الفصل الثالث

(تُرفع الستار عن منزل غانم وقوت القلوب بجانبه، وكراسٍ على قدر الإمكان.)

غانم : ما أصعب الحب والهوى، وما أمرَّ العشق والجوى، يا ربة الحسن الزاهي والجمال الباهي، عندي من خالص المحبة، وبقلبي من صافي المودة، ما أرفع حديث الشوق إليه، ولا أستطيع اندفاع جسدي عليه، فهلَّا تسمحي لي ببلوغ الأرب، بعد هذا التعب؟
قوت : يا عزيزي تصبَّر على الشدة، وانتظر فروغ المُدة، ولا تكن أسيرًا لجوى، فإنه يهدُّ القوى، واكتفِ بالكفاف، وتصبَّر بالعفاف.
غانم : يا عزتي كم عالم ذلَّ، وعابد ضلَّ، فهل من سبيل إلى الوصال، فقد ضاق مني الحال، وارحمي عبدًا إنما حبَّكِ بضمير الفؤاد، وسهر الليل الطويل بذكرك حتى نفى الرقاد، فاصفحي الصفح الجميل، وارحمي العبد الذليل، فأنتِ راحة جناني، وحسنة زماني، فاشربي معي كأس الصفا، واعدلي يا حبيبتي عن طريق الجفا؛ لأن وجدي شديد، وشوقي ما عليه من مزيد، فلا تقطعي وُدي، ولا تنسَي عهدي، واشفي خاطرًا عليلًا، وارحمي جسمًا نحيلًا، وأجيبي سؤالي، وحققي آمالي.
قوت : العهد بعيد، والكدر ما عليه من مزيد، فحق فيك ظني، وَثِقْ بحفظ عهدك مني، فأنا مع كثرة فضلك، وملاحة شكلك، أولى بصيانة عرضي دون الأنام، وبسط الرحاب، وحفظ الزمام.
غانم : الله يطول لنا مدة عمرك، ويمد أيام عزك، ويُمتِّعني الله بقربك، ويملأ قلبي بلذة حبك، فارحمي عظيم أشواقي، ولهيب اشتياقي، وانفرادي عن الأنيس، وخُلوِّي مع نديم جليس، فقد سلبتِ فؤادي، ونما سهادي، وهل يهدأ لي قرار وهجوع، ولواعج النيران تتلهب بين الجوانح والضلوع.
قوت : لا تكن ممن غلب عليهم هواهم فهدَّ قواهم، فقد انشغل مني البال، وقضى البلبال، وقل المساعد، واشتفى الحاسد، أفٍّ لهذا الدهر الخئون، إنَّا لله وإنا إليه راجعون.
غانم : الدنيا طبعها الغدر، وشرابها القهر، فاحمدي الله على كل حال؛ لأنه خلصكِ من الأهوال، ولكن مُرادي أقضي بكِ لياليَ وأيامًا، تكون غرة لوجه الدهر ولنا نعيمًا وابتسامًا.
قوت : سلام على تلك المعاهد، وحيَّا الله سالف تلك الموارد، ولا توقع نفسك في الضلال؛ لأن وصلي ضربٌ من المحال.
غانم : يا غزيرة الفيض الأبهى لا ينقطع إمداده، ونور الفرح يتصل إسناده، فاصبري لعلك تنالين الأجرًا العظيم، ويأتي الزمان بما لم يكن في حساب الفهيم.
قوت : انتظر عوائد ربي الجليلة، ومواهبه الجميلة، إذ قد عوَّدني الإحسان، وقلَّدني بقلائد الامتنان، فهو أكرم الكرماء، ويتفضل بجلائل النعماء.
غانم : قد طال تلهُّفي، وكثر انتحالي وتأسفي، وانصدع قلبي، وانذهل لُبي.

(لحن على وزن يا تمرة تمرتيني.)

بديعة المحيا
صِلي المحب البالي
قوت :
صِه لا تكن بغيًّا
فإن وصلي غالي
غانم :
يا طلعة الثُّريا
صِليني حان حالي
قوت :
حبيبي كن تقيًّا
واصبر على الأهوال
غانم :
يا قوت عيل صبري
وفيكِ عطف بالي
قوت :
وصالنا بعيد
يا صاحب النوال
غانم :
ألا يا قوت رفقًا عيل صبري
ورِقِّي فالغرام أذاع سري
قوت :
أغانم دع هواك فدتكَ نفسي
فإن الأمر هذا عين ضُري
غانم :
كيف أسلوكِ بُغيتي
والهوى هدَّ مُنَّتي
قوت :
خلِّ عشقي، وصبوتي
واترك الحب بالتي
غانم : ترفَّقي أيتها البهية، وارحمي عيوني البكية.
قوت : اترك أمر الوصال بالكلية، ودعنا نعيش عيشة هنية.
وذي حاجة قلنا له لا تَبُحْ بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لغيري صاحب وخليل
غانم : ومن هو غيري خليل، يا ربة الوجه الجميل.
قوت : اعلم أيها الفريد أنني من سراري الخليفة هارون الرشيد، وكان يحبني حبًّا ما عليه من مزيد، فاستولت على زبيدة الغيرة، وأوقعتني في الحيرة، وأرسلت إليَّ من يُبنِّجني، وفي صندوق وضعتْني، وأرسلتني مع جملة من العبيد، فرموني في إحدى التُّرب، وأنت أخرجتني يا رفيع الرتب، فلا يمكنني إجراء ما ذكرت من الوصال؛ لأن الخليفة لا بد ما يطلبني يا زين الرجال.
غانم : حكت لنا بواضح الأمر، بما هدَّ مني الحيل.
قوت : أغانم تب عن الأوزار، وكن عفيف الذيل.
غانم : عدلت الآن عن العصيان، ورُمْتُ العفو والغفران.
قوت : أخا الأشجان دع الأحزان، فإن الله ذو الغفران.
غانم : ودمعي جرى مما جرى.
قوت : لا تحزن أيها المحبوب، فإن الله غفار الذنوب، فعاملني يا صاحب الإحسان، معاملة الإخوان.
غانم : نعم يا مائسة القوام، بما أنك لسيدي الخليفة الهُمام، فما كان لسيدي فهو على العبد حرام، فأنت عندي بمنزلة أختي فتنة، التي بفراقها جلبت لي كل محنة، فلا تفتكري يا زاهرة الجمال، فإني لا أذكر لك بعدها أمر الوصال.
قوت : لا أدري ما الذي جرى لي حين سمعت هذا المقال، فأظن أنني فُتنت بهذا الجمال، وتُيِّمتُ بهذا الوجه اللطيف، وسئمت من عشقي هذا الخصر النحيف، وسحرني هاروت بهذا الطرف الكحيل، وما بقي لي إلى الفرار سبيل.

(هنا ترمي نفسها على غانم.)

إليكَ أخا الهوى أهديت نفسي
فصِلْني إن وصلك عين أنسي
غانم :
أنا يا قوت لا أرضى بوصل
ولو أني سكنت اليوم رمسي
قوت : خلِّ عنك هذا الدلال … واسمح لي بطيب الوصال، فإن عشقك أشغل مني البال.
غانم :
أرى ماءً وبي عطش شديد
ولكن لا سبيل إلى الورود
قوت : إذن بما نسلِّي أفكارنا يا زاهر القوام، فقد استولى عليَّ وعليك الغرام.
غانم : لا بأس من أن نستدعي غلمان صديقي عبد الرحمن، فهم ينعشون الأبدان، ويطربون بأصواتهم الألحان، يا غلام.
خادم : لبيك أيها الهُمام.
غانم : اذهب إلى صديقي عبد الرحمن، وقل له شرِّف مولاي أنت وندمانك الحسان.
خادم : أمرك يا رفيع الشان.
غانم :
أُنزِّه في روض المحاسن مقلتي
وأمنع نفسي أن تنال محرَّما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه
يُصبُّ على الصخر الأصم تهدما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري
فلولا اختلاسي رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم
فلست أرى حبًّا صحيحًا مُسلَّما
خادم : قد حضر غلمان صديقك عبد الرحمن، وهو سيحضر بعد قليل إليك، يستأذن لهم بالدخول عليك.
غانم : نعم فليدخلوا.
خادم : السمع والطاعة. (ثم يدخل الغلمان.)
غانم : اجلسوا وأسمعونا شيئًا من الألحان.
نديم أول : سمعًا لك يا رفيع الشان.
الجميع :
بدري أدر لي كاس الطِّلا
يا ليل، يا عين
فالراح لي مضني حلا
آه يا ليلي
شمس تجلت وانجلت
آه يا عين
عنا العنا فاسمح ولا
… … … …
يا فاتني يكفي صدود
يا لللي آه يا عين
يكفي صدود مضناك قد ذاق المنون يا عين

•••

ما احتيالي يا رفاقي في غزال
علَّم الغصن التثني حين مال
آه يا لللي
ذبت شوقًا، وهو عني معرض
لست أدري هو بخل أم دلال
غانم : أسمعنا بمفردك شيئًا من الإنشاد.
نديم : أمرك يا ذكي العقل والإرشاد.
أحسنتَ ظنك بالأيام إذ حَسُنتْ
ولم تَخَفْ سوء ما يأتي به القدر
غانم : أعوذ بالله، إني تشاءمت من هذا الإنشاد.
نديم : استمع إلى الباقي يا حسن الرأي والسداد.
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
خادم : مولاي الرفيع الشان، قد حضر صديقك عبد الرحمن.
غانم : وهل بيننا وبينه حجاب، دعه يدخل بدون ارتياب.
خادم : السمع والطاعة. (ويحضر عبد الرحمن.)
غانم : أهلًا وسهلًا، تفضل يا صاحب الوقار.
عبد الرحمن : لا لا الفرار الفرار، والهرب من هذه الديار؛ لأني حينما كنت آتيًا إليك، وجدت جعفرًا ومسرورًا يفتِّشون عليك، ومعهما جملة من العسكر يريدون قتلك أيها الهُمام، والقبض على قوتٍ مائسة القوام، فأسرع يا صديقي بالهرب، قبل ما يحل بك العطب (ويذهب).
نديم : ائذن لنا أيها الأمير بالذهاب، قبل ما تغلق في وجوهنا الأبواب.
الجميع :
يا هُمامًا ساء قدرًا
هب لنا إذن الذهاب
لمولانا فهو في انتظار
غانم : ها أنا أمضي أراه في ذا الآن.
قوت : آه حبيبي غانم.
غانم :
اصبري مهلًا يا فؤادي
واقتدي أهلًا لودادي
يا من قلبي
الجميع :
عفوًا، وامنح لنا الذهاب
إنه طال الاصطبار
وقد حان
غانم : اصبروا على الولْهان.
الجميع : وقتنا هنا قد طال أيها الهُمام الأعظم.
غانم : آه ارحموا فؤادي المُغرم.
الجميع :
إنه حان الذهاب
ولقد طال الغياب
سيدي كفى إمهال
غانم : آه أمان.
الجميع :
سر بنا إذن في الحال
وقتنا هنا قد طال
غانم : كوني في أمان. (ويذهب الجميع ما عدا قوت، ثم يدخل جعفر والعسكر.)
قوت : آه غانم، مرحبًا بسيدي الوزير صاحب الرأي المنير.
جعفر : أين غانم يا بنت الكرام؟
قوت : قد ذهب بتجارة إلى الشام.
جعفر : قد أمر الخليفة بقتل غانم بن أيوب، والقبض عليك يا قوت القلوب. اعذريني في هذه القضية، ولا تنسبيني للغرضية.
قوت : افعل ما أُمرتَ به يا ذا الشيم المرضية.
ظلموا غانم ذو القلب السليم
ورموني بالنكد
وبسجني حكموا هل من رحيم
واصطباري قد نفد
العسكر :
كيف يُجدي النفع، والملك الغريم
وبهذا قد قصد
فاسبل الستر علينا يا كريم …
أنت عوني، والمدد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤