراعين فظهر الرخام الذي قال عنه وعليه الخط ففسروه، فإذا هو كما قال فاندهش السلطان وغلب عليه الحال حتى كان يسقط، وأمر ببناء القبة على ذلك الموضع وببناء جامع، والتمس من الشيخ أن يجلس هناك مع مريديه، فأبى الشيخ واستأذن أن يرجع إلى وطنه فلم يشأ السلطان أن يخالفه، فلما عبر البحر قال لوالده: لما جاوزت البحر امتلأ قلبي نورًا وقد فسدت إلهاماتي في قسطنطينية من ظلمة الكفر فيها، وعاد إلى وطنه «قصبة قومك» وبقي فيها حتى مات وله رسالة في التصوف اسمها «رسالة النور» وكان ماهرًا في علم الطب، وله رسالة فيه.

حاصر العرب القسطنطينية من سنة ٤٨ إلى سنة ٥٢ للهجرة. ومنهم من يمد ذلك إلى سنة ٥٥، ويقولون إن أبا أيوب الأنصاري رضى الله عنه، وهو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد بن عوف من بلحارث بن الخزرج الذي شهد «بدرًا» «وأحدًا» و«الخندق» والمشاهد كلها مع رسول الله ، وخرج غازيًا في زمان معاوية ومرض في غزو القسطنطينية، فلما ثقل قال لأصحابه: إن أنا مت فاحملوني فإذا صادفكم العدو فادفنوني تحت أقدامكم وسأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله وهو: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.»

قال ابن سعد في الطبقات الكبرى: ولما مرض أتاه يزيد بن معاوية يعوده فقال: حاجتك؟ قال: حاجتي إذا أنا مت فاركب بي ثم سُغ بي في أرض العدو ما وجدت مساغًا، فإذا لم تجد مساغًا فادفني ثم ارجع. فلما مات ركب به ثم سار في أرض العدو ما وجد مساغًا، ثم دفنه ثم رجع. قال محمد بن عمر: توفي أبو أيوب عام غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في خلافة أبيه سنة ٥٢ وصلى عليه يزيد بن معاوية، وقبره بأصل حصن القسطنطينية، ولقد بلغني أن الروم يتعهدون قبره ويرمُّونه ويستسقون به إذا قحطوا. انتهى ما جاء في الطبقات. وقد نقلته إلى حواشي «حاضر العالم الإسلامي» ثم قلت: إن الأتراك عندما فتحوا القسطنطينية بقيادة السلطان محمد الفاتح عثروا على قبر أبي أيوب الأنصاري وبنوا عليه قبة، وجعلوا عنده جامعًا.

وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية: أن ابن قتيبة هو أول من ذكر قبر أبي أيوب. قلت: كانت وفاة ابن قتيبة في ذي القعدة سنة سبعين ومائتين، وقيل ست وسبعين ومائتين على ما في وفيات الأعيان، والحال أن وفاة محمد بن سعد صاحب الطبقات كان يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاثين ومائتين، أي قبل وفاة ابن قتيبة كما في وفيات الأعيان أيضًا. فيكون جزم أصحاب الانسيكلوبيدية الإسلامية بأن ابن قتيبة هو أول من ذكر قبر أبى أيوب الانصاري هو بغير محله، وذلك لأن ابن سعد سابق لابن قتيبة، وأنت ترى أنه قد ذكره. وأما قضية كون الروم حفظوا قبره وكانوا يستسقون به في القحط فقد جاء في الانسيكلوبيدية المذكورة نقلها عن الطبري، وابن الأثير، وابن الجوزي، والقزويني، والحال أنها مذكورة في طبقات ابن سعد الذي تقدم في الزمن هؤلاء جميعًا، وقد جاءت هذه القصة مع ترجمة أبى أيوب في كتاب تركي للحاج عبد الله اسمه «الآثار الماجدية في المناقب الخالدية» طبع استانبول سنة ١٢٥٧. ثم ذكرت في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» رواية كون المولى آق شمس الدين كشف ضريح أبى أيوب، وأن السلطان الفاتح بنى سنة ٨٦٣ جامعًا عند الضريح المذكور. وبعد طبع «حاضر العالم الإسلامي» اطلعت على روايات لا أتذكر الآن مظنتها بالتحقيق تدل على أن قبر أبي أيوب كان معروفًا إلى القرن السادس للهجرة. وقد حدث أحد التجار المسلمين بأنه رأى بنية بيضاء في ذلك الموضع، فسأل عنها فقالوا له: هذا قبر أبى أيوب الأنصاري. فإن كان طمس القبر بعد ذلك حتى أثره وانكشف للمولى آق شمس الدين فهذا لا يتعارض مع هذا.

ومنهم الشيخ عبد الرحيم المعروف بابن المصري، اتصل بخدمة العارف بالله آق شمس الدين، وله كتاب اسمه «وحدة نامه» وهو من بلدة قره حصار ومات فيها.

ومنهم الشيخ إبراهيم بن حسن السيواسي، قرأ العلوم على المولى يعقوب بقونية ثم تولى التدريس بمدرسة خوند، خاتون بمدينة قيصرية، فلما اطلع على أن المدرسة للحنفية تركها لأنه كان شافعي المذهب وكان متصوفًا، وتوفي بقيصرية.

ومنهم الشيخ حمزة المعروف بالشامي.

ومنهم الشيخ مصلح الين بن العطار وكلاهما من جماعة آق شمس الدين.

ومنهم العارف بالله أسعد الدين بن الشيخ آق شمس الدين وكان على قدم أبيه في الصلاح والانقطاع عن الدنيا وكان من علماء عصره، وكذلك أخوه فضل الله، كان من العلماء والأتقياء.

ومنهم أخوه أمر الله.

ومنهم أخوه حمد الله المشهور بحمدي شلبي وكلهم كانوا على قدم والدهم رحمه الله.

ومنهم مصلح الدين مصطفى الشهير ﺑ«ابن الوفاء» وكان جامعًا بين العلوم الباطنة والعوالم الظاهرة وكان يعرف الموسيقى معرفة تامة، وكان يختار الخلوة على الصحبة، وقصد السلطان الفاتح أن يشاهد فلم يقبل أن يجتمع معه وكذلك قصد ولده السلطان بايزيد فلم يرض هو أن يرى السلطان وكان حنفي المذهب، إلا أنه كان يجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية، فأنكر عليه علماء الحنفية ذلك فأجاب عنه المولى سنان باشا قائلًا: لعله اجتهد فيحق له ذلك، فقالوا: هل يمكنه الاجتهاد؟ قال: نعم شرائط الاجتهاد موجوده فيه. فسكتوا.

ومنهم العارف بالله عبد الله حاجي خليفة أصله من قسطموني وكان من العارفين وله مناقب كثيرة، ومثله الشيخ سناد الدين الفروي، ومثله الشيخ مصلح الدين القوجوي وهو من العارفين أيضًا ومثله الشيخ مصلح الدين الأبصلاوي، وكان أيضًا عارفًا منقطعًا عن الناس.

ومنهم الشيخ محيي الدين القوجوي، وكان جامعًا بين الظاهر والباطن، معرضًا عن أبناء الزمان مشغولًا بتهذيب الفقراء.

ومنهم العارف بالله سليمان خليفة، وكان من المنقطعين إلى الله توطن بالقسطنطينية قريبًا من جامع زيرك.

ومنهم الشيخ عبد الله الإلهي من أهل الأناضول، وذهب إلى ما وراء النهر واتصل بخدمة عبيد الله السمرقندي وغيره، ثم رجع إلى القسطنطينية وسكن في جامع زيرك، واجتمع عليه الأكابر والأعيان ففر منهم إلى بلاد الرومللي، فأقام عند الأمير أحمد بك الأورنوسي وأقبل عليه الطلبة ومات هناك.

ومنهم العارف بالله عبيد الله السمرقندي ولد في طاشقند من تركستان ويقول بعضهم: إن نسبه ينتهي إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وكان يقول: الوحدة خلاص القلب عن العلم بوجود ما سوى الله، ويقول: الاتحاد الاستغراق في وجود الحق سبحانه وتعالى ويقول: السعادة خلاص السالك عن نفسه في مشاهدة الله تعالى. ويقول: الوصل نسيان العبد نفسه في شهود نور الحق، والفصل قطع السر عما سوى الله تعالى توفي سنة خمس وتسعين وثمان مئة وقبره بسمرقند، ومن تلاميذه الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الجامي وله تآليف كثيرة بالعربية والفارسية.

ومنهم العارف بالله علاء الدين الخاوتي، جاء إلى القسطنطينية فخاف منه السلطان الفاتح لكثرة إقبال الناس عليه فأمر بالذهاب إلى بلاد أخرى فتوفي في بلاد القرامان.

ومنهم العارف بالله دَدَه عمر الآيديني، وأقام في تبريز عند الأمير حسن الطويل.

ومنهم الشيخ حبيب العمري القراماني، كان عمريًّا من جهة الأب وبكريًّا من جهة الأم، وكان من بلاد القرامان، وكان من كبار المتصوفة.

ومنهم المولى مسعود، وتوطن بمدينة أدرنة واشتغل بتربية المريدين.

ومنهم محمد الجمالي الشهير ﺑ«شلبي خليفة، وكان أيضًا من المتصوفة.

ومنهم الشيخ سنان الدين، وكان من العارفين المنقطعين عن الناس، يسكن بالقرب من القسطنطينية.

ومنهم السيد يحيى بن بهاء الدين الشرواني، وكان يقول: يجوز إكثار الخلفاء بتعليم الآداب للناس، وأما المرشد الذي يقوم بمقام الإرشاد بعد شيخه فلا يكون إلا واحدًا.

هذا وبعد وفاة الفاتح رحمه الله بويع بالسلطنة لولده السلطان بايزيد سنة ست وثمانين وثمان مئة، وكان محمد باشا القرماني يميل إلى أخيه جم معجبًا بمزاياه العالية فأرسل إلى جم يعجل عليه بالحضور، فعلم الانكشارية بذلك فثاروا بالوزير فقتلوه، وكان بايزيد في أماسية فجاء ومعه جيش الأخوان بايزيد وجم في صحراء يني شهر، فتغلب بايزيد على جم وفر هذا إلى مصر، ثم إن إنصار جم مثل قاسم بك ومحمد صنجق بك الأنقري دعوا جم ثانية إلى القتال، فجمع جموعه وتلاقى مع عساكر أخيه فانهزم هذه المرة أيضًا واضطر أن يلتجئ إلى فرسان مار يوحنا في رودس فاستقبلوه برًّا وترحيبًا، فأرسل بايزيد إليهم يعرض عليهم خمسة وأربعين ألف دوكا في السنة بشرط أن لا يدعوا جم يفر من عندهم، فاتفقوا مع بايزيد على ذلك وأرسلوا جم إلى فرنسا واعتقلوه في برج «بورغانوف Bourganenf» ثم نقلوه إلى روما في زمن البابا اينوشنسيوس الثامن، ولما ارتقى إسكندر بو رجيا إلى كرسي البابوية بعث إلى السلطان بايزيد يعرض عليه هذه المساومة، وهو أنه إن أراد أن يقتل له أخاه فهو يتقاضى على ذلك ثلاث مئة ألف دوكا، وإن كان يكتفي بحبسه فهو يطلب على ذلك أربعين ألف دوكا في السنة، وفي أثناء ذلك زحف كارلوس الثامن ملك فرنسا إلى إيطاليا فتخلص جم من البابا مدة قصيرة، إلا أن ملوك النصرانية حاولوا أن يستعملوه لإثارة الفتنة في المملكة العثمانية، فاتفق فرسان رودس مع ملك إيكوسية والمجر وبولونيا وفرنسا والمرديا من الأرناءوط وغيرهم على أن يزحفوا بجم ويقاتلوا السلطان بايزيد، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إلى البابا المبلغ الذي اقترحه من المال لأجل قتل جم، فسموه في نابولي في ٢٤ فبراير ١٤٩٥ ومات مسمومًا وتخلص بايزيد من أخيه.

وبعد موت أخيه حاول بايزيد أن يشن الغارة على إيطاليا إلا أن الأحوال لم تساعده إذ كانت الحرب قد اشتعلت بينه وبين الدولة المصرية، فإن المصريين كانوا قد احتلوا بعض القلاع بقرب طرسوس وأطنه، فأمر السلطان بايزيد قرة جوز باشا والي القرامان بأن يطردهم من هناك، ولكن المصريين تغلبوا على جيش بايزيد واشتدت الحرب بين الفريقين، وبينما الحرب قائمة بين السلطان بايزيد وسطان مصر مات ملك المجر ماتياس كورفين، فاهتبل بايزيد هذه الغرة وأغار على المجر من جهة وحاصر بلغراد من جهة أخرى، وكان قائد عسكره في المجر سليمان باشا فهزمه المجر ورجع أدراجه، ورفع الترك الحصار عن بلغراد، إلا أن السلطان دخل في بلاد الألمان مثل كارنتيا واستيريا وعاث وغنم وسبى، وكان معه من المسيحيين خمسة عشر ألف أسير يجرهم الجيش العثماني من ورائه، فزحف الألمان بقيادة الكونت كينز والتقى الجمعان في كارنتيا فأفلت الأسرى المسيحيون من الوراء ووقع العثمانيون في الوسط، فانكسروا وفعل فيهم المسيحيون الأفاعيل وعذبوا فشنوا الغارة على استيريا وهزموا الألمان.

وسنة ١٤٩٥ عقد الأتراك هدنة مع المجر ووجهوا قوتهم لقتال البندقية وقهر الأسطول العثماني أسطول البندقية واستولى على لبيانت، وغزا إسكندر باشا والي بوسنة بلاد طارنت وخربها تخريبًا تامًّا، وكان أمير البحر داود باشا استولى على مورون ونافارين وكورون، فوجدت البندقية نفسها عاجزة وحدها عن مقاومة العثمانيين فاتفقت مع دول النصرانية فرنسا وإسبانيا والمجر والبابا على مقاتلة السلطة بايزيد وبثوا أساطيلهم من كل جهة، وفي أثناء ذلك ثارت قبائل القرامان على السلطان فألجأته الضرورة إلى عقد الصلح.

وفي ذلك العهد ظهر اسم «الروس» وكانوا من قبل تحت حكم المغول — أي التتر — ولبثوا تحت حكمهم إلى سنة ١٤٨١ حينما ظهر منهم «الغراندوق إيفان الثالث» فهزم التتر ووحد كلمة الروس، وفي سنة ١٤٩٢ طلب إيفان الثالث محالفة السلطان بايزيد، وجاء سفراؤه بعد ذلك إلى إسطنبول وانعقد الاتفاق بين بايزيد وإيفان واضطر السلطان إلى السلم لأنه كان حصل زلزال خارج للعادة انهدم فيه سبعون ألف بيت ومئة وتسعة جوامع في القسطنطينية، وخربت مدن كثيرة مثل أدرنة وغاليبولي ويموطيقة وشورلو.

وكان بايزيد قد قسم ولايات السلطنة بين أولاده، فأعطى كلًّا منهم ولاية، وأخطأ في هذا التدبير لأنهم بدءوا يقتتلون بعضهم مع بعض في حياة أبيهم بل ثار به ابنه سليم واستولى على بعض المدن، فقام أخوه قورقود واستولى على مدن أخرى، وكان الانكشارية يميلون إلى سليم فطلبوا من السلطان أن يعتزل الملك وأن يولي السلطان سليما فلم يجد بدًّا من إجابتهم، ومات بعد ذلك بقليل. ويقال إنه كان حليمًا محبًّا للعلم والعلماء، وللشعر والأدب، وإنه لم يكن يحب الحرب بفطرته، وإنما كان يساق إليها بالضرورة. وقام بإصلاحات كثيرة، وفي زمانه وجدت العلاقات الرسمية بين الدولة العثمانية والدول المسيحية، وفي زمانه نبغ من العلماء المولى محيي الدين محمد بن إبراهيم البلكساري، وكان مدرسًا في قسطمونى، ثم جاء إلى القسطنطينية، وكان السلطان يحضر درسه في جامع آيا صوفيا، وكان بارعًا في علم التفسير وصنف تفسيرًا لسورة الدخان وأهداه للسلطان بايزيد.

ومنهم يوسف بن جنيد الطوقاتى، أخذ عن المولى خسرو، وتولى التدريس في بورسة ثم في القسطنطينية.

ومنهم المولى قاسم بن يعقوب الأماسى المشهور ﺑ«الخطيب» كان مدرسًا ببلدة أماسية واتّصل بالسلطان بايزيد يوم كان أميرًا على تلك البلدة، فلما تولى السلطنة جعله معلمًا لابنه الأمير أحمد.

ومنهم سنان الدين يوسف، اتصل بخدمة المولى على القوشجى وقضى حياته في التدريس والإفادة.

ومنهم سنان الشاعر، أخذ العلم عن المولى خسرو

ومنهم المولى شجاع الدين إلياس. وكان من المدرسين المعروفين.

ومنهم شجاع الدين إلياس الشهير ﺑ«أوصلو شجاع».

ومنهم المولى علاء الدين اليكاني، وكان مفتيًا بمدينة بورسة.

ومنهم لطف الله الطوقاتي، أخذ عن المولى على القوشجي، وكان بارعًا في العلوم الرياضية، وصار أمينًا على خزانة الكتب عند السلطان الفاتح، وكان عالمًا علامة، إلا أنه كان يطيل لسانه على أقرانه، وأحيانًا يطعن على السلف فأبغضه العلماء ونسبوه إلى الزندقة، وحكم المولى خطيب زاده بإباحة دمه فقُتِل! وجاء في تاريخه (ولقد مت شهيدًا) وقيل إنه لما قتل خرجت روحه وهو يكرر كلمتي الشهادة، وجاء في «الشقائق النعمانية»: أنه كان يقرئ صحيح البخاري فتنزل دموعه على الكتاب. وحكى يومًا وهو يبكي أن عليًا بن أبي طالب رضى الله عنه ضُرب في بعض الغزوات بسهم فثبت نصل السهم في بدنه فلم يقدروا على إخراجه، فلما قام للصلاة أخرجوه من بدنه ولم يحس بذلك. قال المولى لطفى: هذه حقيقة الصلاة، وأما صلاتنا نحن فهي قيام وانحناء لا فائدة فيها، فجاء الوشاة ونقلوا عنه أنه قال: الصلاة قيام وانحناء لا عبرة بها، وشهدوا عليه بذلك، وأما المولى أفضل الدين فتوقف عن إباحة دمه وكذلك المولى محيي الدين القوجوى قال: أشهد بأن المولى لطفى بريء من الإلحاد والزندقة.

ومنهم المولى قاسم الكرمياني، وكان علامة في عصره وكثر عنده الطلبة، وكان مجلسه كثير الفوائد.

ومنهم المولى قوام الدين قاسم بن أحمد الجمالي، تولى قضاء القسطنطينية، وكان عالمًا كثير الحفظ إلا إنه لم يصنف شيئًا.

ومنهم المولى علاء الدين على بن أحمد الجمالي وقضى حياته مدرسًا ينتقل من مدرسة إلى مدرسة، ثم صار مفتيًا في العاصمة، وكان متواضعًا خاشعًا طاهر اللسان لا يذكر أحدًا بسوء، وكانت أنوار العبادة تتلألأ على صفحات وجهه، وكان يقعد في أعلى داره وله زنبيل معلق فيلقي المستفتي ورقته في الزنبيل ويحركه فيجذبه المولى علاء الدين ويأخذ الورقة ويكتب جوابها، وذلك حتى لا ينتظر الناس لأجل الفتوى. وكان السلطان سليم بن بايزيد قد تولى السلطنة، وكان سفاكًا للدماء فأمر بقتل مئة وخمسين رجلًا من حفاظ الخزائن، فجاء المولى علاء الدين إلى الديوان العالي وقال للوزراء: أريد أن أقابل السلطان، فعرضوا الأمر للسلطان، فدخل عليه وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وقد بلغني أنك أمرت بقتل مئة وخمسين رجلًا لا يجوز قتلهم شرعًا فيجب أن تعفو عنهم. فغضب السلطان سليم وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة وليس ذلك من وظيفتك، فأجابه المفتي: بل أتعرض لأمر آخرتك وإنه من وظيفتي، فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فعليك عقاب عظيم. فانكسرت عند هذا القول حدة السلطان وعفا عنهم، وتحدث مع المفتي ساعة ولما أراد المفتي أن ينصرف قال للسلطان: تكلمت معك في أمر آخرتك، وبقي لي كلام متعلق بالمروءة قال السلطان: ما هو ؟ قال المفتي: إن هؤلاء من عبيد السلطان، فهل يليق بعرض السلطنة أن يتكفّفوا الناس؟ قال السلطان: لا. قال: فقرّرهم في مناصبهم، فقال له السلطان: نعم إلا أني أعزرهم في تقصيرهم في خدمتهم، فقال المفتي: هذا جائز لأن التعزير مفوض إلى رأى السلطان. ومرّة أخرى أمر السلطان بقتل أربع مئة رجل كانوا قد اشتروا الحرير خلافًا لأمر السلطان، فعارضه المفتي في ذلك. فغضب السلطان أيضًا وقال له: أيها المولى أما يحل قتل ثلثي العالم لنظام الباقي؟ فقال: نعم لكن إذا كان هناك خلل عظيم. فقال السلطان: ليست هذه من وظيفتك. فقال: له بل هي من وظيفتي لأنها متعلقة بالآخرة. وانصرف المفتي ولم يسلّم على السلطان فبقي السلطان واجمًا مدة طويلة، ولكنه عاد فعفا إجابة لطلب المفتي. ثم فكر في استقامة هذا المفتي وولاه قضاء العسكر وقال له: إني تحققت أنك تتكلم بالحق، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وتسع مئة.

ومنهم المولى عبد الرحمن بن على بن المؤيد الأملسي. كان متبحرًا إلى الغاية في العلوم العقلية والنقلية، شيخًا في العلوم العربية، ناظمًا بالتركية والعربية والفارسية. وقرأ في حلب كتاب «المفصل في النحو للزمخشري» وقرأ على المولى جلال الدين الدواني في بلاد العجم، وجاء إلى استامبول في أيام بايزيد خان ودرّس في إحدى المدارس الثمان ثم استقضاه السلطان بالعسكر المنصور. ولما تولى السلطنة السلطان سليم بن بايزيد وسار إلى حرب الشاه إسماعيل كان المولى المذكور معه، وفي أثناء الطريق اختل عقله فجاءوا به إلى استانبول حيث مات، ودفن بجوار أبى أيوب الأنصاري.

ومنهم المولى مصلح الدين مصطفى بن البركى زاده، نصبه السلطان بايزيد معلمًا لابنه أحمد في أماسية ثم استقضاه في أدرنة، ومات في القسطنطينية.

ومنهم المولى محيي الدين محمد الصامصوني، قضى حياته مدرسًا واستقضاه السلطان سليم في أدرنة.

ومنهم المولى سيدي الحميدي قضى حياته مدرسًا بين بورسة، وإزنيق، والقسطنطينية، ثم صار قاضيًا في العاصمة.

ومنهم المولى سيدي القراماني، وكان مدرسًا ثم صار قاضيًا بالعسكر المنصور.

ومنهم المولى نور الدين القراصوي كان مدرسًا في بورسة، ثم صار مدرسًا في أسكوب، ثم صار مدرسًا في إحدى المدارس الثمان بالقسطنطينية، وصار قاضيًا بالعسكر المنصور، وكان قوالًا بالحق، محافظًا على الشريعة، ورعًا متعبدًا.

ومنهم المولى محيي الدين محمد القوجوي، وقضى حياته مدرسًا إلى أن استقضاه السلطان سليم في القسطنطينية، ثم استقضاه بالعسكر المنصور، ثم استعفى ثم جعلوه قاضيًا بمصر وذهب من هناك إلى الحج ومات سنة إحدى وثلاثين وتسع مئة.

ومنهم المولى بالى الآيدينى وكان من كبار المدرّسين.

ومنهم المولى عبد الرحيم بن علاء الدين العربي وكان من عظام المدرسين أيضًا.

ومنهم المولى موسى بن حميد الدين بن أفضل الدين الحسينى، وكان عالمًا عابدًا.

ومنهم المولى محيي الدين العجمي وكان قاضيًا بأدرنة متصليًا في الحق.

ومنهم المولى سنان الدين يوسف العجمي وكان من كبار المدرسين، ومن الصلحاء، ومن المؤلفين وله حواش على شرح المواقف للسيد الشريف، وقلما يوجد عالم كبير من علماء الترك ليس له حواشٍ على كتب السيد الشريف الجرجاني، أو على كتب التفتلزاني.

ومنهم المولى السيد إبراهيم من سادات العجم، جاء إلى بلاد الروم وكان معدودًا من أولياء الله، وكانت تروى عنه الكرامات، وتوفي سنة خمس وثلاثين وتسع مئة في القسطنطينية.

ومنهم المولى علاء الدين على الأماسي وكان مدرسًا أرسله السلطان بايزيد إلى قايتباي سلطان مصر فأصلح بينهما.

ومنهم المولى بدر الدين محمود بن الشيخ محمد، كان إمامًا للسلطان بايزيد.

ومنهم المولى الخليلي كان مدرسًا ثم استقضي بالعسكر المنصور.

ومنهم بير محمد الجمالي كان قاضيًا في صوفية بلاد البلغار، ثم صار حافظًا للدفتر بالديوان العالي، ثم استوزره السلطان سليم خان ولقّبه بير باشا، ثم عزل عن الوزارة وكان محمود السيرة، كثير المبرّات، توفي في حدود الأربعين وتسع مئة. وكان السلطان سليم يقول: إن كان إسكندر يفتخر بوزيره أرسطو فأنا أفتخر بوزيرري بير باشا في عقله ورأيه.

ومنهم المولى محمد المشهور ﺑ«ابن زيرك» بعد أن قضى مدة من عمره مدرسًا بين بورسة، وإزنبق، وكوتاهية؛ تولى القضاء في أدرنة، ثم بالقسطنطينية، ثم بالعسكر المنصور وأرسله السلطان سليم إلى السلطان الغوري صاحب مصر، ومات سنة تسع وثلاثين وتسع مئة.

ومنهم قوام الدين يوسف المعروف ﺑ«قاضي بغداد» كان قاضيًا في بغداد فلما حدثت فتنة ابن أردبيل ارتحل إلى ماردين، ثم جاء إلى القسطنطينية، وكان عالمًا علامة له شرح على «نهج البلاغة» للإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه.

ومنهم المولى إدريس بن حسام الدين البدليسي كان من بلاد العجم ارتحل إلى بلاد الروم وأكرمه السلطان بايزيد غاية الإكرام، وأنشأ تاريخ آل عثمان بالفارسية ويقال إنه تاريخ منقطع النظير. انتقل إلى رحمة ربه في زمان السلطان سليمان القانوني.

ومنهم المولى يعقوب بن سيدي علي كان من كبار المدرسين، له شرح على كتاب «شرعة الإسلام» وكان السلطان بايزيد يلقبه بشارح الشرعة لميله إلى الشرح المذكور.

ومنهم المولى نور الدين حمزة كان حافظًا لدفتر بيت المال بالديوان العالي في زمان السلطان بايزيد.

ومنهم شجاع الدين إلياس الرومي كان من قصبة ديموطقه في الرومللى، وكان من كبار المدرسين معروفًا بالعلم والصلاح والزهد، وله حواش على حاشية شرح التجريد للسيد الجرجاني، وحواشٍ على حاشية المطالب للسيد أيضًا، وحواش على حاشية شرح الشمسية للسيد أيضًا، وحواش على حاشية شرح العضد كذلك للسيد، وكان أكثر اشتغاله بالعلوم العقلية.

ومنهم تاج الدين إبراهيم الشهير ﺑ«ابن الأستاذ» وكان من المدرسين في زمان السلطان بايزيد.

ومنهم ابن المعيد كان مدرسًا في أسكوب ومات فيها.

ومنهم ابن العبري وكان من المدرسين.

ومنهم شمس الدين أحمد اليكاني وكان من المدرسين أيضًا.

ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن عمر الحلبي كان من أصحاب السلطان محمد الفاتح، ونال عنده القبول التام، ثم صدر منه ما غاظ السلطان فأبعده عن جنابه وقال: لولا أنه ابن أستاذي لدمرتهُ. ومات قاضيًا في كوتاهية.

ومنهم المولى عبد الوهاب بن عبد الكريم كان حافظًا لدفتر الديوان في أيام سليم خان، وتوفي في زمان السلطان سليمان.

ومنهم المولى يوسف الحميدي المشهور ﺑ«شيخ سنان» كان من العلماء المدرسين، وله حواش على شرح المفتاح للسيد الشريف.

ومنهم المولى جعفر بن التاجي وكان من أصحاب السلطان بايزيد وبلغ عنده حظوة تامة، ثم غضب عليه وبقي إلى زمان السلطان سليم فجعله قاضيًا للعسكر، ثم نكبه وقتله.

ومنهم المولى سعدي بن ناجي ودرّس مدة طويلة، وكان متقنًا للعربية يقرض الشعر كأنه من فُصَحَاء العرب، وله حواش على شرح المفتاح للسيد الشريف، وقد نظم العقائد النسفية بالعربية نظمًا بليغًا.

ومنهم المولى محمود بن محمد بن قاضي زاده الرومي، درس في غاليبولى، وفي أدرنة ثم جعله السلطان بايزيد من أصحابه، وقرأ عليه العلوم الرياضية إذ كان لا يدانيه فيها أحد، وفي زمان السلطان سليم بن بايزيد تولى قضاء عسكر الأناضول.

ومنهم المولى محمود بن محمد بن قاضي زاده الرومي، درس في غاليبولي، وفي أدرنة ثم جعله السلطان بايزيد من أصحابه، وقرأ عليه العلوم الرياضية إذ كان لا يدانيه فيها أحد، وفي زمان السلطان سليم بن بايزيد تولى قضاء عسكر الأناضول.

ومنهم المولى غياث الدين بن أخي العارف بالله آق شمس الدين، قرأ على الخيالي وعلى خواجه زاده، ودرّس بالمدرسة السيفيّة في أنقرة، ثم بالمدرسة الحسينية في أماسية، ثم بالمدرسة الحلبية بأدرنة، ثم بسلطانّية بورسه، ثم بإحدى المدارس الثمان في قسطنطينية، ثم في مدرسة أبى أيوب الأنصاري، ومات سنة ثمان وعشرين وتسع مئة.

ومنهم الشيخ مظفر الدين على الشيرازي، قرأ في بلاد العجم على صدر الدين الشيرازي، والجلال الدواني، وارتحل إلى بلاد الروم فأعطاه السلطان بايزيد مدرسة مصطفى باشا بالقسطنطينية، ثم أعطاه إحدى المدارس الثمان، ثم كُفّ بصره فتوطن مدينة بورسة. وكان شافعي المذهب، وكانت له اليد الطولى في العلوم العقلية والمنطق وعلم الكلام، وكذلك في الحساب والهيئة والهندسة، وكان مع هذا صالحًا مؤثرًا الفقر، باذلًا ماله للفقراء.

ومنهم الحكيم شاه محمد القزويني كان من تلاميذ الجلال الدواني ومهر في علم الطب، وجاور مدة في مكة المكرمة، واستدعاه السلطان بايزيد إلى استانبول ونال حظوة تامة عند ولده السلطان سليم، ومات في أيام السلطان سليمان القانوني لأن صاحب «الشقائق النعمانية» يقول: «ومات في أيام سلطاننا الأعظم سلمه الله تعالى وأبقاه.» يريد به السلطان سليمان. وله حواش على شرح العقائد العضدية للدواني، وترجمة حياة الحيوان إلى الفارسية، وغير ذلك من التواليف.

ومنهم المولى السيد محمود، كان نقيبًا للأشراف في زمان السلطان بايزيد، وكان كريم الأخلاق، طارحًا للتكلف، مشتغلًا بنفسه، جوادًا بماله.

ومنهم المولى محيي الدين المشتهر «بطبل البازي» وكان مدرسًا مشهورًا.

ومنهم المولى إبراهيم المشهور ﺑ«ابن الخطيب» مات وهو مدرس في بورسة.

ومنهم المولى يحيى بن بخشي، كان عالمًا واعظًا، وكان يُقرئ الطلبة تفسير القاضي البيضاوي بلا مطالعة، وله حواش على شرح الوقاية لصدر الشريعة.

ومنهم كمال الدين إسماعيل القراماني، وكان من المدرسين الكبار، وله تصانيف منها حواش على الكشاف، وحواش على تفسير البيضاوي وحواش على شرح الوقاية لصدر الشريعة، وحواش على شرح المواقف للسيد الجرجاني.

ومنهم المولى عبد الأول بن حسين الشهير ﺑ«ابن أم الولد» قرأ على المولى خسرو الشهير، وتزوّج بابنته، وكان قاضيًا في البلدان الكبيرة، ثم اعتقل لسانه فلزم بيته في القسطنطينية، ومات عن مئة سنة.

ومنهم المولى شمس الدين أحمد الأماسي كان مدرسًا وتوفي في أوائل سلطنة سليم خان.

ومنهم علاء الدين علي الآيديني الملقب «باليتيم» وكان مدرسًا زاهدًا، أرادوه على القضاء فلم يرض، وكان يقرأ عشرين درسًا في اليوم ولا يأخذ أجرة من أحد، وربما قبل الهدية، وكان راضيًا من العيش بالقليل، ومات عن تسعين سنة.

ومنهم المولى الشيخي، كان مدرسًا بمدرسة أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأخذ عنه كثيرون.

ومنهم المولى المعروف ﺑ«ضميري» أعطاه السلطان بايزيد إحدى المدارس الثمان، فقال له المولى ابن المؤيد: إنه غير قادر على التدريس فيها، فقال السلطان بايزيد: فليدرّس الشرح المتوسط للكافية لعله يقدر على ذلك.

ومنهم عمر القسكموني كان علامة بالقراءات.

ومنهم علاء الدين علي القسطموني أخذ عن المولى عمر القراءات، وأقرأها الطلاّب.

ومنهم ابن عمر زاده وكان أيضًا يعرف بالقراءات السبع وأقرأها للناس.

ومنهم حسام المشهور ﺑ«ابن الدلاك» كان خطيبًا بجامع الفاتح في القسطنطينية، وكان عالمًا صالحًا.

ومنهم محيي الدين الطبيب جعله السلطان رئيسًا للأطباء وأكرمه غاية الإكرام، وكان عالمًا عابدًا يحب المساكين، وبعد موته جعل السلطان بايزيد مكانه الحكيم حاجى، وكان السلطان يحب علاج الحكيم المذكور.

ومنهم محيي الدين محمد الأسكليبي، وكان من رجال التصوف. وكان السلطان بايزيد أميرًا على أماسية، فذهب هذا الشيخ إلى الحج ولما ودع السلطان بايزيد قال له: سأراك بعد إيابي من الحجاز جالسًا على سرير السلطنة، فلما رجع من الحج كان الأمر كما قال. فأحبه السلطان حبًّا جمًّا وبنى له زاوية في القسطنطينية، وكانت تزدحم في بابه الوزراء وقضاة العساكر، وكان يدعوه السلطان إلى مصاحبته فحصل له جاه عظيم، لكنه لم يتغير طوره، وبقي ملازمًا الزهد والتقوى.

ومنهم الشيخ مصطفى اليروزي، كان من خلفاء الشيخ الأسكليبي، وكان عالمًا عابدًا.

ومنهم العارف بالله السيد «ولاية» من قصبة كرمتى في الأناضول وكان شريفًا صحيح النسب، حج ثلاث مرات وكان في غاية الورع. ويقال إن السلطان سليم عندما طلب السلطنة في أيام والده بايزيد وسلمه والده السلطنة، التجأ إلى المشايخ الصوفية، ومنهم السيد ولاية المذكور فقال له السيد: ستصير سلطانًا ولكن ليس في عمرك امتداد. وهكذا كان لأن السلطان سليم لم يبق في السلطنة أكثر من ثماني سنوات.

ومنهم الشيخ محيي الدين محمد الشهير ﺑ«يولولي شلبي» كان مدرسًا ثم تصوف وصار مرشدًا.

ومنهم شجاع الدين الشهير ﺑ«نيازي وهو أيضًا كان قاضيًا ثم تصوف وترك الدنيا.

ومنهم صفي الدين مصطفى وكان من الزهاد المرشدين.

ومنهم الشيخ رستم خليفة البروسي كان ينتسب إلى الشيخ عاجي خليفة وكان عابدا متوكلا.

ومنهم العارف بالله ابن علي ججه خليفة العارف بالله ابن الوفاء وكان شيخًا عابدًا زاهدًا.

ومنهم علاء الدين الأسود أخذ عن حاجي خليفة وكان متوجهًا إلى الله بكليته.

ومنهم السيد علي بن ميمون المغربي الأندلسي، جاء في الشقائق النعمانية أنه أخذ عن ابن عرفة وعن الشيخ الدباسي، وجاء إلى الشرق لأجل الحج ودخل مصر ثم الشام ثم جاء إلى بورسة ثم رجع إلى بلاد الشامية وتوفي بها ستة سبع عشرة وتسع مئة وكان على جانب عظيم من التقوى قوالًا بالحق وكان لا يخالف السنة، فلا يقوم للزائرين، وكان يقول: لو أتاني بايزيد بن عثمان لا أعامله إلا بالسنة. وكان لا يقبل الوظائف ولا هدايا الملوك وجاء في «شذرات الذهب» لعبد الحي ابن العماد الحنبلي، ترجمة العارف بالله سيدي علي بن ميمون فقال: إنه ابن ميمون بن أبي بكر بن علي بن ميمون بن أبي بكر بن يوسف بن إسماعيل بن أبي بكر بن عطاء الله ابن حسون بن سليمان بن يحيى بن نصر الهاشمي القرشي المغربي الغماري أصله من «جبل غمارة» وسكن مدينة فاس، واشتغل بالعلم ثم درس ثم ولي القضاء، ثم ترك ذلك ولازم الغزو على السواحل وكان رأس العسكر، ثم ترك ذلك أيضًا وصحب مشايخ الصوفية منهم الشيخ عرفة القيرواني، فأرسله إلى أبي العباس أحمد التوزي الدباسي، ومن عنده توجه إلى المشرق قال الشيخ موسى الكناوي: فدخل بيروت في أول القرن العاشر وكان اجتماع سيدي محمد بن عراق به أولًا هناك.

ولما دخل بيروت استمر ثلاثة أيام لم يأكل شيئًا فاتفق ان ابن عراق قال لجماعته وقد أتوا بالطعام: ادعوا ذلك الفقير. فقام السيد علي وأكل ثم قال ابن عراق: قوموا بنا نزور الإمام الأوزاعي. فصحبهم ابن ميمون ففي أثناء الطريق لعب ابن عراق على جواده كعادة الفرسان، فعاب عليه ابن ميمون فقال له ابن عراق: أتحسن اللعب على الخيل أكثر مني؟ قال: نعم، فنزل ابن عراق عن فرسه فحل ابن ميمون الحزام وشكه كما يعرف، وركب ولعب على الجواد فعرفوا مقداره في ذلك ثم انفتح الأمر بينهما إلى أن شهر الله تعالى سيدي علي بن ميمون وقال في «الشقائق»: إنه دخل القاهرة وحج منها، ثم دخل البلاد الشامية وربى كثيرًا من الناس … إلا آخر ما نقل عن صاحب الشقائق، وقال ابن العماد ا لحنبلي: إنه كان من طريقته ما حكاه محمد بن عراق في كتابه «السفينة» وهو أنه لا يرى لبس الخرقة ولا إلباسها وذكر الشيخ علوان أنه كان لا يرى الخلوة ولا يقول بها، ومن وصاياه: اجعل تسعة أعشارك صمتًا وعشرك كلامًا وكان يقول: الشيطان له وحي وفيض، فلا تغتروا بما يجري في نفوسكم وعلى ألسنتكم من الكلام في التوحيد والحقائق حتى تشهدوه من قلوبكم. وكان ينهي أصحابه عن الدخول بين العوام والحكام ويقول: ما رأيت لهم مثلًا إلا الفأر والحيات، فإن كلًّا منهما مفسد في الأرض. وكان شديد الإنكار على علماء عصره، ومن كلامه: لا ينفع الدار إلا ما فيها. ومنه: لا تشتغل بأن تعد أموال التجار وأنت مفلس، ومنه: اسلك ما سلكوا تدرك ما أدركوا. ومنه: عجبت لمن وقع عليه نظر المفلح كيف لا يفلح، ومنه: كنزك تحت جدارك، وأنت تطلبه من عند جارك. وله من المؤلفات شرح الأجرومية على طريقة الصوفية، وكتاب غربة الإسلام في مصر والشام وما والاهما من بلاد الروم والأعجام، ورسالة لطيفة سماها «تنزيه الصديق عن وصف الزنديق» ترجم فيها للشيخ محيي الدين ابن العربي ترجمة في غاية الحسن والتعظيم.

وذكر ابن طولون أنه دخل دمشق في أواخر سنة اثنتي عشرة وتسع مئة ونزل بحارة السكة بالصالحية، وهرع الناس إليه للتبرك به، وقال محمد بن عراق في سفينته إنه لم يشتهر في بلاد العرب بالعلم والمشيخة والارشاد إلا بعد رجوعه من الروم إلى حماة سنة إحدى عشرة، ثم قدم إلى دمشق سنة ثلاثة عشرة وتسع مئة، وأقام في قدمته هذه ثلاث سنوات وخمسة أشهر وأربعة عشر يومًا يربي ويرشد، ويدعو إلى الله على بصيرة، واجتمع عليه الجم الغفير، ثم دخل عليه قبض وهو بصالحية دمشق واستمر ملازمًا له حتى ترك مجلس التأديب، وأخذ يستفسر عن الأماكن التي في بطون الأودية ورءوس الجبال، فذكر له محمد بن عراق «مجدل معوش» فهاجر إليها في ثاني عشر محرم هذه السنة، قال سيدي محمد بن عراق: ولم يصحب غيري والولد علي — وكان سنه عشر سنين — وشخصًا آخر عملًا بالسنة، وأقمت معه خمسة أشهر وتسعة عشر يومًا وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر جمادى الآخرة ودفن بها في أرض موات بشاهق جبل حسبما أوصى به قال: ودفن خارج حضرته المشرفة ورجلان وصبيان وامرأتان وأيضا امرأتان وبنتان، الرجلان محمد المكناسي، وعمر الأندلسي، والصبيان ولدي عبد الله — وكان عمره ثلاث سنين — وموسى بن عبد الله التركماني والمرأتان أم إبراهيم وبنتها عائشة زوجة الذعري، والأخريان، مريم القدسية، وفاطمة الحموية، وسألته عند وفاته: أين أجعل دار هجرتي؟ فقال: مكان يسلم فيه دينك ودنياك ثم تلا قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ … الآية.

قلت: قرية «مجدل معوش» هي في قضاء الشوف من بلادنا في بلد لبنان وكان أهلها مسلمين من أهل السنة، ووقعت بينهم عداوة شديدة فخرجوا منها واشتراها النصارى، وذلك منذ مائتي سنة، ولما دخلها السيد علي بن ميمون المغربي كانت لا تزال قرية إسلامية، وبقي قبر السيد من ذلك الوقت معروفًا لا يجهله أهل القرية، وجاءنا مرة الخبر بأن بعض النصارى أرادوا استعمال ذلك القبر للدفن، وكان في ذلك الوقت عمنا الأمير مصطفى أرسلان قائم مقام قضاء الشوف، فأخبرته بالخبر فأمر مدير ناحية العرقوب الشمالي التي منه تلك القرية بأن يتحقق هذا الأمر ويمنع تعرض أحد للقبر، ثم جمعنا إعانة مالية وأدى كل منا ما قدر عليه، فبلغ المجموع مئة جنيه ذهب وجددنا القبر المذكور لأنه كان قد خرب تقريبًا فخشينا بسبب خرابه أن يستعمله النصارى لدفن موتاهم.

وبلغ المرحوم الأمير علي بن الأمير عبد القادر الجزائري شروعنا ببناء هذا القبر، فأراد أن يكون له حصة في المثوبة فأرسل أيضًا شيئًا من المال، وهكذا جددنا قبر الولي المشار إليه قدس الله سره بعد نحو من أربع مئة سنة من وفاته، وكان هذا العاجز السبب في ذلك، وأخمن أن هذه القضية مضى عليها سبع وثلاثون سنة، وقد أطلت في ترجمة السيد علي بن ميمون لكونه من أقمار أهل المغرب التي اطعلت على المشرق ولكوني قمت له بخدمة قبره بعد دفنه بأربعة قرون والله على ذلك شهيد.

ثم نعود إلى ذكر العلماء الذين اشتهروا في زمان السلطان بايزيد فمنهم العارف بالله الشيخ علوان الحميدي، اتصل بخدمة السيد علي بن ميمون وكان بحرًا من بحار الحقيقة، وكان شافعي المذهب، توفي سنة أثنتين وعشرين وتسع مئة

ومنهم الشيخ محمد الشهير ﺑ«ابن عراق» كان من أولاد الأمراء الشراكسة وكان من طائفة الجند، وكان صاحب ثروة وحشمة وافرة فترك كل هذا واتصل بخدمة السيد علي بن ميمون، واشتغل عنده بالرياضة، وكان عالمًا زاهدًا وجاور مدة بعد وفاة ابن ميمون بالمدينة المنورة ومات ودفن فيها، وأتذكر أنه يوجد في بيروت زاوية منسوبة إلى ابن عراق.

ومنهم «ابن صوفي» واسمه عبد الرحمن كان عالمًا مدرسًا ثم اتصل بالسيد علي بن ميمون وصار من تلاميذه ولما ذهب السيد إلى الشام بعد أن سكن مدة في بورسة نصبه خليفة له في بلاد الروم.

ومنهم المولى إسماعيل الشرواني قرأ على جلال الدين الدواني، وخدم العلم طول حياته، وتوطن أخيرًا في مكة المكرمة ومات فيها.

ومنهم الشيخ بابا نعمة الله، وكان من السادة الصوفية، سكن بقصبة آق شهر وتوفي بها.

ومنهم الشيخ محمد البدخشي، كان زاهدًا متجردًا من علائق الدنيا ثم ذهب إلى دمشق وسكن بها، ولما دخل السلطان سليم دمشق زار هذا الشيخ مرتين، ففي المرة الاولى جلسا صامتين وسئل السلطان سليم عن ذلك فقال: فتح الكلام ينبغي أن يكون من العالي ولا علو له عليه. وقد تأدب الشيخ أيضًا واختار الصمت تنزلًا منه، وأما في الزيارة الثانية فقال الشيخ البدخشي للسلطان: كلانا عبد لله تعالى وإنما الفرق هو أن ظهرك ثقيل من أعباء الناس، وظهري أنا خفيف، فاجتهد أن لا تضيع أمتعتهم. ومات البدخشي بدمشق سنة اثنتين وعشرين وتسع مئة.

ومنهم السيد أحمد البخاري الحسيني، جاء من بخارى إلى بلاد الروم وصحب الشيخ الإلهي، وكان من أشد الناس ورعًا، وتعلق به الناس كثيرًا وتركوا المناصب واختاروا خدمته، فبنى مسجدًا وحجرات حوله للطالبين وذلك في القسطنطينية، وكان مجلسه في غاية الوقار، تجلس فيه الناس كأن على رءوسهم الطير، ولا تجري في مجلسه كلمات دنيوية أصلًا، وكانت طريقته العمل بالعزيمة وترك البدعة واتباع السنة وإقامة الصلاة والانقطاع عن الناس والمداومة على الذكر الخفي، والعزلة عن الأنام وقلة الكلام والطعام وإحياء الليالي وصوم الأيام، مات سنة اثنتين وعشرين وتسع مئة.

ومنهم الشيخ مصلح الدين الطويل، أصله من كرة النحاس من ولاية قسطموني كان من المشتغلين بالعلم، ثم التحق بالشيخ الإلهي واشتغل بالتصوف.

ومنهم عابد شلبي من ذرية مولانا جلال الدين الرومي، كان قاضيًا ثم ترك القضاء واتصل بالشيخ الإلهي وبنى مسجدًا في القسطنطينية وحوله حجرات للفقراء.

ومنهم الشيخ لطف الله الأسكوبي، وهو ممن اتصل أيضًا بالشيخ الإلهي وكان في الآخر زاهدًا ناسكًا ساكنًا على جبل من جبال أسكوب منقطعًا عن الدنيا.

ومنهم بدر الدين بابا وكان أيضًا من جماعة الشيخ الإلهي.

ثم منهم علاء الدين خليفة، وكان أولًا من طائفة الجند ثم اقتدى بالشيخ علاء الدين أبدال ورووا عنه الكرامات وبنى زاوية بالقسطنطينية، ومن هذا النمط الشيخ سليمان خليفة وبنى زاوية أيضًا.

ومنهم الشيخ سونديك الشهير ﺑ«قورجي دده».

ومنهم العارف بالله ابن الإامام من السادة الصوفية من أهل آيدين.

ومنهم الشيخ صلاح الدين الأزنيقي كان من مريدي شيخي خليفة.

ومنهم الشيخ بايزيد خليفة وكان عالمًا متصوفًا سكن بمدينة أدرنة.

ومنهم الشيخ سنان الدين يوسف المعروف ﺑ«سنبل ستان» وكان مرشدًا مربيًّا، وعلى جانب من العلم.

ومنهم الشيخ جمال الدين القراماني المعروف ﺑ«جمال خليفة» جاء من بلاده قرامان إلى القسطنطينية وكان مربيًّا مرشدًا وتاب على يده كثيرون.

وقال صاحب «الشقائق النعمانية»: إنه عاده في مرض موته وطلب منه الوصية فقال له: لا تسلك مسالك الصوفية إذ لم يبق لها اليوم أهل، وقال: التوحيد والإلحاد يصعب التمييز بينهما، فالوقوف على طريقتك أسلم، ثم قال له: فإن غلب عليك خاطرك بالميل إلى التصوف فاختر من المشايخ من كان ثابت القدم في الشريعة وإن رأيت فيه شيئًا يخالف الشرع ولو قليلًا فاحترز منه، فإن مبنى الطريقة رعاية الأحكام الشرعية.

ومنهم الشيخ قاسم شلبي، وكان متصوفًا جلس في زاوية الوزير علي باشا في القسطنطينية.

ومنهم الشيخ رمضان، كان من أتباع طريقة الحاج بيرم، وكان مرشدًا كبيرًا.

ومنهم الشيخ بابا يوسف السفر حصاري، وكان منتسبًا إلى هذه الطريقة ولما بنى السلطان بايزيد جامعه بالقسطنطينية حضر للصلاة في أول جمعة بعد بنائه وصعد الشيخ بابا يوسف المنبر ووعظ الناس فحصل لكلامه تأثير عظيم في السامعين، وكان بعض النصارى يستمعون من خارج الجامع فأسلم منهم ثلاثة ففرح السلطان بايزيد بذلك وأنعم عليهم، وصار السلطان يحب هذا الشيخ كثيرًا، وعندما ذهب الشيخ للحج أعطاه السلطان مقدارًا من الذهب وقال له: هذا المال حصل لي من كسب يدي، وأوصاه أن يجعله في قنديل الصدقات في التربة المطهرة بالمدينة وأن يقول عند التربة المطهرة: يا رسول الله إن راعى أمتك العبد المذنب بايزيد يقرئك السلام، وأرسل هذا الذهب الحاصل من طريق الحلال ليصرف إلى زيت قنديل تربتك وتضرع إليك أن تقبل صدقته. ففعل الشيخ ما أمره به السلطان، وكانت وفاة هذا الشيخ في أوائل سلطنة سليم خان، ودفن في جوار أبي أيوب الانصاري عليه رحمة الباري.

ولما جلس السلطان سليم بن بايزيد على كرسي السلطنة وذلك في الثاني عشر من صفر سنة ثمان عشرة وتسع مئة طلب الانكشارية زيادة رواتبهم، فاضطر أن يرضيهم لأنهم كانوا السبب في سلطته، وزاد الرسوم المضروبة على البضائع الورادة إلى بلاده، رفعها من ثلاثة في المئة إلى خمسة، وكان الأمير أحمد أمير أماسية استقل واستولى على بورسة، واتفق مع مصطفى بك والي أنقرة فرأى السلطان سليم أن لا بد من قتل إخوته، ولما وقع أخوه قورقوت في يده قتله، وكذلك زحف إلى قتال أخيه أحمد فتلاقيا في صحراء يني شهر، فكانت الطائلة للسلطان سليم ووقع أحمد في يد أخيه فقتله أيضًا، فاتسق له الأمر، وأرسلت الدول المجاورة تهنئة ما عدا الشاه إسماعيل سلطان العجم، فكان هواه مع الأمير أحمد، وقد بلغ الشاه إسماعيل في زمانه أقصى درجات القوة، وكان في يده جميع فارس وخراسان والعراق العربي وكردستان وديار بكر — أي من الفرات إلى سيحون وجيحون — فكانت الدولة الصفوية في أوج مجدها، وكانت دولة شيعية خالصة، وقد أخذت تبث التشيع في البلاد العثمانية، فثار غضب السلطان سليم وزحف بمئة وثمانين ألف مقاتل، فصار جيش شاه إسماعيل ينكص إلى الوراء ولا يقاتل، فوصل العثمانيون إلى تبريز، فاعتصم الإيرانيون بأعالي الجبال المشرفة على صحراء «تشالديران» فقبل أن أصلاهم السلطان سليم نار الحرب عقد مجلسًا حربيًّا فأشار الوزراء بإراحة العسكر أربعا وعشرين ساعة بالأقل، وخالفهم في ذلك بيري باشا قائلًا: تجب المناجزة في الحال. فأعجب رأيه السلطان سليم وهجم على الإيرانيين وتغلب عليهم بواسطة مدافعه، ووقع في السلطان أثقال الشاه إسماعيل وأمواله مع حرمه وعدد كبير من الأسرى فأمر يقتل الجميع ما عدا النساء والأولاد.

وأراد السلطان سليم أن يشتو تلك السنة في تبريز، وأن يزحف في أول الربيع إلى فارس، ولكن الانكشارية كانوا قد ملوا القتال والسفر وأصبحوا يريدون الرجوع، فعاد بهم إلى أماسية، وقيل إنه رجع لفقد القوت والعلوفة في بلاد العجم لأن الشاه إسماعيل كان قد خرب البلاد، ثم أرسل الشاه إسماعيل يطلب من السلطان سليم زوجته التي وقعت في الأسر في معركة تشالديران، فرض السلطان تسليمها إليه وأزوجها من وزيره جعفر شلبي، ثم إن الانكشارية ثاروا مرة ثانية في أماسية وأجبروا السلطان على الرجوع إلى القسطنطينية، فأراد السلطان الانتقام من رؤسائهم وقتل إسكندر باشا وسقبان باشا عثمان، وقاضي العسكر جعفر شلبي، وجاء جيش من قبل الشاه إسماعيل يسترجع ديار بكر، فهزمهم العثمانيون واستولوا على «حصن كيفا» و«سنجار» و«بيرجك» و«الموصل» ثم فكر السلطان سليم في فتح بلاد العرب، فزحف إلى «حلب» وجاء من مصر السلطان قانصوه الغوري وكان شيخًا كبيرًا بلغ سن الثمانين، إلا أنه كان عالي الهمة فتلاقى مع السلطان سليم في مرج دابق عند حلب، وكانت مدافع العثمانيين جعلت الرجحان في جانبهم، وانحاز جانب من جماعة قانصوه الغوري إلى السلطان سليم، ومن هؤلاء جان بردي الغزالي وخير بك الجركسيان وكان معهما أمراء لبنان.

وكان الملك الأشرف قانصوه الغوري أمر الغزالي وخير بك أن يتقدماه أمام الجيش أملًا بأن يُقتلا لوحشة كانت بينه وبينهما، فراسلا السلطان سليمًا واتفقا معه وانحازا إلى جيشه ومعهما جم من رجال الجيش المصري ومعهما أمراء لبنان، منهم الأمير فخر الدين المعني والأمير جمال الدين الأرسلاني وهو جدنا على عمود النسب والأمير عساف التركماني، ولما دارت المعركة كان النصر للسلطان سليم وقتل الغوري في المعركة، وكانت هذه الواقعة سنة ١٥١٦ وقيل ١٥١٥ وهو الأصح، فدخل بعدها السلطان سليم حلب، ثم دمشق بدون قتال، وقيل إن السلطان سليم صلى الجمعة في جامع سيدنا زكريا في حلب فخطب الخطيب ودعا له بالنصر ولقبه «سلطان البرين والبحرين، وصاحب الحرمين الشريفين» فأمر السلطان بأن يقال «خادم الحرمين الشريفين» وسجد شكرًا لله.

ولما مر بحماة نزل في دار آل الكيلاني السادة المشهورين من ذرية السيد عبد الله القادر الكيلاني، ورأيت بعيني الغرفة التي بات فيها وهي مطلة على نهر العاصي وأنعم السلطان على آل الكيلاني وأكرمهم، وكان شاعرًا أديبًا فأطربه مركز حماة وأعجبه ما هم عليه السادة الكيلانية من الوجاهة والكرم فنطق لسانه بهذين البيتين:

بني كيلان هنتم بعيش
أرى من دونه السبع الطباقا
أطاع لديكمو العاصي ولما
تشرف بالجوار حلا وراقا

رواهما لي السيد عبد القادر حسني الكيلاني كبير هذه الأسرة الشريفة اليوم، وجلس على كرسي مصر بعد قتل الغوري طومان بك واستعد للقتال، فزحف السلطان سليم إلى مصر واشتبكت معركة من أشد المعارك المعروفة في التاريخ، ولكن الأتراك بسبب مدافعهم تغلبوا على المماليك ودخل السلطان سليم إلى القاهرة وانهزم طومان بك بعد أن ألحق بالعثمانيين خسائر عظيمة، ولم يقع طومان بك في المعركة أسيرًا بل انحاز بمن بقي معه إلى الريف، وشرع يهاجم العثمانيين، فأرسل السلطان يعرض عليه الصلح فأبى المماليك الصلح، فزحف السلطان إليهم وفي هذه الوقعة أخذ طومان بك أسيرًا وشنقه السلطان وعلقه على باب القاهرة، وذلك سنة ١٥١٧ في ١٣ أبريل، وبعد ذلك دخل الحجاز تحت حماية الدولة العثمانية، ويقال إن السلطان سليم كتب بيده على عمود المقياس الذي على شاطئ النيل هذين البيتين:

الملك لله من يظفر بنيل مني
يردده حقًّا ويضمن بعده الدركا
لو كان لي أو لغيري قيد أنملة
فوق التراب لكان الأمر مشتركا

وقد ظن بعض المؤرخين أن هذين البيتين هما من نظمه لأنه كان شاعرا بليغًا بالعربية والتركية والفارسية، ولكننا وجدنا هذين البيتين في لزوميات المعري، فيكون السلطان قد استشهد بهما.

ثم إنه بعد أن استودع إدارة مصر خير بك، رجع إلى سورية وأخذ بتنظيم إداراتها وكان نشاط هذا السلطان غير معهود المثال، وتوقد ذهنه فوق الخيال.

وكان محبًّا للعلماء والأدباء، مغرمًا بالعلم والعرفان، وكانت همته أعلى ما عهد في همم الرجال، وكان يتنكر ويخرج متنكرًا فيختلط بالشعب ليطلع على حقائق الأحوال ويعرف ممن تشكو الرعايا فيقتص من العمال الذين يتحقق خروجهم عن جادة العدل، ولم يكن فيه عيب يُذكر سوى شدة ميله إلى سفك الدماء، وكم قتل من إخوته ووزرائه وعماله، ولم يكن يجرؤ عليه إلا المفتي الجمالي، الذي يلقبه الأتراك ﺑ«زنبيللي علي أفندي» لأنه كما تقدم الكلام كان عنده زنبيل معلق يضع فيه السائل سؤاله ويحركه فيجذبه الشيخ ويخرج منه السؤال ويجيب عليه ويعيده بالزنبيل الذي يسقط إلى أسفل فيأخذ الجواب منه.

ويقال إن السلطان سليم أراد حمل النصارى الذين في المملكة على الإسلام جميعًا أو يخرجوا من البلاد فعارضه زنبيللي على أفندي أي المفتي الجمالي، وقال له: لا يحل له ذلك، وليس لنا إلا أن نأخذ منهم الجزية والطاعة. ويروي الناس بالتواتر شيئًا آخر، وهو أن السلطان سليم أراد أن يجعل العربية لسانًا رسميًّا للدولة فعارضه الأتراك في ذلك، ولم أطلع على هذه الرواية في الكتب ولكن الناس يتناقلونها كثيرًا والله أعلم.

فأما قضية حمل النصارى الذين في المملكة على قبول الإسلام أو الرحيل منها فهو مروي بالتواتر وفي الكتب أيضًا، فيكون قد ثبت أن الشريعة الإسلامية بعدالتها وأمانتها هي التي حفظت المسيحيين في السلطنة العثمانية أيام كان السلطان يقدر أن ينفذ جميع ما يريده بهم، ولذلك نجد ملاحدة الترك ينتقدون دائمًا العمل بالشرع الإسلامي بحجة كونه السبب في بقاء النصارى في السلطنة العثمانية، وأن بقاءهم كان السبب في ضعف تركيا، فملاحدة الترك يجعلون الشرع الإسلامي مذنبًا في تهيئة الحظر السياسي الذي أصاب تركيا، ولذلك لما استولوا على الحكم بعد الحرب العامة أخرجوا جميع النصارى من تركيا، ولم يبق إلا النصارى الذين في القسطنطينية فقط، لأن الدول في مؤتمر لوزان لم توافق على إخلاء القسطنطينية من النصارى تماما وتقرر بمقابلتهم إبقاء مسلمي تراقية الغربية في بلاد اليونان.

ومن العجب أننا نرى الأوروبيين يعملون بكل قوتهم لمحو الشرعية الإسلامية التي في ظلها وبسببها لا غير بقي النصارى في جميع الممالك الإسلامية، وفي السلطنة العثمانية متمتعين بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلمون منذ ظهور الإسلام إلى يوم الناس، هذا وكان نصارى البلاد العثمانية بضعة عشر مليون نسمة، ومن العجب أننا نراهم مع ذلك يفضلون أن تكون الحكومات الإسلامية ملحدة ولو كانت تخرج جميع النصارى من بلادها، وهذا أقصى ما يتصوره العقل من التحامل والتعصب على الإسلام! يكرهونه ولو حفظهم ويحبون زواله ولو كان في ذلك زوالهم!

هذا ومات السلطان سليم في ٢٢ سبتمبر ١٥٢٠ فلم يقم في السلطنة أكثر من ثماني سنوات، ولو طالت مدة هذا الرجل العظيم على كرسي هذه السلطنة العظمى لما عرف أحد أية درجة من الشوكة والبسطة كانت تنتهي السلطنة العثمانية؟

وجاء في «شذرات الذهب» عن السلطان سليم ما يأتي:

وفي سنة ست وعشرين وتسع مئة توفي السلطان سليم بن أبي يزيد بن محمد السلطان المفخم والخاقان المعظم، سليم خان بن عثمان تاسع ملوك بني عثمان، هو من بيت رفع الله على قواعده فسطاط السلطنة الإسلامية، ومن قوم أبرز الله تعالى لهم ما ادخره من الاستيلاء على المدائن الإيمانية رفعوا عماد الاسم، وأعلنوا منارة وتواصوا باتباع السنة المطهرة وعرفوا للشرع الشريف مقداره، وصاحب الترجمة منهم هو الذي ملك بلاد العرب، واستخلصها من أيدي الشراكسة بعدما شتت جمعهم، فانفلوا عن مليكهم وجدوا في الهرب: ولد ب أماسية في سنة اثنتين وسبعين وثمان مئة وجلس على تخت السلطنة وعمره ست وأربعون سنة بعد أن خلع والده نفسه عن السلطنة وسلمها إليه، وكان السلطان سليم ملكها قهارًا، وسلطانًا جبارًا قوي البطش، كثير السفك، شديد التوجه إلى أهل النجدة والبأس، عظيم التجسس عن أخبار الناس، وربما غير لباسه وتجسس ليلًا ونهارًا وكان شديد اليقظة والتحفظ بحسب مطالعة التواريخ وأخبار الملوك، وله نظم بالفارسية والرومية والعربية، منه ما ذكر القطب الهندي المكي أنه رآه بخطه في الكشك الذي بني له بروضة المقياس بمصر ونصه:

الملك لله من يظفر بنيل غنى
يردده قسرا ويضمن عنده الدركا
لو كان لي أو لغيري قيد أنملة
فوق التراب لكان الأمر مشتركا

قال الشيخ مرعى الحنبلي في كتابه «نزهة الناظرين» وفي أيامه تزايد ظهور شأن إسماعيل شاه، واستولى على سائر ملوك العجم، وملك خراسان وأذربيجان وتبريز، وبغداد وعراق العجم، وقهر ملوكهم، وقتل عساكرهم، بحيث قتل ما يزيد على ألف ألف! وكان عسكره يسجدون له، ويأتمرون بأمره وكان يدعى الربوية، وقتل العلماء وأحرق كتبهم ونبش قبور المشايخ من أهل السنة وأخرج عظامهم وأحرقها. وكان إن قتل أميرًا أباح زوجته وأمواله لشخص آخر، فلما بلغ السلطان سليم ذلك تحركت همته لقتاله وعد ذلك من أفضل الجهاد، فالتقى معه بقرب تبريز بعسكر جرار، وكانت وقعة عظيمة، فانهزم جيش إسماعيل شاه واستولى سليم على خيامه وأعطى الرعية الأمان، ثم أراد الإقامة بالعجم للتمكن من الاستيلاء عليها، فما أمكنه ذلك لشدة القحط بحيث بيعت العليقة بمئة درهم والرغيف بمئة درهم، وسببه تخلف قوافل الميرة التي كان أعدها السلطان سليم، وما وجد في تبريز شيئًا، لأن إسماعيل شاه عند انهزامه أمر بإحراق أجران الحب فاضطر سليم للعودة إلى بلاد الروم.

وفي أيامه كانت وقعة الغوري، وذلك أن سليم لما رجع من غزو إسماعيل شاه تفحص عن سبب انقطاع قوافل الميرة عنه فأخبر أن سببه سلطان مصر قانصوه الغوري، فإنه كان بينه وبين إسماعيل شاه محبة ومراسلات وهدايا، فلما تحقق سليم ذلك صم على قتال الغوري أولًا، ثم بعده يتوجه لقتال إسماعيل شاه ثانيًا، فتوجه بعسكره إلى جهة حلب سنة اثنتين وعشرين كما تقدم، فخرج الغوري بعساكر عظيمة لقتاله، ووقع المصاف بمرج دابق شمالي حلب، ورمى عسكر سليم عسكر الغوري بالبندق ولم يكن في عسكري الغوري شيء منه، فوقعت الهزيمة على عسكر الغوري بعد أن كانت النصرة له أولًا، ثم فُقِدَ تحت سنابك الخيل وكان ذلك بمخاطرة خير بك والغزالي، بعد أن عهد إليهما السلطان سليم بتوليتهما مصر والشام.

ثم بعد الوقعة أخليا له حلب لأنهما معه في الباطن فأقبل سليم إلى حلب فخرجوا للقائه يطلبون الأمان ومعهم المصاحف يتلون جهارًا وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَىٰ فقابلهم بالإجلال والإكرام ثم حضرت صلاة الجمعة فلما سمع الخطيب خطب باسمه وقال: «خادم الحرمين الشرفين» سجد لله شكرًا على أن أهله لذلك ثم ارتحل للشام بعد أن أخلاها له خير بك والغزالي، فخرجوا للقائه ودعوا له فأكرمهم وأقام بها لتمهيد أمر المملكة، وأمر بعمارة قبة علي الشيخ محيي الدين بن عربي بصالحية دمشق ورتب عليها أوقافًا كثيرة، ثم توجه إلى مصر فلما وصل إلى خان يونس بقرب غزة قتل فيه وزيره حسام باشا.

ثم لما دخل مصر وقع بينه وبين طومان باي سلطان الجراكسة حروب يطول ذكرها، وقتل بها وزيره سليم يوسف سنان باشا وكان مقدامًا ذا رأي وتدبير، فأسف سليم عليه بحيث قال: أي فائدة في مصر بلا يوسف! وقاتل طومان باي ومن معه من الأمراء قتالًا شديدًا وظهر لطومان باي شجاعة قوية عرف بها وشهد له بها الفريقان، وأوقع الفتك بعسكر السلطان سليم، ولولا شدة عضده بخير بك والغزالي ومكيدتهما ما ظفر بطومان باي، ثم لما ظفر به أراد أن يكرمه ويجعله نائبًا عنه بمصر، فعارضه خير بك وخاف عاقبة فعله وقال لسليم: إنك إن فعلت ذلك استولى على السلطنة ثانيًا، وحسن له قتله فقلته وصلبه بباب زويلة ودفنه كما أسلفنا.

ونزل السلطان سليم بالمقياس مدة إقامته بمصر بعيدًا عن روائح القتلى وحذرًا من المكيدة إلى أن مهدها، ثم ولى خير بك أمير الأمراء على مصر وولى الغزالي على الشام، وولى بمصر القضاة الأربعة وهم: قاضي القضاة كمال الدين الشافعي وقاضي القضاة نور الدين على بن يس الطرابلسي الحنفي وقاضي القضاة الدميري المالكي وقاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الحنبلي، واستولى على الأرض الحجازية وغيرها ورتب الرواتب، وأبقى الأوقاف على حالها، ورتب لأهل الحرمين في كل سنة سبعة آلاف إردب حب، ثم عاد إلى القسطنطينية وقد صرف غالب خزائنه، فأخر السفر إلى بلاد العجم ليجمع ما يستعين به على القتال، فظهر له في ظهره جمرة منعته الراحة وعجزت في علاجها حذاق الأطباء، ولا زالت به حتى حالت بينه وبين الأمنية فتوفي رحمه الله في رمضان أو شوال بعد علة نحو أربعين يومًا، وذكر العلائي في تاريخه: «أنه خرج من القسطنطينية إلى جهة أدرنة وقد خرجت له تلك الجمرة تحت إبطه وأضلاعه، فلم يفطن بها حتى وصل إلى المكان الذي بارز فيه أباه أبا يزيد حين نازعه في السلطنة، فطلب له الأطباء فلم يدركوه إلا وقد تأكّلت ووصلت إلى الأمعاء فلم يستطيعوا لها دفعًا ولا نفسًا ومات بها ودفن بأدرنة عند قبر أبيه. انتهى ملخصًا.

قلت: ونبغ من العلماء في عصر السلطان سليم:

المولى شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا، وكان جده من أمراء الدولة العثمانية، ونشأ في حجر العز والدلال ثم غلب عليه حب العلم والكمال فاشتغل بتحصيل العلم ليلًا ونهارًا، وبعد أن مهر في العلوم تولى التدريس، وانتقل في مدرسة إلى مدرسة، ثم تولى قضاء العسكر، ثم تولى الإفتاء في القسطنطينية بعد وفاة زنبيللي علي أفندي ومات وهو في الإفتاء سنة أربعين وتسع مئة وله تصانيف كثيرة منها: حواشٍ على الكشاف، وله كتاب في الفقه متن، وشرح سماه «الإصلاح والإيضاح» وله كتاب في الأصول متن وشرح، وله كتاب في علم الكلام متن وشرح، وله كتاب في الفرائض متن وشرح، وله حواشٍ على شرح المفتاح للسيد الشريف، ومَن مِن فحول علماء الأتراك لم يكتب حواشي على كتب السيد الشريف، وله تآليف في التركية والفارسية ومن جملة كتبه التركية تاريخ لآل عثمان.

ومنهم المولى عبد الحميد بن علي، وقرأ في بلاد العرب ثم في بلاد العجم ثم جاء إلى بلاد الروم وسكن ببلدة قسطموني، ولما جلس السلطان سليم على سرير السلطنة اتخذه إمامه لنفسه ومات بصحبة السلطان بمدينة دمشق بعد قفول السلطان من مصر.

ومنهم المولى محيي الدين محمد شاه بن علي بن يوسف بالي بن شمس الدين الفناري وهم بيت علم كابرًا عن كابر وتولى التدريس مدة ثم استقضي بالقسطنطينية، ثم تولى قضاء العساكر.

ومنهم المولى محيي الدين محمد بن على بن يوسف بن شمس الدين الفناري، ودرس مدة طويلة، واستقضي بالعسكر المنصور، وكان عالمًا ورعًا مدققًا محتاطًا في معاملاته مع الناس، محبًّا للفقراء والصلحاء، قال صاحب «الشقائق»: كان رحمه الله علامة في الفتوى وآية كبرى في التقوى.

ومنهم محيي الدين محمد بن علاء الدين علي الجمالي المتقدم الذكر، وهم بيت علم وفضل، تولى التدريس ثم القضاء وكان من ذوي الطريقة الحسنة.

ومنهم محمد شاه بن محمد بن الحاج حسن، وتولى التدريس مدة طويلة وله تآليف منها شرح على مختصر القدوري.

ومنهم المولى حسام لادين حسين بن عبد الرحمن ودرس في أكثر المدارس المشهورة، ثم تولى القضاء.

ومنهم مصلح الدين مصطفى بن خليل والد «صاحب الشقائق» ولد سنة فتح القسطنيطينية أي سنة سبع وخمسين وثمان مئة وكانت ولادته ببلدة طاش كوبرى وأخذ عن علماء كثيرين وأشهرهم خواجه زاده، وتولى التدريس تارة في أنقرة وتارة في بورسة، وطورًا في أسكون وطورًا في أدرنة، ثم جعله السلطان بايزيد معلمًا لابنه السلطان سليم، ثم استقضاه السلطان سليم بمدينة حلب ثم استعفى من القضاء ورجع إلى التدريس، وكان زاهدًا عابدًا صاحب أدب ووقار فيما يروي عنه ولده، وقال: إنه لم يسمع منه كلمة فيها رائحة الكذب ولا كلمة فيها فحش، وكان طاهر الظاهر والباطن وكانت أكثر براعته في الحديث والتفسير وأصول الفقه والعلوم الأدبية، ولم يتبحر في السابق، وكان مدرسًا كبيرًا وكانت أكثر مهارته في العلوم الأدبية والعقلية.

ومنهم عبد الواسع بن خضر من أولاد الأمراء أصله من بلدة «ديموطقة» في الرومللي وارتحل إلى بلاد العجم وخراسان، وقرأ على شيخ الإسلام حافد العلامة التفتازاني حواشي شرح المطالع وحواشي شرح العضد للسيد الشريف، ثم رجع إلى بلاد الروم في أواخر سلطنة بايزيد، وفي زمان السلطان سليم تولى التدريس وفي زمان السلطان سليمان القانوني تولى قضاء العساكر، وبعد أن بقي مدة في القضاء وبنى المدارس والمكاتب ارتحل إلى مكة المكرمة واعتزل الناس وعكف على العبادة إلى أن مات سنة خمس وأربعين وتسمع مئة.

ومنهم عبد العزيز بن يوسف بن حسين الحسيني الشهير ﺑ«عايد شلبي «وكان مدرسا ثم تولى القضاء.

ومنهم عبد الرحمن بن يوسف بن حسين الحسيني، وكان أيضًا مدرسًا ثم انقطع عن الخلق لأجل العبادة.

ومنهم بير أحمد شلبي الآيديني، وكان من المدرسين الكبار.

ومنهم محيي الدين محمد بن الخطيب قاسم، وكان مدرسًا وتولى تعليم الأمير أحمد بن السلطان بايزيد وكان عالمًا أديبًا عابدًا ورعًا، وكان ينظم الشعر العربي والتركي ويحفظ المحاضرات والتواريخ.

ومنهم زين الدين محمد بن محمد شاه الفناري وكان عالمًا فاضلًا خدم العلم الشريف مدة طويلة مع التقوى والورع.

ومنهم المولى داود بن كمال القوجوي، وكان مدرسًا كبيرًا وله اليد الطولى في العلوم العقلية.

ومنهم بدر الدين محمود الشهير ﺑ«بدر الدين الأصغر» وكان أيضًا من المشتغلين بالعلوم العقلية، وبعمل الحديث أيضًا.

ومنهم المولى نور الدين حمزة، وكان من الفقهاء ولكنه كان حريصًا على جمع المال وبنى بماله مسجدًا بالقسطنطينية وحجرات لسكنى العلماء، قال له الوزير إبراهيم باشا: إنك تحب المال فكيف صرفت هذه الموال في الأوقاف؟ قال: هذا من غاية محبتي للمال، حيث لا أرضى أن أخلفه في الدنيا، وأريد أن يذهب معي إلى الآخرة.

ومنهم المولى محيي الدين محمد البردعي وكان بارعًا في العلوم العربية وصاحب أخلاق، وله تصانيف.

ومنهم محمود الشهير ﺑ«ابن المجلد» وكان عالمًا زاهدًا وتوفي في أوائل سلطنة سليمان القانوني.

ومنهم محيي الدين محمد بن يوسف بن يعقوب الملقب «باجه زاده» وكان من المدرسين ثم صار من القضاة في زمان السلطان سليم.

ومنهم محيي الدين محمد المشهور ﺑ«شيخ شاذلو» وكان من العلماء العابدين.

ومنهم سنان الدين يوسف بن علاء الدين اليكاني، كان مدرسًا ثم صار قاضيًا، وفي زمان السلطان سليم تولى قضاء دمشق وله حواشٍ على شرح المواقف للسيد الجرجان.

ومنهم بير أحمد بن نور الدين حمزة، درس في أشهر المدارس ثم تولى القضاء وصار قاضيًا بمصر مرتين.

ومنهم المولى باشا شلبي اليكاني بقي مدة في التدريس، وله حاشية على شرح المفتاح للسيد الشريف.

ومنهم باشا شلبي بن زيرك وكان من المدرسين المعروفين.

ومنهم محيي الدين بن زيرك استقضي في عدة من البلدان.

ومنهم عبد العزيز حفيد المولى المشهور ﺑ«اين أم الولد» وكان من العلماء الأدباء.

ومنهم محيي الدين محمد بن مصلح الدين القوجي، وكان عالمًا زاهدًا وانتفع به خلق كثير، وله عدة تصانيف.

ومنهم محمود الشهير ﺑ«ابن المجلد وكان عالمًا زاهدًا، وتوفي في أوائل سلطنة سليمان القانوني.

ومنهم محيي الدين محمد بن يوسف بن يعقوب الملقب «باجه زاده» وكان من المدرسين ثم صار من القضاة في زمان السلطان سليم.

ومنهم محيي الدين المشهور ﺑ«شيخ شاذلو» من القضاة في زمان السلطان سليم.

ومنهم محيي الدين محمد المشهور ﺑ«شاذلو» وكان من العلماء العابدين.

ومنهم سنان الدين يوسف بن علاء الدين اليكاني كان مدرسًا ثم صار قاضيًا، وفي زمان السلطان سليم تولى قضاء دمشق، وله حواشٍ على شرح المواقف للسيد الجرجاني.

ومنهم بير أحمد بن نور الدين حمزة، درس في أشهر المدارس ثم تولى القضاء وصار قاضيًا بمصر مرتين.

ومنهم المولى باشا شلبي اليكاني بقي مدة في التدريس وله حاشية على شرح المفتاح للسيد الشرفي.

ومنهم باشا شلبي بن زيرك وكان من المدرسين المعروفين.

ومنهم محيي الدين بن زيرك استقضي في عدة من البلدان.

ومنهم عبد العزيز حفيد المولى المشهور ﺑ«ابن أم الولد» وكان من العلماء الأدباء.

ومنهم محيي الدين محمد بن مصلح الدين القوجي، وكان عالمًا زاهدًا، وانتفع به خلق كثير، وله عدة تصانيف.

ومنهم الشريف عبد الرحمن العباسي، ولد بمصر ومهر في العلوم الأدبية، وجاء إلى القسطنطينية في زمن بايزيد خان ورجع إلى مصر، ثم لما انقرضت دولة السلطان الغوري عاد إلى القسطنطينية، وتوفي سنة ثلاث وستين وتسع مئة، وقد عاش نحوًا من مئة سنة، وله كتاب «معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص» وهو شهير وقرأته أول مرة في استانبول منذ ٤٥ سنة أعارنيه قبل أن أقتنيه الشريف عبد الإله باشا أمير مكة سابقًا رحمه الله، فوجدت الشيخ محمد بن التلاميذ الشنقيطي المعروف بالشنقيطي الكبير قد قرأ هذه النسخة، وقرأت تعقيبات له على المؤلف من جملتها أنه ذكر أحمد بن خلف وذكر أنه قتل، فقال الشنقيطي في الهامش: «هو خلف بن أحمد، والمعروف أنه مات حتف أنفه.»

ومنهم المولى بخشي خليفة الأماسي ولد ب أماسية وقرأ على علماء عصره ثم ارتحل إلى بلاد العرب وقرأ على علمائها أيضًا، ثم اختار طريق التصوف وجلس للوعظ والتذكير، وانتفع به خلق كثير وتوفي في جوار الثلاثين وتسع مئة.

ومنهم محيي الدين محمد بن عمر بن حمزة، كان جده من بلاد ما وراء النهر، من تلاميذ السعد التفتازاني، وضرب في الأرض فوصل إلى أنطاكية، وبها ولد محمد هذا وتفقه في أنطاكية ثم سار إلى «حصن كيفا» و«آمد» ثم إلى «تبريز» وأخذ عن علماء تلك البلاد، ثم رجع إلى أنطاكية وحلب، ثم ذهب إلى القدس وجاور هناك وحج البيت الحرام، ثم ذهب إلى مصر وأخذ عن السيوطي ولقي قَبولًا عظيمًا عند السلطان «قايتباي» وبقي عنده إلى أن توفي، فسافر إلى الروم من طريق البحر وأول بلدة أقبل عليها «بروسة» فحصل له فيها إقبال عظيم، ثم ذهب إلى القسطنطينية فأحبه أهلها، وسمع السلطان بايزيد وعظه فمال إليه كل الميل، وألف له كتابا اسمه «تهذيب الشمائل» في السيرة النبوية، ولما خرج السلطان إلى الغزو كان هذا الشيخ محمد بن عمر معه، فلما فتح «قلعة مشون» كان هو ثاني الداخلين إليها أو ثالثهم، ثم ذهب إلى حلب ورجع إلى الروم في زمن السلطان سليم، وحرضه على الجهاد في طائفة «قزلباش» — هي طائفة تؤله عليًّا — وكان يعظ الجنود وعظًا مؤثرًا، ويذكر لهم ثواب الجهاد. ثم ذهب إلى «الرومللي» وأخذ يعظ أهلها فأصلح كثيرًا من الخلق، وأسلم على يديه كثيرون من غير المسلمين، وبنى جامعًا في سراي بوسنة ومسجدًا في أسكوب.

وأقام في تلك البلاد عشر سنوات يعظ ويفسر القرآن الكريم، وفي سنة اثنتين وثلاثين وتسع مئة غزا مع السلطان سليمان بلاد المجر، ووافقهم الفتح المبين ثم سكن في بروسة وشرع في بناء جامع كبير توفي قبل إتمامه في رابع المحرم ٩٣٨ وذلك عن سبعين سنة، وولد من صلبه قريب من مئة نفس وله كتب ووسائل، وكم أحيا من سنن وأمات من بدع، فهذا من الرجال الذين اشتغلوا في حياتهم وفقدهم الناس عند مماتهم.

ومنهم خير الدين خضر المعروف ﺑ«العطوفي» كان معلمًا لعبيد السلطان بايزيد، ثم اختار طريقة الوعظ فصار يفسر أيام الجمع في مساجد القسطنطينية، وكان ماهرًا في التفسير، وله اليد الطولى في علمي المعاني والبيان.

ومنهم عبد الحميد بن شرف من أهل قسطموني، قرأ على علماء عصره، ثم رغب في التصوف، وصحب مصلح الدين الطويل من شيوخ النقشبندية، وبعد وفاته اختار طريق الوعظ، وعكف على التفسير، وكان زاهدًا في الدنيا.

ومنهم عيسى خليفة من قسطموني أيضًا، وكان متصوفًا واختار طريق الوعظ وكان لكلامه تأثير في النفوس.

ومنهم المولى شعيب الترابي، جعله السلطان بايزيد معلمًا لعبيده، ثم اختار طريقة الوعظ، وكان على الفطرة وكان قوي البدن إلى النهاية، وقيل إنه كان في شبابه يكسر نعال الدواب بأصبعيه.

ومنهم محيي الدين محمد الأساسي وكان من العلماء المحدثين والوعاظ وكان الناس تحبه لورعه وتقواه.

ومنهم المولى الطوقاتي من أماسية لم يفارقها إلى أن مات، ومات في أوائل سلطنة سليمان القانوني وكان مشتغلًا بالدرس والعبادة منقطعًا عن الناس.

ومنهم المولى مصلح الدين موسى بن موسى الأماسي، اشتهر بين الناس ﺑ«حافظ الكتب» لأنه كان قيمًا على خزانة كتب جامع السلطان بايزيد ببلدة أماسية، قرأ على علماء العجم ثم على علماء العرب وكان صحيح العقيدة، مرضي السيرة، وكانت له اليد الطولى في الفقه والأصول وله تآليف نفيسة.

ومنهم المولى الشهير ﺑ«ابن المعيد الأساسي» وكان فاضلًا محققًا سالكًا مسلك التصوف مقبلًا على شأنه.

ومنهم المولى عبد الله خواجه نزيل «قصبة كوبرجك» اشتهر بعلم العربية، والفقه وكان من الصالحين.

ومنهم المولى ابن دده جك وكان مشهورًا بالقراءات العشر، مرضي السيرة، زاهدًا عابدًا.

ومنهم المولى الشهير في علم القراءات صادق خليفة المغنيساوي وكان من القانتين العابدين.

ومنهم المولى محمد بن الحاج حسن وكان عالمًا، ولكنه لم يكن على نمط العلماء في الزهد وخشونة العيش، بل كان مائلًا إلى الزينة والترف، فجعله السلطان سليم من الأمراء وكان بارعًا بالإنشاء وله معرفة بالتواريخ.

ومنهم محمد باشا حفيد المولى، «ابن العرف» معلم السلطان بايزيد، وكان محمد باشا هذا من وزراء السلطان سليم، وكان على جانب من المعرفة بالآداب السلطانية.

ومنهم المولى عيسى باشا بن الوزير إبراهيم باشا، وكان من العلماء، ثم صار موقعًا بالديوان العالي، ثم تولى الإمارة في بلاد الشام.

ومنهم المولى الهير ﺑ«تهاني» وبقي مدة حياته يشتغل بالتدريس، ثم ذهب إلى الحج ومات بمكة المكرمة وكان من العلماء الأدباء.

ومنهم المولى حيدر ابن أخي المولى الخيالي، وقرأ على علماء عصره ثم ذهب إلى مصر وأخذ عن علمائها ثم رجع إلى الروم وأقام ببروسة، وتوفي في أواخر سلطنة سليم خان وكان جميل الطلعة، مرضي السيرة، جيد المحاضرة، زينة للمجالس.

ومنهم المولى محمد ابن الحاج حسن، تولى القضاء في عدة من البلاد، وكان حليم الطبع معرضًا عن أبناء الزمان مشتغلًا بنفسه.

ومنهم محمد بن الكمال المشتهر ﺑ«أخي شلبي» كان أبوه من الأطباء المشهورين وطلبه السلطان محمد ليصير طبيبًا عنده فاعتذر وقال: كيف أختار الرق بعد الحرية. وبعد وفاته نبغ ولده محمود في صناعة الطب حتى صار رئيسًا للأطباء في المستشفى الذي بناه محمد الفاتح بالقسطنطينية، ثم صار رئيسًا للأطباء في زمان ولده السلطان بايزيد، ثم عزله السلطان سليم، ثم أعاده إلى مكانه، ولما تولى سليمان القانوني عزله أيضًا، ثم أعاده إلى مكانه، ثم حج بيت الله، ومات بمصر منصرفه من الحج ودفن عند قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه.

ومنهم هدهد بدر الدين وكان من الأطباء المعروفين في دار السلطنة.

ومنهم من أكابر الصوفية العارف بالله الشيخ نصوص الطوسي.

ومنهم العارف بالله الشيخ مصلح الدين الإمام بمدينة بروسة.

والعارف بالله محمد الشهير ﺑ«ابن أخي شوروه».

والعارف بالله محيي الدين محمد المعروف ﺑ«أبي شامة».

والعارف بالله الشيخ عبد الرحمن المؤيدي المعروفة ﺑ«حاجي شلبي».

والشيخ محيي الدين محمد بن المولى بهاء الدين أخذ عن العارف بالله محيي الدين الأسكليبي.

والشيخ مصلح الدين مصطفى المنسوب إلى المولى خواجه زاده.

والعارف بالله مصلح الدين مصطفى المعروف ﺑ«ابن المعلم».

والعارف بالله الشيخ نبي خليفة.

والشيخ محيي الدين الأسود، والشيخ لطف الله. والشيخ أمير على بن أمير حسن. والمولى خضر بك بن المولى أحمد باشا. والشيخ محمود بن عثمان بن علي النقاش المشتهر ﺑ«اللامعي».وسيدي خليفة الأماسي. والشيخ عبد اللطيف من أتباع طريقة الشيخ أبو الوفاء. والحاج رمضان المتوطن في قسطموني. والشيخ سنان الدين الشهير ﺑ«سختة سنان».

سلطنة السلطان الأعظم سليمان القانوني

هذا ثم تولى سلطنة آل عثمان السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان في شوال سنة ٩٢٦.

وأكثر المؤرخين على أن سليمان خان هو أعظم سلاطين آل عثمان، وعلماء الإفرنج يسمونه سليمان العظيم “Le Grand”، أو سليمان الفاخر “Le Magnfque” وكان عمره ستًّا وعشرين سنة يوم تولى الملك، وبدأ ملكه بالحلم والعفو، فأطلق سبيل ست مئة أسير مصري، وكان أبوه السلطان سليم قد ضبط لتجار الحرير مقدارًا عظيمًا من متاجرهم، فعوضهم السلطان سليمان مما خسروه. وأخذ على أيدي الولاة الظالمين وأمر بالعدل والإحسان، وجعل هذه الآية القرآنية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ شعاره.
وعقد سليمان معاهدة مع البندقية ليس هنا محل ذكرها، وبموجبها كانت البندقية تؤدي إتاوتين إلى السلطان عن بعض البلاد التي كانت تحت احتلالها، وفي زمن سليمان القانوني ثار الغزالي والي الشام الذي انحاز إلى السلطان سليم في واقعة مرج دابق، فأرسل السلطان سليمان جيشًا بقيادة فرهادة باشا، فتغلب عليه وقتله، وغزا سليمان بلاد المجر فأرسل أحمد باشا فحصر «شابانس» وبيري باشا فحصر بلغراد ومحمد ميكان أوغلي فاجتاح «ترانسلفانيا» فاستولى على شاباتس ودخلها السلطان ظاهرًا، ثم استولى على بلغراد وعلى سملين وكان نصرًا باهرًا، ثم فكر السلطان في فتح رودس لأن فرسان رودس كانوا ملئوا البحر المتوسط اعتداء على المسلمين، وكانوا يقطعون الطريق على الحجاج إلى مكة إذا ذهبوا في البحر، ففي ١٦ يونيو سنة ١٥٢٢ سار الأسطول العثماني عليه مئة ألف مقاتل وضيق السلطان الحصار على رودس ووالي عليها الهجمات نحوًا من شهرين بدون انقطاع، ويقول مؤرخو الإفرنج — وربما كانوا يبالغون في تقدير خسائر العثمانيين: إن هؤلاء فقدوا في حصار رودس مئة ألف مقاتل، منهم أربعون ألفًا ماتوا بالأمراض. إلا أن العثمانيين دخلوا أخيرًا رودس عنوة واستولوا عليها وعلى الجزر التي في جوارها، وأخرج السلطان قائد فرسان رودس وكان اسمه “Villiers de I’sile-Adam” سالمًا فذهب إلى مالطة وهناك جددوا قوة الفرسان المذكورين، فصاروا يقطعون الطرق على مراكب المسلمين، كما كانوا يفعلون وهم في رودس.

وفي زمن سليمان عصى أحمد باشا والي مصر وحدثته نفسه بالاستغلال فأرسل إليه السلطان جيشًا فهزمه، وانتهى الأمر بالقبض عليه فقطعوا رأسه وعلقوه على أسوار القسطنطينية ثم وقع الخلاف بين والي مصر والدفتر دار — أي رئيس الجباية — فأرسل السلطان وزيره إبراهيم باشا وأصله مملوك صار مقربًا عند السلطان وبلغ من الحظوة ما لم يبلغه أحد، فإبراهيم باشا عزل العاملين المتخاصمين ورتب الأمور ونصب واليًا على مصر سليمان باشا الذي كان واليًا على سورية، ثم غزا السلطان بلاد المجر بمئة ألف مقاتل وثلاث مئة مدفع، فنشبت معركة هائلة قاتل فيها الفريقان أشد قتال، وانتهت بظفر السلطان وغرق «لويس الثاني» ملك المجر وهو منهزم هو وجانب من جماعته في مستنقعات «موهاش»، وسقط «بول طوموري» رئيس أساقفة المجر ومعه سبعة مطارين، واثنان وعشرون أميرا وخمسة وعشرون ألف جندي قتلى، وكانت هذه الواقعة في ٢٦ أغسطس سنة ١٥٢٦، وعلى رواية كانت خسارة المجر مئتي ألف رجل ولم تكن خسائر العثمانيين أكثر من مئة وخمسين رجلًا.

وقيل: إنه وقع في أسر الأتراك عشرة آلاف مجري فذبحوهم عن بكرة أبيهم، ودخل الأتراك بودابست قاعدة المملكة، واستولوا على ما فيها من الخزائن والكنوز، وأسروا مئة ألف نسمة من رجال ونساء، ورجع السلطان إلى القسطنطينية بعد أن أجلس على كرسي المجر أمير ترانسلفانيا المسمى «سابوليا» وكان المجر الذين فروا من أمام الترك نادوا بقرديناند أخي الإمبراطور شارلكان ملكًا عليهم. وفي أيام سليمان حصلت فتن في بلاد قرامان وكليكيا وثارت البكطاشية، وسارت الجيوش تلو الجيوش، وخسرت الدولة جندًا كثيرًا إلا أن إبراهيم باشا قمع الفتنة.

وفي زمن سليمان اشتدت العداوة بين فرنسا والإمبراطور شارلكان، وكان الإمبراطور شارلكان أعظم سلطان مسيحي في عصره، إذ كان يلي ألمانية وإسبانيا وإيطاليا وهولاندا، وكانت له الكلمة العليا في البحر المتوسط فأوشك أن يخنق فرنسا، ولم يبق أمل للفرنسيس إلا بالالتجاء إلى العثمانيين لأن السلطان سليمان لم يكن يجد أمامه قرنًا يقاومه في أوروبا غير الإمبراطور شارلكان الذي كانت الوقائع متصلة بينه وبينه على حدود النمسا، فكان من الطبيعي أن فرنسا تتفق مع السلطان العثماني عدو عدوها، ولكن فرنسا المشهورة بكثرة حروبها الصليبية، وبشدة عداوتها للإسلام، لم يكن من السهل عليها أن تحالف العثمانيين بدون أن تكبر هذا الأمر جميع أمم النصرانية والأمة الفرنسية نفسها، غير أن «فرنسيس الأول» الذي كان وقع في أسر شارلكان، مضى في عزيمته في الالتجاء إلى العثمانيين ومد يده لمحالفة السلطان سليمان، وكانت العلاقات الرسمية قد بدأت بين فرنسا والدولة العثمانية في زمن السلطان بايزيد الثاني من جهة ولويس الحادي عشر من جهة أخرى، ثم كتب السلطان بايزيد كتابًا إلى «شارلوس الثامن» وفي سنة ١٥٠٠ كتب السلطان إلى «لويس الثاني عشر» يطلب منه التوسط بينه وبين البندقية.

وكان «فرنسيس الأول» لأول حكمه عرض على إمبراطور ألمانية وعلى فرديناند الكاثوليكي صاحب إسبانيا مشروعًا مآله تقسيم السلطنة العثمانية بين ملوك النصرانية، ولكن لم يتم هذا الأمر لأنه لم يكن سهلًا عليهم هذا العمل، ثم اتفق أن الحرب وقعت بين الألمان والفرنسيس، وأخذ فيها فرنسيس الأول أسيرًا فأرسلت الملكة لويزا دوسافواي بناء على مشورة وزيرها «دوبراه Duprat» معتمدًا بهدايا نفيسة إلى السلطان سليمان، وذلك في ٢٥ فبراير سنة ١٥٢٥، ثم كتب الملك فرنسيس الأول نفسه كتابًا إلى السلطان يخطب صداقته، ولما كان شارلكان قد عرض من جهته الصلح على السلطان واقترح التحالف، ففضل السلطان محالفة الفرنسيس لما كان الأتراك يعلمون من شدة الفرنسيس، ولم يرض الترك وقتئذ بكتابة حلف بالورق وإنما أجاب السلطان على كتاب الملك فرانسيس بكتاب تعالى فيه على ملك فرنسىا، وأظهر له مزيد عظمته، وهذا الكتاب لا يزال مشهورًا في التاريخ بعد أن ذكر فيه سليمان جميع ألقابه السلطانية قال لفرنسيس: قد انتهى إلينا ما قدمته إلينا من العرض عن أن عدوك قد استولى على مملكتك، وأنك الآن في أسره وأنك تلجأ إلينا لأجل إنقاذك وحمايتك، فكل هذا قد عرض على سدتنا السنية ملجأ العالم، وأحاط به علمنا السلطاني وليس غير معهود أن تدور الدائرة على الملوك وأن يقعوا في الأسر، فليكن قلبك ثابتًا ولتكن نفسك طيبة … إلخ ثم وعده خيرًا.

ثم إن فرنسيس الأول تخلص من أسره بموجب معاهدة مجريط، ولكنه لم يعدل عن خطته من جهة محالفة السلطان سليمان وكتب إليه يشكره قائلًا له: إننا مغتبطون بما نراه من كرم أخلاقك، وما وعدتنا به من المساعدة في حالتنا الحرجة … إلخ، ثم أخذ فرنسيس الأول يجتهد في إقناع شعبه بأن تقربه إلى العثمانيين يكون وسيلة لنشر نفوذ فرنسا في الشرق، ومحافظتها على المسيحيين الذين هناك، وقد حصل بالفعل على امتيازات عديدة للفرنسيس بموجب الخط الشريف السلطاني المؤرخ في ٢٠ سبتمبر سنة ١٥٢٨، فإن السلطان سمح للفرنسيس والكتالان أن يجولوا في مصر ويتجروا كما يشاءون، وأنهم في الخصومات التي بينهم يراجعون قناصلهم فيما عدا الدم، إذ يبقى الحكم فيه لقضاء الشرع، وأذن للفرنسيس والكتالان بإنفاذ وصاياهم وأن القناصل يحررون التركات، وغير ذلك من الامتيازات التي تساهل فيها السلطان ليتخذ من فرنسا ردءًا ضد ألمانية.

ثم إنه جرى كلام بين فرنسا والسلطان بموجبه يتولى أحد أولاد ملك فرنسا على عرش المجر، وكانت الحرب قد اشتعلت بين المجر والعثمانيين، فكان العثمانيون من جهة ومعهم الأمير «سابوليا الترانسلفاني» المولى من قبلهم على المجر والمجر والنمسويون من جهة أخرى، فانكسر سابوليا ودخل فرديناند أخو شارلكان إلى بودابست، فزحف الجيش الإسلامي بقيادة إبراهيم باشا وكان الجيش مئتين وخمسين ألف مقاتل، فدخل العثمانيون بودابست وأعادوا سابوليا إلى الملك وجاء أمير البغدان وخضع للسلطان، وسار السلطان سليمان في شهر سبتمبر سنة ١٥٢٩ إلى فيينا يحاصرها ومعه مئة وعشرون ألف مقاتل، وأربع مئة مدفع ولاقاه في نهر الطونة ثمان مئة قلع، ولم يكن في فيينا أكثر من ستة عشر ألف مقاتل، واثنين وسبعين مدفعًا، ولم تكن الأسوار متينة، ولكن خوف الألمان على بلادهم بعث فيهم حمية خارقة للعادة فصدوا هجمات العثمانيين كلها، ويقال إن السلطان خسر في هذا الحصار أربعين ألف جندي، واضطر إلى الرجوع خائبًا، وهي أول خيبة عرفتها جيوش سليمان القانوني.

ولما رجع السلطان إلى بودابست توج سابوليا ملكًا على المجر، وكان فرديناند أخو شارلكان يسعى في استمالة إبراهيم باشا حتى يقنع السلطان بقبوله ملكًا محل سابوليا، فعرض على إبراهيم باشا الرشوة فلم يجبه إلى شيء، وبقيت الحرب تشتعل، وفي سنة ١٥٣٢ استولى العثمانيون على غون Guns بعد حصار شديد، ثم بثوا الغارات في إستيريا من بلاد النمسا وحصلت هناك معارك كانت فيها الحرب سجالًا، وجاء أمير البحر «أندري دوريا» المشهور فعاش في بلاد اليونان، واستولى على الحصون التي كان بناها السلطان بايزيد على جوانب خليج ليبانت، ثم حصلت متاركة بين السلطان وبين شارلكان أراد السلطان خلالها أن يتفرغ لمحاربة العجم، وذهب إبراهيم باشا على رأس جيش جرار فاستولى على تبريز، ولكنه عامل الأهالي بالرفق، وزحف السلطان بنفسه واستولى على بغداد ورجع ظافرًا بعد أن غاب أربعة أشهر.

وفي ذلك الوقت اشتهر في البحر المتوسط «أندري دوريا» أمير الأساطيل المسيحية وبمقابلته «خير الدين بربروس» أمير الأساطيل الإسلامية، وكان هذا في مبدأ أمره هو وأخوه عروج من متلصصة البحر ثم دخلا في خدمة السلطان محمد الحفصي صاحب تونس، ومن هناك امتدت سلطتهما على سواحل الجزائر، وقتل عروج في حرب بينه وبين الإسبانيول على تلمسان، فانفرد بالأمر أخوه خير الدين وسماه السلطان أمير البحر سنة ١٥٣٣، وأخذ يعيث في البحر المتوسط، ويغزو سواحل إيطاليا، ثم استولى على تونس فاضطر شارلكان إلى غزو تونس وأخذها عنوة. وأطلق فيها خمسين ألف أسير مسيحي وأعاد سلطانها مولاي الحسين على شرط أن يؤدي له الإتاوة وأن تبقى هناك حامية إسبانيولية.

ثم إن فرنسيس الأول أرسل إلى السلطان سليمان يعرض عليه المحالفة مع معاهدة تجارية، على أن سليمان وفرانسيس يحاربان شارلكان إذا كان شارلكان يمتنع عن إعادة دوقية ميلانو، وجنوة وبلاد فلاندر إلى فرنسا، وطلب من السلطان سليمان أن يقرضه مليونًا من الذهب حتى يقوم بنفقات الحرب اللازمة، وكذلك كان من جملة الاقتراحات أن يغزو خير الدين جزيرة صقلية، ومملكة نابولي وجزيرة سردينية، وكان المتولي لهذه المهمة الوزير الفرنسي «جان دولا فوره Jean dela Foreat»، فانعقدت معاهدة تتضمن حرية التجارة بين المملكتين العثمانية والفرنسية برًّا وبحرًا، وأن تكون الدعاوى بين الفرنسيس جزائية كانت أو حقوقية متعلقة بقناصل فرنسا، وإذا وقعت جناية من فرنسي فلا يساق كسائر الناس إلى الحبس، بل لا بد أن يساق إلى الباب العالي، وأن تجار الفرنسيس لا يؤدون إلا خمسة في المئة عن بضائعهم وأن الإفرنج من غير الفرنسيس كالإنجليز، والكتلان والصقليين، والجنوية، ممن ليست بينهم وبين الدولة العثمانية معاهدات إذا سافروا تحت العلم الفرنسي يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها الفرنسيس، ولكن برغم الحرية الدينية التي يكفلها السلطان لرعايا فرنسا لا يحق أن يملك الفرنسيس ولا تملك الكنائس اللاتينية عقارات في بلاد الإسلام، وكذلك الفرنسي الذي يتزوج بمسيحية عثمانية تكون أولاده من رعايا السلطان، وتضمن الاتفاق تحالفًا عسكريًّا في الهجوم والدفاع، فالسلطان تعهد بمهاجمة مملكة المجر ومملكة نابولي، والملك فرنسيس تعهد بشن الغارة على بلاد لومبارديا، وجرى الاتفاق على أن المدن الإيطالية التي يستولى عليها الأسطول العثماني يكون للأتراك حق انتهابها وسوق أهلها أسرى، ولكن ملكية هذه المدن تعود إلى ملك فرنسا، ولما انعقدت هذه المعاهدة كانت اليد الطولى في عقدها لإبراهيم باشا الصدر الأعظم، ويقال إنه جعل توقيعه في ذيل هذه المعاهدة باسم «سر عسكر سلطان» فغاظ ذلك السلطان سليمان وأساء فيه الظن، وفي ٥ مارس ١٥٣٦ ذهب إبراهيم باشا إلى السراي بحسب عادته فقبض عليه وخنق وتولى مكانه إياس باشا الأرناءوطي، وكان السلطان سليمان والملك فرنسيس اتفقا على إدخال جمهورية البندقية في هذه المعاهدة، فأبى البنادقة أن يدخلوا في هذا العقد، فغزاهم السلطان بأسطول يبلغ مئة شراع فاجتاح سواحلهم ورجع بعشرة آلاف أسير، واستولى على جزر الأرخبيل اليوناني.

وجاء أمير البحر أندري دوريا قائد أساطيل شارلكان لينازل الأسطول الإسلامي فدارت الدائرة على أندري دوريا، وذلك في واقعة بريفيزا التي وقعت في سبتمبر ١٥٣٨، وفي السنة التالية حشد السلطان مئة ألف مقاتل في ألبانيا ناويًا شن الغارة على إيطاليا، وجاء خير الدين بربروس بسبعين بارجة حربية، فأنزل عساكره في مدينة أوترانت وانتظر السلطان من ملك فرنسا أن يزحف على شمالي إيطاليا ويرسل أسطوله لمعاونة الأسطول العثماني، فلما انتشر هذا الخبر في الأمم النصرانية قامت له وقعدت ولم يجرأ فرنسيس على الإتيان بحركة، بل اشترط لأجل الهجوم على مملكة بيمون أن يخرج الأتراك من إيطاليا وعقد معاهداته من شارلكان، فلم يقع ذلك عند السلطان سليمان موقعًا حسنًا لكنه اجتنب أن يخرق عهده لملك فرنسا، واستمرت الحرب بين السلطان وبين شارلكان ومعه البنادقة وكانت الحرب بين السلطان والبنادقة سجالًا، إلا أن البنادقة اضطروا أخيرًا إلى طلب الصلح وتركوا جميع جزر الأرخبيل الرومي وتخلوا عن دالماسيا ودفعوا غرامة حربية للسلطان ثلاث مئة ألف دوكة، وفي ذلك الوقت مات إياس باشا بالطاعون وكان أرناءوطيًّا في الأصل من عائلة كاثوليكية وكان ممدوح السيرة، فتولى مكانه لطفي باشا وكان أرناءوطيًّا أيضًا، وكان السلطان أزوجه بشقيقته، واشتعلت الحرب في بلاد المجر بين العثمانيين والنمساويين وثار أمير البغدان متفقًا مع النمسا فولى السلطان أخاه مكانه، وفي أثناء هذه الحرب مات سابوليا ملك المجر من قبل السلطان سليمان فتولت الأمر امرأته إيزابيلا، فزحف جيش النمسا لحصار بودابست فاستصرخت الملكة إيزابيلا السلطان سليمان فزحف بنفسه، وجاءوا للسلطان بابن سابوليا وهو طفل عمره سنة، وإذا بالانكشارية دخلوا بغتة إلى بود وتحولت هذه البلدة من بلدة مجرية إلى بلدة إسلامية، فاعتذر السلطان للملكة إيزابيلا بأن مقصده بذلك تأمين بلاد المجر من عائلة النمسا وأنه متى بلغ ابنها رشده يسلمه مدينة بود.

وكان «رنسون Rincon» سفير فرنسا في القسطنطينية يعمل ليلًا ونهارًا لأجل بقاء الاتحاد بين فرنسا وتركيا، وكان هذا السفير يلوم مولاه فرانسيس الأول على مهادنته لشارلكان، وفي أثناء ذلك انخدع فرانسيس بسياسة شارلكان وأرسل إلى السلطان سليمان يطلب منه مصالحة عدوه شارلكان، فاستغرب السلطان هذا الطلب، ولكن رنسون أصلح خطأ سيده فكتب السلطان إلى فرانسيس قائلًا له: «إن شارل ملك إسبانيا يلتمس الهدنة بواسطتك، فإذا كان يريد الهدنة وكنت أنت تريد ذلك من قلبك فأنا أشترط عليه بأن يرد لك جميع البلاد والحصون والأراضي التي أخذها منك، فإذا قام بهذا الشرط وأنت أعلمت بابي العالي بذلك فأنا أعمل لك ما تشاء.»

وظهر أن الحق كان مع السلطان سليمان، وأن الإمبراطور شارلكان كان قد خدع ملك فرنسا ثم تجددت الحرب وبعث فرانسيس الأول يلتمس من السلطان تجريد الأسطول العثماني كله لمباشرة الحرب، وكان للسفير رنسون اليد الطولى في ذلك. فأرسل شارلكان من قتل رنسون السفير الفرنسي غيلة بحجة أنه خائن للنصرانية، فكتب فرانسيس الأول ندوة نور نبرغ يشكو عمل شارلكان ويتهمه بأنه زور وثائق لا صحة لها تبرئة لنفسه من ذلك الجرم.

وبلغ السلطان سليمان مقتل رنسون بينما كان في بود فبلغ منه الغضب أنه كاد يقتل سفراء النمسا الذين عنده، ولولا توسط المعتمد الفرنسي «بولين Boline» الذي أتاه بخبر قتل رنسون لكان السلطان من شدة غضبه قتلهم، وأما سياسة فرانسيس الأول فكان قد ظهر للسلطان أنها سياسة تذبذب وكاد يرغب عن صحبته إلا أن بولين المعتمد الفرنسي التجأ إلى خير الدين بربروس، وكان هذا أصبح مقربًا جدًّا عند السلطان لا سيما بعد أن كسر أسطول شارلكان في بحر الجزائر، وكان بربروس يميل إلى فرنسا، فما زال بالسلطان حتى أقنعه بإرسال الأسطول العثماني نجدة لملك فرنسا على الإمبراطور شارلكان، وذلك سنة ١٥٤٣، فسار الأسطول العثماني إلى نيس بقيادة خير الدين بربروس وكان مركبًا من مئة وعشر بوارج عليها أربعة عشر ألف مقاتل، فانضم إليه أسطول ملك فرنسا بقيادة الكونت «دانغين d’enghien» وكان مركبًا من أربعين بارجة عليها سبعة آلاف مقاتل، فاستولى العثمانيون والفرنسيس على نيس ولكنهم اختلفوا، وقامت قيامة النصرانية على فرانسيس الأول من أجل تحالفه مع المسلين على النصارى، ومن أجل موافقته على إذلال النصرانية في بلادها حتى قيل: إن الكنائس في سواحل نيس لم تكن تجرأ على قرع أجراسها مدة إقامة الأسطول العثماني أمام نيس.
فتصالح فرانسيس الأول مع شارلكان، ووجه السلطان قوته إلى حرب المجر وفيلكا وسيكلوز وغران ونيوغراد وفيس غراد وفيلكا وغيرها، فأرسل شارلكان وأخوه فرديناند يلتمسان الصلح من السلطان، وكاد السلطان يجنح إلى الصلح لولا مساعي «جبرائيل دارامون d’Aramonl» سفير فرنسا الذي كان يهون على السلطان أمر شارلكان قائلًا له: إنه في المقيم المقعد مع أمراء البروتستانت في ألمانيا. فعاد السلطان سليمان وأجمع على الحرب وقرر الزحف، وكتب بذلك إلى الملك فرانسيس في شهر مايو ١٥٤٧ فوصل كتاب السلطان إلى فرنسا بعد وفاة فرانسيس الأول فتبدلت الحالة، وجنح السلطان إلى مصالحة شارلكان وانعقدت بينهما متاركة لمدة خمس سنوات، على أن يدفع الأمير فرديناند أخو شارلكان للسلطان العثماني خمسين ألف دوكة كل سنة جزية عن القسم الباقي من بلاد المجر تحت ولايته.

ولما استراح فكر السلطان من جهة أوروبا وجهة نظره إلى آسيا، فاستنجده أمراء الإسلام في الهند على البرتغال وأنجدهم وأرسل فاحتل اليمن، ووقع القتال بين العثمانيين والزيديين، وكتب السلطان إلى إمام صنعاء يعاتبه على قتاله للجيش العثماني ولكن الامام أجابه بجواب سديد قائلًا له: إننا نعلم بلاءك العظيم في حفظ بيضة الإسلام ولا نشكو منك، وإنما نشكو من سوء إدارة عمالك، وقد كان الأولى بهم أن يسوقوا هذه القوة على الكفار بدلًا من أن يسوقوها على المسلمين الذين هم على كل حال تبعة السلطان. وهذا الكتاب مذكور في تاريخ البرق اليماني. ثم جاء ابن شاه العجم والتجأ إلى السلطان فزحف السلطان إلى تبريز وفتحها بعد أن فتح «وان» ثم فتح جانبا من «كرجستان».

وبينما كان جيشه يتقدم في آسيا إذ تجددت الحرب في بلاد المجر، وذلك أن الملك سابوليا كان أوصى امرأته إيزابيلا بقسيس اسمه «جورج مارتيموزي» فصارت تعمل برأيه، وكان هذا القسيس يشتغل لفصل الملكة إيزابيلا عن السلطان ولتأليفها مع الأمير فرديناند، وأقنعها بأن تترك له «ترانسلفانيا» و«اليانات» وكل ذلك لم يعلم به السلطان إلا فيما بعد، فلما بلغه الخبر سير ثمانين ألف مقاتل فعبرت نهر الطونة واستولت على ليبيا، واشتدت الوقائع ولكنها انتهت بظفر السلطان، وأرسل أحمد باشا على أثر الواقعة أربعة آلاف أنف من أنوف النمسويين إلى الأستانة ورجعت أطمشوار والبانات إلى حكم الدولة العثمانية، وأخذ العثمانيون البارون «غوندن دورف» أسيرًا مع أربعة آلاف مقاتل.

ثم استولى فرسان مالطة على طرابلس الغرب، فأرسل السلطان الأسطول العثماني فطردهم منها وضم تلك البلاد إلى السلطنة العثمانية، وكان هنري الثاني بن فرانسيس الأول لا يقل رغبة عن أبيه في محالفة الدولة العثمانية، وفي سنة ١٥٥١ تعهد هنري الثاني للسلطان بتأدية ثلاث مئة ألف قطعة ذهبية بدلًا عن مساعدة الأسطول العثماني لفرنسا، ورهن تحت ذلك جانبًا من سفنه، واتفقا على أن السلطان ينجده بستين مركبًا حربيًّا وخمسة وعشرين مركبًا من مراكب القرصان، وأنه إذا أراد ملك فرنسا أن يستعمل هذه القوة البحرية خارجًا عن بحر طوسكانة فعليه أن يؤدي مئة وخمسين ألف ذهب، وتقرر أن جميع السفن التي يغنمها الأسطول العثماني تكون ملكًا للسلطان، وأن المدن التي يستولي عليها العثمانيون يصير رجالها وأموالها ملكًا أيضًا للسلطان، إلا أن المدن نفسها تصير لملك فرنسا. وتقرر أن الأسطول العثماني يكتسح ما شاء من ممالك شارلكان ويسبي بقدر ما يستطيع، وسار الأسطول العثماني بقيادة «طورغوت ريس» وانضم إليه الأسطول الفرنسي بقيادة «البارون لا غارد» فاكتسحا بلاد كالابرة وصقلية واحتلا كورسيكا ودانت لهما جميع المدن التي في تلك السواحل.

إلا أنه لم يلبث الخلف أن وقع بين الحلفاء لأن الفرنسيس اعترضوا على عدم حرمة العثمانيين للدم والدين والمال، فافترق الأسطولان، وغضب السلطان على طوروغوت وأرسل آخر بقيادة بيالي باشا، كان عدده سبعين بارجة حربية، ولكن هذه المرة أيضًا لم يقع الوفاق بين أمراء الأسطولين. والفرنسيس يقولون إن قواد الترك لم يكونوا يفكرون إلا في النهب والسبي، وأرسل هنري الثاني إلى سفيره في القسطنطينية يقول له: إني مع الأسف لم أقدر أن أستفيد من عضد الجيش العثماني لي لا لعدم رغبة السلطان في ذلك، بل لاهتمام قواده بالغنائم دون الاهتمام بتنفيذ إرادة مولاهم. ومن بعد هذه الواقعة تصالح هنري الثاني ملك فرنسا مع فيليب الثاني ملك إسبانيا وملحقاتها، وعادت المحالفة التركية الفرنسية من ذلك التاريخ حبرًا على ورق، لا سيما أن السلطنة العثمانية بعد السلطان سليمان بدأت بالتقهقر.

وكان السلطان سليمان في آخر حياته قد اختلف مع أولاده، لأن وزيره الأعظم «رستم باشا» وشى للسلطان على ولده مصطفى، وكان العسكر يحب مصطفى حبًّا جمًّا لكرمه وشجاعته، وكان العلماء والأدباء يحبونه أيضًا لاعتنائه بالعلم والأدب فزين رستم باشا للسلطان أن ابنه يريد أن يخلعه ويجلس مكانه، ووقر ذلك في نفس السلطان، فأمر بقتل ولده مصطفى في مخيمه وهو في الأناضول، وذلك في ٢١ سبتمبر سنة ١٥٥٣ وكان مصطفى في بروسة فقتلوه أيضًا، وبكت المملكة كلها على مصطفى لما كان له من المنزلة في قلوب الأمة، ولا سيما عند العلماء وعند العساكر — أي رجال السيف والقلم معًا — وكان مصطفى شاعرًا له أغزال لطيفة نشرها تحت اسم مستعار (مخلصي) وكان له تفسير للقرآن وتعليقات على البخاري وكتب نحوية. ورثاه الشعراء ولم يخشوا والده، وكان لمصطفى أخ اسمه «جهانغير» فمات حزنًا على أخيه وثارت العساكر على السلطان وطلبت عزل الصدر الأعظم رستم باشا الذي كان الواشي بالأمير مصطفى، وكان السبب في هذه المأساة التي جرحت القلوب بأجمعها، وكان مرجع كل هذه الدسائس إلى السلطانة خورشتم التي كانت تهيئ العرش للأولاد الذين منها، وكان رستم باشا صهرها وهي التي في الحقيقة قتلت الصدر الأعظم إبراهيم باشا، ثم قتلت الصدر الأعظم أحمد باشا الذي كان قد خلف صهرها في الوزارة، وهي التي قتلت الأمير مصطفى ابن السلطان.

ثم نشبت الحرب من جديد بين العثمانيين والمجر، فزحف خادم علي باشا على بلاد المجر واستولى على عدة من المدن، وقام المجر يقاتلونه وعلى رأسهم الأمير فردينانذ ولكن الدولة اضطرت إلى توقيف الحرب والمتاركة، نظرًا لما طرأ من الحوادث في بيت السلطنة، لأن الأمير بايزيد ابن السلطان ثار على أبيه على أثر دسائس بين الوزراء لا محل لذكرها هنا، فجمع بايزيد عشرين ألف جندي وقاتل بهم عساكر أبيه، فتغلب أبوه عليه وفر بايزيد مع ولده أرخان إلى أماسية، ومن هناك كتب إلى والده يلتمس منه العفو فوقع الكتاب والرسول في يد «لا لا مصطفى باشا» الذي كان عدوًّا لبايزيد، فأخفى الكتاب عن السلطان، ولما لم يجد بايزيد جوابًا من أبيه ذهب ملتجئًا إلى شاه العجم، وكان معه اثنا عشر ألف جندي فقبله الشاه طماسب برًّا وترحيبًا في ظاهر الحال، ولكنه وضع نصب عينه استثمار هذه الحادثة بقدر الاستطاعة، وبالاختصار فقد قبض طماسب أربع مئة ألف ذهب وقتل بايزيد مع أولاده الأربعة، وكان لبايزيد طفل في بروسة في سن ثلاث سنوات فقتلوه أيضًا.

وكان قد تولى الوزارة علي باشا وكان رجلًا حليمًا كريمًا يكره الشر، فعقد مع النمسا صلحًا في يوليو سنة ١٥٦٢، وبعد عقد هذا الصلح تفرغ السلطان لمشروعاته البحرية وأجمع غزو مالطة، فسير بيالي باشا قبطان البحر ومعه صالح بك أمير الجزائر وراغوت أمير طرابلس، وكان الأسطول عشرين ألف عسكري في مالطة وبدءوا بحصار قلعة «سنت ايلم Sainl-Elme» وفي أول يوم من المهاجمة سقط «دراغوت» أمير طرابلس قتيلًا، وبقي الأتراك يضيقون على ذلك الحصن حتى أخذوه عنوه ولكن أدوا عنه ثمنًا غاليًا جدًّا.
وكان رئيس فرسان مالطة «بطرس لا فاليت» فأرسل قائد الجيش العثماني مصطفى باشا يعرض عليه الاستسلام، فأجاب بأنه ليس أمامه سوى الدفاع أو الموت، إلا أن الخبر ورد بأن الحرب نشبت من جديد في بلاد المجر، فأقلع العثمانيون عن مالطة، وذلك أنه كان الأمير «فرديناندو» قد مات وخلفه ابنه مكسيمليان، وكان راغبًا في الصلح، إلا إن إتيان بن سابوليا ملك المجر من قبل الدولة العثمانية تجاوز حدود النمسا ودخل بلدة «ساتمار» فلم يسع مكسيمليان إلا أن يحشد جيشه ويدخل إلى بلاد المجر، وكان علي باشا الصدر الأعظم قد مات فخلفه «محمد باشا سوقولوفيتش» من بوسنة، وكان راغبًا في الحرب فدخلت الجيوش العثمانية في «كرواسية» و«رانسلفانيا» وجاء السلطان سليمان إلى بلاد المجر، ودخل عليه إتيان بن سابوليا فوعده بأنه لن يفارق المجر قبل أن يوطد له ملكه، فحصر السلطان بنفسه مدينة «سيفيت Szlgeth» واستولى عليها وامتنعت القلعة وبقي العثمانيون يحاصرونها مدة أربعة أشهر، في أثنائها مات السلطان سليمان فأخفى سوقولوفيتش خبر موته عن الجيش، وكانت وفاة السلطان في ٥ سبتمبر ١٥٦٦، وفي ٨ سبتمبر استولى العثمانيون على القلعة وذبحوا كل ما فيها وبقي الصدر الأعظم كاتمًا موت السلطان عن الجيش يقرأ الأوامر باسمه إلى أن وصل السلطان الجديد من كوتاهية.
ولا شك في أن السلطان سليمان القانوني كان أعظم سلطان أنجبه البيت العثماني، وبرغم ما عابوه من القيادة للسلطانة التي كانت أحظى حظاياه المسماة روكسلان، وبرغم قتله وزيره إبراهيم باشا الذي كان عماد سلطته وقتله أولاده فقد قال المؤرخ «هامر Hammer» أشهر مؤرخ لسلطنة آل عثمان: إن هذه الأغلاط لا ينبغي أن تنسينا محاسن هذا السلطان الباهرة، التي جعلت من زمانه العصر الأكبر للسلطنة العثمانية، وذلك بعلو همة هذا السلطان، وسعة عقله ومتانة عزمه وشدة بأسه مع محافظته التامة على الشريعة الإسلامية، ومع حبه للنظام والضبط، ومع تثميرة للمملكة وخيراتها ومراعاة الاقتصاد مراعاة لا تخل بشيء من إظهار عظمة الملك والبذخ في مقام البذخ، وكان السلطان سليمان محبًّا للعلم والعلماء موقرًا لهم عارفًا بأقدارهم لا يألو جهدًا في الإحسان إليهم والاعتناء بشأنهم.
وقال المؤرخ الفرنسي «لا جونكيير La Jon quiere» إن عصر سليمان القانوني لم يكن له نظير سواء من جهة الفنون والآداب أو من جهة المفاخر الحربية سوى عصر لويس الرابع عشر في فرنسا مع الفرق بأن دور سليمان انتهى كما بدأ في عنجهية الظفر، ولم تكن نهايته إدبارًا وبدايته إقبالًا، ولم يعهد أن السلطنة العثمانية أنجبت في عصر من الأعصر من أعاظم الرجال بقدر ما أنجبت في عهد السلطان سليمان، فقد نبغ فيها من رجال السياسة إبراهيم باشا ورستم باشا وصقولي باشا. ومن رجال البحر خير الدين بربروس، وورغوت، ودراغوت، وبيالي. ومن قادة الجيوش فرهاد باشا، وأرسلان باشا، وحمزة باشا، وميكال أوغلي. ومن كتاب السلطنة جلال زاده، ومحمد إيغري عبدي. ومن الفقهاء، أبو السعود أفندي، وابن كمال باشا.

ونبغ في عصره من الشعراء، عبد الباقي الذي كان عند الأتراك كما كان المتنبي عند العرب وحافظ عند الفرس، وكان السلطان سليمان يجل عبد الباقي إجلالًا زائدًا ويجعله حلية عصره، ولما كان السلطان سليمان نفسه شاعرًا فقد بعث إليه بأبيات يلقبه فيها بشاعر آل عثمان. ومن شعراء ذلك الوقت يحيى بك الذي رثى الأمير مصطفى ابن السلطان سليمان ولم يحقد عليه السلطان بسبب ذلك بل خصص له مرتبًا، ومن شعراء ذلك العصر فضولي، والرواني، والسامعي، وغيرهم، ومن مآثر السلطان سليمان المعدودة جامع السليمانية الذي لا يوجد بناء أجل ولا أدق منه في أبنية آل عثمان، وكذلك جامع السليمية الذي بني على قبر السلطان سليم الأول، وجوامع محمد وجهانغير في غلطة، وجامع السلطانة الخاصكي. وفي زمانه جرى إصلاح قناة المياه المسماة ﺑ«قناة يوستنيانيوس» في استانبول، وكذلك جدد السلطان سليمان قناة جديدة على الحنايا إلى دار السلطنة، ولو شاء الكاتب أن يحصي جميع مآثر السلطان سليمان مع الأبنية الفخمة والآثار الخالدة لاحتاج إلى كتاب كبير، وهو مع ذلك إنما تخصص بالقوانين حتى أطلق عليه المؤرخون اسم «القانوني» وكان له مزيد الاعتناء برتب العلماء وتوفير الجرايات لهم، وإغنائهم عن الناس، وقد ميزهم في أمور كثيرة وهذا دأب جميع آل عثمان.

وله قوانين كانت في غاية الحكمة لولاها لم تكن السلطنة العثمانية بلغت ما بلغته من السعادة في زمانه، فإن الحروب بينه وبين دول النصرانية وبين دول آسيا أيضا كانت متصلة، وكانت الجيوش تتلو الجيوش والزحوف تتبع الزحوف وجميعها تقدر بمئات الألوف من العساكر، فلو لم تكن البلاد معمورة والنعم موفورة والأرزاق فائضة والخيرات لم يكن يتيسر للسلطان قضاء نصف قرن في الجهاد المستمر وتعبئة الجيوش الجرارة بدون استنزاف حياة المملكة، والحقيقة أن السلطان وجه عناية خاصة إلى مسألة تنظيم المالية وترتيب الخراج بشكل يفي باحتياجات الدولة بدون أن يرهق الرعية، وبلغت وارادات السلطنة في أيامه نحو من تسعة ملايين وعشرين ألف دوكة، هذا عدا واردات الخزانة الخاصة التي كانت تبلغ أيضًا خمسة ملايين دوكة، هذا ولما بلغ سليمان سن الكبر صار قليل الخروج على الديوان وصار الوزراء يستبدون ويسترسلون إلى شهواتهم، وفي هذا أصاب سليمان من الانتقاد ما أصاب عبد الرحمن الناصر الأموي الذي يشبه سليمان في طول مدة حكمه، بل تولى عدة سنوات زيادة على حكم سليمان، ويشبهه في سعة ملكه وعظمة أعماله وتوالي فتوحاته وسعادة الرعية في ظله، ولكنه في آخر الأمر اعتمد على خواصه وأخلد إلى الراحة، فشكا الرعية من عماله وتناولوه باللوم وأشرعوا إليه أسنة الانتقاد، ولكنه لم يمنع هذا أن يكون عبد الرحمن الناصر وسليمان القانوني كل منهما نسيج وحده وأن يكون مفخرة من مفاخر الإسلام الكبرى.

وجاء في «شذرات الذهب» أنه في سنة ٩٧٤ كما في «النور السافر» أو ٩٧٥ كما في كتاب «الأعلام» توفي السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان الحادي عشر من ملوك آل عثمان، قال في الأعلام: كان سلطانًا سعيدًا ملكًا أيده الله بنصر الإسلام تأييدًا، ولي السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان سليم خان في سنة ست وعشرين وتسع مئة، وجلس على تخت السلطنة وما دلي أنف أحد، ولا أريق في ذلك محجمة من دم، ومولده الشريف سنة تسع مئة، واستمر في السلطنة تسعًا وأربعين سنة، وهو سلطان غاز في سبيل الله، مجاهد لنصرة دين الله، مرغم أنوف عداه، بلسان سيفه وسنان قناه، كان مؤيدًا في حروبه ومغازيه مسددًا في آرائه ومغازيه، مسعودًا في معانيه ومغانيه، مشهودا في وقائعه ومراميه، أيان سلك ملك وأنى توجه فتح وفتك، وأين سافر سفر وسفك، وصلت سراياه إلى أقصى الشرق والغرب وافتتح البلدان الشاسعة الواسعة بالقهر والحرب، وأخذ الكفار والملاحدة بقوة الطعان والضرب، وكان مُجَدِّد دين هذه الأمة المحمدية في القرن العاشر مع الفضل الباهر والعلم الزاهر والأدب الغض الذي يقصر عن شأوه كل أديب وشاعر. إن نظم فعقود الجواهر أو نثر فمنثور الأزاهر، وإن نطق قلد الأعناق نفائس الدر الفاخر، له ديوان فائق بالتركي وآخر عديم النظير بالفارسي، تتداولهما بلغاء الزمان، وتعجز أن تنسج على منوالهم فضلاء الدوران، وكان رءوفًا شفوقًا، صادقًا صدوقًا، إذا قال صدق وإذا قيل له صدق، لا يعرف الغل والخداع، بل يتحاشى عن سوء الطباع، ولا يعرف المكر ولا النفاق ولا مساوئ الأخلاق، بل كان صافي الفؤاد صادق الاعتقاد منور الباطن كامل الإيمان سليم القلب خالص الجنان.

وما تناهيت في بثي محاسنه
إلا وأكثر مما قلت ما أدع

وأطال صاحب الأعلام في ترجمته وترجمة أولاده، وذكر غزواته، فذكر له أربع عشرة غزوة انتصر وفتح في جميعها، وذكر كثيرًا من مآثره، فمن ذلك الصدقة الرومية التي هي الآن مادة حياة أهل الحرمين الشريفيين فإنه أضاف إليها من خزائنه الخاصة مبلغًا كبيرًا، ومنها صدقات الجوالي، ومعناها ما يؤخذ من أهل الذمة في مقابلة استمرارهم في بلاد الإسلام تحت الذمة وعدم جلائهم عنها، وهي من أجل الأموال ولأجل حلها جعلت وظائف للعلماء والصلحاء والمتقاعدين من الكبراء، ومنها أجراء العيون، ومن أعظمها أجرًا عين عرفات إلى مكة المشرفة، ومنها بمكة المدارس الأربع، ومنها تكيته ومدرسته العظيمة بمرجة دمشق، إلى غير ذلك مما لا يحصى، فرحمه الله رحمة واسعة. انتهى ملخصًا ومن أراد البسط الزائد فيراجع الأعلام.

قلت: كان سليمان القانوني يجمع أحيانًا بين الأضداد فإنه قد اشتهر عنه من الرأفة والعفو ما لا خلاف فيه، كما أنه ثبت كونه أمر بقتل أولاده الذين بلغه أنهم كانوا يريدون أن يخلعوه، والملك كما يقال عقيم، فلا تنفع في جانب الاستئثار بالملك رأفة ولا شفقة، وهذا من وجوه الشبه أيضًا بين السلطان سليمان القانوني والخليفة عبد الرحمن الناصر الأموي الذي قتل أيضًا ابنه، وكان الحامل له على قتله سبب أشبه بالسبب الذي حمل السلطان سليمان على قتل ابنه مصطفى وهو وقوع الناس به، وحوم القلوب عليه واشتهاره بالعلوم والآداب.

هذا وقد رثى السلطان سليم المفتي أبو السعود العمادي الشهير ﺑ«مرثية هي وإن كانت من شعر العلماء وعلى لهجة الفقهاء فهي لا تخرج عن طبقة الشعر العالي قال:

أصوت صاعقة أم نفخة الصور
فالأرض قد ملئت من نقر ناقور
أم ذاك نعي سليمان الزمان ومن
قضت أوامره في كل مأمور
ومن ومن ملأ الدنيا مهابته
وسخرت كل جبار وتيمور
مجاهد في سبيل الله مجتهد
مؤيد من جناب القدس منصور
وصدق عزم إلى الخيرات منصرف
وحسن لحظ على الألطاف مقصور

ومنها:

يا نفس ما لك في الدنيا مخلفة
من بعد رحلته عن هذه الدور
وكيف تمشين فوق الأرض غافلة
أليس جثمانه فيها بمقبور
يا نفس فاتئدي لا تهلكي أسفًا
فأنت منظومة في سلك معذور

وأما العلماء الذين نبغوا في زمان السلطان القانوني، فمنهم المولى خير الدين الذي كان معلمًا للسلطان وكان قد حصل على حشمة وافرة بسبب جاهه عند السلطان سليمان، ومع ذلك لم يتبدل ما في طبعه من التواضع ولين الجانب.

ومنهم قادري شلبي وتقلب في المناصب العلمية حتى صار قاضيًا للعساكر، ثم عزل عن ذلك وتولى الإفتاء بالقسطنطينية.

ومنهم سعد الله بن عيسى وأصله من قسطموني، وتولى القضاء بالقسطنطينية، ثم تولى الإفتاء بها وكان محمود السيرة مرضي الطريقة.

ومنهم الشيخ محمد بن إلياس المشتهر بجوي زاده، تولى القضاء بمصر، ثم صار قاضيًا للعسكر المنصور، ثم تولى الإفتاء بالقسطنطينية، ثم تقاعد عن الفتوى وعاد إلى التدريس وكان قوالًا بالحق صادقًا بالشرع وقال صاحب «الشقائق النعمانية»: إنه كان من محاسن الأيام.

ومنهم المولى محيي الدين محمد بن قطب الدين وكان مدرسًا، وما زال يترقى حتى تولى قضاء العساكر، ثم عزل عن القضاء فرجع إلى التدريس ثم ترك التدريس وذهب إلى الحج ورجع وانقطع للعبادة واعتزل الناس.

ومنهم المولى حافظ محمد بن أحمد باشا بن عادل باشا أصله من بردعة، في حدود العجم قرأ في تبريز وفاق أقرانه وبلغ الغاية من العلوم العقلية مع الرسوخ التام في الفقه والتفسير والحديث، ومع الأدب والتاريخ، ولم يكن يفتر عن الكتابة وله تآليف كثيرة وشروح وحواش على كتب السيد الشريف الجرجاني، وله رسالة اسمها «الهيولي» وله كتاب اسمه «مدينة العلم» جعله ثمانية أقسام، وأورد في كل قسم منها اعتراضات على ثمانية من العلماء المشهورين في الآفاق، كصاحب الهداية وصاحب الكشاف والبيضاوي والتفتازاني، والشريف والجرجاني، ونحوهم، وله رسالة اسمها «نقطة العلم» ورسالة أخرى اسمها «معارك الكتائب» ورسالة أخرى اسمها «السبعة السيارة» وكان بالجملة من أعاظم العلماء.

ومنهم الشيخ محمد التونسي المغوشي، قال عنه الطاشكبري صاحب «الشقائق النعمانية» إنه أجازه، وقال: إنه كان آية من آيات الله الكبرى في العلم والفضل والتحقيق وكان يقرأ القرآن العظيم على السبع القراءات، بل على العشر، وذلك بدون مطالعة كتاب، وكان يحفظ الشرح المطول للتلخيص مع حواشيه للسيد الشريف، ويحفظ شرح المواقف للسيد، وشرح المطالع لقطب الدين الرازي والكشاف، مع حواشي الطيبي، وغير ذلك من الكتب يحفظها بأسرها لم يكن يحتاج إلى كتاب ولا إلى ورقة، بل كان يملي كل شيء من حفظه، وقد يكون شأنه في هذا من خوارق العادة، وفي آخر الأمر استأذن السلطان سليمان في الذهاب إلى مصر فرارًا من برد استانبول الذي لم يألفه، وتوفي في مصر.

ومنهم المولى عبد الفتاح بن أحمد بن عادل باشا كان من المدرسين الكبار وتوفي وهو يدرس بمدرسة الوزير إبراهيم باشا في القسطنطينية.

ومنهم المولى علاء الدين علي الأصفهاني وكان أيضًا من كبار المدرسين وأصله من بلاد العجم.

ومنهم مصلح الدين المشهور بجاك وأصله من بلاد منتشا، وكان مدرسًا ثم انقطع عن التدريس وانقطع للعبادة.

ومنهم شاه قاسم بن الشيخ المخدومي من أهل تبريز لما فتح السلطان سليم تلك البلدة أتى به معه إلى بلاد الروم وكان من الأدباء.

ومنهم قاضي زاده الأردبيلي، وهو من تبريز أيضًا، فلما فتحها السلطان سليم أتى به أيضًا إلى بلاد الروم، وقد ترجم «تاريخ ابن خلكان» إلى الفارسية وقتل مع الوزير أحمد باشا نائب السلطان سليمان في مصر.

ومنهم محيي الدين محمد الغراباغي قرأ في بلاد العجم ثم أتى إلى بلاد الروم وعاش مدرسًا، وله تآليف منها شرح لرسالة «إثبات الواجب» للدواني، وحواش على شرح «القواية» لصدر الشريعة، وكتاب في المحاضرات اسمه «جالب السرور» وقد تلقى علماء عصره هذه الكتب بالقَبول.

ومنهم ابن الشيخ الشبشري وقرأ في بلاد العجم وجاء إلى بلاد الروم، وله قصيدة بالفارسية مقدار ستين بيتًا، مصراع كل بيت منها تاريخ لجلوس السلطان سليمان، وكان المصراع الأخير تاريخًا لفتح قلعة رودس، وله كتب وحواش على تأليف السيد الجرجاني وأثنى السيد الطاشكو بري عليه في أخلاقه.

ومنهم الشريف العجمي، قرأ في بلاد العجم ثم جاء إلى بلاد الروم وعاش مدرسًا ومات وهو مدرس في إزنبق.

ومنهم حسام الدين ابن الطباخ ولد في مدينة غاليبولي وكان من المدرسين وتولى القضاء ثم ترك القضاء والتدريس، وكان عالي الهمة لا يتذلل إلى أرباب الجاه ولا يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم محمد بن بير محمد باشا الجمالي قرأ على والده ثم على أحمد بن كمال باشا وتولى التدريس بإحدى المدارس الثمان في القسطنطينية ثم صار قاضيًا في أدرنة ومات وهو قاضٍ بها.

ومنهم المولى عبد اللطيف من قسطموني، وكان أيضًا من أكابر المدرسين ثم استقضي في أدرنة ثم ترك القضاء، وكان على جانب عظيم من الصلاح، همة في آخرته لا في دنياه.

ومنهم المولى بايزيد الشهير ﺑ«نقيضي وكان مدرسًا صالحًا لا يلتفت إلى الدنيا وكان يرضى من العيش بالقليل.

ومنهم محمد الشهير ﺑ«ابن المعمار» كان مدرسًا في أسكوب، ثم جاء مدرسًا في إحدى المدارس الثمان بالقسطنطينية، واستقضي في مدينة حلب مرتين، ومات وهو قاض بحلب وكان مرضي السيرة.

ومنهم شمس الدين أحمد المشهور بابن الجصاص صار قاضيًا بدمشق ثم صار مدرسًا بإحدى المدارس الثمان في القسطنطينية ومات وهو مدرس بها.

ومنهم علاء الدين علي المشهور ﺑ«جرجين» وكان يدرس في المدارس المشهورة ومات وهو يدرس بإحدى المدارس الثمان.

ومنهم سيدي المنتشوي الملقب بالدب وكان من المدرسين.

ومنهم المولى حيدر الملقب بحيدر الأسود كان مدرسًا ثم استقضي بمدينة حلب ولم تحمد سيرته في القضاء، فغضب عليه السلطان وعزله فعاش في القسطنطينية، وبنى مسجدًا ووقف عليه أوقافًا، إلا أن اشتغاله بأمور الدنيا كان أكثر من اشتغاله بالعلم عفا الله عنه.

ومنهم عبيد الله شلبي بن يعقوب الفناري من جهة الأم، كان قاضيًا في مدينة حلب قال صاحب الشقائق: إنه كان حميد الأخلاق إلى الغاية. وكان من الكرم بما لا مزيد عليه، وربما تجاوز حد الكرم إلى الإسراف، وملك أموالًا عظيمة وكان ينفقها كلها، وملك عشرة آلاف مجلد من الكتب، وله شرح على البردة الشريفة من أحسن شروحها.

ومنهم حسام الدين حسين الشهير ﺑ«كدك حسين، كان من المدرسين الكبار ومات وهو مدرس في طرابزون وكان من أهل التقوى والصلاح.

ومنهم محمد الشهير ﺑ«ابن القوطاس أصل أبيه من بلاد العجم وجاء إلى الروم وتوفي محمد المذكور وهو يدرس بمدرسة محمود باشا في القسطنطينية.

ومنهم سنان الدين يوسف ابن أخي الآيديني الشهير ﺑ«أخي زاده» قرأ في بلاد العجم، ودرس في بلاد الروم وكان عالمًا سليم النفس على فطرة الإسلام.

ومنهم المولى جلال الدين القاضي، كان مدرسًا ثم صار قاضيًا، وكان عالمًا فاضلًا صالحًا محمود الطريقة في قضائه.

ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر الحلبي، كان مدرسًا ثم تولى القضاء وكان مشتغلًا بنفسه، سليم الطبع خاشعًا متواضعًا وقد بنى دار التعليم بالقسطنطينية.

ومنهم ابن الكتخدا الكرمياني قرأ في بلاد العجم على العلامة جلال الدين الدواني، وتولى التدريس في الروم ثم صار قاضيًا وحمدت سيرته في القضاء.

ومنهم بدر الدين محمود من أولاد الشيخ جلال الدين الرومي، كان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان وكان صاحب أخلاق كريمة.

ومنهم بدر الدين محمود بن عبيد الله، كان مدرسًا في إحدى المدارس الثمان ثم تولى القضاء بحلب، ثم بادرته ومات وهو قاض بها وكان مستقيم الطريقة.

ومنهم إسحاق الأسكوبي كان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان، ثم استقضي بدمشق ومات وهو قاض بها وكان صدوقًا صحيح العقيدة.

ومنهم أبو السعود المشتهر ﺑ«ابن بدر الدين زاده» وكان قاضيًا ومن أهل العلم.

ومنهم دلى برادر وكان من المدرسين ثم ترك التدريس وسكن في القسطنطينية بقرب البحر، وبنى مسجدًا ووقف عليه حمامًا، ثم ارتحل إلى مكة وجاور بها إلى أن مات.

ومنهم جعفر البروسوي المشتهر بنهالي كان مدرسًا ثم صار قاضيًا في غلطة من القسطنطينية ثم مال إلى العزلة وكان خفيف الروح ظريف الطبع.

ومنهم باشق قاسم وكان من المدرسين وهو من أصحاب اللطائف والنوادر ولكنه كان من الصالحين وقد عمر نحوًا من مئة سنة.

ومنهم فخر الدين بن إسرافيل زاده كان من المدرسين ثم صار قاضيًا بدمشق أولًا وثانيًا، وكان له اختصاص بالعلوم العقلية.

ومنهم شمس الدين أحمد بن عبد الله، كان من المدرسين ثم تولى قضاء دمشق ومات وهو قاض بها وكان محمود الطريقة.

ومنهم حسام الدين حسن شلبي القراصوي كان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان ثم استقضي بالقسطنطينية وكان من العلماء.

ومنهم أمير حسن الرومي كان من المدرسين ومات وهو يدرس بدار الحديث في أدرنة وله حواش على شرح الفرائض للسيد الشريف.

ومنهم محمد الشاه بن شمس الدين اليكاني، كان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان، ومات وهو مدرس بها وكان مشتغلًا بنفسه لا يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم سليمان الرومي، كان مدرسًا ومات وهو مدرس بإحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنة، قال صاحب الشقائق: وكانت وفاته في مجلس خاص بالعلماء عند حضور سلطاننا الأعظم في وليمته المباركة لختن أولاده الكرام وقد سقط مغشيًا عليه، فحمل من المجلس إلى خيمة ومات هناك، وكان معرضًا عن أبناء الزمان لا يذكر أحدًا إلا بخير. يريد بقوله سلطاننا الأعظم السلطان سليمان القانوني.

ومنهم قطب الدين المرزيفوني وكان من المدرسين ومات وهو يدرس في طرايزان، وله تعليقات على «شرح المفتاح» للسيد الشريف.

ومنهم المولى بير أحمد، كان مدرسًا ثم استقضي بحلب وكان صحيح العقيدة لا يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم محمد بن الشيخ محمود المغلوي الوفائي، كان من المدرسين، وكان محبًّا للطريقة الوفائية، وكان عالمًا مؤلفًا وله حواش على حاشية شرح التجريد للسيد الشريف.

ومنهم أحمد بن حمزة القاضي الشهير ﺑ«عرب شلبي» قرأ في مصر الصحاح الستة من الأحاديث والفقه، والأصول والهندسة والهيئة وجاء إلى القسطنطينية فبنى له الوزير قاسم باشا مدرسة بقرب مدرسة أبي أيوب الأنصاري فدرس هناك طول حياته.

ومنهم ورق شمس الدين وكان مدرسًا بمدرسة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وكان صالحًا لا يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم محمد بن عبد الأول التبريزي، كان والده قاضي الحنفية بتبريز، ورأى المولى جلال الدين الدواني وهو صغير، وحكى أن علماء تبريز كانوا يجلسون بين يدي الدواني مطرقين رءوسهم، وجاء محمد المذكور إلى بلاد الروم فأعطاه السلطان بايزيد مدرسة ثم أعطاه السلطان سليمان مدرسة أيضًا، ثم استقضي بحلب ثم بدمشق ثم بالقسطنطينية وكانت له اليد الطولى في العلوم العربية والإنشاء، وكان كثير الاهتمام بالمحسنات اللفظية ولم يكن يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم محمد بن عبد القادر المشتهر «بالمعلول» كان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان ثم تولى قضاء مصر، ثم قضاء العسكر، وكان من أصحاب الثروة، بنى دار الفراء في القسطنطينية وغيرها.

ومنهم محمد الشهير ﺑ«مرجا شلبي» كان من مدرسي المدارس الثمان وتولى قضاء دمشق، ثم قضاء أدرنة، ومات وهو قاض بها وكان محمود السيرة.

ومنهم بير محمد بن علاء الدين علي الفناري كان من مدرسي المدارس الثمان، وعلى جانب من العلم والورع.

ومنهم علاء الدين علي بن صالح، كان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان، ثم استقضي بأدرنة ومات وهو قاض بها، وكانت له يد في الإنشاء وترجم «كليلة ودمنة» إلى التركية ترجمة حسنة.

ومنهم صالح الأسود وكان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان ومات وهو يدرس بها، وكان عالمًا صالحًا كاسمه.

ومنهم المولى أبو الليث وكان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان، ثم استقضي بحلب ثم بدمشق، وتوفي وهو قاض بها، وكان فاضلًا حسن العقيدة.

ومنهم فخر الدين بن محمد بن يعقوب، وكان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان فاضلًا صاحب أخلاق مات في عنفوان شبابه.

ومنهم مصلح الدين مصطفى الشهير ﺑ«مصدر» درس بإحدى المدارس الثمان، ثم استقضي بمدينة حلب، ثم صار قاضيًا بمكة المشرفة واتصل بخدمة العارف بالله السيد علي بن ميمون المغربي.

ومنهم محمد الشهير ﺑ«شيخي شلبي» درس بإحدى المدارس الثمان، ومات وهو يدرس بها وكان محمود الطريقة لا يذكر أحدًا إلا بخير.

ومنهم سنان الدين يوسف الشهير ﺑ«كوبرجك زادة» ودرس بإحدى المدارس الثمان، وبمدرسة أيا صوفيا وأفتى ببلده أماسية وكان مرضي الطريقة.

ومنهم عبد الرحمن المؤيدي المشهور ﺑ«حاجي شلبي» وكان مدرسًا بمدرسة أبي أيوب الأنصاري، ثم بإحدى المدارس الثمان وكان عالمًا بالعلوم العربية وينظم الشعر العربي الحسن ومات وهو شاب.

ومنهم محبي الدين محمد بن عبدار الشهير ﺑ«محمد بك، اتصل بخدمة الفاضل ابن كمال باشا، ثم صار مدرسًا بالمدارس المشهورة ثم ظهر اختلال في دماغه ثم برئ منه، فسافر إلى مصر فأسره النصارى واسترده بعض أصدقائه منهم، وفي زمان السلطان سليمان تولى التدريس ثم استقضي بدمشق وكان ماهرًا في العلوم العقلية والعلوم الرياضية.

ومنهم مناسترلي شلبي، درس في مناستر، ثم اختار العزلة واشتغل بالعلم والعبادة وكان من الصالحين.

ومنهم الشيخ إبراهيم الحلبي خطيب جامع السلطان الفاتح بالقسطنطينية وكان من حلب وقرأ في مصر، ثم أتى القسطنطينية فصار خطيبًا بجامع السلطان محمد، ومات عن تسعين سنة، وكان فقيهًا أصوليًّا تقيًّا نقيًّا، ملازمًا لبيته لا يراه أحد إلا في بيته أو في المسجد، وإذا مشى في الطريق يغض بصره عن الناس، ولم يسمع منه ذكر أحد بسوء، وله عدة تصانيف أشهرها كتاب في الفقه سماه ﺑ«ملتقى الأبحر» ومنهم محمد الحسيني الشهير ﺑ«سيرك محيي الدين» كان معلمًا للأمير محمد بن السلطان سليمان وكان من ذوي السمت الحسن.

ومنهم محيي الدين محمد القوجوي الشهير ﺑ«محيي الدين الأسود» كان معلمًا للأمير مصطفى بن السلطان سليمان وكان عالمًا عاملًا مستقيم الطريق لا يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم المولى خير الدين خضر كان معلما للأمير مصطفى بن السلطان سليمان وتوفي وهو معلم له.

ومنهم هداية بن يار علي العجمي، كان من المدرسين بإحدى المدارس الثمان ثم صار قاضيًا بمكة ثم ترك القضاء وجاء إلى مصر وتوفي بها، وكانت له مشاركة في العلوم مع الأدب والتواضع.

ومنهم محيي الدين محمد بن حسام الدين، تنقل في المدارس الشهيرة بين بروسة وتيرة وأماسية وشورلو ومناستر ومغنيسيا وأدرنة، وتولى القضاء بدمشق ثم في أدرنة ثم في القسطنطينية، وكان مطلعًا على علم الكلام وله يد في التواريخ والمحاضرات.

ومنهم محيي الدين الآيديني المشتهر ﺑ«أهلجة» وكان من المدرسين، ومات وهو يدرس بسلطانية بروسة، وكان من الصالحين.

ومنهم عبد القادر الشهير ﺑ«عبدي» كان من كبار المدرسين ثم صار قاضيًا بمكة ثم في مصر وتوفي وهو قاض بها وكان مرضي السيرة في قضائه.

ومنهم حسام الدين حسين شلبي الفراصوي، وكان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان وتوفي وهو مدرس بها وكان له نسبة خاصة إلى العلوم العقلية.

ومنهم كمال الدين الشهير ﺑ«كمال شلبي» وكان من المدرسين بإحدى المدارس الثمان، واستقضي بدار السلام بغداد، وتوفي وهو قاض بها، وكان صحيح العقيدة كريم الأخلاق.

ومنهم أمير حسن شلبي وكان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان، ثم بمدرسة أيا صوفيا وكان من أهل المروءة والفتوة.

ومنهم محمد بن الوزير مصطفى باشا، كان مدرسًا بسلطانية بروسة ومات شابًّا.

ومنهم محيي الدين محمد بن المولى خير الدين معلم السلطان سليمان كان مدرسًا بمدرسة الوزير مصطفى باشا بالقسطنطينية ومات شابًّا.

ومنهم فرج خليفة الفراماني، وكان مدرسًا بإحدى المدارس الثمان ومات وهو مدرس بها.

ومنهم شمس الدين أحمد اللازبي المعروف ﺑ«شمس الأصغر» وتنقل في التدريس إلى أن صار بإحدى المدارس الثمان، ثم صار مدربًا بمدرسة السلطان سليمان بالقسطنطينية.

ومنهم شمس الدين أحمد البروسوي وكان من المدرسين وتوفي في أوائل أيام السلطان سليمان.

ومنهم عبد الرحمن بن يونس الإمام وكان مختصًّا بعلم الكلام وقد مات شهيدًا.

ومنهم عبد الكريم الويزوي، كان مدرسًا وتوفي مفتيًا في مغنيسيا.

ومنهم شمس الدين أحمد الشهير ﺑ«القاف» تنقل في المدارس الشهيرة ثم قضى بدمشق، وكان حسن السمت.

ومنهم سعد الدين الأقشهري تنقل في المدارس الشهيرة وأوفى بأماسية ومات وهو مدرس بمدرسة السلطان مراد في بروسة وكان عابدًا زاهدًا.

ومنهم خير الدين الأصغر ودرس في أسكوب ثم في شورلو، ثم مات وهو يدرس بها.

ومنهم عبد الرحمن المشهور ﺑ«ابن الشيخ» كان مدرسًا ثم اعتزل التدريس وانقطع إلى الله تعالى، وكان لا يذكر أحدًا بسوء، وكان يحب لأخيه ما يحب لنفسه هذا مع القناعة والورع، والرضى من العيش بالقليل.

ومنهم حسن القراماني وكان مدرسًا ثم استقضي في غلطة ثم في طرابلس، ثم في سلانيك وتوفي بالقسطنطينية، وكان صاحب ثروة مع الخير والدين وحسن السمت في قضائه ولم يكن يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم محيي الدين الشهير ﺑ«ابن الحكيم» كان قاضيًا بالمدينة المنورة صلى الله على ساكنها ومات وهو قاض بها وبنى مدرسة بالقسطنطينية.

ومنهم عبد الحي بن عبد الكريم بن علي بن المؤيد من أماسية، درس ببلده ثم بالقسطنطينية ثم صار قاضيًا بعدة من البلاد، ثم اعتزل القضاء ورغب في التصوف وكان محمود الطريقة.

ومنهم سنان الدين يوسف، أصله من قرة سي، كان متصوفًا واعظًا يجلس للوعظ في جامع الأمير محمد بن السلطان سليمان، وكان عابدًا زاهدًا تتلألأ أنوار الصلاح من جبينه، ذا شيبة جليلة.

ومنهم بدر الدين محمود الآيديني توفي وهو يدرس بمدرسة محمد باشا في القسطنطينية وكان مشتغلًا بالعلم والعبادة.

ومنهم علاء الدين الآيديني وكان مشتغلًا بالتدريس مع العبادة.

ومنهم شمس الدين محمد بن عمر بن أمر الله بن الشيخ آق شمس الدين المشهور، وكان معلمًا للأمير سليم بن السلطان سليمان، وهو الذي تولى السلطنة بعد أبيه وتوفي شمس الدين محمد هذا في سن الشباب.

ومنهم المولى خير الدين من قسطموني وكان مدرسًا ثم صار معلمًا لبعض أبناء السلطان سليمان.

ومنهم المولى بخشي، كان معلمًا للسلطان سليم بن السلطان سليمان.

ومنهم جعفر المنتشوي وكان معلمًا للسلطان بايزيد بن السلطان سليمان وكان مشتغلًا بنفسه.

ومنهم المولى درويش سبط لامولى سنان باشا، وكان من المدرسين.

ومنهم مصلح الدين بن المنتشوي وكان من المدرسين المعروفين.

ومنهم سعد الله المعروف ﺑ«ابن شيخ شاذيلو» وكان من المدرسين أيضًا وعلى الفطرة الإسلامية.

ومنهم عبد الكريم بن عبد الوهاب بن عبد الكريم، وكان عالما صالحًا وتوفي شابًّا.

ومنهم الشريف مير علي البخاري قرأ على علماء عصره في بخارى وسمرقند، ثم جاء إلى بلاد الروم في زمان السلطان سليمان، وله شرح لطيف على «الفوائد الغيائية» من علم البلاغة للعلامة عضد الدين.

ومنهم حسام الدين حسين النقاش العجمي، من أهل تبريز رأى العلامة الدواني، وكان رجلًا من العلماء يقال له غياث الدين منصور يريد أن يباحث الدواني فقال ملك تبريز للعلامة الدواني: يريد غياث الدين يلتزم معك في بعض المباحث؟ فقال الدواني: يتكلم مع الأصحاب ونحن نتشرف باستماع كلامه. ولم يتنزل إلى المباحثة مع غياث الدين ثم إن النقاش العجمي المذكور جاء إلى بلاد الروم ثم جاور بمكة ثم جاء إلى القسطنطينية، وكان شافعي المذهب وكان حافظًا للأحاديث والتواريخ وله شرح على البردة الشريفة.

ومنهم مهدي الشيرازي الشهير ﺑ«فكاري» قرأ في شيراز وأتقن علم الكلام والمنطق والحكمة وجاء إلى بلاد الروم وصار مدرسًا بمدرسة قلبة، ومات وهو مدرس بها وكانت له تآليف وكان كاتبًا بالعربية.

ومنهم المولى سعيي، وكان أديبًا بالعربية والفارسية والتركية وتوفي في أوائل سلطنة سليمان خان.

ومنهم المولى قاسم، لازم خدمة العارف بالله ابن الوفاء ثم نصبه السلطان بايزيد معلمًا لخدامه، وذلك لعلمه وصلاحه، وكان سريع الكتابة وسرعة كتابته لو وصفت لربما لم يصدق السامع.

ومنهم ابن المكحل كان خطيبًا بجامع الفاتح بالقسطنطينية وكان بليغًا صالحًا.

ومنهم محيي الدين بن العرجون وكان حسن الصوت عارفًا بالقراءات، وتولى الخطبة بجامع أيا صوفيا.

ومنهم المولى بير محمد، كان ماهرًا بالقرآن، وصار خطيبًا بجامع السلطان بايزيد بالقسطنطينية.

ومنهم الحكيم سنان الدين يوسف، ومهر في الطب ونصب طبيبًا في مارستان أدرن ثم مارستان القسطنطينية، ثم صار طبيًا للسلطان سليم خان «الثاني» وهو بعد أمير على طرابزان، ولما تولى السلطنة جعله طبيبًا لدار السلطنة ثم جعله السلطان سليمان رئيسًا للأطباء، وبقي على ذلك إلى أن توفي سنة إحدى وخمسين وتسع مئة، قال صاحب الشقائق: وسألته عن مدة عمره قبيل موته بشهر أو بشهرين فأخبر أن سنه مئة أو أكثر بسنتين، ومع ذلك لم يتغير عقله، إلا أنه ظهر في يديه رعشة، فسألته عن ذلك فقال: إنها من ضعف الدماغ. فتعجبت من إخباره عن ضعف الدماغ مع ما له من كمال الإدراك والفهم، وكان طبيبًا مباركًا، وله احتياط عظيم في معالجاته لقوة صلاحه وكان لا يذكر أحدًا بسوء.

ومنهم الحكيم عيسى كان طبيبا لمارستان أدرنة ثم صار طبيبًا بدار السلطنة وكان متصفًا بكرم الأخلاق مملوءًا بالخير من فَرْقه إلى قدمه.

ومنهم الطبيب عثمان أصله من العجم جاء في زمان السلطان سليم إلى بلاد الروم وصار طبيبًا بدار السلطنة وكان خيرًا صالحًا.

ومنهم يحيى شلبي المعروف ﺑ«أمين زاده» كان أبوه من أمراء الدولة العثمانية، وغلب عليه حب الكمال، واشتغل بالعلم وكان صاحب كمال وجمال، وقرأ على المولى كمال باشا زاده، وعلى المولى شلبي الجمالي، ثم صار معيدًا لدرسه ثم صار مدرسًا، وأخذ يتنقل في المدارس الشهيرة، ثم صار قاضيًا ببغداد ثم صار مدرسًا بدار الحديث التي بناها السلطان سليمان بالقسطنطينية، وكان أبعد الناس عن ذكر مساوئ الناس، قال صاحب الشقائق: ولم يسمع منه كلمة فيها رائحة الكذب أصلًا ولا كلمة فحش وكان ماهرًا في العلوم الأدبية وفي التاريخ والمحاضرة.

ومنهم عبد الكريم القادري الملقب ﺑ«مفتي شيخ» كان متصوفًا، جلس في زاوية آيا صوفيا الصغيرة بالقسطنطينية، واشتغل بالإرشاد ونصبه السلطان سليمان مفتيًا وظهرت مهارته في الفقه، وكان إذا قعد في الخلوة الأربعينية يرتاض رياضة قوية ويحفر في الأرض كالقبر ويقعد في تللك الحفر، وربما تتعطل حواسه من شدة رياضته، وبعد تمام الأربعين يخرج إلى الناس ويعظهم إلى وقت الخلوة من السنة القابلة، وكان متواضعًا خاشعًا، يستوي عنده الكبير والصغير.

ومنهم الشيخ محمود شلبي، انتسب إلى العارف بالله السيد أحمد البخاري وتزوج بابنته، وبعد موته قام مقامه، قال صاحب الشقائق: وكنت لا أقدر على النظر إلى وجهه الكريم لانعكاس حياته إليّ، وكان يقرأ عنده كتاب المثنوي يؤوله على طريقة الصوفية.

ومنهم الشيخ ييري خليفة الحميدي، وكان من أتباع السيد البخاري زاهدًا عابدًا منقطعًا عن الناس.

ومنهم حاجي خليفة المنشوي كان من طلبة العلم ثم انتسب إلى خدمة الشيخ محمود شلبي الذي ذكرناه، وحصل عنده التصوف وأكمله وأجاز به بالإرشاد، وكانت له كلمات مؤثرة في القلوب، وكل من جالسه يمتلئ قلبه خشية، ومات وهو مجاور بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

ومنهم الشيخ بكر خليفة السيماوي، وكان من المتصلين بخدمة الحاج خليفة المذكور وخلفه بعد وفاته وكان مشتغلًا بالحقائق، منقطعًا عن الخلائق.

ومنهم سنان الدين يوسف الأردييلي وكان من أتباع العارف بالله شلبي خليفة اشتغل بالإرشاد وسكن بزاوية عند جامع آيا صوفيا ومات عن مئة سنة.

ومنهم الشيخ رمضان، وهو من المتصوفة أخذ عن الشيخ قاسم شلبي وجلس مكانه بعد وفاته في زاوية الوزير علي باشا بالقسطنطينية.

ومنهم الشيخ يالي خليفة، كان من خلفاء الشيخ قاسم شلبي، ومات ببلده صونية بعد الخمسين والتسع مئة.

ومنهم مصلح الدين مصطفى الشهير ﺑ«مركز خليفة» وكان من أتباع العارف بالله الشيخ سنبل سنان، صارفًا أوقاته للرياضة.

ومنهم الشيخ سنان خليفة من خلفاء الشيخ سليمان خليفة، وكان رجلًا أميًّا إلا أنه كان صاحب أحوال سنية وجذبات عظيمة.

ومنهم مصلح الدين مصطفى الشهير ﺑ«كندر» كان متصوفًا، اتصل بالشيخ محيي الدين القوجري، وخلفه بعد وفاته وكان منقطعًا عن الناس لا يخرج من بيته إلا ليصلي في مسجده.

ومنهم محيي الدين الإزنيقي، وكان من أتباع محيي الدين الأسكليبي، وكان من الزاهدين، وممن تربى عند الأسكليبي إسكندر دده بن عبد الله، وكان رجلًا أميًّا ببركة التصوف على معارف ذوقية تتحير فيها العقول كما يقال عن سيدي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه.

ومنهم محيي الدين محمد، كان ببلده اشقب في الرومللي وكان من العارفين بالله.

ومنهم الشيخ إدريس، كان من خلفاء شلبي خليفة وتوطن بدمشق.

وكان من خلفاء الشيخ إدريس مريدًا اسمه الشيخ داود خليفة وكان عابدًا إلا أنه كان يدعي أنه يصاحب المهدي وأن المهدي من جماعته.

ومنهم الشيخ بابا حيدر السمرقندي جاء إلى بلاد الروم وبنى له السلطان سليمان مسجدًا في ظاهرة القسطنطنينية وكان خاشعًا يستوي عنده الكبير والصغير.

ومنهم صفي الدين الملقب ﺑ«شيخ السراجين» من أماسية.

ومنهم الشيخ محيي الدين محمد من قرية بقرب أماسية ولم يكن يأكل إلا من زراعة يده.

ومنهم الشيخ عبد الغفار من بلدة مدرني، وكان أبوه منتسبًا إلى طريقة الزينية وكان في شبابه تابعًا لهوى نفسه، فرأى في منامه أن والده قد ضربه ضربًا شديدًا ووبخه، فلما أصبح ذهب إلى الشيخ رمضان وتاب على يده وكانت له توبة عظيمة، ومع هذا فقد كان من العلماء والأدباء، قال صاحب الشقائق: وكان من محاسن الأيام.

ومنهم الشيخ إسحاق وكان طبيبًا نصرانيًّا قرأ على المولى لطفي الطوقاني المنطق والعلوم الحكمية واهتدى للإسلام، فترك الطب والحكمة واشتغل بتصانيف الإمام الغزالي، وداوم على العمل بالكتاب والسنة إلا أنه أنكر التصوف لأنه لم يصل إلى أذواقهم.

ومنهم الشيخ أحمد شلبي الأنقروي كان من العلماء، ثم رغب في التصوف ولما بلغ سن الشيخوخة أقام بمدينة أنقرة.

ومنهم السيد الشريف عبد المطلب بن السيد مرتضى، وكان سيدًا صحيح النسب وحصل العلم والأدب، ثم رغب في التصوف وصحب الشيخ ابن الوفاء وأجاز له بالإرشاد الشيخ يحيى الطوزاري وزوجه بابنته، إلا أنه لم يؤثر العزلة والخلوة بل بقي يختلط بالناس.

ومنهم الشيخ عبد المؤمن من أتباع السيد علي بن ميمون انقطع في مدينة بروسة، ومن الناس من لم يكن يعتقد به ولكن يقال إنهم كانوا يفترون عليه اتباعًا لأغراضهم.

ومنهم الشيخ شجاع الدين إلياس من الطريقة الخلوتية، وكان أميًّا تغلب عليه الجذبة.

ومنهم الشيخ أحمد بن مركز خليفة، حصل العلم ثم مال إلى التصوف وانتفع به كثير من الناس.

ومنهم نور الدين حمزة الكرمياني، كان من طلبة العلم ثم رغب في التصوف واتصل بسنبل ستان ثم بمحمد بن بهاء الدين وكان مواظبًا على آداب الشريعة.

ومنهم تاج الدين إبراهيم الشهير ﺑ«الشيخ الأصغر العريان» وكان منقطعًا عن الناس، ساكنًا بقرب «مغنيسيا».

ومنهم محيي الدين المعروف ﺑ«إمام فلندر خانة» صحب الشيخ حبيبًا القراماني والشيخ ابن الوفاء والسيد أحمد البخاري، وكان عالمًا ولكن انقطع عن الناس، وكان خطيبًا بجامع قلندر خانة قال الطاش كوبري صاحب الشقائق: سألته عن سنه فقال: مئة أو أقل منها بسنتين. وعاش بعد ذلك مقدار ثمان سنين.

ومنهم مصلح الدين مصطفى من خلفاء السيد أحمد البخاري، كان متوطنًا في القسطنطينية في زاويته المسماة ﺑ«ذات الأحجار» منقطعًا إلى الله مشتغلًا بإصلاح أصحابه.

ومنهم العارف بالله الشيخ على الكازرواني، وكان في أول أمره اتصل بخدمة السيد علي بن ميمون المغربي وكان له اطلاع على الخواطر وأحوال القلوب.

ومنهم أحمد بن مصطفى بن خليل الطاش كوبري صاحب كتاب «الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية» ونشأ في أنقرة وكان أبوه من العلماء فاعتنى به، فقرأ على علاء الدين الملقب باليتيم النحو والصرف، وقرأ على عمه وعلى أبيه وعلى خاله وعلى المولى محيي الدين الفناري، وعلى المولى محيي الدين القوجوي، وعلى المولوي محمود ابن قاضي زاده وعلى الشيخ محمد التونسي، وأجازه العلماء الكبار، وتولى التدريس بمدرسة قلندرخانه بالقسطنطنينية، ثم انتقل إلى إحدى المدارس الثمان ثم إلى مدرسة السلطان بايزيد بأدرنة واستقضي في بروسة وتوفي وهو مدرس بإحدى المدارس الثمان بالقسطنطينية، وله كتاب اسمه «المعالم في علم الكلام» وحاشية على «حاشية التجريد» للسيد الشريف، وله كتاب كبير في التاريخ جمع فيه ما ذكره ابن خلكان وأضاف إليه، وقد جمع كتابه الشقائق النعمانية بعد أن أصابه الضرر في عينيه، لأنه بعد أن تولى القضاء كف نظره فصح فيه المثل إذا جاء القضاء عمي البصر.

ومنهم يحيى بن نور الدين الشهير «كوسيج الأمين» وتنقل في المدارس الشهيرة، ولما بنى السلطان سليمان مدرسته بالقسطنطينية وجعلها دار الحديث أعطاه إياها، ثم بلغ السلطان عنه شيء فغضب عليه وعزله فأصابه غم شديد لم يعش بعده كثيرًا.

ومنهم محمود الآيديني المعروف ﺑ«خواجه قايني» وكان من كبار المدرسين، وتولى القضاء بحلب ثم بمكة.

ومنهم المولى مصلح الدين وكان مدرسًا في المدارس الشهيرة وتولى قضاء بغداد وقضاء حلب واستقضي في أدرنة ثم في القسطنطينية، وأناف عمره على تسعين سنة.

ومنهم مصلح الدين بن شعبان من غاليبولي وكان معلمًا للأمير مصطفى ابن السلطان سليمان، وكان لا يقطع أمرًا إلا بمشورته، فلما قتل السلطان ابنه عند خروجه من طاعته وقع في هوة الفقر وصبر على نوائب الدهر.

ومنهم المولى محيي الدين الشهير ﺑ«جرجان» وكان يدرس في المدارس الشهيرة، ثم تولى الإفتاء ثم عزل بكائنة خروج الأمير بايزيد بن السلطان سليمان.

ومنهم محمد بن محمد الشهير ﺑ«عرب زاده» وكان مدرسًا في إحدى المدارس الثمان وتولى قضاء مصر وسافر إليها بحرًا في قلب الشتاء فأصابتهم عاصفة فغرق هو وجماعة من رفاقه.

ومنهم نعمة الله الشهير ﺑ«روشي زاده» وتنقل في المدارس الشهيرة ثم تولى قضاء المدينة المنورة وحمدت سيرته في القضاء، ولكنه كان في لسانه بذاءة يحذره الناس من أجلها.

ومنهم شاه علي شلبي بن قاسم بك وكان من أصحاب الزهد والصلاح.

ومنهم شمس الدين أحمد بن شلبي بن قاسم بك وكان من أصحاب الزهد والصلاح.

ومنهم شمس الدين أحمد بن أبي السعود وكان مدرسًا في إحدى المدارس الثمان ثم في مدرسة الأمير محمد بن السلطان سليمان وتوفي وهو مدرس فيها.

ومنهم قورد أحمد شلبي ابن خير الدين معلم السلطان سليم، وكان مدرسًا.

ومنهم غرس الدين أحمد، نشأ في حلب ثم قصد دمشق، وأخذ الطب فيها عن رئيس الأطباء المشهور ﺑ«ابن المكي» ثم ارتحل إلى مصر وأخذ العلوم العقلية والرياضيات عن الشيخ ابن عبد الغفار وأخذ علوم الدين عن القاضي زكريا.

ومنهم عبد الباقي بن علاء الدين العربي الحلبي، وكان من المدرسين المشهورين وتقلد القضاء في حلب وفي مكة وفي مصر، وكانت له شهرة عظيمة إلا أنه كان مقبلًا على الدنيا.

ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن جمال الدين المعروف ﺑ«شيخ زاده» وكان من جلة العلماء وأجازه المفتي أبو السعود.

ومنهم محمد بن المفتي أبي السعود وكان مدرسًا وتقلد القضاء في دمشق.

ومنهم المولى صالح بن جلال وكان السلطان سليمان أمره بترجمة بعض الكتب الفارسية فأتمها في قليل من الزمن ثم تولى قضاء حلب، ثم قضاء مصر.

ومنهم محيي الدين الشهير ﺑ«ابن الإمام» وتولى قضاء حلب.

ومنهم الشيخ تاج الدين إبراهيم بن عبد الله، وكان يدرس بمدرسة سليمان باشا في إزنيق وله تآليف من جملتها رد على ابن كمال باشا.

ومنهم دده خليفة وتولى التدريس ثم الإفتاء، وله تآليف منها حاشية على شرح التفتازاني في الصرف.

السلطان سليم الثاني

هذا وتولى بعد السلطان سليمان الكبير ولده السلطان سليم الثاني، وذلك في أوائل ربيع الأول سنة أربع وسبعين وتسع مئة، وكانت وفاة السلطان سليمان رحمه الله في اليوم الثاني والعشرين من صفر سنة أربع وسبعين وتسع مئة، وجاءوا بجنازته إلى القسطنطينية وكان يوما عظيمًا، وبقي خبر موته مكتومًا خمسين يومًا، وجاء في تاريخ سلطنة سليم الثاني: سليم تولى الملك بعد سليمان.

ولما جاء سليم بجنازة أبيه إلى القسطنطينية لم يوزع على الانكشارية العطايا التي اعتاد السلاطين توزيعها عند جلوسهم على عرش السلطنة، فحصلت ثورة صارت تتفاقم وعجز الوزراء عن قمعها، وخاف السلطان على نفسه فاضطر إلى إجابة طلب العساكر، وأنفق جميع ما في الخزانة حتى أسكتهم، وكان سليم الثاني أول سلطان انحرف عن الجادة التي كان يسير عليها آل عثمان، فإنهم كانوا بأجمعهم أبطالًا يباشرون القتال بأنفسهم ولا يعرفون للراحة معنى، ولم يكن لهم غرام إلا بالفتواحات وتأييد الإسلام وتحصين ثغور المملكة وقهر عداها، وكانت همم جميعهم سامية لا يعرف منهم نكس ولا وكل، فما بدأ دور التراخي في آل عثمان إلا في زمن سليم الثاني، وكان محبًّا للدعة والراحة، ملازمًا للحرم مدمنًا لشرب الخمر مسترسلًا إلى الشهوات، وفي أيامه ارتفع التحريج عن الخمرة فكاد يعم شربها، وإنما روى صاحب الدر المنظوم أنه قبل موته تاب وكسر أدوات اللهو وأواني الشراب، وكان قد ألقى السلطان سليم بمقاليد الأمر إلى وزيره الصوقلي ولولا الصوقلي لسقطت هيبة السلطنة، ولم يمت سليمان القانوني حتى انعقدت في ١٧ فبراير سنة ١٥٦٨ معاهدة بين الدولة العثمانية والمجر، على أن كل فريق يحفظ ما بيده، وأن النمسا تؤدي للدولة ثلاثين ألف دوكة سنويًّا، وتعرف بسيادة الباب العالي على البغدان والفلاخ وترانسلفانيا، ولم تحصل النمسا على هذا الصلح إلا بعد أن رشت رجال الباب العالي بأربعين ألف دوكة.

وكان الصوقلي يريد أن يرسل عساكر تستولي على بلاد الفولغا في شمال الروسيا حتى يقطع ما بين الروس وبين آسيا، فسرح جيشًا إلى استراخان ولكن لم توفق تلك الغزاة برغم جميع ما بذله الصوقلي من العناية، ولم يساعده خان القريم «دولة غرائي» كما كان ينتظر، وفكر الصوقلي في فتح «ترعة السويس» لتتمكن الدولة العثمانية من البحر الأحمر والبحر الهندي، ولكنه لم يتمكن من إجراء فكرته هذه بسبب توالي الحروب، وفي زمن السلطان سليم الأول كانت الحجاز واليمن دخلتا في طاعة الدولة، ولكن الزيدية لم يلبثوا أن ثاروا على العثمانيين بقيادة الإمام مطهر، وبعد أن دخل الأتراك إلى صنعاء أخرجوهم منها ومن سائر المدن، ولم يبق ترك إلا في زبيد، فأرسلت الدولة سنان باشا الأرناءوطي فتغلب على الزيدية، واعترف الإمام مطهر بسيادة السلطان، وفي زمن سليم الثاني افتتحت الدولة «جزيرة قبرص» ويقال إن الذي رغب السلطان في فتحها رجل يهودي برتغالي اسمه «يوسف ناسي» مدح له خمر قبرص، فجرد عيلها أسطولًا وفتحها، وقيل إنه وعد هذا البرتغالي بتوليته قبرص، ولكنه بعد الفتح استحيا من إنجاز ذلك الوعد المدني الذي حمله عليه الشرب، ولكنه أعطى البرتغالي لقب «دوك ناكسوس» وكان الوزير الصوقلي غير مرتاح إلى فتح قبرص يفضل على ذلك مسلمي الأندلس الذين كانوا يثورون المرة بعد الأخرى على الإسبانيول، ويستنجدون آل عثمان، ولكن «لا لا مصطفى باشا» والوزير بيالي وقبطان البحر أرادوا السلطان على فتح قبرص، فساقت الدولة مئة ألف مقاتل إلى تلك الجزيرة، ونزلت العساكر في ١ آب سنة ١٥٧٠ وحاصر العثمانيون نيكوزيا وأخذوها عنوة، ويقال إنهم قتلوا عشرين ألفًا من الأهالي، واستولى الأتراك على ليماسول ولارناكا وامتنعت فاما غوستة وردت هجمات الأتراك، لكنها لم تقدر على المقاومة إلى الآخر، واستولى الترك عليها وقتلوا قائدها برادغادينو الذي أبدى تلك المقاومة الشديدة، ولما وصل خبر قبرص إلى أوروبا اتفقت البندقية والبابا ودولة إسبانيا وفرسان مالطة وجهزوا أسطولًا كبير منه سبعون سفينة إسبانيولية وتسع سفن لفرسان مالطة واثنتا عشرة سفينة للبابا ومئة وأربعون سفينة للبندقية، فتلاقى هذا الأسطول بالأسطول العثماني في ٧ أكتوبر سنة ١٥٧١، وكان الأسطول العثماني ثلاث مئة سفينة، واشتبك القتال بإزاء جزائر «كور زولاري» على سواحل بلاد الأرناءوط.

ووقعت سفينة قبطان البحر العثماني بين سفينتي الأميرال الإسبانيولي، والأميرال البندقي، فجاءت أربع سفن عثمانية لأجل تخليص أمير البحر العثماني، وفي أثناء المعمعة أصابته رصاصة فسقط وهجم الإسبانيول وقطعوا رأسه ودارت بعد ذلك الدائرة على العثمانيين، فأخذ الأسطول المسيحي منهم مئة وثلاثين سفينة غصبًا وأحرقوا أربعا وتسعين وغنموا ثلاث مئة مدفع، وأسروا ثلاثين ألف مقاتل وأنقذوا خمسة عشر ألف أسير مسيحي، ولم ينج من الأسطول الإسلامي إلا أربعون سفينة لأمير الجزائر، وكانت خسائر أسطول النصرانية لا تزيد على خمس عشرة سفينة وثمانية آلاف مقاتل، وبعد هذه المعركة المشهورة بمعركة ليبانت لم تقم للبحرية الإسلامية قائمة تحمد في البحر المتوسط.

ولهذه المعركة قرعت طبول البشائر في جميع العالم المسيحي ولا يزال أهل إيطاليا يحتفلون كل سنة بتذكار هذه الموقعة، ولما بلغ الخبر السلطان امتنع ثلاثة أيام عن الطعام وطرح نفسه على الأرض يستغيث بالله أن يرأف بالإسلام لأن القوة البحرية التي كان أسسها سليم الأول وسليمان القانوني استولى عليها البوار بهذه الكائنة، ولكن الصوقلي بمهاراته لم يلبث أن شرع بتجديد الأسطول العثماني بسرعة خارقة للعادة وعضده في ذلك أمير الجزائر «أولوج علي» وتوجهت عيله إمارة البحر. فبنى العثمانيون مئة وخمسين سفينة حربية، وكان القرار هو أن يبنوا مئة وخمسين سفينة ثانية، فقال قبطان البحر: إنه يصعب على الدولة استحضار كل لوازن هذه السفن، فأجابه الصوقلي الصدر الأعظم بأن السلطنة بمنابع ثروتها تقدر أن تجعل جميع الأسلحة من الفضة وجميع الأشرعة من الأطلس، وهكذا خرج الأسطول العثماني في سنة ١٥٧٢ بمائتين وخمسين بارجة حربية، فعادت البندقية تحسب للعاقبة حسابًا، وفي مارس سنة ١٥٧٣ ارتضت بالصلح مع الباب العالي وتخلت عن جزيرة قبرص، ودفعت ثلاث مئة ألف دوكة تعويضات ثم طرد العثمانيون الإسبانيول من تونس واستولوا على هذه البلدة، وامتنع الإسبانيول بحلق الواد إلا إن الدون جوان دوتريش جاء بأسطول إلى تونس ورد مولاي حسن الحفصي إلى الملك، ولم يطل هذا الأمر إذ بعد سنة ونصف جاء سنان باشا ومعه أربعون ألف مقاتل فطرد الحفصي والإسبانيول معًا واستولى على قلعة حلق الواد التي كان امتنع الإسبانيول بها.

ثم عصت بلاد البغدان فأرسلت الدولة جيشًا خلع أميرها ونصب مكانه رجلًا اسمه إيفونيا وفر أمير البغدان السابق إلى الروسيا حيث قتله إيفان ملك الروس، ثم إن إيفونيا نفسه عصى على الدولة وظاهره القوزاق واستولى على برايلا ويندر واكرمن، فزحفت إليه الجنود العثمانية فهزمته ووقع في الأسر واستؤصل القوزاق بأجمعهم، ومات السلطان سليم في ١٢ ديسمبر ١٥٧٤، ومع ما كان عليه هذا السلطان من القصور فقد كانت وفاته مصيبة على الدولة، لأنه بعد وفاته سقط الصدر الأعظم الصوقلي وكان رجلًا من دهاة الرجال وكان نادر المثال.

وجاء في شذرات الذهب نقلًا عن الأعلام أن السلطان سليم الثاني ولد سنة تسع وعشرين وتسع مئة، وجلس على تخت السلطنة يوم الاثنين لتسع من ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وتسع مئة ومدة سلطته تسع سنوات، وسنه حين تسلطن سنة وأربعون سنة وعمره كله ثلاث وخمسون سنة، وكان سلطانًا كريمًا رءوفًا بالرعية رحيمًا عفوًا عن الجرائم حليمًا محبًّا للعلماء والصلحاء محسنًا إلى المشايخ والفقراء طالما طافت بكفيه الآمال واعتمرت، وصدع بأوامره الليالي والأيام فأثمرت، وكم أظهرت لسواد الكفرة يد صارمه البيضاء آية للناظرين، وكم جهز جيوشًا للجهاد في سبيل الله فقطع دابر القوم الكافرين.

فمن أكبر غزواته فتح جزيرة قبرص بسيف الجهاد ومنها فتح تونس المغرب وحلق الواد ومنها فتح ممالك اليمن واسترجاعها من العصاة، ومن خيراته تضعيف صدقه الحب على أهل الحرمين، والأمر ببناء المسجد الحرام وتولى بعده ولده السلطان مراد تاريخ جلوسه.

بالبخت فوق التخت أصبح جالسًا
ملك به رحم الإلهُ عبادَه
وبه سرير الملك سر فأرخوا
حاز الزمان من السرور مراده

ا.هـ. وهو من نظم الشاعر «مامية» الرومي

وفي زمان السلطان سليم الثاني نبغ من العلماء الشيخ محيي الدين المشتهر ﺑ«حكم شلبي» وكان من الأطباء.

وعلاء الدين المنوغادي وكان من المدرسين الكبار وتولى قضاء بغداد.

والمولى شمس الدين أحمد بن أخي القراماني، وكان أيضًا مدرسًا ثم تولى قضاء المدينة المنورة.

ويعقوب الشهير ﺑ«جالق» وكان مدرسًا أجيرًا بإحدى المدارس الثمان ثم تولى قضاء بغداد.

وتاج الدين إبراهيم وقضى حياته في التدريس وكان في المدرسة التي بناها السلطان سليمان في دمشق.

ومحمد بن عبد الوهاب بن عبد الكريم، وأخذ عن أبي السعود المفتي، وعن كمال باشا زاده وتولى قضاء حلب ثم قضاء الشام ثم قضاء مصر، ثم صار قاضيًا بالعسكر المنصور، ثم اختلف مع الوزير الكبير فاعتزل، وكان من الأجواد الكبار فوق علمه وفضله، ولما جمع المولى محيي الدين سباهي زاده حواشيه التي علقها على حاشية التجريد للسيد الشريف صدرها باسمه، فأعطاه مئة دينار، ويقال إنه حصل له من قضائه بالعسكر سبعون ألف دينار أنفقها كلها، ومات وعليه أربعة آلاف دينار. وكانت له مقالات على منوال مقامات الحريري وعلق حواشي على حاشية الدواني للتجريد وله شعر عربي بديع.

ومنهم السيد حسن بن سنان خدم المفتي أبا السعود ودرس في المدارس الشهيرة ثم تقلد قضاء حلب ثم انتقل إلى مكة وحمد أهل الحجاز قضاءه.

ومنهم مصلح الدين داود زاده وتنقل في المدارس حتى صار إلى إحدى المدارس الثمان، ثم إلى مدرسة سليم خان، ثم تقلد قضاء المدينة، ولما دخل الحرم الشريف أعتق مماليكه ومات بالمدينة ودفن بالبقيع.

ومنهم المولى محمود معلم الوزير الكبير محمد باشا، وتنقل في المدارس، ثم تولى قضاء القاهرة وحمد الناس قضاءه.

ومنهم مصلح الدين الشهير ﺑ«معلم السلطان» جبانكير ابن السلطان سليمان وكان من العلماء العالمين.

ومنهم محيي الدين الشهير ﺑ«ابن النجار» نشأ في أسكوب من الرومللي وتولي التدريس مدة طويلة ثم تولى قضاء بغداد، وكان فاضلًا أديبًا وله نظم بالتركي والعربي.

ومنهم عبد الرحمن المعروف بالدارزادة، كان مدرسًا في ديموطقة ثم في القسطنطينية وتولى قضاء المدينة المنورة وقضاء حلب.

ومنهم مصلح الدين بستان، وكان مدرسًا في إحدى المدارس الثمان، ثم تولى قضاء بروسة ثم قضاء أدرنة ثم قضاء القسطنطينية ثم قضاء العسكر المنصور، وكان من فحول العلماء وله تآليف قيمة.

ومنهم مصلح الدين الشهير ﺑ«كوجك بتان» وكان من كبار المدرسين وأفتى في بلاد مغنيسيا.

ومنهم المولى عبد الله الشهير ﺑ«غزالي زاده» وهو من ذرية الإمام الغزالي وكان منسوبًا إلى الوزير الكبير رستم باشا، وولاه القضاء في قصبة أبي أيوب الأنصاري مع قصبة غلطة، فلما عزل رستم باشا عزل هو أيضًا معه وكان محمود الطريقة.

ومنهم المولى جعفر ابن عم المفتي أبي السعود كان مدرسًا ثم تولى قضاء دمشق ثم قضاء العسكر في الأناضول وكان عالمًا عابدًا.

ومنهم شاه محمد بن حزم وهو من ذرية جلال الدين صاحب المثنوي، وكان من أكابر المدرسين وتقلد قضاء القاهرة ثم قضاء القسطنطينية، وكان من فحول العلماء، إلا أنه كان معجبًا مستبدًّا صعب المقادة، وله حواش على كتاب الإصلاح والإيضاح لكمال باشا زاده وحاشية على حاشية التجريد للسيد الشريف.

ومنهم أحمد بن عبد الله المشتهر ﺑ«الغوري» ودرس بمدرسة السلطان بايزيد في دمشق وكان عالمًا أديبًا له رسالة في علم الخط.

ومنهم المولى يحيى بن عمر من أماسية، وكان من المدرسين العظام وبلغ السلطان عنه شيء فعزله عن التدريس فانقطع عن الوزراء، واتخذ مسكنًا في بشكطاش من القسطنيطينية، وبنى أيضًا مدارس ومسجدًا وكان يطعم الفقراء، وكان الناس يعتقدون في الولاية، ولما مات صلى عليه المفتي أبو السعود وكانت له جنازة عظيمة.

ومنهم أحمد بن محمد بن حسن الصامسوني، وقضى حياته في التدريس وتولى مرة قضاء حلب وحمده الناس في قضائه.

ومنهم المولى عطاء الله معلم السلطان سليم الثاني، وكان يعلمه عندما كان أميرًا على مغنيسيا، فلما جلس على كرسي السلطنة حظي عنده وصار يشاوره وصار يقدم رجاله، وربما قدم غير المستحق على المستحق فخاض الناس في عرضه ونسبوه إلى التعصب، ولما مات كانت له جنازة حافلة وصلى عليه المفتي أبو السعود ونزل السلطان إلى الباب العالي بنفسه.

ومنهم الشيخ رمضان وكان خطيبًا في جامع أحمد باشا في جورلو وتوفي هناك وكانت له تآليف وحواش.

ومنهم بير أحمد المشهور ﺑ«ليث زاده» كان أبوه قاضيًا في مصر وقضى حياته في التدريس.

ومنهم المولى سنان وكان أيضًا من المدرسين المعروفين، ومن مزاياه أنه كان يسعى في مصالح الناس مقصدًا لذوي الحوائج.

ومنهم علاء الدين علي بن محمد المعروف ﺑ«حناوي زاده» وكان مدرسًا في إحدى المدارس الثمان، ولما بنى السلطان سليمان المدرستين اللتين بناهما غربي جامعه الكبير أعطاه إحداهما ثم تولى القضاء في دمشق ثم في بروسة ثم في أدرنة، ثم في القسطنطينية ثم صار قاضي العساكر، وكان من فحول العلماء، وقد جمع الأدب إلى العلم وله بدائع النظم، وله كتب كثيرة.

ومنهم الشيخ يعقوب الكرماني وكان أبوه من الجند، ولكنه رغب في العلم والعبادة.

ومنهم محمد بن خضر شاه المعروف ﺑ«ابن الحاج حسن» وكان مدرسًا شهيرًا ثم تقلد قضاة المدينة المنورة ثم قضاء مكة المشرفة.

ومنهم مصلح الدين اللاري نسبة إلى اللار بالراء المهملة، وهي مملكة بين الهند وشيراز، جاء من بلاده إلى القسطنطينية ثم خرج إلى ديار بكر وآمد ومات هناك، وله تآليف وحواش على الكتب المشهورة، وأراد معارضة المفتي أبي السعود في قصيدته الميمية فقصر عنه.

ومنهم الشيخ أبو سعيد بن الشيخ صنع الله، أصله من بلاد تبريز وكان من المرشدين، ومن الأجواد، وكانت له كلمة نافذة عند الملوك.

ومنهم شمس الدين أحمد بن مصلح الدين المشتهر بمعلم زاده يقال إنه من ذرية إبراهيم أدهم رضى الله عنه، وكان مدرسًا ثم تولى القضاء، وما زال يرقى في القضاء حتى تولى قضاء عسكر الرومللي. قال صاحب العقد المنظوم في ذكر أفاضل الروم: إنه كان مجبولًا على اللطف والكرم غير أن فيه طمعًا زائدًا وحرصًا وافرًا سامحه الله أولًا وآخرًا.

ومنهم الشيخ بالي الخلوتي المعروف ﺑ«سكران»، وتعاطى أول أمره التدريس ثم تبع الطريقة الصوفية فترك التدرييس والإفادة وعكف على الزهد والعبادة.

ومنهم علي بن عبد العزيز المشتهر ﺑ«أم الولد زاده» وكان مدرسًا كبيرًا، ولكنه لم يكن له حظ فعانى كثيرا من الفقر ونكبات الدهر، ثم تولى قضاء حلب ولم يكد يتولاه حتى مات، وعارض المفتي أبا السعود في قصيدته الميمية لأنه كان ضاربًا بسهم في الأدب متمكنًا من لغة العرب.

ومنهم الشيخ محيي الدين بركيلو وكان عالمًا عادلًا قوّالًا بالحق لا يهاب الحكام والأمراء وربما وبخهم في وجوههم.

ومنهم محيي الدين فكساري زاده، وكان مدرسًا وكان في قول الحق صارمًا.

ومنهم عبد الكريم بن محمد بن أبي السعود، وتولى قضاء القسطنطينية ثم قضاء العسكر، وكان من أفذاذ العلماء، وتوفي وما بلغ عمره الثلاثين سنة.

وأما أبو السعود أفندي المفتي بن مصطفى العمادي الشهير فإنه كان حسنة زمان السلطان سليمان، وكان منه بمقام القاضي أبي يوسف من هارون الرشيد والقاضي الفاضل من صلاح الدين يوسف والقاضي منذر بن سعيد البلوطي من عبد الرحمن الناصر الأموي، ولم تطر شهرة أحد من شيوخ الإسلام في دولة آل عثمان مطار شهرته، ولد رحمه الله سنة ثمان وتسعين وثمان مئة بقرية قريبة من القسطنطينية من خواص أوقاف الزاوية التي كان السلطان بايزيد خان قد بناها للمولى محيي الدين العمادي والد أبي السعود، وقرأ المولى أبو السعود على والده وعلى الشيخ عبد الرحمن المشتهر ﺑ«شيخ زاده» وبدأ أبو السعود أفندي بالتدريس يتنقل من مدرسة إلى مدرسة حتى انتهى إلى إحدى المدارس الثمان ولما فارقها ودعها بأبيان منها:

دنا النأي عن نجد فأصبحت قائلًا
وداعًا لمن قد حل هذي المنازلا
فيا حبذا تيك المعالم والربي
بها كل من تهوي وما كنت آملا
نسيم الصبا عرج عليها ونادها
سقتك الغوادي وابلًا ثم وابلا
نأت عنك داري لا قلى وسآمة
بلى فعل التقدير ما كان فاعلا
ولن تبرح الأشواق تزداد في الحشا
إلى أن أرى أمرًا من الدهر هائلا

وتقلد قضاء بروسة ثم قضاء القسطنطينية، ثم قضاء العسكر في الرومللي قال صاحب الدر المنظوم: ولما انتقل المولى سعد بن عيسى بن أمير خان إلى رحمة ربه اضطرب أمر الفتوى وانتقل من يد إلى يد، ولم يثبت سقف بيته على عمد حتى تسلم أبو السعود أفندي زمام الإفتاء، وذلك سنة اثنتين وخمسين وتسع مئة، وبقي في عهدته نحوًا من ثلاثين سنة، وكتب الجواب مرارًا في يوم واحد ثم قال صاحب الدر المنظوم: «وسارت أجوبته في جميع العلوم مسير النجوم.» وكانت وفاة أبي السعود في أوائل جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وتسع مئة وصلى عليه المولى سنان محشي «تفسير البيضاوي» ودفن في جوار أبي أيوب الأنصاري ثم قال صاحب الدر المنظوم: «إنه تفرد في ميدان فضله فلم يجاره أحد، وضاقت عن إحاطته صدور الحصر والحد، ما صارع أحدًا إلا صرعه، وما صمم شيئًا إلا قطعه وانقطع عن القرين، ولم يبق من يعارضه ويكابده، وقد وصل تلاميذه وأصحابه إلى المناصب السمية والمراتب السنية، فكان لا يضيع منه كلام ولا يفوت له مرام، وقد عاقه الدرس والفتوى والاشتغال بما هو أهم وأقوى عن التفرغ للتصنيف، سوى أنه اختلس فرصًا وصرفها إلى التفسير الشريف، وقد أتى فيه بما لم تسمح به الأذهان ولم تقرع به الآذان، وسماه ﺑ«إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم» ولما وصل منه إلى آخر سورة ص ورد التقاضي من طرف السلطان سليمان خان، وظهر كمال الرغبة والانتظار فلم يمكن التوقف والفرار، فبيض الموجود وأرسله بصهره المولى محمد المشتهر بابن المعلول فقابله السلطان بحسن القبول، وأنعم عليه بما أنعم وزاد في وظيفته كل يوم خمس مئة درهم، وبعد ذلك تيسر له الختام ورتبه بالكمال والتمام وأرسله إلى السلطان ثانيًا بعد إتمامه، فقابله السلطان بمزيد لطفه وإنعامه وزاد في وظيفته مئة أخرى. وكان يمنعه عن الإكثار من التأليف تواتر الفتوى من الآفاق، ومن شمائله أنه كان ذا مهابة عظيمة، فلا يقع في مجالسه أخذ ورد، ولكنه كان كثير المداراة للناس مائلًا إلى مداهنة رجال الحكومة، وكان طويل القد خفيف العارضين، غير متكالف في اللباس والطعام. انتهى بتصرف وله من النظم القصيدة الميمية المشهورة.

أبعد سليمى مطلب ومرام
وغير هواها لوعة وغرام
وفوق حماها ملجأ ومثابة
ودون ذراها موقف ومقام
وهيهات أن يثنى إلى غير بابها
عنان المطايا أو يشد حزام
هي الغاية القصوى فإن فات نَيْلها
فكل منى الدنيا علي حرام
سلا النفس عنها وأطمأنت بنأيها
سلو رضيع قد عراه فطام

وهي تسعون بيتًا شرحها كثير من العلماء وله مشيرًا إلى تعلق الإنسان بالعالم الجسماني قصيدة مطلعها:

طال الثواء بدارة الهجران
مثوى الكروب قرارة الأشجان

ومنها:

حتى م ترتع في مراتع غفلة
وإلى م تسلك مسلك الخسران
فكان قلبك في جناحي طائر
بادي التقلب دائم الخفقان
ما زلت تبغي مطلبًا عن مطلب
وتحل في مغني عقيب مغاني
أوما كفى ما قد بلغت من المنى
قد كان ما في حيز الإمكان
ألقى الزمان إليك حبل قياده
مع ما به من شدة وحران
لو أنت تملك كل ما قدر رمته
قأعلم بأن جميع ذلك فاني
سر في فضاء العالم العلوي كم
هذا الجثوم بعالم الجثمان
قد آن من شمس الحياة طلوعها
من حضرة الأشباح والأبدان

ووجاءه كتاب من شريف مكة، فأجابه بجواب فيه ما يأتي:

وخريدة برزت لنا من خدرها
كالبدر يبدو من خلال غمام
عربية فتنكرت وازينت
بملابس الأعجام والأروام
طوبى لمن رزق الوقوف ببابها
فهو المرام وأي أي مرام
باب إليه تشوقي وتوجهي
حرم عليه تحيتي وسلامي
ياليت شعري هل أفوز بزورة
يومًا وقد ضربت هناك خيامي

السلطان مراد الثالث

وتولى بعد سليم الثاني ابنه مراد الثالث، وكان محبًّا للعلم والأدب إلا أنه استولى عليه شهوتان، إحداهما حب المال والثانية حب الجمال، وأفرط في معاشرة النساء إلى الحد الذي أضر بعقله، ولكنه أصدر أمرًا قاطعًا بمنع الخمر، فثار به الانكشارية والسباهية حتى اضطروه إلى إلغاء هذا الأمر فانعكس المثل وصار اليوم أمر وغدًا خمر، وفي زمانه خرقت النمسا الصلح فسارت العساكر العثمانية وهزموا جنودها، وقتل «هربرت بارون اوسبرغ» في المعركة وأرسل رأسه إلى القسطنطينية فطلبت النمسا الصلح، ولكن العثمانيين لم يزالوا يشنون الغارات على استيريا وكارنيتا فاضطر النمسويون إلى القتال، وفي ذلك الزمان صار «اتيان باتوري» ملكًا على بولونيا فاتفق مع البابا ومع إمبرطور ألمانيا على حرب صليبية يصلونها الأتراك، وبدأت المذاكرة في كيفية تقسيم السلطنة العثمانية، وقد سبق لنا في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» أن الممالك الأوروبية في مدة ست مئة سنة قررت تقسيم السلطنة العثمانية وبلاد الإسلام مئة مرة، ذكرنا كل واحدة منها وكيفية المذاكرات التي جرت بها فمن شاء فليراجع ذلك هناك.

وقد كانت عزيمة إتيان باتوري هذا من أهم هذه العزائم النصرانية بحق دولة آل عثمان، وكان يريد أيضًا استئصال إمارة موسكو ولكنه مات قبل أن يضع عزيمته هذه موضع الإجراء، وفي مدة مراد الثالث ضعفت قوة الصدر الأعظم الصوقلي، وتغلب عليه رقباؤه وتمكنوا من عزل حواشيه والمنسوبين إليه، وما زالو يقصون من أجنحته إلى أن أرسلوا من قتله سنة ١٥٧٩ فعقدت الدولة بفقده رأسها المفكر وعقلها المدبر.

وكان شاه العجم طهماسب قد مات مسمومًا وخلفه ابنه حيدر فقتل في يوم مبايعته، وتولى أخوه إسماعيل فاستقر في الملك ثمانية عشر شهرا، فانتهز العثمانيون الفرصة وشنوا الغارة على أطراف العجم واستولو على بلاد كرجستان كلها وقسموها إلى أربع ولايات، فتولى أزدمير عثمان باشا ولاية شيروان، وتولى محمد باشا تفليس، وحيدر باشا صخوم، وتولى ابن اللاوند على كرجستان، فوقعت المعارك بين الفريقين، وكانت الحرب سجالًا بينهم إلا أن أزدمير عثمان باشا في الداغستان كان دائمًا مظفرًا فأتم فتح داغستان وكر على الروس.

ولما كان خان القريم تخلف عن مساعدة الدولة أراد أن يقاتله، فزحف محمد غرائي خان القريم بأربعين ألف فارس، وكاد يوقع بأزدمير عثمان باشا إلا أن إسلام غرائي أخا محمد تولى القريم من قبل السلطان، فزحف على أخيه فتفرق عن محمد غرائي جميع جنده وقتل، فلما رجع أزدير عثمان باشا إلى القسطنطينية دخل بأبهة عظيمة لم تحصل لقائد قبله، وتولى الوزارة العظمى مع قيادة الجيش الزاحف لحرب العجم، ثم إنه سار بمئة وستين ألف مقاتل إلى تبريز وهزم العجم، ودخل تلك البلدة، ولكن ساءت صحته فتعطلت الحركات العسكرية، وظفر حمزة مرزا قائد العجم بالعثمانيين، وفي أثناء ذلك مات عثمان باشا وتقهقر الجيش العثماني، ورجع العجم فحصروا تبريز وحملوا عليها خمسة عشر حملة وأصلوها ثمانية وأربعين معركة ولكنهم لم يقدروا عليها، وأرسلت الدولة فرهاد باشا لنجدتها، وفي هيعة ذلك اغتيل القائد حمزة مرزا وظفر فرهاد باشا ظفرًا عظيمًا بالإيرانيين، فاضطر الشاه عباس إلى طلب الصلح، فانعدقت المعاهدة على أن تبقى كرجستان وشيروان ولورستان وتبريز وقسم من أذربيجان للدولة العثمانية، وفي زمن مراد الثالث اضطربت المملكة بكثرة الفتن، وظهرت علامات اختلال الإدارة، فثار الانكشارية في استانبول لأنهم أرادوا أن يؤدوا إليهم راتبهم بمعاملة ورق رقيق لم يرتضوا بها فهجموا على قصر السلطان.

وفي مصر ثار الجند على أويس باشا الوالي وفي تبريز خرج الجند أيضًا عن الطاعة، فذبح منهم جعفر باشا ألفا وثمان مئة، وفي بود عاصمة المجر انتفض الجند بسبب تأخر أرزاقهم وقتلوا الوالي، وما زال الجند لا سيما الانكشارية يزدادون تمردًا حتى قرر سنان باشا الصدر الأعظم الدخول في حرب مع دولة أجنبية ليشغل الانكشارية عن العصيان، فسرح جيشًا تحت قيادة حسن باشا والي بوسنة يهاجم النمسا، فانهزم حسن باشا وزحف سنان باشا بنفسه ففتح فيسيريم وبالونة، إلا أن قائد بود انهزم واستولت النمسا على تسع قلاع، ثم ثارت ترانسيلفانيا والفلاخ والبغدان، واتحدت هذه الإمارات الثلاث مع النمسا وقتلوا المسلمين الذين كانوا ساكنين فيها، ولم تكن أحوال السلطنة العثمانية في زمن هذا السلطان على ما يرام، بل اضطرب الحبل ومات السلطان في ٦ يناير سنة ١٥٩٦.

ونبغ في زمن هذا السلطان من العلماء الطبيب إلياس القراماني، وكان في الأصل طبيبًا ثم تبحر في العلوم العقلية النقلية ولكنه بقي يتعاطى الطب، وكان فرهاد باشا من وزراء السلطان مراد الثالث مبتلى بحبس البول، فأشار عليه الطبيب إلياس بتناول معجون تناوله فمات بعد ذلك بالزحير، فاتهم الطبيب بأنه تعمد قتل فرهاد بإشارة من الوزير محمد باشا الذي كان رقيبه فدخلت زوجه فرهاد باشا على السلطان وطلبت قتل الطبب، فأخذ وحبس وأمر السلطان بالتحقيق فلم يثبت شيء على الطبيب، وشفع به المفتي والعلماء فأخرج من الحبس، فجاء خدام فرهاد باشا وقتلوه، ولما وقف السلطان على ذلك غضب غضبًا شديدًا وقبض على ستين شخصًا من جماعة فرهاد باشا وصلب منهم عشرة ونفى الباقين.

ومنهم مصلح الدين بن علاء الدين المشتهر ﺑ«جراح زاده» ولد في أدرنة وقرأ على المولى لطف الله بن المولى شجاع، ثم تبع طريق الصوفية وصار من الأوليات ومات بأدرنة وتنسب إليه الكرامات الكثيرة.

ومنهم عبد الرحمن بن علي الأماسي، كان من المدرسين ثم استقضي في بروسة ثم في أدرنة ثم في العسكر المنصور ثم في مكة المكرمة، وكان ذا حظوة عند السلطان سليم الثاني، وبقي إلى زمن السلطان مراد الثالث، ولكن صاحب الدر المنظوم نبزه بمداهنة الوزراء وانهماكه بالرئاسة وليس ذلك مستحسنًا في العلماء.

ومنهم الشيخ محرم بن محمد من قسطموني وكان من المتصوفة، ولما أتم السلطان سليمان جامعه الشهير نصب له به كرسي، فكان يدرس تارة ويعظ أخرى.

ومنهم المولى شمس الدين أحمد، وكان من العلماء وأصحاب الأخلاق.

ومنهم محمد بن أحمد المشتهر ﺑ«زن» كان أبوه من ندماء السلطان سليم الأول، وطلب العلم وانتهى بأن صار من المدرسين يتنقل من مدرسة إلى أخرى، ودرس في مدرسة السلطان سليمان بجزيرة رودس، وكان أطلس بحيث إذا عري عن زي الرجال يشتبه أمره على النظر ويكون مصداق ما قال الشاعر:

وما أدري وسوف أخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء

يحكى أنه كان مع السلطان مراد الثالث ببلدة مغنيسيا وكان قد ظهر الجراد وأكل الزروع كلها فقال السلطان: كأنما الجراد لعب بلحية المفتى أيضًا.

ومنهم أحمد بن حسن الصامسوني، وكان من المدرسين ثم تولى قضاء حلب ثم قضاء دمشق ثم قضاء مكة وحمدت سيرته.

ومنهم محمد بن عبد العزيز المشتهر ﺑ«معبد زاده» من مرعش لازم المولى خير الدين معلم السلطان سليمان، وصار يتنقل في المدارس ودرس في مدرسة السلطان سليمان في دمشق ثم تولى قضاء بيت المقدس، وكان عالمًا أديبًا وله نظم يمدح به أهل برومية ويقول فيهم:

رأيناهم أشد الناس حبًّا
لأهل العلم رأسًا أو مسوسًا
فلو كان البلاد بني أبينا
لكانت هذه فيهم عروسا

ومنهم المولى محمود المشتهر ﺑ«الكاتب» ولد في سلانيك وكان من المدرسين المعروفين وتولى قضاء بغداد ثم قضاء آمد.

ومنهم المولى زين العباد من أولاد الشيخ إبراهيم التنوري القيصري، ولد في قيصرية وطلب العلم، واتصل بكبار العلماء وأخذ عنهم، وصار من المدرسين ودرس في دمشق بمدرسة السلطان سليمان.

ومنهم رمضان المشتهر ﺑ«ناظر زاده» وكان من المدرسين المعروفين وتقلد قضاء الشام ثم قضاء مصر، وكان عالمًا عاملًا حسن الصورة والسيرة احترز من التأليف خوفًا من الخطأ.

ومنهم المولى حسن ولازم المفتي أبا السعود ودرس بإحدى المدارس الثمان وتقلد قضاء الشام ثم قضاء مصر، ثم قضاء مكة ثم قضاء القسطنطينية.

ومنهم المولى حامد من قونية وكان من المدرسين وتقلد قضاء دمشق ثم قضاء مصر ثم قضاء بروسة، وتولى قضاء العسكر في الرومللي، وكان من الفقهاء المشهورين وكان عظيم النفس مهيبًا في أعين الناس.

ومنهم المولى محمد بن عبد اللطيف المشتهر «ببخاري زاده» تولى القضاء بطرابلس الشام.

ومنهم المولى يوسف المشتهر ﺑ«سنان» قرأ على محيي الدين الفناري وعلى علاء الدين الجمالي، ودرس بدار الحديث في أدرنة، وتقلد قضاء حلب، ثم قضاء دمشق، وانتهى أمره بأن صار من قضاة العساكر، ومات عن تسعين سنة، وكان شيخًا جميل الصورة والسيرة على أخلاق كريمة كثيرة وكتب حواشي على تفسير البيضاوي.

ومنهم أحمد بن محمد المشتهر ﺑ«نشانجي زاده» وكان مدرسًا وتقلد قضاء مكة، وقضاء مصر.

ومنهم المولى محمد المعروف ﺑ«همشير زاده» وكان من المدرسين. قال صاحب الدر المنظوم إنه كان محبًّا للصلحاء مترددًا إلى مجالسهم اللطيفة مستمدًّا من أنفاسهم الشريفة، غير أنه كان كثير الاقتحام في مصالح الفئام باذلًا عرضه الخطير في الأمر الحقير.

ومنهم محمد بن المولى سنان، كان مدرسًا بمدرسة داود باشا، ثم بمدرسة خانقاه ثم بالمدرسة الخاصكية، ثم بإحدى المدارس الثمان، ثم بإحدى المدارس السليمانية، وكان معروفًا بحدة الذهن وفرط الذكاء وقوة البحث، وله حواش على الشرح «الشريفي للمفتاح».

ومنهم المولى أحمد المعروف ﺑ«الكاملي» كان مدرسًا بمدرسة مصطفى باشا باستنانبول ثم نقل إلى مدرسة السلطان محمد بجوار أبي أيوب، ثم بإحدى المدارس الثمان ثم بإحدى مدارس السلطان سليمان، ولما فتح السلطان سليم الثاني جزيرة قبرص تولى قضاءها وتسلم هناك زمام الحكومة، لكنه عجز عن القيام بأمور قبرص، فاستقال من ذلك المنصب وعاد إلى القسطنطينية. قال صاحب الدر المنظوم: إنه كانت له مكاتيب تارة يختار فيها الحروف العارية عن النقط وتارة يلتزم في كلمة حرفًا واحدًا فقط، ومن الذي ما ساء قط.

ومنهم محمود المشتهر ﺑ«معلم زاده» وكان ملازمًا للمفتي أبي السعود، ودرس بمدرسة مراد باشا ثم بمدرسة داود باشا، ثم بمدرسة رستم باشا في القسطنطينية، ثم بمدرسة بنت السلطان سليمان باسكدار ثم بإحدى المدارس الثمان ومات شابًّا.

ومنهم محمود المشتهر ﺑ«بابا شلبي» قرأ على المولى القادري ثم ذهب مذهب الصلاح واشتهر بالتقوى، فنصب لتعليم بنت السلطان سليمان صاحبة الخيرات الحسان، فلما تزوجت بالوزير الكبير رستم باشا أكرمه غاية الإكرام وجمع كتبًا كثيرة نفيسة.

ومنهم شمس الدين أحمد بن بدر الدين المشتهر ﺑ«قاضي زاده» وكان مدرسًا في المدارس الشهيرة، وتولى قضاء حلب ثم قضاء القسطنطينية ثم قضاء العسكر، وفي زمان السلطان مراد الثالث نال الحظوة التامة وتقلد الفتوى بدار السلطنة، قال صاحب الدر المنظوم: «إنه أفحم من عارضه بشقاشقه الهادرة وأرغم من عاناه بحقائقه النادرة، كثير الاعتناء بدرسة، دائم الاشتغال في يومه وأمسه، رفيع القدر شديد البأس عزيز النفس، يهابه الناس ثم قال: إنه كان فيه من التهور المفرط والحدة ما زاد على المعتاد.

ومنهم أحمد المشهور ﺑ«مظلوم ملك» وكان معلمًا لأبناء السلطان سليم، فلما جلس على سرير السلطنة السلطان مراد الثالث وقتل إخوته الذين كان هذا الشيخ معلمًا لهم — فقد قيل إن السلطان مراد قتل من إخوته خمسة — أصبح هذا الشيخ منكوبًا، ثم قلدوه قضاء بيت المقدس ثم قضاء المدينة المنورة ثم قضاء مكة المشرفة، ثم عاد إلى القسطنطينية وكانت سيرته مرضية.

ومنهم عبد الواسع بن محمد ابن المفتي أبي السعود، كان من المدرسين المعروفين وكان يكتب الخط النادر الجميل.

ومنهم محمد بن نور الله المشتهر ﺑ«أخي زاده»، أخذ عن عرب شلبي وعن المولى عبد الباقي، ولازم خير الدين معلم السلطان سليمان، ثم درس بمدرسة خير الدين باشا في بشكطاش وفي غيرها، ثم تقلد القضاء وانتهى بأن صار قاضيًا للعساكر، وكان بحرًا من بحار العلوم أنظر أهل زمانه.

ومنهم شمس الدين أحمد المعروف ﺑ«العزمي» ولد في القسطنطينية وطلب العلم ودرس بالمدرسة الأفضلية ثم بمدرسة سنان باشا بيشكطاش.

ومنهم المولى محمد المعروف ﺑ«صارو كرداوغلي» كان من ملازمي المفتي أبي السعود وتنقل في المدارس الشهيرة.

ومنهم المولى خضر بك بن عبد الكريم القاضي، وكان من المدرسين، وتوفي وهو مدرس في بروسة. قال صاحب الدر المنظوم: «وكان من الغائصين في بحار العلوم، غير أنه لا يخلو عن القيل والقال، مطلق اللسان في السلف ومزدريًا بشأن الخلف مع غاية الإعجاب بنفسه، لطف الله به في رمسه.»

السلطان محمد الثالث

وتولى بعد مراد الثالث محمد الثالث، وكانت أمه من البندقية (يافه) ولما تولى محمد الثالث كان له تسعة عشر أخًا فقتلهم جميعًا، وبرغم من هذه الفعلة الغريبة كان حسن العقيدة صارمًا في إحقاق الحقوق مهتمًا بتنفيذ الشريعة الغراء، وفي زمانه تولى الأمور سنان باشا وحسن باشا وسيكار زاده، وعسفوا الرعية وأثقلوا كواهل الأهالي بالضرائب، ولم يقدر السلطان على إصلاح الحال، وكانت الحرب مستمرة وكانت العساكر العثمانية غير موفقة في بلاد الفلاخ حيث اتفق أمير الفلاخ مع أمير ملدافيا وأمير ترانسلفانيا، والإمبراطور وداف الثاني، فزحف سنان باشا واستولى على بخارست سنة ١٥٩٥، إلا أن ميشيل أمير الفلاخ عاد فهزم العثمانيين، وقتل أسرى الأتراك بالخازوق، وشوى علي باشا وكدجي بك على النار، وصار الفلاخيون يتقدمون كل يوم إلى الأمام، ولكن الدولة العثمانية لم تكن تستغني عن بلاد الفلاخ لما كانت تستدره من أخلافها وتنعم به من خيراتها، وبينما هي تفكر في استرداد بلاد الفلاخ التي هي في هذا العصر مصاص مملكة رومانيا، مات الأمير ميشيل هذا فتخلصت الدولة العثمانية من شره.

وأما النمسا فكانت جيوشها استولت على غران ويسغراد وبابقشة وكليس فهاجت خواطر العثمانيين جدًّا، واضطر السلطان أن يخرج بنفسه إلى الحرب سائرًا على خطة أجداده الأوائل، فوقع المصاف في سهل كيرستس في ٢٦ أكتوبر ١٥٩٦ ودارت الدائرة على النمسويين والمجر، وخسروا خمسين ألف مقاتل في تلك الموقعة، إلا أن العثمانيين لم يحسنوا الاستفادة من هذا الظفر العظيم وفي سنة ١٥٩٨ رجعت النمسا وهاجمت مدينة راب، وعرضت على ساتورجي باشا تسليم البدلة فرفض، ولما وقع في أيدي النمسويين قطعوه إربًا، والتجأ ثلاث مئة من العثمانيين إلى القلعة، ووضعوا النار في البارود فانفجر مخزن البارود، وقتل فيه المحاصرون والمحصورون واستولى النمسويون بعد ذلك على دولا ويسيريم وبابا، وانكسر حافظ أحمد باشا في نيقوبوليس ثم في بود، فزحف الصدر الأعظم إبراهيم باشا وأنقذ بود واستولى على كانيشة سنة ١٦٠٠، واستعمل إبراهيم باشا حسن السياسة مع الصرب والفلاخيين فانقادوا إلى الطاعة.

وأما حالة السلطنة في الداخل فقد كانت من أسوأ ما يكون، فلم تكن تسكن ثورة في جهة حتى تثور ثورة في جهة أخرى، وأهمها ثورة «قرة يزيدجي عبد الحليم» في الأناضول، وكان استولى على «أورفة» ثم اتفق مع أخيه الدلي حسن والي بغداد وادعى السلطنة، ولم تتغلب الدولة عليه إلا بعد جهاد طويل، وثار والي ديار بكر ووالي الشام ووالي حلب ووالي كوتاهية ووالي بغداد الدلي حسن المذكور، فتغلبت الدولة عليهم بعد عناء لا يوصف ونقلت والي بغداد إلى بوسنة.

ولكن أوجاق السباهية ثار على الحكومة بسبب تأخر أرزاقه، ولو شاركه أوجاق الانكشارية لقلبوا الحكومة والسلطان معًا، ولكن الانشكارية حافظوا على الأمانة وفي أثناء ذلك مات محمد الثالث.

السلطان أحمد الأول

وخلفه ابنه أحمد الأول وهو لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر، وكانت السلطنة منهوكة القوى بكثرة الفتن، وهي تحارب النمسا في أوروبا والعجم في آسيا لأن الشاه إسماعيل كان أعلن الحرب، واسترجع تبريز ووان وإيروان، بينما العصاة في أكثر بلاد الأناضول قد رفعوا رءوسهم، وفي ذلك الوقت عصى الأكراد تحت قيادة «جان بولاد» في حلب وعصى الدروز الذين تحت قيادة الأمير فخر الدين المعنى، فاسترضى مراد باشا الصدر الأعظم جمعًا من رؤساء العصاة، وأرسلو جان بولاد واليا على طمشوار في البلقان، وأرضوا قلندر أوغلي بولاية أنقرة، فرفضت أنقرة قبول الثائر، فعاد إلى العصيان، فزحف إليه مراد باشا فهزمه وأرسل من فتك بموصلى شاويش وهو من رؤساء العصاة، كما استجلب إليه يوسف باشا والي منشة وآيدجين الذي كان عاصيًا أيضًا، فلما حصل في يده خنقه. وفر الأمير فخر الدين المعني إلى البادية. والخلاصة أن مراد باشا أتى بخوارق العادات من الحزم والدهاء حتى استأصل جراثيم الفتن التي كادت تقضي على كيان السلطنة العثمانية فلقبوه بمجدد السلطنة، وما انتهى من قمع الفتن الداخلية حتى وجه همته لمحاربة العجم.

ومن أغرب الأمور أن هذا الشيخ قام بجميع تلك العزائم والعظائم وهو في سن التسعين، أي كان أسن من موسى بن نصير يوم فتح الأندلس، ولكن أثر فيه التعب، وفي ٥ آب ١٦١١ انتقل إلى رحمة باريه، فاستدعى السلطان أحمد للصدارة الوزير نصوح باشا والي ديار بكر، فعقد الصلح مع العجم، وأعاد لهم البلاد التي كانت الدولة أخذتها منهم، فأما من جهة النمسا فإنه كان وقع بينها وبين المجر خلاف نفع العثمانيين، وبايع المجر ملكًا اسمه بوسكاي، فدخل تحت حماية السلطان، وزحف لالا محمد باشا بجيش استرجع غران ويسغراد ويسيريم، فعادت النمسا فصالحت بوسكاي ملك المجر، وبقيت عساكر الدولة وحدها تحارب النمسا، وكانت الدولة مضطرة إلى الصلح تطفي نيرن الفتن المشتعلة في الأناضول، فانعدقت بين الدولة وبين النمسا معاهدة «سيتفاتوروك Sitvotorok» سنة ١٦٠٦، فنزلت الدولة عن الجزية السنوية التي كانت تدفعها لها النمسا وهي ثلاثون ألف دوكة، واكتفت بقبض مئتي ألف ريال غرامة حربية، وأعاد كل من الفريقين الأسرى الذين في يده، وبقيت للدولة غران وابرلو وكانيشه، وبقيت في يد النمسا راب وكورنون، وهذه المعاهدة هي أول معاهدة حصلت بها المساواة بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، لأنه إلى حد ذلك الوقت كانت الدولة العثمانية تعامل الدول الأوروبية معاملة الأعلى للأدنى، وتتقاضى الأوروبيين جزية سنوية وإتاوات متنوعة، وبهذه المعاهدة حصلت ترانسلفانيا على نصف استقلال، وتخلصت مملكة المجر من دفع الجزية عن القسم الذي لم يكن العثمانيون يحتلونه.

ومن خصائص تلك المعاهدة أن الدول المسيحية أمكنها أن تناقش الدولة العثمانية في كيفية تحرير الصك، وقبل ذلك كانت الدولة تملي مثل هذه المعاهدات باللغة التركية وتبلغها أعداءها، وكان عليهم أن لا يراجعوا فيها. وبالاختصار كانت هذه المعاهدة أعظم إرهاص بين يدي تقهقر آل عثمان.

هذا وقد رفض أهالي ترانسيلفانيا الدخول في طاعة النمسا، فرجع الباب العالي عما تقرر في العاهدة، وزعم أن بوسكاي لم يكن له حق بالتصرف بالإمارة بدون رضى الأهالي، فولى أمراء آخرين من قبله منهم بيتلنغابور وكان من أشداء أعداء النمسا، فاعترضت النمسا على ذلك، فأجاب الصدر الأعظم بأن المتاركة غير شرعية لأنه لم يكن وقع عليها مفتي السلطنة، فثارت إمارة مولدافيا وطرد الأهالي طومزة الأمير الذي كان من قبل الباب العالي، إلا أن إسكندر باشا جاء فقمع الثورة وأعاد طومزة إلى مكانه، ثم نشبت الحرب في تلك المدينة بين الدولة وإسبانيا، وجاءت سفن فرسان مالطة وصارت تعيث في سواحل الدولة، وغنمت أساطيل الطليان عدة سفن حربية عثمانية، فوجهت الدولة قوتها البحرية إلى البحر المتوسط، وانتهز القوزاق هذه الفرصة ونزلوا في سينوب ونهبوها، فغضب السلطان على الصدر الأعظم نصوح باشا وأمر بخنقه، وفي سنة ١٦٠٤ تجددت العهود التي كانت بين الدولة وفرنسا، وربما زيد فيها وشددت الدولة في منع الأعمال القرصانية في البحر المتوسط، وعزلت والي تونس وخنقت والي الجزائر، ثم تجددت العهود بين الدولة وبولونيا وتعهدت بولونيا بمنع القوزاق، من الغارة على مولدافيا كما تعهد الباب العالي بمنع التتار من الغارة على بولونيا وفي سنة ١٦١٢ انعقدت معاهدة تجارية بين هولاندا والباب العالي.

وفي ذلك الوقت ظهر التبغ بواسطة الهولانديين، فأفتى شيخ الإسلام بمنعه بحجة أنه من الخبائث على نحو ما يذهب إليه اليوم الوهابية وأتباع الطريقة السنوسية أيضًا، ولكن الشعب ثار بالمفتي وقالوا: إنه لا يوجد تحريم للدخان في الكتاب أو السنة، فمن أين للمفتي حق تحريم ما لم يرد على منعه نص؟ فاضطر المفتي إلى إلغاء فتواه، وكان السلطان أحمد الأول قد بلغ رشده وظهرت مناقبه، فكان عادلًا كريمًا محمود السيرة، معتنيًا بأمر المملكة، وكان موصوفًا بالتقوى والورع أهدى نفائس نادرة إلى الحجرة الشريفة النبوية، ولو لم يكن له علة إلا أن رئيس الخصيان في القصر السلطاني كان في زمانه صاحب الأمر والنهي، ولما مات السلطان أحمد الأول سنة ١٦٠٧ كان ابنه عثمان في سن الثالثة عشرة.

السلطان مصطفى

فرجحت الأمة مبايعة السلطان مصطى أخي السلطان أحمد، وفي زمن السلطان أحمد هذا أجلى الإسبان بقية مسلمي الأندلس الذين كانوا أكرهوا على التنصير، لكنهم لبثوا مسلمين في الباطن، وسبب ذلك أن هؤلاء أرسلوا وفدًا إلى السلطان أحمد يستغيثون به، فخاف ملك إسبانيا من الدولة العثمانية فقرر إجلاءهم، ودخل منهم ألوف إلى فرنسا، فأرسل السلطان أحمد إلى هنري الرابع ملك فرنسا يطلب منه إرسالهم إلى بلاده وبلاد الإسلام ففي الحال أركبوهم السفن إلى بلاد الإسلام.

وفي بداية زمن السلطان مصطفى وقعت حادثة كادت تشمل الحرب بين الباب العالي وفرنسا، وذلك أن أميرًا من أمراء بولونيا كان معتقلًا في الأبراج السبعة بالقسطنطينية، ففر منها بمساعدة أحد كتاب سفارة فرنسا فقبضت الدولة على السفير واعتقلته، ووسعت مأموري السفارة تحت الاستنطاق، ولبثوا في الاعتقال أربعة أشهر، فأرسلت فرنسا تتهدد بالحرب وتطلب التعويضات، فلم يصل معتمد فرنسا إلى الأستانة حتى كان العثمانيون خلعوا السلطان مصطفى.

السلطان عثمان الثاني

وبايعو السلطان عثمان الثاني ابن أخيه فكانت مدة مصطفى ثلاثة أشهر فقط واعتذرت الدولة لفرنسا، وكتب السلطان والصدر الأعظم وقبطان البحر كتاب اعتذار إلى لويس الثالث عشر، وانتهت المسألة، وفي ذلك الوقت وقع خلاف بين الدولة وبولونيا من أجل مسائل تتعلق بترانسلفانيا، فأجمع السلطان على غزو بولونيا، وكان ينوي ذلك حتى يتمكن من منع تجاوز الروسيا التي كان قد بدأ أمرها يستفحل، فزحفت الجيوش العثمانية وقطعت نهر دينستر، وحملت على الجيش البولوني حملات شديدة، لكنها لم تقدر عليه، فلما رأى العثمانيون عقم هذه الحروب، وكان البولونيون في وجل شديد من الهزيمة، انعقدت معاهدة الصلح في ١٦ أكتوبر ١٦٢٠.

وفي ذلك الوقت حصلت مؤامرة في فرنسا على الدولة العثمانية يرأسها كارلس الثاني الملقب ﺑ«كارلس دوغنزاغ de gauzague» وزعموا أنهم يريدون الاستيلاء على القسطنطينية، وكان منهم البرنس «دوكليف de Cleves» التي كانت جدته مرغريت باليولوغ من سلالة الإمبراطور اندرونيك باليولوغ، فبدأ هؤلاء الأمراء بالسعي لدى إمبراطور ألمانيا وملك إسبانيا، حتى يعضدهم في هذه الحرب الصليبية، وأرسلوا يوقدون نيران الفتن في بلاد العرب وكروآسيا ودالمآسيا والبانيا ومكدونيا، وفي ٨ ستبمبر ١٦١٤ حصل اجتماع حضره زعماء من الصرب والهرسك والبشناق والدالماسيين في أرض القبيلة الألبانية الكاثوليكية المسماة ﺑ«كوتجي» وكان في هذا الاجتماع بطريرك الصرب وكثير من الأساقفة، وتقرر إدخال أسلحة وأعتدة من البحر إلى أرض الجبل الأسود وتوزيعها على القبائل الألبانية، وأن تثور هذه القبائل وينضم إليها الصربيون، وقدروا أن عدد الثوار لن يقل عن اثنين وأربعين ألف مقاتل منهم اثنا عشر ألفا من الفرسان، وأنهم يدهمون المدن مثل «فالونه» و«شقودرة» و«كاستلنوفو» قبل أن يتنبه الترك للمكيدة.
وبلغ الخبر أمراء مولدافيا والفلاخ فوعدوا بأنهم بمجرد اشتعال الثورة يعبرون نهر الطونة بجيوشهم وينضمون إلى الثوار المسيحيين، وكان كارلس الثاني دوغنزاغ قد شرع بتكتيب كتائب من فرنسا وفي بناء سفن حربية على نفقة نفسه، وتبرع البابا بمبلغ مئتي ألف ذهب لهذه الحرب وبتقديم ألفي مقاتل في عشر سفن، ووعد ملك إسبانيا بست مئة ألف ذهب وعشرين سفينة، ووعد فرسان مالطة بست سفن، وتعهد اليونان بالدخول في هذه الثورة، واتفق الكاثوليك والأرثوذكس من يونانيين وألبانيين وصرب وبلغار، وتعاهد الأساقفة على ذلك، وكان الرأي العام في فرنسا مائلًا جدًّا إلى إصلاء هذه الحرب الصلييبة على المسلمين، ونشر «سافاري دوبريف»  “de Bréves” سفير فرنسا في تركيا سابقا ١٦١٩ نشرة في وجوب محو السلطنة العثمانية، ودعا القسيسون والأساقفة في الكنائس وأعلنوا الحرب الصليبية سواء في فرنسا أو في النمسا أو في بولونيا أو في إيطاليا، إلا أن كل هذا توقف من نفسه وحبط العمل، ويقال إن الأسطول الذي كان أعده كارلس دوغنزاغ المسمى «بدوك نيفير» احترق بسبب لا يزال مجهولًا واضمحلت هذه المسألة من ذلك الوقت.

وقد أشرنا في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» إلى هذه المؤامرة الصليبية في جملة المئة مشروع التي ائتمرت بها أوروبا على الإسلام في مدة ست مئة سنة فمن شاء فليراجع ذلك هناك.

وكان السلطان عثمان قد صمم أن يتخلص من أوجاق الانكشارية ويستبدل به جيشًا يكون أطوع للسلطنة منه، فعلم الانكشارية بذلك وثاروا به وعينوا داود باشا صدرًا أعظم، وخلعوا السلطان وساقوه إلى الأبراج السبعة، وهناك قتلوه في ٢٠ مايو ١٦٢٢ وهو أول سلطان قتل في الدولة العثمانية.

السلطان مصطفى ثاني مرة

وتولى مكان السلطان عثمان عمه السلطان مصطفى فما مضى يومان على مبايعته حتى ثار السباهية بداود باشا وطالبوه بدم السلطان عثمان، فقال لهم: إنه ما قتله إلا بأمر السلطان مصطفى، فلم ينفعه هذا العذر وأسقطوه من الوزارة، وصارت الحكومة ألعوبة في أيدي العساكر حتى يقال إنهم أسقطوا ستة صدور عظام في مدة الخمسة عشر شهرًا التي تولاها مصطفى، وصارت الأمور في نفس الأستانة أشبه بالفوضى، وعصى باشا طرابلس الشام، فطرد الانكشارية من بلده، وعصى باشا ارضروم وزحف إلى أنقرة وسيواس وعذب من سقطوا في يده من الانكشارية، وانضمت بلدان كثيرة في الأناضول إلى الثوار كرهًا بالانكشارية، وأراد العلماء أن يوقفوا الانكشارية عند حدهم، فلم يفلحوا، وأخيرًا تولى الصدارة علي باشا، فرأى أنه لا يستتب النظام بوجود سلطان بلغ هذا الحد من ضعف العزم، فقرر خلعه ومبايعة مراد أخي السلطان عثمان.

السلطان مراد الرابع

وكان مراد مراهقًا لم يتجاوز اثنتي عشرة سنة من العمر فلذلك بقي السباهية والانكشارية يسرحون ويمرحون كما يشاءون، ويعسفون الأهالي باسم السلطان.

واستفادت العجم من هذه الحالة فتجاوزت على ملك آل عثمان وزحف الشاه عباس على بغداد وفتحها بعد حصار ثلاثة أشهر وعذب أهل السنة وشنق نوري افندق قاضي بغداد وعمر أفندي خطيب الجامع الأعظم، وكان والي بغداد في الأصل ضابطًا من ضباط الشرطة اسمه «بكير آغا»، فعصى الوالي وأراد أن يستأثر هو بالولاية واعصوصب حوله جماعة على شاكلته، فغلب عليه حافظ باشا وكاد يوقع به، فأرسل بكير آغا إلى الشاه عباس ليأتي إلى بغداد فيسلمه البلد، فلما جاء الشاه عباس وطلب مفاتيح بغداد وجد بكير آغا قد صالح العثمانيين على شرط أن يكون واليًا، فالتزم الشاه عباس أن يحصر بغداد وأخذ يغاديها القتال ويراوحها، ولم يتمكن منها إلا بخيانة أبي بكير آغا الذي وعده الشاه عباس بأن يجعله واليًا محل أبيه، فلما فتح الشاه عباس بغداد بقي يعذب بكير آغا ستة أيام، ثم وضعه في زورق مطلي بالقطران الملتهب وتركه في دجلة ثم قتل ابنه الذي خان أباه.

ولما وصل خبر سقوط بغداد إلى السلطان مراد الرابع حاول علي باشا الصدر الأعظم إخفاء الخبر عن السلطان، ولكن المفتي أسعد أفندي أخبره بالحادثة، فصدر أمر السلطان بقتل الصدر وعين مكانه شركس محمد، وسرحه بجيش لقتال اباضة والي ارضروم الذي عصى الحكومة وأخذ يقتل الانكشارية في كل سهل وجبل، فزحف إليه القائد حافظ باشا وهزمه ثم صالحه على أن يبقى واليًا على ارضروم، وفي أثناء ذلك مات الصدر الأعظم محمد باشا، فتولى مكانه حافظ باشا وزحف إلى بغداد، وانكفأ إلى الموصل ثم إلى ديار بكر، وعاد الانكشارية إلى الثورة، فعزل السلطان حافظ باشا وولى مكانه خليل باشا، فزحف هذا ليأخذ أباظه والى أرضروم فلم يقدر عليه، فعزله السلطان وولى خسرو باشا، فتمكن هذا من إخضاع أباظة ولكنه عوضه من أرضروم بولاية بوسنة.

وبقيت الثورات تتوالى في وسط السلطنة والحالة تسوء، ولكن الله فرج عن الدولة العثمانية بموت الشاه عباس أكبر سلاطين الدولة الصفوية، فخلفه ابنه وكان شابًّا غرًّا فزحف خسرو باشا إلى العراق وهزم جيوش العجم، لكنه لم يقدر على فتح بغداد برغم مهاجماته الكثيرة لها، ورجع خسرو باشا إلى الموصل، فرد السلطان إلى الصدارة حافظ باشا الذي لم يكن عنده مثله في كافيته.

فلما علم العسكر أن السلطان عزل خسرو باشا ثاروا على السلطان وتقاضوه رأس حافظ باشا، وكان المحرك للعسكر على هذا العمل هو خسرو باشا نفسه، ف—أذن السلطان للعساكر في الانصراف من العراق أملًا بتسكينهم، فلما وصلوا إلى الأستانة ازدادوا تمردًا وهجموا على القصر، ففتح السلطان لهم الأبواب واستدعى اثنتين من الانكشارية واثنين من السباهية، وقال لهم قولًا لينًا لعلهم يتناهون عن غيهم، فلبثوا مصرين على أخذ رأس حافظ باشا، فبذل حافظ باشا نفسه لأجل راحة مولاه، وخرج إليهم حتى قتلوه طعنًا بالخناجر، ولكن لم يسقط رخيصًا برغم شيخوخته، ولم يقتل إلا بعد أن قتل منهم عدة، وسكنت ثورة العسكر مؤقتًا، ولكن السلطان لم ينس عصيانهم لأمره وكونهم إنما عملوا بدسائس خسرو باشا فأمر بخنقه، فثار العسكر مرة ثانية ونادوا بخلع السلطان مراد، وكان متولي كبر هذه الثورة رجب باشا، فظهر في هذه الحادثة أن السلطان الشاب كان بطلًا عشمشمًا، فإنه أمر حالًا بقتل رجب باشا والرمي بجثته إلى العسكر ولم يبال بهم، وطلب السلطان من أحمد آغا قائد السباهية أن يقبض على رءوس الثورة، فماطل في إنقاذ الأمر السلطاني، فأمر السلطان بقتله مع أربعة من رفاقه، وجاء المفتي الأعظم يخوف السلطان من عاقبة استخفافه بغضب العلماء فقتله، فعلمت السلطنة أن على رأسها رجلًا غير الرجال الذين عرفتهم إلى ذلك الوقت منذ مدة طويلة ودخلت الناس في الطاعة.

وكان الأمير فخر الدين المعني أمير لبنان ثار بالدروز على الدولة، وعقد معاهدات مع بعض الدول الأوروبية، ولما لم يقدر على مقامه الدولة جاء إلى فلورانسه من إيطاليا، ثم بعد أن أم عدة سنوات في فلورانسة في خبر يطول شرحه، ولا يسعه هذا المختصر زحف إليه الكوجك أحمد باشا بجيش جرار، وبعد وقائع شديدة دارت الدائرة على الأمير فخر الدين، وقتل ابنه الأمير علي — وكانت أم الأمير علي أرسلانية — في واقعة حاصبيا فالتجأ الأمير فخر الدين إلى مغارة في جبل الشوف اسمها شقيف تيرون، ويقال لها اليوم قلعة نيحا، وهي كهف عظيم في بطن جبل أشبه بالحائط لا يمكن الرقي إليه من الأسفل ولا النزول إليه من سطح الجبل ولا العبور إليه من الجانبين! وإنما يدخلون إليه من أحد الجانبين زحفًا على البطن واحدًا وراء واحد، على صخرة ضيقة مشرفة على الوادي لا يمكن الإنسان أن يمر بها واقفًا، وقد دخلت أنا نفسي زحفًا على الصورة إلى هذا الكهف الذي كان يلجأ إليه العصاة في كل حين، وكان ممن لجأ إليه الضحاك بن جندل الخارجي في أيام الحروب الصليبية، وهذا الكهف يسع نحوًا من خمس مئة مقاتل، وليس فيه ماء نبع ولكن آبار تجري إليها مياه تحت الأرض بأنابيب من عين يقال لها عين الحلقوم، كانت في ذلك الوقت مطمورة، فلما جاء الكوجك أحمد باشا ورأى استحالة الوصول إلى الكهف لأنه لا يؤتى لا من فوق ولا من أسفل ولا من عن أيمانه ولا من عن شمائله سأل عن مشرب أهل الكهف، فقيل له إن الماء يجري تحت الأرض، ولكنه غير معلوم أصله ولا مكان جريه، فأتى القائد المذكور بخيل تركها عدة أيام عطاشًا، فلما أفلتها على سطح الجبل وهي عطاش شمت رائحة الماء فصارت تضرب بأرجلها على الأماكن التي كان الماء يجري تحتها، فعلم الكوجك أن الماء هو هناك فأمر بحفر الأرض حيث كانت الخيل تضرب بأرجلها، فوجد أنابيب الماء فلم يقطع الماء لأنه لو قطع الماء والآبار التي في الكهف ملأى لبقي الأمير فخر الدين قادرًا على الامتناع مدة طويلة، فذبح الكوجك بقرًا في بحري الماء فجرى دمًا إلى الآبار، وفي أحد تلك الأيام قام الأمير فخر الدين صباحًا فقال له جماعته: تعال فانظر الآبار، فنظر فإذا هي دم، فأمر الجند الذين معه بأن يخرجوا ويستسلموا للقائد وفي جوف الليل دلى نفسه هو ومدبر أموره أبو نادر الخازن ومعهما خادم، وذلك من الكهف إلى أسفل، وهو علو خمسين مترًا، ومن هناك ذهب إلى كهف آخر يشابه شقيف تيرون، واسمه مغارة جزين، فأرسل الكوجك أحمد باشا جماعة نقبوا الصخور من تحت الكهف الثاني، وما زالوا يحشونها بالبارود ويقطعون منها جانبًا بعد جانب حتى أوشكوا أن يصلوا إلى المغارة، فاضطر الأمير فخر الدين أن يستسلم إلى الكوجك أحمد الذي أرسله إلى الأستانة مع أولاده الثلاثة منصور وحيدر وبلك.

فلما وصل الأمير فخر الدين إلى الأستانة قال للسلطان: إنني مظلوم ولم أبن القلاع إلا حماية من الأعداء ولم أحارب إلا من كان عاصيًا للدولة، وقد أمنت طريق الحج ومنعت الأعراب عن التعدي، وأديت الأموال الأميرية وأيدت الأحكام الشرعية. فعفا عنه السلطان. إلا أن الأمير ملحم المعني جمع رجالًا من حزبه القيسية ونهض لقتال الأمير علي علم الدين، الذي كانت الدولة ولته جبل الشوف، فنهض الأمير علي لقتاله ومعه اليمنية فجرى بينهم قتال دارت فيه الدائرة على اليمنية، فكتب الكوجك أحمد باشا للسلطان بأن هذه المشاغبات كلها هي من دسائس الأمير فخر الدين، فصدر أمر السلطان بقتله مع أولاده، وذلك ٣ مايو ١٦٣٥ واستحيا السلطان من أولاده الأمير حسينًا واستخدم بالحضرة وترقى وعاش زمنًا طويلًا، وكان عمر الأمير فخر الدين يوم قتل اثنتين وخمسين سنة وكان قصير القامة طويل الباع عالي الهمة، استولى على معظم سورية ما عدا دمشق وحمص وحماة وحلب، وقيل له سلطان البر، وكان عنده جيش دائم ١٢ ألفًا.

هذا ولقد تمكن السلطان مراد الرابع بحزمه وشدة بأسه من قمع الفتن الكثيرة، وهدأت الأحوال في زمانه وزحف لقتال العجم على رأس جيش جرار، وبينما كان زاحفًا كان يأتي من الصرامة أعمالًا توقع الرعب في قلوب الذين تحدثهم أنفسهم بالانتفاض، وفي طريقه استولى على قلعة أريوان ثم على قلعة تبريز وأحرقها ثم عاد إلى القسطنطينية يستريح من وعثاء السفر، فما كاد يستقر به المقام حتى رجع الإيرانيون فحشدوا واسترجعوا أريوان وكسروا العثمانيين في صحراء ميربان.

فنهض السلطان مراد ثانية وزحف إلى بغداد ولبس ثياب جندي من عامة الجند، ونزل بنفسه يقاتل في الخنادق، وكان معه الصدر الأعظم، فلما حمل العسكر العثماني كان السلطان والصدر الأعظم والوزراء يقاتلون بأنفسهم كسائر العسكر، وأصابت الصدر الأعظم طيار محمد باشا رصاصة برأسه فسقط قتيلًا، وأخذ السلطان مراد بغداد عنوة على أثر حمله استمرت ثمانيًا وأربعين ساعة، ثم انعقد الصلح بين الدولة والعجم على أن بغداد تعود لآل عثمان وأن أريوان تعود للعجم.

وكان مراد الرابع في شدة بأسه، ومضاء عزمه وعظمة مهابته، أشبه بآل عثمان الأولين ولو طالت حياته لجدد عهد سليمان القانوني، ولكنه بعد أن استولى على بغداد استرسل إلى الشهوات البدنية وأدمن شرب الخمر، فاعتلت صحته وبلغت منه العلة أن صارت الروح فيه دماء، وبقي يأمر بسفك الدماء، ويقال إنه بينما كان وصل إلى دور النزاع أمر بقتل أخيه إبراهيم، ولكن السلطانة الوالدة أمرت بعدم إنفاذ هذا الحكم، وقالت له إنه نفذ، وفي ٩ فبراير سنة ١٦٤٠ أسلم الروح، وكان عمره تسعًا وعشرين سنة، وهو الذي أنقذ السلطنة بعد أن كادت تتمزق أيدي سبأ بالفتن والثورات وانتفاض الأمراء كل واحد من جهة، فأعاد مراد وحدة السلطنة بشدة حزامته وصرامته، وأزال كثيرًا من المظالم، وأعاد النظام إلى الجيش، وفي أيامه ازدادت وارادات السلطنة وحسنت جباياتها، ولم يكن يعاب إلا في ظمئه إلى سفك الدماء، فإنه كان يتلذذ بالقتل، وكان له عيب آخر وهو شدة غرامه بالمال، فكان يحب الأحمرين «الدم والذهب» ولم يكن لمراد الرابع أولاد، فتولى السلطنة بعدة أخوه السلطان إبراهيم، ولولا وجود السلطان إبراهيم هذا لانقرضت عائلة آل عثمان لأنه لم يكن بقي منها غيره.

السلطان إبراهيم

وبدأ السلطان إبراهيم ملكه بمصالحة النمسا، ولكن حصلت حادثة أدت إلى الحرب بينه وبين جمهورية البنادقة، وهذه الحادثة من أغرب حوادث التاريخ، وهي أن رئيس الخصيان في القصر الذي يسمونه قيزلر آغاسي، كان عنده في الحرم جارية حسناء بارعة الجمال، اختيرت لتكون ظئرًا للأمير محمد بن السلطان إبراهيم، وكانت هذه الجارية قد حملت ثم وضعت ولا يعلم من أين وقع حملها، فشغف حبها السلطان حتى صار يفضل طفلها على طفله، فوقعت الغيرة في السراي وكاد السلطان يقتل طفله من شدة شغفه بالجارية وحبه لطفلها، فلم يجد القيزار أغاسي حيلة أحسن من أن يقصد الحج ويأخذ معه الجارية والطفل.

ومن المعلوم أن فرسان مالطة لم يكن لهم مهمة سوى قطع طرق البحر على المسلمين، فهاجموا الأسطول الذي كان فيه القيزلر أغاسي فاشتبكت بين الفريقين معركة.

ووقع القيزلر أغاسي قتيلا بعد أن دافع أشد الدفاع عن نفسه، ووقعت الجارية وطفلها في أيدي فرسان مالطة، فظن الفرسان أن الطفل هو ابن السلطان وبالغوا في الاعتناء به وبأمه، إلا أنهم عرفوا فيما بعد بعد أن الطفل لم يكن ابن السلطان فربوه في الديانة المسيحية ونشأ قسيسًا، وكان يطلق عليه اسم «الأب العثماني Paere ottomam» وكان الناس في أوروبا يعتقدون أنه من ذرية السلطان، ثم إن فرسان مالطة بعد هذه الغنيمة عرجوا على قندية من جزيرة أقريطش ونزلوا على البنادقة هناك فأكرموهم، فوصل هذا الخبر إلى السلطان فجن جنونه وأصدر أمره بادئ ذي بدء باستئصال جميع المسيحيين، إلا أن شيخ الإسلام عارضه بشدة فتوقف عن إنقاذ هذا الأمر، وأمر بقتل جميع الإفرنج، فجاء الوزراء وأبدوا وأعادوا حتى أرجعوه عن أمره هذا، وحسنوا الاكتفاء بقتل كهنة الكاثوليك، ولكنه رجع عن هذا أيضًا وإنما اعتقل سفراء الدول المسيحية كلهم، وأرسل يقول لهم إنه يجعلهم مسئولين عن الإهانة التي لحقت به، فأجابه سفراء البندقية وإنجلترا وهولاندا بأنه لا يوجد في فرسان مالطة واحد من تبعة حكوماتهم، وأن جميع فرسان مالطة هم فرنسيس، فهاج غضب السلطان إبراهيم علي الفرنسيس، وبينما هو يريد الانتقام منهم أغراه الصدر الأعظم بفتح جزيرة كريت أو قريطش، وفي ٢٤ يونيو ١٦٤٥ كان الأسطول العثماني المؤلف من ثلاث مئة وثمان وأربعين سفينة أمام هذه الجزيرة، وأنزل إلى خانيا خمسين ألف مقاتل، فجاء أسطول البنداقة متأخرا فأخذوا ثأرهم بإحراق باتراس وكورون ومورون وأخذوا خمسة آلاف أسير من العثمانيين، فلما اتصل الخبر بالسلطان اشتد غضبه وأصدر أمرًا جديدًا بنقل المسيحيين في السلطنة، ورجع المفتي فعارضه أيضًا بشدة، وفتح العثمانيون ريتمو وأبو كورونو وكسانون من مدن أقريطش ولكن امتنعت عليهم قندية.

وكان السلطان مسترسلًا إلى شهواته البدنية منقادًا لجواريه الحسان يفعل لهن ما يشأن، فاستنزفن خزانة السلطنة، وأسفت الرعية من هذه الحالة التي عليها السلطان، وكثر القال والقيل فعزم السلطان على البطش بقواد الانكشارية والباهية، فتجمعوا وانضم إليهم العلماء وقرروا خلع السلطان ومبايعة ابنه محمد الرابع — وهو طفل — ووقع ذلك في ٨ آب ١٦٤٨، وما مضى أسبوع على هذا العمل حتى قام السباهية يطلبون إرجاع السلطان إبراهيم إلى العرش، فخاف المفتي والعلماء على أنفسهم إذا رجع وجاءوا بالجلاد قره على ودخلوا على السلطان، فأخذ السلطان يستغيث وقال للمفتي: كان يوسف باشا سول لي قتلك وأنا لم أقبل منه واستحييتك، وأنت الآن تريد قتلي أفلا تلوت القرآن وعلمت كيف يكون حكم الظالمين؟ وبينما يقول هذه الكلمات إذ وضع الجلادون الحبل في عنقه وشدوه فأزهقوا روحه.

السلطان محمد الرابع

وبقي السلطان محمد الرابع على عرشه وهو ابن سبع سنوات ورجعت الفوضى كما كانت قبل أيام مراد الرابع، واضطر العثمانيون لرفع الحصار عن قندية وانكسر الأسطول العثماني، فقتل الوزير صوفي محمد باشا بسبب هذه الهزيمة، وزحف الثوار من الأناضول صوب القسطنطينية وقابلهم الصدر الأعظم قره مراد فهزموا وكادوا يستولون على الأستانة، إلا أن الخلف وقع بينهم فتفرقوا وتمكنت الدولة من الايقاع بهم ومن استرضاء بعضهم.

وفي سنة ١٦٥١ ثار الانكشارية طالبين عزل شيخ الإسلام «بهائي» لأنه أفتى بجواز الدخان والقهوة، وكانت الصدور العظام لا تستقر في الدسوت إلا أيامًا قلائل، وفي سنة ١٦٥٦ ثار الانكشارية والسباهية بسبب تأخر رواتبهم وطلبوا عقاب الوزراء، فاضطر السلطان لإرضائهم، ولحسن الحظ كانت النمسا مشغولة بحرب الثلاثين سنة فلم تقدر أن تسترجع بلاد المجر، ولكن الحرب بين البندقية والدولة العثمانية لم تكن سعيدة الطالع للدولة، وتغلب الأسطول البندقي على الأسطول العثماني بإزاء الدردنيل، واستولى على تيندوس وعلى لمني، وبينما الحالة هي في الدرجة القصوى من الخلل تولى زمام الصدارة الوزير «محمد باشا الكوبر لي الشهير» ولم يقبل الصدارة إلا على شرط إطلاق يده في العمل، فوعدته السلطانة الوالدة بعدم معارضته بشيء، وأول ما بدأ به من الأعمال أنه ألغى الأمر الصادر بقتل سلفه، ثم ثار العكسر فأنزل بهم العقاب الصارم ورمى في البحر أربعة آلاف جثة، وبدت خيانة من بطريرك الروم فشنقه، ثم جدد الحرب على البنادقة بشدة عظيمة واسترجع تيندوس ولمنى، وجاء رسل شارل غوستاف ملك السويد يعرضون على الباب العالي محالفة دفاع وهجوم على بولونيا، فرفض الكوبرلي وألقى في السجن معتمدي أمير ترانسلفانيا راكوشي الذي تحالف مع السويديين ومع القوزاق على البولنيين، ثم عزله الكوبرلي وأقام مكانه رجلًا يونانيًّا. وانقرضت بذلك عائلة باسارابيه التي نبغ منها عدة أمراء، فثار راكوشي على الدولة وانتصر في أول الأمر إلا أن الكوبرلي تغلب عليه، ووقعت معارك في بلاد رومانيا أوقع بها المسيحيون بالمسلمين الذين هناك، فزحف الكوبرلي على بلاد الفلاخ وظاهره التتار فزحفوا إلى مولدافيا وقهروا الرومانين وأقاموا أميرًا من قبلهم على تلك البلاد.

ثم إن التتار تجاوزوا حدود مملكة النمسا فوقعت الحرب بين النمسا والدولة من أجل ذلك، فصارت الحرب بين الدولة من جهة النمسا والبندقية من جهة أخرى وكادت تقع مع فرنسا أيضًا، وكانت امتيازات فرنسا في المملكة العثمانية مقررة ومسكوكاتها مقبولة، وما عدا الإنجليز والبنادقة فكل الامم لأجل أن تتجر في البلاد العثمانية يجب عليها رفع العلم الفرنسي، وكان الفرنسيس لا يؤدون شيئًا من الضرائب في بلاد الدولة، وكان قرصان الجزائر لا يقدرون أن يمسوا بسوء السفن الفرنسية، وكان للفرنسيس حتى اصطياد الصدف في سواحل الجزائر، وأكثر من وطد هذه الامتيازات لفرنسا هو السفير سافاري دو بريف، ولكن بعد انقضاء أيام هذا السفير أخذت المحبة بين فرنسا والباب العالي بالنقصان ولا سيما في زمان مراد الرابع.

وكان الإنجليز والهولنديون أقنعوا السلطان بطرد الجزويت، وجاء سفير لفرنسا اسمه «هنري دوغورنيه de Gournay» فأساء السياسة، فصدر الأمر بإغلاق كنائس غلطة التي كانت تحت حماية فرنسا، وبمنع الفرنسيين من حمل السلاح وبإجبارهم على دفع الرسوم والضرائب، ثم إن الأروام في القدس الشريف حصلوا على الإذن بحراسة الأماكن المقدسة، وقد كانت من قبل في أيدي الفرنسيسكان، وأخذ قرصان الجزائر يعتدون عى مراكب الفرنسيس، وانضم إلى ذلك أن سفير فرنسا عندما تولى الصدارة محمد باشا الكوبرلي لم يقدم له الهدايا المعتادة، وقد كانت هذه سنة متبعة، ثم رأى السفير الموسيو دولا هاي أن هذا الصدر الأعظم طالت أيامه فقدم له الهدايا اللازمة وعوض ما فرط، ولكن كانت سخيمة الصدر الأعظم تمكنت من قبله فصار يترصد الفرصة ليوقع بين فرنسا والدولة.

وكانت الحرب لا تزال مشتعلة بين البنادقة والدولة على أقريطش، وفي سنة ١٦٥٩ جاء فرنسي اسمه فيرتامون إلى الصدر الأعظم وسلمه رسائل واردة من جيش البنادقة في قندية باسم المسيو دولاهاي سفير فرنسا في الأستانة، وكان هذا الفرنسي خائنًا لقومه فسئل السفير عن ذلك، وكان طريح الفراش بمرض الحصى، وكان الصدر الأعظم وقتئذ في أدرنة، فأرسل السفير ابنه ينوب عنه، فبينما كان الصدر الأعظم يسأل ابن السفير عن معنى هذه المكاتيب لأنها كانت محررة بالأرقام، أجابه الولد بغلظة فأمر الصدر بحبسه وقال: لا نتحمل من ابن سفير ما يجوز أن نتحمله من سفير. فقام السفير من فراشه وذهب إلى أدرنة يحاول تخليص ابنه، فسأل الصدر السفير عن معنى هذه المكاتيب، فأبى السفير أن يجيب بشيء، فبقي الولد في الحبس، وأرسل الكردينال «مازارين» الماريشال «بلونديل» ومعه مكتوب من ملك فرنسا إلى السلطان يطلب فيه عزل الصدر الأعظم، فلم يلتفت الكوبرلي لمعتمد فرنسا ولا أذن له بمقابلة السلطان، فتحمل الكردينال مازارين هذه الإهانة وانتقم لفرنسا بإرسال متطوعين يساعدون البنادق في أقريطش، وكان أمر الكوبرلي يغلظ يومًا فيومًا، وكلما ازدادت سنه علوًّا ازداد بطشًا وعتوًّا، وحصلت بعض فتوق في أيامه فسدها بدهائه وحزمه، وأطفأ ثورة حصلت في مصر، وقبل أن يموت سأله السلطان عن الشخص الذ يليق بأن يخلفه، فأشار عليه بابنه «أحمد باشا الكوبرلي» وكان كأبيه في الدهاء والحزم.

ولما تولى هذا الصدارة عرضت النمسا والبنادقة الصلح فلم يجب أحمد باشا الكوبرلي هاتين الدولتين إلى الصلح، وزحف وعبر الطونة عند غران وهزم الكونت دوفورغاكس، وضيق الحصار على بلدة نوهيزل Neuhoesel وهي أمنع معقل في بلاد المجر، كان يقال إنها لا تؤخذ ففتحها الكوبرلي عنوة بعد حصار ستة أسابيع، ثم عاث الجيش العثماني في المجر ومراغية وسيليسية، وسحب في رجوعه ثمانين ألف أسير، فاستغاث الإمبراطور ليو بولد صاحب النمسا بدول النصرانية، فدعا البابا جميع النصارى إلى حرب صليبية.
وكان لويس الرابع عشر غير ناس الإهانة التي لحقت بسفيره، فوعد بتجهيز ستين ألف مقاتل لحرب الترك، وأرسل بالفعل ثلاثين ألفا بقيادة الكونت دوكليني de Coligny وتطوع في هذا الجيش أكثر أبناء بيوتات الشرف في فرنسا، وكان الكوبرلي قد استولى على سيرين فار وكورمورن الصغرى، ولكن عندما وصل جيش الفرنسيس صارت الحرب سجالًا، وقطع الكوبرلي الأمل من محو قوة النمسا، فعقد الكوبرلي الصلح المسمى بصلح فازفار سنة ١٦٦٤، ووقع الاتفاق على أن ترانسلفانيا لا يكون فيها عثمانيون ولا نمسويون، وأن يتولاها أمير تحت سيادة السلطان، وفي الولايات المجرية السبع يكون منها ثلاث للنمسا وأربع للدولة العثمانية، وبقي الفرنسيس في البحر المتوسط يتجاوزون على سواحل الدولة ويتعرضون لمراكبها، فاشتد غضب الأتراك ونادوا يا للثارات.
وكان في فرنسا الوزير «كولبير Colberl» لا يرى في هذه العداوة خيرًا، فأرسل ابن المسيو لاهاي لأجل السعي في الصلح، ولم يكن هذا الاختيار في محله لأنه هو الذي أغلظ القول لمحمد باشا الكوبرلي وأمر هذا بحبسه، فلما وصل لاهاي الصغير وقابل الكوبرلي الصغير اختصما في الكلام، فسمع لاهاي من الصدر الأعظم كلامًا مهينًا، فخرج مغاضبًا وقال للصدر: إنه سيغادر القسطنطينية. فلما وصل عند الباب قبضوا عليه وحبسوه، ولما بلغ الخبر السلطان أمر باطلاق لاهاي واسترضائه، ولكن الكوبرلي رفض تجديد امتيازات الفرنسيس، ومنعهم من المرور بالبحر الأحمر ومصر في تجارتهم مع الهند، وأذن للإنجليز والجنوبيين، فأخذ الفرنسيس يوالون النجدات لجزيرة أقريطش، وكان الحصار على قندية، فركب أحمد باشا الكوبرلي بنفسه وضيق الخناق على تلك البلدة، وأقبل فرسان مالطة وأكثر أبناء النبلاء في فرنسا ينجدون قندية، إلا أنهم انكسروا في واقعة حاسمة وتركوا ميدان القتال منصرفين إلى بلادهم، فازداد ضغط الأتراك على تجار الفرنسيس، فأرسل لويس الرابع عشر أربع سفن لأجل حمل السفير ورجال السفارة وجميع التجار الفرنسيس الذين في القسطنطينية، ثم جهز اثني عشر تابورا وثلاث مئة فارس في خمسة عشر سفينة تحت قيادة «الدوك بوفور Beaufort» وأرسلها إلى كريت، ولكن هذه الحملة لم تكن عظيمة الفائدة لكريت والبنادقة، ولم تمنع تغلب العثمانيين على الجزيرة، وانعقد الصلح في ٦ سبتمبر سنة ١٦٦٩، ودخلت كريت كلها تحت حكم الدولة ما عدا ثلاثة مراس كورابوزه وصوده واسيبنالونفه. وكان فتح العثمانيين لكريت هو آخر فتح لهم فتحوه من ممالك النصرانية، ولم يوجد في التاريخ بلدة اشتد حصارها وطال نظير قندية، واستمرت حرب كريت خمسًا وعشرين سنة، في أثنائها قام العثمانيون بست وخمسين حملة، وصدوا خمسًا وأربعين هجمة، وأحرق المحصورون ألفًا ومئة واثنين وسبعين لغمًا وأحرق الأترك ثلاث أضعاف ذلك، وبلغ عدد خسائر البنادقة أربعين ألفًا.

وذكر المؤرخ هامر أن خسائر العثمانيين بلغت مئة الف.

وكان لويس الرابع عشر وأكثر شبان فرنسا يريدون محاربة تركيا، إلا أن كولبير الوزير المعروف كان لا يزال يعارض في هذه الحرب، وعزل السفير لاهاي وأرسل مكانه المركيز «دونوانتل de Nointel»، فطلب من تركيا مطالب رفضها الكوبرلي، وقال: إن تلك الامتيازات التي كان يتمتع بها الفرنسيس كانت من قبيل الأنعام لا غير، وليست شرطًا لازمًا، فإن لم يكن السفير يفهم هذا فما عليه إلا أن يرجع إلى بلاده. فلما علم لويس الرابع عشر بما جرى أمر بتجهيز أسطول خمسين بارجة حربية، ولكن في آخر الأمر تغلب الميل إلى السلام، وأعيدت معاملة الفرنسيس في تركيا إلى ما كانت عليه، واعترفت الدولة لفرنسا بحماية الكاثوليك في الشرق، ومع هذا فإن لويس الرابع عشر بقي طول حياته يكره تركيا ويفكر في شن الغارة عليها، ولم يتأخر عن ذلك إلا عجزًا لأن الدولة في أيام أحمد باشا الكوبرلي عادت فصعدت إلى ذروة المجد.

وفي أيام الكوبرلي دخل القوزاق الروس في طاعة الدولة، وكانت الدولة أعلنت الحرب على بولونيا في ١٨ آب ١٦٧٢ وزحف السلطان بذاته وكسر البولونيين، وعقد ملك بولونيا «ميشيل فيسموفيكي» صلحًا مهينًا وتخلى عن «بادوليه» للعثمانيين وعن أوكرانيا للقوزاق، وتعهد بدفع جزية سنوية عشرين ألف دوكة، فالشعب البولوني لم يوافق على هذا الصلح، وعاد القواد فاستأنفوا الحرب، وكانت سجالًا بين الفريقين، فتوسط خان القريم في الصلح وانعقدت المعاهدة على أن يبقى قسم من أوكرانيا تابعًا للدولة العثمانية، ومن سوء حظ الدولة مات أحمد باشا الكوبرلي، وكان لم يتجاوز إحدى وأربعين سنة، وكانت وفاته في ٣٠ أكتوبر ١٦٧٦، ولم يكن سفاكًا للدماء كأبيه ولا كان شرهًا إلى المال، وكان محبًّا للعدل قائمًا بالقسط، فتولى الصدارة بعده ابن عمه قره مصطفى باشا، ولم يطل الأمر حتى استؤنفت الحرب في رومانيا وبلاد القوزاق، فزحف قره مصطفى بجيش جرار واستولى على كورين من أوكرانيا.

وبينما العثمانيون يحاربون في أوكرانيا إذ حصلت وقائع في بلاد المجر حملتهم على عقد الصلح، وذلك أن المجر كانوا قد اقتتلوا مع النمسويين، وكانوا منقسمين إلى قسمين؛ أحدهما: حزب الكونت تكلي وهؤلاء كانوا يعتمدون على تركيا، والحزب الآخر: كان يعتمد على النمسا، فاستعان «تكلي Tekeli» بالدولة وزحف قره مصطفى باشا على رأس مئة وأربعين ألف مقاتل، وكان النصر حليف جيشه فاغتر بقوته وساق الجيش إلى فيينا طامعًا في أخذها، وكان الكونت تكلي والقائد العثماني في بود وأكثر القواد ضد هذا الرأي، إلا أن قره مصطفى أصر على حصار فيينا، وكان قائد البلدة الأمير «اشتار نبرغ Stharemburg» فجند الأهالي كلهم وقابل هجمات الأتراك بمدافع نادرة المثال، وقام الترك بثمانية عشر هجمة وحمل النمسويون من الداخل أربعًا وعشرين حملة، ووقع كثير من الحصون في أيدي الأتراك.

ويقول المؤرخ الفرنسي دولا جونكيير: إنه لولا بخل قره مصطفى لربما كان الجيش العثماني استولى على فيينا، وذلك أنه كان يعتقد كون فيينا ملأى بالأموال والكنوز، فلو كان أمر بحمله عمومية واستولى الجند على البلدة لكانوا نهبوها لأنفسهم، فكان يريد أن يأخذها بدون أن يترك للعسكر حتى التصرف بالغنائب، فبقي منتظرًا النصر مع حفظ النظام إلى أن تمكن إمبراطور النمسا ليوبولد من استجلاب البولونيين لنجدة فيينا، وكان البابا استصرخ لويس الرابع عشر باسم النصرانية، إلا أن شدة بغضاء ملك فرنسا لإمبراطور ألمانيا حالت دون نجدة ملك فرنسا الذي كان يثبط سائر الدول المسيحية عن إصراخ الألمان.

وبرغم كل مساعي لويس الرابع عشر في خذلان النمسا زحف صوبيسكي ملك بولونيا وزحف أمراء الساكس والبافيير لنجدة النمسا، وفي ١٢ سبتمبر ١٦٨٣ اشتبكوا في معركة حاسمة مع العثمانيين، فخاب السعد في هذه المعركة وفقد العثمانيون عشرة آلاف قتيل، وغنم الألمان والبولونيون ثلاث مئة مدفع وخمسة آلاف خيمة وصناديق لا تحصى ملأى بالعدد، وسقط في أيدي الألمان أعلام الجيش العثماني عدا السنجق الشريف، وتقهقر قره مصطفى باشا قاصدًا إلى بود فتعقبه البولونيون وهزموه هزيمة ثانية وقتلوا من جيشه ثمانية آلاف، واستولى الرعب على الأتراك فولوا مدبرين، ووصلت الأخبار إلى الأستانة فثار ثائرة الأمة، واضطر السلطان محمد الرابع إلى إصدار الأمر بقتل قره مصطفى باشا، وأرسلوا رئيس القرناء إلى بلغراد لأجل تنفيذ هذا الأمر، وتولى الصدارة إبراهيم باشا في أحرج وقت عرفته السلطنة، وتألبت على الدولة العثمانية عصبة من دول النصرانية: ألمانيا وبولونيا، والبندقية، والبابا، وفرسان مالطة، وانضم إليهم الروس طمعًا في دخول البحر الأسود وغزو بيزنطية، وكان الشيخ العثماني قد دب الرعب في قلبه وكانت الخزانة خاوية، وكانت فرنسا غير داخلة في هذا الحلف بغضًا، ولكن كانت المراكب الفرنسية تغزو سفن المسلمين، ووقع قتال بين الأسطول الفرنسي والمراكب العثمانية أمام جزيرة شيو، وضرب أمير البحر الفرنسي «دوكين Duquesue» مدينة الجزائر بالقنابر ودمرها، ولم يرجع الفرنسيس عنها إلإ بعد أن أخذوا غرامة الحرب من إمارة الجزائر، وتسلموا الأسرى المسيحيين الذين عندهم، وضرب أيضًا دوكين مدينة طرابلس، فأوقع بها ما أوقع بالجزائر، وجاء الفرنسيس فضربوا مراسي المغرب ودمروا الأسطول المغربي، ثم إن الهزائم التي وقعت على جيش قره مصطفى باشا في النمسا تركت الطريق مفتوحًا للعدو، فزحف إلى المجر، كما أن البنادقة أعملوا الحركة لأجل فتح بلاد المورة، ووقعت بريفيزة في أيدي البنادقة ثم نافرين ومورون وأركادية باتراس وليبانت وكورنتيه وأثينا.

وأما النمسيون فإنهم استولوا على فيسغراد وفاكسين ودخلوا بست وحصروا بود، واستولوا على بعض مواقع للعثمانيين في كرواسية ودحروا والى بوسنة، ثم استولى قائد النمسا الدوك دولورين على غران ونوهيزل، كما أن الكونت هوبشتاين استولى على ليكة وكوربافية ووادي أودفينة، كما أن الجنرال شولتس هزم تكلي الأمير المجري المولى من قبل العثمانيين، فعين السلطان سليمان باشا صدرًا أعظم وعهد إليه باسترداد شرف السلطنة التي أصيبت من النوائب بما لم يسبق له مثيل، وكان سليمان باشا شديد البأس مقدامًا، إلا أنه كان ينقصه علم الحرب الذي كان موصوفًا به الدوك دولورين، وهو القائد الأول في زمانه، وكان الدوك دولورين يحاصر بود وفيها القائد عبدي باشا، وكان المحاصرون تسعين ألف مقاتل فردهم عبدي باشا على الأعقاب مرتين، إلا أنه قتل في المعمة، وبعد قتله دخل النمسويون وحلفاؤهم إلى بود، وذلك في ٢ سبتمبر سنة ١٦٨٦، وكانت بود هي آخر حدود الإسلام من جهة أوروبا، وبقي العثمانيون فيها مئة وخمسًا وأربعين سنة، وكانت هي باب الجهاد ومفتاح السلطنة، وكانت فيها مساجد ومدارس عديدة، فلم يبق منها شيء سوى مدفن لمجاهد يقال له «كل بابا» حافظ عليه المجر إلى الآن وهو على رابية عالية من بود.

ومن آثار العثمانيين في بود حمامات معدنية لا تزال إلى الآن، ثم اشتبك سليمان باشا مع العدو في موهاك، وهو مكان كان العثمانيون كسروا فيه المجر قبل ذلك التاريخ بمئة وستين سنة، فلم يسعدهم طالع الحرب هذه المرة وخسروا عشرين ألف مقاتل مع المدافع والذخائر، ودخل العدو بلاد ترانسلفانيا واستولى عليها واستولى على أربعة عشر حصنًا في سلافونيا وعلى كثير من القلاع في كرواسية، والمجر السفلى، فبعد توالي هذه المصائب على الدولة لم تجد الأمة أمامها وسيلة لإصلاح الحال سوى خلع السلطان محمد الرابع، فخلعوه في ٨ نوفمبر ١٦٨٧ وبايعوا أخاه السلطان سليمان الثاني.

السلطان سليمان الثاني

وكان سليمان الثاني محبوسًا مدة ستة وأربعين سنة في أحد القصور لا يخالط أحدًا ولا يخالطه أحد، وكان يقضي أوقاته بالمطالعة، فلما عرضوا عليه السلطنة حاولا الاستعفاء منها، فأجبروه على القبول، ولكن الانكشارية والسباهية ثاروا على الحكومة وقتلوا الصدر الأعظم وأهانوا حرمه، فلما شاع الخبر في الأستانة ثارت حمية الشعب وخرج العلماء تحت العلم النبوي، ودعوا الأهالي إلى تأديب العسكر، فانقضوا عليهم وفتكوا بهم، وقتلوا كثيرًا من رؤسائهم، فأخلدوا إلى السكون وبقي النمسيون والبنادقة يتقدمون في فتوحاتهم، فاستولوا على أرلو وطردوا العثمانيين من دالماسية، وأخيرًا دخلوا بلغراد، فالتمس الأتراك الصلح، فاشترطت النمسا شروطًا ثقيلة إلى الغاية، فحاول العثمانيون الثبات فتقهقروا أيضًا وأخرجهم العدو من نيش وودن، وأصبحت أسكوب تحت خطر السقوط، وقال أحد الوزراء: لا يزال أمامنا حملة واحدة ويصير العدو في الأستانة. فعقدت الدولة مجلسًا في أدرنة للتشاور فيما يجب عمله لإنقاذ السلطنة، وعهد بالصدارة إلى مصطفى باشا الكوبرلي ابن الكوبرلي الكبير وأخو أحمد باشا الكوبرلي، فقام بالأمور خير قيام وبدأ بإصلاح السلطنة من الداخل وملأ الخزائن بالأموال، واستأصل الرشوة، وأخذ على أيدي الظالمين، وسن قوانين عادلة للخراج، وكان جانب من موارد السلطنة تحول إلى الأوقاف فأسترجعها الكوبرلي وقال: إن الجهاد أولى بها. ثم بعد أن ملأ خزانة السلطنة بالأموال اللازمة نشر فرمانًا يقول فيه: إن الله يأمر المؤمنين بالجهاد إلى آخر رمق من حياتهم، وإنه يجب على المسلمين أن ينفروا خفافًا وثقالًا. فثارت الحمية في رءوس المسلمين ونفروا من كل صوب، وفي الوقت نفسه عامل النصارى بمزيد الرفق، وأطلق حرية التجارة فاستفاد من ذلك اليهود والنصارى. من جملة ما شدد به هذا الصدر الأعظم الرشيد منع العساكر من الاعتداء على الأهالي ولو بمثل حبة الخردلة، ومن خالف ذلك أنزل به العقاب الصارم، ثم نظر إلى أحوال القضاء فطهر المحاكم وأشعر الرعية وجود العدل، وأعاد مجد السلطنة كما بدأ، وبحسن إدارته هذه حفظ للسلطنة بلاد المورة، لأن الأهالي قاموا إذ ذاك وانتصروا للدولة على البنادقة، لا سيما أن هؤلاء كانوا يسعون في نشر المذهب الكاثوليكي بين الأروام الأرثوذكسيين، فلما رأى الأروام ما رأوا من عدالة هذا الصدر وحسن إدارته رجعوا إلى الدولة العثمانية من تلقاء أنفسهم.

وبعد أن سدد الكوبرلي أحوال السلطنة وأعاد هيبة الحكومة كما كانت زحف إلى الثغور، ووافاه خان القريم سليم غرائي، فبدءوا ببلاد الصرب فدوخوها وهزموا جيشًا ألمانيًّا في قوصوة، وهزم الأمير تكلي المجري حليف الدولة الجنرال هوسار وأخذه أسيرًا، واسترجعت الدولة نيش وردن وسمندريا وبلغراد، وذلك سنة ١٦٩٠ ثم مات السلطات سليمان الثاني.

السلطان أحمد الثاني

وخلفه أخوه أحمد الثاني في ٢٣ يونيو ١٦٩١ فكان للكوبرلي في مدة أحمد من نفوذ الكملة ما كان في مدة سليمان، حتى إن السلطان أحمد قال مرة: إني لا أريد أن أعترض الكوبرلي في شيء من أمور الإدارة خوفًا من أن يتعطل بذلك ما هو أدرى مني. إلا أن الأقدار أبت إلا حرمان السلطنة العثمانية من هذا الرجل العظيم، فإنه في الحرب في النمسا تلاقى في «سالان كنيم Salan Kenem» مع جيش ألماني يقوده لويس فون بادن، وكان الصدر الأعظم مخترطًا سيفه أمام الجيش فأصابته رصاصة في صدره فخر قتيلًا، ودارت الدائرة على الأتراك وفقدوا ثمانية وعشرين ألف مقاتل ومئة وخمسين مدفعًا، وكانت مصيبة من أعظم المصائب على الدولة، وفقدت بفقده وزيرًا عاقلًا عادلًا نشيطًا جريئًا مهذبًا صادقًا اجتمع فيه من الخلال الباهرة ما قلما وجد في رجل من رجال السياسة.

فبكاه المسلمون والمسيحيون معًا وأسف الجميع لفقده وبقيت الدولة مدة أربعة سنوات لم يلتئم جرحها الذي تركه موت الكوبرلي.

السلطان مصطفى الثاني

ثم تولى السلطنة مصطفى الثاني بن محمد الرابع، وكان عهده متسمًا بالمتانة والصلابة، ورجع السلطان إلى دأب أجداده الأولين، وأعلن أنه سيباشر قيادة الجيش بنفسه، فقال له بعض وزرائه: إنه لا يجوز له أن يعرض للتهلكة شخصه المقدس. فرفض كلامه، وفي بداية أمره كسر الأسطول العثماني في خليج شيو أسطول البنادقة، وزحف خان التتار إلى بولونيا، وأوقع بأهلها ولم يتوقف إلا عند لمبرغ. وجاء الروس فحاصروا آزوف فهزمهم العثمانيون والتتار وقتلوا منهم ثلاثين ألفًا. وذلك في أكتوبر سنة ١٦٩٥ ثم دخل السلطان بنفسه بلاد المجر وفتح ليبة، وجاء الجنرال فيتيراني ليصده فأحاط به الجيش العثماني، وبعد عراك شديد كثرت فيه الخسائر من الفريقين أخذ قيتيراني آسيا وأمر السلطان بدق عنقه، ثم انتصر السلطان في واقعة أولاش على أمير الساكس، وبينما كانت الأمور جاريه وفق مراد العثمانيين إذ تولى البرنس أجين دوسافوا قيادة الجيش الألماني.

سلطنة مصطفى الثاني ابن محمد الرابع التي أبتدأت سنة ١٦٩٥ كانت فاتحتها فاتحة حزم وعزم، وما مضى ثلاثة أيام على استواء السلطان على سرير الملك حتى أعلن نيته أن يتولى قيادة الجيوش بنفسه خلافًا لما كان عليه أسلافه المتأخرون، وقد حاول بعض وزرائه أن يأفكه عن عزمه هذا فلم يستفد شيئًا. وقال له السلطان: إني ماض في خطتي هذه. ثم إن عهد هذا السلطان بدأ بالظفر، فالأسطول العثماني كسر أسطول البنادقة أمام جزيرة سافس واستولى العثمانيون على هذه الجزيرة، وزحف خان القريم على بولونيا وأوغل وأثخن ولم يتوقف إلا عن لمبرغ، وكذلك الروس تركوا حصار آزوف بعد أن فقدوا ثلاثين ألف مقاتل وذلك في أكتوبر سنة ١٦٩٥، ثم إن السلطان نفسه دخل بلاد المجر وافتتح مدينة ليبة عنوة وأسر الجنرال فيتيرافي وأمر بقطع عنقه، ثم تغلب السلطان في واقعة أولاش على أمير الساكس قائد الجيش الألماني في السنة التالية، فاشتعلت حماسة العثمانيين وصاروا يجودون بالعطايا لتجهيز الجيوش ولتكتيب كتائب من المتطوعة، إلا أن طالع الحرب لم يستمر طويلًا على هذا الشكل، فإن بطرس الأول قيصر الروسيا عاد فافتتح آزوف، والبرنس أوجين دوسافوي تولى قيادة الجيوش النمسوية فكسر الجيش العثماني على نهر «تيس Thaiss»، حيث فقد العثمانيون ثلاثين ألف مقاتل منهم عشرة آلاف غرقوا في النهر وقتل الصدر الأعظم، وفر السلطان ودخل العدو بلاد بوسنة، وذلك سنة ١٦٩٧، فعاد الخطر فأحدق بالسلطنة، وعول السلطان على وزير جديد من آل كوبرلي وهو الكوبرلي حسين باشا، وكانت الخزانة فارغة فجاء الكوبرلي هذا ورمم الأحوال وحشد جيشًا عهد بقيادته إلى دالتبان باشا وسرحه إلى بوسنة، فأجبر النمسويين على الانكفاء إلى الوراء، فعبروا نهر الساف، وكان لويس الرابع عشر يغري تركيا بمتابعة القتال، ويتعهد لها بواسطة سفيره الماركيز دوفريول بأنه لا يصلح النمسا إلا إذا استرجعت تركيا بلاد المجر وجميع البلدان التي فقدتها، ولكن سياسة النمسا تغلبت في ذلك الحين، وقيل إن الذهب لعب دوره في هذه المسألة، وانعقد الصلح بين تركيا والنمسا على شرط ترك الأولى للثانية جميع المجر وترانسلفانيا، وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة كارلوفيتس وتاريخ انعقادها ٢٦ يناير سنة ١٦٩٩، وبموجبها تقررت الهدنة بين الدولتين إلى مدة خمس وعشرين سنة وصار نهر الساف ونهر أنة فاصلًا بين تركيا والنمسا، واسترجعت بولونيا كامينيك وفادوليه وأوكرانية وبقيت أزوف للروسيا، وصارت بلاد المورة وجميع دلماسيه إلى جمهورية البندقية وألغيت جميع الجزى التي كانت تدفعها الدول المسيحية إلى الدولة العثمانية.

ومعاهدة كارلوفيتس هذه كانت إلى ذلك العهد أعظم ضربة على السلطنة العثمانية، فتراجع الأتراك عن بولونيا والمجر إلى ما وراء نهر الدنيستر والساف والأنة، وظهر للجميع الضعف الذي كان قد بدأ يعمل عمله في سلطنة آل عثمان.

وكان الخلل عامًّا جميع فروع الإدارة، وكانت الفتن مشتعلة على حدود إيران وفي القريم وفي أفريقيا وفي بلاد العرب، فقام الكويرلي حسين الذي اقتفى أثر عمه برأب الصدوع وسد الفتوق، وأعفى أهل بوسنة والبانات مما كانوا يؤدونه باسم الجيش، وترك لأهل الرومللي مليونًا ونصف مليون من متأخر الضرائب، وأصدر أوامر في جميع السلطنة بأن جميع المأمورين يجب أن يكونوا علماء وأن يحفظوا القرآن وقواعد الدين، وشدد في انتخاب المدرسين ووضع الإدارة وقيادة الجيش تحت رقابة شديدة، وأصلح الأمور المالية، وسن قانونًا للبحرية وبنى المساجد والمدارس والأسواق والثكن العسكرية، ورمم أسوار بلغراد وتمشوار ونيش وشحنها بالأقوات، ونظر في أحوال المسيحيين من الرعايا فعاملهم على قدم المساواة مع المسلمين، ولكن هذه الإصلاحات كلها لم تقع بدون مقاومة، فتألب على الصدر الأعظم حزب ممن كانوا يعيشون بالغلول من أموال الدولة وأخذوا يدسون الدسائس حوله وحول أعوانه، إلى أن اضطروه إلى الاستقالة، وكان أصيب بمرض عضال وفي ٥ سبتمبر ١٧٠٢ بعث إلى السلطان بختم الصدارة، ومات بعد ذلك بسبعة عشر يومًا وفقدت الدولة به رجلًا عظيمًا ممن أخروا أجل سقوطها نظير سائر آل الكوبرلي.

وقد أحدث موت الكوبرلي هذا فتوقًا جديدة في السلطنة، وتولى الصدارة دالتبان باشا وكان مغرمًا بالحرب يريد نقض المعاهدة التي انعقدت مع النمسا، إلا أنه لم يطل أمره وقتل، قيل بدسائس بعض العلماء، فتولى الصدارة «نامي محمد باشا» فأراد أن يحذو حذو الكوبرلي في الإصلاح فأثار عليه المشايخ جيش الانكشارية، وانتهى الأمر بخلع السلطان مصطفى الثاني، ومبايعة أخيه أحمد الثالث.

السلطان أحمد الثالث

وفي أول الأمر اضطر السلطان الجديد إلى إرضاء الثوار وقتل المفتي فيض الله أفندي بفتوى من خلفه محمد أفندي، وهو حادث لم يسبق له مثيل، غير أن السلطان بعد أن تمكنت أقدامه في السلطنة عاد فأخذ ينكل بزعماء الثورة، فقتل منهم وغرب وعهد بالوزارة إلى صهره المسمى داماد حسن باشا، فسار بالمملكة سيرة حسنة وثارت في أيامه بلاد الكرج فدوخها واعتنى بتأمين قافلة الحج من الشام إلى مكة، وبنى مدارس وأنشأ دار صنعه بحرية.

وفي أيام الثالث كان لويس الرابع عشر قد خاض الحرب المسماة بحرب الوراثة في إسبانيا، فعرض بواسطة سفيره على تركيا أن تدخل في حرب مع النمسا وتسترجع ما فقدته، ولكن حزب السلام كان في تركيا غالبًا فرفض السلطان طلب ملك فرنسا، وكانت الروسيا قد نجمت قرونها إذ ذاك، فانتهزت فرصة اشتغال الدول الغربية بالحرب وخلا لها الجو ورأت تركيا وقد مالت إلى الدعة، فجعلت تتأهب لقتالها، وتركيا كانت لا تحفل بما تفعله الروسيا بقيادة بطرس الأكبر، وكان كارلوس الثاني عشر قد خشي مغبة قوة الروسيا فحمل عليها وطلب معاونة السلطان فوعدوه بإرسال خان القريم لمعاونته، فاعتمد على هذا الوعد وأوغل في أرض الروسيا بستة عشر ألف مقاتل لا غير فأنكسر، والتجأ إلى بندر ضمن الحدود العثمانية، وحاول أن يجر العثمانيين إلى محاربة الروسيا فلم يفلح، وذلك لأن نعمان باشا الكوبرلي الصدر الأعظم كان يكره دخول الدولة في الحرب، وكان هذا الكوبرلي نظير أسلافه في العدل إلا أنه كان ينقصه علو أفكارهم، فسقط أخيرًا، وكان أكثر السبب في سقوطه مشرفًا له، لأنه عارض السلطان في إسرافه، وأبى أن يجعل معاشات الانكشارية من طرق غير شرعية، فقال له السلطان: إن سلفك شورولي كان يجد طرقًا لتأديته رواتب العساكر، فأجابه الكوبرلي: لي الفخر بأن أجهل مثل هذه الطرق. فعزله السلطان وولى مكانه محمد باشا البلطجي الذي أعلن الحرب على الروسيا وتولى بنفسه قيادة الجيوش.

وكان بطرس الأكبر يؤمل أن المسيحيين في السلطنة العثمانية يرفعون لواء الثورة فلم يتحرك منهم أحد، وسار البلطجي بمئتي ألف مقاتل من الترك والتتار وأحاطوا بجيش بطرس الأكبر على ضفاف نهر البروت، وأوشك بطرس وجيشه أن يقعوا في الأسر، وكانت الروسيا لو أسروا ستسقط من عداد الدول، فبادرت كاترينا بدهائها لتلافي الخطب ودخلت في المذاكرة مع الصدر الأعظم وعززت الكلام بهدايا فاخرة قدمتها له، وانعقدت معاهدة فالكسن وذلك سنة ١٧١١، وبموجبها تعهد قيصر الروسيا بإعادة قلعة آزوف ويهدم القلاع التي بناها في تلك البلاد، وبعدم التدخل في أمور القوزاق، فكانت هذه المعاهدة مفيدة لتركيا، إلا أنها كانت أفيد جدًّا لروسيا، لأنها أنقذت القيصر من الأسر، وثار غضب ملك السويد ووبخ البلطجي على عدم أسره بطرس الأكبر، فأجابه البلطجي جوابًا باردًا وهو أنه لو أسر بطرس لبقيت بلاد الروس بدون رئيس، فهذا الكرم كان بغير محله، بل كان نوعًا من الخبال، وجاء الكونت بونيا ثوفسكي سفير السويد وعرض القضية للسلطان وعضده خان القريم دولة غرائي، فغضب السلطان على البلطجي وعزله ونفاه. على أن خلفه يوسف باشا لم يكن أيضًا مغرمًا بالحرب، فعقد متاركة مع الروسيا إلى مدة ٣٥ سنة، وصدر الأمر لكارلوس الثاني عشر بأن يعود إلى بلاده، وكان كارلوس جبارًا عنيدًا فأبى أن يمتثل الأمر وبقي معلقًا أمله بجر العثمانيين إلى محاربة الروسيا، فالتزمت الدولة أن تعالج إخراجه من أرضها بالقوة فعصى الأمر، فساقوا إليه عشرين ألف عسكري من التتار وستة آلاف من الترك، فحاول مقاومة هذا الجيش بثلاث مئة من رجاله ولكن العثمانيين لم يريدوا أن يغدروا بنزيلهم وصبروا عليه حتى رجع إلى السويد من نفسه بعد أن أقام سنتين في تركيا.

وفي تلك المدة استفادت الدولة من الهدنة مع الروسيا وطردت البنادقة من جميع بلاد الموره، ومن بعض البلاد التي كانت باقية لهم في كريت، ولكن جزيرة كورفو امتنعت على العثمانين، فالتجأت البندقية إلى النمسا، وكان قائد جيوشها أوجين دوسافوي الشهير فأعلن الحرب على تركيا وهزم الجيش العثماني في بترفاردين، وذلك في ٥ أغسطس سنة ١٧١٦، وقتل الصدر الأعظم في الوقعة واستولى النمساويون على «تمشوار» وحاصروا «بلغراد»، فزحف الصدر الأعظم الجديد خليل باشا لنجدة بلغراد فانكسر أيضًا، فالتزمت الدولة أن تعقد الصلح مع النمسا وأخلت لها تمشوار وبلغراد وقسمًا من بلاد الصرب ومن بلاد الفلاخ، ورجع بطرس الأكبر فاستفاد من هزيمة تركيا هذه، وأخل بالمعاهدة التي كان عقدها معه البلطجي، فتجددت معاهدة أخرى وأقنعت الروسيا عدوتها تركيا بالاتحاد معها على قضية النظام الإرثي في مملكة بولونيا، وغفلت تركيا عن كون بولونيا حصنا حصينا لها فسايرت الروسيا.

وتولى الصدارة إبراهيم باشا فقام يحارب العجم وأثار السنية الذين في بلادها فانتهز بطرس الأكبر الفرصة وأغار على الطاغستان وسواحل بحر الخرز، فأرسل خان القريم ينذر الدولة بسوء المصير، فزحفت الجيوش العثمانية على أرمينية وكرجستان وكادت الحرب تقع بينها وبين الروس، فخاف بطرس الأكبر أن تدور عليه الدائرة هذه المرة أيضًا، فوسط فرنسا بينه وبين الدولة، فسعى دوبوا سفير فرنسا في إرضاء الفريقين وذلك من أملاك العجم.

وكانت فارس يومئذ في حال أشبه بالفوضى، وكان الشاه مير محمود قد تغلب عليه أشرف ابن عمه واستولى على الملك ونازعه طاهماسب، وكان هذا أحق بالملك شرعًا، فتحارب الاثنان وانتهى الأمر بهزيمة أشرف والتحاقه بسجستان حيث مات، وكان عند طاهماسب قائد عظيم اسمه نادر كولي، كان في الأصل زعيم أشقياء، فزحف صوب تركيا واستدرج الولايات الفارسية التي كانت قد دخلت في الحوزة العثمانية، فلم يشأ السلطان أن يثير على فارس حربًا، فغضبت الانكشارية وثاروا وطلبوا رأس الصدر الأعظم ورأس شيخ الإسلام ورأس القبطان باشي، فامتنع السلطان عن إعطائهم رأس شيخ الإسلام، ولكن قتل لهم الآخرين، فلم يزدهم ذلك إلا تمردًا وخلعوا السلطان أحمد وبايعوا محمود الأول.

وفي زمن أحمد الثالث دخلت المطبعة في تركيا وأفتت مشيخة الإسلام بجوازها، إلا أنه بقي طبع المصحف الشريف ممنوعًا، وطبع في ذلك الوقت كتب كثيرة مثل جيهان نوما وهو جغرافية للشرق مع أطلس، وخلاصات تاريخية وتقويم التواريخ، وهو سلسلة ملوك الشرق وعظمائه إلى سنة ١٧٣٢، وتحفة الكبار وهي تاريخ البحرية العثمانية إلى سنة ١٦٥٥، وتاريخ تيمور من قلم نظمي زاده، وتاريخ مصر للسهيلي، وتاريخ الأفغان مع مختصر تاريخ الدولة الصفوية في فارس، وتاريخ بوسنة من سنة ١٧٣٦ إلى سنة ١٧٣٩، وهي مدة اتصلت فيها الحروب في ذلك الإقليم، وتاريخ الهند الغربية، وكتاب الفيوضات المغنطيسية يتكلم عن خصائص المغناطيس وإبرته المعروفة، فهذه هي الكتب الأولى التي طبعت بالمطبعة العثمانية بحسب رواية المؤرخ «لاجونكيار» “Lajonquiere”، وقد قرأت في بعض المظان ما يخالف هذا وهو أن أول كتاب طبع في الأستانة هو صحاح الجوهري، ثم إن الدولة عادت فمنعت المطبعة، وبقي ذلك إلى زمن السلطان عبد الحميد الأول الذي أصدر خطًّا شريفًا في تاريخ ١٢ مارس سنة ١٧٨٤ بإعادة المطبعة تحت إدارة محمد رشيد أفندي وأحمد واصف أفندي، فكانت مدة إهمال المطبعة أربعين سنة، ثم إن السلطان محمود الأول اهتم بها مزيد الاهتمام.

وكان السلطان أحمد الثالث شاعرًا أديبًا وله شعر رقيق لا سيما في الغزل أحفظ من جملته:

عجبا لسلطان يذل له الورى
ويصول سلطان الغرام عليه

وما أكثر الأدباء والشعراء في آل عثمان.

السلطان محمود الأول

تولى السلطان محمود الأول سنة ١٧٣٠ ولأول سلطنتة ثار الانكشارية وعلى رأسهم المسمى بترونة خليل، فقمعت الحكومة ثورتهم وقتلت منهم سبعة آلاف، وعاد السكون إلى العاصمة، ثم استأنفت الدولة محاربة العجم وأجبرت الشاه طاهماسب على طلب الصلح، فانعقد في ١٠ يناير سنة ١٧٣٢ ونزلت العجم عن تبريز وأردهان وهمذان وجميع اللورستان، وأيضا تركت لتركيا الداغستان وناختشيفان وأريفان وتفليس وغيرها، ولكن هذا الصلح لم يطل أمره، فإنه برز نادر كوليخان من قواد العجم وخلع الشاه طاهماسب وصار هو كافلًا للمملكة الفارسية ووصيًا على القاصر الشاه عباس الثالث، فنقض نادر المعاهدة وغزا البلاد العثمانية وحصر بغداد، فاشتبكت في المعركة الثالثة، ووقع السر عسكر طوبال عثمان باشا قتيلًا، وكان هذا قائدًا بطلًا ووزيرًا عادلًا فاضلًا خسرت تركيا بموته خسارة لا تعوض، وأرسلت الدولة جيشًا آخر بقيادة السر عسكر عبد الله باشا الكوبرلي بن مصطفى باشا الكوبرلي، فقتل هذا السر عسكر أيضًا، فاضطرت الدولة إلى طلب الصلح، وعقدته مع نادر شاه الذي كان تولى سلطنه العجم، ورجعت مع إيران إلى الحدود التي كانت تحددت بين السلطان مراد الرابع والعجم سنة ١٦٣٩، وأكثر السبب الذي حدا تركيا على طلب الصلح هو نشوب الحرب بينها وبين الروسيا.

وكانت بولونيا في فوضى مستمرة فانتهزت الروسيا من جهة والنماس من جهة أخرى الفرصة لأجل اقتسامها، وقاتل ستانسلاس ملك بولونيا قتالًا شديدًا، إلا أن الروس تغلبوا عليه فصارت بولونيا في قبضة الروسيا بينما فرنسا مشغولة بالحرب مع النمسا، وكان عند الدولة العثمانية رجل فرنسي اسمه أحمد باشا أصله من البحرية الفرنسية، وقد جرت معه وقائع خرج من أجلها من وطنه في خدمة النمسا، وامتاز بالبسالة في الحرب بين النمسا وتركيا، ثم وقع الخلاف بينه وبين البرنس أوجين فألقاه في السجن، فوجد وسيلة للفرار من السجن والتجأ إلى تركيا وصار قائدًا وتسمى بأحمد باشا، وقدم للسلطان تقريرًا يطلعه فيه على أسرار السياسية الأوروبية وأشار على السلطان بعقد محالفة مع فرنسا وأقنعه بها، فرضي السلطان بذلك حتى يتمكن من قهر النمسا، ولما علم كارلس الثاني إمبراطور النمسا هذه المحالفة مع فرنسا أسرع بمصالحة هذه، وفي أثناء ذلك زحف الروس إلى تركيا بينما هي في حرب مع العجم فاستولوا على آزوف والقريم وغيرهما.

ولما كانت النمسا قد صالحت فرنسا واستراحت من حروبها مع إسبانيا وسردانيا عبأت جيشًا كبيرًا وغزت به بلاد السرب والفلاخ والبوسنة، وظنت نفسها قد نالت مرامها فانكسر جيشها في بنالوفة، والتزمت أن تخلي البوسنة. وكذلك انكسر جيشها في الصرب تحت قيادة البرنس هيلدبورهوزن فطلب إمبراطور النمسا الصلح وذلك سنة ١٧٣٧، وتوسطت إنجلترا وهولاندا في إعادة السلام، إلا أن الباب العالي اشترط أن يكون الصلح بواسطة فرنسا، واسترجعت الدولة في تلك النوبة بلادًا كثيرة كانت قد استولت عليها النمسا، ولولا غفلة الحاج محمد باشا الصدر الأعظم لكان الجيش النمسوي قضي عليه بتمامه، فأما الحرب مع الروسيا فكانت سجالًا، ففي البداية انكسر الروس على نهر الدينيستر وأحرق الأسطول العثماني أسطول الروسيا إلا إنهم عادوا فيما بعد فانتصروا على العثمانيين ودخلوا ملدافيا.

وبمساعدة المركيز «فيلنوف» “Villeneuve” انعقد الصلح بين الدولتين الروسيا والنمسا وبين الدولة العثمانية وذلك بكفالة فرنسا، وبموجب هذه المعاهدة رجعت بلغراد وشابانز وجميع بلاد الصرب والفلاخ أورزوفة إلى تركيا، وجعلت هذه المعاهدة لمدة سبع وعشرين سنة، وقد محت معاهدة كارلوفيتس السابقة التي كانت وصمة عار على العثمانيين.
فأما الروسيا فقد رضيت بالصلح على شرط أن تهدم قلعة آزوف، ولا يكون لها سفن حربية لا في قلعة آزوف ولا في البحر الأسود، وأعاد الروس جميع البلاد التي كانوا احتلوها من تركيا، وقال المؤرخ الألماني «هامر» “Hammar” إنه في ذلك الوقت ساد النفوذ الفرنسي في الأستانة إلى أن صار كل شيء بيد فرنسا تقريبًا، وطلبت فرنسا تعديلات في الامتيازات الأجنبية المعروفة بامتيازات سنة ١٦٧٣ فأجيبت إليها، وذهب السفير العثماني محمد سعيد ليقدم ذلك إلى لويس الخامس عشر في فرساي، فقوبل باحتفال عظيم ورجع ومعه مدربون فرنسيس للجيش العثماني بحسب طلب «بونفال» “Bonval” الفرنسي، الذي كان أسلم وتسمى بأحمد باشا، وهو الذي مات سنة ١١٦٠ هجرية ودفن في بيره من بلاد اليونان، ثم إن تركيا عقدت محالفة عسكرية هجومية دفاعية مع السويد في وجه الروسيا.

وفي ذلك الوقت توفي الإمبراطور كارلس السادس صاحب النمسا وترك الملك لابنته ماري تيريز، فتحركت أطماع الدول الأوروبية وأردن اقتسام النمسا، وكانت هذه أحسن فرصة للدولة العثمانية حتى تسترجع بلاد المجر، وكانت فرنسا على رأس الدول التي تريد تمزيق النمسا، فدعت تركيا إلى الاشتراك معهن فأبى السلطان نقض العهد، وشرع يرسل المواعظ إلى تلك الدول حتى تمتنع عن إثارة الحرب، وأصدر الصدر الأعظم منشورًا طويلًا يصف فيه أهوال الحرب بأبلغ العبارات ويختمه بدعوة الدول المسيحية إلى السلام. وعبثًا حاول بونفال المسمى أحمد باشا وسفير فرنسا وغيرهما تحريك السلطان ورجاله لانتهاز هذه الفرصة وساعدهم في ذلك أرسلان غرائي خان القريم الذي كان يعرف مقاصد الروسيا، فالدولة العثمانية حينئذ أصرت على التزام السكوت، وتوسطت إنجلترا بينها وبين الروسيا وأوستريا حتى عقدت بين الدول الثلاث معاهدة سلم دائمة، ثم إن الدولة وحدت بين إمارة الفلاخ وملدافيا، وصارت ترسل إلى هناك أميرًا تنتخبه من أروام استانبول، فكان رجال الدولة يضعون هذه الإمارة بالمزاد، فيذهب الأمير الرومي من الأستانة فيجمع ما يقدر عليه من الأموال بالطرق الدنيئة وغير المشروعة، ويرشون بها رجال الديوان لأجل إطالة إمارته، حتى إذا جاء من زاد عليه صرفوه عن الإمارة وولوا الذي زاد، وهكذا ساءت إدارة الفلاخ والبغدان، وكان هذا النسق في الحكم يزيد بغضاء أهالي رومانيا للأتراك ويحملهم على محبة الروس، وقد جنت الدولة العثمانية في تحكيم هؤلاء الأروام في بلاد رومانيا اتحاد الرومانيين مع الروس في وجهها وكان ذلك وبالًا عليها.

السلطان عثمان الثالث

وفي ١٣ ديسمبر سنة ١٧٥٤ توفي السلطان محمود الأول بعد أن ملك أربعًا وعشرين سنة، وكان حليمًا رءوفًا محبوبًا فأسف عليه الناس أجمع وخلفه السلطان عثمان الثالث، وكان الصدر الأعظم هو علي باشا، فاستخف بأمر السلطان وأكثر الغلول من مال الدولة، فأمر السلطان بقتله ووضع رأسه في صحن من فضة على باب القصر السلطاني، وولى الصدارة وزيرًا اسمه محمد راغب باشا، وكان في غاية الدهاء والحكمة مع الحزم والعزم، وكانت له خبرة بالسياسة الخارجية ولم يطل أمر عثمان الثالث، ولم يحصل شيء في زمانه سوى حريق لم يسبق له مثيل في الأستانة التهم نصف هذه العاصمة ومات عثمان الثالث في ٢٩ أكتوبر سنة ١٧٥٧.

السلطان مصطفى الثالث

وخلقه ابن أخيه وهو السلطان مصطفى الثالث ابن أحمد الثالث.

وقد بدأت سلطته في أثناء حوادث أثارت ثائر الأمة؛ منها الاعتداء الذي جرى على قافلة الحجاج بين الحرميين، ومنها أن سفينة أمير الماء، أي القبطان باشي خرج منها جنودها وبقي فيها بعض النواتية من الأرقاء المسيحيين فذهبوا بها إلى مالطة.

غير أن السلطان بدأ بالإصلاح فعلًا، وأول ما وجه إليه همه هو إصلاح الأمور المالية وضبط الجبايات واتباع سياسة التوفير ولا سيما في القصر السلطاني، وأخذ السلطان إدارة الأوقاف من يد أغا القصر وسلمها إلى الصدر الأعظم، وكان راغب باشا يبني المحاجر الصحية توقيًا من الطاعون، ويقوم بإصلاحات أخرى مثل بناء دار الكتب العظيمة التي بناها في استانبول، وكان مراده أن يشق بلاد الأناضول بترعة تتكون من نهر سقارية، ومن بحيرة واقعة بين سقارية وإزنيق، وذلك تسهيلًا لنقل الحبوب والأقوات، فمات قبل أن يتمكن من إجراء هذه الفكرة الحسنة وكانت وفاته سنة ١٧٥٢.

وبينما كانت الدولة في أشد الحاجة إلى مثل راغب باشا جرت حوادث في غاية الخطورة، منها قتل بطرس الثالث قيصر الروسيا وجلوس كاترينة الثانية على عرش تلك المملكة، وموت أوغوست الثالث ملك بولونيا، وكانت الروسيا قد دخلت في صف الدول العظام، وأخذت تنمو بسرعة، فوجهت جميع دسائسها إلى إسقاط مملكة السويد، ومملكة بولونيا والسلطنة العثمانية، وقد تغلبت على السويد ونزعت من يدها بموجب معاهدة نيستاد أحسن ولاياتها في البلطيق الغربي، ثم قضت الروسيا على مملكة بولونيا وأجلست على عرش هذه المملكة الكونت ستانسلاس بونيائوفكس عشيق القيصرة كاترينة — أو أحد معشوقيها الذين كان لا يأخذهم الإحصاء — فاحتجت تركيا وفرنسا على عمل الروسيا هذا، ولكن الدولة العثمانية كان بلغ منها فساد الإدارة وفشو الرشوة والخيانة إلى أقصى حد يتصوره العقل، وكان الإنجليز يستعملون المال في جميع مقاصدهم، وينالون به جميع ما يريدونه من الدولة، وكان السلطان يعرف كل ذلك ولا يقدر على الإصلاح نظرًا لشمول الفساد وعموم البلوى، حتى إنه قال لخان القريم: إن جميع الباشوات الذين عندي قد فسدت أخلاقهم ولم يبق لهم هم إلا في اقتناء الجواري وآلات الطرب وبناء القصور. وفي أثناء ذلك اعتدى الروس على حدود الدولة ودخل القوزاق إلى بالطة، فأعلنت الدولة الحرب على الروس، ولكن كانت جيوشها في أسوأ حالة، وكان مضى زمن طويل وهي خافضة في السلم، فنسيت أهم معدات القتال، وكانت قلاعها قد تداعت إلى الخراب، وكان المدفعية في أشنع حال، وكان الولاة قد أخذوا يستقلون في ولاياتهم مثل أحمد باشا في بغداد والحاج يمكلي في طرابزون والمملوك علي بك في مصر وغير ذلك، وثار يومئذ ظاهر العمر الزيداني في عكا.

هذا ولما أعلنت تركيا الحرب على الروسيا زحف خان القريم كريم غرائي فاخترق حدود الروسيا وهزم الروس، وعاد إلى بندر بخمسة وعشرين ألف أسير منهم، ولسوء الحظ مات كريم غرائي في أثناء ظفره هذا فزحف الروس وحاصروا شوقسين فامتنعت عليهم، وجاء أمين باشا قائد العثمانيين لنجدة التتر فانهزم وأمر السلطان بقتله، وخلفه وزير يقال له المولدوفنجي فلم يتوفق لأنه بينما كان يعبر نهرد دنيستر طغت المياه فزعزعت أركان الجسرين اللذين على النهر فازدخم الجيش العثماني ازدحامًا ساعد على انهيار الجسور فغرق منه عدد كبير، بينما كان الروس يرمون على الجيش بنيرانهم، فانكفأ العثمانيون إلى نهر الطونة ودخل الروس إلى بلاد رومانيا، ثم أرسلت الروسيا أسطولًا إلى البحر المتوسط، فأثار بلاد المورة وبلاد الجبل الأسود، فتوالت الوقائع بين الأتراك وبين الثائرين من الأروام ومن السلاف، واشتعلت الحرب بين الأسطولين العثماني والروسي، واحترق الأسطول العثماني في ششمة، وكان يقود الأسطول الروسي أورلوف الشهير عشيق القيصرة كاترين الثانية، ولكن قيادته كانت اسمية، والفعل كان لأمير الماء الايكوسي المسمى الفنستون، وأراد الفنستون هذا أن يخترق الدردنيل، فأبى أورولوف أن يطيعه وجاء فحصر جزيرة لمبي التي هي قبالة ذلك البوغاز، وكان العثمانيون قد بادروا إلى تحصين الدردنيل وحشدوا على الضفتين ثلاثين ألف مقاتل، وهكذا أمنوا خطر عبور الروس إلى الأستانة.

وأما في رومانيا فدارت الدائرة أيضًا على العثمانيين مع أنه كان عندهم هناك مئة وثمانون ألف مقاتل، وأوشكوا أن يحيطوا بالروس، ولكن بسوء إدارتهم تغلب الروس عليهم في معركة كاهولو، وقيل إنهم فقدوا خمسين ألف مقاتل، ولم يكن من يفكر في حفظ شأن السلطنة غير السلطان وحده، وكان الوزراء كلهم تحت تأثير الإنجليز يريدون الصلح، وقد طلبوا وساطة النمسا لذلك، وكان البارون «دوطوط» “de Tott” الفرنسي يشتغل بأمر السلطان في ترميم المدفعية العثمانية، إذ بعد أن كانت هي المدفعية الأولى في أوروبا تقهقرت إلى الدرك الأسفل، فأنشأ السلطان مدرسة للمدفعية والهندسية في الكاغدخانة، وكذلك بنى السلطان مدرسة للبحرية، وذلك في دار الصنعة التي يقول لها الأتراك الترسانة، وكانت البحرية وصلت إلى أقصى حدود الخلل، وصار القبطان باشي أي ناظر البحرية يضع السفن تحت المزاد، فالذي يزيد له في الرشوة يقلد قيادة السفينة، ومما لا شك فيه أن البارون دوطوط خدم العثمانيين في ذلك الوقت خدمه جزيلة في ترميم المدفعية والبحرية.

وفي سنة ١٧٧١ هاجم حسن بك التركي ومعه أربعة آلاف متطوع جزيرة لمني وهزم الروس وألجأهم إلى الفرار بأسطولهم، فكافأه السلطان بنظارة البحرية، وانهزم الروس أيضًا في كرجستان وفي طرابزون، إلا أنهم تغلبوا على القريم، وكانت هذه قاصمة الظهر لتركيا، إذ أعلن البرنس الروسي قائد جيشهم استقلال القريم عن تركيا ووضعها تحت حماية الروسيا، ومن بعذ ذلك صار البحر الأسود بين الدولتين بعد أن كا عثمانيًّا بحتًا.

أما النمسا فقد اتفقت مع بروسيا والروسيا على اقتسام بولونيا، ثم توسطت النمسا في الصلح بين تركيا والروسيا، واجتع رجال الدول الثلاثة في مولدفيا، وعندما بدءوا بالمذاكرات الصلحية اشْتَطّ الروس في مطالبهم، فرفضت تركيا صلحًا كهذا واستؤنفت الحرب، فأنكسر الروس في «روسجق» و«سيلستريه» من بلاد البلغار، فذهبوا إلى بازرجيك، وهي مدينة غير محصنة، فانتقموا عن هزائمهم بقتل الأهالي وفيهم النساء والأطفال، وروى المؤرخ «هامر» أن حسن باشا قبطان البحر على رأس جيشه من السباهية طرد الروس إلى ما وراء الدانوب، وغنم مدافعهم وأرزاقهم وقدور الطعام فيها اللحوم وهي نصف ناضجة.

ثم إن الدولة تغلبت على علي بك الثائر بمصر بالاتفاق مع ظاهر العمر الزيداني والى عكا الذي كانت السفن الروسية تمده بالمال والسلاح، ولسوء طالع السلطنة مات مصطفى الثالث بينما كان يريد أن يقود الجيش المرابط على الدانوب، وذلك في ٢١ سبتمبر سنة ١٧٧٣، وأسفت الأمة العثمانية بأجمعها عليها لأنه كان مصلحًا كبيرًا، وجاء في زمن بلغت فيه الإدارة أبعد ما تصوره العقل من الخلل، فعالج أمراض السلطنة بصبر عجيب وأصلح جانبًا كبيرًا مما كان ينوي إصلاحه.

وقد فكر السلطان في خرق برزخ السويس وكلف البارون دوطوط بأن يرسم له خطة لهذا المشروع الذي كان ينوي إجراءه بعد عقد الصلح.

السلطان عبد الحميد الأول

فتولى الملك السلطان عبد الحميد الأول والملك جمرة تضطرم، ولم تصل الفوضى في السلطنة العثمانية إلى مثل ما وصلت إليه لذلك العهد، فإن أحمد باشا والى بغداد كان قد أعلن استقلاله، وظاهر العمر الزيداني كان قد استفحل أمره واستولى على بلاد الجليل، التي يقول لها العرب «بلاد الأردن» وحصن عكا واتخذها عاصمة له، وكان محمد بك والى مصر ثائرًا تقريبًا، وكان محمود باشا والى اشقودره في شمالي ألبانيا قد انفصل عن الدولة، وكان أهم منه علي باشا وإلى يانيا الذي أسس في جنوبي ألبانيا مملكة مستقلة.

دخل عبد الحميد الأول على السلطنة وهي بهذه الحالة، وجاءت الروسيا وأعلنت عليه الحرب انتقامًا عن هزائهما الماضية، وأسرع القائد الروسي الكونت رومانسوف فقطع بين الجيش العثماني وبين ميرته التي كانت في فارنة، فوقع الرعب في الجيش وتبدد شمله، ولم يبق مع السرعسكر إلا ١٢ ألف مقاتل، فرأى السلطان أن مداومة الحرب مستحيلة، وعقد مع الروسيا معاهدة «كوتشوك قينارجي» في ٢١ يوليو سنة ١٧٩٤، وبهذه المعاهدة انسلخت بلاد القريم وبلاد بوجاق وبلاد قوبان عن تركيا، واستولى الروس على كيلبورم ويني قلعة وآزوف، وصار لهم حق الملاحة في البحر الأسود، ورجعت الفلاخ والبغدان إلى تركيا، ولكن مع الاعتراف للروسيا بحق إبداء رأيها في شئون تينك الإمارتين، وكذلك صار للروسيا حق آخر وهو التكلم في الشئون العائدة للمسيحيين وكنائسهم، مما كان السبب في الحرب المسماة بحرب القريم سنة ١٨٥٤.

قال هامر مؤرخ السلطنة العثمانية: من بعد هذه المعاهدة صار السلم والحرب مع الدولة العثمانية في قبضة الروسيا، وقلما وجدت معاهدة على تركيا أشأم منها، ولم ينشف الحبر على الورق حتى أعملت الورسيا دسائسها في شبه جزيرة القريم، فثار الأهالي وخلعوا دولة غرائي الأمير الشرعي وبايعوا شاهين غرائي الذي انضوى تحت لواء الروسيا، فلم يقبل أشراف البلاد أن يدخلوا في طاعة الخان الجديد، فاستنجد هذا كاترينة فأرسلت إليه جيشًا سبعين ألف عسكري، فقبضوا على أشراف البلاد وأعيانها وقتلوا منهم وغربوا وارتكبوا الفظائع، وانتهى الأمر بخضوع القريم للحكم الروسي، وبعد أن قضت الروسيا وطرها من القريم نفمت الخان شاهين هذا إلى الخارج، فلجأ إلى تركيا فنفوه إلى رودس وقيل إنهم قتلوه، وصارت القريم والقوبان من ذلك العهد جزءًا من الروسيا، واعترف الباب العالي بذلك سنة ١٧٨٤، وكانت النمسا والروسيا متفقتين حينئذ، وتعاهد الإمبراطور يوسف الثاني صاحب النمسا والقيصرة كاترينة على اقتسام تركيا، فاضطر الباب العالي أن يعلن الحرب على الدولتين، فزحفت الجيوش النمسوية من جهة بلغراد فكسرها الصدر الأعظم في لاغوس واكتسح بلاد البانات التي كانت لتركيا من قبل، وهاجم الأتراك مدينة كليبورم فامتنعت عليه لأن الروس أحسنوا الدفاع عنها، واستولوا على هوفسيم وعلى اوقزاقوف، وجاء قبطان البحر حسن باشا لينقذ أوقزاقوف، فخسر خمس عشرة سفينة وأحد عشر ألف مقاتل، فكانت نتيجة هذه الفادحة أن الروس دخلوا اوقزاقوف وذبحوا ٢٥ ألف نسمة من أهلها.

وفي أثناء هذه الحرب ظهر رجل في الأناضول تسمى بالشيخ أوعلان أولو، وزعم أنه المهدي وكاد يثير الأناضول كلها على الدولة، ومن الغريب أن هذا المهدي كان في الحقيقة رجلًا طليانيًّا اسمه الأصلي «جيوفني فاتيستابوتي» “Jiovanni Battisla Boalti”، ولد في بيازانو من إيطالي ودخل راهبًا عند الدومينيكان في أوفين “Ravenne” فأرسلوه إلى الموصل، فاختلف هناك مع المطران وخرج من الدير، وأخذ يجوب بلاد الأناضول وبلاد إيران، وانقلب من الرهبانية إلى القيادة العسكرية، وإلى الدعاية المهدوية، وأخذ يخطب في الأمصار في إعادة الإسلام إلى نقائه الأول كما كان عليه السلف، فانقاد الناس إلى كلامه وأطاعوه، وزحف إلى أرضروم واستولى عليها وتلقب بالمنصور، واراد أن يتقدم منها إلى سيواس، فأرسل الباب العالي رسله إلى هذا المهدي يقول له: إنه ما دام المهدي المنتظر فليظهر حماسته الدينية في محاربة الروسيا، فاقتنع المهدي المنصور بهذا الكلام وسار إلى القوقاس يحارب الروس وانتصر في الوقعة الأولى على القائد الروسي أبركسين، ثم انكسر، وما زال يحارب مدة أربع سنوات، والحرب بينه وبين الروس سجال، إلى أن وقع في أيدي الروس أسيرًا فعاملته كاترينة معاملة حسنة، وأجرت عليه رزقًا كافيًا وعاش في دير الأرمن الكاثوليك إلى سنة ١٧٩٨.

أما السلطان عبد الحميد الأول فبعد توالي هذه المصائب على المملكة مات غمًّا وذلك في ٧ أبريل سنة ١٧٨٧.

السلطان سليم الثالث

وتولى مكانه ابن أخيه السلطان سليم الثالث، وكان عبد الحميد بخلاف السلاطين السابقين برًّا بأهله، فكان يعامل السلطان سليمًا معاملة الأب لأبنه.

فجلس السلطان سليم أسوأ ما كانت السلطنة حالًا، وكان سليم مقتنعًا بوجوب إصلاحها والأخذ في إدارتها بالطرق العلمية الأوروبية، وكانت هذه الفكرة وقد ملأت دماغه، فتجشم مشقة إجرائها وأنفذ كثيرًا منها، وكان حميد الخصال عاقلًا حليمًا، فبدأ ملكه بالعفو والمرحمة وساعد المديونين بأداء ثلاثين في المئة إلى دائنيهم من خزانة السلطنة تخفيفا للأزمة الاقتصادية، ولكن طالع الحرب كان لا يزال مشئومًا، فإن قبطان البحر حسن باشا انكسر في «فورشاني» في ٢١ يوليو سنة ١٧٨٩، وبعد ذلك بشهرين لحقت بالعثمانيين هزيمة أخرى، وكانت الفلاخ ومولدافيا وبلاد العرب في أيدي الأعداء، والروس يحاصرون قلعة إسماعيل التي هي معقل العثمانيين الأعظم على الدانوب، وكانت الخزانة فارغة، فكانت من كل جهة علامات الشؤم مطبقة، إلا أن حادثًا جاء فخفف الأزمة، وهو موت يوسف الثاني إمبراطور النمسا سنة ١٧٩٠، فإن أخاه ليوبولد خالف السياسة التي كان سائرًا عليها أخوه في عداوة تركيا، وعقد الصلح مع الباب العالي، وأعاد إليه جميع البلاد التي كانت النمسا احتلتها من تركيا سوى بعض أماكن على ضفة نهر الأنة، ولكن الروس لبثوا ظافرين وفتحوا قلعة إسماعيل عنوة بعد حصار شديد يفوق الوصف، فذبح الروس جميع المسلمين كبارًا وصغارًا رجالًا ونساء، واستمرت المذبحة ثلاثة أيام، ولما وصل الخبر إلى استانبول ثار الشعب وطلبوا الاقتصاص من رجال الدولة، فقتلوا لهم الوزير حسن باشا الذي كان قبطان البحر برغم ما كان من بسالته وقيامه بواجباته، وكان السر عسكر يوسف باشا قد انهزم أيضا في ماتشين، فتدخلت إنجلترا وبروسيا في الصلح، وانعقدت معاهدة ياسي في ٩ يناير سنة ١٧٩٢، وبموجبها استولت الروسيا على القريم وعلى شبه جزيرة طامان، وقسم من قوبان وقسم من بسارابيا ومدينة أوقزاقوف وغير ذلك.

ونبغ في ذلك الوقت كوتشوك حسين باشا، فتولى نظارة البحرية وكان صهرًا للسلطان وكان متحليًا بمزايا نادرة، ولو لم يمت قبل وقته وذلك سنة ١٨٠٣ لبلغت تركيا بواسطة هذا الوزير الدرجة القصوى من الرقي، فإنه بدأ فطهر البحر من القرصان بعد أن طال عيشهم فيه، ثم أخذ بترميم القلاع وشحنها بالمقاتلة، ثم انتدب مهندسين من فرنسا والسويد، ثم أخذ بإنشاء الأساطيل وجدد مدرسة المدفعية ومدرسة البحرية اللتين كان أنشأهما البارون الفرنسي دوطوط، وأنشأ خزانة كتب تشتمل على أحسن كتب الفن، واعتمد في أكثر إصلاحاته العسكرية على ضباط الفرنسيس، وأدخل إصلاحات في دار السبك في الطوبخانة، وكان الروسيا تنظر إلى هذه النهضة العثمانية بعين الحذر، وقد تحفزت للنكث بمعاهدة ياسي، وثار في ذلك الوقت باشا «ودين» من بلاد البلغاري، فساقت الدولة عسكرًا لمحاربته، ولكنها التزمت أخيرًا أن ترضيه بترك ودين له مدة حياته.

وكانت هذه الفتن المصطلمة المستمرة في السلطنة العثمانية في داخلها، وهذه الحروب المضطرمة المستمرة عليها من خارجها، قد أطمعت فيها دول أوروبا وصيرتها تفكر في دنو أجل هذه السلطة، وصارت كل دولة تتحفز للاستئثار بشقص من هذه التركة، وقد كان حديث اقتسام أوروبا للسلطنة العثمانية قديمًا، وطالما تذاكرت الدول الأوروبية جمعاء في هذا الأمر أو تفاوض القسم الاكبر منها في إتمامه، وكان يحول دول ذلك الاختلاف فيما بينهن مع صعوبة إتمام العمل بنفسه لأنه ليس بسهل، وقد لخصنا في حواشي حاضر العالم الإسلامي كتابًا لأحد وزراء رومانيا اسمه مئة اقتسام لتركيا، يدل بالوثائق على قدم الفكرة الصليبية في أوروبا وعدم انقطاعها، ومن الغريب أن الأوروبيين فكروا في هذا الأمر أيام كانت تركيا في عنجهية أمرها، وكانت جيوشها توغل في قلب أوروبا، فبديهي أنهم ازدادوا تفيكرًا به بعد أن ظهرت عليها علامات الانحطاط وتوالت فيها الثورات وتحفز رعاياها البلقانيون المسيحيون كالسرب واليونان للانتفاض عليها.

فلما تولى سليم الثالث السلطنة كان الناس في أوروبا يعتقدون أن أجل السلطنة أصبح قريبًا جدًّا، ولذلك قررت الحكومة الفرنسوية غزو الديار المصرية، وحاوت اقتناع تركيا بأن هذه الغزاة لا تنوي بها فرنسا العداوة لتركيا، وإنما تريد بها سبيلًا إلى الهند، كما أنها ترى حكم المماليك في مصر شيئًا أشبه بالفوضى فتريد القضاء عليه، وكانت إنجلترا في غيرة شديدة من نفوذ كلمة فرنسا لدى الباب العالي، فلما غزت فرنسا مصر اهتبلت في ذلك الفرصة حتى تقربت إلى الحكومة العثمانية، وصارت معها يدًا واحدة، فأعلنت الدولة الحرب على فرنسا واتحدث معها إنجلترا والروسيا، وقبضت الدولة على معتمد فرنسا وحبسته في الأبراج السبعة بالأستانة، وضبطت أملاك الفرنسيس في جميع البلاد العثمانية وكان الفرنسيس قد تغلبوا على المماليك في واقعتي الأهرام وإمبابة، وسقطت مصر كلها في أيدي الفرنسيس، وجاء جيش عثماني بقيادة مصطفى باشا عدده ١٨ ألفا فنزل عند أبي قير، وقبل أن يتحصن في مراكزه هجم عليه بونابرت ومزقه شر ممزق، إلا أن الأسطول الإنجليزي أحرق الأسطول الفرنسي في مياه أبي قير، فتعذر علي الفرنسيس إنجاد عسكرهم، وصار كالمحصور، ومع هذا فقد زحف بونابرت إلى سورية وما زال يتقدم حتى وضع الحصار على عكا، وكان لو أخذها استولى على سورية وربما وصل إلى الأستانة، وهذا شيء لا يقدر مؤرخ أن يجزم به، وإنما يتفق العقلاء على أن فشل بونابرت أمام عكا قضى على آمال فرنسا في هذه الحملة المصرية «فأحمد باشا الجزار البوسنوري» قائد الحامية العثمانية في عكا «والأميرال سيدني سمث» قائد الأسطول الإنجليزي في بحر عكا ردا بونابرت خائبًا، فرجع إلى مصر ومنها أبحر إلى فرنسا، وترك قيادة جيشه للجنرال كليبر، فأخذ الإنجليز يفاوضون كليبر في الصلح، ولكنهم طلبوا منه تسليم جيشه، فأبى قبول هذا الشرط المهين، فجاء واحد اسمه سليمان الحلبي سار من حلب إلى مصر بمجرد حميته وطعن كليبر بخنجر فقتله، فأنقذ الإسلام من عدو كبير، فخلفه الجنرال منوم وأخيرًا تم الاتفاق سنة ١٨٠١ على إخلاء الفرنسيس للديار المصرية.

وكان السلطان راغبا جدا في عقد الصلح وذلك لأن الفتوق كانت متوالية من كل جهة فالانكشارية عضوا في بلغراد واستولوا على القلعة وكانت عصائب من الأشقياء تعيث في بلاد البلغار ومكدونية وكان السرييون بقيادة قره جورج جد العائلة المالكة الينوم قد رفعوا لواء الثورة وكان علي باشا تبلني المتغلب على بانيا قد أعلن استقلاله عن الدولة وكان الوهابيون قد غزوا الحجاز وأستولوا على الحرمين الشريفين وكانت في نفس العاصمة ثورة أحدثها الانكشارية بالإنفاق مع العلماء بسبب التشكيلات العسكرية التي قام بها السلطان سليم مقتديا فيها بالجيوش الأوروبية وقد أطلق عليها اسم «النظام الجديد»، فوقع القتال بين الانكشارية والنظام الجديد، وأنتهى الأمر بغلبه الانكشارية.

وفي ذلك الوقت رجع التقارب بين تركيا وفرنسا وأرسل بونابرت الجنرال سباستياني لأجل حمل الباب على محاربة الروسيا، وكان الباب العالي عزل أميري الفلاخ ومولدافيا صنيعتي الروسيا فأرسل إسكندر الأول قيصر الروسيا عسكرا احتل تينك الامارتين وأعلنت الحرب.

ثم لم تكف الثورات الداخلية والفتن والحرب مع الروسيا حتى جاء الإنجليز يطلبون من الدولة ان تعقد تحالفا مع الروسيا وإنجلترا وأن تعلن الحرب على فرنسا وتطرد الجنرال «ساستياني» الذي أرسله بونابرت إلى الأستانة، وأن تتخلى عن الفلاخ ومولدافيا للروسيا وقد طلبوا أن يتسلموا الدردنيل والأسطول العثماني فأبى الباب العالي قبول هذه الشروط ودخل الأسطول الإنجليزي من الدردنيل الذي كانت حصونة ضعيفة جدا بسبب إهمال الأتراك لها وكان الأسطول العثماني أمام غ اليبولي فأحرقه الإنجليز ولما وصل الخير إلى الأستانة عول رجال الدولة على الاستسلام لإراد الإنجليز والورس وأشاروا على السلطان سليم بترك كل مقاومة إلا أن الانكشارية والأهالي ثاروا عليهم وأجبروا السلطان على المقاومة واستفاد من ذلك الجنرال سباستياني والفرنسيس، وأنضم إليهم سفير أسبانيا، وحرضوا الأهالي على القتال وأبتدأت التحصينات بالعاصمة بينما الأميرال الإنجليزي دوكنورت يتفاوض مع رجال الديوان في شروط الصلح فما مضت خمسة أيام حتى كانت الحصون قد ترممت وصار فيها تسع مئة مدفع وكان ناظر البحري من حزب المقاومة مخالفا لزملائه فجهر عشر بوارج وأعدها للقتال فلما رأى الأميرال دوكنورت أنه بهذه الايام الخمسة التي أضاعها في المفاوضات الصلحية أصبحت الأستانة في منعه عظيمة خاف على أسطوله فأسرع بمفارقة الأستانة وبينما هو عابر الدرنيل أطلقت عليه الحصون مدافعها فأغرقت له بارجتين وأهلكت ست مئة بحري.

فغضب الإنجليز وأرادوا الاستيلاء على الديار المصرية، وكانت الدولة قد أرادت التخلص من المماليك فثاروا عليها وتغلبوا على خسرو باشا في دمياط

محمد علي باشا

وكان هناك قائد الباني اسمه «محمد علي» من ذوي التدابير استفاد من سوء ادارة المماليك واستجلب إلى ناحيته عواطف الأهالي فصار له حزب عظيم واثروا على المماليك وثاروا أيضًا على خسروا باشا الوالي من قبل الدولة وسفروه إلى الأستانة فأرسلت الدولة مكانه خورشيد باشا فأراد هذا أن يتخلص من محمد علي فلم يقدر عليه بسبب انتصار الأهلي له وألح المصريون على الدولة بتولية محمد علي على مصر فرضيت الدولة بذلك تسكينا للفتنة وأصدرت الفرمان بولاية محمد علي على أن يدفع لها خراجا سنويا سبعة ملايين فرنك وكان ذلك سنة ١٨٠٥ فأتفق المماليك تحت رئاسة محمد بك الألفي مع الإنجليز وشرع الفريقان بمحاربة الدولة وأحتل الجنرال فريزر الإنجليزي الإسكندرية سنة ١٨٠٧ إلا أن محمد عل يلم يكن على طراز المماليك في الاهمال فتغلب على الإنجليز واسترجع الإسكندرية وأعلنت الدولة الحرب على إنجلترا وجرت معركة بحرية هائلة بين الأسطول العثماني والأسطول الإنجليزي والروسي على باب الدردنيل.

وفي ذلك الوقت عادت الثورة إلى الأستانة، وكان الصدر الأعظم غائبا مع أعوانه الوزراء في سد الفتوق البعيدة فتولى الأمر قائمقام الصدارة فخان السلطان وأفسد بين الجند فهاجموا القصر وطلبوا من السلطان أن يسلمهم سبعة عشرة شخصة من رجاله ليقتلوهم وكان السلطان توقف عن مقابلة الانكشارية بالعسكر الجديد تحرجا من سفك الدماء بين عساكره ولكنه لم يشأ أن يوافق على تسليم رجاله للقتل وفي مقدمتهم البستانجي باشي الذي عندما رأى أستفحال الثورة وإحاطة الانكشارية والجيش المسمى يمك بالقصر أراد أن يستسلم إليه ليقتلوه ويخلص مولاه السلطان من هذا المأزق وأخذ السيف يعمل في جميع أنصار الإصلاحات الجديدة ثم إزداد الجند حتى طلبوا خلع السلطان سليم نفسه فاستفتوا شيخ الإسلام قائلين له: إذا كان السلطان مخالفا لأحكام القرآن فهل يجوز بقاؤه على عرش السلطنة ؟ فأجاب شيخ الإسلام كلا والله أعلم بما يجب وكان رئيس الثورة رجلا يقال له قاباقتجي أوغلو فاستند على هذه الفتوى وخلعوا سليم الثالث.

السلطان مصطفى الرابع

وبايعوا مصطفى الرابع بن عبد الحميد الأول ودخل شيخ الإسلام فأبلغ السلطان سليم فتوى الخلع وإرادة الشعب فتلقى السلطان سليم هذا الأمر بالصبر الجميل واعتزل جانبا وأخذ يقضي أوقاته في تعليم محمود ابن عمه الذي تولى السلطنة فيما بعد باسم محمود الثاني، ولما وصل الخبر إلى الانكشارية على نهر طونه زاطوا فرحا وثاروا على الصدر الأعظم وجعلوا مكانه شلبي مصطفى باشا.

وصار الحكم في إسطنبول لشيخ الإسلام وقائماقام الصدارة ولكن لم يطل الامر حتى وقع الخلف بينهما واستفاد قاباقتجي أوغلو من ذلك فانحاز إلى شيخ الإسلام واسقطا الصدر الأعظم فقام مقامه طيار باشا فاختلفا معه أيضًا فاسقطاه فألتجأ إلى مصطفى باشا البيرقدار وإلى رسجق وكان البيرقدار من حزب السلطان سليم، فقرر أن يزحف إلى الأستانة ويخلصها من هذه الفوضى ويرد سليمان إلى السلطنة فأرسل من قبلخ سعاه إلى الصدر الأعظم وكان الصدر مصطفى شلبين — فأكد له أن كل مراد تخليص الأستانة من شيخ الإسلام وقاباقتجي أوغلي فوافق الصدر على ذلك ومالأهم اليسد علي ناظر البحرية وحف البيرقدار بستة عشرة الف عسكري على الأستانة فلما علم السلطان مصطفى الرابع بهذه الحركة صدر أمره بعزل شيخ الإسلام وأعوانه وحل نظام عسكر اليمك وكان مصطفى اليرقدار على باب الأستانة فأظهر رضاء وظن السلطان مصطفى أن الفتنة قد أنقضت وذهب إلى كوشك كوك صوتنيز ولكن البيرقدار كان ناويا أن لا يرجع حتى يرد السلطان سليما إلى السلطنة فهاجم القصر واتفق الانكشارية معه وبلغ السلطان مصطفى ذلك فرجع إلى القصر وأرسل إلى البيرقدار يقول له ليتمهل فأنه لا يلبيث أن يخرج أإليه السلطان سليم، وفي الوقت نفسه أمر مصطفى الرابع جماعة من رجاله بقتل سليم الثالث وكان السلطان سليم قوى النية موفق العضلات، فصرع جملة ممن هاجموه قبل أن سقط قتيلا ولما قيل للسلطاتن مصطفى أنه قد قضي عليه جاء ونظر إليه وقال قولوا لباشا روسجق ليأخذ الآن السلطان سليم الذي يريده، وكان البيرقدار ويقال له أيضا العلمدار قد دخل القصر ع نوه فرآ السلطان سليم مدرجا بدمائه فصاح وي أفندق وأخذ يلطم نفسه ويبكى فقال له سيد علي نظار البحرية: ليس لباشا روسجق مصطفى السلمدار أن يبكي بكاء النساء فلندق البكاء ولنقتص من قتلة السلطان السليم ولنخلص السلطان محمود الذي يجوز أن يقتل أيضا فرجع البيرقدار إلى رشده وخلع السلطان مصطفى وحبسه.

السلطان محمود الثاني

وبايع أخاه محمودًا بالسلطنة وذلك في ٢٨ يوليو سنة ١٨٠٨

وفي سنة ١٩١٧ طفت أنا محرر هذه السطور مع بعض زملائي نواب الامة العثمانية في قصر طوب قبو مقر السلاطين العظام قبل أن صاروا يسكنون في قصر طولمة بفجة وكشك يلدز وكان يدلنا على آثاره التاريخية وأقسامه الكثيرة المدهشة، المؤرخ أحمد رفيق بك ولما وصلنا إلى الغرفة التي قتل فيها السلطان سليم الثاثل رحمه الله دلنا على المكان الذي سقط فيه صريعا، وهو لا يزال معروفا إلى الآن، وبهذه المناسبة روى لنا حادثة مصطفى العلمدار هذه بتفاصيلها وقال: إن الذين قتلوا السلطان سليمان أرادوا قتل السلطان محمود أيضا بحيث لا يبقى غير السلطان مصطفى فيضطر العلمدار إلى قبول سلطنته فإنه كان لم يبق إلا سليم ومصطفى ومحمود فجماعة مصطفى بعد قتل سليم جاسوا خلال القصر ليجدوا محمود ليقتلوه فكان الجوري أخذن محمود وخبأته في مدخنه لم تخطر على بال القتلة فبقى مختبئا في هذه المدخنة إلى أن قبض مصطفى باشا البيرقدار على السلطان مصطفى فأخرجوا محمودا من المدخنة وبايعون سلطانا ولو لم يوجد محمود لكانوا مضطرين أن يبقوا طائعين للسلطان مصطفى قال لنا رفيق بك إنه أدرك جارية عاشت طويلا وماتت في زمان السلطان عبد المجيد بن السلطان محمود وكانت تقص له كيفية قتل السلطان سليم الثالث لأنها شهدت ذلك عيانًا.

ولما تولى السلطان محمود الثاني ولي البيرقدار مقام الصدارة العظمى فبدأ هذه بقتل جميع أعوان السلطان مصطفى وزعماء عسكر اليمك وانفرد البيرقدار بالأمر والنهي وعقد مجمعا من جميع الاعيان والوزوراء، وأوضح لهم وجوب إصلاح أوجاق الانكشارية وتأسيس جيش يشارع الجيوش الأوروبية في تعليمه ومعداته وقال الصدر الأعظم إنه هو من جملة الانكشارية وهو يفتخر بكونه ممن هذا النظام ولكنه يرى أن هذا النظام قد فسد وأنه كان نظاما لا يغلب لو لم ينحرف عن جادىة تعاليم الحاج بيكتاش ولكن هذا الجيش بعد أن كان مدة قرون هو عماد السلطنة وكان العالم يرتجف خوفا منه آل من الفساد إلى أن فقد كل مزاياه القديمة ونسى جميع القوانين التي كان فرض عليه العمل بها السلطان سليمان القانوني وصار الترقي فيه بالرشوة وصارت الرتب تحت المزاد وعم الجهل بالفنون العسكرية فأنحطت منزلة هذا الجيش انحطاطا عظيما ولذلك فقد أمرني السلطان بأن استأصل جميع هذه المفاسد من أوجاق الانكشارية وأن أجبر جميع الانكشارية غير المزوجين على السكن في الثكن العسكرية وأن لا أدفع رواتب إلا للانكشارية المقيمين في الثكن وأن أمنع بيع الجرايات والرواتب وأن أوجب على جميع الانكشارية التقيد بتعاليم السلطان سليمان واتباع الطرق العصرية الأوروبية التي أفنى العلماء بوجوب اتباعها كما أن مولاي السلطان عازم على تأسيس جيش جديد من شبان المسلمين ومن أنفس الانكشارية يتلقى الطرق العصرية الأوروبية التي يمكنه أن يقاتل بها الكفار بنجاح هذا مع المحافظة على نظام الطاعة والاتحاد الذي كان عند الانكشارية القدماء.

فوافق جميع الوزراء وأعيان السلطنة على هذا القرار وأفتى شيخ الإسلام بوجوبه وظن الناس أن كل شيء قد أنتهى.

إلا أن فوز البيرقدار كان عظيما إلى حد أن غص به النظراء وصاروا يتربصون به الدوائر وكان قد أغضب العلماء باحتقاره إياهم وبعزمه على التصرف بأوقاف المساجد وارتكبت البيرقدار خطيئة تبديد الجيش الذي دخل به الأستانة فأنه كان أرسل منه أثني عشر الفا إلى مدينة فيلبه لقتال مولا اغا الثائر ها فلم يبق عنده إلا سبعة آلاف لم يكونوا بقوة كافية ليمنعوه من أعدائه فزحف الانكشارية إلى القصر لينقذوا السلطان مصطفى الرابع ويردوه إلى السلطنة فقابلهم الببيرقدار بشرذمة من العسكر الجديد لفلم يقدر عليهم لتفوقهم في العدد فقتل السلطان مصطفى ورمى إليه بجثته فازداد واحنقا وأحرقوا جانبا من القصر ودخلو وأوشكوا أن يقبضوا عليه وعلى أوانه فلجأ إلى مخزن البارود ووضع فيه النار فهلك هو وأعوانه تحت أنقاض مخزن البارود ولم يشأ أن يستسلم إلى أعدائه.

وأنتصر للعلمدار رامز باشا ناظر البحرية ورمى الانكشارية بالقنابر وأسرع قاضي باشا بثلاثة آلاف من الجند للمحافظة على شخص السلطان وأخذ الانشكارية يتراجعون وأراد رامز باشا أن يعلن العفو إلا أن قاضي باشا خالفه في هذا الأمر وأصر على الانتقام فلما رأى الانكشارية أنهم قد أحبط بهم حل بهم اليأس فوضعوا النار بالبلدة وهي كما لا يخفى مبنية بالخشب، فكادت النار تلتهم جميع الأستانة لتشاغل الناس بالفتنة عن إطفاء الحريق.

ثم إن رامز باشا وقاضي باشا وأعوانهما عندما علموا أن البيرقدار قد هلك في مخزن البارود سقط في أيديهم وفروا إلى رسجق وأرادوا هناك المقاومة فلم يتمكنوا فألتجأ رامز باشا إلى بطرسبرج لأنه أصله من القريم وفر قاضي باشا وبهيج أفندي من أعوانه إلى بلاد القرامان فوقعا في أيدي أعدائهما وقتلا وقد زعزعت هذه الثورة أركان السلطنة فاضطرت الدولة إلى عقد ا لصلح مع الإنجليز فانعدق في ٩ يناير سنة ١٨٠٩ أما مع الروسيا فلم يمكن عقد الصلح، وزحف الروس وأخذوا برايلا على الدانوب وكسروا العثمانيين أمام «سيليسترية» ولكن لم يقدروا على القلعة ودارت السنة الثانية والصدر الأعظم معتصم بقلعة «شمله» لكنه لا يقدر أن يحمي البلاد فأستولى الروس على «سيليستريه» و«رسجق» و«بيقوبوليس» وبزارجق فجعلت الدولة أحمد باشا صدرا أعظم فزحف بستين الف مقاتل على الروس وأجبرهم على إخلاء رسجق.

وفي ذلك الوقت أعلنت فرنسا الحرب على الروسيا فاضطر قيصر الروسيا إلى طلب الصلح من الباب العليا فانعقد الصلح في ٢٨ مايو سنة ١٨١٢ وصار نهر البروت هو الحد الفاصل بين المملكتين ولم يبقى في أيدي الروس سوى أفواه الدانوب، وقسم من بسارابيه، وندم السلطان على عقد هذه المعاهدة لأنه الناس نبهوه فيما بعد إلى أن إلى أن الروسيا لم يكن لها مناص من قبول جميع شروطه وأن وزراءه اضاعوا الفرصة فعزلم وتسمى هذه المعاهدة بمعاهدة «بخارست».

ولما تولى محمود الثاني كانت السلطنة في الداخل ممزقة تمزيقا فكان آل شعبان أوغلو حاكمين في شمالي الأناضول وكان آل قره عثمان أوغلو متغلبين على البلاد المجاورة لأزمير وكان في سرس من مقدونية وفي قلبه من تراقية أمراء اصحاب جيوش وقوة ومنعه لا يخضعون تمام الخضوع للحكومة وكانت بلاد العرب في أيدي الوهابين وكانت مصر في يد محمد علي وكانت بلاد السرب ثائرة وكان علي باشا وإلى يانيا مستأثرا ببلاد تساليا وأبيرس وكان «مولا اغا» غالبا عل ودين فأخذ السلطان محمود يعالج امراض السلطنة فرمى الوهابين بمحمد علي والى مصر فساق عليهم جيشا بقيادة ولده طوسون باشا فتغلب الوهابيون على هذا الجيش في الحجاز ولكن توالت النجدات من محمد علي فهزم الوهابين.

ثم صارت الحرب سجالا بين الفريقين ثم أرسل محمد علي وله إبراهيم باشا فبعد حروب شديدة حصر الوهابين في الدرعية وأستولى عليها عنوة وأخذ الأمير السعودي اسيرا وأرسله إلى ابيه ومعه ولده فمحمد على أرسلهما إلى استنابول وقال لهما انني أوصيت الدولة بكما ليحسنوا معاملتكما فقال له ابن سعود يكون ما أراد الله ولكن لما وصل الأمير وابنه إلى الأستانة شنقهما الدولة وكان محمد علي قد ذبح المماليك واستأصلهم جميعا في القطر المصري، وبعد أن استراح فكرة منهم وجه همته إلى إصلاح مصر وقام بأعمال مدهشة بحيث يمكن أن يقال إنه من أعظم مصلحي الشربق بل مصلحي العالم لانه بعث مصر من قبرها وانقذها من عبث المماليك وأنشأ لها جيشا عظيما على طرز الجيوش الأوروبية واعتمد في تدريبه على ضباط من الفرنسيس وأنشأ أسطولا عظيما ودار صنعه بحرية ومعامل للسلاح وبنى مدارس وأرسل طلبه يحصلون العلم في أوروبا وأختقر ترعة بين الإسكندرية والقاهرة وفتح محمد علي السودان وكان في الحقيقن ملكا مستقلا لولا الخراج السنوي الذي كان يدفعه للدولة.

وفي ذلك الوقت ثار الصرب على الدولة لسببين أحدهما نزوعه الطبيعي إلى استرداد ملكهم والثاني سوء الادارة وظلم العمال لهم فلما انتقضوا أراد الوالي أن يسكن الأمور باللطف وحسن السياسة فجاء الانكشارية وذبحوا الوالي، وقتلوا من السربيين عددا كبيرا وكان المجر والنمسويون يساعدون السربيين وامتاز بين السريين رجل اسمه «جورج» لقبه الأتراك «بقره جورج» أي الأسود وكان صارما جدا فأعصوصب حوله جماعة من السربيين وأرادوا عبور نهر الساف الثورة فراود ابنه على الرجوع فأبى فتنازعا وأنتهى الأمر بأن الولد قتل الوالد وأمتدت الثورة واستولى قره جورج على شاباتس و«سمندرية» فأرسلت الدولة جيشا للتنكل بهم وعززته بجيش ثان ولكنهم لم يقدروا على قمع الثورة، وكان القائد إبراهيم باشا تراضي مع السربيين على إعطائهم الاستقلال الداخلي تحت سيادة السلطان وأن تقيم الحاميات العثمانية في المدن فأبى الباب العالي تصديق هذا الصلح فأستؤنف القتال بشدة وحصر السربيون بلغراد وكان فيها سليمان باشا فلما أوشك أن يسقط اتفق معهم على الخروج بجيشه وتسليم البلدة ولكن لما خرج نكث السربيون بالعهد وقتلوه مع جميع العساكر التي معه ثم أرسلت الدولة جيوشا للانتقام من السربيين فكانت الحرب سجالا وازدادت شهرة قره جورج بين السربيين واسبتد بالأمور فوقعة المنافسة بينه وبين كثير من أقرانه واستفادت الدولة من هذا الخلاف فساقت العساكر واسترجعت بلغراد وبددت شمل السربيين.

وفر قره جورج إلى بلاد المجر ورجع الحكم إلى الأتراك فبدأوا هم وأرناؤط بالانتقام من السربيين وقتلوا ونهبوا فعاد السربيون وتألبوا وثاروا ثورة ثانية وتجدد القتال بشدة وكان ميلوش أوبرنوفيتج من زعماء السربيين قعد عرض على القواد العثمانيين الصلح على شرط العفو العام وتأليف مجلس من ١٢ عضوا ينتخبهم الاهالي ويكون على يدهم توزيع الضرائب وتكون بلاد السربب متمعة باستقلالها المدني والديني والقضائي ويكون لها أمير وأن يبقى في بلغراد قائد عثماني ومعه حامية فانتخب اوبر نوفيتج اميا وصار بيده الأمر والنهي ولم يبق في الوالي التركي من الولاية إلا الاسم وبلغ قره جورج خبر هذا الاتفاق بين الدولة واوبرفيتج فثار به الحسد وجاء إلى بلاد السرب أملا باشعال الثورة فوصل إلى سمندرية فلما علم به أوبرنوفيتج ارسل اليه من قتله غيلة وبعث براسه إلى الأستانة.

فنصبت الدولة رأسه على حائط القصر وفوقه كتابة هذا رأس الشقي قره جورج هذا ما كان من أمر السرب فأما علي باشا التبليني فكان أرناؤطيا وكن ابوه رأس عصابة فورث العيث والفساد في الأرض عن أبيه ولكنه كان داهية حكيما بطلا مغوار معا ولم يكن عنده وجدان يردعه عن شيء فدخل في خدمة الدولة وأقنع ولاة الأمور بتوليته ترحاله وتبالين أولا وسمت نفسه إلى الاستيلاء على يانيا فبث في أطرافها عصائب من قطاع الطريق أقلقوا راحة الأهلية وبعث من جهة أخرى إلى الدولة يعرض عليها أن توله يانيا وأنه يعيد الأمن إلى نصابه فقبلت الدولة اقتراحه وولته يانيا وكانت فرنسا استولت على جزيرة كورفو وأخواتها فخدع علي باشا ضباط الفرنسيس ونال منهم الاذن بالملاحة في بحر كوفرو ولما نشبت الحرب بين الدولة وفرنسا زحف علي باشا على الفرنسيس وأستولى على فونيزة وبريفيزة ثم وجه قوته إلى محو الامارات المسيحية التي بين بلاد اليونان وبلاد الأرناؤوط ولا سيما جمهورية «شولي» فقهرهم بعد أن أعمل الحيل والمال والسيف لذلك وبعد هذا حاز علي باشا والي يانيا شهرة عظيمة ولقبته الدولة بوالي الرومللي ثم أعطت ولديه «ولي» و«مختار» باشويتي الموره وضمت غليه بشوية براه، ثم إنه كان في أبيرس بلدتان لا تزالان مستقلتين وهما أرجيروكاسترو وكارديكي فشن عليهما الغارة وأستأصل أهاليهما ولا سيما أهالي كارديكي.

وكان له في ذلك ثأر قديم غريب الشكل وذلك ان امه خاميكو بعد وفاة أبيه تولت قيادة العصابة محل زوطجها فوقعت في إحدى المرات في ايدي أهل كارديكي هي وابنتها شاميتزه فارتكبوا فيهما الفاحشة فاستحلفت ولدها عليا الذي كان قاصرا أنته متى بلغ رشده يأخذ بثأر أمه وأخته من أهل كارديكي فلم ينس على هذا الثأر ولما قوع أهل كارديكي في يده بحث عن الذين أعتدوا على عرض أمه وأخته فنظمهم بالسقافيد وشواهم على النار كما يشوي لحم الغنم ولكن المذابح التي اجراها على أثارت عليه السخط العام وبدأت الدولة تخشى عائلته فأرسلوا اليه من استانبول من يقتله فكان بحزمه ويقظته يطلع على ذلك، فلم يصل أحد من المرسلين لقتله إلى يانيا بل كان يأخذهم السيف في الطريق قبل وصولهم وكان جمع أموالا عظيمة لأن البلاد التي تولاها كانت مملكة فيها عدة ملايين وبقى واليا عليها نحوا من ستين سنة، فتمكنت قدمه إلى حد أنه أصبح لا يعبأ بطاعىة السلطان.

وكان أحد المقربين إلى على باشا واسمه إسماعيل باشو قد أختلف معه وجاء فعرض للسلطان جميع ما يعلمه من مظالم على وأقنع السلطان بعزل ابن علي باشا عن ولاية المورة فلما علم علي باشا بالخبر أرسل إليه من يقتله فهجم الجناه على إسماعيل باشو على باب جامع ايا صوفيثا ولكنهم لم يوقفوا لقتله فقبضوا عليهم واستنطقوهم فأقروا بأنهم مرسلون من قبل علي باشا فغضب السلطان غضبا عظيما وولي إسماعيل باشو علي يانيا ودلفينو وسرح معه جيشا عظيما لقتال علي باشا فلما علم علي باشا بأنه لم يبق له أمل في عفو السلطان أجمع المقاومة وحاول، أن يستجلب المسيحيين الذي في بلاد اليونان والأرناؤوط إلى صفة واعدا اياهم التحرر من حكم الأتراك.

فأجاب بعضهم نداءه وأمتنع البعض الآخر فأما ا لذين التفوا حوله فسكان الجبال من اليونان الغربية ومن تساليا وكان في مقدمتهم اساقفتهم وأما الذين رفضوا الانضمام إليه فالكثوليك من الأرناؤوط لأنه لم يكن لهم ثقة به غير أنه بسبب سوء إدارة إسماعيل باشو أنضم أكثر المسيحيين إلى علي باشا، وبدأت الحرب فأنكسر علي باشا في البداية وذلك في تساليا وأنحاز اثنان من قواده ع مر فريون وطاهر عباس في خمسة عشر الفا من الجنود إلى العسكر السلطاني وخان عليا أولاده الثلاثة وسلموا القلاع التي في ايديهم إلى الدولة ولما بلغه خيانة أولاده له نادى أنهم ليس لهم حق أن يرثوه وقال أنه لا يعرف له أولاد غير الذين هم أنصاره ولم يبق مع على باشا سوى ثمانية آلاف مقاتل كانوا من نخبة جنوده وبينهم رجال مدفعية ماهرون فوقف بهذه القوة أمام عشرين ألف مقاتل من عسكر الدولة كانوا أحاطوا بمدينة يانيا وشرع علي باشا يراسل المسيحيين الذين مع جيش الدولة وفتح خزائنه لهم وبث الدعاة إلى الثورة في جميع بلاد اليونان وكذلك في بلاد رومانيا ثم لجأ إلى حيلة أخرى لأجل استجلاب النصارى إلى صفة وهو أنه زور كتابات زعم أنه ورد إليه من خالد أفندي أحد مقربي السلطان يقول له فيه إنه في الربيع القادم يجب القيام بقتل عام يستأصل فيه جميع المسيحيين القادرين على حمل السلام وتسبي نساؤهم ويؤخد أولادهم المراهقون لينشأوا في الديانة الإسلامية فصدق النصارى هذا المكتوب المزور، وثاروا بأجمعهم وفي مقدمتهم أهالي جمهورية شولي وأنحازوا إلى علي باشا ومعهم كثير من الأرناؤوط المسلمين فتزعزعت مراكز الأتراك ونسبت الدولة عدم النجاح إلى سوء تدبير إسماعيل باشو فعزلته وعهدت بالقيادة غلى خورشيد باشا وذلك سنة ١٨٢١ فسار خورشيد باشا بعشرة آلاف من بلاد اليونان قاصدا يانيا فلما وصل إلى لاريا بلغة أن أهالي مدينة باتراس رفعوا لواء العصيان فأمر بنزع السلاح من أيديهم وتغريم المسيحيين جميعا فبدأت من ذلك الوقت ثورة اليونان وكان أهالي الجزر اليونانية لم يفقدوا قوة المقاومة في وجه الأتراك وكذلك أهالي الجبال الغربية من بلاد اليونان فأنهم كانوا حفظوا نوعا من الاستقلال الدالخي وكان لهم جند وطني يقال له «الارماتوليس «ومعنى هذه اللفظة الرجل الشاكي السلاح وكان الارماتوليس الذين في الجبال لا سخضعون للدولة إلا قليلا فأرادات الدولة أن تخضد شوكتهم وشكلت بأرائهم قوة مسلحة من الأرناؤوط المسلمين بقيادة الأتراك يقال لها «درفند باشا «فتنبه الأروام إلى أن مراد الدولة هو استئصال قوتهم والقضاء على الارماتوليس فلما عصى علي باشا وساقت الدولة عليه الجيش حاول علي باشا أن يستجلب إلى ناحيته هؤلاء الارماتيوليس الذين كان هو من قبل آفه عليهم.

وكانت بلاد اليونان قد استعدت للثورة وذلك لأن الأروام أهل حركة ونشاط وهم أقوم على التجارة والملاحة من كل قوم وكانت ثروتهم قد ازدادت كثيرة عن ذي قبل بانصرافهم إلى التجار وكانوا يجوبون البحار كلها، وفي كل مكان من أوروبا تجار من الأروام فلا يكاد يخلو منهم مكان وكانوا هم الواسطة بين الشرق والغرب وكانت الدولة العثمانية نفسها تحتاج إليهم وتستخدم منهم في سفنها وبأحتكاك الأروام الدائم مع الأوروبيين وحروب الأوروبيين مع الدولة العثمانية إزداد نزوع الأروام إللاى الاستقلال وانقسموا إلى قسمين منهم ممن يريد الاستقلال العاجل بقوة السلاح وآخرون يرون المصلحىة في عدم مقاومة الدولة العثمانية بالسيف. بل بتهذيب الأمة اليونانية وترقيتها حتى تنال تدريجيا حقوقها ويأتي وقت تتحرر من حكم الترك تمامًا.

وفي سنة ١٨١٣ عندما تألبت جميع دول أوروبا على نابوليون ظن الأروام أن دول الاتحاد المقدس ستمد إليهم يد السماعدة ولكن دول الاتحاد المقدس كانت تكره تحرير الشعوب لمخالفته لمباديها فخاب أمل اليونان فيها ثم إن علي باشا التبليني كان قد ضرب التجارة اليونانية من تجار رأوا كساد تجارتهم وضباط تدربوا في الجيوش الأوروبية وناشئه تعلموا في مدارس أوروبا أنه لا خلاص لبلاد اليونان إلا بالثورة العامة، وكما يحصل في جميع الأمم المقهورة تألفت الجمعيات السرية ودخل فيها الوف من الأروام وتألفت شعب لهذه الجمعيات السرية في أوروبا وفي نفس القسطنطينية ويقال إنه كان في القسطنطينية عاصمة تركيا ١٧ ألف شخص تابعون للجمعية المركزية وكانوا مطلعين على كل شيء وكانت لهم في بلاد رومانيا وبسارابيا جمعيات تعمل بالاتحاد مع الأروام فتنبهت تركيا لهم وبطشت بكثير منهم وكان اهالي باتراس في بلاد اليونان قد ثاروا بالسلاح على الحامية التركية وانتظروا أن تأتيهم نجدىة من الروس وكان الثوار نحوا من عشرة آلاف فساقت الدولة جيشا مزق شملهم فاعتصموا بالجبال وامتدت حركة العصيان في الجزر اليونانية وبلغت الحماسة من الأروام أن أمرأة أسمها بوبولينة جهرة بما لها ثلاث بوارج حربية وتولت قيادتها ووجد من أغنياء اليونان عدد كبير نزلوا عن كل ثروتهم لأجل ثورتهم وكان أحد القضاء من الأتراك أتيا مع حرمه في سفينة من مصر إلى الأستانة فظفر اليونان بالسفينة وأهانوا القاضي وضربوه ويقال إنهم اعتدوا على عفة زوجته ثم تركوا السفينة تمضي إلى الأستانة فلما وصلت شاع خبر هذا الاعتداء في العاصمة وكانت صدور الأتراك قد أمتلأت وغرا من أخبار الثورة اليونانية فهاج الشعب التركي وهجموا على دار البطريركية وذبحوا البطريرك غريغوريس مع ثلاثة من الأساقفة وقتلوا الوفا من الأروام وأحتج سفراء الدول الأوروبية على هذه المجزرة فأجاتبهم الدولة بأن دول أوروبا كلها تقتص من جميع الذين يكبدون عليها بلا استثناء فأي حق لها في الاعتراض على الذين يأتمرون بسلامة الدولة العثمانية؟ وفتك الأتراك بالأروام في مقدونيا وتراقيا والأناضول وقيل إنه هلك ثلاثون الف رومي منهم ثمانون أسقفا.

ولما وصلت أخبار هذا الانتقام إلى بلاد اليونان: أشتدت الثورة وانتخب «ديمتريوس ابسيلتي» في مدينة هيدرة قائدا عاما للثورة ولكن الجيوش العثمانية كانت دوخت مون بازي ونافارين وحصرت «باتراس» و«نابولي» و«تربيوليتتزة» وغيرها وأرسل خورشيد باشا وهو يحاصر يانيا عساكر ظهرت كثيرا من البلاد اليونانية من الثوار، ولا سيما في «آرائه» إلا أن اليونان ذبحوا من الأتراك في تربيوليتزة ١٢ الف نسمة ثم وقع الخلف بين الأروام أنفسهم فكانوا ثلاثة أحزاب كل منها يخالف الآخر في أرائه وكان علي باشا لا يزال يدافع عن يانيا وخورشيد باشا يحاصره إلى أن تمكن خورشيد من الاستيلاء على قلعة يانيا ففر علي باشا إلى بحيرة يانيا وأعتصم بجزيرة لفي وسط البحيرة حيث يوجد برج فيه مخزن بارود جلس فيه ناويا إذا وصل إليه العدو أن يضع النار في البارود فيطير هو والعدو معا ولكن بقية عساكره لم يطيعوه فاضطر إلى قبول شروط الصلح التي عرضها خورشيد باشا وأقسم له هذا على المصحف الشريف بأنه إذا استسلم يسلم فلما استسلم امر خورشيد باشا الجند بقتله، وكان ذلك الشيخ لم يفقد شيئا من بأسه، فلما هجموا عيله أعمل فيهم النار ثم هجم بيطقانه وما زال يصارعهم حتى وقع قتيلا وكان ذلك في ٥ فبراير سنة ١٨٢٢

أما الأروام فضجروا من الشقاق وعقدوا مؤتمر في ابيدور واعلنوا استقلال اليونان وذلك في أول يناير سنة ١٨٢٢ وأعلنوا الحرية الدينينة واحترام الملك الشخصي والمساواة التامة أمام القانون وانتخبوا مجلسا يقال له مجلس الشيوخ مؤلفا من واحد وخمسين عضوا ينوب كل واحد منهم عن مقاطعة، ولهذا المجلس لجنة إجرائية مركبة من خمسة أعضاء وأنتخب ديمتريوس إبسيليني رئيسا لمجلس الشيوخ وأنتخب مافروكورداتو رئيسا للجنة الإجرائية ولكن إبسيلنتي استقال من رئاسة الشيوخ وأبى كثير من رؤساء العصابات أن يعترفوا بهذا المجلس ومضوا في أعمالهم كأنهم غير مرؤوسين.

وكان من أشهر هؤلاء قائد عصامة إسمنه «اندروزوز» لم يكن أهالي تيساليه وليفاديه يخضعون لغيره فهذا الرجل عصى أوامر المجلس فأمر مافرو كورداتو بعزله عن القيادة وأعلن خيانته ولما سقط علي باشا وإللاى يانيا ساق خورشيد باشا عساكره إلى بلاد اليونان ليقضي على الثورة منتهزا فرصة الخلاف الذي وقع بين زعمائها ولكن خورشيد أخطأ ي كونه أعلن على الأروام بيانا مهينا لهم وفي أثناء ذلك جاء زعيم ارناؤوطي مسيحي إسمه بوتزاريس مشهور بالبسالة ومعه عصابة من نخبة رجاله فأنضم إلى الأروام وأشتدوا به وكان هذا الرجل أبلاى النفس شريف بالمبدأ فوبخهم على قتلهم نساء الأتراك وأطفالهم قائلا لهم إنكم بهذه الاعمال لوثم القضية الوطنية بالعار وزحف مافرو كورداتو لقتال خورشيد باشا فأنكسر وأنكسر أيضا زعماء عصائب أخرى وسقط في أيدي الاروام.

ولم تعد إليهم حماستهم إلى بعد وصول المتطوعين الأوروبيين وكان خورشيد باشا استولي على «قورنتية» وفر رجال الحكومة الوطنية التي تألقت هناك واستولي اليأس على الأورام ما عدا الزعيم ابسيلنى، وزعيما أخر اسمه «كولوكوتروني» فهذان بقيا يقاتلان واجتمع إليهما بقيا يقاتلان واجتمع إليهما بقايا السيف، وأخيرا هزما الأتراك في «ستفاني» و«بارباتي» ومات عبد ذلك خورشيد باشا، قيل أنه سم نفسه من شدة اليأس، غير أن عمر يون استولي على جمهورية شولي، وأجلي أهلها من هناك إلى جزيرة كورفو والجزر التي حولها.

وظهر أن الأوراق لا يقدرون أن يقاوموا الدولة العثمانية في البر، لكنهم كانوا على جانب عظيم من القوة في البحر، لأن مراكب القرصان كانت تملأ مجر اليونان وكانت تمتدي على الجميع. وكان عدد القرصان الأورام وافرا جدًا، وكانت الدولة الأوروبية تضطر أحيانا إلى تأديهم، فلما حصلت حرب الاستقلال الرومي اجتمع هؤلاء القرصان كلهم ونصروا القضية الوطنية، وصار أكبرهم المسمي «طومبازيس» ومعه مئه سفينة، وأجبر الأسطول العثماني على عبور الدردنيل راجعًا، وبقي يجول في الارخبيل الرومي، ويجاذب الأسطول العثماني الحبل.

فاستنجدت الدولة الأسطول المصري وأرسلت قوة بحرية بارجة قائد الأسطول بدون أن يشعر أحد فوقع الرعب في سائر الأسطول، ودارت الدائية عليه. فأرسلت الدولة أسطولا ثانيًا فلم يقدر على قرصان اليونان، وخلت سنة ١٨٢٣ والوقائع مستمرة، والحرب سجال بين الفريقين إلا أنه في هذه السنة قتل «بونزلريس» المسيحي الذي يعد هو «وإبسيلنيى» و«كناريس» أعظم رجال الثورة اليونانية.

ولما طالت هذه الثورة ثارت الحمية في جميع بلاد أوروبا لنصرة اليونان، الذين يقاتلون لأجل استقلالهم وهب الشبان في فرنسا وإنجلترا والمانيا يريدون التطوع في هذه الحرب، وتألفت الجمعيات لجمع الأموال، واكتتسب الناس فيها من كل فج وأقبل كثيرون من القواد والضباط يركبون البحر إلى بلاد اليونان وانضموا إلى الثوار وقتل كثير من هؤلاء المتطوعين، وكان منهم أفراد من أشرف العائلات النبيلة وقواد من المهشورين بالبسالة.

وفي سنة ١٨٢٤ استولي الأسطول المصري على جزيرة «كازوس» وقطع المصريون خمسمائية رقبة من الأهالي، وأرسلوا ألوفا من الآذان المصلومة إلى الأستانة واستولي الأسطول التركي على «بسارة» ولكن لم يطل فرح الأتراك هذا فإن السفن اليوناني تغلبت على الأسطول العثماني وفر أمير البحر تاركا الجنود التي أنزلها في «بسارة» فهجم عليهم الأورام وذبحوهم، فأرسلت الدولة أسطولا اجتمع مع الأسطول المصري في جزيرة «ساتس» إلا أن ميوليس» اليوناني من أكبر زعماء الثورة تغلب على الأسطولين، وفقد عددًا من جنودهما فأرسل السلطان محمود إلى محمد على والي مصر يوليه بلاد «المورة» وجزيرة «كريت» ويعهد إليه بقمع الثورة، فأرسل محمد على والده إبراهيم باشا فأنزل عما كره في المورة سنة ١٨٢٥ واستولي على «نافارين» و«كالاماته» وجميع السواحل ما عدا «نابولي» وهزم «كولوكوتروني» في مدينة «تريكورفة» وهزم أبسيلنى في مدينتي «ريزس» و«إردوفه» برغم مساعدات المتطوعين الأوروبين الذين كانوا في صفوف اليونان، وكاد إبراهيم يسحق الثوار بأسرهم فصاروا يقرون إلى الجبال ولم يبق ثائرا إلا زعيم أسمه «بابا فليشاس» فإن هذا الرجل لم يقدر على إبراهيم ولكنه ألحق بعكسره خسائر غير قليلة، ولم يبق بلدة غير طائعة في بلاد اليونان غير «أثينا» و«ميسولونكي» التي جاء القائد التركي رشيد باشا يحاصرها فدافعت النجدات من كل فج بحيث لم يقدر رشيد باشا على فتح البلدة، فاستنجد إبراهيم باشا فجاء وضيق الحصار على «ميسولونكي» فاشتدت المجاعة بالمحصورين حتى أكلوا الخيل والكلاب، وأخيرا أجمعوا من يأسهم على الخروج وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل ومعهم النساء والأولاد، فقاتلوا قتالا شديدا ولكنهم لم يقدروا على النجاة، فسحقهم عساكر إبراهيم باشا ورشيد باشا واستولي المسلمون على «ميسولونكي» ومن بعد ذلك ذهب رشيد باشا يحاصر أثينا، حيث اجتمع ألوف من الثوار ومعهم قواد أوروبيون «فانتصر الأتراك عليهم» ثم أخذت البلاد اليونانية تقدم الطاعة لإبراهيم باشا وكان ينقطع كل أمل من استقلال اليونان الذين أخذ الزعماء منهم يقاتل بعضهم بعضا، وصارت الحالة عندهم أشبه بالفوضي، فعند ذلك تدخلت الدول الثلاث فرنسا وإنجلترا والروسيا وطلبت من الدولة ومن الثوار الأورام توقيف الحرب، فالأروام أسرعوا إلى القبول بطبيعة الحال وأما الدولة فقد رضت هذه المدخلة في مملكتها، واستمرت على القتال فاقترحت الروسيا تقسيم بلاد اليونان إلى ثلاث إمارات تحت حماية أوروبا، فرفضت ذلك الدولة واليونان معا فالدولة رأت في هذا التدبير خروجا لبلاد اليونان من السلطنة العثمانية، واليونان رأوه تدبيرا يخالف مبدأ استقلالهم ووجدتهم وفي ذلك الوقت أي سنة ١٨٢٥ في شهر ديسمبر توفي القيصر إسكندر وخلفه ابنه تقولا الأول الذي أجبر تركيا على عقد مشاهدة تخول للروسيا حق الملاحة في البحر الأسود، وتجعل سربيا إمارة مستقلة استقلالا داخليا تحت سيادة السلطان، وإنما تبقي حاميات عثمانية في بلغراد، وثلاث قلاع أخرى، وتدفع الدولة جزية سنوية، ثم قررت الدول توكيل إنجلترا سربيا إمارة مستقلة استقلالا داخليا تحت سيادة السلطان وإنما تبقي حاميات عثمانية في بلغراد، وثلاث قلاع أخرى، وتدفع الدولة جزية سنوية.

ثم قررت الدول توكيل إنجلترا والروسيا بإيجاد طريقة حل للمشكلة اليونانية، ووافقت النمسا وبروسيا، وفرنسا على ذلك فلما خاطبت إنجلترا والروسيا الباب العالي بشأن حرب اليونان أجاب بأن السلطان لن يقبل تدخل الأجانب بينه وبين رعيته، ولن يجاوب على اقتراحات كهذه.

فمنذ ذلك اتفقت الدول الثلاث في ٦يوليو سنة ١٨٢٧ على أن تفصل بلاد اليونان عن تركيا فصلا إداريا وتجعلها إمارة مستقلة داخليا، وعليها أن تؤدي جزية الدولة العثمانية فأجاب الباب العالي كالأول بالرفض البات، فأمرت الدول الثلاث أساطيلها بمنع الجيوش العثمانية من الحركات العسكرية فأبلغ أمراء البحر الإنذار اللازم إلى إبراهيم، وهو تعهد لهم بأن يتوقف عن كل حركة إلى ما بعد ورود الجواب من السلطان ومن محمد على. فأما اليونان فلم يتقيدوا بإنذار الدول الذي كان موجها إليهم أيضا، وهاجموا بقوتهم البحرية أسطولا صغيرا كان في ميسولونكي فأحرقوه.

فثار غضب إبراهيم باشا وأرسل إلى أمراء البحر بأنه لا يمكنه أن يبقي مكتوف اليد بإزاء اعتداء الثوار، وكان إبراهيم قد جاءه الأمر من الأستانة بعدم توقيف القتال فكرر قواد الأساطيل الثلاث إنذار إبراهيم بإرجاع الأسطول العثماني إلى الدردنيل والأسطول المصري إلى الإسكندرية، وبإخلاء بلاد المور.

وكان إبراهيم باشا غائبا فأجيبوا بأن هذا البلاغ سيرسل إليه، فاجتمعت الأساطيل الثلاثة في مياه نافارين وكان الأسطول العثماني ثمانين قطعة مصطفا صفين على شكل هلال؛ ولم يكن الفريقين نيه القتال، ولكن بطري قالقضاء والقدر انطلقت رصاصة من جهة الأسطول العثماني فأصابت رجلا إنجليزيا من نواب المجلس البريطاني، فقابل ذلك ربان السفينة الإنجليزية التي وقع فيها هذا الحادث بإطلاق الرصاص المتوالي، ثم أن الإنجليز أرسلوا إلى محرم بك قائد الأسطول المصري يقولن له أنهم حاضرون لتجنب الحرب إذا توقف العثمانيون عن إطلاق النار، ولكن في ذلك الوقت أصابت رصاصة أخرى جنديًا إنجليزيا فقتلته، ويقول الإفرنج إن هذه الرصاصة جاءت من بارجه الأميرال التركي فنشبت الحرب واستمرت المعركة خمس ساعات إلى المساء فلم يبق من الأسطول العثماني سوي خمس عشرة سفينة، ولما بلغ الخير إبراهيم باشا تلقاه بسكون جاش وأعلن أنه يقتل كل من أرد الاعتداء على مسيحي ووصل الخبر إلى الأستانة فأبلغ الصدر الأعظم سفراء الدول الثالث الاقتراحات الآتية: —

الأول عدم التدخل في قضية اليونان، والثاني دفع غرامة عن السفن الحربية العثمانية التي احترقت في مينا نافارين، هذا مع اعتذار الدول للدولة فأجاب سفراء الدول الثلاث بأن دولهم قطعت علاقاتها مع تركيا، وبرحوا الأستانة.

فأعلن السلطان محمود الجهاد باسم الدين الإسلامي، وحرض المؤمنين على القتال فأعلنت الروسيا الحرب على الدولة على حين أن الدولة كانت محقت أوجاق الانكشارية فبقيت بدون جيش تقريبا، ولما حصلت معركة نافار بن تجددت آمال اليونان وزحفوا للقتال من كل صوب إلا أن الأتراك حفظوا مراكزهم في نافارين ومودون، وباتراس وكورون وأما إبراهيم فسحب أسطوله وعاد إلى الإسكندرية بموجب عقد هدنة ولم يترك سوي أثني عشر ألف جندي في بعض القلاع.

وفي ١٦نوفمبر سنة ١٨٢٨ انعقد في لوندرة مؤتمر دولي لأدل تحديد المملكة اليونانية التي قررت الدولة تأسيسها واتفقوا على أن يجعلوا لها ملكا مسيحيا تحت حماية الدول الثلاث، وجعلوا للدولة على هذه الإمارة اليونانية جزية سنوية نصف مليون قرش، وكذلك قرروا التعويض على المسلمين الذين أجلاهم الأورام عن بلادهم، وبعثت الدول إلى السلطان لينيب عنه مندوبا في المؤتمر فرفض السلطان هذا الطلب، واستؤنفت الحرب في بلاد اليونان ولكن الروسيا أغارت على بلاد الدولة عبرت جيوشها نهر البروت واحتلت الفلاح ومولدافيا ثم حاصر الروس قلعة سيلسترية وأحاطوا ببرايلة على نهر الطونة وكان السر عسكر حسين باشا في قلعة «شملة» وكان يوسف باشا في «فارنة» فالروس الذين أمام سيلسترية انهزموا عنها، ولكن برايلة سقطت في أيديهم، وجاء القيصر نقولا الأول بنفسه إلى ساحة الحرب، وضيق الروس الحصار على سيلسترية وفارنة وهاجموا شملة واسكي استانبول ولكنهم فشلوا وبينما العثمانيون يدافعون الروس أحسن دفاع إذ باع يوسف باشا قائد موقع ثارنة قلعة هذه المدينة من الروس وقبض على ذلك ثلاث مئة من الأتراك بالقلعة وأبو تسيلمها برغم الأمر الصادر من يوسف باشا، وبعد أخذ ورد ارتضي القيصر بأن يخرجوا بأسلحتهم ويلتحقوا بالعساكر العثمانية.

وأما في آسيا فقد ظهر الروس على العثمانيين وأخذوا قارص واردهان وغيرها وتولي الصدارة في استانبول رشيد باشا فاتح ميسولونكي وأثينا، فزحف إلى البلقان وناجز الحرب الجنرال «روت» فحف الكونت ديابتش القائد الكبير للجيش الرومسي لمعاونة الجنرال روت وهزموا الصدر الأعظم في ١١ يونية سنة ١٨٢٩ ثم استولي الروس على سيلسترية فاعتصم الصدر الأعظم وليثوا يزحفون إلى أدرنة، فاستسلمت البلدة لهم بدون قتلا، واحتل الروس» فرق كليسة» و«ديموطقة» وغيرها.

وأما من جهة آسيا فاستولي الروس على أرضروم، وكانوا سائرين إلى الأمام.

وأما في بلاد اليونان فإشتدت عزائم الأروام وإسترجعوا كل المواقع التي خلت منهم.

والخلاصة أن السلطان محمود شاهد في هذه الحرب هزائم لم تحل بالدولة من قبل فطلب الصلح بواسطة روسيا، وإنقدت معاهدة أدرنة التي بموجبها إستولى الروس على مصاب الطونة، وصار لهم الحق في حرية الملاحة في البحر الأسود والخروج منه إلى البحر الأبيض. وأخذوا «بوتى «في آسيا، وفصلوا بين تركيا وبلاد القوقاس. فخسرت تركيا علاقتها بتلك الأمم القوقآسيا التي كانت من أشد أنصارها! فسهل على الروسيا إدخالهم في الطاعة تدريجا، وتعهدت الدولة بأن لا تعزل أمراء الفلاخ ومولدافيا وأما سربيا فبقيت على حالها، وتمهد الباب العالى بدفع غرامة حربية ١٢٥ مليون قرش يؤديها تقسيطا على عشر سنوات على شرط أن الروس لا يحتلون بلاد الفلاخ ومولدافيا قبل دفع الأقساط كلها. وفى سنة ١٨٣٠ إعترفت الدولة بإستقلال اليونان وبالحدود التي وضعتها الدول بينها وبين تركيا.

وكان السلطان محمود معتقدا أنه لابد من الإصلاح في داخل السلطنة والسير بتركيا على الطرق المصرية الأوروبية، ولما توالت الهزائم على الجيوش العثمانية في زمان سليم الثالث ومحمود الثاني تحققت الناس أن السبب في هذه الهزائم إنما كان قصور الإنكشارية في التعليم العسكرى عن الجيوش الأوروبية، وأنه لابد للدولة من جيش مرتب على نسق الجيوش الأوروبية حتى يمكنه أن يقاتلها بنجاح أو ثبات، ولم يكن في الإمكان تنظيم هذا الجيش الجديد مع وجود الإنكشارية الذين كانوا يعارضون في هذا الأمر معارضة من يقاتل عن حياته. وكانت الدولة تعانى من ثورات الإنكشارية ما لا يوصف، وكم من مرة كانت ثوراتهم سببا في الإنهزام أما الأعداء وكم إستبدوا بالأهالى وعاشوا في البلاد حتى عاف الناس مجرد سماع ذكرهم، فكانت الصدور ملأى من أعمالهم، وكانت الأمة ترجو الخلاص منهم. فلما أمر السلطان محمود بتنظيم الجيش الجديد كانت جميع الأمة مؤيدة لفكرته هذه، وبدأ السلطان بتنظيم هذا الجيش، وأخذت ضباط الإنكشارية تتعلم الحركات العسكرية في «آت ميدان «. وإذا بالإنكشارية تآمروا وثاروا على السلطان بنتة، وزحفوا إلى السراي يهددون السلطان ويطلبون منه رؤوي الذين وقافقوا على النظام الجديد ولم يكن السلطان محمود خوار العزيمة ولا ممن يهاب الاخطار فامتنع من إجابة طلبهم ونادى بالأمة وأخرج السنجق النبوي فأجتمعت الامة تحته والعلماء لي مقدمتهم وصمدوا إلى الإنكشارية ورموهم بالنيران، وأطلقوا المدافع عليهم فكسروهم، وبعد أن أنهزموا أعلمت الأمة السيوف في رقابهم فقتلوا منهم عشرة آلاف رجل وقيل عشرين الف ا وتخلصت الأمة من معرفتهم وبعد ذلك نشر السلطان خطا شريلا يقول فيه: إنه من المعلوم بين المسليمن أن السلطنة العثمانية إنما رقت ونمت واستولت على الشرق والغرب بقوة الدين الإسلامي، وأن نظام الانكشارية كان في أول الأمر يوم كانت الطاعة شعاره حصنا حصينا للدولة وطالما كان النصر معقودا برايات هذا النظام ولكن في العصر الأخير فشا في الانكشارية روح التمرد وصاروا بلاء على الدولة وصاروا لا يلقون الأعداء إلا أنهزموا فأجمعت الأمة على إيجاب التخلص من هذا النظام البالي وعلى تنظيم جيش جديد يمكننا أن نصادم به أعداء الدين الخ

وما أكتفي السلطان باستئصال النكشارية بل أراد استصال جميع جراثيم الفساد التي كانت آفة على المملكة فألغى الطريقة البكتاشية وقتل رؤساءها وأقفل تكاياها ولكن بعد أن سار على خطة التجدد في امملكة وغير الأزياء القديمة حاول الرجعيون الانتقام فأشعلوت النار عدة مرار وفي إحدى المرار أحرقوا ثمن الأستانة ولكن السلطان ضمد الجروح وساعد المصابين وفي مرة أخرى أحرقوا بيك أوغلوا محله الأوروبيين وحصلت أيضًا ثورة بالسلاح فقضى السلطان عليها ولم يثنه شيء عن عزمه ومضى في سياسة التجدد، وبني المدارس، وأسس المدرسة العسكرية الكبرى وأنشأ المراكب النارية وأسس المحاجر الصحية.

وكان بالجملة مقتنعا بوجوب الإصلاح والتجديد حازما رابط الجأش غير هياب للموت عادل بالرعية مهتما بالصغيرة والكبيرة من شئون الأمة مساويا بين جميع أجناس رعيته ولكن المصائب بسبب أطماع الدول الأوروبية توالت على السلطنة في زمانة.

وفي سنة ١٨٣١ استولى الفرنسيس على الجزائر في خبر ليس هنا موضعه فعجزت الدولة عن دفع هذا الاعتداء، لاسيما أن الجزائر كانت منفصلة عنها ولم تكن سيادتها عليها إلا بالاسم، ثم خرج محمد علي والي مصر على الدولة وأغزى ابنه إبراهيم بلاد الشام بخمسين ألف جندي فأستولى على غزة، ويافا، وحيفا، وحاصر عكة التي كان قائدها عبد الله باشا، فأمر السلطان محمد علي برد عساكره إلى الوراء، فاشترط محمد علي على السلطان توليته سورية، فأبى السلطان قبول طلبه، وأرسول جيشًا لقتال الجيش المصري تحت قيادة حسين باشا، فانكسر حسين باشا وفتح إبراهيم باشا عكة عنوة، واستولى على جميع سورية، وفي ذلك يقول الشيخ أمين الجندي الشاعر:

لو قيل إبراهيم جاء محاربًا
سقطوا ولو كان الكلام تقولا
قامت قيامة عكة من بأسه
وأحاك من كل الجهات بها البلا
بمدافع ما إن لها من دافع
وقنابر تحكي القضاء المنزلا
تنسيك بدرًا والنضير وخبيرًا
وحروب عكة والبسوس وكربلا
من مبلغ الأتراك أن جنودهم
هزموا وأن حسينهم ولي إلى

ولم يقف في وجه إبراهيم باشا غير الدروز، فأنهم اجتمعوا في «وادي التيم» وناجزوا جيشه القتال في وقائع متعددة أشهرها واقعة «وادي بكا» حيث أحاط إبراهيم باشا ومعه أثنا عشر ألف مقاتل نظامي بخمس مئة من الدروز فقاتلوه طول النهار وأبوا أن يستسلموا إليه إلى أن ماتو جميعًا. وما نجا منهم غير ٢٥ شخصًا. اخترطوا سيوفهم وشقوا الجند النظامي على كثافته، وخلصوا بين الجند كله. وقد عرفت منهم واحدًا عُمر طويلًا اسمه أمين المصفى من قصبة بمقلين، وأما دروز حوران فالتجأوا إلى اللجاه واتفقوا مع عرب السلوط، وساق عليهم إبراهيم باشا جيشًا فكسروه مرارًا وقتلوا منه مقتلة عظيمة، وبقى الدروز عصاة على إبراهيم إلى أن أنصرف من سورية ولكن الأمير بشير الشهابي الوالي على جبل لبنان لأن إلى إبراهيم باشا لأنه كان ذهب إلى مصر وتعاهد مع محمد علي، فلما زحف إبراهيم إلى الشام مهد له كثيرًا من المقبات ولم تمنع إبراهيم باشا ثورة الدروز من أن يزحف إلى الأناضول ويهزم جيش الدولة عند قونية، وأن يتقدم من هناك إلى بورسة، فوقع الهلع في الأستانة، وقد كان خوف الروس من محمد على أعظم من خوف الترك. وذلك أن الروس فكروا في أن محمد علي قد يستولى على القسطنطينية وينظم تركيا كما نظم شئون مصر، ويؤسس دولة جديدة شابة غير الدولة العثمانية التي كان حل بها الهرم، فعرضت الروسيا على السلطان محمود محالفة عسكرية في وجه محمد علي، وأنزلت خمسة عشر ألف جندي بقرب الأستانة، وكانت على نية زيادة هذا الجيش حينما نبه السلطان سفيرًا إنجلترا وفرنسا إلى خطر وجود العساكر الروسية في الأستانة، وقالا له: إن الأولى به أن يقبل شروط محمد علي، وهي إضافة سورية كلها وولاية «آطنة» إلى مصر تحت سيادة السلطان من أن يستعين بالروسيا صاحبة الطمع السرمد في القسطنطينية، وهكذا افتتح السلطان بإعطاء سورية وكيليكية إلى محمد علي، ولكن السلطان لم يكن ليرضى من قلبه مصالحه محمد علي على هذا الشرط وبقى يجهز العساكر ليقاتل إبراهيم باشا ويرده إلى الوراء فزحفت العساكر العثمانية تحت قيادة حافظ باشا، وتلاقى الجمعان في «نزب» وكان مع إبراهيم باشا جيش كبير من العرب، فانكسر حافظ باشا كسرة شنيعة وغنم إبراهيم أكثر مدافعه، ومات السلطات محمود من الغم عند سماع خبر هذه الهزيمة وذلك سنة ١٨٣٩.

السلطان عبد المجيد

وتولى السلطنة ولده الكبير السلطان عبد المجيد، وكانت الدولة أصبحت بدون جيش تقريبًا، وكان أمير البحر أحمد باشا اختلف مع المصدر الأعظم فذهب وسلم الأسطول العثماني إلى محمد علي في ميناء الإسكندرية. فصارت الدولة مضطرة إلى الصلح مع محمد علي إلا أن الروسيا وإنجلترا والنمسا وبروسيا عقدت مع السلطان عبد المجيد معاهدة سنة ١٨٤٠ بموجبها لا يبقى لمحمد علي سوى مصر التي تعود إمارة له ولذريته وفلسطين التي يتولاها بصورة مؤقتة، وعليه أن يخلي سورية وبلاد العرب وجزيرة كريت، وبقيت فرنسا خارجة عن هذا الاتفاق، لكنها لم تصل في مساعدة محمد علي إلى العمل، وذلك بما رأته من تألب أوروبا عليه. فصار محمد علي يقاوم بدون سند من جهة الدول، وكانت قوة إبراهيم باشا أكثرها في عكة، فجاء الأسطول الإنجليزي وضرب عكة بالقنابر، وطير مستودع البارود والذخيرة فاستسلمت عكة وسحب إبراهيم جيشه إلى مصر، وكانت الدولة تريد الخلاص من محمد علي تمامًا إلا أن الإنجليز كانوا عقدوا معه معاهدة لإبقاء مصر في يده، فأجبروا الدولة على مراعاة هذه المعاهدة.

وأما الأمير بشير الشهابي حليف محمد علي فلما التزم إبراهيم باشا إخلاء سورية لم يتبعه إلى مصر، بل بقى يرجو أن يصلح أموره مع الدولة، وكان الأمر والنهي وقتئذ في يد الإنجليز، فلما نزل إلى صيدا وقابل أمير البحر الإنجليزي سمع منه ما يدل على أن إنجلترا لا تريد إبقاءه أميرًا على لبنان، ثم أتوا به إلى بيروت وأبلغوه أن الدولة العثمانية قررت عزله فليختر بلادًا يقيم بها، فاختار فرنسا. فقال له الإنجليز لك أن تسكن في أي بلد شئت ما عدا فرنسا، ومصر، فاختار مالطة، ثم وجد مالطة في عزلة عن الدنيا كلها فسعى في التحويل إلى استامبول، وجاء إليها وبقى فيها إلى أن مات. وكان قد تعين الأمير بشير قاسم الشهابي واليًا على جبل لبنان وكان الفرق بينه وبين ابن عمه في الحزم والعزم وحسن التدبير كما بين الأرض والسماء، فما مضى على ولايته إلا أشهر قلائل حتى سخط عليه مشايخ الدروز أصحاب الإقطاعات، لأنه كان بذئ اللسان، فكانت بذاءته تجرح في قلوبهم، على حين لا يوجد في الدنيا بلد كجبل لبنان يهتم أهله قبل كل شيء بالآداب وحفظ اللسان فقر والدروز الاجتماع لخلع الأمير بشير قاسم، فانتصر له النصاري لأنه منهم، فوقعت الوقائع بين الفريقين في «دير القمر» سنة ١٨٤١ وتسمى هذه الوقائع في لبنان بالحركة الأولى. فعزلت الدولة الأمير بشير قاسم، وأرسلت عمر باشا النمساوي إلى جبل لبنان فأخذت فرنسا تسعى في إعادة الحكم إلى آل شهاب بناء على كون الطائفة المارونية ترغب في ذلك، إلا أن الدروز وسائر الطوائف غير المارونية عارضوا رجوع الحكم إلى الشهابين، فبعد أخذ ورد بين الدول تقررت قسمة الجبل إلى قسمين يفصل بينهما طريق دمشق، وجعلت الدولة الأمير أحمد عباس الأرسلاني واليًا على القسم الجنوبي والأمير حيدر إسماعيل أب ياللمع واليًا على القسم الشمالي، وألحقت بلاد جبيل باشوية طرابلس. فأغضب هذا التدبير الطوائف الكاثوليكية وحاميتهم فرنسا. ولكن الدول الأخرى حبًا بالتوازن وبمقاومة نفوذ فرنسا التي تريد السياة في جبل لبنان عضدت الدولة العثمانية في الترتيب الجديد. وهن انجلترة، وبروسيا. وأمريكا والروسيا. وتألف في كل من القائمقاميتين ديوان مختلط تتمثل فيه كل الطوائف وما مضت سنوات قلائل على هذا النظام حتى تشاجر الدروز والنصارى مرة أخرى، وحصلت وقائع بين الفريقين، فسكنت الدولة هذه الفتنة.

وجاء شكيب أفندي ناظر الخارجية من الأستانة فرتب الأمور، وعزل الأمير أحمد أرسلان بسبب حصول الفتنة في أيامه، وجعل مكانه أخاه الأمير أمينًا فتبقى إلى سنة ١٨٥٩ فخامة والده الأمير محمد الأرسلاني، وفي مدة هذا ثارت العامة في فضاء كسروان وكلهم هناك من الموازنة، وكانت ثورتهم على مشايخهم آل الخازن فطردوهم واستولوا علي أملاكهم، وقتلوا منهم فذهبوا إلى بيروت يشتكون إلى الوالي التركي، فرأى الوالي أنه لابد من حرب لقمع ثورة الأهالي، فرأى الأولى أخذ المسألة بالسياسة فطال الأمر ببني الخازن، فالتجأوا إلى مشايخ الدروز لأنهم أصحاب إقطاعات مثلهم، وبين الفريقين تكافل إقطاعي طبيعي. فقرر مشايخ الدروز الزحف على كسروان وإعادة بني الخازن إلى بيوتهم، فقامت من أجل ذلك قيامة المارونيين الذين في بيروت وفي بلاد الشوف وجزين، وقالوا. إنهم لا يرضون بذهاب الدروز إلى كسروان يقاتلون إخوانهم، فوقع التنافر بين الفريقين، وبدأ المارونيون بالحركة. ثم انفجر الدم في حوادث جزئية في البداية، واجتمع المسيحيون في زحلة وزحف منهم عدة آلاف قاصدين قضاء الشوف على تفاهم مع نصارى الشوف بأن يثوروا من جهتهم فيضعوا الدروز بين نارين، واعتمدوا على كثرة عددهم لأن الدروز لا يزيدون على السدس بالنسبة إلى النصارى، ولكن الدروز المشهورين بالشجاعة وبحسن الانقياد إلى رؤسائهم في الحروب قابلوا ذلك الجيش الذي زحف إليهم، وذلك في «ظهر البيدر» شرقي عين صوفر، وجرت معركة تقهقر فيها النصارى إلى «قب الياس» ثم حصلت وقائع أخرى كان الفوز في جميعها للدروز، ثم جمع خطار بك العماد جمعًا كبيرًا من الدروز وقصد مدينة زحلة حيث تجمع فيها النصارى من كل جهة فوقعت واقعة شديدة انتهت أيضًا بأن النصارى تركوا زحلة واستولى عليها الدروز وأحرقوها. وكانت قصبة دير القمر المسيحية الواقعة في وسط بلاد الدروز تدافع بشدة الدروز الذين يهاجمونها، فلما سقطت زحلة خارت عزائم أهالي دير القمر فاستولى عليها الدروز، وأعمل الجهلاء منهم السيف في أهلها، وقتلوا مقتلة عظيمة. ولكن عند ما بلغ الخبر آل أرسلان، وآل جنبلاط، وآل نكد، أرسلوا رجالهم إلى دير القمر وأنقذوا ألوفًا من بقايا السيف من المسيحيين وآووهم، وقاموا بإعاشتهم إلى أن جاءت وزراء الدولة والدول وبدأوا بالتحقيق عن الحوادث، وكذلك حصلت حادثة كهذه في حاصبيا وأخرى في راشيا وكان الدروز مع كونهم أقل عددًا يتغلبون على النصارى، وكانت تقع من الجهلاء بعد الفوز حوادث مؤسفة لأمراء فيها إلا أنه في جميع هذه الوقائع لم يكن الدروز هم البادئين بالشر، وكيف يبدأون وزعمائهم هم أصحاب الإقطاعات الوافرة وتحت حكمهم عشرات ألوف من النصارى وفي أيديهم أكثر الأملاك. فكان لا يخفي عنهم وهم عقلاء محنكون أن الفتنة تكون سبب انقراض نعمتهم، وتؤل إلى جعل الحكومة على نسبة عدد الطوائف فيفقدون أكثر امتيازاتهم، بخلاف النصارى الذين كانوا يرون أنهم لا يحصلون على المساواة، ولا يتخلص ذلك العدد الكبير منهم عن حكم الدروز إلا بثورة تجبر الدولة على إنصافهم، فقضية أن الدروز كانوا مستوليين على أكثر كثيرًا مما يحق لهم بحسب العدد هذه قضية لا نزاع فيها.

وأما قضية كون الدروز هم الذين بدأوا بقتال النصاري وأنهم هم الذين اعتدوا عليهم فهي كذب محض قد تحققه لجنة التحقيق الدولية التي وقفت على جميع الحقائق ولذلك أبي الجانب الأعظم من الدول أن يعد الدروز معتدين، وإن كانوا حكموا على مئات منهم بالنفي، فلم يكن ذلك مبنيًا على اعتدائهم، ولكن كان ذلك تسكينًا لخواطر النصارى الذين قتل منهم عدة آلاف بعد تغلب الدروز عليهم. ولقد حكمت الدولة بالقتل على المشير أحمد باشا قائد الفيلق العثماني في دمشق وعلى مئات من المسلمين ممن كانوا المسئولين عن الحادثة التي وقعت على نصارى الحاضرة السورية، ولكنها بالانفاق مع الدول عدا فرنسا لم تقتل أحدًا من الدروز لما ظهر من أن الاعتداء لم يقع منهم، ولما ثبت بالوثائق والمناشير التي صدرت عن أساقفة النصارى من أن الرؤساء الروحيين كانوا هم المحرضين على الحرب، وغير معقول أن الدول المسيحية مع شدة تعصبها في النصرانية مثل إنجلترا، والنمسا، وبروسيا، والروسيا؛ تساعد الدروز بقدر الإمكان وتأتي مجاراة فرنسا على قتل جانب منهم لو تحقق عندها أن الدروز كانوا هم المعتدين! ولا تبال أصلًا بأقوال المؤلفين الفرنسيين الذين ينكرون هذه الحقيقة ويروون روايات إذ قرأها الإنسان يضحك أو يحزن لشدة بعدها عن الواقع، ولغياب الوجدان فيها تمامًا، ودعوى الفرنسيس أن الإنجليز لأجل أن يتوكأوا على الدروز ويتخذوا لأنفسهم أنصارًا في سورية قد اجتهدوا في إنقاذهم على آثر تلك الحوادث المسماة بحوادث «الستين» لوقوعها سنة ١٨٦٠ — هي دعوى لا ترتكز على أدنى أساس، لأن الإنجليز هم أشد تحمسًا للنصرانية من أن يرضوا بذبح الدروز للنصارى وبأن يتركوا بدون قصاص، ولما وصلت إلى لندرة أخبار هذه الحوادث مقلوبة عن وجهها اشتد غضب الإنجليز، وطلبوا في أول الأمر من حكومتهم الاقتصاص من الدروز بكل صراحة، إلا أنه كان بعض الإنجليز المنصفين المقيمين بورية لاسيما المستر «سكوت» صاحب معمل الحرير في قرية شملان من لبنان قد كتبوا إلى إنجلترا بحقيقة ما جرى، وقالوا إن الدروز إنما كانوا مدافعين لا مهاجمين، فهدأ عند ذلك الرأي العام الإنجليزي.

ولما تألفت اللجنة الدولية في بيروت ثبت أيضًا أن الدروز لم يكونوا هم البادئين بالقتال. وثبت أن الأمير محمد أرسلان أمير لبنان الجنوبي راجع الوالي خورشيد باشا لأجل إرسال جيش نظامي يكفي لمنع الحوادث، واستمد أيضًا قناصل الدول كلها حتى يسعوا في هذا الأمر لدى الوالي، وهذا كان سبب خلاص الأمير محمد من القتل والنفي ومن كل مسئولية، ولا ينكر أن الإنجليز كانوا قد بدأوا بتأسيس علاقة مع آل جنبلاط وحزبهم من الدروز، وربما كانوا لأجل حفظ التوازن. غير راغبين في استئصال هذه الطائفة القليلة العدد من جبل لبنان، ولكنهم لو كانوا قد تحققوا كون الدروز هم المعتدين لكانوا وافقوا بالأقل على إجراء القصاص بحق عدة مئات منهم كما جرى في دمشق بحق المشير أحمد باشا ومئات من المسلمين، وأيضًا فإن الروسيا والنمسا وبروسيا لم يكن عندهن أقل سبب سياسي يقتضي العفو عن الدروز، والاكتفاء بنفي مئتين أو ثلاث مئة رجل منهم إلى الخارج، مع أن النصارى قدموا جدولًا إلى اللجنة الدولية يلتمسون فيها قتل سبعة آلاف من الدروز.

والخلاصة لما ثبت أن الدروز لم يكونوا إلا مدافعين عن حوزتهم ترفقت بهم الدولة العثمانية وجميع الدول عدا فرنسا، وإنما نفى من نفى منهم نكالًا وعبرة من أجل المذابح التي لا تنكر مما قام به جهلاؤهم بعد الغلبة، ولقد قلب مؤرخوا هذه الوقائع من الفرنسيس حقائقها رأسًا على عقب، وجعلوا الابتداء والاعتداء من الدروز وليس ذلك بصحيح. ثم إنه قد ثبت أيضًا باعتراف عقلاء النصارى أنفسهم أنه لم يوجد واحد من الدروز سطا على عرض امرأة نصرانية، ولا يوجد منهم من قتل ولدًا، أو امرأة، أو شيخًا عاجزًا. وقد اعترف بذلك صاحب كتاب «حسر اللثام عن نكبات الشام» المطبوع بمطبعة المقطم بمصر، وفيه سرد حوادث سنة ١٨٦٠ وفيه من الطعن بالدولة العثمانية ومن الوقيعة بالمسلمين والدروز ما يزيد على كل وصف، إلا أنه صرح بكون الدروز في جميع هذه الوقائع لم يتلوثوا بالاعتداء على أعراض النساء، ولا قتلوا امرأة، ولا ولدًا ولا عازًا، وهو يذكر أيضًا همم كثيرين من زعماء الدروز الذين انقذوا النصارى ألوفًا، كما يذكر أن أعيان المسلمين في الشام مثل محمود افندى الحمزاوي وصالح آغا المهايني، وعمر آغا العابد، وعددًا كبيرًا من الوجهاء ليس الأمير عبد القادر الجزائري فقط؛ قد حافظوا على النصاري، وآمنوهم من خوف، وآووهم من فقر، مع أن مؤرخي الفرنسيس يحصرون هذه المحافظة في الأمير عبد القادر رحمه الله وحده وهو بدون شك قد حافظ على ألوف المسيحيين، وكان السبب في نجاتهم من الغوغاء الذين اعتدوا عليهم بدون علم الرؤساء، ولكن الأمير عبد القادر لم يكن هو الوحيد الذي قام بذلك الواجب.

ثم إن السلطان عبد المجيد أعلن التنظيمات المسماة «بخط كولخانة» وما له أن حياة الأشخاص وأموالهم وأعراضهم تكون مصونة، وتكون الأموال الأميرية عائدة إلى نظام واحد، وأن تلغي الاحتكارات، وأن تكون الضرائب بحسب الثروة وأن تكون مدة الخدمة العسكرية خمس سنوات، وأن كون المحاكمات علنية وأن تكون المساواة أمام القانون شاملة لكل أصناف الرعية، وأن يكون الناس أحرارًا في البيع والشراء، وأن يكون ضبط أملاك المجرمين ممنوعًا، بل تعود إلى ورثتهم.

وقد زعم بعض مؤرخي الفرنسيس أن الضرائب وإن أوجب خط كولخانه استيفاءها على نسبة الثروة، فقد كانت تجي بصورة جائزة على المسيحيين. وهذا الكلام أيضًا غير صحيح؛ فالضرائب في السلطنة العثمانية كانت على حسب مقدار الأملاك وريعها ولم يكن فيها تمييز طبقة على طبقة مما هو شأن الدول الاستعمارية الأوروبية.

وأسست الدولة جامعة باسم «دار الفنون» وجعلت التعليم ابتدائيًا، وإعداديًا وعاليًا. وقامت بإصلاحات كثيرة؛ وفي سنة ١٨٤٨ ثارت الفلاخ ومولدافيا، وكادت الفتنة تؤدي إلى الحرب بين الدولتين العثمانية والروسية، ولكن الحرب لم تقع بينهما هذه المرة، وتفادوها بتدابير سلمية.

وفي زمان السلطان عبد المجيد نشبت حرب القريم، وأساسها الخلاف بين الروم واللاتين على كنيسة بيت لحم التي فيها المغارة التي يقال إن المسيح ولد فيها، فاللانين كانوا يدعون حق الولاية على هذه الكنيسة بموجب فرامين بأيديهم، وزعموا أن الأروام بدسائسهم لدى الدولة قد استولوا على حقوق لم تكن لهم من قبل، وأخذوا مفاتيح كنيسة القيامة وبسطها وقناديلها بفرمان من السلطان محمود الأول. وزعم اللاتين أن السلطان سليمان الثاني كان خولهم هذه الحقوق سنة ١٦٩٠ فرجع الأروام واستردوا ما فقدوه في سنة ١٧٥٧، ثم إن الروسيا سنة ١٨٠٨ ساعدت الأروام لدى الباب العالي فاستولوا على جميع الأماكن المقدسة تقريبًا، فبقيت فرنسا تحتج على ذلك. وسنة ١٨٥١ طلبت فرنسا من الدولة تأليف لجنة مختلطة لأجل النظر في الفرامين التي بأيدي اللاتين والروم، وأدعت الاستيلاء على كنيسة القيامة، وعلى المكان الذي فيه مدافن ملوك الإفرنج، وعلى قبر العذراء، وعلى كنيسة بيت لحم، وغيرها.

فلما بلغ ذلك الروسيا اعترضت على هذا الأمر وقدمت إلى الدولة مذكرة لو قبلها الباب العالي لكان ذلك اعترافًا منه بحماية الروسيا لجميع المسيحيين الأرثوذ كسببين فلذلك رفض الباب العالي إجابة طلب الروسيا، فقطعت الروسيا العلاقات مع الدولة وزحفت العساكر الروسية تحت قيادة البرنس «كورتشا كوف» فقطعت نهر الباروت بتسعين ألف ماش وعشرن ألف فارس، وستة آلاف مدفعي، فاحتل هذا الجيش الفلاخ، ومولدافيا، وكانت الحصون العثمانية عند الطونة خرابًا تقريبًا ولكن كان عند الدولة قائد اسمه «عمر باشا النمساوي» أصله خرواطي كان من عظماء القواد فرمم تلك القلاع وجمع جيشًا جرارًا ورصد الروس وردهم، أما في آسيا فتقهقر العثمانيون إلى الوراء، وجاء أسطول روسي فأحرق أسطولًا عثمانيًا في ميناء «سينوب».

وفي ذلك الوقت كانت إنجلترا ترى من مصلحتها توقيف الروسيا على حدها خوفًا من استيلاء الروس على الأستانة، وكان نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا منقادًا إلى السياسة الإنجليزية، وكانت الأمة الفرنسية الكاثوليكية ترى أن الدولة العثمانية قبلت هذه الحرب مع الروسيا من أجل عدم تسليمها حقوق اللاتين في القدس فلما أحرق الأسطول الروسي السفن العثمانية التي كانت في سينوب دخل الأسطول الإنجليزي والأسطول الفرنسي من الدردنيل إلى الأستانة محافظة عليها من الروسيا فأرسل نيقولا الأول قيصر الروس يحتج على هذه الحركة، ونشر على شعبه منشورًا أشبه بإعلان حرب على فرنسا وإنجلترا، فعقدت هاتان الدولتان محالفة هجومية دفاعية مع السلطان عبد المجيد في ١٢ مارس سنة ١٨٥٤ وكان تحت قيادة «عمر باشا» — وكان يقال له السردار — مئة وثلاثين ألف نظامي، وخمسون ألف متطوع. وكان الجيش الروسي تحت قيادة البرنس «باسكيفتش» يبلغ مئة وتسعين ألفًا، فهاجم الروس سياسترية فدحرهم العثمانيون عنها، فتقهقروا على طول الخط، وأراد عمر باشا أن يجتاز نهر البروت إلا أنه كان الفرنسيس والإنجليز قد عمدوا إلى نقل ميدان الحرب إلى القريم، وقرروا حصار سيباستوبول فانتقل السردار عمر باشا إلى القريم، وهناك جرت الوقائع الكبرى. وثارت بلاد اليونان انتصارًا للروسيا وتجاوز الأروام على الحدود العثمانية فانهزموا. واحتل جيش إفرنسي آثينا، وأما في القريم فانتصر الإنجليز والفرنسيس والعثمانيون في وقائع «آلمة» و«بالا كلافة» و«انكرمان» و«ترا كثير» وافتتح عمر باشا «أوباتورية» عنوة. وفتح الحلفاء «برج مالا كوف» بعد معارك شديدة، قيل إن الفرنسيس هناك فقدوا عشرة آلاف مقاتل. ودمرت أساطيل الحلفاء مرافئ الروسيا في البحر الأسود ودخلت أساطيلهم من البلطيك، واستولوا على بومارسوند، وأنضم إلى فرنسا وإنجلترا وتركيا في هذه الحرب مملكة الساردوا، والبيمونت، فأرسلت ١٥ ألف مقاتل، فلما توالت هذه المصائب على الروسيا طلب القيصر نقولًا الصلح، فانعقد مؤتمر في فينا في أول فبراير سنة ١٨٥٦ وتقررت فيه شروط الهدنة، ثم انعقد مؤتمرالصلح في باريز وكان الجانب الواحد هو فرنسا وإنجلترا وتركيا ومملكة الساردوا، والجانب الآخر الروسيا. وكانت بروسيا والنمسا كفيلتين، وبهذه المعاهدة تقرر استقلال السلطنة العثمانية التام، وعدم تدخل أية دولة في شئونها الداخلية، وذلك بموجب المادة التاسعة كما أنه بموجب المادة العاشرة تقرر عدم مرور السفن الحربية من الدردنيل، وبحسب المادة الحادية عشرة تقررت حرية التجارة والملاحة في البحر الأسود، وكذلك بحسب المادة العشرين تقرر أن الروسيا تتخلى لمولدافيا عن قسم من بسارابيا. ثم جعلت مصاب الطونة تحت إشراف لجنة أوروبية، وبهذه المعاهدة جرى إلغاء حماية الروس على بلاد السرب، والفلاخ، ومولدافيا، ورجعت هذه الإمارات تحت سيادة الباب العالي وحماية أوروبا. وبمقابلة معاهدة باريز هذه جددت الدولة العثمانية مآل خط كولخانة من جهة إعلان المساواة بين أصناف رعاياها، ومن جهة حرية المذاهب وغير ذلك من الإصلاحات.

وفي ١٣ يوليو سنة ١٨٥٨ هجم بعض أهالي جدة بالحجاز على قنصل فرنسا ومعاون قنصل إنجلترا فقتلوهما، فجاء أسطول إنجليزي فرنسي فضرب البلدة بالقنابر وفي سنة ١٨٦٠ جرت الوقائع التي سبقت الإشارة إليها بين الدروز والنصارى في جبل لبنان، وكانت الدولة سكنت الأمور، واستدعت زعماء الفريقين إلى بيروت ووقع الصلح بينهما، إلا أن بعض الجهلاء في دمشق طمعًا بالنهب والسلب استفادوا من غفلة الحكومة فانقضوا على حارة النصارى وفجروا الدماء الغزيرة، وارتكبوا الموبقات الكبيرة ظلمًا وعدوانًا، فكانت هذه الحادثة المشئومة سببًا في احتلال جيش افرنسي لبيروت ولبنان تحت قيادة الجنرال «بوفور دوبول Beaufort D’haipoul» فأرسلت الدولة فؤاد باشا المشهور إلى سوريا، فأخذ فؤاد باشا يضمد جروح المسيحيين ووزع عليهم تعويضات بالملايين، وبحسن سياسته سكن الأمور وقتل عددًا من الجناة في حادثة دمشق يبلغ ١٣٠، ونفى كثيرًا من العلماء والأعيان وفي مقدمتهم الشيخ عبد الله الحلبي مفي الشام، وقد كان نفيهم لأجل السياسة لأنهم كانوا بالحقيقة أبرياء من كل ما وقع على المسيحيين.

وما رجع فؤاد باشا من سوريا إلى الأستانة إلا بعد أن استرجعت فرنسا عساكرها، وكانت يومئذ إنجلترا والنمسا مساعدتين لتركيا. وفي ٢٥ يوليو سنة ١٨٦١ توفي السلطان عبد المجيد، وكان سلطانًا كريم الأخلاق عادلًا حليمًا متواضعًا، وكانت الرعية العثمانية من جميع الطبقات تحبه وتحترمه، ولذلك أسف عليه الجميع.

السلطان عبد العزيز

وتولى مكانة السلطان عبد العزيز. وفي زمانه لم تحصل حوادث تذكر سوى ثورة كريت التي قمعتها الدولة بالقوة، والسلطان عبد العزيز هو أول سلطان زار أوروبا عندما دعاه نابليون الثالث سنة ١٨٦٧ إلى معرض باريز مع سائر الملوك، وفي زمانه أيضًا جرى خرق بوغار السويس بواسطة شركة أفرنسية يرأسها المسيو «داليبس» وذهب السلطان عبد العزيز بنفسه إلى مصر، وكان السلطان عبد العزيز سليم الطوية جسورًا إلا أنه كان مسرفًا ترك على الدولة ديونًا كثيرة. على أن من أهم مآثره اعتناؤه بالأسطول، ففي زمانه كان للدولة قوة بحرية عظيمة، وكانت هي الدولة الثالثة في البحر، وقد كان في أيامه من رجال الدولة «مدحت باشا» وكان مولعًا بالحرية، فنما بواسطته حزب الأحرار، وصاروا يتحدثون بخلع السلطان لكثرة إسرافه واستمالوا إليهم السر عسكر «حسين عوفي باشا» ودبروا على السلطان مكيدة فاتفقوا مع ناظر البحرية وأتوا بالأسطول فرنسا أمام سراي طولمة يفجه، بينما العساكر كانت تحيط بالسراى من جهة البر، ثم أدخلو على السلطان من أبلغه أن الأمة خلعته. فأراد السلطان أن يستخف بهذا الموضوع فأطلعوه على العساكر المحيطة بالقصر من جهتي البر والبحر، وأنزلوه من السراي ووضعوه في قصر آخر.

السلطان مراد

وبايعوا السلطان مراد كبير أولاد السلطان عبد المجيد، وما مضى عدة أيام على خلع السلطان عبد العزيز حتى وجد في قصره قتيلًا، فذهب الناس إلى أنه قتل بأيدي هؤلاء الذين خلعوه. وليس ذلك بصحيح؛ بل كان الخلع فجأة قد آثر جدًا في عقل السلطان، فتناول مقراضًا وقطع به عروق زنده فسال دمه إلى أن مات.

وكان ضابط اسمه «حسن الشركسي» شقيقًا لإحدى نساء السلطان، فجاء إلى الباب العالي ودخل على مجلس الوزراء فاغتال السر عسكر حسين عوني باشا وناظر البحرية أحمد باشا القيصرلي، وراشد باشا ناظر الخارجية وكان مراده قتل مدحت باشا ولكن هذا فر ونجا بأعجوبة، فجاء الجند ولم يتمكنوا من القبض على حسن الشركسي إلا بقتله. وأما السلطان مراد فما مضت عليه إلا ثلاثة أشهر في السلطنة حتى حصل له اختلاط في عقله، فاتفق رجال الدولة على إقصائه عن السلطنة وتصب أخيه السلطان عبد الحميد مكانه.

السلطان عبد الحميد الثاني

وكان ذلك سنة ١٢٩٤ هجرية. وكانت في أواخر مدة السلطان عبد العزيز قد نجمت قرون الثورة في البلقان، وكانت بدايتها في الهرسك، وكان على رأسها «قرة جيبورجيوفتش» من ذرية قرة جورج الذي تقدم الكلام عليه وهو جد ملك يوغوسلافيا الحالي. ثم امتدت الثورة إلى بلاد السرب فأرسلت الدولة جيشًا للتنكيل بالعصاة، فاتسمت الثورة وكان مراد السربيين أن يستقلوا استقلالًا تامًا ولا يؤدوا جزية السلطان.

فساقت الدولة جيشًا بقيادة عثمان باشا الذي صار فيها بعد يلقب بالغازي، فهزم السربيين ودوخت الدولة جميع ثوار البلقان من بلغار وسرب، وهرسك. وكانت الروسيا تظاهر الثائرين كما لا يخفي، فلما سحقتهم العساكر العثمانية أعلنت الروسيا الحرب على الدولة العثمانية. وهذه الحادثة تشبه كثيرًا إعلان الروسيا الحرب على النمسا عندما ساقت النمسا جيشها على السرب في أول الحرب العامة، أي أن الروسيا كانت دائمًا ترى نفسها مرجعًا للأمم السلاقية، ولاسيما الأمم السلافية الأرثوذكسية، فأما السلافيون الكاثوليكيون فلم يكونوا يرجعون إليها. فكانت بداية سلطنة عبد الحميد الثاني هي بالحرب مع الروسيا، ونظرًا لكون تاريخ هذه الحرب معلومًا وعليه تأليف كبير بالفرنسية “La Puerre Russo Lurque” فإننا لا نجد لزومًا للتطويل في شأنها، ولا للإسهاب في تاريخ سلطنة عبد الحميد، لأن حوادث أيامه معروفة مشهورة وقد كتب عنها بكل اللغات. فالحرب الروسية التركية جاءت وبالا على الدولة إذ أن الروسية في القرن الأخير قد نمت نموًا زائدًا قصار عدد سكانها يفوق عدد سكان السلطنة العثمانية أربع مرات بالأقل، وكانت البلاد البلقانية من سرب وبلغار وفلاخيين وأروام يدًا واحدة مع الروسيا، ولم تكن هذه الأسباب وحدها كافية للفشل الذي حل بالجيش العثماني، بل حصل خطأ كثير في التدبير العسكري، وكانت لوازم الجيش ناقصة كما هو شأن الدولة في حروبها في العهد الأخير، وتدخل السلطان كثيرًا في أمور الحرب بدون معرفة. وخلاصة القول أن الروس عبروا نهر الطونة وتقدموا ظافرين وصار الجيش العثماني بقيادة السردار عبد الكريم باشا يرجع إلى الوراء وكادت الحرب تنتهي بفشل تام للعثمانيين، وإذا بعثمان باشا قاهر السرب جاء ودخل في قلعة بلافنة واعتصم بها، فجمع الروس جيوشهم وصمدوا إليه فكسرهم كسرة شنيعة فأعادوا الكرة عليه أولًا وثانيًا وفي كل مرة كان يهزمهم، وفي إحدى المرار فقدوا خمسة عشر ألف عسكري، ورجعت الحرب تبشر بحسن مآل العثمانيين، ولكن عثمان باشا لم يبق عنده وهو محصور من كل الجهات ذخائر تساعده على الثبات، وجاء قيصر الروسيا إسكندر الثاني بنفسه واستصرخ إمارة رومانيا — أي الفلاخ — ومولدافيا وذلك باسم النصرانية قائلًا: إنها كلمة تحت الخطر، فأنجده الرومانيون بسبعين ألف عسكري انضافت هذه إلى الجيش الروسي المحاصر لعثمان باشا في بلافته. ومع هذا فلولا نفاد الذخيرة لم تكن تلك الجيوش كلها لتتغلب على عثمان باشا، وفي آخر وقعة أراد عثمان باشا أن يخرق جيوش الروس برغم كثافتها وينفذ إلى الخارج، فوقع جريحًا فاضطر إلى النكوص نحو بلافنه. وعرض على إمبراطوا الروسيا الاستسلام، ولما دخل عليه وأراد أن يسلمه سيفه كما هي عادة كل المستسلمين قال له الإمبراطور: إن قائدًا مثلك يحق له أن يبقى سيفه معه، وبالغ القيصر في إكرمه.

وبعد تسليم بلافنه زخفت جيوش الروس إلى الأستانة واحتلت أدرنة، ووصلت إلى سان استفانوا؛ وكان العثمانيون قد أعدوا جيشًا للدفاع عن الأستانة إلا أنهم كانوا يخشون أن تدور عليهم الدائرة بكثرة جيوش الروس، فأما من جهة القوقاس فكان القائد الكبير أحمد مختار باشا الغازي قد انتصر على الروس في وقعة «كدكلر» وتقدم إلى الأمام، ولكن الروس عادوا فتغبلوا عليه بتفوقهم في العدد، وكان درويش باشا قائد الجيش العثماني المرابط في باطوم تحت الحصار، فهاجمه الروس مرارًا فدحر جميع مهاجماتهم، وانتهت الحرب وباطوم في يده، هذا وعند ما وصل الغراندوق تقولا إلى سان استفا وطلب السلطان عبد الحميد الصلح، فاشترطت الروسيا شروطًا ثقيلة جدًا التزمت الدولة العثمانية أن تقبلها خوفًا على الأستانة من السقوط، إلا أن الإنجليز وجدوا الصلح على هذه الشروط عبارة عن استيلاء الروسيا القريب على سلطنة آل عثمان ووصولهم إلى البحر المتوسط، فاعترضوا الروسيا ودخل أسطولهم إلى الأستانة وأجبروا الروس على تمزيق المعاهدة، وفاوضوا الدول السبع في عقد معاهدة ثانية بدلًا عن معاهدة «سان استفانو». فتقرر عقد مؤتمر برلين المشهور، واتفقت الدول هناك على أن تكون إمارة رومانيا مملكة مستقلة تمامًا عن السلطنة العثمانية، وأن تستقل تمامًا أيضًا إمارة السرب ويسمى أميرها «ميلان أونوفتش» ملكًا عليها، وأن يستقل الجبل الأسود ويعطي قسمًا من بلاد الأرناؤوط، وأن تضاف تساليًا وأبيروس إلى اليونان، وأن تكون بلاد البلغار إمارة تحت سيادة السلطان ويليها ولاية ممتازة.

ومن جهة آسيا تضاف قارص وأردهان وباطوم وتوابعها إلى الروسيا؛ وأن تدفع الدولة العثمانية غرامة حربية وتعويضات لتجار الروس الذين لحقتهم خسائر بسبب تدمير الأسطول العثماني لسواحل الروسيا، وهذا هو مجمل معاهدة برلين، وبعد ذلك اتفقت الدولة على إنجلترا على أن تتخلى لها عن التخلي تعهدت إنجلترا للدولة بأنه إن تجاوزت الروسيا على حدود تركيا من جهة آسيا تكون إنجلترا مساعدة لها ثم تقرر بموجب «معاهدة برلين» هذه أن تحتل النمسا ولايتي بوسنة والهرسك احتالًا مؤقتًا، ولما دخلت الجيوش النمساوية هاتين الولايتين ثار في وجهها مسلمو تلك البلاد وبقيت المعارك بين الفريقين مدة أربعة أشهر، ولم يساعدهم الأهالي السربيون في شيء بل انحصرت المقاومة في المسلمين. وكذلك ثار الأرناؤوط في وجه الجبل الأسود وأبوا أن يلتحق من بلادهم شيء بحكومة الجبل المذكور. وكان الشركس والطاغنسطانيون ثروا على الروس في أثناء الحرب بين الدولة والروسيا، فلما انكسرت الدولة هاجر منهم مئات آلوف إلى الأناضول. وبعد مضي عدة سنوات على معاهدة برلين شن إسكندر أمير البلغار الغارة على ولاية الرومللي الشرقية، وألحقها بامارة البلغار، فصارت الولايتان واحدًا، وفكر السلطان عبد الحميد في سوق جيش لإرجاع الشيء إلى ما كان عليه، إلا أن كامل باشا أشار بعدم الحروب، وبإقرار هذه المسألة، فأعجب رأيه السلطان وجعله صدرًا أعظم.

ولما رأت فرنسا ما حل بالدولة العثمانية من النصف أرادت أن تستغل ضعفها بالاستيلاء على تونس، فلم يصعب عليها أن توجد لذلك سببًا، وشنت الغارة على توس، وأجبرت باي تونس محمد الصادق على إمضاء معاهدة تضمن لتونس استقلالًا الداخلي تحت حماية فرنسا، وكان ذلك سنة ١٨٧٩ واحتجت الدولة على ذلك ولكنها لم تقدر على محاربة فرنسا من أجل تونس، وزعمت فرنسا بأنه جاء وقت على تونس لم يكن فيه للباب العالي عليها إلا بسيادة إسمية، وثار بعض الأهالي والجند التونسي بقيادة بن علي خليفة ولكن لعدم تكافؤ القوتين انتهت الثورة بتغلب الفرنسيس كما حصل في الجزائر من قبل ولو لم تحتل فرنسا بلدة الجزائر لم تكن لتستولى على المغرب الأوسط كله العملات الثلاث؛ الجزائر، ووهران، وقسنطين، ثم إنه بقيت فرنسا خمسين سنة تقاتل أهل الجزائر حتى أدخلتهم في الطاعة. فلما انتهت منهم بدأت تفكر في الاستيلاء على تونس، ولما انهت من خطب تونس بدأت تفكر في الاستيلاء على المغرب الأقصى، ولما رأت إيطاليا أن فرنسا استأثرت بهذه الممالك الثلاث من دونها اعترضت على فرنسا من جهة، واعترضت على النكترا من جهة أخرى وقالت لهما: إنكما تقاسمتما قارة أفريقيا، فمصر والسودان لإنجلترا، وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وأواسط أفريقيا لفرنسا، ولم تدعا لإيطاليا شيئًا. فانفقت هذه الدول الثالث على أن تكون لإيطاليا ولاية طرابلس مع برقة، ومن هنا جاءت حرب طرابلس، وهكذا الاستعمار سلسلة أخذ بعضها برقاب بعض. ومن تساهل في أمر ملكه في البداية خوفًا من شر أعظم فإنه لا يلبث أن يقع في أعظم من الشر الذي تفاداه. وكذلك احتلال الإنجليز لمصر كان نتيجة وقوع تركيا في الضعف الذي كانت الروسيا هي السبب فيه.

وإذا نظرنا إلى حروب الروسيا نجد أنها كانت تقدم رجالها وأموالها، وتنفق النفائس والأنفس في سبيل غيرها، فاستقلال اليونان، والجبل الأسود، والسرب والبلغار، والرومانيين واحتلال النمسا للبوسنة والهرسك، واستيلاء فرنسا على تونس واحتلال الإنجليز لوادي النيل والسودان، واحتلال بريطانيا للاريتري ثم لطرابلس وبسط إنجلترا حمايتها على لحج وحضرموت، وظفار، وسلطنة عمان، وجزيرة البحرين، ومدينة الكويت، ونزولها في جزيرة قبرص، كل ذلك كان من نتائج الضعف الذي أوقعته الروسيا بتركيا، فالروسيا كانت تطبخ والآخرين كانوا يأكلون.

وفي زمن السلطان عبد الحميد وقعت الحادثة الجلى وهي احتلال الإنجليز لمصر وبسببها نفر السلطان من إنجلترا نفورًا شديدًا، وصار الإنجليز يعملون بكل الوسائل لهدم بنيان السلطان العثمانية. وقد تقدم لنا في هذا التاريخ أن عيون الإنجليز كانت طامحة إلى مصر منذ قرون، وأنها على آثر خروج الفرنسيس من مصر أرادوا أن يستأثروا هم بها، ولكن محمد علي لم يكن كالمماليك، فأجبر الإنجليز على الخروج من مصر وبقيت إنجلترا تترصد الفرصة لاحتلال وادي النيل في أول فرصة، لاسيما بعد فتح برزخ السويس الذي جعل طريق الهند على مصر.

وكأن إنجلترا استأجرت قبرص من الدول العثمانية لتكون لها قاعدة بحرية في وجه مصر، وقد حدث أن الجيش المصري كان فيه عنصران؛ أحدهما عربي مصري والآخر تركي وشركسي، فحصل خلاف بين العنصرين لم يعرف العقلاء أن يتداركوه ولا حسبوا حسابًا للعواقب، فنشأ عن هذا الخلاف حزب وطني مصري ترأسه الميرالاي «أحمد عرابي» وصار هذا الحزب يطالب بحقوق المصريين الاقحاح ووقف موقفًا مناوثًا للخديوي توفيق باشا. فشعر الإنجليز بأن هناك حركة يمكنهم أن يستفيدوا منها، فأخذوا يتدخلون فيها بحجة أن لهم مصالح مالية في مصر يخشون عليها، وكانت أمنيتهم القديمة وهي الاستيلاء على الديار المصرية. فأعملوا في هذا الموضوع جميع الدسائس التي اشتهروا بها، ولم تكن شهرتهم فيها بدون أساس. فأخذ الحزب الوطني ينمو تحت رعاية عرابي ومحمود سامي وغيرهما من الزعماء، وانقلب عن أصله فبدلًا من أن يكون منحصرًا في دائرة ضيقة مناوئًا للآتراك والشركسي، أصبح حزبًا هدفه الأسمى كسر نفوذ الأوروبيين في مصر، لأن نفوذهم كان بلغ في زمن إسماعيل باشا مبلغًا لا يكاد يتصوره العقل، فإن إسماعيل وضع نصب عينه إدخال مصر في المدنية العصرية الأوروبية، وظن أن من لوازم هذا المبدأ ترغيب الأوروبيين في السكنى بمصر وتمييزهم على الأهالي في كل شيء، فانتهى الأمر بأن أصبح الأهالي في حكم العبيد للأجانب.

فلما تألف هذا الحزب الوطني نظر إلى حالة البلاد فوجدها أصبحت لا تطلق من جهة النفوذ الأوروبي، فترك مناوأة الترك والشركس واتحد معهم على مناوأة الإفرنج، وأخذ الإنجليز يشعلون النار حتى يحدثوا ثورة من المصريين على الأوروبيين وكان السلطان عبد الحميد قد ارتكب هو وأعوانه خطأ كبيرًا ساعد الإنجليز في الوصول إلى مرامهم، وذلك أنه أخذ يقوي الحركة العرابية بطريق غير مباشر على أمل إسقاط الخديوي توفيق وعائلة محمد علي كلها، وإعادة مصر ولاية عثمانية كسائر الولايات، وكان هذا رأيًا سقيمًا جدًا. إذ لا يعقل أن الدولة بمكانها من الضعف وكثرة المشكلات والخطوب تفتح على نفسها أبوابًا كهذه يتعذر عليها سدها فيما بعد وتجعل العائلة الخديوية ضد الدولة أحوج ما كان الفريقين إلى الوئام لما هناك من الخطر الأجنبي على الاثنين، ثم إنه لما شعر الأجانب بأن الحركة العرابية منظور إليها بعين الرضا في الأستانة، طلبوا من السلطان أن يصدر فرمانًا بعصيان عرابي باشا ولم يسعه إلا إجابة طلبهم فبعد أن كانت سياسة الأستانة مشجعة للعرابيين على العصيان رجعت تحت الضغط الأجنبي إلى تقوية الخديوي وكسر نفوذ العرابيين بحيث انفض عنهم كثيرون بحجة أن السلطان الخليفة أعلن عصيانه.

ومع هذا فبقيت الثورة تمتد وتشتد حتى جرت مذبحة الإسكندرية، وذهب فيها كثير من الأجانب، وانتشرت الفوضى في البلاد، وهذا الذي كانت إنجلترا تتمناه حتى تدخل من هذا الباب وهو حماية أرواح الأجانب، وبالفعل دخلت منه وجاء الأسطول الإنجليزي فضرب الإسكندرية ودمر قلاعها بالقنابر، ثم بعد تدميرها نزلت العساكر الإنجليزية إلى البلدة، ثم وقعت الحرب بين الإنجليز والعرابيين وكان الإنجليز في ظاهر الحال يحاربون باسم الخديوي والسلطة الشرعية.

وانقسم الناس في مصر إلى قسمين، منهم من استمسك بالخديوي وقاوم العرابيين بحجة أنهم خارجون عن السلطة الشرعية.

ومنهم من انحاز إلى العرابيين بحجة أنهم المدافعون عن الوطن، وحشد العرابيون جيشًا في التل الكبير وصمموا على المقاومة هناك فزحف إليهم الإنجليز وبددوا شملهم في أقل من ساعتين، ثم سارت العساكر الإنجليزية ودخلت القاهرة، وكل هذا بزعمهم على نية تأييد الخديوي، والرجوع من حيث أتوا، ولبث الجيش الإنجليزي مدة من الزمن في مصر بحجة توطيد سلطة الخديوي المتزعزعة، فكلما طالبت الدولة الإنجليز بالجلاء عن مصر كان جوابهم إن هذا يكون بعد توطيد الأمن، وتمكين الخديوي وكيل السلطان الشرعي. ثم أنهم عقدوا مجالس عسكرية، وحاكموا العرابيين، ونفوا عرابي باشا ومحمود سامي باشا وعددا من الباشوات إلى جزيرة سيلان في الهند، كما أنهم نفوا عددًا من الضبط الكبار إلى بيروت، ونفوا أيضًا معهم إليها الشيخ محمد عبده، وإبراهيم اللقاني وغيرهما من الوطنيين أصحاب الأقلام، وطال مكث الإنجليز في مصر والباب العالي يعترض عليهم ويطلب جلاءهم بحسب وعدهم، حتى أنهم أحصوا مواعيده الرسمية بالجلاء فبلغت اثنين وستين وعدًا نكثوا بها كلها! وكان احتال الإنجليز لوادي النيل سنة ١٨٨٢ وبعد أخذ ورد طويلين بين إنجلترا والباب العالي وصل الفريقان إلى اتفاق على الجلاء اشترطت فيه إنجلترا حق احتلالها لمصر فيما إذا تجددت فيها حوادث مخلة بالأمن، أو وقائع ذات خطر على حياة الأوروبيين، وكاد السلطان عبد الحميد يوقع على هذا الاتفاق، إلا أن فرنسا ألحت عليه برفضه فامتنع في آخر ساعة من التوقيع عليه.

وكان مراد فرنسا الحقيقيأن تفق هي رأسًا مع إنجلترا فتترك منازعتها على مصر بمقاببلة تخلي إنجلترا عن منازعتها إياها على مراكش، وهكذا تم بينهما فيما بعد وأصبحت إنجلترة في مصر لا ينازعها سوى الدولة العثمانية التي كانت مشكلاتها الكثيرة وعداوتها مع الروسيا تقيدها تقييدًا شديدًا عن الاندفاع في عداوة إنجلترا. وأما فرنسا فبطل اعتراضها على إنجلترا في احتلال مصر بمقابلة سكوت إنكتلرة عن احتلال فرنسا للمغرب.

وبقيت الحال على غير استواء بين إنجلترا والدولة العثمانية مدة سلطنة عبد الحميد كلها، وذلك كله بسبب مصر، وكان السلطان قد أرسل إلى مصر الغازي مختار باشا مندوبًا من قبله لملاحظة مصالح الدولة، وكان المصريون يجلون مختار باشا مزيد الإجلال باعتبار تمثيله للسلطان الخليفة، وأيضًا بسبب كونه في نفسه قائدًا عظيمًا، وعالمًا كبيرًا، ولكن الإنجليز لم يجعلوا له سبيلًا لأي تدخل في أمور مصر، ووضعوا هناك مسيطرًا على مصر السر «افلين بارنغ» الذي لقبوه فيما بعد «باللورد كرومر». وكان هذا الرجل شديد الغطرسة، متكبرًا فظًا، وله عداوة خاصة للإسلام، فتصرف بأمور مصر كما لو كانت إحدى مستعمرات إنجلترا، وفي زمانه ثار السودانيون تحت قيادة محمد أحمد الذي لقب نفسه «بالمهدي» فقالوا له المتمهدي، وانفضوا على المعسكر المصري الإنجليزي الذي كان يقوده «غوردون باشا» فاستأصلوه، وكان عدده عشرة آلاف جندي. واستولى المهدي على السودان وانقطع الحكم الإنجليزي المصري من هناك، ومات المهدي فخله «التعابشي» وكان هذا ظالمًا عاتيًا جبارًا، فأسرف في سفك الدماء، وأفنى كثيرًا من الخلق فتغيرت عليه قلوب الأهالي وصاروا يريدون التخلص منه.

وفي ذلك الوقت قرر الإنجليز استرجاع السودان، فجهزوا جيشًا مصريًا عهدوا بقيادته إلى ضباط منهم، وأنفقوا على الحملة من خزانة مصر، وفتحوا السودان ولكن بدلًا من أن يردوه إلى مصر كما كان جعلوا الحكم مشتركًا بينهم وبين المصريين — بزعمهم — والحقيقة أنهم جعلوا شركة لمصر بالاسم فقط، وبرفع العلم المصري، وقبضوا على كل شيء، وتصرفوا بكل شيء كما يشاؤن. وهم الذين أذنوا لإيطاليا في احتلال مصوع، وعصب، والاستيلاء على بلاد عثمانية واسعة كانت تحت إدارة الحكومة المصرية، ولما احتل الإنجليز مصر كانت الحكومة المصرية تدير من قبل الدولة شمالي بلاد الحجاز، ففي الحال فطن والي الحجاز لمغبة هذا الأمر، وأخرج قضاء الوجه من تحت الإدارة المصرية.

ولكنه بقي في يد مصر القسم الأكبر من شبه جزيرة سينا، فأراد العثمانيون إجراء تحصينات في القلاع التي إلى الغرب من العقبة، فاعترضت إنجلترا على الدولة في ذلك، فأصر السلطان على التصرف ببلاده بحجة أنها بأجمعها بلاد عثمانية، فاستبد الإنجليز في هذه المسألة استبدادًا شنيعًا، وأنذروا الدولة بالحرب. وكأن مصر أصبحت في نظرهم من جملة الإمبراطورية البريطانية، فازداد السلطان عبد الحميد شنآنا لبريطانيا العظمى، وكان ذلك من جملة أسباب موالاته لألمانيا. وانعقدت بينه وبين الإمبراطور غليوم الثاني مودة أكيدة صارت تزداد بمرور الأيام، وعول السلطان على ألمانيا في تدريب جيشه، واستدعى «فون غولتس» من قواد ألمانيا ليكون على رأس المدرسة العسكرية في الأستانة واستجاد غيره من أهل العلم والصنعة في ألمانيا واستخدمهم في حكومته. وكان يرسل كل سنة عددًا كبيرًا من الطلبة إلى ألمانيا، وبقي السلطان عبد الحميد صديقًا للإمبراطور غليوم إلى نهاية ملكه.

ولما أعلن الدستور العثماني وصار الأمر إلى جمعية الاتحاد والترقي، ظن رجال هذه الجمعية أنهم يتركون صداقة ألمانيا التي كانت تعتمد على السلطان عبد الحميد وتنال بواسطته الامتيازات في تركيا، ومن جملتها سكة حديد بغداد، رأوا أن يرجعوا إلى صداقة إنجلترا، وأخذوا يتزلفون إلى هذه ويذكرونها بالصحبة القديمة يوم كانت إنجلترا تساعد العثمانيين على الروس، ويوم كان السلطان عبد الحميد في ثورة الهند الكبرى يخاطب مسلمي الهند ناصحًا لهم بعدم الاشتراك مع الهنادك في محاربة الإنجليز، إلا أن المسألة المصرية منعت كل تقارب بين العثمانيين والإنجليز وما مضت ثلاثة أشهر على حكم الاتحاديين في تركيا حتى رجع الاتحاديون وأدركوا أن لا أمل في عطف الإنجليز وعادوا أصدقاء لألمانيا كما كان السلطان عبد الحميد وبقيت الأحوال بين تركيا وإنجلترا مشربة بروح العداوة إلى الحرب العامة أي كانت قد بدأت العداوة بين إنجلترا وتركيا من سنة ١٨٨٢، لأجل مصر واستمرت إلى ١٩١٤ أي إلى سنة الحرب العامة وهي مدة اثنتى وثلاثين سنة. وذلك كله بسبب احتلال الإنجليز لمصر والسودان وتوابعهما. ثم خاضت الدولة غمرات الحرب العامة إلى جانب ألمانيا نفورًا من انجلترة، ولما بدأت الحرب الكبرى وحاولت دول الحلفاء الروسيا وفرنسا وانجلترة إقناع الدولة العثمانية باجتناب الحرب، كان أول شرط اقترحه رجال الدولة هو إخلاء الإنجليز لمصر، وكان الأتراك مستعدين أن يقبلوا التحالف مع الإنجليز إذا أراد هؤلاء إخلاء مصر، فلم يقبل الإنجليز أن يسمعوا كلمة واحدة في هذا الموضوع.

وعندما دخلت الدولة في الحرب العامة أعلنت انجلترة الحماية على مصر، وخلعت الخديوي عباس حلمي المنصوب بفرمان سلطاني، ونصبت عمه الأمير حسين بن إسماعيل سلطانًا على مصر، وأرادت تجنيد جيش من المصريين لقتال الأتراك فاعترض على ذلك السلطان حسين نفسه لأنه كان وطنيًا صادقًا، ورضي بعض زعماء مصر بالدخول في الحرب إلى جانب انجلترة على شريطة أن انجلترة تعترف باستقلال مصر وتخلي وادي النيل فرفضت انجلترة هذا الطلب أيضًا وأصرت على إرادتها وساقت من المصريين عشرات الألوف استخدمتهم في جيوشها، وتصرفت برجال مصر وأحوال مصر كما تتصرف بالهند أو بغيرها من المستعمرات الإنجليزية.

وكانت انجلترة لا تفكر أصلًا أن تلقي شيئًا من القوة الحيوية التي ظهرت من السلطنة العثمانية في أيام الحرب الكبرى، ولكن عندما حمى الوطيس ورأت دول الحلفاء ما رأته من قوة تركيا، وعظمة المقام الذي قامته بجانب ألمانيا، علمت خطل رأيها وكونها استخفت بتركيا استخفافًا دلت الحوادث على أنه لم يكن في محله. ففكر قواد الإنجليز في اختراق الدردنيل والاستيلاء على الأستانة، وعبأ الخلفاء جيشًا جرارًا وأرسلوا أساطيلهم وحاولوا عبور مضيق الدردنيل، فقاتلهم العثمانيون قتالًا شديدًا وأغرقوا جانبًا من بوارجهم، فأتوا بجيوش أخرى وأنزلوها في البر وحاولوا التقدم إلى الأمام، فصادمهم الترك بشدة استبسلوا فيها إلى أقصى ما يتصور العقل. واستمرت حرب الدردنيل هذه ثمانية أشهر والحلفاء يكرون والعثمانيون يصدونهم إلى أن قطع الحلفاء كل أمل من الفوز وركبوا بوارجهم خائبين، وقد فقدوا بين قتيل وجريح ثلاث مئة وخمسة وعشرين ألف جندي حسبما قرأت في وثائق الحرب الكبرى المطبوعة في باريز، وفيها أن هذا العدد هو خسائر الجنود البرية، ولم يدخل فيه عدة آلاف من خسائر الأساطيل، وقد جاء في هذا الكتاب أن بعض البوارج التي أغرقها العثمانيون بمدافعهم لم ينج من بحريتها إلا عشرون جنديًا لا غير، وقد كانت حرب الدردنيل هذه هي ألمع صفحة من تاريخ العثمانيين في الحرب الكبرى، كما كانت حرب بلفنة ألمع صفحة في تاريخ الحرب الروسية التركية. وتعدل خسائر العثمانيين في حرب الدردنيل بمئتي ألف مقاتل بين قتيل وجريح.

ولما رأت انجلترة بعينها أن حسبانها من جهة تركيا وقوة مقاومتها كان أكثره خطأ، عادت ففكرت في فصل العرب عن الترك حتى تشغل العثمانيين بعضهم ببعض.

وقد كان الشريف حسين بن علي، أمير مكة قبيل الحرب الكبرى داخل الإنجليز في عقد محالفة معهم على أن يثور على الدولة وتمده إنجلترا بالمال والسلاح على أن تستقل البلاد العربية وتنفصل عن تركيا، فرفضت انجلترة اقتراح أمير مكة هذا استخفافًا بالقوة العربية، واعتمادًا على أنها لا تحتاج إلى العرب في القضاء على تركيا إذا نشبت الحرب، وكان معلومًا أن الحرب العامة ستقع لا محالة، لذلك اتفق الإنجليز والفرنسيس على اقتسام سورية وفلسطين منذ سنة ١٩١٢، أي قبل الحرب العامة بسنتين. وهذا من أوضح الدلائل على كون دول الحلفاء كانت تتأهب لقتال ألمانيا ولاقتسام تركيا بعد تغلبهم على ألمانيا، وأيضًا يستدل على تلك النية التي كانت عندهن بأن تركيا في أول الحرب العامة عند ما صار الحلفاء يراودونها على عدم الدخول في الحرب أجابتهم بأنها لا تقدر أن تبقى على الحياد التام خوفًا من أن يتفق الجميع عليها ويتصالحوا على ظهرها، فهي إن لم تدخل في الحرب إلى جانب ألمانيا، فلابد لها من الدخول في الحرب إلى جانب الحلفاء تحت محالفة تعقد بينهم وبين تركيا. فرفضت انجلترة هذا الاقتراح، ولم تجد من حاجة إلى عقد محالفة مع تركيا قد تمنعها فيما بعد من الاستيلاء على البلاد العربية. وهذا مثل رفضها للتحالف مع مصر وللسبب نفسه وكذلك مثل رفضها للتحالف مع إيران وللسبب نفسه، أي حتى لا تضطر إلى الاعتراف باستقلال هذه الممالك الإسلامية التي كان الإنجليز وضعوا نصب أعينهم القضاء عليها.

ونعود إلى أخبار السلطان عبد الحميد فنقول: إن من أهم الحوادث التي جرت في أيام هذا السلطان هو فتنة الأرمن، وهذه الفتنة أساسها أن الأرمن كانت لهم في الأعصر القديمة دولة، وكان لهم استقلال، وكانت مملكتهم واقعة في شرقي الأناضول بين المملكة البيزنطية والمملكة الفارسية، ولما استولى الأتراك على تلك البلاد في أيام الأتراك السلاجقة، وبعد واقعة ملازكرد التي وقع فيها قيصر القسطنطينية أسيرًا رحل منهم جانب إلى غربي الأناضول، وأقاموا في جبال طوروس وفي سهول كيليكية. وكانت لهم هناك إمارات لعبت أدوارًا في الحروب الصليبية، وسواء كانوا في شرق الأناضول أو في غربيه، لم تكن لهم أكثرية عدد بالنسبة إلى السكان المسلمين. وإذا وجدت منهم جماعة في مقاطعة صغيرة كانت أكثر من غيرها فلم يكن ذلك ليقيم لهم ملكًا مستقلًا، وقد كانت الدولة العثمانية أحصت عددهم في جميع بلادها فكانوا لا يزيدون على ثلاثة ملايين مبعثرة ما بين خمسة وعشرين إلى ثلاثين مليونًا من الأمم الأخرى. ففي بعض الولايات كانوا خمسة في المئة، وفي بعضها عشرة في المئة.

وأكثر الولايات سكانًا من الأرمن كانت ولايات موش، وبتلس، في شرقي الأناضول وكانوا هناك خمسة وثلاثين في المئة، وبرغم هذا كله كانوا يزعمون أن لهم حقًا في الاستقلال كما استقل اليونان، والبلغار، والسربيون، والفلاخيون وغيرهم من الأمم المسيحية التي كانت خاضعة لسلطنة آل عثمان. ولكن هذا قياس مع الفارق، فإن الفلاخيين والبغدانيين كانوا عدة ملايين من أمة واحدة، وعلى حدود الروسيا ولم يكن بينهم إلا مئتان أو ثلاث مئة ألف من الترك، وإن السربيين كانوا مليوني نسمة، وليس بينهم سوى بضعة عشر ألف مسلم. وكذلك البلغار كانوا خمسة ملايين وليس بينهم سوى مليون من الأتراك، وكان اليونان من قبل أكثر من مليون في بلادهم وليس بينهم إلا مائتان أو ثلاث مئة ألف من المسلمين. فلذلك تيسر لهذه الأمم أن تقوم وتدعي الاستقلال، وتقاتل الدولة العثمانية قتالًا لم يكن يخمد حتى يشتعل، واستمر ذلك مئات من السنين، فانتهى الأمر بانسلاخ هذه الأقوام عن السلطنة العثمانية بمساعدة أوروبا.

فأما الأرمن فلم يكونوا في أوروبا مثل اليونان، ولا البلغار، ولا السرب، ولا الرومانيين، ولم يكونوا مجتمعين في ولاية واحدة حتى تتألف منهم كتلة تستحق الاستقلال، وإنما كانوا مشتتين في جميع ولايات السلطنة، وكانوا في كل مكان هم الأقلية، ولم يكن سائر السكان من أتراك وأكراد يقبلون الخضوع للأرمن. فلهذا كان ادعاؤهم الاستقلال غير وارد ولا من جهة، وكان بينه وبين إمكانه فعلًا بون شاسع. وهذا ما قد كان يدركه قدماء الأرمن، فلذلك كانوا وطنوا أنفسهم على الارتباط بالدولة العثمانية التي كانت تعتمد عليهم، وتستخدم كثيرًا منهم حتى في المناصب العالية. وفي ظلها نما عددهم، وازدادت ثروتهم، ولما كانوا هم أهل جد ونشاط، وإقدام على الأعمال، كان كثير من مرافق السلطنة في أيديهم، وأينما توجه الإنسان في البلاد العثمانية كان يجد على الأرمن آثار النعم. وكانت الدولة تثق بهم وكان الأتراك يخلطونهم بأنفسهم، ويسمون الأرمن «الملة الصادقة».

واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن بدأ الضعف في السلطنة العثمانية، فصار الأرمن يرفعون رؤوسهم وينتهزون الفرص من خطوب الدولة ليطالبوا بتجديد ملكهم القديم، وإن كانت قد درست معالم ذلك الملك، وكانوا هم تفرقوا شذر مذر وزاد هذا الادعاء عندهم أنهم أخذوا يرسلون أولادهم لتحصيل العلم في أوروبا وأمريكا فجميع هؤلاء الشبان الذين كانوا يتعلمون في الديار الأوروبية والأمريكية كانوا يعودون متشبعين بأفكار الانفصال عن الدولة العثمانية، وكان الأوروبيون بواسطة رسالاتهم الدينية الكثيرة يذهبون إلى الديار التي فيها أرمن من تركيا ويفتحون المدارس والملاجئ، وكان جميع من يتعلم في هذه المدارس الأوروبية يخرج كارهًا للدولة، عدوًا للمسلمين، وذلك بسبب المبادئ التي كان الأوروبيون — ولاسيما الأقسة والمبشرون — يرضعونهم إياها من الصغر. فأهم عوامل الشقاق الذي وقع بين الأرمن وبين سائر الرعية العثمانية، كان هو التعليم في مدراس الأوروبيين، فأصبح غير ممكن تساكن الجنسين بعضهم مع بعض، وظهرت عند الأرمن نزعات شيطانية، ونزعات عدوانية تخالف ما كان عند آبائهم بتمامه، فلم يلبث أن وقع الاصطدام بينهم وبين المسلمين ودارت الدائرة على الدولة في الحرب التركية الروسية.

طلب الأرمن من الدول الأوروبية استقلالًا داخليًا للبلاد التي في شرقي الأناضول على أمل أن يجددوا هناك مملكة أرمينية القديمة، وبديهي أن الدول في مؤتمر برلين أمكنها أن تفصل الولايات الأوروبية التي كانت للدولة بسبب كثرة المسيحيين فيها، وقلة المسلمين الذين يساكنونهم، ولكنها لم تقدر أن تفصل الأرمن عن حكم الدولة العثمانية نظرًا لقلة عددهم بالنسبة إلى من يساكنهم من المسلمين، فقررت اقتراح بعض إصلاحات إدارية في البلاد التي فيها أرمن، ولما كانت هذه الإصلاحات ليست هي مرمى الأرمن الحقيقي سواء أنفذها الأتراك أو لم ينفذوها، لم تكن هذه المسالة لتشفي للأرمن غليلًا.

فمن ذلك الوقت شرعوا يعدون معدات الثورة ويتحفزون للقيام على الدولة حتى ينالوا ما يريدونه بالثورة، فأخذوا بتشكيل جمعيات سرية جعلوا مركزها في أوروبا وهي ذات شعب وفروع في جميع البلاد التي فيها أرمن، فكان المركز الأرمني بالوسائل الكثيرة التي له، بجمع الأموال من الأوروبيين ومن الأرمن الموسرين، ويقرر الأعمال ويرسم الخطط والحركات، ويشتري الأسلحة ويعين متطوعين فدائية يفادون بأنفسهم في سبيل مصلحة أمتهم.

وهكذا جعلوا حركة الانتقاض على الدولة تكاد تكون عامة، لاسيما بين النشء الجديد، وكانوا إذا رأوا من أبناء قومهم من لا يريد أن يسايرهم في طريقهم إما اقتناعًا بفساد عملهم، أو خوفًا من سطوة الدولة، بطشوا به وعدوه خائنًا، كانوا يستحلون دمه وقد قتلوا من هذا النمط عددًا غير قليل منهم، وكانوا يعلمون أحاثهم أسماء ملوك الأرمن القدماء، ويذكرون أسماء قديسي الأرمن في الكنائس ليثيروا في رؤوس الشبان الحمية الأرمنية، ويحيوا تذكار الملك الأرمني القديم. وكل هذا تحملته الدولة العثمانية مدة طويلة، ولكنها في الآخر رأت أن رعيتها الملمسين لن يستطيعوا على هذه الأحوال صبرًا، فأمرت بإقفال بعض مدارس كانت تلقى فيها بعض التعاليم الثورية، فثار الأرمن بسبب إقفال هذه المدارس، وقاموا بحركة عصيان، وكان الأتراك والأكراد قد امتلأت صدورهم وغرًا منهم فحصلت حوادث وسالت دماء في ولاية أرضروم، وموش، فجاء الأرمن يشكون إلى الدولة وقامت قيامتهم في الأستانة وطلبوا من بطريركهم عشقيان أفندي أن يراجع السلطان في الاقتصاص من المسلمين الذين حملوا على الأرمن.

ولما وجودوا من عشقيان أفندي فتورًا في المراجعة هجموا عليه وهو في كنيسة «قوم قبو» وحاولوا قتله ففر من بين أيديهم وتوارى ريثما جاءت الشرطة فقبضت على الثائرين وألقوا عددًا كبيرًا من شبان الأرمن في غيابات السجون. وكانت تشكلت في استانبول لجنة أرمنية ثورية اسمها «اللجنة الحمراء» يديرها أرمني من التبعة الروسية اسمه «آغوب بدريكوف» وأخذت هذه الجمعية السرية تفتك بالأرمن الذين كانوا لا يوافقون على الثورة فقبضت السلطة على بدريكوف هذا وحكمت عليه المحاكم بالقتل، ولكن السلطان عفا عنه وسلمه إلى سفارة الرسيا على شرط إخراجه من الأستانة وخرج، ولكن اغتيال الأرمن الصادقين للدولة بقى مستمرًا، وكانت هذه الوقائع سنة ١٨٩٠.

ثم إن جمعيات الأرمن لاسيما التي يقال لا «هيكان» ازداد جرأة وأخذت تبث حركة العصيان في الأناضول فاشتعلت الفتنة في سيواس، وأنقرة، وقونية، وأطنة وقبضت الدولة على المشاغبين، وأخذت بمحاكمتهم، وأكبر الناس — حتى عقلاء الأرمن أنفسهم — هذه الحركات وأصدر البريرك عشقيان أفندي منشورًا ينصح فيه أمته بالإخلاد إلى السكون وتجنب هذه الحركات المخالفة للأمانة للدولة، ولمصلحة الأرمن أنفسهم. فما مضى على ذلك أيام قلائل حتى أطلق أحد المنسوبين إلى هذه الجمعيات الرصاص على البطريرك وهو في كنيسة قوم قبو، ولكنه أخطأه، فأخذت الحكومة العثمانية تشدد في معاقبة ثوار الأرمن.

وفي أثناء ذلك نجمت بوادر الثورة في جبل يقال له «جبل ساسون» من سنجق موش، في ولاية بتلس. وذلك بأن أهالي هذا الجبل كانوا امتنعوا عن تأدية الضرائب، فأبرق والي بتلس إلى الباب العالي عن عصيان أهالي هذا الجبل، ووجوب تأديبهم. فأرسلت الدولة المشير زكي باشا بقوة من المشاة والخيل والمدفعية فدمروا ديار العصاة، وجعلوا عاليها سافلها. فما وصلت أخبار إيداب الدولة لعصاة الأرمن إلى صحف أوروبا حتى قامت قيامتها، وأخذت تتكلم عن مذابح الأرمن كما هي عادتها كلما ثار ثائر أمة مسيحية على حكومة إسلامية.

وما زالت الصحف الأوروبية تضرب على هذا الوتر حتى أمر السلطان عبد الحميد بإرسال لجنة تحقيق إلى محل الواقعة، ودعا الدول التي هن موقعات على معاهدة برلين أن ترسل معتمدين من قبلها مع اللجنة المذكورة ليشهدوا سير التحقيق، فجرى التحقيق بحضورهم وثبت عصيان الأرمن بشهادات تفوق الإحصاء وأدلة لا تقبل المراء ومع ذلك فقد بقي قناصل الدول فرنسا وإنجلترا والروسيا يدعون أنهم لم يقدروا أن يتصلوا تمام الاتصال بالأهالي حتى يتطلعوا على الحقائق. ثم عندما وجدوا كون هذا العذر واهيًا جعلوا يقولون إنه على فرض وقوع عصيان فلم يكن من العدل أن يتناول العقاب جميع أهالي الناحية والحال أنه قد بطش الأكراد بالًا ومن الذين ثاروا على الدولة وذلك بمرأى ومسمع من العساكر العثمانية، وأخذت الصحف الأوروبية تحت تأثير الكنائس لاسيما في إنجلترا تستفز الدول إلى التدخل لرفع المظالم عن الأرمن ولما كانت إنجلترا تسمع كثيرًا لرؤساء الكنائس في بلادها سعت لدى الدول في التدخل بهذه المسألة فأجابتها فرنسا والروسيا، واتفقت الدول الثلاث على تقديم اقتراحات للسلطان لأجل إصلاح الإدارة في البلاد التي كان الأوروبيون يطلقون عليها اسم «أرمينية» وهي في الحقيقة بلاد الأكراد.

فمن جملة هذه الاقتراحات تعيين مفتش عام لتلك الولايات، وتشكيل لجنة مختلطة دائمة لمراقبة سير الإصلاحات، ويكون مركز اللجنة في الأستانة. فرفض السلطان قبول تشكيل هذه اللجنة الدائمة المختلطة، وعين المشير شاكر باشا مفتشًا عامًا لولايات شرقي الأناضول، فرفضت الدول تعيين هذا المتفش، وأصرت على تعيين مراقبين أوروبيين وجرى بينها وبين السلطان كثير من الأخذ والرد، والسلطان ثابت لا يتزعزع. فخطب اللورد ساليسبوري في مجلس اللوردية خطابًا أنذر به السلطان بسوء المصير إذا لم يقبل نصائح الدول، فاشتد بذلك عزم ثوار الأرمن وقاموا بمظاهرة عظيمة بحجة أنهم يطالبون بتنفيذ الإصلاحات الموعودة، فعند ذلك هجم عوام المسلمين على الأرمن في نفس العاصمة وذبحوا منهم عددًا كبيرًا، لأنهم رأوا الأرمن يتعمدون إثارة الفتنة سبيلًا لإدخال الدول الأوروبية في أمور السلطنة الداخلية. وهذا ما كان يقصده الأرمن فعلًا، وكان يعتقدون أن في ذبحهم فائدة لأنفسهم في المستقبل.

فلما وقع هذا الانتقام من الأرمن، واتهم الأجانب رجال الشركة وناظم باشا ناظر الضبطية بأنهم أغضوا النظر على ذبح الأرمن، وأنهم كانوا يقدرون على منع الشر فلم يمنعوه، أبعد السلطان ناظم باشا عن الأستانة وجعله واليًا على بيروت، وعزل سعيد باشا الصدر الأعظم وجعل مكانه كامل باشا. ثم أصدر خطًا سلطانيًا يتضمن قبول اقتراح الدول وتشكيل مجلس مراقبة لسير الإصلاحات، ولكن خبر ثورة الأرمن والمذبحة التي حلت بهم كان انتشر في ولايات الأناضول وامتلأت صدور المسلمين غيظًا منهم.

وكان للأرمن حينئذ بطريرك اسمه إزميرليان عقد الأرمن به جميع آمالهم، وكانوا يبالغون في مدح مناقبه لأنه كان يقوي عزائمهم، ويجدد روحهم القومية، فازدادت حركتهم نموًا. ولما كان الأرمن غير مقتصرين في حركتهم هذه على البلاد العثمانية بل كانت هذه الحركة ممتدة إلى بلاد القوقاس، فقد تنكر لها رجال الدولة الروسية أيضًا، وسعوا لدى الباب العالي في استبدال بطريك آخر بالبطريرك إزميرليان الذي كانت الروسيا ترى فيه مصدر هذه الحركات، فإنه كان يعارض في إلغاء التعليم الأرمني في القوقاس، والروسيا تأتي إلا التعاليم الروسي وحده، ولما كان طلب الروسيا موافقًا لهوى تركيا، فقد حملت الدولة العثمانية هذا البطرك على الاستقالة فاستعفى في ٢ أغسطس سنة ١٨٩٦ وعين مكانه بطريكا رلتماوس مطران بروسة، فبلغ الأرمن من الحنق لهذا التبديل أن أجمعت جمعياتهم الثورية الهجوم على القصر السلطاني، ووزعوا الأسلحة سرًا على كثير من أعضاء الجمعيات، وعينوا عيد الجلوس موعدًا لهذه الحلة إذ يكون الشعب التركي غافلًا متصرفًا إلى إعداد الزينة بعيد السلطان. فوصل الخبر إلى السلطان بواسطة البطريرك برلتماوس نفسه، ويقال إن الحكومة الروسية هي نفسها أبلغت السلطان خبر هذه المؤامرة لأنها كانت تكره جمعيات الأرمن الثورية وتعلم اتصالهم بحزب النيهيلست الذين كانوا اغتالوا القيصر إسكندر الثاني: فأخذ السلطان حذره وتهيأت الضابطة للتنكيل بثوار الأرمن. وفي ٢٦ أغسطس سنة ١٨٩٦ دخلت عصابة من الأرمن إلى البنك العثماني بغتة ومعهم أكياس ملأى بقنابر الديناميت، وقتلوا الجند المحافظ على البنك، وقصدوا الاستيلاء على خزانة البنك فجاء الجند وأحاطوا بهم من الخارج وصاروا يطلقون النار عليهم وهم يقابلون الجند بالمثل، وشاع في الأستانة أن ثوار الأرمن حاولوا نسف البنك العثماني، فهاج الشعب التركي وصاروا يقتلون الأرمن أينما ثقفوهم، فحصلت مذبحة استمرت ثلاثة أو أربعة أيام فقتل منهم ألوف، وكان سيقتل أضعاف ذلك لولا أن كثيرين من المسلمين حموا كثيرين من الأرمن وآووهم في بيوتهم، وكان كثير من رجال الدولة وقوا الأرمن في الحارات التي تجاور بيوتهم. وامتاز بين هؤلاء المشير فؤاد باشا الجركسي.

فأما العصابة التي دخلت إلى البنك فقد أخرجوها تحت ضمان سفراء الدول وأبعدوها من الأستانة، بعد أن كانت هذه العصابة هي سبب ذبح عدة آلاف من الأرمن ربما كان كثير منهم أو أكثرهم أبرياء.

وكانت جزيرة كريت — أو أقريطش — قد أخذت تتحرك وذلك لاختلاف وقع بين أهالي الجزيرة وبين الدولة، وكانت الثورة في كريت خلقًا متأصلًا في أهل هذه الجزيرة، ويقال إنهم مفطورون على القلق والشغب وقد كانوا كذلك في القديم قبل الدولة العثمانية بل قبل الدولة الرومانية نفسها، وفي هذه الجزيرة حل ثوار قرطبة الذين بطش بهم الكم الأموي أمير الأندلس في وقعة الربض المشهورة، فجلا منهم طائفة إلى فاس، وسارت طائفة أخرى بضعة عشر ألف نسمة إلى الشرق فنزلوا في الإسكندرية وثاروا فيها على الدولة العباسية، فقاتلهم عمال مصر من قبل بني العباس وأخرجوهم من مصر إلى جزيرة أقريطش قائلين لهم ليتبوأوا منها ما يشاؤون. فذهبوا ونزلوا بهذه الجزيرة، وأسسوا لأنفسهم إمارة مستقلة في جانب من أقريطش تحت رئاسة عبد العزيز بن شعيب البلوطي، واستمرت هذه الإمارة على استقلالها أكثر من مئة سنة. ثم أرسل عليهم الروم من بيزانطية جيشًا حصرهم حتى استسلموا وأخذ أميرهم أسيرًا إلى القسطنطينية، وشردهم من تلك الجزيرة، ومن بقى منهم فيها تنصروا.

ويقال إنه لا يزال في كريت قرى معروفة يقال إن أصل أهلها من العرب وسحناؤهم تدل على ذلك، ولا تزال عندهم عادات عربية محفوظة إلى اليوم. وقد ذكرنا في ما سبق كيفية فتح الدولة لكريت وأنها آخر فتوحات الدولة العثمانية وأنها بقيت تقاتل كريت سبعًا وعشرين سنة إلى أن دوختها. وفي سنة ١٧٦٦ عصت هذه الجزيرة الدولة ثم ساقت الدولة عليها عسكرًا أدخلها في الطاعة، وسنة ١٨٧٨ ثارت مرة ثانية فاتفقت الدولة مع أهلها على دستور خاص بهم وعينت لهم واليًا مدته بحسب هذا الدستور خمس سنوات، وتقرر أنه إذا كان الوالي مسلمًا يكون له معاون مسيحي، وإذا كان مسيحيًا يكون له معاون مسلم. وكذلك المتصرفون إذا كان المتصرف مسلمًا كان المعاون مسيحيًا، وبالعكس. وكانت نواحي الجزيرة ٨٨ ناحية منها ٥١ مختلطة أي مسلمين ونصارى، و٣٤ مأهولة بمسيحيين فقط، وثلاث نواح ليس فيها غير مسلمين. وكان للجزيرة مجلس تشريعي يجتمع مدة أربعين يومًا في السنة، وعدد أعضائه ٨٠ منهم ٤٩ مسيحيون و٣١ مسلمون، ولا يتقرر شيء إلا بثلثي الأصوات. ففي سنة ١٨٨١ طلب المسيحيون تعديل هذا الدستور بحجة أنه مجحف بحقوقهم، وأن التمثيل في المجلس غير متناسب مع عدد السكان، فإذا كان أعضاء المسيحيين فيه ٥٠ وجب أن لا يزيد المسلمون على ٢٥، والحال أن الدولة جعلتهم ٣١ ولا شك في أن الدولة كانت تعلم من استعداد أهل كريت للانفصال عنها ما جعلها تحتاط لمستقبل الحكم العثماني فيها، وتراعي الأقلية الإسلامية. ومع ذلك فمسلمو كريت كانوا لا يقلون عن ثلث السكان، وكان بينهم عدد غير قليل من عرب برقة وجماعات وافرة من مهاجري بوسنة والهرسك والبلغار المسلمين. ثم إن المسحيين في كريت اختلفوا مع الدولة من أجل الموازنة المالية لإدارة الجزيرة، واشتد الخصام في سنة ١٨٨٧ فأرسل السلطان عبد الحميد المشير شاكر باشا لأجل إصلاح الأحوال فوجد أنه لا مناص من استعمال القوة، فإن المسيحيين خرجوا عن الطاعة وأبوا دفع الضرائب، وصاروا يعتدون على المسلمين في القرى التي أكرها مسيحيون، وصار المسلمون يرحلون من القرى إلى المدن لأنهم في المدن كانوا هم الأكثرية. فساق شاكر باشا القوى العسكرية على عصائب الأروام فشتت شملها، وأخلد الجميع إلى السكون برغم أنه كان لكريت جمعية في أثينا ترسل إلى كريت متطوعين وأسلحة فلما رأى اليونان أن الدولة العثمانية قهرت ثوار كريت هاجموا وطلبوا من حكومتهم إرسال الأسطول اليوناني إلى مراسي كريت بحجة حماية المسيحيين، حيث كان الأتراك بطشوا بالأروام في مدينتي «خانية» و«قندية» فلما رأت الدول استفحال الخطب أرسلن إلى مرسى «سودا» سفنًا حربية فأنزلت عساكر في الجزيرة وذلك في ٣ فبراير سنة ١٨٩٧ ولم تشترك ألمانيا ولا النمسا في هذه الحركة، وإنما كانت الدول اللواتي تولينها إنجلترا، وفرنسا، والروسيا، وإيطاليا. فبدلًا من أن الأروام يكنون إلى عمل الدول هذا، كان منهم أن أرسلوا في ١٠ فبراير الكولونيل فاسوس ومعه عدة توابير من الجند المنظم، وجماعة من المتطوعين، فساروا بالأسطول اليوناني ونزلوا بقرب خانية، وأنذرته الدول حتى يرجعوا، وألقت عليهم النار من سفنها فابتعدوا إلى داخل الجزيرة، وأعلنوا الحاق كريت لمملكة اليونان.

فعند ذلك أعلنت الدولة الحرب على اليونان، وزحف المشير أدهم باشا بمئة وخمسين ألف جندي على اليونان، فما انقضت مدة شهرين حتى تمزق الجيش اليوناني كل ممزق، ولوا أن أبرق قيصر الروسيا إلى السلطان عبد الحميد برجوه العفو عن اليونان والتوقف عن متابعة الحرب، لكان الأتراك دخلوا أثينا واستولوا على اليونان كلها. فلم يسع السلطان إلا إجابة رجاء القيصر، وانعقد مؤتمر الصلح، وبعد مذاكرات طويلة تقررت إعادة الجيوش العثمانية من بلاد اليونان كما دخلت بدون أن تجني الدولة العثمانية أدنى ثمرة من انتصارها عملًا بالقاعدة الأوروبية، إن ما يؤخذ من الهلال للصليب لا يعاد، وإن ما يؤخذ من الصليب إلى الهلال لابد من إعادته.. فكل نتيجة تلك الحرب كانت تصحيح بعض الحدود بين تركيا واليونان، بحيث أن جميع ما استردت الدولة من تساليا كان عبارة عن قريتين، ولكن أجبرت الدول اليونان المغلوبة على دفع غرامة حربية أربعة ملايين جنيه كلفة الحملة العثمانية. على أن الدولة استفادت فائدة أدبية لا تنكر بهذه الحرب، لأنها كادت في مدة شهرين لا غير تستولي على بلاد اليونان كلها، واجتاز الجيش العثماني جبالًا يحار العقل كيف اجتازها بهذه السرعة!! ومن ذلك الوقت خمدت الحركة الأرمنية، واستراحت الدولة مدة سنوات من مشكلات الأرمن، ووقفت الدول عن مطالبتها بتنفيذ برنامج المطالب الأرمنية.

فأما في جزيرة كريت فكان النصارى قد طردوا المسلمين من جميع القرى واقتلعوا أشجارهم ودمروا بيوتهم، فالتجأ المسلمون إلى المدن واشتدت العداوة بين الفريقين، فهجم الكريتيون المسلمون ومعهم جماعة من عرب بنغازي على حارة النصارى في قندية فأحرقوها، وبطشوا بالمسيحيين، وحصل مثل ذلك في خانية حاضرة الجزيرة، فتعصبت الدول وأنذرت الدولة بأن تخرج عساكرها من كريت أو تعلن هي استقلال الجزيرة، وهي وإن لم تفعل ذلك دفعة واحدة فقد كانت تريد أن تصل إلى هذه الغاية تدريجيًا، فأتت بالبرنس جورج ابن ملك اليونان وجعلته واليًا للجزيرة، وبقيت هذه الحالة إلى أن انتهت الحرب البلقانية في زمن السلطان محمد رشاد. فتقرر ضم كريت إلى اليونان، وعاني المسلمون في كريت شدائد كثيرة وهاجر منهم قسم كبير إلى بلاد الدولة العثمانية.

ومنهم جماعات وصلوا إلى دمشق ولهم حارة في جبل الصالحية.

ومنهم جماعات تفرقوا في سائر الأقطار. وأناس ذهبوا إلى الإسكندرية، وكانت الدولة أسكنت منهم جماعة في الجبل الأخضر من برقة ولكن مهاجرتهم الكبرى وقعت بعد الحرب العامة، وانعقاد مؤتمر لوزان سنة ١٩٢٣ وفيه تقررت مبادلة السكان، فأخرجوا جميع المسلمين الذين في الرومالي، أي في البلاد اليونانية من أوروبا وفي الجزر وكريت من الجملة، وقرروا إسكانهم في تركيا، وبمقابلة ذلك أخرجوا جميع الأروام الذين في بلاد الأناضول بدون استثناء، فلم يبق في تركيا رومي واحد إلا من كان غريبًا، ولم يبق في بلاد اليونان مسلم واحد إلا عابر سبيل وقد حصلت مبادلة الأملاك والأراضي أيضًا، وإنما وقع استثناء للأروام الذين في الأستانة، فإن مؤتمر الدول في لوزان لم يشأ إخلاء القسطنطينية عاصمة الروم القديمة من المسيحيين، فأبقوا فيها الأروام الذين لم يهاجروا من تلقاء أنفسه، وهم مئة وخمسون ألف نسمة وأبقوا في مقابلة ذلك الأتراك الذين في ولاية تراقية الغربية، أي الولاية التي إلى الغرب من أدرنة، وذلك لأن الأتراك المذكورين هم أكثرية هذه الولاية، ولم تكن لهم رغبة في المهاجرة.

وأما في جزيرة كريت، فلم يبق مسلم واحد، ولا في سائر جزر الأرخبيل الرومي ما عدا رودوس وأخواتها التي احتلتها إيطاليا في أثناء حرب طرابلس الغرب، ثم استلحقتها نهائيًا، فهذه الجزر لم تتبع قاعدة تبادل السكان لكونها خرجت من ملك تركيا واليونان معًا، فلا يزال عشرة آلاف من المسلمين في جزيرة رودوس، وبضعة آلاف في سائر الجزر العشر “dedocanaire” وذلك تحت حكم إيطاليا. وانطوى بساط كريت كما انطوى بساط الأندلس بعد أن ملكها المسلمون ثلاث مرات، الأولى ي زمن بني أمية في دمشق، والثانية عندما احتلها ثوار قرطبة تحت إمارة عبد العزيز بن شعيب، والثالثة في أيام الدولة العثمانية، والله يرث الأرض ومن عليها.

وقد عرفت من أعيان كريت المسلمين رجلين، أحدهما أحمد نسيمي بك ناظر الخارجية العثمانية في أيام الحرب، وهو من أعز إخواني، وأمثل من عرفت في حياتي وأحسنهم أخلاقًا، فضلًا عن ذكائه وسعة إطلاعه، وكان يحدثني عن كريت الأحاديث والآخر فاضل بك أحد أعيان المسلمين في قندية، وقد كنت أسأله مرة عما يقال من حسن جزيرة كريت وزكاء تربتها، ولذة فواكهها وطيب نجعتها فقال لي: جميع ما تسمعه من هذا القبيل عن كريت هو الواقع، وربما أقل من الواقع، ولكن لا يوجد في الدنيا أكثر شرًا من أهلها. وفزيلوس الوزير اليوناني المشهور كان هو العامل مع دول الحلفاء في خلع قسطنطين ملك اليونان كما لا يخفى وفي أخريات هذه الأيام ترأس ثورة على الحكومة اليونانية وهو قد بلغ من الكبر عتيا.

وفي زمن السلطان عبد الحميد ساءت الأحوال في مكدونية، لأن السلطان كان أكثر همة في المحافظة على شخصه، وكان شديد التخيل إلى درجة الوسواس. فاستكثر من الجواسيس، وصار بأيديهم تقريبًا الحل والعقد، وليس من الصحيح أن السلطان كان يعمل بموجب تقاريرهم كما هو شائع، بل كان يرمي أكثرها ولا يصدق ما فيها، ولكن اهتمامه بقضية أخبار الجواسيس ألقى الخوف في قلوب الرعية وصارت في قلق دائم وأصبحت الناس تبالغ في الروايات عن الجواسيس فساءت سمعة الحكومة، وسخط الرأي العام على هذه الحالة، وبرغم ما كان السلطان يعفو ويصفح، ويجود ويمنح، كانت سمعته بعكس ما كان يفعل. وذلك بسبب كثرة الجواسيس وحصولهم على الحظوة عنده، فصار الناس يعللون جميع خطوب المملكة بسوء الإدارة، ويعللون سوء الإدارة بانتشار الجواسيس وفقد الحرية. وهذا وإن كان صحيحًا إلى حد محدود، فليس بصحيح على إطلاقه، لأن خطوب المملكة كانت لها أسباب داخلية وخارجية، لا نذكر قضية الجواسيس في جوانبها شيئًا. فأما العوامل الداخلية فهي انحطاط درجة التعليم عما يجب أن تكون واستيلاء الجهل، وانقسام سكان المملكة إلى أقوام شتى كل منها له هدف غير هدف الآخر، ومنها ما هو عدو عامل لا يرضيه إلا زوال الدولة العثمانية. ثم ما وقر في صدور الناس أجمعين من قرب أجل هذه الدولة فصارت أشبه بالمريض الذي انقطع الأمل من شفائه.

فأما العوامل الخارجية فهي مطامع الدول الأوروبية في أجزاء هذه السلطنة كل دولة منهن تحب أن ترث شقصا من هذه التركة فهي تدس الدسائس في البلاد التي هي مطمح نظرها حتى تتوصل منه إلى مأربها.

ولو كان سهم واحد لا تفيته
ولكنه سهم وثان وثالث

بل وكانت الأسهم التي تتلقاها الدولة العثمانية مما لا يعد ولا يحصى، ولكن المسلمين في السلطنة نظرًا لمعرفتهم أن هذه الدولة هي ملجؤهم الوحيد، كانوا لا يريدون أن يعتقدوا زوالهم، فكانوا يتأوهون من جهة لحالتها هذه، ويجتهدون من أخرى في إصلاحها، ويظنون أن الإصلاح ليس بالمستحيل، وأن في استطاعة الدولة أن تنهض وتسترجع مكانها السابق، وذلك إذا كان السلطان يقلع عن سياسته الخاصة وعن حصر الأمور في يده، ويترك الاهتمام بالجواسيس، ويطبق على المملكة القانون الأساسي الذي كان بدأ به في أول سلطنته ثم عطله تعطيلًا مؤقتًا، فاستمر هذا التعطيل ثلاثين سنة. وكان الشبان على الخصوص يعتقدون أن لا نجاة للمملكة من السقوط إلا بإعادة الدستور، وانتخاب مجلس الأمة، وكان لذلك المهد كثير من رجالات الأتراك المتشبعين بمبادئ الحرية قد هجروا بلادهم وأقاموا بباريز وصاروا ينشرون نشرات ينتقدون فيها الحكم الحميدي، ويبثون روح الثورة بين الناشئة، فكان السلطان يجتهد في إسكات هذه الفئة التي كانت تشوه سمعته في العالم الأوروبي، وكثيرًا ما كان يتمكن من إرضاء أناس من هؤلاء الشبان بتقليدهم مناصب عالية، أو بإغداق النعم والعطايا عليهم، ولكن بقي هناك من هذه الفئة من كانوا لا يبيعون من السلطان سكوتهم، بل لبثوا يرفضون جميع ما يعرض عليهم من أموال أو مناصب. وكان في طليعة هؤلاء أحمد رضا بك المقيم بباريز، والذي كان يصدر جريدة حرة باسم «مشورت» تدخل إلى البلاد العثمانية سرًا، والدكتور ناظم الذي كان من أركان جمعية الاتحاد والترقي — وشنقه مصطفى كمال من عهد قريب — وغيرهما.

ولما كانت الجمعيات الأرمنية بطبيعة الحالة تميل إلى إسقاط السلطان عبد الحميد مدت أيديها إلى هؤلاء الأتراك الذين كانوا قد هجروا أوطانهم إلى أوروبا، وشرعوا في التحريك لأجل إعلان الحكم الشورى في تركيا. وكان بعض المسيحيين من سورية مشتركين أيضًا في هذه الحركة، وكل فئة من هذه الفئات كانت لها أغراض غير أغراض الأخرى في الحقيقة، ولكنها كانت تجتمع في نقطة واحدة وهي، مقاومة السلطان، والعمل لإسقاطه، وأخيرًا انتدب بعض شبان الأتراك وألفوا جمعية سرية في سلانيك، وسموها «جمعية الاتحاد والترقي» وأخذوا يجتذبون على جمعيتهم كل الوطنيين المخلصين الذين قدروا على اجتذابهم برغم شدة المراقبة، حتى أن بعض المستخدمين في الحكومة انضموا إلى هذه الجمعية، وكانوا يجتمعون في المحافل الماسونية حتى يتقوا الشبهة فيهم. وكان معظم اجتهاد هذه الجمعية السرية متوجهًا إلى استجلاب الجيش حتى تصير في أيديهم القوة اللازمة لخلع السلطان، وتوفقت هذه الجمعية إلى استجلاب عدد كبير من الضباط، ولما كان عصائب البلغار واليونان يعملون بدون انقطاع في بلاد الرومللي، وكانت الدولة تسوق عليهم العساكر لأجل تطهير بلاد الروملي منهم، وكانوا يعملون في جوار سلانيك، تسنى لرجال الاتحاد والترقي أن يتصلوا بضباط الجيش، وأن يقنعوهم بأن هذه العصائب البلغارية واليونانية إنما تشاغب وتعثوا في الأرض لأجل الحصول على إدارة حسنة يستريح في ظلها السكان وهذه الإدارة غير ممكنة ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة فأما إذا أمكن خلعه، وجعل الحكم في السلطنة دستوريًا شوريًا كم هو في سائر الممالك المتمدنة فإن جميع هذه المشاغبات تنتهي من نفسها، وتخلد جميع الأقوام إلى السكينة وهكذا تنجو السلطنة العثمانية من خطر السقوط المحدق بها. فشرب أكثر الضباط هذه المبادئ التي ليس بعجب أن تقبلها عقولهم، لأن المسيحيين من أروام، وبلغار، وسربيين كانوا يدعون أنهم لا يلجأون إلى الثورة إلا من سوء الإدارة وأنه إذا اصطلحت الإدارة فهذه تكون غاية أمانيهم، ويدخلون في الطاعة.

ولم يكن هذا الادعاء صحيحًا بل حقيقة الحال أنه سواء اصطلحت الإدارة العثمانية أم لم تصطلح فالبلغار إنما يجتهدون في ضم البلاد المأهولة بالبلغار إلى مملكتهم، واليونان إنما يسعون في ضم البلاد التي أكثرها منهم إلى مملكتهم، ولن يرضو بالبقاء تحت حكم الأتراك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ولكن شبان الأتراك منهم من آمن بأقوال العصائب اليونانية والبلغارية.

ومنهم من لم يكن يؤمن بها لكنه كان يجد أن طريق النجاة لن تكون إلا بإعادة الدستور، وجعل الحكم في السلطنة للشورى كما هو في سائر البلاد.

وبلغ السلطان سريان هذه الحركة إلى الجيش المرابط في الرومللي، فراعه الأمر وأرسل لجنة تحت رئاسة القائد إسماعيل ماهر باشا لأجل الفحص عن هذه الحركة فرجعت هذه اللجنة وقررت للسلطان أن أكثر الضباط دخلوا في جمعية الاتحاد والترقي، وأن الخطب عظيم، وأن الخرق اتسع على الراقع، وكان حسين حلمي باشا مفتشًا عامًا لولايات الرومللي، فكتب هو أيضًا إلى السلطان يعظم من شأن حركة الجيش، ويشير على السلطان بإعلان الدستور. وفي أثناء ذلك ذهب أنور بك وعصى بشرذمة من الجند في جوار سلانيك، كما أن نيازي بك استولى على مدينة منستر وكاد يعلن فيها الدستور، ولما بلغ جمعية الاتحاد والترقي ما قام به أنور ونيازي منا لعصيان اشتدت عزيمتهم، واجتمعوا حول منزل حسين حلمي باشا وطلبوا إعلان الدستور، وأصبحت سلانيك في أيديهم. ولما وصل الخبر إلى السلطان استشار الصدر الأعظم وكان الصدر يومئذ فريد باشا الأرناؤوطي، فأشار إليه بإعلان الدستور، وذلك تسكينًا للفتنة، وكذلك جمال الدين أفندي شيخ الإسلام أبدى له ضرورة هذا الإعلان، وكان أحمد عزت باشا الدمشقي مستشارًا للسلطان — كما لا يخفى — وهو المطلع على ماجريات هذا الخطب، قد عارض في إعلان الدستور بل قوته، ولكن الوزراء خالفوه، وهو نفسه الذي قال لكاتب هذه السطور عند ما اجتمعت به بعد الحرب العامة هنا في جنيف: بأن الذي أثر في السلطان بالدرجة الأولى حتى أعلن الدستور هو جمال الدين أفندي شيخ الإسلام. أما كوجك سعيد باشا. ففي أول الأمر نصح للسلطان بالثبات، وبقمع هذه الحركة بالقوة، إلا أنه بعد ذلك جاءت الأخبار بأن الفيلق الثاني الذي مركزه أدرنة انضم إلى جمعية الاتحاد والترقي، فوقع الرعب في قلوب الوزراء جميعًا، وعادوا فأشاروا على السلطان بإعلان الدستور اتقاء لشر أعظم!! والحقيقة أن القوة التي في يد جمعية الاتحاد والترقي كانت ضئيلة، وكان الجيش أكثره طائعًا للسلطان، ولكن قوة الجمعية كانت معنوية، والأمة — حتى في نفس قصر يلدز — أصبحت تعتقد أن لا نجاة للدولة إلا بإعلان الدستور، وعقد مجل الأمة.

والخلاصة أن السلطان عبد الحميد أعلن القانون الأساسي، وأمر بانتخاب المبعوثين، وتعيين كوجك سعيد باشا رئيسًا للوزارة الجديدة. فأراد سعيد باشا إعطاء السلطان بعض حقوق في تعيين الوزراء خلافًا للقانون الأساسي، فوقع بسبب ذلك خلف بين الوزراء أدى إلى استعفاء الوزارة، فانتدب السلطان للصدارة كامل باشا وتألفت وزارة جديدة فيها رجال أمائل مثل رجب باشا الأرناؤوطي ناظر الحربية وحسن فهمي باشا ناظر العدلية، وغيرهما. ولكن وزارة كامل باشا هذه شاهت حوادث ذات بال، مثل إعلان بلغاريا استقلالها التام، ومثل أن دولة النمسا أعلنت استلحاق ولايتي البوسنة والهرسك، ومثل أن الأروام أعلنوا إلحاق جزيرة كريت باليونان، وكان إعلان البلغار لاستقلالهم بموجب كتاب من أميرهم فرديناند إلى السلطان عبد الحميد في ١٥ أكتوبر سنة ١٩٠٨ فأرسلت الدولة جوابًا للحكومة البلغارية بأنها لا تستطيع الاعتراف بعمل مخالف لمعاهدة برلين، وكتبت إلى الدول تدعوهن إلى عقد مؤتمر لأجل النظر في ما أقدمت عليه بلغاريا من خرق هذه المعاهدة وكذلك احتجت الدولة على استلحاق النمسا والمجر لبوسنة والهرسك برغم كون النمسا والمجر اجتهدتا في استعطاف الدولة العثمانية، وعرضتا عليها تعويضات مالية وردت لها (سنجق نوفيبازار) من أصل بوسنة.

وفي أثناء ذلك وقع الخلاف بين جمعية الاتحاد والترقي وبين وزارة كامل باشا على مسائل داخلية لأن الجمعية كانت هي سبب إعلان الحرية، فكانت تريد بطبيعة الحال أن تسيطر على الحكومة، ولم يكن هذا الأمر ليحصل بدون اصطدام آراء مفض إلى النزاع، وكانت الأمة مشغولة بانتخاب المبعوثين، ولم تكن الآراء متفقة في قضايا الانتخابات مما يحصل في كل مملكة، فانتهى الأمر بسقوط كامل باشا وكان مجلس الأمة قد انعقد وحضر السلطان عبد الحميد افتتاحه، وأقسم يمين الأمانة للدستور، ولكن لم يكد المجلس ينعقد حتى وقع الشقاق بين المبعوثين، فمنهم مبعوثوا جمعية الاتحاد الترقي ومبدؤهم كان المركزية التامة، أي حصر كل الإدارة في مركز الدولة، وبناء الإصلاحات كلها على هذا الأساس، ومن البديهي أن مبدأ كهذا سيعطي السيادة للعنصر التركي الذي له المقام الأول في السلطنة، فلهذا كان العرب والأرناؤوط والأروام والأرمن ضد هذا المبدأ، لأنه يجحف بحقوقهم، فتألف من هؤلاء حزب تسمى بحزب «الأحرار» انضم إليهم أيضًا كثير من الأتراك المناوئين لجمعية الاتحاد والترقي، ففي مسالة كامل باشا وقع الخلاف بين الحزبين، وتغلب الاتحاديون على خصومهم، وهكذا سقط كامل باشا وجاء مكانه حسين حلمي باشا ففي مدة هذا الصدر تسوت بين تركيا والنمسا قضية بوسنة والهرسك، وذلك بدون عقد مؤتمر دولي. لأن الأتراك كانوا يخشون من عقد المؤتمر الدولي فتح أبواب جديدة عليهم فاسترجعت الدولة سنجق نوفييازار، واستأدت مليونين ونصف مليون جنيه بدلًا عن الأراضي العائدة في بوسنة للدولة خاصة، وتقرر بقاء التشكيلات الدينية الإسلامية في البوسنة والهرسك مربوطة بالدولة العثمانية، كما كانت في السابق وعقدت الدولة مع النمسا معاهدة تجارية، ثم رجعت إلى مسألة البلغار فبعد أخذ ورد طويلين وحل مشكلات مالية يطول شرحها انتهى الخلاف وانعقدت المعاهدة في ١٩ إبريل سنة ١٩٠٩ وفي هذه المعاهدة كل ما يضمن حقوق المسلمين وأوقافهم ومؤسساتهم الدينية في مملكة البلغار، فاستراح بال الدولة من جهة هاتين المشكلتين قضية استقلال البلغار التام، وقضية استلحقاق بوسنة والهرسك بالنمسا.

ولكن ثار تنور الخصام في وسط السلطنة، وتعددت الأحزاب، وبسبب إعلان الحرية أظهر كل ما في نفسه، وبدلًا من أن يكون هذا القانون الأساسي سببًا للانضمام وللسير على قاعدة (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) وليس امتياز فيها لفريق على فريق، كانت عاقبة هذا النظام الجديد أن كل أمة من الأمم الكثيرة التي تتألف منها السلطنة العثمانية أخذت تحاول الانفصال عن السلطنة نفسها بالطرق الممكنة وغير الممكنة، وجاءت هذه الحالة عذرًا للسلطان عبد الحميد الذي كان يدعى أنه إنما أخر إعلان الدستور وجمع الأمة خوفًا من تفكك أجزاء السلطنة وفرارًا من صدع الوحدة العثمانية لأنه في ظل الحرية لا يمكن منع النزعات القومية التي هي كامنة في صدور هذه الأمم المختلفة التي لا يجمع بينها سوى رهبة الدولة.

ولكن جمعية الاتحاد والترقي مع حسن نية رجالها كان ينقصها كثير من الخبرة وكان أكثر زعمائها شبانًا لم يتمرسوا بالأمور، ولم تنجزهم الحادثات، وقد جاء فوزهم بالقبض على ناصية السلطنة غير منتظر — حتى من أنفسهم — فسكروا بخمرة العز واستخفوا بمن سواهم، وظنوا أنهم هم قادرون على كل شيء، والحال أنهم كانوا يواجهون صعابًا، ويقابلون عقابًا، لا قبل لهم بها، فكانت أمامهم — وهي للطامة الكبرى — دسائس الدول الأوروبية التي كال واحدة منهن كانت تحرك أهالي البلاد التي تطمح إليها من أجزاء السلطنة، وكان هذا مرضًا مزمنًا، فلا الأجانب كانوا راجعين عن أطماعهم هذه، ولا الأهالي الذين تعودوا رؤية نفوذ هذه الدول في بلادهم كانوا عادلين عن الانقياد إلى وساوسهم، ولأجل وضع سد فيوجه الأجانب كان ينبغي أن تكون الدولة أقوى وأرقى وأسعد حالًا، وأغزر مالًا من جميع الدول العظام. ولم تكن هذه الشروط حاصلة في الدولة العثمانية كما لا يخفى. ثم إن جميع الأمم التي كانت تتألف منها هذه السلطنة كانت أهدافها مختلفة، فالأروام وهم جانب كبير في المملكة لا ينسون ملكهم القديم، وفي كل حركاتهم وسكناتهم كان هدفهم الوحيد استئناف الاستيلاء على القسطنطينية وطرد الترك منها إلى آسيا، والأرمن كان هدفهم الوحيد استئناف ملكهم القديم في نفس الأناضول، والبلغار يريدون ضم مكدونية إلى المملكة البلغارية الجديدة، وهذا من جهة المسيحيين.

فأما من جهة المسلمين فإن الجامعة الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والأرناؤوط والجركس هي الجامعة الدينية، ولولاها لكانت هذه السلطنة تفككت منذ قرون، ولكن سوء الإدارة في الداخل من جهة، ودسائس الأجانب من الخارج من جهة أخرى، حملا الكثيرين من العرب والأرناؤوط بنوع خاص على النزوع إلى الانفصال عن الدولة برغم الجامعة الدينية، وقد بدأ ذلك عند الأرناؤوط قبل العرب، فحاولت الدولة تأديب الثائرين منهم فاستلزم ذلك تجريد جحافل ووقعت معارك دموية، فازداد الأرناؤوط من الدولة نفورًا. وأما العرب فكانت عندهم غيرة من الترك لأنهم كانوا أكثر من هؤلاء عددًا، ولم تكن لهم الامتيازات التي للترك، وكان الترك يزعمون أن العرب غير قائمين بما يجب عليهم تجاه السلطنة حتى يتمتعوا بالمساواة التامة مع الأتراك، فمن البلاد العربية جانب كبير لا يقوم بالخدمة العسكرية الإجبارية، بل يكلف الدولة سوق عساكر لإدخال أهله في الطاعة، وهذا النزاع بين العرب والترك لم يكن ينتهي بل كان يزداد بضعف الدولة وقد كان يظهر في مواقع كثيرة. ولكن كان المانع الوحيد من انفجار بركان الشر بين الفريقين هو الخوف على بيضة الإسلام لا غير، إلا أن الإنجليز تمكنوا قبل الحرب العامة من استجلاب كثير من ناشئة العرب، منهم من استجلبوهم بالمنافع الخاصة.

ومنهم من استجلبوه بطريقة الإقناع، وأوهموا العرب أنهم إنما يريدون ليجددوا دولة عربية كدولة بني العباس، أو دولة بني أمية مثلًا، ويساعدوا العرب على تجديد مجدهم القديم، وعلى عمارة بلادهم التي لم يحسن الترك إدارتها، ولا عمارتها. فصار بين العرب حزب غير قليل ينزعون إلى الانفصال عن الدولة قلبًا وقالبًا متوقعين لذلك أول فرصة. ولا يمكن أن يقال إن هذا كان رأي الجمهرة من الأمة العربية، بل في الحقيقة كان عقلاء العرب يفقهون أنه إذا وقع الانفصال بين العرب والترك تسقط بلاد العرب تحت حكم الإفرنج، فلذلك كانوا يختارون البقاء تحت حكم الدولة العثمانية خوفًا من حكم الأجانب، واختيارًا لأهون الشرين.

نعم لو كانوا على يقين بأن الدول الأوروبية تحترم استقلال البلاد العربية ولا تبسط أيديها إليها بالغصب والتقسيم، لكانوا يرجحون بدون شك انفصال عن الترك، والاستقلال بدولة لأنفسهم. ولكن عقلاء العرب كانوا لا يجهلون مطامع الدول الأجنبية، في بلادهم ولم يكن يخفى عنهم تصميم أوروبا على تقسيمها، وأنه لا عهد للدول المسيحية بإزاء المسلمين مهما عاهدت ولم يكن يشذ من العرب عن هذه العقيدة سوى بعض من لا تجربة لهم، أو من لا تهمه الجامعة الإسلامية في كثير ولا قليل.

ومنهم من كان الإنجليز يستخدمونهم في بث دعايتهم كأجراء لا غير.

ثم إن الاتحاديين ساعدوا بسوء تصرفهم واستخفافهم بأعدائهم هذه الأمم غير التركية في السلطنة على أنفسهم، ودخل في الجمعية الاتحادية عناصر كثيرة مفسدة كرهت الرعية بها. وكان رجال الحكم الجديد قد أقصوا عن وظائف الحكومة أكثر الذين كانوا يشغلونها، واستبدلوا بهم شبانًا من حزبهم، فآسفوا جمعًا عظيمًا لهم تأثيرًا في السلطنة، لأنهم أصابوهم في أسباب معيشتهم، فانكسرت خواطر وتراكمت أحقاد، وتألفت فرقة جديدة من قدماء الرجال الذين كان يقال لهم الرجعين، وانتشرت لهم جرائد، وأعصو صب حولهم كثير من العوام.

ولما كان الاتحاديون يتظاهرون بالتفرنج ويتساهلون بأمور الدين، ويتكلمون أحيانًا بما يخالف الشرع، مال جمهور العلماء وأنصار المبادئ الإسلامية إلى هذا الحزب الذي شرع بمصادمة جمعية الاتحاد والترقي، وألفوا تحت رئاسة الشيخ «درويش وحدتي» عصبة سموها «الوحدة المحمدية» وأخذ حزب الأحرار يمد يده على حزب الرجعيين ليكونا يدًا واحدة على حزب الاتحاد والترقي، فاشتدت المعارضة في وجه الاتحاديين بينما هم مهملون للاحتياط، واثقون بأنفسهم، مستخفون بخصومهم. فاشتدت المناقشات في الجرائد، وازدادت العداوة بين الأحزاب، وإذا بالناس في ٨ إبريل سنة ١٩٠٩ تسمع أن حسن فهمي بك محرر جريدة «سربستي» قد قتل غيلة على الجسر وهو راجع من بيك أوغلى إلى استانبول، وكان هذا الكاتب من أكبر أعداء الاتحادي والترقي، فقيل إن الاتحاديين هم الذين أرسلوا من يغتاله، وقيل إن الذين اغتالوه هم حزب الرجعيين، وذلك لأنهم استشاروه في القضاء على الدستور والرجوع إلى النظام الحكم القديم فأبى أن يسايرهم في هذه المكيدة، فخافوا أن يفشى سرهم للحكومة فأرادوا التخلص منه فقتلوه، فهاجت الخواطر لقتل هذا الكاتب، وقدم ستة من مبعوثي المجلس سؤالًا لناظر الداخلية عن هذه الحادثة، وتفاقم القلق في الأستانة وكان الرجعيون قد اتصلوا ببعض توابير من الجيش، واتهم السلطان عبد الحميد بأن له يدًا في الدسيسة رأسًا أو بواسطة أنصاره القدماء، فما شعر الأهالي إلا والعساكر قد ملأت ساحة أيا صوفيا، وأخذوا ينادون بإسقاط الوزارة، وعزل أحمد رضا بك رئيس مجلس الأمة، ويطلبون تسليم علي رضا باشا ناظر الحربية، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي ليقتلوهم، وكان بعض المشايخ علموا العسكر أن ينادوا بإعادة الشريعة وإلغاء القانون الأساسي حتى يملكوا بذلك قلوب العامة، وفي ذلك الوقت هجموا على نادي الاتحاد والترقي، وعلى إدارة جريدة «طنين» وعلى النادي العسكري وعلى نادي النساء ونهبوها وجعلوا عاليها سافلها، ثم انقض الجنود على ضباطهم فقتلوا منهم ثلاث مئة، وفر من الضباط عدد كبير من الأستانة، وتخبأ آخرون فيها. ثم هجم الجند على مجلس المبعوثين ليقتلوا منهم الاتحاديين المعروفين بمكانتهم في الجمعية، ولكن كان المبعوثون الاتحاديون قد علموا بالثورة وما يضمره الرجعيون المتسترون باسم الشريعة من نية قتلهم، فلم يحضروا إلى المجلس. وحضر الأمير محمد أرسلان رئيس لجنة الأمور الخارجية ومبعوث اللاذقية، وقيل له في ذلك اليوم إن ذهابه إلى المجلس خطر على حياته لأنه كان من الاتحاديين المعروفين، فأبى إلا أن يذهب ليقوم بالواجب وكان بلغه أن في نية الثوار إحداث مذبحة في الأستانة تحمل الأجانب على التدخل لأجل حماية رعاياهم فتسقط بذلك حكومة الاتحاد والترقي، فذهب ابن عمنا إلى المجلس ليحمل المبعوثين على مراجعة السلطان شخصيًا ليبذل كلمته ونفوذه لأجل تسكين الثورة التي قد تجر وبالًا عظيمًا على السلطنة، فلما ذهب رحمه الله إلى المجلس لم يجد من نيف ومائتي مبعوث إلا ثلاثين أو أربعين مبعوثًا فقط. فتكلم معهم في الموضوع وتقرر بينهم إرسال وفد إلى قصر بلدز ليعرض الخطب على السلطان، ويلتمس أمره الجازم للعسكر وللشعب بالسكون، فانتخب المجلس أحد عشر مبعوثًا منهم محمد أرسلان ليقوموا بهذه المهمة. فلما خرجوا وركبوا العربات عرف محركوا هذه الثورة مقصدهم فردوهم من حيث أتوا وبينما هم على باب المجلس أوعز بعض المحركين لهذه الثورة إلى الجند بأن يطلقوا الرصاص على محمد أرسلان — وهم لا يعرفونه — فوقع شهيدًا. ثم قتلوا أيضًا ناظم باشا ناظر العدلية، وكان مرادهم أن يفتكوا أيضًا بسائر أعضاء المجلس الذين لبثوا ينتظرون الموت مدة ساعتين.

ومنهم من رمى بنفسه من النوافذ فسقطوا وتكسرت أرجلهم.

ومنهم من تخبأ في أي مكان يتوارى به عن الأعين، ولكن العسكر بعد أن فتك بناظر العدلية وبمبعوث اللاذقية سمعوا أنه سيأتي عسكر آخر بأمر السلطان فيقتص منهم، فوقع الرعب في قلوبهم وأمسكوا عن قتل سائر المبعوثين وصاروا يطلقون الرصاص في الفضاء تهويلًا.

وأما حسين حلمي باشا والوزراء رفاقه فقد تخبأوا حيث لا يعلم بهم أحد، وانسل محمود مختار باشا على باخرة إنجليزية فذهب العسكر إلى بيته ليقتلوه فلم يجدوه. فأمر السلطان بتأليف وزارة جديدة تحت رئاسة توفيق باشا الذي كان سفيرًا للدولة في لندرة، وأدخل فيها أدهم باشا قائد الجيش العثماني الذي قهر اليونان، وذهني باشا ورفعت باشا الذي كان ناظرًا للخارجية في الوزارة السابقة، فأبقوه في الوزارة الجديدة كما كان، وأبقوا أيضًا ضياء الدين أفندي شيخ الإسلام. وأبقوا نورادونغيا أفندي الأرمني ناظر الأشغال النافعة، وأبقوا خليل حمادة باشا ناظر الأوقاف وتعيين عادل بك ناظرًا للداخلية، والقائد ناظم باشا قائدًا للفيلق الخامس مكان محمود مختار باشا، وقد كان وقوع هذه الثورة في ١٣ إبريل سنة ١٩٠٩ وفي اليوم التالي لم ينعقد المجلس ولكن لما تم تشكيل الوزارة انعقد بحضور ١٩١ مبعوثًا وأصدر المجلس منشورًا يحاول فيه تلطيف الحادثة، ويحث الرعية على السكون. ونقلت جثة الأمير محمد أرسلان باحتفال عظيم إلى بيروت حيث كان له مأتم لم يسبق نظيره، وبكى الجميع شابه لأنه كان في الرابعة والثلاثين من العمر، وبكوا مزاياه العالية. وحزن عليه أبوه الأمير مصطفى أرسلان حزنًا أثر في صحته فلم يعش بعد ذلك طويلًا.

ولما وصل الخبر إلى سلانيك وهي مركز الاتحاد والترقي هاج العسكر ولا سيما الضباط الذين علموا بقتل رفاقهم، فلم يبطثوا أن زحفوا إلى الأستانة. فاجتمع الفيلق الثالث — أي فيلق سلانيك — والفيلق الثاني — أي فيلق أدرنة — وساروا إلى العاصمة تحت قيادة محمود شوكت باشا، فوقع الرعب في الأستانة وخيف أن العساكر الآتية من أدرنة وسلانيك تنتقم من العساكر والأهالي الذين قاموا بالثورة الرجعية، فأرسل الصدر الأعظم إلى محمود شوكت باشا يقول له: إن السكون تام في الأستانة وأنه لا خوف من حرب، وكان توفيق باشا قد نصح للسلطان بعدم المقاومة خوفًا من حرب أهلية.

ولما اجتمعت الجيوش في «سان ستفانو» وذلك في ٢١ إبريل أقبل عليها النواب والشيوخ وانعقد مجلس الأمة تحت رئاسة أحمد رضا بك، ونشروا منشورًا يجعل الأمر والنهي والاقتصاص من الثائرين في يد محمود شوكت باشا قائد الجيش المسمى بجيش الحركة، وكان العساكر البحرية قد اشتركوا في الثورة من قبل، ولكنهم لما رأوا القوة أقبلت أسرعوا إلى الخضوع. وبالإجمال لم يكن في نية توفيق باشا ولا أدهم باشا، ولا أحد من الوزارة الجديدة مقاومة الفيلقين القادمين من الرومللي ولكن بعض العساكر الذين كانوا في ثكنة «ظاشقشلة» والذين كانوا هم الثائرين والفاجرين للدماء، أطلقوا النار على جيوش الرومللي فوقعت معركة انتهت بفوز الرومللي، وكذلك وقعت مناوشات خفيفة في ثكن أخرى وانتهت بفوز قوة محمود شوكت باشا، وكان يحيط بقصر يلدز سبعة آلاف من الجيش المخلص للسلطان، إلا أنهم لم يروا السلطان ناويًا المقاومة فخضعوا لمحمود شوكت باشا. وفي ٢٦ إبريل تقرر في مجس الأمة خلع السلطان. وصدرت الفتوى من مشيخة الإسلام بأنه إذا كان زيد — الذي هو أمير المؤمنين — يحذف مسائل مهمة من كتب الشرع وقد يمنع تداول هذه الكتب أحيانًا، وكان يخالف الشرع في استعمال بيت مال المسلمين ويقتل وينفي ويحبس بمجرد هواه، ويحنث بيمينه الذي أقسمه، ويحدث الفوضى في المملكة أفلا يجوز تخليص الأمة من ضرره؟ أفلا يكون من مصلحة الأمة خلعه إلخ؟ الجواب، نعم.

السلطان محمد الخامس

وهكذا تقرر خلع عبد الحميد الثاني، ومبايعة أخيه السلطان محمد رشاد باسم محمد الخامس. وهذبت لجنة مؤلفة من عارف حكمت باشا وآرام أفندي من أعضاء مجلس الأعيان، ومن أسعد باشا مبعوث دراج، وفراسو أفندي مبعوث سلانيك، فبلغوا السلطان قرار خلعه، وفي يوم الأربعاء ٢٨ إبريل الساعة الثامنة والنصف مساء جاء القائد حسين حسني باشا وعلي فتحي بك وأبلغا السلطان قرار نقله إلى سلانيك، وسفروه في نصف الليل، وكان معه نساؤه وإثنان من أولاده، الأمير عبد الرحيم أفندي وعمره ١٦ سنة والأمير محمد عابد وعمره ٦ سنوات، ولم يصحبه إلا أربعة من الخصيان، وتسعة من الخدم. وبعد نقل السلطان إلى سلانيك ومبايعة أخيه سكنت الأمور وأعلنت الإدارة العرفية في العاصمة، وتألف مجلس حربي لمحاكمة الذين أحدثوا الثورة وسفكوا الدماء فصدر الحكم بشنق عدد من هؤلاء، ولا شك في أنه كان قد نفى أناس كثيرون متحفزون لإعادة السلطان عبد الحميد إلى العرش في أول فرصة، ولكن هذا الحزب كان يرى لزوم السكينة إشفاقًا على الدولة. ولما اشتعلت الحرب البلقانية أعادت الدولة السلطان عبد الحميد إلى الأستانة، وأنزلته في قصر «بكلر بك» حيث بقى إلى أن مات سنة ١٩١٧ وحضرت مأتمه وشهد الجمهور بحقه شهادة حسنة لأنهم كانوا يعتقدون إسلامه وإيمانه، وبعد أن بويع السلطان محمد الخامس، أعيد حسين حلمي باشا إلى الصدارة، وبقى النفوذ الحقيقي لجمعية الاتحاد والترقي، فحصل بين الجمعية وحسين حلمي باشا اختلاف أدى إلى استقالته. فاستدعى الاتحاديون إبراهيم حقي باشا سفير الدولة في روما، وجاء إلى الأستانة في ١١ يناير سنة ١٩١١ فاختار حقي باشا لنظارة الحربية محمود شوكت باشا وصار طلعت بك ناظرًا للداخلية، وجاويد بك للمالية، ورفعت باشا للخارجية، ونجم الدين ملا بك للعدلية، وحلاجيان أفندي للنافعة، والأميرال خليل باشا للبحرية، والشريف علي حيدر باشا للأوقاف، وأمر الله أفندي للمعارف، وتولى مشيخة الإسلام القاضي حسين حسني أفندي.

وعندما قرئ برنامج الوزارة الجديدة في المجلس نالت ١٨٧ صوتًا ضد ٣٤ من المعارضين. واستنكف ٢١ مبعوثًا عن إعطاء أصواتهم، فكان مبدأ وزارة حقي باشا مؤذنًا بالنجاح، إلا أنه كان الأمر لا يزال في يد الاتحاديين، فاشتدت من أجل ذلك المعارضة. وكان حقي باشا ومحمود شوكت باشا ورفعت باشا من أعضاء الوزارة معتدلين، على حين أن طلعت بك وجاويد بك وحلاجيان أفندي كانوا يريدون إجراء برنامج الاتحاد والترقي «بزرة وعروته» فوقع الخلاف في وسط الوزار وصار الاتحاديون الغلاة يريدون إسقاط حقي باشا من الصدارة، وفي ذلك الوقت جرت ثورة الأرناؤوط وأساسها أنه بعد مؤتمر برلين تألفت جمعية في بلاد الأرناؤوط مبدؤها المحافظة على الوطن الألباني، وهذه المحافظة كانت تقتضي مقاومة الأروام من جهة، والسربيين من جهة أخرى. فنظر السلطان عبد الحميد إلى الموضوع فوجده موافقًا لسياسته ولسياسة الدولة العثمانية، فأخذ يقوي الأرناؤوط عمدًا ويمدهم بالمال، ويوليهم المناصب ويعتمد عليهم أكثر من سواهم. وما عاشت الجمعية الأرناؤوطية إلا بفضل إمداد السلطان عبد الحميد لها، فقد كان يتخذ الأرناؤوط ردها له في مقاومة البلقانيين الذين ينوون الاستيلاء على بلاد الرومللي كالسرب والبلغار، واليونان، وكان أيضًا يتخذ الأرناؤوط بطانة له ضد حزب «جون تورك» الذي كان يعلم أنه لن يرضى عنه. وكان بلغ عدم ثقته بالترك أنه جعل الحرس السلطاني الخاص كله من العرب والأرناؤوط، فكان حول قصر يلدز بضعة عشر تابورًا من العساكر نصفها من العرب بزي خاص بهم يلبسون العمائم وأكثرهم من عرب اليمن، والنصف الآخر كان من الأرناؤوط بزيهم الخاص. وكان قد اعتنى جد الاعتناء بتعليم هذا العسكر الخاص وتدريبه وترفيه معيشته، والتأنق في كسوته حتى صار من الطبقة الأولى في عساكر العالم، لا يفضله عسكر آخر. ولما زار إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني صديقه السلطان عبد الحميد الثاني واستعرض أمامه هذا الحرس الخاص، ابتهج الإمبراطور به ابتهاجًا أكيدًا وقال: إنه يضاهي أحسن عسكره في ألمانيا. وكان إذا خرج السلطان يوم الجمعة للصلاة أقيمت له مراسم حافلة تتجلى فيها الهيبة الملوكية إلى الدرجة القصوى، وتسير الوزراء والقواد أمام مركبة السلطان مشاة على الأقدام، وتصطف عساكر الحرس المذكور عن الجانبين، العرب من جهة، والأرناؤوط من جهة، فيكون لذلك أبهة وروعة لا ينكرها أحد. وكان يسمى هذا الاحتفال برسم السلملك، فتقصده كبار الأجانب والسياح من جميع الأقطار، وقلما كان السلطان يخرج من قصره إلا لصلاة الجمعة، وكان سفراء الدول يذهبون غالبًا لشهود هذه الحفلة، وكان اقتصار السلطان في حرسه على العرب والأرناؤوط دليلًا واضحًا على عدم ثقته في الأتراك الذين يوجد منهم غالبًا من ينوي له السوء

وقد كنا نلاحظ أيضًا أنه عند ما يخرج لصلاة الجمعة — سواء كان راكبًا جوادًا أو راكبًا عربة — يكون عن جانبيه فارسان، كل منهما سيفه مسلول في يده وهما أيضًا عربيان أحدهما محمد باشا العرقسوسي من دمشق، والثاني علي باشا قيراط من طرابلس الغرب. فلما تدلى السلطان محمد رشاد وصار الأمر إلى حزب جون ترك نثروا هذا الحرس الخاص من أرناؤوط وعرب نثرًا، ولم يبقوا له أثرًا.

ونعود إلى ذكر إقبال السلطان عبد الحميد على الأرناؤوط فنقول: إنه أمتعهم بامتيازات كثيرة، وأعلقهم حبال الارتباط بشخصه حتى صاروا لا يبغون منه بدلًا ولا عنه حولا. ولما قال الاتحاديون بالانقلاب وإعلان القانون الأساسي ثقل ذلك على الأرناؤوط وتوجسوا خيفة قصر حريتهم، لأن القانون الأساس كان معناه المساواة التامة بين الرعية، وهم لم يكن السلطان يعاملهم بالحقيقة بالمساواة، بل كان يميزهم على غيرهم، ويسبغ عليهم من النعم ما لا يعرفه فريق آخر من الرعية، ولذلك اجتهدت جمعية الاتحاد والترقي في استرضاء الأرناؤوط بجميع الوسائل حتى لا يناهضوا الدستور، ووعدتهم بإبقاء امتيازاتهم الأولى، وبفتح مدارس تعلم فيها لغتهم، وباعتبار اللغة الأرناؤوطية لغة رسمية في بلادهم، وبمعاملتهم في كثير من الأحيان بحسب تقاليدهم عاداتهم، وبتعزيز الشرع الإسلامي فيما بينهم، وأخذت توزع الأسلحة على الأرناؤوط ليتمكنوا من مقاومة السربيين، وأهالي الجبل الأسود وكل هذا قصدت به جمعية الاتحاد والترقي اجتذاب الأرناؤوط إلى ناحيتها حتى لا يعارضوا نشر الدستور، ولا يحدثوا عليه ثورة وهم أسرع الناس إلى الثورات. إلا أن الأرناؤوط كانوا لا ينسون منزلتهم الخاصة عند السلطان عبد الحميد، وكانوا لا يثقون في حزب «جون تورك» ففي أول سبتمبر سنة ١٩٠٩ أرسلوا وفدًا إلى سلانيك يطالب بإعادة الأحكام في ألبانيا إلى الشرع الشريف، وبالاعتراف بامتيازاتهم وبتأسيس مكاتب أرناؤوطية على نفقة الدولة مما لم يكن ليرضي جمعية الاتحاد والترقي التي داهنتهم في أول الأمر من قبيل التسكين وتخدير الأعصاب، حتى لا يثوروا في وجه النظام الجديد. فلما رأتهم ممعنين في الإدلال، متعنتين على الدولة بصنوف المطالب قررت بإزائهم إرهاف الحد، وإدخالهم في الطاعة كسائر أجناس الرعية. وكان بين الأرناؤوط رجل اسمه «عيسى بولاطين» من زعمائهم، ولم يكن يراعي القوانين ولا يتحرج عن القتل والنهب إذا ألجأه الأمر. وكان السلطان عبد الحميد يصيبه بنعمه المتواترة حتى تسلم البلاد من عيثه، فلما أعلن الدستور لزم عيسى بولاطين بيته ساكنًا ولكن الاتحاديين لبثوا يحسبون له حسابًا، فأصدروا الأوامر إلى الحكومة المحلية بنزع سلاح عيسى بولاطين والجماعة التي حوله، ومن المعلوم أن الأرناؤوطي يؤثر الموت على تسليم سلاحه، فعصى عيسى بولاطين الأمر فساقت الدولة عسكرًا بقيادة جاويد باشا فذهب هذا الجيش ودمر القرى وأوقع بأهلها، ودك الحصن الذي يسكنه عيسى بولاطين، فثار الأرناؤوط في كل الجهات من أجل ذلك، واتسعت الثورة فضاعف جاويد باشا القوة وبطش بالثائرين بطشة جبارين، ونزع الأسلحة من أيدي الأرناؤوط وتقاضاهم غرامات ثقيلة، وقيل إنه قتل النساء والأولاد — وهذا ما لا نعتقده، ولكنه أشيع يومئذ عمدًا — فاجتمع ثلاثة آلاف أرناؤوطي في «فيرازوفيتش» لأجل الاحتجاج فرماهم جاويد باشا بالقنابر، وشرد بهم من خلفهم، ثم أخذت الدولة بإحصاء النفوس فازداد قلق الأرناؤوط، وعلموا من هذا أن الدولة تريد إجراء الخدمة العسكرية في ألبانيا. وكان مقصد الجون تورك في الواقع أن يلغوا امتيازات الأرناؤوط تدريجيًا، وأن يجبروهم على دفع الضرائب التي تدفعها سائر الرعية، وأن ينسوهم تلك الدولة التي عودهم إياها السلطان عبد الحميد، وكل هذا كان بعيدًا عن أن يرضى به الأرناؤوط وفي ١٧ يوليو سنة ١٩٠٩ عقد الأرناؤوط في «فريز وفيتش» مجمعًا عامًا للتحدث فيما بينهم في ما يجب أن يعملوه لمعالجة هذه الحالة، فأرسلت جمعية الاتحاد والترقي نيازي بك أحد أركانها لأنه أرناؤوطي، وأصحبته بجماعة من المخلصين لها على أمل أن يصرفوا الأرناؤوط عن المطالبة بما يخالف مصالح الدولة، فلم تقترن مساعيها بالنجاح، لأن المؤتمر الأرناؤوطي قرر أن يكون للأرناؤوط حق بتولي المناصب الإدارية، وبتعليم اللغة الأرناؤوطية، واقترح توسيع سلطة مجالس الولايات وإنشاء الطرق وعقد اجتماع سنوي للأمة الأرناؤوطية، وعدم تقاضي الأرناؤوط شيئًا من الضرائب عدا العشر، وأن يؤخذ معدل خمس سنوات ويجعل منه متوسط ويصبر جباية ثابت، وغير ذلك من الاقتراحات التي رأت فيها جمعية الاتحاد والترقي مقدمة لاستقلال داخلي في ألبانيا، وكانت بلاد ألبانيا الجنوبية ساكنة، بخلاف ألبانيا الوسطى والشمالية إلا أن الحركة في آخر الأمر شملت الجميع، وقرر الأرناؤوط فيما بينهم الحرب لأجل الاستقلال بإدارتهم الداخلية وتحفزوا للقتال.

وفي سنة ١٩١٠ بدأت الثورة في نواحي «برشتنة» بسبب الضرائب فأسرع الأرناؤوط من سائر الجهات إلى نجدة أرناؤوط برشتنة، فأرسلت الدولة جيشًا نحو عشرين ألف مقاتل، ومعهم ثلاثون بطارية من المدافع تحت قيادة شوكت طورغوط باشا، فقاتلوا الأرناؤوط قتالًا شديدًا ولكنهم لم يقدروا عليهم ولاسيما في مضيق «كاتشانيق» وهو موقع شديد المنعة في ولاية قوصوه احتله الأرناؤوط، وعجز العسكر عن أخذه، فما زالت ترد الإمدادات إلى شوكت طورغوط باشا حتى تمكن من الاستيلاء على المضيق وهزم الأرناؤوط بعد وقائع دموية، ودمر لهم قرى كثيرة فانتقلت مقاتلة الأرناؤوط إلى مضيق «تشرنالوفة» ولبثوا يقاتلون. فأرسلت الدولة محمود شوكت باشا ينصح للأرناؤوط بالكف عن القتال وبالدخول في طاعة الدولة فتوفق في مهمته وأخلد الأرناؤوط إلى السكينة. إلا أن عيسى بولاطين وإدريس صقر وعدة آلاف من الثائرين معهما لاذوا بالقرار إلى جهة الجبل الأسود، وإلى قرى الأرناؤوط الكاثوليك، وكانت الثورة الأرناؤوطية، في بادية الأمر قاصرة على الأرناؤوط المسلمين، ففي سنة ١٩١١ انضم إلى المسلمين قبائل الأرناؤوط الكاثلويك وصارت جمعيات الأرناؤوط في إيطاليا ورومانيا تمد الثورة، وجاءت إلى الأرناؤوط نجدات من الجبل الأسود، وصار ثوار الأرناؤوط يلجأون إذا ضاقت بهم الحال إلى أرض الجبل وعادت الثورة فازدادت اشتعالًا، وعبت الدولة ستين تابورًا، وأخذ شوكت طورغوط يدمر قرى الماليسور المارديت من الأرناؤوط الكاثوليكيين، فعند ذلك توسطت دولة النمسا والمجر لدى الباب العالي لأجل الكف عن سفك الدماء، فاستمعت الدولة نصيحة النمسا وأخذت في تضميد جروح الأرناؤوط بما أمكن، وسكن الأرناؤوط ولكنهم رجعوا إلى اقتراحاتهم الأولى وهي احترام الدولة لعاداتهم القومية واستقلال التعليم في مكاتبهم، واستعمال الحروف اللاتينية ومنح البانيا إدارة لا مركزية، وانفاق ما يفيض من واردات ألبانيا على منافع هذه البلاد، واجتمع مبعوثو الأرناؤوط تحت رئاسة حسن بك مبعوث اسكوب وقرروا هذه المطالب فأجابت الدولة بالقبول ورضيت بأن تكون الخدمة العسكرية سنة في الأستانة وسنتين في نفس البانية، وأوجبت أن يكون المأمورون في ألبانيا عارفين باللغة الأرناؤوطية، وأخذت الدولة ترمم البيوت التي دمرتها العساكر، ووزعت مبالغ من النقود على المصابين، وهكذا سكنت الثائرة الأرناؤوطية، وذهب السلطان محمد الخامس بنفسه إلى بلاد الأرناؤوط وصلى في صحراء توصوه ووراءه جمع قيل إنه ألف مصل، ورجع إلى الأستانة مسرورًا.

وفي تلك الأيام بدأ الشقاق بين أعضاء الاتحاد والترقي أنفسهم، واختلفت الآراء في مجرى السياسة التي يجب على الجمعية اتباعها، فخرج منها أناس مغاضبين، منهم أمير الألاي صادق بك الذي كان من مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي، فانفصل عن الجمعية وألف حزبًا جديدًا معاكسًا لها ثم استعفى طلعت بك، وأمر الله أفندي وحلاجيان أفندي من النظارات، التي كانوا يتولونها وظهر الناس ضعف الحكومة ولم يكن مجلس المبعوثين بأحسن منها حالًا بل كانت تتوالى فيه المشاحنات والمهاترات بين الأحزاب، ومرة جرت حادثة بين نواب العرب ونواب الترك وكادوا يتضاربون والخلاصة أن العثمانيين كانوا في ذلك الوقت يمزق بعضهم بعضا، وكانت كل العلامات تؤذن بسوء المصير، وإذا بحادث طرأ بغتة وهو أن إيطاليا أعلنت الحرب على تركيا أو تتخلى لها عن طرابلس الغرب وبرقة، وكانت مطالب إيطاليا عبارة عن خمسة وهي: خروج العساكر العثمانية من طرابلس، وبنغازي، ودرنة، وتشكيل جندرمة فيها تحت قيادة ضباط من الطليان، وأن تكون إدارة الجمارك بأيدي مأمورين من الطليان أيضًا، وأن لا يتعين وال لطرابس إلا برضى إيطاليا، وأعطى الباب العالي مدة أربع وعشرين ساعة ليجيب بالقبول. فاجتمع مجلس فوق العادة في القصر السلطاني، وسمع حقي باشا الصدر الأعظم كلامًا مهينًا بسبب إهماله وعدم احتياطه لأن سعيد باشا رئيس مجل الأعيان ذكر له أن مطامع إيطاليا لم تكن مجهولة عند تركيا، وأنه سبق لإيطاليا كونها قدمت مذكرة إلى الباب العالي سنة ١٩٠٤ بعد اتفاق إيطاليا مع فرنسا وإنجلترا تقول فيها،: إنها ما دامت الحالة غير متغيرة في البحر المتوسط، فإن إيطاليا لا تدعي بشيء في طرابلس الغرب، ولكن إذا حصل تغيير في البحر المتوسط يخل بالتوازن الدولي فهي مضطرة أن تتخذ تدابير لوقاية مصالحها. ثم إن حقي باشا كان سفيرًا في روما، فكان يجب عليه أن يطلع على حقيقة نيات إيطاليا وليس لحقي باشا عذر في غفلته هذه. فثبت بحق حقي باشا ما أوجب استقالته ملومًا بل مغضوبًا عليه، ولم يقدر هو أن يدافع عن نفسه. ثم أجاب الباب العالي برفض مطالب إيطاليا قائلًا لها: إذا كانت ستصمم على احتلال طرابلس فإن الدولة تقوم بالواجب عليها بإزاء اعتداء إيطاليا.

وحقيقة مسألة طرابلس الغرب من أولها إلى آخرها لا تخرج عن كون إنجلترا وفرنسا تقاسمتا أفريقيا، وذلك على أثر حادثة فاشودة المشهورة التي كادت توقع الحرب بين الدولتين، فعند ما اقتنعت فرنسا بإرجاع جنودها من فاشودة اتفقت الدولتان على تقسيم أفريقيا كلها تقريبًا بينهما على قاعدة أن فرنسا تسكت لإنجلترا على وادي النيل وجميع توابعه، وهن امتلاك الخط الممتد من البحر المتوسط إلى الكاب، وبمقابلة ذلك توافق إنجلترا على احتلال فرنسا للمغرب بحذافيره وتوابعه، وقد كانت هذه السياسة التي اتفقت فرنسا وإنجلترا عليها هي الأصل الأصيل في الحرب العامة ولولاها كان يبعد كثيرًا وقوع هذه المجزرة البشرية الكبرى، وذلك لأن ألمانيا وجدت في عمل فرنسا وإنجلترا هذا استخفافًا بها، وجهالة لمكانها بين الدول العظام وأخذت من ذلك الوقت تترصد الفرصة لإظهار ما في نفسها من عمل إنجلترا وفرنسا وأبت أن تعترف لفرنسا بحق احتلال مراكش. وسيكون لهذه المسألة أدوار أخرى تمر بها وتزيد العداوة بين ألمانيا وإنجلترا إلى أن تنشب الحرب العامة، لأنه عند ما اشتدت الأزمة بين فرنسا وألمانيا من أجل استيلاء فرنسا على مراكش، كان الفرنسيس سألوا الإنجليز عما يكون من موقفهم في هذا الخلاف؟ فأجابوهم بأن الأسطول الانلكيزي حاضر للعمل في جانب فرنسا. فكان هذا الجواب هو أعظم عامل في زرع العداوة بين الألمان والإنجليز. فالحرب العامة إذًا وإن تعددت أسبابها فقد كان السبب الأقوى في نشوبها اتفاق إنجلترا وفرنسا على تقسيم أفريقيا وانتهاء الأمر باحتلال فرنسا للمغرب بمساعدة إنجلترا، فإنجلترا من زمن قديم تريد أن تربط شرقي أفريقيا بالهند، وتجعل من ذلك مستعمرة واحدة، ولأجل تحقيق هذا المشروع توسلت بوسائل لا تحصى، أولها القضاء على الدولة العثمانية حتى يتسنى لإنجلترا وضع يدها على جزيرة العرب التي هي حائلة في الوسط بين أفريقيا والهند، والثاني القضاء على استقلال الدولة الإيرانية، وقد كنت إنجلترا اتفقت سنة ١٩١١ مع الروسيا على اقتسام المملكة الفارسية فجعلوها ثلاث مناطق، الشمالية تحت تصرف الروسيا، والجنوبية تحت تصرف إنجلترا، والمتوسطة مستقلة إلى حد محدود تحت نفوذ الدولتين.

وهكذا أصبح ممكنًا أن تمد إنجلترا خطًا حديديًا في جنوبي فارس آتيًا من الهند إلى العراق، ثم تمده في أراضي الدولة العثمانية من حدود فارس في أرض العراق وفلسطين إلى مصر، وهكذا إلى رأس الرجاء الصالح، وتكون جميع البلدان التي سيمر بها هذا الخط من أملاك إنجلترا خالصة لها. فما اكتفت إنجلترا بالاستيلاء على الهند التي فيها ٣٢٠ مليونًا من السكان، بل حاولت أن تطفر من الهند إلى أفريقيا، وتجعل هاتين القارتين، غربي آسيا، وشرقي أفريقيا قطعة واحدة، لا ينازعها فيها منازع. وكأنها تريد أن تأخذ موثقًا على الدهر، وتجعل الفلك الدوار يدور على محور إرادتها، فجميع هذه الأمم من هنود وإيرانيين وعرب ومصريين وأحباش وصوماليين وزنوج لم يوجدوا في نظر إنجلترا ليكون لهم حرية في أنفسهم! وإنما أوجدهم الله ليكونوا رعايا لإنجلترا حتى تكون لها الكبرياء في الأرض، ولأجل إتمام تصورها هذا لزم لها أن تسترضي فرنسا فتبيحها احتلال المغرب، واسترضاء إيطاليا فتتفق مع فرنسا ويسمحان لها باحتلال طرابلس الغرب، فهل تمكنت إنجلترا من تطبيق برنامجها الواسع هذا؟ الجواب إنها قد لقيت في تطبيقه ما لم تكن تتوقعه بل ما لم يكن يخطر لها على بال! فأول خرق وقع في هذا البرنامج وقع من جهة فارس فإن إنجلترا كانت تقاسمت فارس هي والروسيا قبل الحرب العامة، ثم جاءت الحرب العامة فكانت نتيجتها الظفر الأكبر لإنجلترا، وكان من المعقول أن إيران بعد هذا الظفر تصبح — لاسيما المنطقة الجنوبية منها — مستعمرة إنجليزية، فكان الذي حصل هو عكس ذلك، ورجعت إيران فأخرجت الإنجليز والروس من بلادها، ورجع خط الاتصال بين الهند ومصر منقطعًا.

وأما الخرق الثاني في برنامج السلطنة البريطانية هذا فقد وقع من جهة بلاد العرب، فقد كانت إنجلترا تفكر بأنها إذا قضت على الدولة العثمانية كانت هي الوارثة لها في بلاد العرب فتتصرف بهذه البلاد كما تشاء، والملك حسين بن علي الذي زعمت أنها حالفته واعترفت باستقلاله بدل قيامه على الأتراك، إنما تجعل له الحكم في الحرمين الشريفين فقط، وهو مع ذلك سيكون مضطرًا إلى قبول أية كلمة تصدر منها. وأما نجد والعراق وفلسطين فهذه كانت في نظر إنجلترا مرشحة تكون من المستعمرات البريطانية، فظهر لها بعد الحرب العامة وبعد ظفهرها مع حلفائها أن العراق لا يرضى أن يكون من جملة مستعمرات إنجلترا، وما زال يثور حتى اضطرت إنجلترا إلى الاعتراف باستقلاله، وهي وإن كانت اتفقت مع العراقيين على تأمين المواصلات الإمبراطورية كما يقال، فهذا التأمين للمواصلات ليس بسرمد، كما أن نجدًا مع توابعه الواصلة إلى الجوف، وإلى قريات الملح على مقربة من شرقي الأردن، بقى مستقلًا تمام الاستقلال، يليه ملك عظيم الشأن هو «عبد العزيز بن سعود» وقد أوسع ملكه بالاستيلاء على الحجاز وصارت هناك دولة عربية مؤلفة من نجد والحجاز وعسير يسكنها زهاء خمسة ملايين من قبائل العرب المسلحة، ولا يسهل على إنجلترا أن تلعب بها كما تشاء، ولا أن تجعل فيها خطوط مواصلات. فلذلك كان هو هذا الخرق الثاني في البرنامج البريطاني.

ثم بينما هي تظن أنها قد تملكت مصر ولم يبق لها معارض فيها ولا في السودان وبينما هي تقيم القيامة اليوم لأجل منع إيطاليا، من الاستيلاء على الحبشة حتى تؤمن السلطنة التي تحلم بها من البحر المتوسط إلى رأس الرجاء الصالح، ظهر لها خرق ثالث في هذا البرنامج، وهو قيام المصريين عن بكرة أبيهم يبلغون إنجلترا أن جميع مماطلاتها لن تفيدها شيئًا في حل الخلاف الذي بينها وبين مصر، وهو الخلاف الذي يأبى المصريون أن يعرفوا له حلًا غير مؤسس على استقلال مصر التام!. فهذه إذًا ثلاثة خروق، أولها إيراني، والثاني عربي، والثالث مصري، في هذا البرنامج الواسع الذي حلمت به إنجلترا، وليس الإنجليز بأول كتلة بشرية اتسع سلطانها حتى أفقدها رشدها، وجعلها تحاول تخليد حكمها على آفاق لا تغرب الشمس عنها. بل من قبلها سكرت أمم كثيرة بخمرة العز! وبينما هي تظن أن لم يبق لها منازع في الدنيا، جامتها الحوادث بما لم يكن في سحبانها، وخسرت ما كانت قد تظنته مما ملكت أيمانها، وظهر على الأمر من لم يكونوا لها على بال. ولا بد أن يصدق فيها قوله تعالى: كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ

ونعود إلى غارة إيطاليا على طرابلس الغرب فنقول: إنها وإن كانت قد اعتذرت بكون الإنجليز والفرنسيس تقاسمتا أفريقيا، ولم تبقيا لها شيئًا غير طرابلس الغرب فاضطرت إلى احتلالها، فإنه لم يكن من ضمير حي، ووجدان قوي، ليقبل هذا التعليل ويجعله حجة!!. وإن كان مما لا شك فيه أن إنجلترا وفرنسا كانتا على وفاق مع إيطاليا في قضية طرابلس. ولذلك عند ما استغاثت تركيا بدول أوروبا جمعاء مما فعلته إيطاليا أصمت إنجلترا وفرنسا آذانهما عن سماع نداء تركيا!! وليتأمل المتأمل في تلوي السياسة ودناءة مباديها، وذلك عندما يرى أن اعتداء إيطاليا على طرابلس لم تقابله إنجلترا بأدنى كلمة استنكار، على حين أنها اليوم تحشد إنجلترا ١٨٠ بارجة حربية، وتجمع كلمة خمسين دولة من أعضاء جمعية الأمم على مقاطعة إيطاليا التجارية بحجة أن إيطاليا شنت الغارة على الحبشة ظلمًا وعدوانًا، كأن الغارة على طرابلس لم تكن ظلمًا وعدوانًا!! كأن الغارة على طرابلس لم تكن ظلمًا وعدوانًا!! يحللونه عامًا ويحرمونه عامًا، ويفضحون أنفسهم أمام التاريخ ولا يبالون بما يقال عنهم.

أرسلت إيطاليا في ٢٩ سبتمبر سنة ١٩١١ أسطولًا عظيمًا إلى مرسى طرابلس فأنذر البلدة بالضرب إن لم تستسلم له، فأبت البلدة الخضوع بدأ يرميها بالقنابر وما زال يرميها حتى تمكن من احتلالها في ٧ أكتوبر ولم يكن فيها قوة من الجيش لا في العدد ولا في العتاد، وإنما كان الأهالي العرب هم الذين تولوا كبر المقاومة. وبعد أن نزل الطليان بساحة طرابلس حاول العرب أن يردوا العسكر الإيطالي إلى البحر، فاقتتل الفريقان من ٢٣ أكتوبر إلى ٢٦ منه بشدة نادرة المثال، وكاد العرب يقلعون الطليان من طرابلس، ولولا امتناع الطليان بقلاع طرابلس لأخرجوهم منها ولكنهم امتنعوا ريثما تكاملت جموعهم بوصول الامدادات من البحر، ورد والعرب إلى الوراء بعد أن لحقت بالطليان خسائر جسيمة. ومن شدة ما لحق بهم من الخسائر ارتكبوا فظائع لا تزال وصمة عار عليهم في التاريخ، وذلك في حادثة المنشية التي ذبحوا فيها الأهالي ولم يستثنوا أحدًا ولا النساء ولا الأطفال!! ونشرت ذلك الصحف الأوروبية — حتى الصحف المعادية منها للإسلام — فانكفأ الطرابلسيون إلى «واحة عين زارة» فتقدم الطليان بقوة كبيرة وأخرجوهم منها، فانكفأوا إلى «غريان» وصاروا يناوشون الطليان القتال بينها وبين مدينة طرابلس. وقد طرح مبعوثو طرابلس قضية بلادهم في مجلس الأمة العثمانية، فحصلت المناقشات فيها فتبين من إهمال الحكومة العثمانية في ظل الدستور والحرية ما لم يكن معهودًا في زمن السلطان عبد الحميد الذي رموه بكل سوء. فمن جملة ذلك أن حامية طرابلس كان ينبغي أن تكون بحسب النظام ١٧ تابورًا من المشاة و١٠ كواكب من الفرسان، وست بطاريات من مدافع الصحراء، والحال أنه لم يوجد في كل طرابلس إلا أربعة آلاف جندي نظامي لا يزيدون، وأنه كان أهالي طرابلس قد اقترحوا التجنيد من تلقاء أنفسهم، وقرر المجلس في السنة السابقة النفقات المالية لذلك، وعند ما حضر الشبان للتجند وكانوا ستة عشر ألفًا لم تقبل القيادة منهم إلا ثلاثة آلاف وأربع مئة. وكان يوجد في طرابلس أربعون ألف بندقية من نوع مرتيني ونوع شنيدر، فاسترجعتها الحكومة إلى الأستانة على وعد أن ترسل بدلًا عنها أربعين ألف بندقية موزر، فنسيت الحكومة هذا الوعد ولم ترسل شيئًا، وتبين أنا المشير إبراهيم باشا الذي كان واليًا لطرابلس قبل ذلك بسنوات اقترح تأسيس معمل سلاح وقراطيس للبنادق في نفس طرابلس وكتب إلى الباب العالي بأن أهالي طرابلس أشداء ذوو بصائر في الحروب إذا أغارت عليهم دولة أجنبية يقدرون أن يدفعوها عن بلادهم، بشرط أن يكون عندهم الأعتدة والأسلحة الكافية، ولما كان لا يوجد عند الدولة قوة بحرية تؤمن إيصال الأسلحة إلى طرابلس فيما إذا أغارت على هذا القطر دولة كدولة إيطاليا، فإنه يجب إرسال كمية وافرة من الأسلحة إلى ثكن طرابلس، وتأسيس معمل للسلاح أو للرصاص بالأقل في نفس طرابلس، بحيث يكون في أيدي الأهالي عدة كافية يدافعون بها عن أنفسهم عند الحاجة، فهذا الاقتراح أهمله الباب العالي ولم ينظر فيه برغم النذر الكثيرة التي كان يتلو بعضها بعضا بأن إيطاليا تتأهب من زمن طويل للإغارة على طرابلس وبرقة.

بل حدثني من أثق به من زعماء الطرابلسيين.

ومنهم كبيرهم السيد أحمد الشريف السنوسي رحمه الله بأن الدولة في زمن السلطان عبد الحميد كانت ترغب في تجريد أهالي طرابلس من السلاح، وتكبس الزوايا السنوسية التي تظن فيها وجود أسلحة وأن انتقال السيد المهدي السنوسي من واحة جغبوب إلى واحة الكفرة على مسافة ٢٥ مرحلة من بنغازي إلى الجنوب كان أصل السبب فيه اعتقاد المهدي السنوسي أن هذا القطر سيتعرض في يوم من الأيام لاحتلال إيطاليا، أنه سيحتاج الأهالي إلى السلاح حتمًا، والحال أن الدولة العثمانية — بعماية قلب غير مفهومة — كانت تحاول تجريد الأهالي من أسلحتهم، ولا تريد أن تدرك أن هذا القطر دون غيره هو تحت خطر غارة أجنبية لا تقدر الدولة أن تدفعها إلا إذا كان الأهالي متسلحين. فالسيد المهدي السنوسي رضي الله عنه كان يرى ضرورة التسلح في وجه الأجانب، ولكنه لم يكن يريد أن يخاصم الحكومة العثمانية التي كانت ضد هذا الأمر، فأوغل في الصحراء وسكن في الكفرة بعيدًا عن الحكومة، وذلك حيث يمكنه أن يتسلح هو ومن معه، وأن يستقل بآرائه. ولما ذهبت أنا إلى برقة لأجل الجهاد بعد الغارة الإيطاليا ببضعة أشهر، سمعت أن متصرف بنغازي كان قبل حرب طرابلس بشهرين يكبس زاوية من زوايا السنوسيين اسمها زاوية القطفية بتهمة أنه مخبأ فيها سلاح. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ولما اجتمعت بأنور رحمه الله بمعسكر عيد منصور فوق درنة، حيث أقمت ثمانية أشهر مجاهدًا. كنت أتحدث إليه بما في نفسي من تقصيرات الدولة الفظيعة بحق طرابلس، وكان يوافق على ذلك كله ولا يجد عن إهمالها عذرًا.

ثم إنه كان تقرر لدى الدولة تعليم أهالي طرابلس الحركات العسكرية، وأن هذا القرار أيضًا قد أهملته الحكومة، ولهذا طلب مجلس الأمة محاكمة حقي باشا وزملائه الوزراء لأجل ما ارتكبوه من هذه الإهمالات كلها، فلم ينفذا القرار بسبب أن بعض الوزراء كانوا من أركان الاتحاد الترقي، فكيف يمكن الجمعية أن توافق على إدانتهم ومحاكمتهم؟ فبقي هذا القرار من المجلس حبرًا على ورق.

وكان الصدر الأعظم سعيد باشا قد جنح إلى الصلح، لأن إيطاليا كانت قد احتلت رودوس والجزائر التي تجاورها، وكان البحر في يدها، ولم يكن الأسطول العثماني كفؤًا للأسطول الإيطالي. فكان الصدر يرى وجوب الصلح على شرط إبقاء السيادة العثمانية على طرابلس ولو بالاسم، وحفظ حقوق الخلافة الإسلامية، وكانت هذه سياسة دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف، إلا أن الرأي العام الإسلامي كان ضد التساهل في قضية طرابلس، لا سيما عندما رأى المسلمون أن عرب طرابلس لبوا داعي الجهاد بشكل لم يكن منتظرًا، ووقفوا في وجه إيطاليا وقفة كان الأوروبيون أنفسهم لا يصدقونها لو لم يروها بأعينهم!. فإيطاليا كانت تظن بحسب المعلومات التي عندها ضعف الحامية العثمانية في طرابلس، أنها تستولي على هذا القطر في مدة لا تتجاوز ١٥ يومًا، وهل لا تشك في ذلك، ولما سمع اللورد كتشنر بظن إيطاليا هذا — وهو القائد المحنك المشهور — وكان يومئذ المندوب السامي البريطاني في مصر قال: إني أرى الطليان مفرطين في التفاؤل، وإن تجربتي الطويلة في حروب أفريقيا تجعلني أخطئ هذا الرأي وأقول: إن احتلال إيطاليا لطرابلس الغرب وبرقة قد يستغرق ثلاثة أشهر… فهذه الثلاثة الأشهر التي ضربها أمدًا اللورد كتشنر القائد الإنجليزي الكبير، المنجذ في حروب العالم الإسلامي، والخمسة عشر يومًا التي ضربتها إيطاليا أمدًا لتمام الاستيلاء على طرابلس، كانت لدى الفعل عشرين سنة تامة، وما انتهت إلا بأسر الشهيد عمر المختار وشنق الطليان إياه وذلك سنة ١٩٣١ ولو كان أهالي طرابلس يملكون ما فيه بلغة من العتاد والذخيرة لكانوا إلى اليوم حامين لساحتهم. فإيطاليا بعد غارتها على طرابلس بشهرين أو ثلاثة أوصلت جيش الاحتلال هناك إلى مئة ألف عسكري، ولكنها لم تقدر أن تتقدم إلى الأمام شبرًا واحدًا، بل كان جيشها في نفس مدينة طرابلس، وفي بلدة خمس، وفي مدينة بنغازي التي لم تقدر العساكر الإيطاليا أن تنزل فيها إلا بعد معركة استمرت ثلاثين ساعة، وجرى فيها من الوقائع ما تشيب له ذوائب الأطفال واحتل الطليان أيضًا بلدة درنة على البحر في ذيل الجبل الأخضر، وموقع طبرق من البطنان، أي أنهم لم يكونوا داسوا من أرض طرابلس سوى هذه المدن الأربع، بينما لهم هناك مئة ألف عسكري تمدها البوارج الحربية من البحر!!

وكان أنور ملحقًا عسكريًا بسفارة الدولة في برلين، وكان علي فتحي ملحقًا عسكريًا بسفارة الدولة في باريز، فخف أنور من برلين إلى الأستانة يقصد الجهاد في طرابلس، ولما أبدى اقتراحه وجوب تسفير جانب من الضباط إلى طرابلس لم يعتقد أحد في الأستانة بأن ذلك يؤدي إلى فائدة عملية، ولما استأذن لنفسه في الذهاب إلى طرابلس قال له محمود شوكت باشا ناظر الحربية: لا أرى فائدة منس فرك، وربما يقتلك العرب في الطريق لأن الطليان يقدرون أن يرشوهم بالمال فيغتالوك؟! فقال له أنور: لقد أهملنا طرابلس إهمالًا فظيعًا ضاقت فيه فسحة العذر، فيجب علينا أن نعوض تفريطنا في حقها، وأن نبذل كل ما نستطيعه في سبيل الدفاع عنها، وإذا كان العرب يقتلوننا في الطريق فيكون الذنب ذنبهم، ونعود نحن معذورين. قال لي هذا أنور من فمه في معسكر درنة، وقد وقعت بيني وبينه مودة أكيدة، وخلطة ارتفع فيها التكليف بيننا، واستمرت هذه المحبة منذ تعارفنا في عين منصور سنة ١٩١٢. ولما رأت الدولة إصرار أنور على الجهاد بنفسه في طرابلس، أدت إليه خمسة آلاف جنيه لا غير لاعتقادها عقم حركته هذه، فذهب ومعه عدة ضباط مروا من مصر متنكرين، وكان مصطفى كمال من جملة هؤلاء الضباط.

ولم يصلوا إلى السلوم حتى وافتهم الأخبار بأن قبيلة من العرب يقال لها الشلاوية وهي من القبائل الصغرى أوقعوا بتابورين من الطليان وردوهم مدحورين إلى درنة وغنموا منها أسلابًا كثيرة. فاشتد بهذا الخبر عزم أنور، وأغذ السير، فأول ما لاقى زعماء العرب ومشايخ الزوايا السنوسية في زاوية مرطوبة، وكان العرب ناقمين على الدولة إهمالها أمر طرابلس، ذاكرين تلك الحماقة التي كانت تظهر من عمالها في تجريدهم من سلاحهم، فقالوا لأنور: إننا لا نمشي ولا نقاتل حتى تأتينا بالأسلحة والذخائر الكافية وبالمدافع. فأجابهم بأنه سيأتي بكل ذلك، وكان مقصده بهذا الوعد الفارغ إثارة حماستهم حتى ينغمسوا في الحرب، وإلا فهو كان يعلم صعوبة تهريب السلاح إلى طرابلس وبرقة، فإن الأسطول الإيطالي كان مراقبًا السواحل مراقبة شديدة فلم تتمكن تركيا من تسريب الأسلحة إلى المجاهدين إلا في الأندر. والذي أعلمه أنه من محمول البواخر العديدة التي أرسلتها الدولة لم يصل إلا محمول باخرتين لا غير، إحداهما تمكنت من التفريغ في سواحل برقة، والأخرى تمكنت من التفريغ في ساحل طرابلس لأول هذه الحرب.

وقد كان من الممكن تهريب السلاح بواسطة سواحل مصر لولا أن الإنجليز شددوا المراقبة إلى الدرجة القصوى بواسطة مصلحة خفر السواحل المصرية، فلم تتمكن الدولة من تهريب بندقية واحدة بواسطة سواحل مصر. ولما كنت قد أقمت في معسكر عين منصور عدة أشهر، فقد علمت أن السلاح الذي كان يقاتل به العرب هناك قليل منه كان من بقايا سلاح الدولة، ومنه قسم من السلاح اليوناني المهرب الذي يقال له «غراه» والأكثر كان من البنادق الطليانية التي كان العرب يغنمونها في أثناء الوقائع.

وقد أعجب العرب بحمية أنور وبسالته فأحبوه حبًا جمًا، ولما وصلت إلى هناك وجدت في مخيم عين منصور من الجبل الأخضر على مسافة ساعتين من درنة إلى الجنوب سبعة أو ثمانية آلاف مقاتل من العرب من قبيلة العبيدات، وقبيلة البراعصة وقبيلة الحاسة، وبينهم المشايخ السنوسية لزوايا الجبل الأخضر، مثل سيدي محمد العالمي الغماري شيخ الزاوية البيضاء، وسيدي محمد الدردفي شيخ زاوية شحات، وسيدي محمد الغزالي شيخ زاوية ترت، وغيرهم من أشياخ السنوسية.

وكان مع أنور بضعة عشر ضابطًا من الأتراك، منهم مصطفى كمال رئيس جمهورية تركيا اليوم، وبضعة عشر ضابطًا آخرون من أبناء العرب. ولما مررت بطبرق كان الطليان احتلوها، ولكنهم بنوا استحكامًا بقرب البحر امتنعوا من ورائه فلم يكونوا يقدرون أن يخرجوا منه، وكان هناك أمامهم معسكر للعرب قائده أدهم باشا الحلبي، ولا يزيد عدد المقاتلين فيه على ألفين، وبينه وبين معسكر الطليان في طبرق ساعة ونصف، وكان عمدة المقاتلين للطليان في معسكر طبرق قبيلة يقال لها عائلة مريم من العبيدات، وكان لها زعيم يقال له الشيخ المبرى قتل في الجهاد، وكان القائمون بالجهاد في برقة هم السادة السنوسية تحت رئاسة السيد أحمد الشريف الذي استنفر القبائل كلها فانضرت تحت علم السنوسي، وانقادت إلى الضباط العثمانيين تحت رئاسة أنور القائد العام، فكان معسكر صغير في طبرق أمام الحامية الطليانية التي نزلت في ذلك المرسى، ومعسكر ثان في عين منصور تحت قيادة أنور بنفسه وهو يقابل الطليان الذين في درنة، وكان عدد الطليان عشرين ألف مقاتل، ولكنهم كانوا لا يقدرون على الخروج، ولكما خرجوا ردهم العرب إلى حيث كانوا، لا يقدرون على الخروج، ولكما خرجوا ردهم العرب إلى حيث كانوا، وقد بنوا استحكامات حول درنة يعتصمون بها إذا هاجمهم العرب إلى البلدة، ولكن مهاجمة كهذه كان ينبغي لها مدافع، ولم يكن في معسكر أنور إلا مدفعان صغيران لا غير.

وكانت مدافع الطليان من أضخم المدافع، وكانوا يقذفون علينا بالشرانبل بدون انقطاع، وأظن أنه لولا المدافع الكبيرة ما استطاع الطليان الثبات في درنة نفسها.

وأما المعسكر الثالث في برقة فكان في بنغازي تحت قيادة عزيز بك المصري وكانت فيه قبائل العواقير، والمغاربة، والدرسة، والعرفا، والعبيد، وفيه من زعماء السنوسية سيدي عمران السكوري، وسيدي محمد بن عبد المولى، وجم غفير معهما وكان المعسكر العربي مخيمًا في سهل يبعد ساعتين عن بنغازي إلى الجنوب، وكنا نخمن عدده بأربعين ألف مقاتل كلها تحت المضارب. وقد وقعت سواء في درنة أو في بنغازي وقائع في غاية الشدة، وخسر الطليان فيها ألوفًا مؤلفة من الجنود، وما استطاع الطليان أن يخرجوا مسافة شبر واحد إلا ردهم العرب إلى المدن فاعتصموا بها تمدهم بوارجهم من البحر.

وقد ذكرت هذه الحوادث في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» في مبحث خاص بطرابلس الغرب أوسع من هذا. وبقيت هذه الحالة كما نحن واصفوها إلى أن نشبت الحرب البلقانية، وهي التي هجمت فيها دول البلقان مجتمعة بسياسة قيصر الروسيا على تركيا مفاجأة، فتغلبت عليها فبعثوا من الأستانة إلى أور يستقدمونه إلى الأستانة بإلحاح شديد، فاضطر إلى ترك القيادة كارهًا، وعاد إلى استانبول وخاض في حرب البلقان، ولكن بعد أن كانت دارت الدائرة على الدولة وكان لأنور بلاء حسن بمعية القائد أحمد عزت باشا الأرناؤوطي عندما استرجع الأتراك ولاية أدرنة وبعد رجوع أنور إلى الأستانة صارت قيادة المجاهدين في يد عزيز بك المصري فبقي يقاوم الطليان مدة من الزمن لكنه اختلف مع السنوسية اختلافًا شديدًا، وكانت إيطاليا قد اتفقت مع عباس حلمي خديوي مصر لذلك العهد، وذلك على أنه يبذل جهده في تسكين حركة المقاومة فاقتنع بذلك، وأرسل وفودًا إلى السنوسية ينصح لهم بترك الجهاد فلم يقبلوا كلامه. وحدثني السيد أحمد الشريف أنه عندما جاءه رسول الخيدوي آخر مرة قال له: كنا نتلقاك بالإكرام والاحترام مراعاة للذي أرسلك وإن كنا لم نستطع إجابة طلبه، ولكن بعد أن تكرر قدومك علينا بالطلب نفسه فإننا مضطرون أن ننذرك بأنك إذا جئت بعد هذه المرة من قبل سمو الخديوي تنصح لنا بترك الجهاد فليس لك عندنا أمان على نفسك.

ولما قطع الخديوي أمله من السنوسية استقدم عزيز بك المصري إلى مصر وكانت الدولة قد عقدت معاهدة الصلح مع إيطاليا وأمرت عزيز بك على بإخلاء برقة فجأة ومعه أربع مئة جندي هم بقية العسكر العثماني الذي كان في برقة، والتمس السنوسية من عزيز بك أن يترك لهم الأسلحة والأعتدة التي كانت في يد العسكر، فاحتج بعدم إمكانه ذلك لأن الدولة كانت صالحت إيطاليا على طرابلس بعد أن هاجمتها الدول البلقانية، ومن أجل ذلك لا يقدر هو أني سحب العسكر إلا بسلاحه، فحصل بينه وبين العرب من أجل قضية السلاح هذه معركة في سهر «دفنة» من البطمان غير بعيد عن السلوم، قتل فيها من العسكر بضعة عشر رجلًا، ومن العرب زيادة على ستين فتكاثرت العرب واستصرخ بعضهم بعضا وأحاطوا بالعسكر ومنعوه من المسير وكان مرادهم إصلاء عزيز بك والجند الذي معه معركة لم تكن تنتهي إلا بفناء الأربع مئة جندي، وعدد كبير من العرب المهاجمين، فوصل الخبر إلى السيد أحمد الشريف بمكانه من الجبل الأخضر، فأرسل السيد عمر المختار الشهيد المشهور يأمر العرب بالانصراف، وترك عزيز بك المصري بعسكره يسير إلى جهة مصر، وكانت المسافة بين مكان السيد السنوسي ومكان عزيز بك مسيرة أربعة أيام، فقطعها الشيخ عمر المختار في أربع وعشرين ساعة، ولما وصل وجد العرب كلها تجمعت وقد أحاطت بعزيز بك وعسكره تريد الأخذ بالثأر، فأبلغ عمر المختار قبائل العرب أمر السيد أحمد الشريف وقال لهم: مهما كان قد حصل فإنه لا يليق بنا أن تكون نهاية مساعدة الدولة لنا في هذه الحرب أن نفتك بعساكرها لأجل مسألة سلاح، وهم مجاهدون ومسلمون مثلنا. وهكذا ألقى عمر المختار السلام بين الفريقين، ومضى عزيز بك بعسكره إلى مصر وقد ترك السلاح للعرب.

ولابد من التنويه بالمقام المحمود الذي كان لأهل مصر في هذا الجهاد، فإن هجوم الطليان على طرابلس وق بغتة، فما مضت أيام حتى بدأوا بالتفاوض مع العرب واستجلبوا أناسًا منهم على جهتهم لأن الطرابلسيين رأوا أن الدولة لم ترسل قوة تدافع بها عن بلادهم، ووجدوا القوة التي لها من قبل في طرابلس تكاد تكون عدمًا، فانقطعت آمالهم من إمكان الجهاد. وبينما هم في منتهى الانكسار إذ وصلت إليهم قوافل من مصر موقرة أرزاقًا يتلو بعضها بعضا، فكانوا كالأرض الميتة التي أصابها وابل فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن ذلك الوقت بدأوا بالجهاد العظيم، وعلموا أن المسلمين من ورائهم ظهير، ثم لم يلبث أنور أن وصل فازدادت بذلك ثقتهم واشتدت حماستهم، وكان منهم هذا الجهاد الذي استمر عشرين سنة. على أنه لولا دعوة السيد أحمد الشريف هذه القبائل إلى الجهاد ما كان مجئ أنور من الأستانة ولا كانت جمعية الإعانة المصرية التي ترأسها الأمير عمر طوسون ليتمكنوا من تأسيس هذا الجهاد المبين على هذا الأساس المتين، الذي أذن للعرب بأن يصدوا دولة عظيمة كإيطاليا مدة عشرين سنة!

وأما من جهة غربي طرابلس فقد كان الجهاد لا يختلف في شيء عما كان في جهة برقة، واجتمعت هناك الكلمة على الحرب دفاعًا عن الوطن، والتفوا حول نشأت بك قائد الجند العثماني الذي جاءه فتحي بك الملحق العسكري العثماني في سفارة الدولة في باريز، وصار هو رئيس أركان الحرب، وانضم إليهم رجالات طرابلس مثل الشيخ سليمان الباروني زعيم الأباضية، وآل سيف النصر، والمحاميد، وأهالي مصراته وترهونه، وزليطن، وأرفلة، وغيرهم. وكان للدولة معسكر أمام طرابلس، ومعسكر آخر أمام خمس، وكان في المعسكر الأول نشأت بك، وفتحي بك، وفي المعسكر الثاني خليل بك خال أنور باشا، نورى بك أخوه. وكانت الحالة هناك كما كانت في برقة تمامًا، أي أن المجاهدين كانوا يصدون الطليان عن الخروج من طرابلس وخمس، وبقي هذا الأمر إلى أن نشبت الحرب البلقانية وصالحت الدولة إيطاليا على طرابلس، فانفضت هذه الجموع، وركب نشأت بك وفتحي بك ببقية العساكر إلى الأستانة، وكما أن المصريين قاموا بالواجب تحت رئاسة الأمير عمر طوسون من إمداد مجاهدي برقة، فإن التونسيين قاموا أيضًا بمثل ذلك من إمداد مجاهدي طرابلس وكل من الفريقين أنفق بدون حساب، وتجلى هناك تعاون المسلمين بما يسر الخواطر ويحقق قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.

وأحزر أن المصريين أمدوا مجاهدي برقة بمبلغ لا يقل عن مائتي ألف جنيه نقدًا عدا قيمة الأقوات والأرزاق التي كانت قوافلها متصلة يلاقي بعضها بعضًا بين غاد ورائح، وقادم وقافل، فهذه لا أعلم حسابا، وعدا ثلاث بعثات أرسلها الهلال الأحمر المصري، وقام فيها بمساعدات كبيرة. وكان للدولة العثمانية أيضًا بعثات هلال أحمر متعددة وجاءت بعثة هلال أحمر أيضًا من قبل أهالي كانوا مصابين بأمراض مزمنة، وأوبئة مستحكمة، لاسيما مرض الزهري المنتشر. فأخذت هذه البعثات بمؤاساتهم بعد أن كانوا لا يعرفون شيئًا من أمر العلاج والوقاية، فاستفاد الأهلون كثيرًا في صحتهم، لاسيما عرب الجبل الأخضر. ولولا أن نشبت الحرب البلقانية والتزم المصريون تحويل إمداداتهم إلى جهة الأستانة، لكان الجهاد في القطر الطرابلسي بقي على حاله، وكان الطليان لا يقدرون أن يبرحوا مراكزهم وراء استحكاماتهم ولكن الحرب البلقانية شغلت المسلمين عن حرب طرابلس، وانصرفوا عن المهم إلى الأهم، وأخذت لجنة الإعانة تحت رئاسة الأمير عمر طوسون «أمين الأمة» ترسل الإعانات إلى الدولة، وأراد الأمير عمر أن يبعث أيضًا ما بقى من الإعانة الطرابلسية إلى الأستانة فتبت إليه حينئذ أرجوه أن يبقى إعانة طرابلس لطرابلس لأنها في الحرب البلقانية لا يكون لها غناء ذوبال، وأما في طرابلس فإنها تسد أرماق المجاهدين الذين كانوا يجاهدون مكتفين بالقوت الضروري، فقد كان الواحد منهم يعيش بقرش ونصف في اليوم.

ولما طال القتال في طرابلس على غير نتيجة لإيطاليا، أخذت هذه تفك في إشعال الحرب على تركيا في أمكنة أخرى، فأما الدردنيل فكانت الدولة قد بادرت بتحكيمه ووضعت فيه أربعين ألف عسكري فلم يجرأ الأسطول الطلياني أن يقتحمه حذرًا من الدمار، ولكنه احتل موقعًا من جزيرة لمنى.

ثم ذهب فدمر نسافتين من الأسطول العثماني كانتا في بيروت، ولما لم يجد الطليان فائدة من هذه التهويلات أجمعوا احتلال جزيرة رودوس وبقي مع ذلك العثمانيين مصممين على القتال، وكان فريق من الترك يود في الباطن مصالحة إيطاليا على طرابلس تخلصًا من الأخطار التي كان يخشى منها على الدولة باستمرار الحرب، إلا أنهم خافوا هيجان العرب والعالم الإسلامي فيما إذا تخلوا عن طرابلس، ولم يكن مساعدًا لإيطاليا يومئذ حسب زعم الطليان سوى الخديوي بالسبب الذي تقدم ذكره وقد أشار إلى ذلك جيلوتي رئيس نظار إيطاليا السابق، وذلك في مذكراته المطبوعة التي يذكر فيها تاريخ حياته، فصرح بأن عباس حلمي خديوي مصر كان من أول حرب طرابلس إلى آخرها مساعدًا لإيطاليا بما أمكنه من الوسائل، بحجة أن جده إسماعيل باشا عندما خلع من إمارة مصر وسكن في نابولي خشت الحكومة الإيطاليا معاملته! ولما أطلع الأتراك على هذا الكتاب بعد الحرب العامة، وكان جيولتي نشره قبل ذلك ببضع سنوات كان لذلك وقع سيئ لديهم، وطعنت جرائدهم في الخديوي السابق طعنًا شديدًا.

فالدولة كانت إذًا لا تجرأ على التخلي عن طرابلس حتى بعد احتلال رودوس وكان الطليان أصبحوا في حيص بيص من تمادي هذه الحرب التي كلفتهم مبالغ طائلة من المال «منذ عشر سنوات كانت إيطاليا أحصت خسائرها المالية على طرابلس بثلاث مئة مليون من الجنيهات» وعشرات ألوف من الرجال، فحدثتها نفسها أخيرًا باحتلال بلاد الرومالي، وكان هذا مما يغيظ البلقانيين الطامحين إلى ميراثها من تركيا وكانت الروسيا قد بدأت بسياسة التأليف بين البلغار والسرب واليونان، حتى يهاجموا الدولة العثمانية يدًا واحدة، فوجدت إيطاليا في احتلال الرومللي سببًا للتنازع بينها وبين البلقانيين، فتوقفت عن ذلك وربما تكون إيطاليا كلفت الروسيا اتخاذ سياسة ضغط على الباب العالي حتى يرضى بالتخلي عن طرابلس.

فأخذت الروسيا تفاوض الدول العظام في التوسط لدى الباب العالي في هذا الأمر، وأخيرًا اتفقوا جميعًا على تقديم مذكرة إلى تركيا ينصحون لها فيها بوضع حد لهذا الخلاف، فأجابت تركيا أن الصلح الوحيد الذي يمكنها أن ترضى به هو إلغاء قرار مجلس نواب إيطاليا استلحاق طرابلس الغرب، وسحب جميع العساكر الطليانية من ذلك القطر، وإلا فهي تقاتل إلى ما شاء الله قتال المظلوم المتعدى عليه! وبينما تركيا على أشد ما يمكن من العزم للدفاع عن طرابلس لما شاهدته من بأس الطرابلسيين وشدة بلائهم في هذه الحرب، ولكونها لم تكن تتكلف عليهم في الشهر الواحد أكثر من مئة ألف جنيه، إذ راعها اتحاد الدول البلقانية الأربع، اليونان، والبلغار، والسرب والجبل الأسود، وتحفزهم للزحف عليها فعند ذلك أجمعت الصلح مع إيطاليا مكرهة.

وكان أنور لا يزال في الجبل الأخضر، ووصل إلينا الخبر ونحن هناك. فعلمت أن الدولة لا تقدر أن تكافح البلقانيين جميعًا ومعهم إيطاليا. وفكرت أنه يمكنها إذ أكرهت على الصلح مع إيطاليا أن تستمر على إمداد الطرابلسيين سرًا بواسطة مصر، ويمكنها أيضًا أن تسحب عسكرها النظامي الباقي في طرابلس بدون أن يحدث ذلك فتورًا في الدفاع. فبعد أن وقعت مذاكرات بيني وبين السنوسيين من أعون السيد أحمد الشريف لأنه كان وقتئذ لم يزل في الكفرة، برحت الجبل الأخضر قادمًا وكان الصدر الأعظم حينئذ مختار باشا الغازي، ولكن السياسة كان أكثرها في يد كامل باشا، وكان ناظر الحربية ناظم باشا، وكان شيخ الإسلام جمال الدين أفندي فقابلتهم جميعًا وأوضحت لهم محاذير التخلي عن طرابلس، فقال لي كامل باشا بالحرف: إننا لا نقدر أن نحارب أربع دول البلقان، وسنتمر على محاربة دولة عظيمة كإيطاليا، فبينت له ن استمرار الدفاع عن طرابلس ممكن بدون تكليف الدولة مؤونة شاقة لأن المجاهدين هناك إذا كفلت لهم الدولة والعالم الإسلامي قوتهم الضروري فإنهم يقدرون أن يصدوا الطليان عن التقدم، وليس المقصد من مسعانا سوى إقناع الدولة بأنها إن أكرهت على الصلح لا تتخلى عن إمداد الطرابلسيين بواسطة مصر، فهذا الرأي لم يرفضه كامل باشا، وكذلك أكد لي جمال الدين أفندي شيخ الإسلام بأن الدولة لن تهمل أهل طرابلس، ولكنها مضطرة الآن أن تكف عن حرب إيطاليا حتى تكون انتهت من الحرب البلقانية.

وبالاختصار أرسلت الدولة نابي ك، وفخر الدين بك إلى سويسرا حيث اجتمعا مع برتوليني وفولبي معتمدي إيطاليا وباشرا مذاكرات الصلح، وانتهى الأمر بأن الدولة تترك سيادتها على طرابلس لأهاليها، وتنصح لهم بالائتلاف مع إيطاليا، وأن إيطاليا تعفو عن جميع الذين قاوموها في طرابلس من الأهالي، والعساكر التي للدولة في طرابلس يخرجون منها، كما أن العساكر الإيطاليا تجلو أيضًا عن رودوس، وجزر الأرخبيل التي احتلتها.

وكان أيضًا من جملة الشروط أن تبقى طرابلس مرتبطة بالدولة من الجهة الدينية فالسلطان يبقى هو الخليفة الأعظم في نظر الطرابلسيين، ويدعى له على المنابر، ويكون للسلطان وكيل في طرابلس يقال له نائب السلطان، وقد تعين بعد الاتفاق شمس الدين باشا لهذا المنصب، ومعه يوسف بك شتوان مستشارًا.

وكانت وزارة سعيد باشا قد شعرت بأن المجلس لا يمشي معها في قضية الصلح مع إيطاليا، لا سيما بعد أن جاء يوسف بك شتوان وخطب في مجلس المبعوثين خطابًا مآله أن الحالة الحربية هي في طرابلس مرضية جدًا لا تؤذن بأدنى خطر، وأنه لا خوف على الدولة إلا من الشقاق الداخلي، فتحمس المبعوثون وآلوا بعدم الموافقة على الصلح وكان الصدر العظم بدأ يشعر بقرب الحرب البلقانية، ويرى أنه لابد من عقد الصلح مع إيطاليا، وكان المجلس لا يزال في شقاق بعيد بين الأحزاب، فأقنع سعيد باشا السلطان بحل مجلس المبعوثين حتى يتسنى للحكومة أن تمضي في سياستها، وكان للسلطان حق في حل مجلس النواب بموافقة مجلس الأعيان على شرط مباشرة الانتخابات لانعقاد المجلس الجديد، فصدر الأمر بحل المجلس وانتخب مجلس جديد، وما كاد ينعقد المجلس حتى جاءت الأخبار بأن الأرناؤوط استأنفوا الثورة، واتفقوا هذه المرة مسلمين وكاثوليكيين وأرثوذكسيين يدًا واحدة في وجه الدولة، وعلى رأسهم إسماعيل بك مبعوث برات، ونجيب دراغه مبعوث درشتنه، وبصري بك مبعوث دبره وحسن بك، ويحيى بك، وغيرهم. وانضم إليهم أيضًا ضباط أرناؤوط من ضباط الجيش العثماني، وعقد هؤلاء الأرناؤوط اجتماعًا حضره ٨٦ من رجالاتهم، وقرروا طلب حل المجلس الجديد وعزل الاتحاديين الذين في الحكومة مثل محمود شوكت باشا ناظر الحربية، وطلعت بك ناظر البوسطة والتلغراف، وجاويد بك ناظر الأشغال النافعة، فاشتد الخطب على الدولة، واستعفى محمود شوكت باشا وظهر أن الاتحاديين أصبحوا بعد ثورة ألبانيا يخشون تحمل المسئولية، فصار الصدر الأعظم سعيد باشا يعرض نظارة الحربية على المقتدرين فلا يقبلها أحد منهم، فاختار الاستعفاء. فانتدب السلطان لتأليف الوزارة الغازي مختار باشا المشهور.

وكانت تألفت في الأستانة جمعية عسكرية يقال لها جمعية «الخلاص كاران» فوزعت منشورًا تطلب فيه تبديل الحكومة، ومنع الأشخاص غير المسئولين من التدخل في أمور الدولة، وتقترح حل المجلس وانتخاب مجلس آخر بتمام الحرية وكانت الحكومة تريد سن قانون يمنع رجال العسكرية من التدخل في السياسة فهذه الجمعية أعلنت أن رجال العسكرية لا يمتنعون عن التدخل في السياسة إلا بعد قبول هذه المطالب. فقرئ هذا المنشور في المجلس وأثار حركة شديدة، وأقسم المبعوثون بأنهم لا يتركون كراسيهم إلا موتى، وطلبوا من الحكومة التحقيق عن الجمعية التي وزعت هذا المنشور، فجاء الصدر الأعظم مختار باشا ومعه ناظم باشا ناظر الحربية الجديد وطمأنا خواطر المبعوثين، وتعهد ناظم باشا بإعادة النظام إلى الجيش كما كان تلا الصدر الأعظم برنامج الوزارة الجديدة وفيه منع الضباط من الاشتغال بالسياسة ومنع المأمورين من التدخل في أمور الانتخابات، والتقيد بالقوانين الموضوعة في أمر تعيين المأمورين، وغير ذلك. وأما من جهة الصلح مع إيطاليا فلم تعلن الوزارة شيئًا، ثم وقع الخلاف في المجلس على قضية حق السلطان في حل المجلس وعدمه وكان الاتحاديون الذين لهم الأكثرية في المجلس يريدون إعطاء هذا الحق للسلطان على شروط كان يناقشهم فيها خصومهم حزب الحرية والائتلاف، وكان هذا الحزب يرأسه لطفي فكري، فاشتد الجدل بين الفريقين، وفي أثناء ذلك كانت ثورة الأرناؤوط تتفاقم يومًا فيومًا، ثم بدأ الشقاق بين أعضاء الوزارة نفسها، وانتدب مختار باشا الصدر السابق فريد باشا الأرناؤوطي لأجل نظارة الداخلية، وحسين حلمي باشا الصدر السابق أيضًا لنظارة العدلية، فأبى فريد باشا الدخول في الوزارة، ودخل حسين حلمي باشا ولكنه اضطر بعد قليل إلى الاستعفاء، وازداد تحرج مركز الحكومة التي كانت ترى ازدياد مشكلاتها في الداخل والخارج، وبينما ثائرة الأرناؤوط تتوقد إذا بعصائب البلغار في مقدونية — أي الرومللي — رجعت إلى العمل، وأخذت بنسف السكك الحديدية ثم في نهار العيد انفجرت قنبرة في «جامع أشتب» وجرح بها أناس كثيرون، فثار المسلمون وأوقعوا بكثير من البلغار، ثم حصلت حوادث من هذا القبيل في ولاية «أسكوب» فانتقم المسلمون أيضًا بقتل عدد من البلغار، وأهم حادثة هي التي وقعت في «كوتشانة» في أول أغسطس سنة ١٩١٢، فإنه كان قد وضع البلغار قنابر في السوق فانفجرت وقتلت عددًا من المسلمين، فأوقع المسلمون بالبلغار، وقيل إنهم قتلوا منهم ١٥٠ شخصًا، وهكذا استمرت الحوادث مدةطويلة، فعصائب البلغار تلقي القنابر الديناميتية في الأسواق والمجامع عمدًا لأجل إثارة المسلمين حتى ينتقموا من المسيحيين، وتضطر الدول المسيحية للتدخل فتنسلخ مكدونية عن تركيا، وهذا على نمط حركات الأرمن.

وكان البلقانيون أكثر الأحيان مختلفين بعضهم مع بعض، نعني بذلك البلغار واليونان، والسرب، وذلك لأن مكدونية التي يقول لها الترك الرومللي فيها من جميع هذه الأجناس، فالبلغار يدعون أنها يجب أن تكون لهم، واليونان يحتجون بأن الأكثرية في سلانيك ونواحيها وتراقيا هي للجنس الرومي، والسربيون يحتجون بأن الأكثرية في شمالي مكدونية هي لهم، وكل فئة تعزز دعواها بأدلة. ولم يكونوا يفكرون بشيء من حقوق المسلمين هناك، مع أن المسلمين في ألبانيا ومكدونية كانوا أكثر من نصف السكان! وكانت للدولة في أوروبا ست ولايات، الأولى ولاية أدرنة الواقعة على البحر الأسود ممتدة من ضواحي الأستانة إلى حدود البلغار، والثانية ولاية سلانيك التي يتبعها أكثر مكدونية، والثالثة ولاية قوصوه التي هي الآن من ضمن مملكة يوغوسلافيا، والرابعة ولاية منستر الواقعة بين يوغوسلافيا وبلاد اليونان والخامسة ولاية يانيا من جنوبي بلاد الارناؤوط، والسادسة ولاية شقودرة في شمالي بلاد الأرناؤوط. وكان عدد المسلمين في هذه الولايات الست من أرناؤوط وترك وبوماق — وهم نوع من البلغار دينهم الإسلام ولغتهم البلغارية — ومهاجرين يزيدون على عدد النصارى بقليل. فلم يكن للبلقانيين حق في ادعاء تقسيم هذه البلاد فيما بينهم لاسيما وقد كانوا هم أنفسهم غير متفقين في التقسيم، وكل فئة تريد أن تأخذ حصة الأخرى، ولكن ضعف الدولة العثمانية وتكالب الدول الأوروبية عليها من كل جهة أوسعا مطامع البلقانيين حتى أصبحوا لا يفكرون في شيء سوى طرد الأتراك من أوروبا تمامًا، بحجة أنهم طارئون على أوروبا من آسيا، وأنهم لم يكونوا ذوي ملك في شبه جزيرة البلقان قبل القرن الرابع عشر للمسيح. ثم إن البلقانيين كانوا يعلمون أن الأتراك في حال تغلبهم عليهم لا يقدرون أن ينالوا منهم شيئًا، ولا أن يفتحوا من بلدانهم بلدًا بخلاف ما لو تغلبواهم على الأتراك فإنهم حينئذ يقدرون أن ينالوا كل ما يريدون، وذلك عملًا بقاعدة إن ما يؤخذ من الهلال للصليب لا تمكن إعادته للهلال، وأن ما يؤخذ من الصليب للهلال فلابد من أن يرجع إلى مكانه. وهذه القاعدة متفق عليها في أوروبا تطبقها أوروبا بقدر إمكانها، والبلقانيون يعلمونها. وفي بداية الحرب البلقانية كان في ظن الدول الأوروبية أن تركيا تتغلب على البلغار والسرب واليونان والبل الأسود، فأرسل المسيو بوإنكاره — وهو يومئذ رئيس نظار فرنسا — مذكرة إلى تركيا وإلى الدول البلقانية المتحالفة عليها، يبلغ الجميع بأنها إذا حصلت حرب بين الفريقين فالدول لا تسمح للفريق الغالب أن يأخذ شيئًا من الفريق المغلوب. وقد كتب بوإنكاره هذا تزميدًا للفريقين في الحرب، وكان مرجحًا عنده أن دول البلقان لا يقدرون على تركيا، فلما وقعت الواقعة وانهزمت تركيا في هذه الحرب بما كان فيها من الشقاق المستمر الذي صرف نظرها عن الاحتياط لحفظ ثغورها، نسى بوإنكاره بلاغه هذا الرسمي الذي كتبه باسم الدول، وكان من جملة المساعدين للبلغار واليونان والسرب على اقتسام تركية أوروبا. وكان مراد الدول — لاسيما إنجلترا وفرنسا والروسيا — إلحاق ألبانيا أيضًا بمكدونية وإعطاء جنوبيها لليونان، وشماليها للسرب، لولا معارضة النمسا وإيطاليا في ذلك. فالنمسا كانت دائمًا تجتهد في منع اتساع مملكة السرب، وقد كان هذا من أكبر عوامل الحرب العامة، وإيطالي نفسها كان من مصلحتها حفظ ألبانيا للأرناؤوط، فلذلك بعد الحرب البلقانية وافقت الدول على تأسيس استقلال خاص لألبانيا، ولكن بعد شدة عظيمة كادت النمسا فيها تقتتل مع الروسيا، غير أنهم ظلموا الأرناؤوط أيضًا إذ أن هذه الأمة تبلغ نحوًا من ثلاثة ملايين يسكنون على ساحل بحر الأدرياتيك بين الجبل الأسود من الشمال، واليونان من الجنوب، ومكدونية من الشرق، وهم كتلة واحدة كلهم أرناؤوط، ولسانهم هو اللسان الأرناؤوطي، وإن كان الثلثان منهم مسلمين، والثلث الثالث كاثوليكيين وأرثوذكسيين.

وعلى كل حال فبعد أن تقرر إخراج الدولة العثمانية من أوروبا وجب أن يعطى الأرناؤوط البلدان التي هم فيها أكثرية السكان وهي، ولايات يانيا، واشقودرة وقوصوه، ومنستر، لاسيما أن الأتراك المسلمين كانوا بعد خروج الدولة العثمانية من الرومللي يفضلون الانضمام إلى الأرناؤوط حتى يتخلصوا من حكم البلغار واليونان والسرب فالذي حصل في مؤتمر لندرة بعد الحرب البلقانية بتأثير الروسيا، ومساعدة فرنسا لها لم يكن مطابقًا لحقوق الأمم من الجهة التي يقال لها «الاتنوغرافية» بل بشدة إلحاح النمسا، وموافقة إيطاليا جعلوا بلاد الأرناؤوط المستقلة عبارة عن ولايتي يانيا وشقودرة وألحقوا منهما شيئًا للجبل الأسود، وشيئًا لليونان، وكل الذي بقي للمملكة المستقلة لا يزيد عدد سكانه على مليون واحد. والحال أن جنوبي يوغوسلافيا لاسيما ولاية قصوه مأهول بالأرناؤوط، فلذلك يوجد الآن من الأرناؤوط ضمن مملكة يوغسلافيا وعلى حدود ألبانيا أكثر مما يوجد في ألبانيا نفسها!! وهذه من المسائل التي لم تصب فيها الدول، وإنما كان الإعوجاج فيها هو بسبب تعصب الروسيا للسربيين. وستكون هذه من أسباب تجدد الحروب في شبه جزيرة البلقان.

ولما كان الاختلاف شديدًا بين العناصر المسيحية في البلقان الرومي والسلافي والبلغاري، ففي زمن السلطان عبد الحميد سعت الروسيا كثيرًا في التأليف بينهم حتى يتمكنوا من إخراج الدولة العثمانية من هناك، ولكن السلطان عبد الحميد بدهائه ويقظته كان دائمًا يمنع الاتفاق بينهم، ويستميل هذا العنصر تارة، وذاك العنصر أخرى. أما جمعية الاتحاد والترقي فاغترت بقوتها وظنت أن إعلان الدستور قد نفى كل خطر عن السلطنة، ونامت عن مراقبة السياسة الخارجية، بل بلغ غرور بعض أعضائها في أول الأمر أن اعتقدوا حركات البلغار واليونان والسربيين لخلع الحكم العثماني إنما السائق فيها مجرد سوء الإدارة العثمانية، وأنه لو اصطلحت الإدارة العثمانية لأخلد هؤلاء إلى السكون! وحقيقة الحال أن هؤلاء لم يكونوا براجعين عن حركاتهم حتى يطردوا الأتراك من شبه جزيرة البلقان، وأن المسألة عندهم تاريخية محضة لا تعلق لها بالإدارة في حسنها وعدمه. فهذه البلاد لم يكن فيها مسلمون قبل السلطان مراد الأول، فيجب أن تخلوا تمامًا من المسلمين مرة ثانية. هذه هي فكرتهم الحقيقية وأوروبا كلها تميل إلى هذه الفكرة، ولما افتتح البلقانيون سلانيك قال أحد وزراء الإنجليز: لا يمكننا إلا أن نفرح باسترجاع المسيحيين للبلدة التي بها ابتدأ انتشار النصرانية.

وإذا رجعنا إلى الحقائق نرى أن الحرب الصليبية وإن كانت غير مستمرة إلى اليوم تحت هذا الاسم كما كانت في القرون الوسطى، فهي مستمرة بالفعل، بالروح نفسها وإن كان قد تغير الاسم! وكل بلاد وجدت تحت حكم المسيحيين في الغابر تجتهد الدول الأوروبية في إخراجها من تحت حكم المسلمين ولو كان مضى على ذلك بضعة عشر قرنًا، أي أن الأندلس تمثل في كثير من البلدان وليست هي منحصرة في أسبانيا، فالمسلمون ليس لهم إلا القوة ليحافظوا على أنفسهم، ولما كانت الدولة العثمانية قوية تغلبت ليس على بلاد اليونان والبلغار والسرب فقط، بل على بلاد رومانيا، والمجر، وخرواطية، وقسم من بولونيا، وحاصرت فينا مرتين. فلما حل بها الضعف صارت تتقلص شيئًا إلى الجنوب حتى لم يبق لها في أوائل هذا القرن غير الولايات الست التي تقدم ذكرها، ولم يكن من المأمول أن تحفظها إلا بالقوة القاهرة.

حدثني حسين حلمي باشا الصدر الأعظم السابق وهو الذي كان مفتشًا عامًا للولايات المذكورة يوم أعلن الدستور العثماني أن السر أدوارد غراي ناظر الخارجية الإنجليزية المشهور سأله: ألا يوجد طريقة تنحل بها مشكلات مكدونية؟ فأجابه: نعم يوجد طريقة وهي أن يكون عندنا نحن الأتراك القوة اللازمة لكسر البلغار واليونان، والسربيين، والجبل الأسود في وقت واحد، وليس من طريقة غير هذه.

هذا وقد كان السعي في جمع كلمة الدول البلقانية الأربع قديمًا. وسنة ١٨٨٨ قدم أمير الجبل الأسود نيقولا لائحة إلى قيصر الروسيا تتضمن وجوب تحالف هذه الدول ضد تركيا تحت حماية القيصر، وسنة ١٨٩٣ صارت مكالمة بين اليونان والبلغار في هذا الصدد ولكن لم تسفر عن نتيجة، ثم إن البلغار والسربيين اتفقوا على ذلك وبقي الخلاف بين السرب والجبل الأسود، فتوسط البلغار بين الفريقين ومهدوا العقبات فبقي ناقصًا دخول اليونان في الاتحاد، فالذين من اليونان قاموا بالسعي الحثيث للائتلاف مع البلغار برغم ما كان بين الفريقين من نقط الخلاف هم «باناس» سفير اليونان في صوفيا، و«فنزيلوس» رئيس نظار اليونان. وكان إهمال الاتحاديين للسهر على هذه المسألة من جملة أسباب اتفاق البلقانيين، حتى أنه لما علم السلطان عبد الحميد المخلوع بخبر الاتحاد البلقاني هذا هز برأسه وقال: كم من مرة أوشك هذا الاتحاد أن ينعقد وسعيت كل سعي حتى منعته! قال هذا عندما جاؤا ينقلونه من سلانيك إلى الأستانة، فسأل عن السبب فقالوا له: إن دول البلقان الأربع تحالفن على تركيا والحرب قريبة الوقوع. وفي ١٣ مارس سنة ١٩١٢ انعقدت أول محالفة بين السرب والبلغار ضد تركيا. وفي ٢٩ مايو من السنة نفسها انعقدت المحالفة بين البلغار واليونان، ولكن الأولى كان أمدها ست سنوات، أما الثانية فكانت لثلاث سنوات. وفي ٥ أكتوبر من تلك السنة ذهب «دانف» رئيس مجلس النواب البلغاري على «ليفادية» في القريم فأخبر القيصر الروسي والمسيو سازونوف ناظر خارجيته بانعقاد جميع المحالفات اللازمة بين البلقانيين، وانحلال جميع العقد التي كانت تفرق بينهم، لأن القيصر كان هو الحكم في ما إذا اختلفوا. وفي ذلك الوقت كانت ثورة الأرناؤوط أجبرت الدولة العثمانية على منح الارناؤوط بعض امتيازات رآها البلقانيون مضرة بهم، فلما تحققت الدول أن الحرب بين البلقانيين وتركيا واقعة لا محالة، توسطت النمسا في الخلاف تفاديًا للحرب وذلك على أساس إدخال الإصلاحات في بلاد الرومللي، وأن تكون هذه الإصلاحات تحت إشراف لجنة دولية.

وبينما الدول في المذاكرة حتى تمنع الحرب، إذا بأمير الجبل الأسود يعلن الحرب على تركيا في ٨ أكتوبر سنة ١٩١٢ وفي ١٣ منه عالنت الدول الثلاث اليونان والسرب والبلغار الدولة العثمانية طلب الإصلاحات في الرومللي بحسب المادة ٢٣ من معاهدة برلين، وطلبت تفريق العساكر العثمانية المرابطة في الرومللي. وكانت مذكرة هذه الدول في شكلها غير مقبولة، فلم يبق أمام تركيا سوى إعلان الحرب. ولكن كامل باشا كان يرجو فصل اليونان عن الاتحاد البلقاني بالنزول لهم عن جزيرة كريت، فذهب سعيه سدى لأن فنزيلوس أبى بتاتًا أن ينفصل عن حلفائه فنشبت إذًا الحرب.

وكان البلغار مستعدين للقتال من زمن طويل، فزحفوا بمائتين وخمسين ألف مقاتل من أحسن الجيوش تدريبًا، وأكملهم عدة، ولم يكن عند الدولة جيش متقن التدريب كهذا الجيش، بل كان من أغلاط السلطان عبد الحميد التي لا يمكن التماري فيها منع التمرينات العسكرية خوفًا من انتفاض الجيش عليه، واستمر هذا طول مدة سلطنته. فالعسكر الممرن الذي كان في زمن عمه السلطان عبد العزيز، والذي يمثله انتصر عثمان باشا على الروس في باثمنة، وأحمد مختار باشا في القوقاس، ذهب ولم يقم مقامه عسكر آخر مثله. فجميع العسكر في زمن عبد الحميد لم يكن يعرف شيئًا من التمرينات التي كانت في زمن عمه، فكان الفرق إذًا كبيرًا بينه وبين العساكر البلقانية. ولما جاء الاتحاديون وخلعوا السلطان عبد الحميد أرادوا إصلاح الجيش بعملية سموها عملية التصفية، فأخرجوا إلى التقاعد جميع الضباط القدماء المجربين ووضعوا مكانهم شبانًا خالين من التجربة، وبعبارة أخرى انحل الجيش القديم ولم يمض الوقت الكافي حتى يتكون جيش جديد. ومن جملة أسباب الضرر الذي وقع هو اشتغال ضباط الجيش بالسياسة، وانصرافهم عن واجباتهم على إحداث القلق في المملكة، والانتصار لفئة على فئة مما يجب أن ينزه الجيش عنه.

فصار الجيش العثماني بعد إعلان الدستور أشبه بجيش الانكشارية القديم في الفوضى، فهذه الفرقة تخرج عن الطاقة وتنحاز إلى العصاة مثلًا، وهذه الجمعية من ضباط الجيش تطلب إسقاط الحكومة وحل المجلس، وهذه الفرقة الأخرى تهجم على مجلس الأمة وتسفك دماء بعض المبعوثين وبعض النظار بتحريك خفي من رجال السياسة، وكم وقع من قتل جنود لضباطهم، وعصيان ضباط على قوادهم.

نعم أن فون غولتس باشا الألماني كان هو والضباط الذين معه أصلحوا كثيرًا من حالة الجيش في تركيا، ولكن السلطان عبد الحميد كان يمنع التمرينات العسكرية خوفًا على نفسه، وكانت هناك مصالح ضرورية للجيش، وكانت هي بغاية الإهمال وهي مثل مصلحة الإعاشة. ومصلحة الصحة، ومصلحة إركاب العساكر في السكك الحديدية، وغير ذلك مما لا غنى عنه في الجيوش العصرية. وأضف إلى كل هذه النواقص أن الدولة في حرب البلقان احتقرت البلقانيين أشد الاحتقار، وظنت أنها في شهر من الزمن تمزق شملهم كل ممزق، حتى أن ناظم باشا ناظر الحربية أعلن الضباط وجوب أخذهم ألبستهم الرسمية إلى ميدان القتال، حتى إذا دخلوا صوفيا وبلغراد وأثينا ووقع عرض الجيش يكونون بألبستهم الرسمية، كأن أمر الظفر عنده كان لا يتطرق إليه الشك، وهذا أشبه بزبيدة أم الأمين عندما أعطت قائد جيش ولدها قيدًا من فضة وقالت له: إن المأمون هو من أولاد الخلفاء، ومتى وقع في يدك فلا يصح أن تقيده كما تقيد سائر الأسرى «أي بالحديد» فأنا أعطيك هذا القيد من الفضة لتقيده به، عندما يقع في الأسر. فكان من الأمر أن المأمون هو الذي قهر الأمين وأخذ منه الخلافة، ثم قتل الأمين في المعمعة. ثم بناء على هذا الاستخفاف لم تستنفر الدولة الجيوش التي لها في سورية، ولا في العراق، ولا في شرقي الأناضول حيث كانت تخشى ثورة من جهة الأرمن، فاقتصرت على جيش الرومللي وعساكر قسم ممن الأناضول. ولم يكن جيش الرومللي كله ليجتمع، لأن الأرناؤوط كانوا في حال ثورة ولم يقاتلوا في هذه الحرب إلا قتال عصائب، وبهذا كان عدد الجيوش البلقانية أعظم من عدد الجيش العثماني، ففي كل من الساحات الثلاث أي ساحة تراقية الشرقية أمام البلغار، وساحة مكدونية العليا أمام السرب، وساحة سلانيك أمام اليونان، كان الجيش العثماني أقل عددًا وأقل معدات من أعدائه. وفي ١٨ أكتوبر زحف البلغار لأخذ أدرنة فلم يتمكنوا من ذلك، ولكنهم ظهروا على الأتراك في ناحية طونجة. وكان عبد الله باشا في ٢٠ و٢١ أكتوبر أعطى الأمر بالهجوم بدون أن يؤمن خطًا للرجعة، فارتكب في ذلك خطأ حربيًا ظهرت نتيجته حالًا. وفي ٢٢ أكتوبر تلاقت الفرقة السادسة من الجيش الرابع العثماني مع فرقة من الجيش الأول فلم تعرف إحداهما الأخرى وترامتا بالنيران، إذ كل فرقة منهما كانت تظن أنها بإزاء البلغار. فمن أول الحرب ظهر سوء القيادة في الجيش العثماني.

وكان محمود مختار باشا قائدًا لشطر الجيش الثالث وهو ثابت في مركزه، وإذا بالبلغار يهجمون على الجيش الذي على جناحه الأيسر هجومًا فجائيًا ضعضع الأتراك فانهزموا، فحاول محمود مختار أن يصد البلغار ويتوقف الهزيمة ولكن كان الجنرال البلغاري ديمتريف جاء بدون أن يشعر به الأتراك أصلًا فهاجم الجيش الذي على يمين محمود مختار، فاضطر محمود مختار إلى التقهقر فانهزم العسكر العثماني إلى قرق كليسة وهو الجيش الرابع، ثم الجيش الثالث، ثم حاول الجيش الأول أن يهاجم البلغار ليوقف الهزيمة فلم يقدر على شيء بل تقهقر هو أيضًا. وكل هذا من عدم وحدة القيادة، وعدم وجود خطة حربية مقررة. فكل فرقة وكل جيش من الأتراك كان يقاتل بدون أدنى صلة مع رفاقه، ولا علم له بما عليه سائر الجيوش العثمانية. لأن الأتراك فكروا أنه لا يلزم لهم إلا أن يقابلوا البلغار في أي مكان كان، وفي أي وقت كان، حتى يولى هؤلاء الأدبار، فمن شدة استخافهم بالعدو تغلب عليهم العدو. ولما تقهقر عبد الله باشا بجيوشه قسم منها إلى جهة «فيزة» والقسم الآخر إلى لولى بورغاز، لم يكن بين القسمين أدنى صلة، ولا كان الواحد يعرف ما عند الآخر، ومحمود مختار باشا هو القائد الوحيد الذي كان مالكًا حركة جيشه، بحيث عندما التزم إلى التقهقر تقهقر بانتظام حقيقي. وكان ناظم باشا ذهب بنفسه ليتولى القيادة العامة، وناجز البلغار القتال في «لولي بورغاز» «وقره أغاتش». وزحف محمود مختار باشا مهاجمًا للعدو على ظن أن عبد الله باشا يتمكن من نجدته بالجيش الأول والجيش الثاني، فتمكن محمود مختار من أن يشطر فرقة الجنرال خريستوف إلى شطرين، إلا أنه كانت ودرت نجدات عظيمة للبلغار، وفي الوقت نفسه انهزم الجيش الثاني العثماني، فلم يقدر محمود مختار أن يتمم خطته بسبب الفشل الذي حل بسائر القواد، لكنه بقي ثابتًا في مركزه. فأمر ناظم باشا القائد العام بتراجع القوات كلها إلى «شركس كوى» فتراجعت كلها ومن الجملة جيش محمود مختار.

ومن أغرب الأمور أنه بقدر ما استخف الأتراك بالعدو في البداية، وقع فيهم الرعب بعد أن حلت بهم الهزيمة الأولى فنكصوا جميعهم إلى «شطلجة». ولما علمت الجيوش العثمانية التي في تراقية الغربية وفي مكدونية بالهزيمة التي وقعت في تراقية الشرقية، فانكسر أمام السربيين في «بورنيفو» وفي «قوصوه» وفي «كومانوفو» وهي هزيمة كان أكثر السبب فيها أن عصائب الأرناؤوط في أثناء المعركة انسلت من ميدان القتال مدبرة فوقع الفشل في الجيش كله. وصارت المعارك هناك عبارة عن سلسلة هزائم، تتلوا إحداها الأخرى بدون أن يوفق الترك في معركة واحدة إلا ما ندر فسقطت المراكز التركية المهمة مثل قوصوه، ومناستر، وأسكوب، وجميع البلاد التي تتبعها، وكل هذا بين ٢٣ أكتوبر و١٨ نوفمبر. ولو قيل إنه لم تقع مع تركيا حرب أشأم من هذه الحرب من أول الدهر إلى ذلك الوقت لم تكن في هذا القول مبالغة. وكان القائد الوحيد الذي حفظ جيشه هو جاويد باشا، فإنه لولا انهزام عصائب الأرناؤوط في واقعة «كومانوفو» مع السربيين لكانت الغلبة في تلك الوقعة للترك، وكان الخبر وصل إلى الأستانة بأن السرب انهزموا فيها انهزامًا نهائيًا، ولكن المعركة انتهت بعكس ما ابتدأت. وكان جاويد باشا هزم اليونان في إحدى الوقائع، وتمكن من اللحاق ببلاد الأرناؤوط مع جيشه، إلا أن الأرناؤوط كانوا عندما رأوا هزيمة العثمانيين قد فصلوا أنفسهم عن الدولة، وأسسوا في «فالونة» حكومة مؤقتة بمساعدة النمسا وإيطاليا.

وأما من جهة الجيش اليوناني فإنه لم يكن أمامه إلا قوة تركية ضئيلة، فكان الجيش اليوناني يتقدم إلى الأمام قاصدًا سلانيك، كان تحت قيادة ولي عهد اليونان ستون ألف جندي يقابلها ٢٥ ألفًا من الأتراك، ولكن الترك ثبتوا برغم قلة عددهم ثباتًا عظيمًا ثم تقهقروا إلى الوراء لأن السربيين والبلغار كانوا اتصلوا باليونان، واضطر تحسين باشا إلى تسليم «سلانيك» لهؤلاء. وكان جاويد باشا تغلب على اليونان في وقعة «سيروفيتسش» التي استمرت يومين وانتهت بهزيمة اليونان في ٥ نوفمبر، إلا أنه وردت إمدادات عظيمة لليونان فتمكن بها ولي العهد اليوناني من الإقبال بعد الإدبار. فتراجع جاويد باشا إلى «مناستر» وهناك هاجمه السربيون وجرت وقائع بين بقايا الجيوش العثمانية والسربيين واليونانيين والبلغار لم يقدر الترك أن ينالوا فيها كلها خيرًا بعد أن انخذلت قواهم المعنوية، وتقطع ما بينهم، لأن البلغار كانوا استولوا على «ديموطقه» فقطعوا ما بين الأستانة وبين مكدونية، واستولى الذعر على الدولة نفسها في الأستانة فأصبح رجالها لا يعلمون ماذا يفعلون، وكان عندهم جيوش كثيرة في المملكة لا تزال في أراضيها، وإنما كانوا في جمود تام بسبب الفشل غير المنتظر، فلم يفكروا في استجماع قواهم. وكانت الإدارة أشه بالفوضى، وقد رأينا ذلك بأعيننا، وكان الهلال الأحمر المذكور بأن انضم إليهما مفتشًا ثالثًا، كما أن لجنة الإعانة المصرية التي يرأسها الأمير «عمر طوسون» كلفتنا بتوزيع الإعانات على مهاجري المسلمين الذين فروا من الرومللي إلى الأستانة بعد انهزام الجيوش العثمانية، فكنا نحن الثلاثة المفتشين مضطرين أن نتصل برجال الدولة كل يوم لأجل تسهيل مهمة الهلال الأحمر، ومهمة توزيع الإعانات على المهاجرين، فشاهدنا من آثار الفوضى في الإدارة ما لا يصدقه العقل، وذهبنا في نهار جمعة إلى نظارة الحربية للمراجعة بمصالح مستعجلة فلم نجد في نظارة الحربية أحدًا وقيل لنا: أفلا تعلمون أن دوائر الحكومة لا تشتغل نهار الجمعة! فقلت: كلا! إن الدولة التي يحل بها من المصائب ما حل بها هذه المرة لا يحق لدوائرها أن تتمتع براحة يوم الجمعة! نعم عندما كنا نذهب إلى الباب العالي كنا نجد كامل باشا الصدر الأعظم دائمًا حاضرًا، وكنا دائمًا نراجعه في أيام الجمعة أيضًا، وكان يبيت في الباب العالي بقرب مكتبه برغم علو سنه. وجاءنا مرة الخبر بأن أربعة آلاف عسكري في سان استفانو قد أصيب أكثرهم بالكوليرة، لأن من جملة مصائب الدولة في هذه الحرب أن الكوليرة تفشت في عساكرها تفشيًا فظيعًا، وفتكت بهم فتكًا ذريعًا فقيل لنا إن هؤلاء العساكر الذين في سان استفانو على مقربة من الأستانة مطروحون بالعراء بدون خيام ولا بيوت يأوون إليها! وكان ذلك في وسط زمهرير الشتاء، فذهبنا أنا ورفاقي إلى كامل باشا وأخبرناه بالخبر، وروينا له ما سمعناه من أن نصف هؤلاء الجند قد ماتوا، وأن رفاقهم جالسون إلى جانبهم في انتظار الموت، فأعطى الأوامر اللازمة إلى الحربية حتى يرسلوا إلى سان استفانو الأطباء والممرضين وجميع اللوازم لأجل معالجة هذه الحالة، ولكننا ثاني يوم لحظنا أنه لم يحصل شيء، فقلت لزملائي: إن كنتم تنتظرون في أثناء هذه الفوضى إغاثة الدولة لهؤلاء العسكر فاعلموا أنه لا يذهب إلى هناك أحد من الأطباء والممرضين حتى يكون العسكر قد قضوا نحبهم جميعًا، وعليه يجب أن نبادر نحن بالعمل، فأرسلنا في اليوم نفسه النجارين وحملوا الأخشاب اللازمة وبنوا للعساكر بيوت الخشب، وأرسلنا إليها الأسرة والأغطية اللازمة، والأطباء والمحللين والأدوية، وكل هذا تم في ثلاثة أيام، وبعد ذلك جاء المأمورون العثمانيون فوجدوا كل شيء خالصًا، وعلى هذا يمكن أن يقاس غيره.

ونعود إلى تاريخ هذه الحرب المشئومة التي انتهت بها ولاية الدولة العثمانية في شبه جزيرة البلقان فنقول: إنه بعد أن انهزمت الجيوش العثمانية في تراقية الشرقية وتراجعت إلى «شطلجة» وتشتت العسكر العثماني في تراقية الغربية، ومكدونية بقيت بلاد الأرناؤوط لم يحتلها العدو، وبقيت القوة هناك أيضًا ضعيفة، فتقدم اليونان من جهة الجنوب وما زالوا يهزمون أمامهم تلك الشراذم التفرقة حتى وصلوا إلى «يانيا» وأخيرًا استولوا على يانيا. ثم إن السربيين وعساكر الجبل الأسود استولوا أيضًا على عدة مواقع من شمالي البانيا، غير أن الأرناؤوط صدوهم عن «شقودرة».

أما من جهة البحر فقد كان الأسطول العثماني انحط انحطاطًا عظيمًا، وكان السلطان عبد الحميد يخشى الأسطول كما يخشى الجيش البري، وكان يكره العساكر البحرية أكثر مما يكره العساكر البرية، لأنه يتذكر أنه لما خلعوا عمه السلطان عبد العزيز في سراي طولمه باغجة التي على ساحل البحر نظر السلطان إلى البحر فوجد الأسطول واقفًا أمامه، مع أن عبد العزيز هو الذي أنشأ الأسطول، وكان عبد العزيز شديد العناية به، وكانت الدولة في زمانه دولة بحرية من الدرجة الثالثة.

ولما جرت الحرب العثمانية الروسية كان البحر الأسود كله في يد الدولة، ولكن السلطان عبد الحميد أهمل الأسطول إهمالًا تامًا، فما زالت قوة تركيا البحرية في أيامه تنحط حتى صارت دولة اليونان أقوى منها في البحر، وبعد خلع عبد الحميد اشتغلت الدولة بالفتن الداخلية، وقامت الأحزاب تتناحر فيما بينها، فلم يكن عند الدولة وقت لإصلاح الأسطول. فلما نشبت الحرب البلقانية أدركت الدولة عظم الضرر الذي جره عليها إهمال الأسطول، وذلك بأنها بسبب ضعف أسطولها لم تقدر أن تستحضر جيش سورية من طريق البحر خوفًا من أن الأسطول اليوناني يتعرض للبواخر التي تنقل الجيش من سواحل سورية وكيليكية إلى الأستانة أو الرومللي، ولم تكن يومئذ بين الأناضول وسورية سكك حديدية متصلة حتى يمكن نقل العساكر برًا. فجيوش البلاد العربية بقيت جميعًا في أرضها. وعدا هذا فقد استولى اليونان على جزائر الأرخبيل. نعم أن الأسطول اليوناني لم يجرأ أن يناطح حصون الدردنيل التي عجزت عنها جيوش الحلفاء الجرارة في الحرب العامة، ولكنه استولى على جزيرة لمنس وانبروس، ومدلى، وساقس، وسائر الجزر. وخرج الأسطول العثماني من الدردنيل لمنازلة الأسطول اليوناني، وألحق الأول بالثاني خسائر مهمة، لكنه لم يتمكن من غلبة ظاهرة، فرجع إلى الدردنيل محتميًا بالحصون.

وكان حسين رؤوف بك يومئذ قائدًا لبارجة اسمها «حميدية» فأشار بالكرة على الأسطول اليوناني فلم يقبلوا كلامه، فخرج وحده ببارجته حميدية واخترق نطاق الحصر اليوناني، وجاء إلى بلاد اليونان ودمر مينا «سيرا» وأغرق عدة بوارج لليونان، وعجز الأسطول اليوناني عن مطاردته ولكنه كان يتجنب الانتظار في مكان واحد خوفًا من أن تجتمع قوة اليونان البحرية عليه. فكان ينتقل من مكان إلى آخر، وكلما صادف لليونان سفينة أغرقها. وقد أخبرني هو أنه كان ذهب إلى مسرى مالطة ونزل إلى البر، ودعاه القائد الإنجليزي واحتفى به، وبينما هو على مائدته أخبروه بأن عدة سفن حربية لليونان وصلت على مقربة من مالطة تترصد خروجه لأجل الإيقاع بحميدية، وقال لي: إنه لم يعتقد تلك المرة إمكان النجاة لأنه بسفينة واحدة لا يقدر أن يتغلب على عدة سفن، وإن كان يمكنه أن يدمر بعضها فخرج من مالطة متوجسًا الخوف وسار ببارجته أمام البوارج اليونانية ولم يجرأوا أن يتعرضوا له!.

ورؤوف بك هذا هو الذي صار فيما بعد ناظرًا للبحرية في أيام الحرب العامة، ثم بعد الحرب العامة كان من أكبر رجال تركيا الذين نهضوا بها، وقاوموا معاهدة «سيفر» ونظموا المقاومة العسكرية في الأناضول، وبعد استقلال تركيا تولى رئاسة الوزارة في أنقرة، ولكنه لم يوافق مصطفى كمال على سياسته الداخلية وخروجه على قواعد الإسلام، فاختلفا وأدى الأمر إلى مغادرته تركيا، فأقام في فرنسا عدة سنوات ذهب في خلالها إلى الهند، ثم في هذه السنة ١٩٣٥ دعته الحكومة التركية إلى العودة وألحوا عليه فأجاب الدعوة، ولكن على شرط أن يبقى بعيدًا عن السياسة.

ثم نعود إلى الحرب البلقانية فنقول: إن سبب الفشل الفظيع الذي حل بتركيا في تلك الحرب كان إقدام الأتراك على القتال بدون استعداد كاف، وعلى ظن أنهم بمجرد اللقاء يهزمون البلقانيين كما هزموا اليونان سنة ١٨٩٤، فهاجموا البلغار في تراقية بدون منهاج حربي معين، معتقدين أنهم سائرون إلى تأديب رعية ثائرة، والحال أن الجيش البلغاري كان على تمام الاستعداد من كل جهة. فلما انكسر الترك في هذه الجهة في الصدمة الأولى انكسرت جميع قواهم المعنوية دفعة واحدة، وصارت هذه الحرب عبارة عن سلسلة مصائب. على أن البلغار كانت لحقت بهم خسائر عظيمة ولما وصلوا أمام «شطلجة» كان القتال قد برح بهم، فلما هاجموا الأتراك في شطلجة لم يقدروا عليهم. وكان هؤلاء قد تنبهوا للخطر المحدق بهم وتأملوا في فظاعة دخول البلغار إلى الأستانة، وأفاقوا بعض الشيء من عماياتهم الحزبية التي كانت إلى ذلك الوقت هي شغلهم الشاغل، وأرسلت الحكومة عددًا من الوعاظ إلى شطلجة يثيرون الحمية الدينية في رؤوس العساكر، وهذا خلاف ما كانوا عولوا عليه من قبل. فإنه لما بدأت الدول البلقانية الأربع بالقتال أعلنت في مناشيرها الرسمية أنها في حربها هذه إنما تباشر حبًا صليبية ضد الهلال، وصارت من أول الحرب على هذه الخطة، ولكن الدولة العثمانية تجنبت في مناشيرها مقابلة البلقانيين بالمثل، وتحاشت في هذه الحرب كل صبغة دينية. وبقيت كذلك إلى أن دارت عليها الدائرة فأرسلت إلى الجيش المرابط في شطلجة الوعاظ وخطباء الجوامع يستفزون حمية الجنود باسم الإسلام الذي أصبح على شفا جرف هاو، وكان الجنود من أنفسهم أدركوا أنه لم يبق أمام البلقانيين ليقضوا على الدولة سوى عقبة شطلجة، فاستجدوا عزائمهم ونظرًا لضيق خط الدفاع — لأن شطلجة أشبه ببرزخ واقع بين البحر الأسود من الشرق، وبحر مرمرة من الغرب — تمكن الجيش العثماني من الثبات فيه برغم هجوم البلغار الشديد، بل عندما هجم هؤلاء دحرهم الأتراك وألحقوا بهم خسائر فادحة. وحاول البلغار مهاجمات أخرى فانكسروا فيها.

وكان قد وصل من اليمن الجنرال أحمد عزت باشا وهو من أمهر القواد العثمانيين وأوقرهم علمًا، وأوسعهم بصيرة، فذهب وشاهد حالة الجيش المعنوية والمادية في شطلجة، وحادثته بعد رجوعه منها هل هناك أمل في إمكان المقاومة بعد هذا الذعر الذي حل بالجيش؟ — وكان عنده عبد الهادي باشا الفاروقي وهو من القواد المعروفين — فقال لي: إن الجيش يقدر على المقاومة، نعم لا يعرف كل شيء يمكن أن يجد في أثناء القتال. ولكن الحالة الحاضرة التي رأيتها في شطلجة تؤذن بالتأكيد أن البلغار لا يقدرون أن يخرقوا هذا الخط، وأن يدخلوا إلى الأستانة، وكان كامل باشا قد باشر المساعي في طلب الصلح، ولا شك أنه طلب الصلح راضيًا بشروط البلقانيين الثقيلة، فجاء الجنرال محمود مختار باشا إلى الأستانة ونهى الدولة عن هذا التهور في طلب الصلح، وأكد لها بأن الأعداء لم يقدروا أن يخرقوا خطوط شطلجة.

ولم أشاهد محمود مختار بنفسه، ولكن شاهدت والده الغازي مختار باشا، وشكا لي أعظم الشكوى من فسولة القواد الذين تولوا تلك الحرب، واستيلاء الرعب عليهم وقال لي: لولا محمود لدخل البلغار الأستانة، ولكن محمود كان السبب في تثبيت قوة الجيش، وفي منع هذا الهلع الذي استولى على الدولة. وكان كامل باشا قال للسلطان محمد رشاد: إنه يكون الأوفق انتقال جلالته إلى بروسة خوفًا من دخول البلغار إلى الأستانة، فأجابه السلطان: إنني لا أتحرك من مكاني، فإذا كان لم يبق أمة عثمانية قادرة على منع سقوط سلطانها أسيرًا فلا مانع عندي من السقوط أسيرًا! وقد جرب البلغار بكل قواهم أن يزحزحوا الأتراك عن مواقفهم فلم يقدروا على شيء.

فالرواية التي يذيعها بعض كتاب الأوروبيين بأن الروسيا هي التي منعت البلغار من دخول الأستانة، ولولا ذلك لدخلوها هي غير صحيحة. وقول القائد العام للجيش البلغاري: إننا لو أردنا أن نخرق خطوط شطلجة لأمكننا ذلك، لكن لا نريد أن نتجشم خسائر الهجوم الفادحة بدون فائدة مادية، هو كلام تبجح ليس عليه أدنى دليل. بل البلغار بعد أن دحرهم الأتراك صاروا يخشون أن يعود الأتراك فيكروا عليهم ويخسروا ثمرات انتصارهم، لاسيما أن الدولة كانت بدأت تستدعي قواها التي كانت متفرقة وتجمعها في شطلجة، ومن جملة من زعم أن البلغار إنما ثبطهم عن دخول الأستانة نهي الروسيا لهم عن ذلك هو المسيو «دولاجونكيار» صاحب تاريخ السلطنة العثمانية. Hisioire de l’Empire Ottoman depuis les Origines jnsqu a nos jours por le Vte de la jonquiere.

وهو المطبوع في باريز سنة ١٩١٤ وهو تاريخ غريب الشكل جدًا، كتابته من أولها إلى آخرها تحامل على الأتراك وعلى الإسلام جميعًا، ونقص من مزاياهم وبخس من أشيائهم، وتحريف للوقائع عن حقائقها، وليس يخلو سطر واحد من هذا الكتاب من عبارة بغضاء تخرج من فم مؤلفه مما هو مخالف لشروط التاريخ. ومع هذا فالفرنسيس يعتمدون على هذا الكتاب ويظنونه بالفعل تاريخًا للسلطنة العثمانية.

ثم نعود إلى قضية طلب الصلح فنقول إن البلغار لو كانوا علموا هم والسربيين أنهم يقدرون أن يناموا على ظفرهم هذا لما كانوا رضوا بالصلح، بل كانوا مضوا في الحرب إلى آخرها ليزدادوا ربحًا ماديًا، ومجدًا معنويًا، ولكنهم علموا أن الدولة العثمانية قد تستجمع قواها وتهزمهم عن شطلجة، وتذهب جميع مجهوداتهم سدى. فأما اليونان فأبو الصلح لأنه كان عليهم أن يستصفوا فتح البلدان التي يريدون ضمها إليهم، ولم يكونوا يخشون استجماع الدولة قواها، فأما في البحر فلم يكونوا خائفين على سواحلهم، لأن الأسطول العثماني كان أضعف من أسطولهم. أما في البر فكان الجيش العثماني لا يقدر أن يلتحم مع الجيش اليوناني إلى بعد أن يدحر الجيش البلغاري كله في تراقية والجيش السربي كله في مكدونية، أما في الأستانة فكان كامل باشا وحزبه مصممين على الصلح، وكان الاتحاديون يريدون متابعة القتال حتى يغسلوا هذا العار الذي التحق بالدولة، ولم يسبق له نظير لأنهم كانوا يقولون: إن تغلب دولة كالروسيا سكانها ١٦٠ مليونًا على تركيا التي سكانها ٢٦ مليونًا ليس بعجيب ولكن تغلب هذه الدويلات الصغيرة التي سكانها يومئذ لا يزيدون مجتمعين على اثنى عشر مليونًا هو غير مفهوم، ولا يجوز للدولة أن ترضى به بوجه من الوجوه إلا إذا كانت ترضى بانحلالها التام. وكانوا يعدون الفشل الذي وقع في الجيش العثماني أشبه بقضاء نزل، أو آفة سماوية لا ينبغي أن تكون قاعدة، وعلى ل حال ينبغي متابعة الحرب حتى تسترد الدولة شأنها، وإلا فلا حياة لها بعد ذلك. وذهب الأمير حليم سعيد باشا، وطلعت بك إلى كامل باشا عندما شاع عزمه على عقد الصلح وجادلاه طويلًا حتى يصرفا نظره عن ذلك فقال لهما: إن الاتحاديين هم الذين أصروا على الحرب وهم الذين كانوا السبب في هذه المصائب، وأنه هو لا يريد أن ينقاد إلى آرائهم فرجعا بخفي حنين.

وفي ٣ دسمبر انعقدت المتاركة بين تركيا من جهة، وبلغارية وسربيا والجبل الأسود من جهة أخرى، وأبرق ناظم باشا ناظر الحربية من موقع القتال إلى كامل باشا بذلك وكانوا قرروا مباشرة المفاوضات الصلحية بعد عقد المتاركة بعشرة أيام وكانت أدرنة لا تزال محصورة لا يقدر الأعداء عليها، فكانت شروط البلقانيين هي تسليم أدرنة، ومناستر، وشقودرة، لأن المدن الثلاث لم يقدر البلقانيون عليها وكذلك كان اليونان يحاصرون يانيا ولم يقدروا عليها، وطلب البلقانيون تخلية الجيش العثماني لشطلجة، وعدم إرسال قوة من قبل الدولة العثمانية إلى ساحات القتال في أوروبا، وأجاب الترك برفض تخلية شطلجة، وباقتراح تموين المدن التركية المحصورة وبعد أخذ ورد طويلين خيف في أثنائهما من انقطاع المفاوضات اتفق ناظم باشا والجنرال سافوف البلغاري على أن تبقى العساكر العثمانية في شطلجة، وتبقى العساكر البلغارية والسربية في مراكزها، ويكون بين الفريقين منطقة متحايدة. ورفض اليونان الدخول في المتاركة لأنهم كانوا يريدون فتح يانيا، وكانت لا تزال ممتنعة عليهم.

ثم جاء ناظم باشا إلى الأستانة بعد عقد المتاركة وهو لا يشك أن الصلح واقع فذهب محرر هذه السطور لمقابلته وأبديت وأعدت معه في أن شأن الدولة قد انكسر تمامًا في هذه الحرب، وأن الدولة لا يمكن أن تحيى بعد أن انكسر شأنها إلى هذا الحد وأن الدولة لا يزال في يدها قوى تقدر بها على تلافي ما فرط، وأن في ولاياتها الآسيوية عساكر كثيرة تقدر أن تجرها إلى ميدان القتال وتستأنف الكرة، وقلت له: إن البلقانيين بعصائرهم التي كانت تعبث في تراقية ومكدونية قد شغلوا الدولة أكثر مما شغلتها جيوشهم المنظمة، فكان يجب على الدولة أن تقابلهم بالمثل، وأن تأتي بجانب من القبائل الكردية والعربية وتبثها بشبه جزيرة البلقان، فإنه من الصعب جدًا أن يستطيع البلقانيون تأمين البلاد التي احتلوها إذا شنت هذه القبائل الغارات في أطرافها. فقال لي ناظم باشا: إن الصلح كان مقرر، والقتال لن يتجدد، وعبارته هكذا بالحرف «غوغا تكرر إيتمية جكدر» أي أن القتال لن يتكرر. فأبديت له عدم اعتقادي كون الحرب انتهت، وذهابي إلى أنه لابد من أن تشتعل الحرب من جديد، فعلى الدولة أن تستحضر جميع عساكرها الباقية في آسيا. وخرجت من عند ناظم باشا أنا غير متعجب من فشل الدولة في هذه الحرب.

وأما أحمد عزت باشا الأرناؤوطي الذي كان واليًا في اليمن وجاء في آخر الحرب وكان لا يصدق بانكسار الجيش العثماني في ظروف الأحوال التي انكسر بها لكثرة ما رأى من أغلاط القيادة، فقد كاشفته بما في نفسي من قضية جمع العساكر التي في آسيا، واستنفار القبائل العربية والكردية، فأجابني بالموافقة على الشق الأول، وأما الشق الثاني فقال لي: كان هذا موافقًا جدًا لو وقع في أول الحرب، أما الآن فلم يبق ميدان لشن هذه الغارات بعد أن احتل العدو جميع الرومللي، وانحصر الجيش العثماني في شطلجة. نعم قال لي هذا ولكنه رجع فيما بعد إلى رأيي. ولما استرجع الأتراك تراقية الشرقية وأدرنة كما سيأتي الكلام عليه، واستدعت الدولة وفدًا من سورية إلى الأستانة ثمانية أعضاء كنت أنا من جملتهم لبعض المذاكرات المتعلقة بالإصلاحات الداخلية، دعتنا أن نذهب إلى أدرنة ونهنئ أهلها على الخلاص، فشاهدت فريقًا من القبائل مخيمين غير بعيد عن البلدة وهم من قبائل العراق، وكانوا بزيهم العربي أي بالعقل والكوفيات، وزرتهم في مضاربهم وشربت القهوة عندهم، وعلمت أنه في الكرة التي كرها الترك على البلغار وأخرجوهم فيها من أدرنة كان لهذه القبائل بلاء شديد، وكان مجرد مشاهدتهم قبل فعلهم يوقع الرعب في البلغار. ولو كانت الدولة تنبهت لهذا الأمر وسحبت من بوادي الشام والزور والعراق ثلاثين ألف فارس من العرب والأكراد وجعلتهم ردعًا للجيش المنظم لما حل بها هذا الفشل العظيم الذي حل بها في الحرب البلقانية، ولكن الدولة استخفت بأعدائها يومئذ استخفافًا خيل لها أنها ذاهبة إلى حرب لا يزيد على تأديب عصاة!!

ولما جاؤا إلى المذاكرات الصلحية استندت الدولة على بيان البلقانيين أنهم لا يريدون من هذا الحرب إلا إصلاح إدارة البلدان التي يسكنها أقوام منهم، وأظهرت استعدادها لإعطاء مكدونية إدارة خاصة تحت مراقبة الدول، فأجاب البلقانون بأنهم إنما كانوا رضوا بذلك الاقتراح أملًا بتفادي الحرب، والحال أن الحرب قد وقعت برفض الدولة لهذا المشروع فالآن هم يريدون العمل بنتيجة الحرب، وهو إدخال إخوانهم في ممالكهم رأسًا، ويطلبون غرامة حربية لتعويضهم مما تكلفوه، وطلب البلغار أن تكون حدودهم خطًا يذهب من «ميديه» على البحر الأسود إلى بحر الأرخبيل وتكون «قوله» تابعة لهم. وطلب السربيون ولايتي «قوصوه» و«مناستر». وطلب الجبل الأسود «شقودره» وتوابعها. وطلب اليونان جميع الجزائر وولاية يانيا ومكدونية السفلى داخلًا فيها سلانيك وتراقية الغربية، فرفض الأتراك هذه المطالب كلها، وانعقد مؤتمر الصلح في لندره وتواجهت الخصوم بعضها مع بعض.

وكانت الدولة حشدت ثلاثة جيوش أتت بها من آسيا، وصممت أنها لدى الحاجة تزحف وترفع الحصار عن أدرنة التي كان البلقانيون عجزوا عن فتحها، وبتوسط الدول رضيت تركيا أن تتخلى للبلغار عن بعض أماكن غربي أدرنة، وأما من جهة جزائر الأرخبيل فرفضت أيضًا تركيا التخلي عنها لليونان، واقترحت أن تترك للدول حل مسألة كريت. وأما ألبانيا فقد رضيت تركيا بأن يكون لها استقلال داخلي وأن تتعين حدودها بالاتفاق مع الدول، فلما رأت الدول أن الدولة غير مستعدة لإجابة البلقانيين إلى مطالبهم، وأن الحرب قد يستأنف نشوبها، أرسلت إلى الدولة في ١٠ يناير سنة ١٩١٣ مذكرة عمومية تنصح لها فيها بقبول مطالب البلقانيين، وبالتخلي عن أدرنة للبلغار، وأنه يقع اتفاق على حماية مسلمي أدرنة، وصيانة المساجد والمقابر الإسلامية التي فيها، وأنه إذا كانت تركيا تصر على الحرب فهذه المرة يجوز أن الحرب تمتد إلى آسيا، وأنه لا يمكن أن تقترض تركيا مالًا من أوروبا عند الاحتياج لأجل إصلاح ممالكها في آسيا. وكان الاتحاديون معارضين أشد المعارضة في الصلح على هذه الصورة، وكانوا يقذفون بكامل باشا لجنوحه إلى السلم، ويقولون لا يحق له أن يتخلى عن شبر من أراضي المملكة بدون قرار مجلس الأمة، والحال أن المجلس كان منفضًا. فأجمع كامل باشا على عقد مجمع كبير من رجال الدولة وأعيانها لاستشارتهم في هذا الخطب الجلل، وهي عادة قديمة عند الدولة بأنها في الخطوب الكبرى تدعوا الوزراء الذين في الخدمة، والوزراء السابقين، وقواد الجيش القائمين على الخدمة والمتقاعدين، والعلماء الكبار، ورؤساء الطرق، وكبار أصحاب الأملاك، وأعيان التجار والزراع، ومثل هذا الديوان انعقد في ديسمبر سنة ١٨٧٦ عندما طلبت الدول وضع مكدونية وبلغاريا والبوسنة والهرسك تحت المراقبة الأوروبية، فرفض الديوان الذي انعقد يومئذ اقتراح الدول هذا، وأدى ذلك إلى نشوب الحرب الروسية التركية. فالديوان الذي عقده كامل باشا هذه المرة لم يحل المسألة حلًا نهائيًا، وانقضى بالمذاكرات على كيفية المقاومة. وبعد ذلك جاءت جماعة من الاتحاديين إلى الباب العالي وبيدهم طلب يتضمن رفض تسليم أدرنة، ودخل أنور إلى مجلس الوزراء يقدم هذا الطلب إلى الصدر الأعظم، وفي أثناء وجوده داخلًا حصلت جلبة أمام الباب العالي، فخرج ناظم باشا ناظر الحربية وانتهر الذين كانوا يرفعون أصواتهم ليحدثوا الضوضاء، فأطلق عليه أحدهم الرصاص فقتله. فخرج كامل باشا فوجد ناظم باشا صريعًا فاستقال من الصدارة بتلك الدقيقة، وركب عربته وسار إلى بيته. وتولى الاتحاديون الحكومة تحت رئاسة محمود شوكت باشا بعد أن جاء أنور إلى سراي «طولمه باغجة» وحصل على الأمر السلطاني بذلك.

أما زعم بعضهم بأن أنور هو الذي قتل ناظم باشا فليس بصحيح، لأن كامل باشا نفسه روى في مصر لمن حادثه من أصحاب الجرائد أن جماعة الاتحاديين اجتمعوا أمام الباب العالي وكانوا نحوًا من مئة شخص، ودخل أنور عليه يقدم له الاحتجاج على تخلية أدرنة، وبينما هو يقرأه سمع صوت الرصاص أمام الباب، فخرج فوجد ناظم باشا صريعًا. إذًا أنور برئ من هذه التهمة بشهادة كامل باشا نفسه، وأما كيفية قتل ناظم باشا وياوره توفيق القبرصلي فقد اختلف فيها، والأقرب أنه انهر الجمع فأهانوه بالكلام فتصدى ياوره للقبض على من استطالوا عليه فحينئذ أطلقوا الرصاص على الناظر والياور معًا وقتلوهما. وبعد ذلك وقع استعفاء الوزارة، وذهب كامل باشا وجمال الدين أفندي شيخ الإسلام إلى مصر، وذهب فريد باشا الأرناؤوطي الصدر السابق أيضًا إلى مصر، وشاهدتهم هناك، وجرى بيني وبين فريد باشا جدال طويل في سراي عابدين أمام جمال الدين أفندي، وكان صدره ملآن وغرا على الاتحاديين وكنت أقول له: إنني آسف من هذه المنازعات الحزبية في أثناء ما البلغار مخيمون على أبواب الأستانة، وأتأسف من تفكره والحالة هي هذه بعداوة الاتحاديين. فامعتض جدًا مما واجهته به، وشرع جمال الدين أفندي شيخ الإسلام في تهدئة روع كل منا.

ثم في ٣٠ يناير سنة ١٩١٣ ردت الدولة الجواب على الدول ومال مذكراتها الجوابية وهي من جهة أدرنة التخلي عن أحد شطريها وهو ما يقع على الضفة اليمنى من نهر المريج، فأما

الضفة اليسرى التي فيها المدينة الحقيقية فتبقى لتركيا، وكذلك لم توافق الدولة على ترك جزائر الأرخبيل. ثم اقترحت على الدول إلغاء الامتيازات الأجنبية التي تعرقل سير الإصلاح الإداري في تركيا، وطلبت أن يكون لها الحق بضرب المكوس التي تستلزمها الحالة، وطلبت إضافة أربعة في المئة على رسوم الجمارك وغير ذلك مما لم تجب إليه الدول. ولما رأى البلغار أن تريا لا تريد تسليم أدرنة جددوا الحرب وهاجموا أدرنة، وجددوا القتال أيضًا في شطلجة، وبولايير. بقرب الدردنيل، ومع كون واقعة بولايير لم يوفق فيها الترك فإنه كان يتعذر على البلغار أن يربحوا شيئًا من استمرارهم على الحرب. ثم إن الترك كسروهم في واقعة كالكترية، وكانت الدولة استجدت نشاطها، وقطع البلغار آمالهم من التغلب عليها. نعم أن مدينة يانيا في جنوبي ألبانيا كانت استسلمت للجيش اليوناني بعد حصار طال عدة أشهر، ولم يبق فيها قوة ولا ذخيرة فاضطرت حاميتها إلى الاستسلام في ٥ مارس ومثل ذلك مدينة أدرنة التي اضطر قائدها شكري باشا إلى تسليمها في ٢٦ مارس فتكون مدة حصارها ستة أشهر وثمانية أيام، كما أن مدة حصار يانيا كانت نحوًا من أربعة أشهر وكل من البلدتين لم يتمكن البلقانيون من الاستيلاء عليها إلا بالجوع ولو كان فيهما الميرة الكافية والعلف الكافي للبنادق والمدافع، ما كان في استطاعة البلقانيين دخولها. والدفاع الذي دافعه شكري باشا عن أدرنة يبقى صفحة تاريخية باهرة في تاريخ تركيا، وطالما اقترح عليه البلقانيون تسليم أدرنة تحت شرائط شريفة فأبى، وأجاب بأنه لا يسلمها إلا ميتًا، ولكن بعد أن نفذت الذخيرة، وانتهى القوت، لم يبق في استطاعته المقاومة. وأما في الحرب فقد حمل عليه البلغار والسرب مرارًا عديدة، وكانوا يرتدون على أدبارهم، وقضى هو وأهالي أدرنة من الجوع وإعواز ضروريات الحياة شيئًا كثيرًا علمت منه أنا بنفسي حقائق مرة يوم كنت مفتشًا للهلال الأحمر المصري في الأستانة مع محمد باشا الشريعي، وكامل باشا جلال. وذلك أنه جاءنا رسول من قبل شكري باشا في أثناء الحصار يقول إنه إنسل من أدرنة خفية ومعه كتابة إلى الباب العالي بطلب مبلغ من المال لشراء حنطة للعسكر، وأن الجوع قد ضرس العسكر بنابه، ولم يجدوا مالًا في الخزينة ذلك الوقت. فهل من المكن أن الهلال الأحمر المصري أو لجنة الإعانة المصرية تقرض الدولة مبلغًا لأجل إغاثة حامية أدرنة، فتذاكرت مع رفاقي وأرسلنا بواسطة الدولة سرًا عشرة آلاف جنيه من مبلغ الإعانة المصرية إلى شكري باشا تحت اسم إعانة لجياع أدرنة.

ثم إننا قررنا بعد ذلك إرسال بعثة من الهلال الأحمر المصري إلى أدرنة، فأبرقت إلى الأمير محمد علي توفيق رئيس الهلال الأحمر المصري وإلى الأمير عمر طوسون رئيس لجنة الإعانة المصرية بوجوب السعي لدى الدول حتى تتوسط مع البلغار لأجل إدخال بعثة إلى أدرنة لمعالجة الجرحى والمرضى، وتم الأمر ودخلت البعثة المصرية وأعانت الجيش العثماني ومسلمي أدرنة إعانة فوق الوصف، وعرفت مقدارها. بنفسي وذلك أنه بعد استرداد الدولة لأدرنة كما سيأتي الكلام عليه، استدعت الدولة وفدًا من سورية كان مؤلفًا من ثمانية أشخاص، محمد فوزي باشا العظم، وعبد الرحمن بك اليوسف، وأمين أفندي الترزي من دمشق، ومحمد باشا المخزومي، والدكتور حسن الأسير من بيروت، والشيخ أسعد الشقيري من عكا، ونصرى أفندي الشنتيري من بيروت، والأستاذ الشيخ عبد المحسن أفندي الأسطواني قاضي الشام الحالي، وهذا العاجز كاتب السطور، ولم يبق في الحياة من هذا الوفد غيري وغير الأستاذ الأسطواني والشيخ الشقيري ونصرى الشنتيري. وكان ذهابنا من بيروت إلى الأستانة في شهر أغسطس ١٩١٣ لأجل مذاكرات مع الدولة تتعلق بالإصلاحات الداخلية في سورية وبتسكين الأمور بين العرب والترك، وكانت الدولة استرجعت أدرنة، فدعتنا إلى زيارتها لأجل تهنئة أهلها بالرجوع إلى حضن السلطنة العثمانية فذهبنا إلى هناك واحتفل الجيش المرابط بوصولنا، وفي حضور الجيش تلوت قصيدة منشورة في ديواني الذي هو الآن تحت الطبع مطلعها:

فدى لحمانا كل من يمنع الحمى
ومن ليس يرضى حوضه متهدما
فما العيش إلا أن نموت أعزة
وما الموت إلا أن نعيش ونسلما

وخطب في الجمع الشيخ الشقيري وخطب في صلاة الجمعة الشيخ أحمد الفقيه المكي الذي جاء معنا خطبة بصوته الشجي وفصاحته الحجازية مما حقق قولي في قصيدتي:

أدرنتنا لو كان للصخر ألسن
بها يوم عاد الراجعون تكلما
فما من فتى إلا وأجهش بالبكا
ولا من جواد عاد إلا وحمحما
ولا غادة إلا وكفكف دمعها
مكر حماة العرض كالسيل مفعما
ولا منبر إلا وأورق بهجة
وقام عليه ساجع مترنما
وقرت عيون المصطفى في ضريحه
وهناه في الفردوس عيسى ابن مريما

ومنها:

فمن مبلغ البلغار أنا إلى الوغى
وإخواننا الأتراك نزحف توأما
وأن جميع العرب والترك أمة
حنيفية بيضاء لن تتقسما
وقولوا لهم بانت سعاد فلا يزل
فؤادكم صبًا عليها متما
فلا يطمعنكم في أدرنة مطمع
ولا تفتحوا في شأنها أبدًا فما
أدرنة صارت عندنا تلو مكة
وماء المريج اليوم أشبه زمزما

ولما أقبل الليل كان الوالي الحاج عادل بك أعد لنا مكانًا للمبيت فاستعفيت منه قائلًا: إنني كنت مفتشًا للهلال الأحمر المصري، ولا يزال له بعثة في أدرنة وكنت أنا السبب في دخولها، فأرغب في المبيت بدائرة الهلال الأحمر المصري، فذهبت وبت هناك وعند الصباح رأيت مئات من مسلمي أدرنة أمام دائرة الهلال الأحمر وبأيديهم سطول، فسألت عن ذلك فقالوا: إنه كل يوم يتوزع عليهم حساء وخبز، ولكنهم قالوا إنه في أثناء حصار أدرنة بعد أن قلت الأقوات واشتد الجوع كان الأربعون ألف نسمة من مسلمي أدرنة يعيشون كلهم من الهلال الأحمر المصري، ولولاه لهلكوا بأجمعهم من الجوع، لأنه لم يبق بأيديهم شيء من طول الحصار، حتى أن الذين في أيديهم شيء من النقود لو أرادوا شراء القوت لم يجدوه، فالله تعالى أغاثهم بوجود هذه البعثة المصرية. ولما استرجعت الدولة أدرنة درت الخيرات، وارتفع الضيق ووزعت الدولة عليهم الأقوات، فلم يعودا محتاجين إلى الهلال الأحمر، وقالوا لي إن الذين تراهم الآن إنما هم خمس مئة أو ست مئة شخص منا لمساكين والعاجزين.

وبمناسبة هذه المعاونة التي لقيتها أدرنة من حمية أهل مصر ينبغي لي أن أذكر على وجه الإجمال ما قامت به مصر كنانة الله في أرضه من إمداد الدولة العثمانية في الحرب البلقانية المشئومة، وأن لا أدع هذه الواقعة غفلًا قيامًا بواجب الأمانة مع التاريخ، وتوفيرًا للحق لأهله، فأهل مصر يومئذ حققوا قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وقوله : «المسلمون في توادهم وتعاطفهم كالجسم الواحد إذا تألم منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى» فأول شيء أنهم جمعوا إعانة للدولة مبلغ نصف مليون جنيه، وذلك بهمة لجنة الإعانة التي كان يرأسها الأمير «عمر طوسون» الذي هو يرأس كل عمل خيري تقريبًا في مصر، وأرسلوا بعثة من الهلال الأحمر المصري قامت بأعظم الأعمال في معسكر شطلجة، ثم إن مسلمي الرومللي بالنظر لما وقع عليهم من اعتداء البلقانيين — لاسيما البلغار واليونان — فروا من وجه العدو اتقاء القتل للنفوس والهتك للأعراض، فالتجأوا جميعًا إلى الأستانة ليجوزوا إلى بلاد الأناضول، وجاء منهم فريق إلى غاليبولي ليجوزوا منها أيضًا إلى البلاد نفسها، وبديهي أن هؤلاء الذين فروا من وجه العدو هاموا على وجوههم لا يلوون على شيء خوفًا على دمائهم وأعراضهم، ولم يكن ليتيسر لهم التريث حتى يستحضروا النفقات اللازمة لهم من أجل السفر، وأكثرهم خرجوا بعيالهم وهم لا يملكون القوت الضروري، وكان ذلك في قلب الشتاء، وكان عددهم لا يقل عن مئة وخمسين ألف نسمة.

فلما دخلوا الأستانة أنزلتهم البلدية في الجوامع والمدارس. فاستوعبتهم جميعًا، ومن هنا يعرف الإنسان فائدة هذه الجوامع العظيمة التي شيدها سلاطين آل عثمان بالحجر الصلب، وتوسعوا في عمارتها إلى الدرجة القصوى، حتى أن الجامع الواحد منها مع مضافاته والمدارس المتصلة به يكاد يكون بلدة، فأبرقنا إلى مصر بحالة هؤلاء المهاجرين وكنت أنا المتولي الكتابة إلى الأمير عمر طوسون، والأمير محمد علي توفيق ووصفت لهما حالة إخواننا المهاجرين وما هم عليه من البأساء، فلم نلبث إلا أيامًا قلائل حتى فوضوا إلينا هذا العاجز ومحمد باشا الشريعي وكامل باشا جلال وعدة أشخاص آخرين من مستخدمي الهلال الأحمر توزيع الإعانات على هؤلاء المهاجرين على معدل ثلاثة ريالات مجيدية للنسمة، فطلبنا من أمانة البلدة جداول أسمائهم جميعًا وأخذوا بتنظيمها لنا، فكنا نذهب بأنفسها إلى جامع جامع ومعنا البوليس يدعو كل رئيس عائلة باسمه ليأتي أمام اللجنة مع جميع أفراد عائلته، فننظر في الجدول الذي في أيدينا ونسأله عن اسمه وأسماء أفراد عائلته فإذا طابق ما في الجدول أدينا له ما يستحقه، فكان صاحب العائلة يقبض عشرين ريالًا، أو ثلاثين ريالًا، أو أربعين ريالًا بحسب عدد عائلته. وهكذا حصل لهؤلاء المهاجرين من الفرج ما لا يوصف في زمن كانت الدولة في شغل شاغل عنهم بسبب الحرب وإعداد لوازم الجيوش.

وقد بقينا أكثر من شهر نوزع هذه الإعانات عليهم حتى أخذ كل من المئة والخمسين ألف نسمة نصيبه، وأرسلنا لجنة إلى غاليبولي فدفعت مثل ذلك من الإعانات إلى المهاجرين الذين اجتمعوا فيها، وجميع هؤلاء المهاجرين عبروا إلى الأناضول وسلموا من الإهانات والاعتداءات، لا بل من الفظائع التي حلت بالذين تخلفوا من المسلمين في بلاد البلقان، وهي وصمة عار على البلقانيين لا يمحوها الدهر فقد ارتكبوا من الفظائع والفجائع بحق مسلمي الرومللي المساكين بعد انهزام العساكر العثمانية ما لو ارتكب المسلمون بحق المسيحيين عشر معاشره لقامت أوروبا وقعدت وملأ صراخها الآفاق، وملأت أساطيلها مرافئ الشرق، وتوالت احتجاجاتها في العشي والإشراق، ولكن هذه الدول التي تدعي المحافظة على حقوق الإنسانية وتزعم أنها تعلم الناس قواعد المدنية، عرفت بجميع فظائع البلقانيين بحق المسلمين وما أتت بأدنى حركة.

ولي في ذلك الوقت برقية شديدة إلى السر إدورد غراي ناظر الخارجية الإنجليزية أبين له فيها دهشة العالم من وقوفهم بدون أدنى اكتراث لما هو واقع على مسلمي الرومللي الوادعين في بيوتهم من اعتداءات الدول البلقانية، على حين أنهم كانوا يقيمون القيامة لو كان الاعتداء واقعًا من المسلمين على البلقانيين. وبعد إرسال البرقية طلب كامل باشا الصدر الأعظم صورتها وأعجب بها، وجرى حديث بيني وبين فيسموريس مستشار السفارة الإنجليزية في الأستانة في هذا الموضوع فلم يقدر أن يعترض بكلمة واحدة، وغاية ما قدر أن يقول لي إن السربيين كانوا أقل أذى للأهالي المسلمين من غيرهم.

ولما سقطت سلانيك في أيدي البلقانيين كان قد اجتمع فيها جميع المسلمين الذين في جوارها، والذين فروا من وجه جيوش الأعداء فدخل اليونان والبلغار إلى سلانيك وفيها مئة وخمسون ألف نسمة من المسلمين اللاجئين إليها، فضلًا عن المسلمين الذين هم من أهلها، وقد ضبط الأعداء جميع الأقوات والأرزاق التي في البلدة لأجل جيوشهم، فصار المسلمون على شفا الهلاك جوعًا، وحرص اليونان والبلغار على قطع أخبار سلانيك عن العالم حتى لا يعلم أحد ماذا يجري فيها، وهذا قد كان من أسوأ أعمالهم، وكأنهم أرادوا أن يمحوا هؤلاء المسلمين الذين اجتمعوا هناك بواسطة الإجاعة فلم يجدوا وسيلة أحسن من قطع أخبار سلانيك عن العالم حتى لا يعرف المسلمون ماذا جرى، ولا يرد منهم أدنى مدد إلى مسلمي سلانيك، ولكن أبى الله إلا أن يغاثوا فجاء رئيس أطباء الجيش العثماني في سلانيك إلى الأستانة واسمه سلامي باشا وكان خروجه من سلانيك بمجرد دخول العدو، فلم يطأ أرض الأستانة حتى اجتمعنا به ومنه أخذنا الخبر عن سقوط تلك البلدة لأن البلقانيين كانوا قطعوا الأسلاك التلغرافية، فكان لم يمض على سقوطها غير ثلاثة أيام. وهو الذي أخبرنا بأن في سلانيك مائتي ألف مسلم بالأقل إذا مضى عليهم عشرة أيام، ولم تأتهم أقوات يموتون كلهم جوعًا. فسرعان ما حركت قلمي بالإبراق إلى مصر سواء إلى الأمير عمر طوسون أو إلى الهلال الأحمر، وحيى الله لجنة الإعانة المصرية والهلال الأحمر المصري، فإنه ما مضى أسبوع حتى كانت البواخر دخلت مرفأ سلانيك ملأى بالأقوات والأرزاق والأكسية وجميع اللوازم الضرورية، ومعها الرجال الموكلون بها، فأغاثوا المسلمين وانتاشوهم من خطر الهلاك جوعًا، وكذلك سمعت أن الخديوي السابق أرسل بواخر إلى مرسى «قوله» موقرة أرزاقًا لأن قوله هي موطن محمد علي باشا جد العائلة المالكة في مصر. وكان اجتمع إليها أيضًا عشرات ألوف من المسلمين الفارين من وجه البلقانيين.

وخلاصة القول أن المقام الذي قامه أهل مصر أبقاهم الله ركنًا للإسلام من إغاثة مسلمي البلقان في الحرب البلقانية يبقى لهم مأثرة خالدة لا تبليها الأيام في تاريخ الإسلام.

ونعود إلى وقائع الحرب فنقول: إن الحكومة العثمانية بعد أن تولى الوزارة محمود شوكت باشا كانت ترغب في الصلح، ولكنها لم تكن ترضاه على أي الوجوه، وكان رجال الاتحاد والترقي يريدون استمرار الحرب على أمل الكرة على البلغار وأخذ الثأر منهم، لأنهم كانوا جميعًا يعتقدون أن الهزيمة التي انهزمها الجيش العثماني في الحرب البلقانية كانت حادثة على خلاف القياس. ولكن الدول بدأت تضغط على الدولة في أمر الصلح وفي ٣١ مارس أرسلت الدول مذكرة إلى الباب العالي تلح في عقد الصلح ولكنها تصرح بأنها لا تدعو الدولة إلى دفع غرامة حربية، أما الخط الفاصل بين الأملاك العثمانية والمملكة البلغارية فكان خطًا ممتدًا من البحر الأسود إلى بحر الأرخبيل يقال له خط «ميديا–أنوس» وهو في الواقع خط لا يبعد كثيرًا عن شطلجة، وكان مؤتمر الدول في لندرة قرر إرسال لجنة عسكرية لتحديد الخط المذكور بالفعل على قدر ما تسمح حالة الأراضي من تقويمه. وأما ألبانيا فقرر المؤتمر سلخها عن تركيا، وجعلها مملكة مستقلة، وكذلك جزائر بحر الأرخبيل كان المؤتمر يريد أن يجعل لها نظامًا خاصًا، ما عدا كريت فكانوا قرروا إلحاقها ببلاد اليونان.

وكل ما جرى على الدولة من المصائب لم يضع حدًا للشقاق في الأستانة، فقتل ناظم باشا ناظر الحربية بأيدي الاتحاديين أثار غضب أضدادهم حزب الائتلاف والحرية فصاروا يكيدون في الخلفاء للانتقام وإسقاط الوزارة الاتحادية، وبلغ الخبر الاتحاديين فأهملوا الاحتياط اللازم، وقيل لمحمود شوكت باشا: إن أناسًا يأتمرون بك ليقتلوك فهز أكتافه لا لكونه لم يصدق الخبر بل لأنه لم يبالي بالحياة، وكان متوكلًا معتقدًا قوله تعالى: لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وهكذا تم لحزب الائتلاف والحرية ما أرادوا من الكيد، وكان المتآمرون محيي الدين بك مدير الأمن العام في وزارة كامل باشا، ورشيد بك ناظر الداخلية السابق، وصالح خير الدين باشا ابن خير الدين باشا التونسي الذي كان صدرًا أعظم، وكان صالح باشا من أصهار العائلة السلطانية، وكان في هذه المؤامرة أيضًا صباح الدين بك ابن أخت السلطان، فانتدبوا بعض الأشقياء وبعض الجناة من أصحاب السوابق في القتل ورشوهم وكانوا يعتقدون أنه بمجرد قتل محمود شوكت باشا يستولون على الحكم حالًا ويقتلون رفاقه مثل أنور وطلعت وجمال وغيرهم، فذهبت هذه المصابة وترصدت محمود شوكت باشا عند مروره بسيارته من ساحة بايزيد آتيًا من نظارة الحربية إلى الباب العالي وكان ذلك في ٢٨ يونيو سنة ١٩١٣ نحو الساعة العاشرة والنصف قبل الظهر، فقتلوه وهو في سيارته، وقتلوا معه ياوره إبراهيم بك.

وأما الياور الآخر أشرف بك فأمكنه الخلاص وذهب مستنجدًا بالبوليس. فنقل محمود شوكت باشا نظارة الحربية حيث مات بعد عشرين دقيقة من الواقعة لأنه كان خرق جسمه خمس رصاصات. فكان بين قتل ناظم باشا وقتل محمود شوكت باشا أقل من ستة أشهر بخمسة أيام، وأفظع شيء في قتل محمود شوكت باشا أن اثنين من الذين تآمروا بقتله كانا سيقتلان بعد واقعة الثورة على الدستور ومجئ جيش الحرية من سلانيك إلى الأستانة، فعفا عنهما محمود شوكت باشا القائد يومئذ وأنقذهما من القتل، وعفا عن مجرمين سياسيين كثيرين برغم جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تريد الاقتصاص منهم، فكان أن الذين عفا عنهم محمود شوكت باشا هم أنفسهم المتآمرين على قتله. ولكنهم لم يبلغوا هذه المرة أمنيتهم، فما أغمض محمود شوكت باشا عينه حتى تولى الحكم الأمير سعيد حليم باشا مكانه، وهو ابن الأمير حليم باشا المصري ابن محمد علي باشا والي مصر، وكان الأمير حليم باشا يسكن الأستانة وأولاده نشأوا فيها، وانضم كبيرهم الأمير سعيد حليم وأخوه الأمير عباس إلى جمعية الاتحاد والترقي، وكانا من أماثل الرجال، وكان الأمير سعيد واسع العلم، ثابت الجنان عظيم الحمية، وفي أيام صدارته استرجعت الدولة نشاطها، وزال ما كان طرأ عليها من الوهل، وتعين طلعت بك ناظرًا للداخلية، وكان هو روح الاتحاد والترقي، وهو أجرأ الاتحاديين وأشدهم إقدامًا، وأسرعهم فهمًا، وأمضاهم في الأمور، وقد جمع إلى الذكاء والحزم عفة النفس، فإنه كان مأمورًا في التلغراف من الدرجة الثانية، فلما صار الانقلاب كان هو من أشد الاتحاديين مضاء، وأعظمهم أثرًا بالجمعية، فصار ناظرًا للتلغراف، ثم صار ناظرًا للداخلية، وفي الحرب العامة تولى الصدارة وبقي فيها إلى نهاية الحرب. ودخل في الحكومة فقيرًا وخرج منها فقيرًا، وكان يقول: ألا يكفي أن هذه الأمة تحملت جهلي، أفأجعلها تتحمل انحطاط أخلاقي. كان يتكلم عن جهله لأنه لم يكن من العلماء، أو ممن لهم تحصيل للعلم كاف، ولكن كان ذكاؤه الفطري أعجوبة، وكانت جرأته خارقة للعادة، فصار سيد الاتحاد والترقي بدون منازع. وكانت نهايته في برلين قتيلًا بيد أرمني أرسلته جمعيات الأرمن لاغتياله وكنا في ذلك الوقت في برلين، وكنت بالمذاكرة معه أسست ناديًا يجمع جميع الشرقيين وانتخبت رئيسًا له باتفاق الكلمة، فاحتفلنا له باسم النادي الشرقي بمأتم عظيم، وأبقينا تجاليده في مكان خاص بالجبانة الإسلامية في برلين.

وكانت الجبانة قد ضاقت جدًا ولم يبق فيها مكان للدفن، فراجعت الحكومة الألمانية فسمحت لنا بألف وخمس مئة متر مربع أضفناها إليها، وأدرنا حولها جدارًا وبنينا فيها مسجدًا صغيرًا لإيواء المصلين على الجنائز في أيام المطر والثلج، وأنشأنا بجانبه منزلًا لأجل حارس الجبانة، فجعلنا جثة المرحوم طلعت باشا في غرفة من ذلك المحل، وجرى تحنيطها حتى يتيسر نقلها إلى الأستانة ودفنها هناك. فلما استقلت تركيا وجاءت الحكومة الكمالية الأنقرية لم تسمح بدفن طلعت في تركيا. فكان من الغرائب أن أعظم الأتراك حمية على وطنه لم يمكن دفنه فيه، وما أبت الحكومة الكمالية دفن طلعت في الأستانة إلا خوفًا من أن يكون له مأتم تقوم له تركيا وتقعد وتتجدد فيها قوة الاتحاد والترقي. فسبحان الله الذي جعل طلعت ممن يخافه الناس في حياته وبعد مماته! وكان مع هذا من ألطف الناس خلقًا، وأحلاهم عشرة، وأودعهم نفسًا. وأيام كنا في برلين سنة ١٩٢٠ كنا نجتمع كل يوم تقريبًا، وقد ترجمته في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» ترجمة وافية.

هذا ودخل في الوزارة أحمد عزت باشا الارناؤوطي ناظرًا للحربية وقائدًا للجيش وعثمان نظامي باشا للاشغال النافعة، وبقي أكثر النظار الآخرين في مناصبهم وبدأت الوزارة بمحاكمة الذين قتلوا محمود شوكت باشا، والذين دخلوا في مؤامرة قتله فحكموا على ٢٤ شخصًا منهم بالقتل، منهم من كانوا فروا من الوجه مثل صباح الدين بك ابن أخت السلطان، ورشيد بك ناظر الداخلية السابق، وإسماعيل بك مبعوث كوملجنة.

ومنهم من وقع في اليد مثل صالح باشا خير الدين صهر العائلة السلطانية وجماعة يبلغون عشرة أشخاص فشنقوهم وصلبوهم في ساحة بايزيد.

وقد اجتمعت سنة ١٩٣٦ بإسماعيل بك مبعوث كوملجنة في جنيف وروى لي كيفية قراره في تلك الحادثة وتخلصه من أيدي الاتحاديين.

ثم إن الدول البلقانية اختلفن بعضهم مع بعض فالحكومة البلغارية تنازعت مع الحكومة السربية والحكومة اليونانية، على اقتسام الأسلاب التي أخذوها من تركيا في الرومللي، ووصل الأمر بينهن إلى القتال. وكانت رومانيا أرادت أن تستفيد من قتال هؤلاء الحلفاء، فطلبت تعديل حدود «الدبروجة» بينها وبين بلغاريا فوقع الخلاف بين رومانيا وبلغاريا فرأت تركيا الفرصة سانحة لاسترداد ولاية أدرنة، وفي ٦ يوليو أرسلت تركيا بواسطة عثمان نظامي باشا إلى الحكومة البلغارية إنذارًا بوجوب تخليتها الأراضي التي كان البلغار قد احتلوها، وكانتا لوقائع الحربية قد انتهت من شهر إبريل بموجب متاركة بين البلغار والعثمانيين، ولكن بقيت الجيوش البلغارية محتلة جميع ولاية تراقية التي يفصلها عن تركيا خط «أنوس–ميديه» الذي قرره المؤتمر الدولي بين الفريقين، فأرسلت الحكومة البلغارية المسيو «نتشيفيتش» معتمد بلغاريا سابقًا في الأستانة لأجل الاتفاق مع تركيا لاسيما أنه كان من أنصار التقرب بين تركيا وبلغاريا، فرضى نتشيفيتش بتغيير خط «أنوس–ميديه» الذي كان الأتراك غير راضين به، وجعل الفاصل خطًا مارًا بقصبة شورلو، ولكن الأتراك طلبوا أن بلغاريا تقبل النصيب المرفوض عليها من الدين العثماني على نسبة ما أخذته من أملاك تركيا، وتقبل أيضًا بإعطاء تأمينات متعلقة بحقوق المسلمين الذين في المملكة البلغارية والبلاد التي استولت عليها هذه المرة، وتتعهد بعدم تقاضي تضمينات حربية فلم يقدر تنشيفيتش أن يتعهد صريحًا بقبول هذه المطالب، فزحف الجيش العثماني بقيادة أحمد عزت باشا من جهتين، شطر منه سار من جهة رودوستو والآخر من جهة شورلو وفي ٢٢ تموز وصل المتطوعون وخيالة العرب والأكراد إلى أدرنة تحت قيادة أنور باشا.

وأما البلغار فلما وجدوا الجيش العثماني زحف عليهم نكصوا بدون قتال ولم يباشروا إلا مدافعات جزئية قتل فيها صاحبنا رشيد بك ابن المشير فؤاد باشا، كنا معًا في حرب طرابلس ولم تكن من البلغار مقاومة إلا بعد أن وصلوا إلى حدود بلغاريا الأصلية ولكنهم لم يقدروا على مقاومة تذكر، ولو شاء العثمانيون يومئذ أو يتوغلوا في نفس بلغاريا الأصلية لأمكنهم ذلك، لكنهم كانوا يخشون اعتراض الدول فأرسل الباب العالي إلى الدول مذكرة يقول فيها إن الدولة أبلغت بلغاريا بوجوب سحب عساكرها من الأراضي التي احتلتها جنودها وذلك لأجل وضع حدود تتمكن بها تركيا من المحافظة على الأستانة وعلى الدردنيل. وهذه الحدود غير ممكنة إلا باتباع مجرى نهر المريج، بحيث كل ما هو جنوبي هذا النهر يبقى لتركيا.

فلما لم يجب البلغار طلب تركيا اضطرت الدولة إلى احتلال هذه الأراضي تاركة تعيين الحدود الموافقة للمذكرات السياسية، فغضبت الدول من أجل إخلال تركيا بقرار مؤتمر لندرة الذي عين خط «أنوس–ميديه» فاصلًا بين تركيا وبلغاريا، وأرسلت إلى الدولة تنذرها بأنها إن لم تسحب عساكرها من أدرنة فإنها تتخذ جميع التدابير اللازمة لأجل تثبيت قرار المؤتمر، فهذا الجواب لم يرع تركيا وقتئذ، وذلك لأن الأتراك كانوا يرون الدول متمسكات بالقرار الذي يصدرنه في مصلحة أعداء تركيا ويقلن لا يجوز تبديل هذا القرار بوجه من الوجوه، بخلاف ما لو كان القرار في مصلحة تركيا فإنه يتبدل حالًا. وقبل الحرب البلقانية أبلغت الدول الفريقين بأن هذه الحرب يكون الغالب والمغلوب فيها سواء، وتبقى الحدود مكانها. فلما تغلب البلقانيون على الأتراك نسيت الدول بلاغها هذا كما تقدم الكلام عليه، فلهذا لم يكن لإنذار الدول هذه المرة موقع خوف في قلوب الأتراك، وأبرق عزت باشا قائد الجيش من أدرنة يقول: إن الجيش لا يمكن أن يتخلى عن أدرنة.

وكان بالفعل لو ضغطت أوروبا على تركيا، والحكومة ضغطت على الجيش والأهلين، لجرت ثورة دموية، فأجابت تركيا الدول بأن مذكرتها إلى الباب العالي تشير إلى أن الدول حاضرة للمذاكرة مع تركيا في الشروط اللازمة لتأمين حدودها والحال أن خط «أنوس–ميديه» لا يتأمن به شيء، وأن تركيا إنما احتلت البلاد التي كان احتلها البلغار محافظة على حياة الأهالي الذين كانوا صائرين لا محالة إلى الانقراض فتركيا ترجو من الدول إعادة النظر في قضية الحدود. فلما وصلت هذه المذكرة إلى الدول خطب السر ادورد غراى خطبة فيها شيء من التهديد لتركيا إذا أسرت على استرداد أدرنة. وأما الروسيا فأشارت بمنع كل معاملة مالية بين أوروبا وتركيا، ولكن كل هذا لم يرعب الترك، لأن قضية أدرنة هي لهم قضية حيوية، فأدرنة مفتاح الأستانة كما لا يخفى، وفي ولاية أدرنة مئات ألوف من المسلمين كانوا سينقرضون أو سيرحلون بأجمعهم لو بقي البلغارهناك، لما كان عند البلغار من الوجد لاستئصال الإسلام من تلك البقعة. فالأتراك كانوا مصممين على عدم الرجوع عن أدرنة وتهددوا البلغار بإعلان الحرب عليهم إذا لبثوا يطالبون بأدرنة، فخاف البلغار من أن ينهزموا ويفقدوا ثمرات طوائلهم في أول الحرب فجنحوا إلى السلم، والتمسوا من تركيا المذاكرة رأسًا. وكان مسلمو تراقية الغربية قد ثاروا وأسسوا حكومة مستقلة لأنفسهم مركزها كوملجنة ففي ١٨ سبتمبر سنة ١٩١٣ تقررت شروط الصلح بين الفريقين واستعادت تركيا بموجب هذا الصلح أدرنة، وقرق كليسه، وديموطقة، وأعيدت الحدود الأصلية التيكانت بين تركيا وبلغاريا قبل الحرب البلقانية، سوى بعض قرى إلى جهة البحر الأسود أكثر سكانها من البلغار فهذه سمحت بها تركيا لبلغاريا.

وكذلك خسرت بلغاريا الخط الحديدي من أدرنة إلى دده آغاج البلدة التي على ساحل بحر الأرخبيل، وكان البلغار سيجعلونها منفذًا لهم إلى البحر المتوسط، وكذلك تقرر بين الدولتين أن يضرب أمد لسكان مكدونية وتراقية أربع سنوات ليختاروا التابعية العثمانية أو التابعية البلغالية، فإذا مضت السنوات الأربع ولم يختاروا التابعية العثمانية يصيرون رعايا بلغاريا، وإلا فيبقون كأجانب مرجعهم الدولة العثمانية. وإذا كان في هذه البلدان يسكن عثمانيون من ولايات أخرى تابعة لتركيا فيبقون على تابعيتهم العثمانية، ثم حصلت مذاكرات في قضية الأوقاف الإسلامية، وتقرر أن تكون إدارتها بأيدي الجماعات الإسلامية وفقًا للاتفاق التركي البلغاري المنعقد سنة ١٩٠٩ بحق الأوقاف الإسلامية في بلغاريا القديمة فاشترطت تركيا أن تكون في الأستانة، بخلاف الأوقاف في بلغاريا القديمة التي كان للحكومة البلغارية حق لإشراف عليها. ثم تقرر أن يكون مسلمو البلغار تابعين للشرع الشريف في أحوالهم الشخصية، فيحكم بينهم فيها قضاتهم كما في تركيا، ويكون للمسلمين في بلغاريا مفتون تنتخبهم الجماعات الإسلامية بتمام الحرية، ويجرى تصديق انتخابهم بمعرفة شيخ الإسلام في تركيا، وتقرر أن تكون المدارس والمكاتب الإسلامية في بلغاريا معدودة من مؤسسات الحكومة البلغارية التي يجب أن تتفق عليها.

واستغرب الناس تساهل بلغاريا هذا مع تركيا، وقد كانت هي الظافرة في الحرب البلقانية، والحقيقة أن قواد الجيش البلغاري وجدوا أنفسهم لو أصروا على العناد لكر الترك عليهم، وكانوا من بعد غلبهم سيغلبون، لأن الجيش التركي في المدة الأخيرة كان غير الجيش التركي في أول الحرب، ثم إن البلغار كانوا اقتتلوا مع السرب من أجل «منستر» التي كان البلغار والسرب يتنازعون عليها. وكذلك كانوا اقتتلوا مع اليونان من أجل مكدونية فصارت بلغاريا مضطرة بحكم الضرورة أن تسالم تركيا. وانعقدت معاهدة الصلح النهائي بين تركيا وبلغاريا في ٢٩ سبتمبر سنة ١٩١٣ واتفقت الدولتان على عدم اعتبار المعاهدة السابقة المنعقدة في لندرة في كل المواد المخالفة فيها للمعاهدة الأخيرة.

ثم جرب المذاكرات بين تركيا واليونان لأجل الصلح، ولم تصل الدولتان إلى وفاق، أولًا لأن اليونان طلبوا التمتع بالامتيازات الأجنبية التي كانت الدولة حرمت اليونان إياها عندما كسرتهم سنة ١٨٩٧ فتركيا أبت إرجاع الامتيازات وقالت: إن الدول العظام أنفسها أصبحت مستعدة لإلغاء هذه الامتيازات، ثم إن تركيا طلبت الحرية التامة في اليونان لشعار الدين الإسلامي، وأن تكون إدارة الأوقاف الإسلامية في بلاد اليونان تحت مراقبة شيخ الإسلام، وتكون قضاة المسلمين هي الحاكمة في الأحوال الشخصية، فطلب اليونان بمقابلة ذلك أن تعاد إلى بطريرك الروم في الأستانة الامتيازات الدينية القديمة التي كان منحها السلطان محمد الفاتح، فأجابت تركيا بأن لا مدخل لدولة أجنبية في أمور داخلية في تركيا.

ثم اختلفوا في قضية الأوقاف لأن اليونان رضوا بالاعتراف بالأوقاف العائدة إلى المساجد رأسًا، فأما الأوقاف التي يقال لها وقف ذرية فادعت دولة اليونان أنها تحل فيها محل الدولة العثمانية، واختلفوا أيضًا في قضية الخدمة العسكرية، فاقترحت اليونان إعفاء الأروام الذين في تركيا من الخدمة العسكرية على أن تعفي اليونان المسلمين الذين في بلادهم من الخدمة نفسها، فرفض الباب العالي ذلك، فاقترحت اليونان وجهًا آخر وهو أن يكون للأروام في تركيا توابير مخصوصة لا يدخلون فيها مع سائر العسكر وأن اليونان بمقابلة ذلك تجعل لمسلمي بلادها توابير خاصة ولا تجبرهم على نزع الطربوش فرفض الباب العالي هذا أيضًا. وطلبت اليونان العفو العام عن الأروام العثمانيين الذين ساعدوا اليونان، فأجابت تركيا هذا الطلب. ثم طلبت اليونان ثلاثة ملاين جنيه عثماني تعويضًا لها عن ضبط مئة سفينة يونانية قبضت عليها تركيا في أول الحرب فأبى الباب العالي دفع شيء، انقطعت المفاوضات مدة. ثم استؤنفت بميل الفريقين إلى الصلح، وانعقدت المعاهدة في ١٤ نوفمبر سنة ١٩١٣ وفازت تركيا بتأييد كلمتها في قضية الامتيازات، وفي قضية الأملاك السلطانية، وكذلك فازت في معاملة الجماعات الإسلامية في أحوالهم الشخصية بموجب الشرع الشريف، كما جرى الاتفاق مع البلغار. ولكن لم يمكن تركيا أن تنال من اليونان أن تكون إدارة هذه الأوقاف بأيدي مسلمي بلاد اليونان وهكذا تم. وبقيت مسألة الجزر معلقة وكانت الدول تريد إلحاق جميع الجزر باليونان عدا «تندس» و«إمبروس» و«كستيلوريزو» وذلك لقربها الشديد من السواحل العثمانية.

وبينما الدول تفكر في فض الخلاف بين تركيا واليونان إذ وقعت الواقعة الكبرى وهي الحرب الكبرى فتوقف كل شيء منذ سنة ١٩١٤ إلى سنة ١٩٢٣ أي مدة تسع سنوات في خلالها جرت الحرب العامة ثم تبعتها حرب أخرى بين تركيا واليونان التي سلمتها إنجلترا قسمًا من بلاد الأناضول، فاستمرت الحرب بين الأتراك والأروام من سنة ١٩١٩ إلى سنة ١٩٢٢ وانتهت بانهزام اليونان، فعند ذلك انعقد بين الدول وتركيا مؤتمر لوزان، وتقرر الصلح، وبموجبه ألحقت جميع الجزائر في الأرخبيل إلى اليونان، إلا الجزر التي أمام الدردنيل مثل لمنى وتندس، ولكن تقررت أيضًا مبادلة الأراضي والسكان، فجميع المسلمين الذين في بلاد اليونان جاءوا إلى تركيا كما أن جميع الأروام الذين في تركيا أخرجوا إلى بلاد اليونان وأخذت تركيا أملاك اليونان فيها، وبمقابلة ذلك أخذت اليونان أملاك المسلمين فيها. واستلحقت إيطاليا رودوس والجزر العشر التي حولها. ولم يبق في مملكة اليونان سوى مسلمي تراقية الغربية، فقد جرى استئناؤهم من المهاجرة، ولم يبق من الأروام في تركيا غير الأروام الذين في القسطنطينية، إذ أن الدول في لوزان جعلن هؤلاء في مقابلة هؤلاء.

وهذه مسائل عائدة إلى الحرب العامة وذيولها، ونحن أحببنا الوقوف في تاريخ الدولة العثمانية عند هذا الحد، لأننا لو دخلنا في موضوع الحرب العامة لطال بنا الموضوع جدًا. ولما كنا نريد أن نفرد الحرب العامة وذيولها إلى أن انعقدت معاهدة لوزان سنة ١٩٢٣ بتأليف خاص — إن شاء الله — لم نجد لزومًا للدخول في هذا التاريخ بموضوع أكبر حرب عرفها العالم مما يجب أن يفرد بتأليف على حدة.

وربما يؤخذ علينا في هذا الكتاب كوننا تكلمنا عن نفسنا في بعض وقائع شهدناها بأعيننا، وربما عد ذلك بعضهم من قبيل تزكية المرء نفسه، والله يعلم أننا من أبعد الناس عن هذا الأمر بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وإنما قصدنا بذلك زيادة توثيق الوقائع التي نرويها بذكر ما شهدناه منها عيانًا، إذ هناك فرق كبير بين السماع والعيان وكثيرًا ما روى المؤرخون أخبارًا لم يكن لها أصل، أو كان لها أصل ضعيف، وذلك بسبب تلقفهم هذه الأخبار من أفواه الناس، أو نقلهم لروايات غير ممحصة. فأنا إذا رويت ما شهدته بعيني، وما سمعته بأذني، فإنما يكون مقصدي في ذلك زيادة التحري والانتهاء إلى أقصى درجات التوثيق «وما راء كمن سمعا» وهكذا تظهر الوقائع بشكل بارز، حتى كأن الإنسان يراها بالعيان، وليس هذا بمذهب لم يسبق إليه المؤرخون، والله تعالى وحده من وراه السداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤