في مجلس سمر

يتكون المجلس في هذه المرة من أربعة أشخاص على رأسهم رجل مهذب من الفرنسيين هو المسيو دي كومنين، المراقب العام لمدارس الليسيه فرانسيه بالقاهرة، وهو رجل ستظهر صفاته في خلال الحديث.

وثانيهم الدكتور توفيق فهمي، وهو مصري فاضل حلو الشمائل كريم الخصال، وليس فيه إلا عيب واحد، هو أنه لا يقرأ الجرائد المصرية، وذلك عيبٌ خَطِر، ومن نتائجه الشنيعة أنه لا يقرأ مقالاتي في البلاغ!

والثالث موظف مصري هو مزاج من الرقة والفظاظة والفهم والغباء، كله عيوب وليس فيه إلا فضيلة واحدة هي أنه يفي لأصدقائه، فيلاطفهم إن حضروا، ويشتاق إليهم حين يغيبون، وعيوبه الكثيرة ترجع إلى رذيلة واحدة هي أنه كثير الشغب واللّجاج، يتكلم كثيرًا بلا ترتيب، وهو مع هذه الثرثرة لا يحسن الاستماع، وقد لا يتركك تتكلم إلا إن ملَّ الكلام أو شَعَرَ بصُداع.

تلك صفاته المعنوية، أما صفاته الحسية فهو يذكِّر بما جاء في التاريخ من أن الفراعنة ملكوا الصومال، ومن المحتمل أن يكون أسلافه الأبعدون نزحوا إلينا من هناك. وهو كسائر الناس له أنف وعينان وشفتان، غير أن في أذنيه شيئًا من الطول!

وقد أخبرته أني سأشير إليه في مقالاتي وأصفه بصراحة، وسألته إن كان يسمح بذكر اسمه فتردد، ثم تشجع وقال: اذكر اسمي وقل ما تشاء!

ولكني أَخْبَرُ به وبغيره من أدعياء الشجاعة، ففي مصر كثير من الناس يؤكدون لك أنهم لا يجبنون ولا يخافون، فإذا عرضت لهم بسوء غضبوا منك وناصبوك العداء،

وأنا سأتوسط في الأمر فأُعطي بعض البينات التي تعيِّن اسمه وتقربه من الأذهان، واسمه يبتدئ بأحد الحروف الهجائية، ولزيادة التخصيص أذكر أن اسمه لا يخرج في مجموعه عن العشرين الأولى من الحروف الهجائية، ولأجل هذا سأسميه (أبجد أفندي)، وكان في النية أن أسميه (الوحش)؛ لأنه متوحش في محادثاته، ولكني لاحظت أن التوحش يفترض الشجاعة، وصاحبنا يخاف من الكلاب، ولا يدخل منزل المسيو دي كومنين إلا بعد أن يؤكد له البوّاب أن الكلب مربوط!

المسيو دي كومنين : من فضلكم، ترجموا لي بعض ما كتبه اليوم صديقنا مبارك في البلاغ.
أبجد أفندي : المسألة تتلخص في جملة واحدة: هي أن الأزهر والجامعة المصرية ووزارة المعارف زِفْت في زِفْت!
الدكتور فهمي : الأزهر؟ كنت أحب أن أعرف شيئًا عن نظامه الجديد.
مبارك : تعرف حضرتك الكلمة التي تقول: لا جديد تحت الشمس، فاعلم إذن أنه يصح أن يُقال: لا جديد فوق الصحن!
أبجد أفندي : صحن إيه يا سيدنا أنت؟
مبارك : صحن الأزهر يا شيخ أبجد!
الدكتور فهمي : دَعُونا من المزاح، أنا أحب أن أعرف ما هي وجوه الإصلاح التي تريدها يا مبارك، فهل أنت تريد مثلًا أن تُخرج الأزهر عن صبغته الدينية وتُحوِّله إلى جامعة مدنية؟
أبجد أفندي : هل قرأتم مقالة زكي باشا في الرد على سميكة باشا؟
المسيو دي كومنين : من فضلك، انتظر، واترك هذه الشطحات.
مبارك : أنا أريد أن يهتم الأزهر بالحياة المدنية، وأحب له في الوقت نفسه أن يحتفظ بصبغته الدينية.
الدكتور فهمي : ولكن كيف تجتمع المدنية والدين في التعليم؟
مبارك : يبدو لي يا دكتور أنك تعطي الإسلام نفس الصفات التي تعطيها للمسيحية، وبذلك ترى من الصعب أن تجتمع الدنيا والدين، ولكن الواقع أن الدين الإسلامي يختلف عن الدين المسيحي اختلافًا جوهريًّا؛ فالدين المسيحي يروض أتباعه على العبادات الروحية الصرفة، وينقلهم إلى حظيرة الرب، حيث يتركون ما لقيصر لقيصر وما لله لله. أما الدين الإسلامي فتنقسم تعاليمه إلى قسمين: العبادات والمعاملات، فهو بذلك يروّض أتباعه على أن يكونوا من أهل الدنيا، وإن كان يُعِدُّهم إلى الفوز في الآخرة والتمتع بنعيم الفِرْدَوْس.
أبجد أفندي : وهل من الدين يا مسيو مبارك أن تقرأ شتائم زكي باشا في الرد على سميكة باشا؟
الدكتور فهمي : فهمت أن الإسلام يجمع بين الماديات والروحيات، فما هي الوسائل عندك لإصلاح الأزهر حتى تسود فيه الروح المدنية، كما سادت فيه التقاليد الدينية؟
مبارك : أنا أدعو أولًا إلى أن يتعلم الأزهريون لغة أجنبية.
أبجد أفندي : واللهِ كان الشيخ الظواهري يأمر بإحراقك!
مبارك : الشيخ الظواهري مستعدٌّ أتم الاستعداد لتعليم اللغات الأجنبية ولو مراعاةً للظروف والملابسات!
دي كومنين : ولكن أي لغة؟ أنا أخشى أن يعلّموا اللغة الإنجليزية.
أبجد أفندي : هذا هو الأرجح؛ لأن المشايخ يحبون بالطبع أن يعرفوا اللغة التي يتفاهمون بها حين يزورون قصر الدوبارة في رمضان!
دي كومنين : مسألة اللغة مسألة مهمة.
فهمي : ما أهميتها؟
دي كومنين : تفتح عيون الأزهر على آفاق جديدة من الحياة.
مبارك : اللغات الأجنبية ضرورية، وليس في العالم اليوم أمة يكتفي فيها المتعلم بلغته، مهما كانت لغته قوية ومنتشرة، ومن رأيي أن الأزهريين يجب أن يتعلموا الفرنسية لا الإنجليزية لسببين: أولهما أن اللغة الفرنسية سهلة النطق؛ لأن المصريين والفرنسيين متقاربون في تكوين الحلق؛ لأنهم جيران لا يفصل بينهم إلا البحر الأبيض المتوسط، وثانيهما أن صِلتنا بالفرنسيين صلة وداد وليس بيننا وبينهم مشاكل سياسية، فليس يضيرنا في شيء أن نتعلم لغتهم، ولو جلا الإنجليز عن بلادنا لفكرنا في التخير بين لغتهم وبين لغة الفرنسيين، ولكنهم يعملون لتثبيت أقدامهم بوسائل كثيرة أهمها نشر لغتهم، فلنحرص على سلامة الأزهر من ذلك النفوذ المخوف، وتلك كانت أكبر مؤاخذة وجهها الجمهور المثقف إلى الشيخ المراغي حين رأى أن يتعلم الأزهريون اللغة الإنجليزية، ومنهم من اتهمه بأنه رأى ذلك مصانعة لقصر الدوبارة. والله أعلم بما في الصدور.
أبجد أفندي : معقول أن يتقرب المشايخ إلى قصر الدوبارة بتعلم اللغة الإنجليزية فإن زكي باشا هو أيضًا يهاجم سميكة باشا لنفس الغرض.
دي كومنين : متى تخلص من هذه الحكاية!!
أبجد أفندي : يا مسيو دي كومنين أنت لا تعرف غرض زكي باشا، لقد وضعت جريدة الأهرام عنوان مقاله في حروف كبيرة جدًّا، ويا له من عنوان: «أسطورة قبطية ملعونة».
هل هذا وقت تصحيح أساطير الأقباط؟
مبارك : وهذه هي الساعة المناسبة لتصديع رءوسنا بالدفاع عن سميكة باشا؟
الدكتور فهمي : من فضلكم، عودوا بنا إلى إصلاح الأزهر.
دي كومنين : هل تريد يا أستاذ مبارك أن أقول لك كلمة صريحة؟
مبارك : قُلْ أَسْمعْ.
دي كومنين : أنت حين تهتم بإصلاح الأزهر، هل تفكر في نفسك أم في سعادة الإنسانية؟
مبارك : أنا بالطبع أفكر في سعادة الإنسانية.
دي كومنين : وأنا أرى أن الأزهريين في حالتهم الحاضرة سعداء، وأنت حين تفكر في تغيير حالهم إنما تفتح لهم أبواب الشقاء: فالطالب الأزهري يجلس على الحصير مستريحًا إليه، ويقرأ كتابه أحيانًا وهو مضطجع أو ممدَّد الرجلين، فما الذي يستفيده حين تقهره على الجلوس فوق مقعد، والذهاب لتلقي الدروس في ساعات محدودة، وقد كان قبل ذلك من السعداء؟
مبارك : إنه ليضايقني حقًّا أن أرى الأزهريين يعيشون عيشتهم الحاضرة.
دي كومنين : أنت إذن تفكر في نفسك وتريد أن تطبعهم على الذوق الذي اكتسبته من عيشتك في فرنسا ومن معاشرة الأوربيين، ألا فلتعلم يا صديقي مبارك أن الإصلاح لا يكون خيرًا إلا إن ظمئت إليه النفوس وعشقته واطمأنت إلى الداعين إليه، ورحبت بمبادئهم كل الترحيب.
مبارك : الأزهريون غير راضين عن حالتهم الحاضرة.
دي كومنين : ابحث أولًا عن أسباب قلقهم وامتعاضهم؛ فقد تكون تلك الأسباب بعيدة كل البعد عما تظنه أنت موجبًا لضجرهم ورغبتهم في التغيير.
مبارك : يمكنني أن أفهم أن حياة شيخ الجامع الأزهر لها دخلٌ في ذلك الامتعاض، فقد كان الأزهريون قبلًا من أهل الله، وكانوا راضين عن حظوظهم في الحياة. ولكن شيخ الأزهر اليوم له ما لجميع الرؤساء من المظاهر المادية، فله مثلًا سيارة لها بوق بغيض الصوت، وله مائدة منوَّعة الألوان، وفي بيته أرائك ووسائد وأبسطة ومصابيح من الكهرباء، وله خدم وله حاشية وله مخبرون ينقلون إليه الطيب والخبيث من أخبار الناس وخاصة العلماء.
وفي هذه المظاهر الدنيوية ما يغري أهل الأزهر بالدنيا، ويجذبهم إلى ما فيها من زخرف الجاه والمال.
دي كومنين : ابدأ إذن بإصلاح شيخ الجامع الأزهر، وأرجعه إلى حياته الأولى حياة البساطة والقناعة والزهد.
مبارك : أنت تطلب المستحيل يا مسيو دي كومنين، فقد تغيرت العقلية تغيُّرًا تامًّا، وصار من العسير أن نطالب شيخ الجامع بالجلوس على الفروة والاكتفاء بركوب البغلة، والرضا بخبز الجراية والفول والكرّاث، كما كان يفعل أسلافه الأولون. ولو قد فعل شيئًا من ذلك لصار سخريةً للجميع، فشيخ الجامع مضطرٌّ إلى مراعاة الحال في أنظمته المعاشية والإدارية، وهو يفهم أنه «موظف كبير» قبل أن يمر بباله أنه شيخ المسلمين.
دي كومنين : الآن تجسمت أمامي المشكلة، ويظهر من سياق الحديث أنك تريد أن تنقل الأزهريين إلى حياة جديدة تشبه حياة إخوانهم في المدارس الثانوية والعالية.
مبارك : هو هذا.
دي كومنين : وتأمل بهذا أن تمنحهم حياة سعيدة؟
مبارك : نعم!
دي كومنين : أنت مخطئ في تقدير هذا الأمل: فقد وُجدت الأزمة في المدارس الأميرية، وأصبح خريجو تلك المدارس لا يعرفون كيف يعيشون، والظاهر أنكم في مصر تقلدوننا في أشياء كثيرة، وفاتكم أن فرنسا تعاني أزمات عصيبة بسبب تعميم التعليم؛ فإن القانون الذي فرض التعليم الإجباري حَرَم الأمة الفرنسية من نشاط أبنائها في استغلال الأرض.
فهمي : كيف؟
دي كومنين : أنتم تعلمون أن جمهور الآباء يحتاجون إلى أطفالهم في أعمال كثيرة أخصها رعاية الماشية، فتجيء الحكومة فتفرض على الطفل أن يظل في المدرسة إلى الثانية عشرة من عمره، وفي تلك المدة يتعود عادات سيئة أظهرُها حرصُه على الثياب النظيفة والتأخر في النوم، فضلًا عن النعومة التي تغلب على جسمه ويديه من الحياة المدرسية، فإذا انتهت مدة التعليم الإجباري وعاد إلى أهله في الحقول أخذ يسخط على حياته الجديدة حياة العمل؛ لأنه مضطرٌّ إلى النهوض من فراشه في الساعة الخامسة وإلى لبس الثياب الخشنة والنعال القذرة ومعاشرة أجلاف الفلاحين. ومن أجل هذا يرحل أكثرُ الشبان إلى المدن للبحث عن الرزق بوسائل تلائم ما ألفوه من الوداعة والنعومة. ونتيجة ذلك أن الأرض الفرنسية هجرها أهلها، وأصبحنا نستعين بالشبان الإيطاليين والبولونيين، ومن إليهم من الوافدين على فرنسا لزراعة أرضنا، وكنا قبل ذلك من كبار الفلاحين، ومن رأيي يا صديقي مبارك أن الذي ينقصنا وينقصكم هو التوازن في كل شيء، فنحن أو أنتم مسخَّرون لطائفة من المفكرين يعيشون عيشة مدنية وينسون الجماهير المختلفة التي تتكون منها الشعوب.
أبجد أفندي : وهذا هو ما يفعله زكي باشا في الرد على سميكة باشا.
مبارك : يعجبني فضولك والله يا حضرة الأخ، ولكن اسمع: أنا لا أكتمك أني لم أفهم حكاية المعزّ الفاطمي التي أثارها زكي باشا.
أبجد أفندي : لم تفهمها مطلقًا؟
مبارك : لم أفهم منها ما سماه سميكة باشا «حادثة المقطم»؛ فقد درستُ تاريخ الدولة الفاطمية في الجامعة المصرية على المرحوم محمد بك الخضري وأديت الامتحان يومئذ بتفوق، ولكني لم أسمع بحادثة المقطم هذه، ثم علمت أن الأستاذ محمد عنان كتب مقالًا في جريدة السياسة عن الموضوع، ولكن فاتني ذلك العدد ولم أعرف عنها شيئًا، وبعد ذلك كتب أحد الأزهريين المتخصصين في التاريخ كلمة في جريدة البلاغ فأشار إلى حادثة المقطم إشارة يُفهم منها أنها حادثة مهمة من حوادث التاريخ، فزاد خجلي من الجهل بمثل ذلك الحادث الخطير! فماذا قال الأستاذ عنان في هذا الموضوع إن كنت قرأت مقاله في السياسة؟
أبجد أفندي : حادثة المقطم مشهورة، وخلاصتها أن المعز لدين الله الفاطمي سمع أن في الإنجيل آية تشير إلى أن المؤمن الصادق يستطيع أن ينقل الجبل، فسأل عن الصالحين من القسيسين والرهبان في مصر فأخبروه أن هناك قسيسًا معروفًا بالورع والتقوى، فاستقدمه المعزُّ وسأله أن ينقل جبل المقطم إن كان من الصادقين، فصلى القسيس بعض الصلوات ثم أشار إلى جبل المقطم فانتقل من مكانه بإذن الله! وعلى ذلك تنصَّر المعز لما رأى بعينيه من جلال النصرانية.
مبارك : هذه هي حادثة المقطم؟ الله يهديك ويهدي سميكة باشا معك! أهذه هي الوثيقة التاريخية على أن المعز تنصَّر؟
أنا أتحدى جميع الصالحين من القسيسين والرهبان أن ينقلوا دارًا صغيرة جدًّا من مكانها، ولتكن دار حزب الاتحاد، فكيف ساغ أن ينقل أحدهم جبل المقطم وينقل معه الخليفة المعز من الإسلام إلى النصرانية؟!
أبجد أفندي : أنت إذن لا تؤمن بالمعجزات؟
مبارك : معجزات في عينك وعين سميكة باشا!
أبجد أفندي : إذن ماذا تقول في كرامات السيد البدوي.
مبارك : أنا لا أعترف بغير ما أشاهد بعيني من التغيرات والتقلبات، ومن العسير أن أفتح أذني لما أسمع من أباطيل المخدوعين بين المسلمين والأقباط!
دي كومنين : خوضوا بنا في غير هذا الحديث.
أول سبتمبر سنة ١٩٣١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤