الفصل الخامس

(تُرفع الستارة عن أودة تجاري، وبها صالح، وغانم نائم، والخادم واقف.)

صالح :
أيها الدهر ما كفاك عنادًا
جُرتَ ظلمًا، وكم أذبت فؤادًا
لو تُنادي فما أراك مقادًا
إن لله في العباد مُرادًا
إني لأعجب من جور الأيام، حيث لا ترمي بمصابها إلا الكرام، فما أصعب غدر الزمان الميال، الذي يُلجئ كرام الناس إلى السؤال، ومن أعجب ما جرى في الماضي من العصور، وأغرب ما مر في سالف الدهور، أني كنت ذاهبًا إلى بعض الأشغال، فوجدت هذا الشاب مطروحًا في الطريق، غائبًا عن الصواب، ولما عرفته غريبًا عن الأوطان أتيت به إلى هذا المكان، ولم أدرِ هو من أي البلاد، ولا أعرف له اسمًا بين العباد، ولكن جذبتني إليه دواعي الشفقة، وما أسديت إليه من إحسان وصدقة — يا غلام.
خادم : لبيك أيها الهُمام.
صالح : أحضر ماءً ورُشَّه على وجه هذا العليل.
خادم : أمرك أيها الجليل (ويُحضِر الماء ويرشه على غانم).
غانم :
بلوت الناس قرنًا بعد قرن
فلم أرَ غير ختال وقال
ولم أرَ في الخطوب أشد هولًا
وأصعب من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طرًّا
فما شيء أمرُّ من السؤال
يا أيها الملأ أفتوني في أمري، فقد ضاق والله صدري، وروحي مع جسدي من جور الأيام والليالي، قد بلغت التراق، وقيل من راق، والسعد نائيًا، ونديم العز ساقيًا، وحافظ المجد باقيًا، فانعكس سعدي وانقلب، وصادمني الدهر بلا سبب، فهل من رحيم يرحم الشكوى، ويتأمل في بلاها من نازلة التقوى.
صالح :
فاصبر لها غير مختال ولا ضجر
في حادث الدهر ما يُغني عن الفكر
غانم :
ومن العجيب من القضاء وصنعه
موت اللبيب وطيب عيش الأحمق
صالح :
هي النفس ما حملتها تتحمل
وللدهر أيام تجور وتعدل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة
وأحسن أخلاق الرجال التفضل
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة
ولكنَّ عار أن يزول التفضل
غانم : أيها السيد الجليل، والحسيب النسيب الأصيل، بفضلك عليَّ، ونعمتك الواصلة إليَّ، قد أوليتني جزيل الإحسان، وقلدتني قلائد الامتنان، فأنعش الله بالك، وأحسن في الدارين مآلك.
صالح : حيث قد تيسَّر لي مواجهتك، واتفق لي مشاهدتك، فلا بد من أن أُحيي أيامك وأزيد في إكرامك، وتُقيم في محلي بين أولادي وأهلي حتى ينتظم لك الأمر، وتنجو من هذا الشر.
غانم : أبقاك الله راقيًا أوج الكمال، رافلًا في ثوب المهابة والإجلال.
صالح : يا أعز الأحباب، عندي من الرأي الصواب، إن تركن إليَّ، وتعتمد في كل أمورك عليَّ، فإني أفديك بروحي والمال، فأقم عندي حتى ينتظم لك الحال، فإني أبذل في خدمتك جهدي، ولا عجب فإن هذه طريقة أبي وجدِّي، واعلم بأني شفيق عليك، وسأخدمك بما يعود نفعه إليك، حتى تنجلي عوارض الشرور عن أبصار أفكارك، وتدور مؤانسة التهاني عن أبصار أسرارك، فتتوصل إلى بلوغ مقاصدك، ويقع الأمر كيفما اخترت في مسارك — يا غلام.
خادم : لبيك أيها الهُمام.
صالح : ترفَّق بهذا الرجل الكامل؛ لأنه كريم الشمائل، ومرغوب الفضائل، ومحمود الخصائل، وزِد له في الإكرام، وأحضر له ما طاب من الطعام، واخدمه بنفسك على الدوام؛ ليحظى عندنا بالمرام، وكلما حاباك، أو حياك، ونطق باسمك، أو ناداك، فقابله بالبشاشة، والإكرام والهشاشة، وأحضر له طبيبًا، يكون ماهرًا لبيبًا، يعالجه حتى يُشفى من ألمه، ويعود له الشفاء بعد عدمه، ولا تدخل عليه بالي؛ لأني ذاهب إلى بعض أشغالي (ويذهب).
خادم : مولاي أنا واقف على قدم الطاعة والامتثال، رهين إرادتك.
غانم : بلَّغك الله الآمال، وأصلح إليك الأحوال، فاذهب أنت إلى خدمة مولاك.
خادم : بلَّغك الله من الشفا مناك، فها أنا ذاهب لآتيك بطبيب يداويك، عسى من هذه السقام يُنجيك (ويذهب).
غانم :
هم حمَّلوني في الهوى فوق طاقتي
فمن أجلهم قامت عليَّ قيامتي
وما كنت لولا هجرهم وصدودهم
حليف ضنى لا بل لطيب إرادتي
بحقكم يا جائرين تعطفوا
فقد رقَّ لي من جوركم كل شامت
وقد كان ظني تسمحوا لي بنظرة
تخفف أشجاني وفرط صبابتي
سألت فؤادي الصبر عنكم فقال لي
إليك بحان الصبر من غير عادتي
أُقيم إلى الداء الدفين جوانحي
وأُظهر من خوف الرقيب بشاشتي
وليس تلافي إذ بليت بهجركم
عجيبًا، ولكن العجيب سلامتي
وكيف اشتغالي عنكم لا عدمتكم
ونار الأسى والشوق ملء حشاشتي
فوا حسرتي طال الأسى وتصرمت
دهوري وما إن خطبكم كمصيبتي
آه وا حسرتاه ليت شعري أين أنا، وكيف أقاسي هذا العنا، فإني أعقل نفسي بعد فراري من الدار، وهِمت على وجهي في البراري والقِفار، وأشرفت من السقم إلى الموت والدمار، ولكن من أتى بي إلى هذا المكان، الذي كأنه بقعة من الجِنان، آه قد جار عليَّ زماني، وبفُرقة أمي وأختي دهاني، وبُعدي عن حبيبتي قوت القلوب، التي من أجلها ذقت هذه الكروب. (يدخل صالح.)
صالح :
تمتَّع بالسرور، وعِش مُصانًا
مدى الأيام يا شمسي، وبدري
غانم :
يدوم لك السرور مع التهاني
مدى الأيام يا نفسي، وذُخري
صالح : كيف تجد نفسك الآن؟ فهل زالت عنك الأحزان، وانشرح منك الخاطر فقد قرَّت بقربك النواظر، وأسأل المولى الكريم، صاحب العفو العظيم، أن يشفيك ويعافيك، وإلى سبيل الخير يهديك، فعِش معي منشرح البال، وأراك بعد ذلك ساكن البلبال.
غانم :
يا صاحب الإحسان والجود الذي
مذ عمَّني أروى به أملي الصدى
ورجوت منه خير ما أملته
يروي لنا عن جوده المتردد
لا زلت في كنف الإله، وستره
متفيئًا ظل النعيم السرمدي
خادم : مولاي، إن بالباب امرأتين عليهما آثار النِّعَم، يطلبان الدخول عليك يا معدن الكرم.
صالح : فلتدخلا.
خادم : السمع والطاعة (ويذهب يدخلهما).
صالح : أهلًا بدُرَّتَي العصر، وجوهرَتي الدهر، مرحبًا بالعزيزتين، وأهلًا بالسيدتين الكريمتين، اجلسن في أعز مكان، وسأسعى جهدي في بذل الإحسان، أيها الخادم الأمين، ومن هو على أسراري أمين، خذ هاتين الفقيرتين، ولا تَغفُلْ عن إكرامهن طرفة عين، وها أنا ذاهب لبعض الأشغال، وسأعود إليك في الحال (ويذهب).
خادم : اجلسن هنا فستنلن كل المُنى.
ظهرة : انظري يا ابنتي هذا العليل، فإنه شاب جميل، فنسأل المولى الجليل، أن يخلصه من هذا السقم الطويل، أو يمن علينا باجتماع أخيك الخطير، إنه السميع البصير. (يدخل صالح مع قوت القلوب بزي الرجال.)
صالح : شرِّف يا مولاي، وانظر هؤلاء الفقراء، فإن جميعهم عندي يا صاحب الوفاء، أما هذا الشاب السقيم، فإني وجدته على قارعة الطريق مقيم، وللآن ما عرفت اسمه، ولا علمت سبب سقمه، وأما هاتان الفقيرتان، قد حضرنَ إلى هنا بلا مين، فدعاني داعي الشفقة والإحسان، أن أُخلي لهما هذا المكان، ولما علمت أنك تبحث عن بعض الأغراب، أخبرتك عليهما بلا ارتياب، فإن كان الذي تبحث عنه موجودًا هنا يا ابن الكرام، فقد نلت المرام.
قوت : أنتما من أي البلاد.
ظهرة : نحن يا مولاي من بلاد الشام، وكنا من أكابرها الفخام، فجارت علينا الأيام، وازدادت بنا الأسقام، وكان لي ولد وحيد وليس لي سواه، فغاب عني، وطال بعده وجفاه، وكان ذاهبًا إلى دار السلام بتجارة أخذها من الشام، ولما لم يتدبر في حوادث الزمان، أحب جارية من جواري مولانا السلطان، وبلغ الملك أنهما اجتمعا ببعضهما فغضب عليهما، وسجن الجارية، وأمر بقتل ولدي، وحشاشة كبدي، وصدر الأمر بنهب دارنا التي في الشام، فنهبوها وأخرجونا منها في الظلام، فسِرنا وبعد التعب والاجتهاد، دخلنا إلى مدينة بغداد.
قوت : أخبريني ما اسم ولدك يا بهجة الدهر؟
ظهرة : اسمه غانم بن أيوب يا فريد العصر.
قوت : أغانم ولدك يا أماه؟
ظهرة : نعم ولدي بلا اشتباه.
قوت : وا أسفاه وا حرَّ قلباه، اعلمي أن ولدك غانم هو حبيبي، ومن هو في الدنيا نصيبي، والجارية التي أحبها هي أنا، وكم ذقت في حبه العَنا، وما اجتمعنا على معصية أبدًا، بل كنا كأخوين متفقين، وبلباس التقوى متسربلين، ولما علم الخليفة بأمرنا، وتحقق له صيانة عرضنا، أوهبني له يا أماه، وأمرني بالتفتيش عليه لكي أُبلِّغه مُناه، ولكن من هذه الصبية؟
فتنة : أنا أخته فتنة، من ذقت لفِراقه كل محنة.
قوت : وا حبيبتاه.
ظهرة : وأنت ما اسمك يا سيدتي؟
قوت : أنا من ذقت في حب غانم الكروب، ووقعت في الخطوب، أنا حبيبته قوت القلوب.
غانم : قوت القلوب؟! آه قوت القلوب!
قوت : حبيبي غانم بن أيوب؟! آه أأنت غانم؟
غانم : نعم يا مزيلة الكروب.
قوت : وا حبيباه!
ظهرة : وا ولداه! وا نور عيناه!
غانم : وا أماه! وا فرحاه!
فتنة : وا أخاه! وا شوقاه!
غانم : وا أختاه! وا عزيزتاه!
صالح : وا غلاماه!
خادم : وا سيداه! (ويذهب الخادم.)
قوت : أبشرك يا حبيبي، بعفو الملك عنَّا، بعد علمه بصداقتنا فيما فعلنا، وقد وهبني إليك، وأني كنت سائرة لأفتش عليك، فوجدت أمك وأختك في هذا المكان، وقد فقدنا بعد تغيبك الجَنان.
غانم : الحمد لله الذي منَّ علينا باللقاء، وخلصنا من البلاء، فهذه ثمرة العفة والصيانة، وعاقبة الصدق والأمانة.
خادم : إن الخليفة يا مولاي قد قارب باب الدار، تعلوه المهابة والوقار، ومعه جعفر ومسرور، ويريدون الاستراحة قليلًا؛ ليتم لنا بوجودهم السرور، فاستعدَّ لتشريف مقامهم العالي، ولاستقبال مولى الموالي.
صالح : هيا افرشوا هذا المكان، وأنتم استعدوا لقدوم مولانا السلطان.
الجميع :
في سماء السعد مجدك
يرتقي أعلى مكان
وازدهى بالعز ملكك
مرحبًا مولى الموالي
مرحبًا بدر الزمان
أنت سلطان المعالي
صاحب القدر المصان
دمت يا رب الكمال
بالغًا أعظم شان
أقبل السعد وهنَّا
صاحب العفو الكريم
وازدهي حسنًا ومعنى
قدره السامي العظيم
ملكه الزاهي تهنا
في أمان مستديم
يا إلهي زده قدرًا
وابقهِ طول الدوام
واعطهِ عزًّا وفخرًا
في سرور وأمان
ملك : وأنت ما تصنعين هنا يا قوت القلوب؟
قوت : قد اجتمعتُ مع عبدك غانم بن أيوب، وها هو بين يديك يا مفرج الكروب.
ملك : قد أسأنا إليك يا غانم يا ابن أيوب، ولما بلغنا صدقك، وهبْنا لك قوت القلوب، وسأعوض عليك مالك الذي نهبوه منك في الشام، وسأكتب بالتفتيش على أمك وأختك بكل إقدام.
غانم : قد اجتمعنا هنا يا ملك الزمان، ومن بسط على رعاياه بساط الأُنس والأمان، وهذه أمي، وهذه أختي يا صاحب الإحسان.
ملك : والله إن هذا الاجتماع عجيب، وأمره مطرب غريب.
صالح : حيث كان الاجتماع عندي يا زين الأوصاف، فأرجوك أن يكون عندي الزفاف.
ملك : لك ذلك يا معدن الألطاف (ويسارر جعفر).
جعفر : حيث سمح لك مولانا يا غانم بقوت القلوب، وأزال عنك الكروب والخطوب، فقابله بنتيجة الطلب حيث يريد الزواج بأختك فتنة؛ لأنها وقعت لديه موضع الاستحسان.
غانم : هي جارية تُهدى مني إليه، وأنا وأمي وأختي خدمٌ بين يديه.
ملك : بارك الله فيك يا غانم، فاغمره يا جعفر بخيرنا الدائم، وزوِّجه بقوت القلوب؛ لتزول عنه الكروب، وافتح خزائن الإحسان، واغمر بالنعم كل قاصٍ ودان؛ ليُثنوا علينا في البداية والختام، ولنقول على كل حال، وعلى الله الاتكال.
الجميع :
أنعمت بالخير الجزيل
يا أيها الملك الجليل
فاسلم ودُم طول المدى
بالأمن يا شافي الغليل

دور

أشرقت شمس التهاني
وبدا نجم السعود
وانجلى صبح الأماني
وبه ضاء الوجود

دور

يا مليكًا عز قدرًا
وسما نهيًا وأمرًا
قد حباك الله نصرًا
خفقت منه البنود

دور

شدت أركان المعالي
وازدهت فيك الليالي
وأضا بدر الكمال
من سنا عدلٍ وَجود

دور

سست أحكام البلاد
ناهجًا نهج السداد
فغدت كل العباد
لا يرى فيهم حسود

دور

إن أعداك اللئاما
قد سُقوا الموت الزؤاما
وعذاب الله داما
فوقهم حتى الخلود

دور

والرعايا باحتفاء
رفعت أيدي دعاء
ترتجي طول بقاء
لك يا كهف الوفود

دور

دام في عز مشيد
غوثنا «عبد الحميد»
وبه نجم السعود
قد تبدَّى في صعود

دور

وبعباس المعالي
بسمت بيض الليالي
وبه كل الأهالي
أحرزت غاي السعود

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤