لمحات من حياة شوقي١

سيداتي سادتي

تفضلت محطة الإذاعة فدعتني للاشتراك في إحياء ذكرى أمير الشعراء.

وقد نظرت فرأيت الكلام على شوقي كَثُر جدًّا، وأنا نفسي كتبتُ في نقد شعره كثيرًا، وأخشى أن أقع في الحديث المُعاد.

فلم يبق إلا أن أقدم إليكم بعض الصور من حياة ذلك الشاعر العظيم …

كانت شهرة شوقي قد بلغت مبلغًا عظيمًا قبل الحرب العالمية، ولكن الجمهور كان هواه مع منافسه الخطير حافظ إبراهيم؛ لأن حافظًا كان شاعر الوطنية، وكان من السابقين إلى محاربة الاحتلال، وكان شوقي كذلك شاعرًا وطنيًّا، ولكن مركزه الرسمي في معية سمو الخديو عباس كان يحول بينه وبين الشجاعة التي امتاز بها حافظ في محاربة الاحتلال.

ثم وقع حادث لم يكن في الحُسبان، وهو عزل سموّ الخديو عباس عن عرش مصر بسبب انضمامه إلى تركيا في الحرب العالمية الماضية.

وفي تلك اللحظة الرهيبة تقدم حافظ إبراهيم فهنأ السلطان حسين بالعرش مع جماعة من الشعراء، ودعاه إلى الثقة بالإنجليز فقال:

ووالِ الإنجليز فهم رجالٌ
من الآداب قد نهلوا وعَلوا

وحينئذ تلفَّت الجمهور ينظر إلى ما يصنع شوقي، وكان تخلَّف عن تهنئة السلطان حسين، وما هي إلا أيام حتى نشر شوقي لاميته المشهورة التي عطفت الجمهور عليه:

المُلك فيكم آلَ إسماعيلا
لا زال ملككمُ يُظِلُّ النيلا

وكانت هذه القصيدة شؤمًا على الشاعر: فقد وقعت فيها أبيات كانت مثارًا للتفسير والتأويل، وهي هذه الأبيات:

يا أهل مصر كِلُوا الأمور لربكم
فالله خيرٌ موئلًا وكفيلا
جرت الأمور مع القضاء لغايةٍ
وأقرها من يملك التحويلا
أخذتْ عِنانًا منه غير عنانها
سبحانه متصرفًا ومُدِيلا
هل كان ذاك العهد إلا موقفًا
للسلطتين وللبلاد وبيلا
يعتزُّ كل ذليل أقوام بِهِ
وعزيزكم يُلقي القياد ذليلا
دفعت بنا فيه الحوادث وانقضتْ
إلا نتائج بعدها وذيولا
وانفضَّ ملعبه وشاهده على
أن الرواية لم تتمّ فصولا

وقد سارت هذه القصيدة في ذلك الحين مسير الأمثال، ولا سيما هذا البيت:

رؤيا عليٍّ يا حسينُ تحققتْ
ما أصدق الأحلام والتأويلا

وكان الناس يعدون ذلك من التورية.

وقد انزعج الإنجليز من كثرة القيل والقال، فأمروا بنفي شوقي من البلاد، وكان ذلك النفي فاتحة لعهد جديد من شاعرية شوقي، وابتدأ بقطعته النثرية في وصف قناة السويس، وهي قطعة نادرة النظائر والأشباه.

•••

وكان شوقي يخاف أن ينساه أهل مصر فهو الذي قال: إن مصر بلدٌ:

كلُّ شيء فيه يُنسى بعد حين.

فأخذ يرسل قصائده بلا انقطاع إلى مجلة عكاظ، وكان لهذه المجلة تأثير شديد في توجيه الأدب الحديث، ولكن الجمهور نسيها بسرعة؛ لأن صاحبها كان أفسد ما بينه وبين أكثر الأدباء من صلات …

ثم اتفق لشوقي أن ينظم النونية المشهورة، وهي قصيدة رقَّ فيها حنينه إلى مصر والنيل:

يا نائحَ الطَّلح أشباهٌ عوادينا
نأسَى لواديك أم نشجَى لوادينا
ماذا تقصُّ علينا غير أن يدًا
قصت جناحك جالت في حواشينا
رمى بنا البَيْن أيكًا غير سامرنا
أخا الغريب وظِلًّا غير نادينا
كلٌّ رمته النوى ريشَ الفراق لنا
سهمًا وسل علينا البين سكِّينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدِعٍ
من الجناحين عيٍّ لا يلبّينا
فإن يك الجنس يا بن الطلح فرَّقَنَا
إن المصائب يجمعن المصابينا
لم تألُ ماءَك تحنانًا ولا ظمأً
ولا ادِّكارًا ولا شجوًا أفانينا
تجرُّ من فنن ذيلًا إلى فننٍ
وتسحب الذيل ترتاد المؤاسينا
أُساة جسمك شتَّى حين تطلبهم
فمن لروحك بالنُّطس المداوينا

وفي هذه القصيدة مجَّد مصر والنيل أعظم تمجيد؛ إذ يقول:

لم يجرِ للدهر إعذارٌ ولا عُرُسٌ
إلا بأيامنا أو في ليالينا
ولا حوى السعد أطغى في أعنتِهِ
منا جيادًا ولا أرخى ميادينا
نحن اليواقيت خاض النارَ جوهرُنا
ولم يَهُن بِيَدِ التشتيت غالينا
وهذه الأرض من سهل ومن جبلٍ
قبل القياصر دِنَّاها فراعينا
ولم يضع حجرًا بانٍ على حجرٍ
في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن أهرام مصر حائطٌ نهضتْ
به يدُ الدهر لا بنيان بانينا

وختمها بالشوق إلى أمه في حلوان فقال:

كنزٌ بحلوان عند الله نطلبُهُ
خير الودائع من خير المؤدينا
لو غاب كل عزيز عنه غيبتنا
لم يأته الشوق إلا من نواحينا
إذا حملنا لمصر أوْ لَهُ شَجَنًا
لم ندر أيّ هوى الأمَّيْن شاجينا

•••

وفي أواخر سنة ١٩١٩ — فيما أتذكر — رجع الشاعر من منفاه، وتلهفتُ لرؤيته، فرأيته أول مرة في منزل المرحوم عبد اللطيف الصوفاني بك بالحلمية الجديدة.

رأيته رجلًا خاليًا من الأبهة والوجاهة في ملبسه وهندامه، رجلًا قليل الكلام كثير الصمت، لا يدلُّ مظهره على شيء، وإن طبَّقت شهرته الآفاق.

وقد عرَّفُوني يومئذ إليه، فأنشدتُه قصائد كثيرة من شعره البليغ، وكان يأنس إلى من يَرْوُون أشعاره ويعترفون بعظمته الشعرية.

ثم وقع بعد ذلك أن نظم قصيدة في الدعوة إلى قبول مشروع ملنر سنة ١٩٢٠، وقد قرأت تلك القصيدة وأنا في غيابة الاعتقال، فثار غضبي عليه، وصممت على إيذائه حين أجد السبيل إلى تنسُّم هواء الحرية.

ولما خرجت من الاعتقال في خريف سنة ١٩٢٠ كان أول ما كتبت مقالة في نقد شوقي بمناسبة قصيدته في مشروع ملنر، ونشرتُها في جريدة المحروسة، فغضب الشاعر، وأضاف اسمي إلى خصومه الألدَّاء.

ولكن المقادير أرادت غير ما أردتُ وأراد …

وإليكم أسوق الحديث:

كان شوقي بعد رجوعه من منفاه لا ينشر قصائده الجياد إلا في جريدة الأهرام، وكانت جريدة الأهرام تسميه «أمير الشعراء غير مُنازَع ولا مُدافَع».

وقد احتالت جريدة السياسة للتفرد بنشر تلك القصائد الجياد؛ فأعلنت أنها تقدم خمسين جنيهًا إلى الجمعية الخيرية الإسلامية في كل مرة تنشر فيها قصيدة من قصائد شوقي.

ورأى شوقي أمام الحيلة البارعة أن لا مفر من أن يختص جريدة السياسة بأشعاره، فقد كانت هذه الحيلة كافية للظفر بمودته؛ لأنها وثيقة نفيسة تشهد بعظمته الشعرية.

انتقلت قصائد شوقي من الأهرام إلى السياسة …

فانتقلت جريدة الأهرام كما انتقل، ولم تعد تسميه «أمير الشعراء غير منازَع ولا مدافَع» حين تجيء مناسبة لذكر اسمه، وإنما صارت تسميه صاحب العزة أحمد شوقي بك.

وقد تنبهتُ إلى هذه الظاهرة مع صديق قديم هو الدكتور سعيد عبده، وكان يومئذ طالبًا بمدرسة الطب، فكتبنا نلوم جريدة الأهرام بكلمات نشرناها في جريدة الصباح …

وقد قرأ شوقي ما كتبتُ وما كتبَ صديقي سعيد؛ فطرب ورآنا من النوابغ!

وأرسل ابنه حسين إلى صاحب الصباح يدعونا جميعًا للغداء بكرمة ابن هانئ في المطرية …

ولم يشأ أن يجشِّمنا مشقة الانتقال؛ فأعطانا موعدًا بأحد أندية القاهرة، وجاء بسيارته الفخمة فنقلنا إلى المطرية مكرَّمين معزَّزين، ومعنا الصديق أحمد علام الذي صار فيما بعد مجنون ليلى في رواية شوقي …

•••

قد أنسى كل شيء، ولكني لن أنسى كيف رأيت شوقي في ذلك اليوم.

كان الرجل جاوز الخمسين، ومع ذلك بقيت له ابتسامة عذبة حلوة تفتن وتَشُوق، وبقيَتْ في وجهه ملامح من الصباحة تظهر في نونين تُشرقان في خديه، وانطلق فحدثنا عن خصوماته القديمة مع الزعيم سعد زغلول، وأنشد أبياتًا من قصيدته التي نظمها في السخرية من عُرابي يوم عاد من منفاه، وعاتبني على المقال الذي نشرته في الهجوم عليه بجريدة المحروسة، وأوضح الأسباب التي دعت لنظم قصيدته في مشروع ملنر قائلًا: إنها استجابة لإلحاح المكباتي والنحاس.

وكان ذلك اليوم بداية صداقة حقيقية بيني وبين شوقي …

وزادت الألفة، فكنا نلتقي كل يوم بمكتبه في شارع جلال.

ثم شرع في طبع ديوانه سنة ١٩٢٥، فتلطَّف واقترح أن أكتب مقدمة لذلك الديوان، وقد قبلتُ بسرور وارتياح.

ورجعت إلى نفسي فرأيت أن كتابة المقدمات توجب التغاضي عن الهفوات، فأرسلت إلى شوقي خطابًا أعتذر فيه عن كتابة مقدمة ديوانه، وعللت الاعتذار بأني وقفت قلمي على النقد الأجنبي، وقد أهجم عليه في يوم من الأيام، وذلك لا يأتلف مع الثناء عليه في مقدمة الشوقيات.

وفي مساء اليوم الذي كتبت فيه ذلك الخطاب لقيتُ الأستاذ الدكتور طه حسين بمنزله، وكان يومئذ يسكن في مصر الجديدة، فأخبرتُه بما وقع بيني وبين شوقي، وكان الدكتور طه في ذلك العهد من خصوم شوقي، فتأسف وقال: ليتك حدثتني بذلك قبل أن تكتب اعتذارك، فإن كتابة مقدمة لديوان شوقي شرف عظيم، ولو أنه طلب مني ذلك وأنا من خصومه لسارعت إلى القبول؛ لأن شوقي في رأيي أعظم شعراء اللغة العربية بعد المتنبي.

•••

وكان اعتذاري عن كتابة مقدمة للشوقيات بداية قطيعة بيني وبين شوقي، مع أنني أنصفته في كتاب «الموازنة بين الشعراء» إنصافًا لم يوفق إليه أحد من النقاد الذين أعجبوا بشعره أشد الإعجاب.

وتعليل غضبه سهل؛ فقد كان شوقي لا يصدِّق أن شعره كلام كسائر الكلام فيه المقبول والمردود …

ولم تصرفني هذه القطيعة عن الإيمان بعظمة شوقي.

وزاد في عطفي عليه أنني رأيته رأي العين يحفر قبره بيديه.

رأيته يسرف إسرافًا شديدًا في نظم الشعر، والشعر يأخذ وقوده من الأعصاب والحواسّ، رأيته ينظم طوائف من الروايات المسرحية في زمن قليل، فعرفت أن الرجل يقدم صدره لسهام الموت.

وآخر مرة رأيت فيها شوقي كانت بمسرح حديقة الأزبكية في ربيع سنة ١٩٣٢، رأيته نحيلًا هزيلًا تتموج عيناه، وتضطرب يداه.

وقد هممت يومئذ بتقبيل يمناه، ثم تذكرتُ ما بيني وبينه فانقبض صدري وانصرفتُ.

لو كنت أعلم أن آخر عهدكم
يومُ الفراق فعلت ما لم أفعلِ

وعصف الدهر بشاعر النيل حافظ إبراهيم فبكاه شوقي بكاءَ من ينتظر الموت.

وكذلك كان صيف سنة ١٩٣٢ عهد شؤم، فقد انطفأت فيه حياة شاعرين عظيمين رفعا مصر مكانًا عليًّا.

سيداتي سادتي

عاش شوقي للشعر ومات بالشعر، ففي الساعة التي كان يجود فيها بروحه كانت الآنسة مَلك تطرب الجمهور بتغريدة شوقي:

يا حلوةَ الوعد ما أنساك ميعادي

وفي صباح اليوم الذي جُهز فيه نعشه كان المنشد ينشد قصيدته في مصنع مشروع القرش، فهتف هاتف: يحيا شوقي!

وصفق الجمهور، وأغرب في الهتاف.

ولكن هاتفًا آخر رفع صوته وقال: يرحم الله شوقي!

وتلفَّت الجمهور وهو مذعور، فعرف أن المقادير انتزعت من بين يديه كنزه الثمين.

سيداتي سادتي

تلكم كلمة وجيزة عن أمير الشعراء، وهي ذكريات حزينة، ومن ذا الذي لا يحزن ولا يبتئس حين يتصور ما تصنع الدنيا بالشعراء؟

وهو — رحمه الله — قد صور حاله مع دنياه، دنيا الجمال والحب، بالأنشودة الخالدة التي يغنيها تلميذه وصفيُّه محمد عبد الوهاب:

بُلبل حيران بين الغصون

في سبيل الجمال والحب مصرعك، أيها البلبل الذي قتلته أشواك الأزاهير!

وفي ذمة الله شاعر مصر والعروبة والإسلام والشرق!

في ذمة الله من يقول:

وطني لو شُغلتُ بالخلد عَنْهُ
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد من سلسبيلٍ
ظمأ للسواد من عين شمسِ
١  محاضرة أُلقيت في محطة الإذاعة المصرية في أكتوبر سنة ١٩٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤