تسعة أيام في بغداد

١

في صباح اليوم الثامن من هذا الشهر (مايو سنة ١٩٣٩) مضيت إلى محطة باب الحديد أودع الجارم بك بمناسبة سفره إلى بغداد للاشتراك في تأبين الملك غازي — رحمه الله —، ولم يكن من عادتي أن أراعي الواجب في توديع المسافرين من الأصدقاء؛ لأن الأيام لم تَدَعْ لي من الفرص ما يسمح بمراعاة الواجب أو الذوق، ولكني شعرت يومئذ بالشوق إلى توديع من يرحل من القاهرة إلى بغداد عساني أُحَمِّله تحية إلى أحبابي في العراق.

وجاء الجارم بك إلى المحطة ومعه طفلته الحلوة العذبة التي تُسمى «أميرة» وهو اسم أحبه؛ لأن له نظيرًا في بغداد، ولأن البواكير تشهد بأن صاحبة هذا الاسم قد تنقل قلبي من مكان إلى مكان، إن قضى الله أن أعيش إلى أن تصبح رُعْبُوبة هوجاء؟

ثم جاء جاد المولى بك والدكتور عبد الوهاب عزام وجماعة من كِرام الزملاء.

وبعد لحظات رأينا رجلًا كبير الهامة، فارع الجسم، يدخل المحطة في موكب وحاشية، فسارعنا إلى التسليم عليه لنؤدي واجب الأدب نحو المؤرخ الكبير صاحب السموّ الأمير عمر طوسون، حفظ الله حياته الغالية!

وجاء المصور ليقدم إلى الصحف صور المسافرين إلى بغداد، فتهيأ الجارم بك لوقفة شعرية تكون زاد النواظر يومًا أو يومين! ولكن المصور قال: لو سمح سمو الأمير بالظهور في الصورة لكان الموقف أجمل وأروع، فتقدم الجارم بك إلى سمو الأمير وهو يقول: يسمح أفندينا بأخذ صورته؟ فخلع سمو الأمير نظارته واستوى واقفًا في نافذة القطار، وبالقرب منه فؤاد أباظه باشا سندباد العصر الحديث.

وتسابقنا جميعًا إلى الظهور في الصورة مع سمو الأمير، ثم راعنا أن يقول: أين المسافرون إلى بغداد؟ فتقدم الجارم وعزام، فأشار سموه بأن يقفا إلى جانبيه: فعرفنا أن ظهورنا في هذه الصورة أصبح من المستحيل، وبذلك ضاعت فرصةٌ من أعظم فرص التشريف.

وفي اليوم التالي ظهرت الصورة في الجرائد وفيها شخص ثالث هو صديقنا زكي مبارك، فهل يكون ظهوره في الصورة بشيرًا بأن يسافر إلى بغداد؟

•••

كانت لجنة تأبين الملك غازي قررت دعوة الهيئات لا الأفراد، فدعت وزارة المعارف والأزهر والجامعة المصرية والصحافة، أما وزارة المعارف فأوفدت الجارم بك، وأما الأزهر فأوفد الشيخ إبراهيم الجبالي، وأما الجامعة فأوفدت الدكتور عبد الوهاب عزام، وناب عن الصحافة الأستاذ أسعد داغر والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني.

ولكن التليفون يدق في المنزل وفيه هاتف يقول: «يا مولانا، بغداد تحب أن تراك».

وأتأمل الصوت فإذا هو صوت السيد عبد القادر الكيلاني فأجيب: إني لا أملك الموافقة إلا بعد استئذان حضرة صاحب المعالي وزير المعارف.

وأمضي في اليوم التالي فأستأذن معالي الدكتور هيكل باشا وأتأهب للسفر إلى بغداد.

ولكن بأية صفة؟ لا أدري! باسم وزارة المعارف؟ لا، باسم الأزهر؟ وكيف! باسم الجامعة؟ يجوز! باسم الصحافة؟ تلك أيامٌ خَلَتْ!

لم تبق إلا صفة واحدة هي أن أسافر باسم مصر، وكذلك صنعتُ، ومصر تعرف أني ابنها الوفي الأمين.

•••

وقضيت لحظات في إعداد خطبتي، ولكنها لم تعجبني فأرجأت النظر في إكمالها أو تهذيبها إلى أن أدخل بغداد وأتنسم هواء العراق.

وفي قطار الصباح رأيتني في صحبة الوطني العظيم طلعت حرب باشا فذكَّرته بنفسي، وما كنت رأيته بعد أن تلاقينا في باريس منذ عشر سنين.

وفي الباخرة نظرت فرأيت مكاني في المائدة التي يجلس إليها أصحاب المعالي والسعادة حافظ عفيفي باشا، وتوفيق دوس باشا، وطلعت حرب باشا، وحسين فهمي بك، والسيد محمد شتا.

وكانت الساعات التي قضيتها في صحبة هؤلاء الرجال ساعات درس، فأنا لم أعرف حافظ باشا عفيفي من قبل، ولم تكن معرفتي بتوفيق باشا دوس وطلعت باشا حرب إلا معرفة سطحية، وحديث المائدة مع هؤلاء الرجال يفتح الشهية؛ لأنهم في الأغلب يخلعون أردية التوقر والتحفظ، ويتكلمون في شجون من الأحاديث فيها مُتعة للذهن والذوق والعقل والوجدان.

ومن تلك الأحاديث عرفت أن رجلًا كبيرًا أضاع منصبه في الدولة بسبب البخل: فقد كان يركب السيارات العمومية وهو في بذلة التشريفات!

فهل للدولة أن تنصفني وأنا رجلٌ كريم إلى حد الإسراف؟

وعرفت أشياء كثيرة من أسرار المجتمعات الأريستوقراطية، وسأنتفع بما عرفت يوم أكون من أقطاب الزمان، وما ذلك على الله بعزيز.

وفي لحظة من لحظات السمر تلطف طلعت باشا فقال: هل لك يا دكتور أن تقص علينا كيف استحضرتَ روح نسيم باشا؟

فقلت: وما الذي يهمك من ذلك يا مولاي؟

فقال: لأن مجلة الصباح اقتضبت حديثك مع نسيم باشا بعض الاقتضاب.

فقلت: يتفضل الباشا فيأمر بإحضار مجلة الصباح.

فمضى كاتبه وأحضر المجلة وقرأ طلعت باشا بنفسه فقرأت من ذلك الحديث؛ فظهر الاهتمام على توفيق باشا دوس، ورجاني أن أشرح بالتفصيل ما وقع في الجلسة التي استحضرتُ فيها روح نسيم باشا.

فقلت وأنا أبتسم: لم يقع من ذلك شيء، ولم أر وجه نسيم باشا في حياته، ولم أخاطب روحه بعد مماته، وما كان ذلك إلا حديثًا زخرفه أحد المحررين في الصباح!

وعندئذ نهض رجل من حاشية طلعت باشا وصاح: «هذا مستحيل، هذا مستحيل».

فقلت: وما هو ذلك المستحيل؟

فقال: مستحيل أن يُنشَر خبر كاذب في مجلة الصباح.

فقلت: يا أخي، أنا صاحب الشأن الأول في هذه القضية، ومن واجبك أن تصدقني.

فقال: أنا لا أكذِّبك، ولكن ذهني لا يسيغ أن تفتري مجلة الصباح عليك، وقد قابلت القشاشي في بنك مصر وسألته عن الحديث فقال: إنه صحيح.

•••

كان توفيق باشا دوس أظهر رغبته في الاتصال بجريدة المقطم ليعرف وجه الحق في مسألة استحضار الأرواح، فلما رآني أكذِّب ما نُسب إليَّ في مجلة الصباح فترت رغبته في مواصلة البحث، واقتنع بأن الأمر في جملته فنٌ من المناورات الصحفية.

فاعترض طلعت باشا قائلًا: وكيف كانت هذه المناورات من نصيب هذه الأيام؟

فقلت: كذلك يكون الحال في الأيام التي تسبق الحروب، وستعرفون صحة ذلك بعد حين!

ولكن يظهر أن روح نسيم باشا كانت حضرت بالفعل؛ فقد فُتح حديث المائدة في اليوم التالي بقصة ذلك الرجل، وكان المتحدث هو توفيق باشا دوس.

هل أستطيع أن أصور ما وقع في ذلك الحديث؟

إن ذلك لا يتم إلا بعد استئذان الرجلين توفيق دوس وحافظ عفيفي.

وإنما يحتاج ذلك إلى استئذان؛ لأنه ليس من اليسير أن أسجل في مثل هذا الكتاب أن حافظ باشا عفيفي غضب غضبة تشهد بأنه نشأ في الريف بين قوم تأبى عليهم الفتوَّة أن يترفقوا حين يغضبون.

وقد وقع دوس باشا في حرج؛ فلا هو يستطيع أن يجادل، ولا هو يستطيع أن ينسحب، وكاد الطعام يقف في الحلوق.

ونظرتُ إلى طلعت باشا أدعوه إلى وقف القتال بين الرجلين العظيمين.

فهل استطاع طلعت باشا أن يحسم النزاع؟

وكيف وقد انفجر حافظ عفيفي كما ينفجر الفلاح الشريف حين يغضب، وللفلاحين الشرفاء غضبات.

وانتهت المائدة بما يشبه السلام، ومضى توفيق دوس إلى جانب، وحافظ عفيفي إلى جانب، وعدت إلى نفسي أتأمل ما بين رجالنا من فروق في تصور ما في الحياة من جِدّ ومزاح.

أشهد أن ذلك الموقف أطلعني على جوانب من الرجولة المصرية؛ فقد كنت أظن أن الرجال الذين وصلوا إلى أعلى المناصب في الدولة قد صقلتهم الأيام وأبعدتهم عن مواطن القسوة والعنف، فلما رأيت ما وقع بين توفيق دوس وحافظ عفيفي عرفت أن الفطرة المصرية لا تزال بحمد الله سليمة، وأن الرجل المصري لا يزال صالحًا للتأثر بعوامل الرضا والغضب، والحمد والملام.

فمن يبلغ نسيم باشا أني استحضرت روحه في الباخرة لا في مجلة الصباح؟

من يبلغ نسيم باشا أن العدوان عليه لم يمضِ بلا عقاب؟

قلت: إن توفيق باشا دوس وقع في حرج، فلأذكر أنه احترم غضبة زميله كل الاحترام؛ لأنه أحس أنه يفصح عن قلب عامر بالوجدان.

أولئك رجال، والرجال لا تؤذيهم الصراحة، ولا يكربهم المنطق، وهم لا يتصافون إلا صادقين، ولا يتعادون إلا صادقين.

وحين اقتربنا من بيروت مضيت إلى مكتب الباخرة لأدفع حسابي، فعرفت أن أحد الباشوات دفع الحساب عن جميع المصريين، فمن ذلك الباشا الذي دفع عنا؟

ليتني أعرف من هو لأسأل الله أن يدفع عنه جميع المكاره ويسبغ عليه ثوب العافية!

•••

كان في منهج الرحلة أن أمتطي سيارة من بيروت إلى دمشق لأستريح هناك ليلة ثم أسافر إلى بغداد، ولكني فوجئت بخبر مزعج هو إضراب أصحاب السيارات، وإنما كان هذا الخبر مزعجًا؛ لأنه يوجب أن أسافر بالقطار وهو يقطع في اثنتي عشرة ساعة ما تقطعه السيارة في ساعتين اثنتين! وذلك شاهد جديد على عنف المنافسة بين السيارات والقطارات.

وما كدت أدخل دمشق حتى عرفت أنه يجب أن أسافر إلى بغداد في الحال؛ لأن السيارة تنتظر قدومي: فقد حضر المسافرون ولم يتخلف أحد سواي، ومعنى ذلك أن أقضي ليلتين متواليتين في سفر بدون أن أستريح. والله المستعان على متاعب الصحراء!

•••

وشرع الخاطر يستعيد ما مر في الرحلة من الطيبات، فتذكرت العروسين اللذين رأيتهما في الباخرة، وتذكرت اللحظات التي قضيتها في بيروت، وتذكرت الحبيبين اللذين قضيا الليل متعانقين في القطار، وأنا أشهد صراع العواطف وصيال القلوب.

ولكن ذلك كله لم يؤنس روحي.

وتلفتُّ فجأة فرأيتني أقاتل الدكتور طه حسين وهو يحاول الخلاص فلا يطيق.

ولكن كيف قاتلت الدكتور طه حسين وأنا في الطريق إلى بغداد؟

كان هذا الباحث الكبير ألقى محاضرة في الإذاعة المصرية منذ أشهر عن الصور التي انتقلت من الشعر الجاهلي إلى الشعر الإسلامي، وهي محاضرة قامت على غير أساس، ولكنها مع ذلك ظفرت بالقبول من المستمعين؛ لأن لأحاديث هذا الرجل بريقًا يصور الخطأ بصورة الصواب.

قال الدكتور طه ما معناه: «كان الشاعر الجاهلي يصف رحلته إلى ممدوحه فيصورها شاقة متعبة، فجاء الشاعر الإسلامي ونقل عنه هذا الوصف، مع أن السفر صار في العصر الإسلامي سهلًا لينًا».

ذلك كلام قاله الدكتور طه حسين، وسمعه الملايين من الناس.

فهل يستطيع هذا الباحث الكبير أن يثبت كيف سهلت الأسفار في عصر بني أمية أو عصر بني العباس؟

هل يستطيع أن يثبت أن الخلفاء شَقُّوا طريقًا واحدًا بين بغداد والبصرة، أو بين الكوفة والموصل، أو بين دمشق وبغداد؟

لقد عانيت العذاب وأنا أقطع بالسيارة ما بين النجف وكربلاء، على قرب ما بين هاتين المدينتين.

ولو قضى الدكتور طه خمسًا وعشرين ساعة وهو محبوس في السيارة بين دمشق وبغداد لعرف أن الشكوى من عذاب السفر شكوى طبيعية لا ينقلها الشعر الإسلامي عن الشعر الجاهلي إلا إذا أراد الباحث أن يسلك مسلك الدكتور طه في الهيام بأودية الفروض!

ثم وقع حادث صرفني عن مشاغبة الدكتور طه حسين؛ فقد رأينا سربًا من الظباء الوحشية يعدو عدوًا سريعًا، ولم يكن لذلك السرب بدٌّ من اعتراض السيارة، والظباء لا تخلو من حمق، فصوَّب فخري بك البارودي مسدسه وأطلق على السرب رصاصتين فضاعتا في الهواء ونجت الظباء.

أيها القانص ما أحسنت صيد الظَّبْياتِ
فاتَكَ السّرب وما زوِّدت غير الحسراتِ

وسألت عن السبب في حرص ذلك السِّرب على اعتراض طريق السيارة فقال أحد الخبراء: إن الغزلان لا تنحرف عن الطريق الذي رسمته لنفسها حين تعدو، ولو لقيت الحتف!

فيا أيها الظباء، إياكم والعناد!

•••

كانت الرحلة متعبةً جدًّا، ولم يخففها إلا الشعور بشرف الغرض، وهو مواساة العراق.

فكيف لقيت بغداد؟

وكيف كانت حفلة التأبين؟

وكيف جال الخطباء والشعراء؟

٢

وصلنا إلى الرمادي مع طلوع الفجر، والوصول إلى الرمادي هو بشير القرب من بغداد، إلا في هذا الموسم: موسم طغيان الفرات.

ولم نكد ندخل الرمادي حتى رأينا في استقبالنا جماعة من كرام الموظفين هناك، وتلطف مدير الشرطة في تلك المنطقة فأوفد في صحبتنا شُرطيًّا يجتاز بنا طريقًا يوفر من الوقت نحو ساعتين، وبعد أن كافحت السيارة ما كافحت في الطواف حول مياه الحبّانية وصلنا إلى الفَلُّوجة ونحن من التعب أنضاء.

والفلوجة قرية على شاطئ الفرات بينها وبين بغداد مسير ساعة بالسيارة، وهي اليوم مقر الشاعر معروف الرصافي، وإليها حججت في العام الماضي لأؤدي إليه تحية الأديب للأديب.

وكانت رؤية الفلوجة إيذانًا صريحًا برؤية بغداد، ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان: فقد أرادت بغداد أن تفهمنا بلغة صريحة أنْ لا بد من الشعور بقوة الجيش لمن يواجه «دار السلام».

خطت السيارةُ خطوات، ثم وقفت؛ لأن هناك فارسًا يشير إليها بالوقوف.

وجاء الفارس فأفهمنا أن الجيش في مناورة قد تدوم نحو ساعتين، وأن السير نحو بغداد قد يعرِّضنا لخطر الرصاص.

وعندئذ أشار أحد الرفاق بالرجوع إلى الفلوجة، ولكني كنت أعرف ما يريد ذلك الرفيق، فعارضت في الرجوع، وهل كان يريد إلا الظفر بأنس ساعة أو ساعتين في ضيافة السيد إبراهيم صالح شكر متصرف الفلوجة؟!

وفي تلك الغمرة من ضجر الانتظار في أعقاب ذلك السفر الشاق تلفتُّ فرأيت ذهني يعالج مشكلة لغوية؛ فقد نطق الفارس كلمة «مناورة» بفتح الميم لا بضمها، كما ينطق المصريون، فقلت: ألا يمكن أن تكون كلمة مناورة تعريبًا للكلمة الفرنسية Manoeuvre، وكان التفكير في هذه المشكلة اللغوية كافيًا لنجاتي من متاعب ذلك الانتظار الثقيل.

قد يكون ما افترضتُه صحيحًا، إلا أن يتقدم أحد أعضاء المجمع اللغوي فيثبت أن كلمة مناورة كانت معروفة في التعابير العسكرية العربية، كما استطعت أنا أن أثبت أن علماء البلاغة ظلوا مئات السنين يهرفون بما لا يعرفون في انتقاد قول المتنبي:

فإن يكُ بعض الناس سيفًا لدولةٍ
ففي الناس بوقاتٌ لها وطبولُ

فقد زعموا أن المتنبي أخطأ حين جمع بوقًا على بوقات، وكانوا هم المخطئين؛ لأن بوقات ليست جمع بوق، وإنما هي جمع بوقة، وهي لفظة اصطلاحية في الأنظمة العسكرية العربية، ولها شواهد تعد بالمئات لمن يراجع كتب التاريخ.

•••

ثم تلطف أحد الفرسان الذين يرقبون المناورات فاختار لنا طريقًا ندخل به بغداد في أمان.

الله أكبر ولله الحمد!

هذه بغداد، وهذا قيظ بغداد، وهو على روحي رَوْح وريحان.

وأولئك إخواني يلقونني بالابتسام والعناق.

ولكن هل خَفَق قلبي لرؤية بغداد؟

وكيف وقد شعرت أني ما فارقتها من قبل؟ وكذلك لم أتمثل بقول الشريف:

فيلقى بها بغداد كل مكبِّرٍ
إذا ما رأى جدرانها وقبابها

مع أني كنت أتمثل بهذا البيت حين أَفِد إليها من البصرة، أو من الموصل، أو من كربلاء.

وهل فارقت بغداد حتى أشعر بنعمة الرجوع إلى مرابع بغداد؟

إن بغداد لم تفارقني ولم أفارقها منذ تلاقينا أول مرة في موسم التمر سنة ١٩٣٧، ومن المؤكد أني لن أفارق هذا البلد أبدًا، ولن أنساه، ولن أُفرِّط في حبه، ولن أترك فؤاده خاليًا من هواي، ليحتله عاشق سواي.

وأحملُ في ليلى لقومٍ ضغينةً
وتُحمَل في ليلي عليَّ الضغائنُ

•••

نزلت في فندق مود مع وفد مصر، وأسرعت فأصلحت من شأني لأستعد للتحيات والتسليمات، وفتحت النافذة لأمتع بصري برؤية السائرين في شارع الرشيد، ثم أقبل الخادم يقول: الجارم بك يسأل عنك.

الجارم يسأل عني؟

هذا والله غاية العجب!

ونزلت فرأيت سعادة حمد باشا الباسل ففرح بلقائي فرحًا شديدًا، وسألت عن الجارم فعرفت أنه ذهب لزيارة الأستاذ طه الراوي.

وبعد لحظات جاء الجارم، وما كان ينتظر أن يراني هذه المرة في بغداد، فسلم تسليم الشوق، ونطقتْ معارف وجهه بالابتهاج والارتياح، وتناسى ما كتبتُ عنه في كتاب «ليلى المريضة في العراق».

•••

فمن هو الجارم الشاعر؟

أعترف بأني ألاقي عنتًا في الحديث عن هذا الرجل؛ لأن بيننا تِرات تثورُ عقابيلُها من حين إلى حين.

ولكن لا بد من تسجيل رأيي في الشاعرية التي تفجرت في صدر هذا الرجل منذ أعوام.

في صيف سنة ١٩٣٢ مات الشاعران حافظ وشوقي فكتبت في البلاغ مقالًا أقول فيه ما معناه: «لقد استبد حافظ وشوقي بالشعر وأخملا مئات من الشعراء، فهل يكون موت هذين الشاعرين فرصة لظهور المواهب التي أخملها ذلك الاستبداد؟»

ولقيني الجارم بعد ظهور تلك الكلمة فقال: الحق معك يا دكتور زكي، هذه فرصة تظهر فيها يا حضرة الأخ، ومن الواجب أن نحفظ راية الشعر لهذه البلاد.

غير أن الجارم لم يستفد من موت حافظ وشوقي ولم يوفق إلى شيء طريف.

ثم شاءت المقادير أن يصير شاعرًا كبيرًا تُنصب لشعره الموازين: فقد مات ابنه الأكبر، وكان من النوابغ بين طلبة كلية الهندسة، وبموت ذلك الابن النابغة خُلق الجارم خلقًا جديدًا، فهو اليوم أكبر شعرائنا في نظم قصائد الرثاء.

فإن رأيتم الجارم يلبس شارة السواد في جميع الأوقات فاعلموا أنه حزين حزنًا أبديًّا، ثم تذكروا أن هذا الحزن هو الذي خلق منه ذلك الشاعر الذي تعرفون.

أحسن الله عزاءك أيها الشاعر، وكتب العافية لقلبك الجريح!

كنا مشغولين بالتفكير في رثاء الملك غازي، ولكن حمد باشا كان له شاغل آخر، شاغل مزعج: هو الخوف من أن لا يوفق إلى الصلح بين القبيلتين المتعاديتين قبيلة شمَّر وقبيلة العبيد.

ومضينا لتناول الغداء عند فخامة رئيس الوزراء فلم يُخفِ حمد باشا جزعه على مصير قضية الصلح، فابتسم رئيس الوزراء وقال: ولكن ما مصدر هذا التخوف؟ فقال حمد باشا: أنا في بغداد منذ يومين ولم يحضر أحد من المتخاصمين للتسليم عليَّ. فقال رئيس الوزراء: إن المتخاصمين يقيمون في بغداد في مكانين متباعدين، والحكومة تسهر عليهم لئلا تتجدد أسباب القتال.

وقد تأذيت حين سمعت هذه الكلمة: فمنها عرفت أن مهمة حمد باشا ليست هينة، ودعوت الله أن يجزيه على حسن نيته فيجمع ما تنافر من تلك القلوب.

وما هي إلا لحظة حتى استطاع الجارم أن يغير مجرى الحديث.

ولكن كيف؟

أخذ يسأل عن أخبار ليلى ويثير الخصومة بيني وبين فخامة نوري باشا السعيد بحجة أني أسندت إليه وقائع في كتاب ليلى المريضة في العراق، وهي وقائع تحتاج إلى تحقيق!

•••

ورجعت إلى الفندق لأستريح، فقد كنت قضيت أيامًا في أسر غبار الطريق، وما كدت أداعب الأحلام حتى سمعت صوت الخادم: دكتور، دكتور، تليفون من كربلاء!

وأسرعت إلى التليفون فرأيتني أواجه الكاتب الذي شغل نفسه بحديث الليل في القاهرة والقاهرة في الليل، وهو السيد عبود شلاش.

ورجعت فرأيت جماعة من الإخوان في انتظاري فلم أستطع الانصراف عن إمتاع النفس بحديثهم الجميل.

وفي المساء شرعت أستعد لإكمال خطبتي في رثاء الملك غازي، ولكن الأستاذ المازني كان حضر بالطيارة، ولم يكن بدٌّ من الأنس بسؤاله عن أندية القاهرة وعن شارع فؤاد.

وجاءت سيارة الأستاذ طه الراوي تنقلنا إلى داره العامرة، فقضينا هنالك صدر الليل.

متى أكمل خطبتي؟

أكملها بعد أن أسال عن جيراني في المنزل الذي كنت أقيم فيه بشارع الرشيد.

يا له من منزل، ويا لهم من جيران!

اهتديت بنور القلب إلى الشقة رقم … بالرغم من سواد الظلام.

ولكن نحن في نصف الليل، فهل من الذوق أن أطرق باب الجيران القدماء في نصف الليل؟

ليتني فعلت، فما كان بيني وبين أولئك الجيران حجاب!

ومضيت فطوفت بشارع العباس بن الأحنف وشارع صريع الغواني لأتنسم أرواح ليلى وظمياء.

وهل كان يمكن أن أبيت في بغداد ولا أطوف بدار ليلى ودار ظمياء؟

•••

أين خُطبتي؟ أين؟ أين؟

لقد كتبت منها صفحات في ليلة السفر، ولم تعجبني، فما الذي أصنع؟

أترك ذلك إلى الصباح، فللنهار عيون، كما يعبر أهل سِنْتريس.

•••

ما هذا؟ وما الذي جد من الشؤون بعد أن فارقت بغداد؟

أولئك تلاميذ يسيرون في الطرقات في ملابس جديدة وفقًا لنظام جديد يُسمى نظام الفتوة، فما هو ذلك النظام؟ وما قيمته في حياة التعليم؟

هل جئت للاشتراك في تأبين الملك غازي؟ أم جئت لتسجيل ما جد من الأنظمة في وزارة المعارف؟

إن حفلة التأبين سيشترك فيها خمسة من المصريين، فليكن من واجبي أن أقضي هذا اليوم في عمل آخر هو فهم هذا النظام الذي ابتكرته وزارة المعارف العراقية، وهل أعددت خطبتي حتى أطلب مكاني بين الخطباء في حفلة التأبين؟

•••

إلى وزارة المعارف

فقد أستفيد شيئًا أنتفع به في الأيام المقبلات.

٣

في صباح يوم الأحد، وهو اليوم الخاص بتأبين الملك غازي، شغلت نفسي بمسألتين: الأولى إعداد خطبتي، وكانت الحفاوة بالمازني شغلتني عنها ليلة أمس، بغض النظر عن اللحظات التي قضيتها في التعرف إلى معالم الهوى في بغداد.

والمسألة الثانية هي زيارة وزارة المعارف للتسليم على إخواني هناك، ولمعرفة بعض التفاصيل عن نظام الفتوة الذي فرضته تلك الوزارة على التلاميذ.

أما الخطبة فيظهر أني لن أكملها أبدًا؛ لأن إكمالها يوجب أن أخلو إلى قلمي بضع لحظات، وذلك في حكم المستحيل؛ لأن من عادة أهل بغداد أن يسلموا على ضيوفهم ويؤنسوهم بالزيارات، وفي هذا ما يشغلني عن الخلوة إلى قلمي.

وبقليل من التأمل عرفت أنه لا موجب لأن أهتم بإلقاء خطبة في الحفلة التي ستقام بعد العصر في أمانة العاصمة؛ لأني آخر من حضر من مصر، ولأن منهج الحفلة طُبع قبل أن أحضر، وليس من العقل أن أطالب بمكاني في ذلك الاحتفال وأنا أعرف أني تأخرت في الحضور، وأعرف أن خطبتي لم تُكتب بأسلوب يرضيني.

وما الغرض من الاشتراك في حفلة التأبين؟

الغرض هو إظهار العطف في مواساة العراق، وهذا العطف سيظهره خمسة من رجال مصر لهم في الشعر والخطابة مكان مرموق.

فإن لم يكن بدٌّ من أن أتكلم فهناك مجال آخر هو الإذاعة اللاسلكية، وتلك فرصة باقية سأنتفع بها حين أريد.

•••

بقيت المسألة الثانية وهي زيارة وزارة المعارف لدرس نظام الفتوة، ولكن كيف أستطيع ذلك، وأنا مسئول عن مصاحبة الوفود العربية لزيارة الضريح الذي دُفن فيه الملكان فيصل وغازي؟

إن هذه الزيارة لها قيمة معنوية، وفيها يلتقي الوفود بعضهم مع بعض، وسنذهب لزيارة الوزارات بعد أن نقيد أسماءنا في سِجِلَّات البلاط.

وفي حومة التفكير في هذه الشؤون قدم لتحيتي صديق عزيز فقال والدموع في عينيه: شكر الله سعيك يا دكتور، فبغداد تستحق منك المواساة، لقد كانت بغداد في زينة العروس أيام آذار، ففيه احتفلنا بميلاد الملك غازي الأول، وفيه احتفلنا باستعراض الجيش، وفيه احتفلنا بفتح سَدَّة الكوت، ولم نكن ندري أن المقادير ستفرض على بغداد أن تلبس بعد ثوب العرس ثوب الحداد.

وعزَّ عليَّ أن أسمع هذه التفاصيل المبكيات، ثم تعزيت حين تذكرت أن الحزن والفرح لونان أساسيان من ألوان الوجود.

•••

يقع ذلك الضريح في الأعظمية، والأعظمية محلة عزيزة غالية، فيها مراتع للظباء، ومرابض للأسود، وهي صلة الوصل بين الكاظمية وبغداد.

والأعظمية منسوبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وهو في رأيي أعظم الفقهاء؛ لأنه درس الحياة قبل أن يدرس التشريع.

والطريق بين بغداد والأعظمية يشبه الطريق بين مصر الجديدة والعباسية، ولا يعوزه إلا الترام الأبيض ليكون نزهة الأبصار في الضحى والأصيل.

مضيت إلى الضريح وأنا حزين، وكم كنت أود أن أرى الأعظمية في غير أيام الأحزان، فما خُلِقَتْ تلك المحلة إلا لتكون بهجة الأرواح والقلوب.

ما أنتِ والحزن، أيتها الأعظمية؟

إن الضريح في أديمك الغالي هو الخال في صفحة الخد الأسيل.

ما أنتِ والحزن، أيتها الأعظمية، وقد خُلقْتِ من الأنوار، وخُلق الحزن من الظلمات؟

أمثلي يسير فوق ثراك وهو محزون، بعد أن ذاق في حماك أفاويق النضرة والنعيم؟

لغير قلبك الخفاق يكون الشقاء، أيتها الأعظمية!

ولغير لياليك البيض يكون السواد، أيتها الأعظمية!

والعيش كله فداءٌ للحظة من نعيم الحب في مغناك الأمين أيتها الأعظمية!

حماك الله يا دار الهوى، من اللواعج والشجون!

حماك الله، يا دار أحبابي وأصدقائي، من كل ضيم، وردَّني بخير وعافية إلى لياليك المقمرات، فما كنتِ إلا بدرًا بدَّد الظلماتِ من غمرات قلبي!

دخلنا فزرنا الضريح، ضريح الملكين فيصل وغازي، وآذانا أن نتذكر أن العراق فقد ملكين في مدة تشبه أعمار الورود، وزاد الحزن حين تذكرنا أن العراق كان يتشوف إلى ثبات الاستقرار في عهده الجديد، ثم تعزينا حين عرفنا أن العراق أقوى وأعظم من أن تعصف به عواصف الجزع والقنوط.

وحين دخلنا البلاط خلعنا عن قلوبنا أردية الاكتئاب، وأحسسنا أرواح البهجة تحيط بنا من كل جانب، ورجونا أن تدوم الهيبة لذلك العرين.

وفي البلاط أخذ أبناء العروبة يتعرف بعضهم إلى بعض، وكان المصريون بحمد الله أظهر الرجال في ذلك اليوم المشهود.

وتقدم أحد شعراء لبنان فقال: حيث حلَّت مصر حلت البَرَكات والطيبات.

فقلت: لأن مصر تشعر أن لها سنادًا من القلوب العربية، والسناد الأقوى هو سناد القلوب.

•••

ثم توجهنا إلى رياسة مجلس الوزراء فقضينا لحظات في ضيافة حضرة صاحب الفخامة نوري باشا السعيد، ومضينا بعد ذلك إلى وزارة الخارجية، ثم عرجنا على أمانة العاصمة فابتسم أحد العراقيين وقال: هذا معالي السيد أرشد العُمَري أبو السدارة! فصافحني معالي الأمين وهو يقول: نريد نعمل لنا فرد حكاية جديدة!

فقلت: ليت أيامي وأيامك تعود، يا معالي الأمين!

وكان ذلك إشارة طريفة إلى الحوادث التي سجلتها في كتاب «ليلى المريضة في العراق».

•••

ومضيت إلى وزارة المعارف فوجدت الوزير في لجنة علمية، فاتجهت إلى السيد محمد حسين الشبيبي أسلِّم عليه، واستأذنت بعد لحظات لأرى تلاميذي بدار المعلمين العالية فصاح: يا فرحتاه! يا فرحتاه!!

إي والله، يا فرحتاه، يا فرحتاه!!

كيف شاءت المقادير أن أرى تلاميذي بدار المعلمين العالية وقد ودعتهم بالدمع السخين منذ أحد عشر شهرًا؟

وهل اتفق لأحد من الأساتذة أن يحب تلاميذه كما أحببت تلاميذي في بغداد؟

لقد توجع تلاميذي لفراقي توجعًا لم يعرفه أبرار الأبناء لفراق الآباء الأعزاء، فكيف أنسى تلاميذي في بغداد؟

كيف أنسى تلاميذي هناك وما كانوا إلا صورًا لطيفة لتلاميذي الأوفياء بالجامعة المصرية؟

كيف أنسى تلاميذي في العراق وبهم عرفتُ كيف يقوى القلب ويسمو الروح؟

كيف أنسى الأبناء النجباء الذين أحاطوني بأكرم معاني الرعاية والعطف؟

كيف أنساهم وبفضلهم استطعت أن أضع أحجارًا متينة في بناء الحياة الأدبية في العراق؟

كيف أنسى تلاميذي بدار المعلمين العالية وقد أوقدتُ في صدورهم جذوة لن تخمُد ولن تَبيد؟

كيف أنسى تلاميذي في العراق؟

كيف؟ كيف؟

إن أيامي في العراق هي الغرة الواضحة في حياتي الأدبية، فليحفظ الله تلاميذي في العراق، وليجعلهم ذخيرة الأدب وشرف الجيل الحديث!

•••

– ألو، ألو.

– من يتكلم؟

– الدكتور عقراوي؟

– ييس، مَن يتكلم؟

– طبيب ليلى يتكلم!

– الدكتور مبارك؟ أين أنت لأحضر إليك؟

– أنا الذي سأحضر إليك!

– بل أنا الذي أحضر إليك.

– أنت لا تهمني بالدرجة الأولى، يا دكتور.

– ومَن الذي يهمك؟

– يهمني تلاميذي، فاحجزهم حتى أحضر إليك.

وفي دقائق أو ثوانٍ كنت في دار المعلمين العالية.

هل أستطيع أن أشرح كيف فرحت حين رأيت الدكتور عقراوي بصحة وعافية؟

لقد كدت أطير من الفرح حين اطمأننت على صحة ذلك الزميل العزيز.

ومضينا فدخلنا الصفوف بدون استئذان.

فيا ربّ كيف تلطفتَ فقضيتَ أن أرى تلاميذي في العراق مرةً ثانيةً؟

لقد وثبتْ قلوبهم وثبة عنيفة حين رأوني.

أما أنا فقد عقل الفرح قلبي، وبلبلَ لساني، والفرحُ الشديد أكثر سيطرةً على القلب من الحزن العنيف.

– تلاميذي الأعزاء، كيف أنتم؟

– وكيف أنت، أيها الأستاذ الغالي؟

وجرت ألفاظ وتعابير لا يدرك مغازيها غير أصفياء القلوب.

•••

وانطلقت مع الدكتور عقراوي أدرس ما جَدَّ من البنايات الملحقة بدار المعلمين العالية، وسرَّني أن أعرف أن تلك الدار لن تُهزم بعد اليوم.

إن دار المعلمين العالية هي رجاء العراق في عهده الجديد؛ لأنها تُعِدُ الأساتذة للمدارس الثانوية، وإعداد المعلم المثقف هو الحجر الأول في بناء الشعوب.

•••

ثم رجعت إلى الفندق فرأيت حمد باشا لا يزال في قلق على مصير قضية الصلح بين القبيلتين المتعاديتين، وعرفت أنه سيشير إلى ذلك في الخطبة التي سيلقيها في حفلة التأبين، فقلت: يسمح الباشا باطلاعي على نص الخطبة؟

فقال: فيه شيء؟

فقلت: أحب أن أعرف على أية صورة تشير إلى هذه القضية في خطبتك؟

فأمر خادمه بإحضار الخطبة بدون تردد وهو يقول: أنتم أبناؤنا، والاستئناسُ بآرائكم ينفع كل النفع.

ونظرت في الخطبة فرأيتها غاية في الدقة حتى ليحسب القارئ أن ألفاظها وُضِعت في الميزان.

وعند العصر مضينا إلى بهو أمانة العاصمة لنحضر حفلة التأبين، فهل أجاد الخطباء والشعراء؟ سنعرف ذلك في المقال المقبل إن وجدنا من الشجاعة ما نقول به كلمة الحق.

٤

حفلة عربية

نحن في بَهْوِ أمانة العاصمة في «عصر الأحد» كما عبر منهاج الاحتفال، وكنت أحب أن يقال: «عصرية الأحد» فإن كلمة «عصرية» كلمة جميلة، وهي كذلك كلمة حية في الريف المصري، وهي تماثل التعبير الفرنسي Après-Midi فأرجو أن يَذِيع استعمالها بعد اليوم.
وبهو أمانة العاصمة بناية كبيرة منقولة في أصل الوضع عما يسميه الفرنسيون Hotel de ville، وترجمتها «دار المدينة» أو «دار المحافظة» بالتعبير المصري يوم يكون لمحافظة القاهرة دار تتسع لإقامة الحفلات كما يتسع بهو أمانة العاصمة في بغداد.

والظاهر أن «بهو الأمانة» يختلف في المدلول عما كان يسميه العرب قديمًا «دار الإمارة»؛ فدار الإمارة هي الدار التي كان يجلس فيها الخليفة أو نائبه لاستقبال الوفود.

أما اﻟ Hotel de ville الذي كان يعرفه العرب فهو المسجد الجامع، فإلى المسجد الجامع كان يتوجه الخليفة أو نائبه لإبلاغ الجماهير ما يهمهم من عظيم الشؤون، وفي المسجد الجامع كانت تذاع أخبار الحرب والسلم، ويُعْرَض على الناس ما جَدَّ في العالم السياسي من مشكلات، وخطبةُ الحَجَّاج في مسجد الكوفة هي من الشواهد التي تؤيد ما نقول.

وأذكر بهذه المناسبة أني شهدت في العام الماضي أعمال التنقيب على جدران دار الإمارة بجانب مسجد الكوفة، ويوم تظهر مساحة تلك الدار سنعرف بعض الشيء عما كانت تصلح له في ذلك الزمان.

تقاليد بهو الأمانة

ولبهو الأمانة في بغداد تقاليد جديدة نقلها معالي السيد أرشد العمري عن نظام الأوتيل دي ڤيل في الممالك الأوربية، عرفتُ ذلك يوم اقترحتُ على معاليه أن يسمح بأن ألقي محاضراتي الأدبية في ذلك البهو لأصل إلى أسماع السواد الأعظم في بغداد.

حدثني معاليه قال: لم أجد بهو الأمانة في أوربا يُستعمل لغير السهرات الراقصة وحفلات القبول.

فقلت: أيباح الرقص في البهو ولا يباح الدرس؟

فأجاب: نعم، هو ذا؛ لأن للدرس أماكن تغني عن هذا المكان.

وأنا أرجو معاليه أن يعدل هذا التقليد بعض التعديل، فقد لاحظتُ أن النقل عن أوربا لا يصلح في جميع الأشياء، وأكاد أجزم بأن بغداد معرَّضة لخطر عظيم بسبب إقبالها على أنظمة المباني الأوربية: فبغداد في هذه الأيام تقيم المنازل الجديدة على طريقة البناء بالأسمنت المسلح، والبناء بالأسمنت المسلح لا يصلح أبدًا في العراق، وستكون له نتائج سيئة في تهديم الأعصاب.

•••

وإذا جاز لمصر أن تؤْثر البناء بالأسمنت المسلح فإن ذلك لا يجوز للعراق؛ لأن مصر قد ازدحمت بالسكان ازدحامًا أوجب غلاء الأرض، ولا كذلك العراق ففيه مساحات واسعة تمنع ذلك الغلاء، ولأن جو مصر أكثر اعتدالًا من جو العراق.

والمأمول أن تصل هذه الرغبة إلى آذان أهل بغداد، ولعلني لا أسرف إذا رجوت معالي السيد أرشد العمري أن يراعي ذلك في إرشاد أهل بغداد إلى متابعة النظام المألوف في الأبنية القديمة، ذلك النظام الذي كان يفرض عرض الجدران لتقي الناس برد الشتاء وحر الصيف.

بداية الاحتفال

ونظرت فرأيت الحفلة تأخرت دقائق عن موعدها، ثم حضر صاحب السمو الأمير عبد الإله؛ فعرفت أنهم كانوا ينتظرون ذلك التشريف.

بدئت الحفلة بآيات من الذكر الحكيم، ثم تقدم صاحب الفخامة رئيس الوزراء فألقى خطبته وهو جالس، ولم تكن خطبة وإنما كانت ضربًا من المحاضرة قامت على أساس القول بأن حالة العرب في العصر الحديث تشبه حالتهم في المدة التي سبقت ظهور الإسلام …

والخطبة تجعل الرسول بطلًا عربيًّا، ولعل فخامة نوري باشا يحدد هذا المعنى في خطبة ثانية، فالرسول كانت مطامحه أوسع وأعم وأشمل، ولم يكن يَقْصِر مساعيه على العرب وحدهم، وإنما كان يريد أن يقوم العالم كله على نظام العدل والتوحيد.

فالقول بأن الرسول بطل عربي هو قول خلقته الظروف التي أوجبت أن يتخلص العرب من سلطان الأتراك، ويوم تزول الظروف التي قضت بأن يبغي بعض المسلمين على بعض سنعرف أن للعروبة غاية باقية هي الدعوة إلى أن يسود العدل والتوحيد في الشرق والغرب.

فمتى يأتي ذلك اليوم؟ ومتى تعود السيطرة الروحية للغة العربية؟

لقد كان العرب إنجليز زمانهم، وكانوا يرون الحنين إلى الوطن ضربًا من الضعف، فمتى يستعدُّون للتخلق بأخلاق الرسول الذي دعاهم إلى اغتنام المنافع المعنوية والمادية بالمشرقين والمغربين؟

متى؟ متى؟ إن ذلك ليس بالمستحيل إذا صحت العزائم وصدقت القلوب.

جو الحفلة

أرادت لجنة التأبين أن تصطبغ الحفلة بصبغة القومية العربية، فلم يتكلم فيها من أهل العراق غير اثنين، وتكلم واحد من شرق الأردن، وثلاثة من سورية، واثنان من لبنان، واثنان من فلسطين، وتكلم خمسة من مصر، منهم معالي الدكتور هيكل باشا، وقد ألقى خطبته الأستاذ محمد بهجت الأثري.

وقد ظفرت أكثر الخطب والقصائد بالقبول، ولم يضجر الجمهور إلا من رجلين اثنين: الشيخ إبراهيم الجبالي، والشيخ محمد اليعقوبي.

فهل أستطيع أن أقول كلمة الحق في الضجر من هذين الرجلين؟

نحن في مصر تعودنا الجهر بكلمة الحق، وعلى الأخص حين تُوجَّه إلى رجل يصلح للحكم على نفسه مثل فضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي، فما الذي يمنع من التصريح بأنه لم يُوفق في الخطبة التي ألقاها في بغداد؟

الشيخ إبراهيم الجبالي رجل معروف بالعلم والأدب والفضل، وتفسيرُه لسورة النور يشهد بأنه قد استنار بأساليب البحث الحديث، وهو في الواقع من أكابر العلماء في الأزهر الشريف، ولكن خطبته في بغداد ألقت بجمهور المستمعين في هاوية من السآمة والملال.

فمن أين وصل الخطأ إلى هذا الرجل الحصيف؟

هل كان يعجز الشيخ الجبالي عن إعداد خطبة تُناسب المقام؟

هل كان يعجز عن أسر من يستمعون إليه في بغداد؟

أظن أن الخطأ وصل إلى هذا الرجل من توهمه أنه يمثل الأزهر، واعتقاده أن الأزهر لا يطلب منه غير إلقاء العظات.

وكذلك وقف الشيخ الجبالي موقف الواعظ في مقام لا يصلح للوعظ والإرشاد!

قد يقال: إن مقام الرثاء يتسع للوعظ.

وهذا حق، ولكن تلك الخطبة لم تكن من الوعظ المقبول.

وما أحب أن أدخل في التفاصيل؛ فهو يعرف والذين سمعوه يعرفون.

بقي موقف الشيخ محمد اليعقوبي، وكانت قصيدته جيدة، ولكنه ظلم نفسه؛ فقد توهم أن الناس سئموا طول الاحتفال، فأسرع في إلقاء قصيدته إسراعًا أضاع بهجة القصيدة؛ فحسبها الناس من الشعر الضعيف، وهي من الشعر القوي الرصين.

أما الذين ملكوا ألباب الناس في ذلك اليوم فهم ثلاثة: أولهم علي الجارم، وثانيهم بدوي الجبل، وثالثهم شبلي ملاط، وذلك لا يمنع من الاعتراف بالإعجاب الذي ظفرت به قصيدة الأستاذ محمد الشريقي، وقصيدة فؤاد باشا الخطيب.

وقد كثرت أقاويل الناس في بغداد حول مراكز الخطباء والشعراء، ولكنهم اتفقوا على أن الجارم هو أول شاعر ماجت لشعره القلوب في ذلك اليوم، حتى صح للأستاذ طه الراوي أن يقول: إن الجارم خليق بكلمة ابن رشيق حين قال: «ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس».

وما أقول: إن الجارم أكبر الشعراء في هذا الزمان، ولكن لا جدال في أنه صَنَّاجة العرب في هذه الأيام، فهو ينشد الشعر إنشادًا يفيض بالعذوبة والرنين، ولو سجل الحاكي بعض أناشيده لكانت نماذج من التطريب الجميل.

مذهب «تيسير النحو»

كانت وزارة المعارف المصرية ألفت لجنة في العام الماضي لتيسير النحو، وكانت لتلك اللجنة آراء لا تخلو من تكلف وافتعال.

وفي حفلة التأبين ألقى الأستاذ شبلي ملاط قصيدته وفيها هذا البيت:

وكأنها في صبرها وجهادها
ابن الوليد وطارق بن زيادا

ومنعُ «زياد» من الصرف مع إثبات ألف الإطلاق ضرورة قبيحة جدًّا، وقد اعترض عليها شاعرنا الجارم، فقلت: هذه الضرورة تجري على مذهب تيسير النحو! فصاح: يا لذَّاع، يا لذَّاع، كيف السلامة من شرِّك وعُدوانك؟!

فلسطين فلسطين

وقد تعرض كثير من الخطباء لمحنة فلسطين، وكان الظن أن يكون هذا خروجًا على الموضوع، ولكن ظهر من حماسة المستمعين أن الكلام عن فلسطين له مكان في هذا المقام، ومعنى ذلك أن محنة فلسطين أصبحت محنة قومية يرى العرب من واجبهم أن يشيروا إليها في كل مجال، وبلغت حماسة المستمعين لهذه القضية أن يعترض بعضهم على أنه لم يكن لها نصيب وافر في خطبة صاحب الفخامة لطفي الحفار.

أين خطبتك؟

وفي نهاية الحفلة أقبل جمهور من الأصدقاء العراقيين وهم يقولون: أين خطبتك، يا دكتور؟ فأجبت: سألقيها في الإذاعة.

فقالوا: متى؟

فقلت: بعد ساعة واحدة.

فاتصل الأستاذ إبراهيم حلمي العُمَر بالأستاذ فائق السامرائي (تليفونيًّا) يدعوه إلى حفظ مكاني بين الخطباء الذين سيلقون كلمات التأبين عن طريق الإذاعة اللاسلكية.

ولكن كيف أُلقي خطبة كتبتها ليلة السفر في لحظات ولم تعجبني؟

كيف أعرِّض نفسي لمقام لم أتخذ له العدة الكافية؟

كيف أَلْقَى الناس بكلمة ضعيفة بعد أن سمعوا كرائم الخطب وجياد القصائد؟ كيف أُوذي سمعتي الأدبية في بغداد، ولي فيها أحباب وأعداء؟

وكيف يكون حالي بعد إلقاء هذه الخطبة الضعيفة عند ليلى وظمياء؟

سأكون أشد الناس حمقًا إن عرَّضت سمعتي في بغداد للغمز والتجريح، ولكن كيف أنسحب ومدير الدعاية ينتظرني بوزارة الداخلية؟

مفاجأة غريبة

قلت في نفسي: ما الذي يمنع من أكمل تلك الخطبة بالارتجال؟

أنا أرتجل الخطب بسهولة، وفي مقدوري أن أصل إلى أسماع الجماهير حين أريد.

ومضيت إلى الفندق لإحضار الخطبة التي كتبتها ليلة السفر ولم تعجبني.

فما الذي رأيت؟

لن ينقضي عجبي مما رأيت!

رأيت الخطبة في غاية من الجودة، وليس فيها إلا عيب واحد: هو الإيجاز، ومتى كان الإيجاز من العيوب حتى أحمِّل نفسي ما لا تطيق بافتعال الإطناب؟

وانطلقت مع الأستاذ فائق السامرائي إلى محطة الإذاعة وأنا راضٍ عن خطبتي، ولولا أن تصح كلمة من يتهمونني بحب الثناء على نفسي لقلت: إنها كانت أفصح ما قيل في ذلك اليوم!

درس ينفع

وهذا الدرس أقدمه لنفسي ولتلاميذي:

وأنا أوصي نفسي وأوصي تلاميذي بالقناعة بما تجود به الفطرة، فليست البلاغة في الاحتفال بما نكتب وما نقول، وإنما البلاغة في الاستجابة لصوت الفطرة والطبع والوجدان.

وإذا لم يكن بدٌّ من الاهتمام بما نلقَى به الجماهير من خطب ورسائل فليكن ذلك الاهتمام يقظة وجدانية وروحية وعقلية. أما الحرص على الزخرف والتنميق فهو آفة البيان.

والأصل في البلاغة أن نقدر على أن نشغل المستمعين والقراء بأنفسهم، ولا نصل إلى ذلك إلا حين نسيطر عليهم بقوة المعنى وقوة الروح، أما الزخرف فهو يشغل القراء والمستمعين بالتفكير في شخصية الكاتب والخطيب، وتلك غاية صغيرة لا تستهوي كبار الرجال.

والكاتب الحق هو الذي ينسيك نفسه ليشغلك بنفسك.

الكاتب الحق هو الذي يجعل وجدانك وعقلك وقلبك ميدانًا للمصاولات الأدبية والعقلية فينقلك من حال إلى أحوال.

أما الكاتب الذي يشغلك بنفسه وهو ينمق ويزخرف ويعتسف فقد يحولك إلى خصم للفكرة التي يحاول أن ينقلها إليك.

ولا يصلح أهل البيان للسيطرة على من يقرأون ومن يستمعون إلا إذا كانت الفكرة غلبت على عقولهم وألبابهم غلبة قوية بحيث يكون كل حرف من كلامهم محملًا بصور المعاني والأرواح، وهل كان الغرض من البيان إلا جعل المعنى رسالة الروح؟

•••

وفي اليوم التالي حضرنا الحفلة التي أقامها حضرة صاحب السمو الأمير عبد الإله على شرف الوفود العربية، بعد أن زرنا ثكنات الجيش، فما الذي رأيناه هنا وهناك؟١

٥

– إيش لون ليلى؟

– عوفيتْ ليلى ومرض الطبيب!

انقسم وفد مصر في بغداد إلى طوائف: الطائفة الأولى مكوَّنة من سعادة حمد باشا الباسل وإخوانه أعضاء لجنة الصلح، والطائفة الثانية مكونة من العلماء والأدباء الذين قدِموا بغداد للاشتراك في حفلة التأبين، والطائفة الثالثة مكونة من الدكتور زكي مبارك الأديب والدكتور زكي مبارك الطبيب، والدكتور زكي مبارك الحيران بين الأدب والطب والعشق!!

والواقع أن أيامي الجديدة في بغداد كانت تستوجب الشفقة والعطف؛ فقد كان لسائر الزملاء غرضٌ واضحٌ محدود، أما أنا فقد تفردت بالحيرة، وهُيام القلب.

كنت أريد أن أعرف ما جد من الشؤون بوزارة المعارف.

وكنت أحب أن أُلقي درسًا أو درسين على تلاميذي بدار المعلمين العالية.

وكنت أحب أن أجدد العهد بالديار التي عرفتها بالرصافة والكرخ والكرادة والأعظمية والكاظمية.

وهناك غرض أهم من كل أولئك الأغراض، وهو الأنس بزيارة ليلى وزيارة ظمياء.

•••

وا حرَّ قلباه من شماتة الشامتين!

من الذي يصدق أن ليلى لم تسأل عني وقد قضيتُ ثلاثة أيام في بغداد؟

من الذي يصدق أن ليلى تركت دارها بشارع العباس بن الأحنف؟

طوَّفتُ بذلك الشارع ليلتين متواليتين، ثم تشجعتُ فطرقت دار ليلى في منتصف الليل، فوجدت هناك ناسًا لم أعرفهم من قبل فحدقوا في وجهي طويلًا ثم قالوا: «الطبيب المصري، غير؟؟»

فقلت: «وهذه دار ليلى، غير؟؟»

فقالوا: «إن ليلى تحولت».

فقلت: «تحولت عن عهدي؟؟»

فقالوا: «تحولت عن الدار».

فقلت: «وإلى أين؟»

فقالوا: «لا ندري إلى أين».

ورجعت إلى الفندق كاسف البال، فرأيت جماعة من المصريين والعراقيين يَسْمُرُون بجانب الشط، فابتسم حمد باشا وهو يقول: ما هذه السّدارة على رأسك؟ فقال الجارم بك: هي طاقيّة الإخفاء، ألم تلاحظ يا باشا أن الدكتور زكي يلبس الطربوش في النهار ويلبس السدارة في الليل؟

وما كنت لأنزعج من دعابة الجارم، فتلك شِنشنةٌ أعرفها من أخزم! ولكن البلاء كل البلاء هو في تحول ليلى عن دارها بشارع العباس بن الأحنف وتفريطها الأثيم في السؤال عني، وأنا الذي عطرت باسمها جميع الأندية، وجعلت حديثها شغل الأفئدة والقلوب.

ما الذي أنكرت ليلى من أمري حتى تصدف عني؟

ليتني أعرف! ليتني أعرف!

•••

ومضيت إلى غرفتي لأستريح من كرب اليأس ولجاجة بعض الأصدقاء.

وما كدت أخلع أثوابي حتى جاء الخادم يصيح: سيدي، أنت مطلوب بالتليفون!

فقلت: تليفون بعد نصف الليل؟ أنا غير حاضر للتليفون!

وبعد لحظة رجع الخادم مبهورًا وهو يصيح: سيدي، إن ليلى هي التي تطلبك!

وأسرعت فارتديت ثيابي من جديد وخرجتُ، فرأيت الدنيا تموج من حولي وقد حضر الذين كانوا بجانب الشط ليسمعوا شيئًا من حديث ليلى.

– ألو، ألو، من يتكلم؟

– ليلى!

– ما هذا صوت ليلى.

– بلى، هو صوت ليلى.

– أبدًا ما هو صوت ليلى.

– ولا صوت ظمياء؟

– ولا صوت ظمياء.

– دكتور، دكتور، أنا فوز!

– وماذا تريدين، يا فوز؟

– أريد أن أبلغك رسالة من ليلى.

– وما رسالة ليلى، يا فوز؟

– ليلى تقول إنك لم تفهم كيف اختارت الإقامة بشارع العباس بن الأحنف!

– إيش لون؟

– ليلى تقول إنها كانت اختارت الإقامة بشارع العباس بن الأحنف؛ لأنه الشاعر الذي تفرد بإجادة القول في الكتمان، فهو الذي يقول:

لأخرجنَّ من الدنيا وحبُّكمُ
بين الجوانح لم يشعر به أحدُ
حسبي بأن تعلموا أن قد أَحَبَّكُمُ
قلبي وأن تسمعوا صوت الذي أجدُ

وهو الذي يقول:

كذبتُ على نفسي فحدثتُ أنني
سلوتُ لكيما ينكروا حين أصدُقُ
وما من قلًى مني ولا عن ملالةٍ
ولكنني أُبقي عليك وأُشفِقُ
عطفتُ على أسراركم فكسوتها
قميصًا من الكتمان لا يتخرَّقُ

وهو الذي يقول:

قد سَحَّبَ الناس أذيال الظنون بنا
وفرَّق الناس فينا قولهم فِرَقا
فجاهلٌ قد رمى بالظن غيرَكمُ
وصادقٌ ليس يدري أنه صدقا

– تلك رسالة ليلى، يا سيدتي؟

– نعم، هي رسالة ليلى.

– فهل تبلِّغين ليلى أني كتمت هواها كل الكتمان؟

– أنت كتمت هوى ليلى وقد فضحت نفسك في حبها بكتاب يقع في ثلاثة مجلدات؟!

– وهل يفتضح المرء حين يشرح هواه بكتاب في ثلاثة مجلدات؟!

– أشهد أن التضليل لا يعظُم عليكَ!

– أنا مضلِّل، يا فوز؟

– حوشيتَ من التضليل!

– اسمعي، يا فوز!

– قل أسمع!

– بلِّغي ليلى أن العباس بن الأحنف هو أيضًا الذي يقول:

أما الهوى فهْوَ شيءٌ لا خفاء بِهِ
شتان بين سبيل الغيِّ والرَّشَدِ
إن المحبين قومٌ بين أعينهم
وَسْمٌ من الحب لا يخفى على أحدِ

– ثم ماذا؟

– وهو الذي يقول:

أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبًا
بثِقْل ما حمَّلوني في الهوى قعدوا
جاروا عليَّ ولم يُوفوا بعهدهمُ
قد كنت أحسبهم يوفون إن وعدوا

– اسمع، يا دكتور، واعقل.

– إن بقي لي سمعٌ وعقل!

– إن ليلى توصيك برياضة نفسك على اليأس، وترجو أن ترحم نفسك من الهُيام بشوارع بغداد في الليل، فلن تهتدي إلى دارها الجديدة ولو استظهرتَ بألف دليل، وسلامٌ عليك بين الهائمين في أودية الضلال!

•••

أفي الحق أني لن أدخل دار ليلى بعد اليوم؟

أفي الحق أن ما كان بيننا لن تكون له رجعةٌ ولا مَعاد؟

وماذا تريد هذه الحمقاء؟

أكانت تريد أن أكون قطعة من ثلوج الشَّمال لا تصهرها الشمس؟

أكانت تريد أن أكون صخرة خرساء لا تُحِسُّ نسمات الأصيل؟

أنا أستأهل التأديب، فقد شغلتُ نفسي وقلمي ولساني بالحديث عن الملاح، في زمن لا يقيم دولةً للحسن ولا يعترف للجمال بسلطان.

وليلى نفسها لا تحفظ العهد ولا تَرْعَى الجميل.

وإلا فكيف ضاعت الأقسام والعهود؟

وكيف بدد الأثير ما كان لقُبُلاتنا من رنين؟

والآن توصيني ليلى بأن أروِّض قلبي على اليأس، وهي التي كانت تثور حين أملك الصبر عنها يومًا أو بعض يوم!

سأنتقم! سأنتقم!

سأقول كما يقول أنصاري في العراق: إن ليلى شخصية خيالية أبدعَها قلمي ليمدَّ اللغة العربية بألوان جديدة من السحر والفتون.

وهل أسرف أنصاري حين قالوا بذلك؟

إنهم كانوا يريدون أن يُنجوني من دسائس الحاقدين واللائمين، وكانت حجتهم أني معلم صالح، والمعلم الصالح لا يتحدث عن الهوى والفتون إلا وهو يَرمُز إلى حقائق وأضاليل من أسرار المجتمع وسرائر القلوب.

وقد نجح أنصاري في الدفاع عني، فأنا عند أهل العراق شخصية صوفية لا تقل روعة عن شخصية ابن الفارض وشخصية الحلاج.

نجح أنصاري في الدفاع عني.

نجحوا، ثم نجحوا.

ولكني أعرف، وا أسفاه، أن ليلاي في العراق ليست شخصية خيالية، وإنما هي امرأة من لحم ودم وأعصاب، تأكل القلوب وتذرع الأرض من الزوية إلى الكاظمية، وتصنع بأرواح الوجود ما تصنع الصهباء!

•••

سأنتقم! سأنتقم!

سأنكر أن ليلى أرهفت قلمي.

سأنكر أن ليلى سحرت قلبي.

سأنكر أن ليلى سوداء العينين، وسأنكر أن حديثها أطيب من بُغام الظباء، وسأقول في كل أرض: إن ليلاي نجدية لا عراقية، وربما تحولتُ فنقلتُ هواي إلى لبنان!

كل ذلك ممكن، ولكني أخشى أن يصبح تحقيقه من المستحيل.

لو كانت ليلى تعقل لعرفت أن التجني على رجل مثلي إثْمٌ صُرَاح.

أشهد أنني أحمق وأن ليلى حمقاء.

فلو كنت أعقل لاستنجدت بسعادة حمد باشا الباسل ليصلح ما بيني وبينها، وهل كان ما بيني وبين ليلى أقل خطرًا من العداوة التي ثارت بين القبائل العراقية؟

ولو كانت ليلى تعقل لعرفت أن أيامي في بغداد أقصر من أن تحتمل لدَدَ الخصومة وشطَطَ العِتاب.

ولكن متى عرف الملاح معنى العقل؟

إن الملاحة توحي بالنزق والطيش، وهي أخطر من عصير النخيل والأعناب، وهل أخطأ البَهاء زهير حين تخوف من سكر الدلال!

•••

إن ليلى توصيني بأن أروِّض قلبي على اليأس.

وهل نسيت ليلى أني مصري، وأن المصري لا يحتاج إلى أن يروض قلبه على اليأس؟

هل نسيت ليلى أني مصري، وأن المصري يحيا ويموت بلا صديق؟

هل نسيت ليلى أني مصري وأن المصري مكتوب عليه أن يقضي العمر وهو حزين؟

هل نسيت ليلى أني مصري، وأن المصري يواجه النهر من جانب والصحراء من جانبين؟

إن ليلى لا تستطيع أن تقول إنها أجمل امرأة في العراق، ولكني صيرتها بقلمي وبياني أجمل امرأة في الوجود.

فكيف كان جزائي؟

صدت عني بلا ترفق وصيرتني ملهاة السامرين في مصر والعراق.

إن عشت يا ليلى — وعمر الصادقين في مصر أقصر من عمر الورد — فسأجعل من هواك فتنةً تعصف بما في الدنيا من أصول الرزانة والعقل، وسأُريك كيف يكون كيد التلوُّم وعُنْف الصدود، وأنا أستطيع الثورة على الحُسْن حين أشاء.

•••

كذلك كان حالي بعد تلك المحادثة التليفونية: فقضيت الليل في غَمٍّ وكَرْب، ولم ينقذني من همومي إلا هاتف يهتف في الصباح: «أعدَّ نفسك يا دكتور، لزيارة معسكرات الجيش».

– أنا حاضر، فقد أنسى جيش الأحزان الذي صاولتُه في ظلمات الليل.

كنت في حرب؟

كنت في سلام؟

– وكيف؟

– لا أدري كيف!

١  سنرى أن الكاتب شغلته ليلاه عن الوفاء بهذا الوعد فلم يصف حفلة البلاط ولم يتكلم عن الجيش، ولعله اكتفى بما ورد من أمثال هذه الشؤون في كتاب (ليلى المريضة في العراق).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤