أفانين من الأحاديث

يتكون المجلس في هذه المرة من سبعة أشخاص: فتاتين وسيدة، وأربعة رجال: اثنين مصريين واثنين فرنسيين.

أما الفتاتان فآيتان من آيات الحسن المشرق والأدب الجميل، وأيسر ما يوصف به وجودهما في المجلس أنهما سعادةٌ شاملةٌ تغمر الجميع بلا استثناء. وقد آثَرَتَا الصمت البليغ طول السهرة، واكتَفَتَا بالابتسام كلما أشار أو تحدث صاحبنا «أبجد أفندي» الذي يعرفه القراء.

أما مدام (د) فسيدة مهذبة نشأت في باريس مهد الاريستوقراطية الفرنسية، وهي تصحب قرينَها في مصر منذ سنوات، والصديقان الفرنسيان أحدهما من رجال التربية وثانيهما من رجال القانون، وكلاهما محدِّث بارع يذكِّر بما رُوي من أنه دخل على الحسن بن سهل رجلٌ بعد أن تأخر عنه أيامًا فقال: «ما ينقضي يوم من عمري لا أراك فيه إلا علمت أنه مبتور القدر، منحوس الحظ، مغبون بين الأيام».

فقال الحسن: «هذا لأنك توصل إليَّ بحضورك سرورًا لا أجده عند غيرك، وأتنسم من أرواح عِشرتك ما تجد الحواسُّ به بغيتها، وتستوفي منه لذتها، فنفسك تألف مني مثل ما آلفه منك.»

وكلمة «محدِّث» قلما نعرف مدلولها في مصر، وهي بالطبع غير كلمة «محدِّث» التي ترد في كتب الرواية والحديث. ونحن نريد بها ما يريده الفرنسيون من كلمة Causeur، فالفرنسيون من بين الأمم مشهورون بحلاوة الحديث. وقد يتحدث الرجل منهم نحو سبع ساعات تباعًا فينتقل من فن إلى فن في لطف ورفق، بدون أن يَشعر السامرون بأدنى سآمة أو ملال، وهم يختلفون في هذا عن الإنجليز أشد الاختلاف، فإن المحدثين من الإنجليز قليل.

وإذا أراد القارئ أن يعرف شيئًا عن مدلول كلمة «محدِّث» فإنّا نذكر له على سبيل التمثيل الشاعر الكبير حافظ إبراهيم؛ فإني لم أَرَ من بين المعاصرين من يشبه هذا الرجل في طِيب الحديث، وما رأيته مرةً إلا شعرت بالحسرة على أنه كسائر الناس قد ينتقل بعد عمر طويل إلى دار البقاء. وكان أهلًا لأن يُمْتع بطيب حديثه جميع الأجيال.

وقد تعلق به المرحوم سعد باشا في أخريات أيامه تعلقًا شديدًا، واحتجزه عنده في مسجد وصيف.

أبجد أفندي : لا، يا مسيو (ك) لا، لا، لا تُبالغ في تمجيد تاريخ الإسلام إلى هذا الحد، فإن هذا يزيد صديقنا مبارك زَهْوًا، وقد رأيتَ كيف يتحامل على من لا يعتنق دينه الحنيف.
مبارك : أنا لا أتحامل على أحد، وليس من حقك أن تأخذ عليَّ أن أعتز بديني فإنه جدير بذلك.
أبجد أفندي : ولكن لا تنسَ أن كثيرًا من رؤساء الأزهر ومشايخ الإسلام كانوا من الأقباط.
مبارك : من الأقباط؟ وكيف اتفق ذلك!
أبجد أفندي : صح النوم، صح النوم! يظهر أنك لم تقرأ التاريخ!
مبارك : لعلك تريد الشيخ المهدي وكان قبطيًّا فأسلم.
أبجد أفندي : والشيخ الفيومي أيضًا.
مبارك : أنا لا أعرف أن الشيخ الفيومي كان قبطيًّا، ولكن هذا لا ينهض حجة لك على أن كثيرًا من رؤساء الأزهر ومشايخ الإسلام كانوا من الأقباط؛ لأن القبطي متى أسلم خرج عن قبطيته وتحول إلى إنسان جديد.
أبجد أفندي : هل الإسلام يغيِّر الشخصية وينقلها من وضع إلى وضع؟
مبارك : نعم، الإسلام يغير الشخصية تغييرًا شديدًا حتى لتنكر أصلها القديم.
أبجد أفندي : ما رأي سيداتي وسادتي؟
المسيو (ك) : أنا من رأي صديقنا مبارك؛ لأن النفس لا تستجيب لدين من الأديان إلا بعد أن تتهيأ له، فانتقالُ الرجل من دين إلى دين معناه تحوله من وضع إلى وضع في أخلاقه وسجاياه، وتعديلُ ما كان له من غرائز وملكات.
أبجد أفندي : إذن يكون المسلمون غير مصريين؟
مبارك : على رسلك يا مسيو أبجد، فإن هناك فرقًا بين المصرية والقبطية، فالمصرية يُلحظ فيها الجنس، والقبطية يُلحظ فيها الدين، وقد لَحَظَتْ ذلك المعاجم العربية حين قالت: القبط نصارى مصر.
أبجد أفندي : شيء يضايق!
المسيو (ك) : وكيف يضايقك هذا وأنت الذي جنيت على نفسك حين انصرفت عن الإسلام وهو دين الشرق؟
أبجد أفندي : ترى جنابك أنه كان يجب أن أُسلم؟
المسيو (ك) : الذي أراه أن الإسلام أوفق الأديان للشرق: فهو يحرم الخمر، وهي أضر أنواع الشراب بأهل الشرق، ويحرم لحم الخنزير وهو سريع الفساد في جوِّ الشرق، وكذلك تستطيع أن ترجع القواعد الإسلامية إلى واجبات شرقية.
أبجد أفندي : نعم، يا سيدي، نعم، ويُبيح تعدد الزوجات، وهذا من أصلح ما يباح لأهل الشرق، أليس كذلك؟!
المسيو (ك) : هذه سخرية لا موجب لها يا مسيو أبجد، فإن إباحة تعدد الزوجات من مفاخر الإسلام، ولنترك قليلًا النفاق فنذكر أننا قد نعاشر عددًا من النساء في غير حِلٍّ، ونخون الحرمات تحت أستار الظلام، وأشرف من هذا ما يفعله المسلم حين يتزوج أربع زوجات في حدود القانون.
مدام (د) : ولكن الإسلام شريعةٌ للرجال.
مبارك : ما معنى هذا؟
أبجد أفندي : معناه أن الإسلام يفضِّل الرجل على المرأة على قاعدة (الرجال قوامون على النساء).
مبارك : وهذا ما عيبُه؟
مدام (د) : معناه أن الرجل أفضل من المرأة في نظر الإسلام!
مبارك : ما هذا الإحراج يا مَدام؟
المسيو (د) : أيُّ إحراج في هذا؟ لك أن تجيب صراحة بأن الرجل أفضل من المرأة، وما ذنب الإسلام إذا كان هذا هو الواقع؟
مدام (د) : هذا هو الواقع؟ كيف؟!
المسيو (د) : نحن نخضع للمرأة ولكن لا نراها أفضل منا في أي حال.
مدام (د) : الرجل أفضل من المرأة حين يكون عقله أنضج من عقلها.
المسيو (د) : وهو دائمًا كذلك مع استثناء الحاضرات من الجنس اللطيف! «ابتسام من جانب الفتاتين».
أبجد أفندي : خشونة غير منتظرة جرَّها علينا المسلم زكي مبارك!
مبارك : احْمَد الله، يا أبجد أفندي، ففي هذا حكم لك بالعقل!
أبجد أفندي : وبالدين أيضًا!
المسيو (ك) : العقل والدين من خصائص الرجال، والعطفُ والحنان من خصائص النساء.
المسيو (د) : أحب أن أشرح لكم ما معنى أن الكثلكة دين المرأة.
أبجد أفندي : لا تقل الكثلكة، ولكن قل المسيحية؟
المسيو (ك) : الكثلكة، الكثلكة؛ وإن أغضبك ذلك.
أبجد أفندي : يا ساتر! أنتم كاثوليك إلى هذا الحد؟
المسيو (ك) : أنا لست من المحافظين على القواعد الدينية، ولكني أحترم الديانات احترامًا شديدًا؛ لأن فيها معاني إلهية؟
أليس الحواريون الذين نشروا دين المسيح كانوا اثني عشر بحارًا؟ وهل رأيت في حياتك بحارًا يصلح لهداية؟ فنجاح أولئك البحارين في نشر المسيحية دليل على أن فيها نفحة إلهية، والنبي محمد ما شأنه؟ ألم يكن رسول تجارة؟ وهل تظن أن رسول التجارة يصلح لشيء إن لم يكن مؤيدًا بقوة إلهية؟
المسيو (د) : أنا متمسك بالكثلكة؛ لأنها دين أمي، رحمها الله!
أبجد أفندي : وأنا متمسك بالأرتودكسية؛ لأنها دين جدتي ودين جدي، قدس الله روح الجميع!
مبارك : أنتم إذن غير مؤمنين!
أبجد أفندي : وأنت ما شأنُك؟ أنت والله لا يرضيك إلا أن يصبحوا مسلمين!
مبارك : من فمك إلى باب السماء!
أرجوك يا مسيو (د) أن تعود إلى شرح معنى أن الكثلكة دين المرأة.
المسيو (د) : أنت تعلم أننا لا نمجد المسيح إلا متصلًا بالعذراء، فنحن عن طريقه نمجد المرأة، وتستطيع أن تستخلص من هذا أن المسيحية عبارة عن تقديس البيت Le foyer، ففي كل كنيسة وفي كل معبد تجد صورة العذراء وعلى صدرها عيسى وهو طفل، وأكثرُ ما تتجه إليه فكرة المصورين والمثَّالين هو تقديس الأمومة في تمثيل العذراء.
أبجد أفندي : المسيحية تمجد المرأة فهي إذن تمجد الجمال.
مبارك : وتمجد الجمال الفرنسي بنوع خاص! ولعل هذا هو سر غرامك بالتزوج من فرنسية!
المسيو (د) : حقيقة لقد أشقَى أبجد افندي نفسه بالبحث عن فرنسية.
مبارك : وهل وجد غايته؟
مدام (د) : بالطبع لم يجد؛ لأنه لا توجد فرنسيات للبيع!
مبارك : للبيع؟
مدام (د) : نعم للبيع، ومن هي الفرنسية المجنونة التي تتزوج من رجل جاوز الأربعين؟
أبجد أفندي : هذه إهانة!
مبارك : لا تُرَع ولا تنزعج، يا أبجد أفندي، فهناك أخطار تنتظرك إذا تزوجت.
المسيو (د) : ما هي هذه الأخطار؟
مبارك : يجب أن نلاحظ أن الإسلام أذاع في مصر والشرق الغيرة العنيفة في رعاية المرأة، ولا عبرة بما يدين به أبجد أفندي من المسيحية، فهو مسيحيٌّ دينًا ومسلمٌ غيرةً، فإذا تزوجتَ فرنسية يا أبجد فستنتقل بمشيئة الله إلى مستشفى المجاذيب في أقرب فرصة.
أبجد أفندي : هل معنى هذا أني لا أعرف كيف أصون زوجتي؟
مبارك : المرأة الفرنسية لا تسمح لزوجها بالتدخل لصيانتها، وإنما تتصون هي وتدفع عن كرامتها ما يهددها من الأهواء، ولكن الذي أخشاه أن لا تحتمل أن تعيش زوجتك في حرية؛ فأنت شرقي تأكلك الغيرة وتقتلك الوساوس بلا موجب كأكثر الأزواج.
المسيو (د) : لا تظن يا مسيو مبارك أن الغيرة خاصة بالشرق الإسلامي؛ فالفلّاح الفرنسي يغار على زوجته غيرة عنيفة، ويضايقه أن يذكرها أحد بخير، أو يصف جمالها بعض الأصدقاء، أو يسأله سائل عن صحتها.
مدام (د) : أظن الحالة تطورت في مصر.
المسيو (د) : تطورت تطورًا سطحيًّا، ولكن المصريين في أعماق نفوسهم لا يحبون أن يتكلم أحد عن نسائهم، وقد يتفق أن أقابل بعض المصريين المهذبين فأسألهم عن زوجاتهم فيُبْهَتون، وبعد لحظة يضبطون أنفسهم ثم يجيبون … وقد اتفق أن زارني شابٌّ مصريٌّ فسألته عن أخته — وكانت تلميذتي — فظهرت عليه علائم الخجل والضجر والحيرة، وبعد لحظات تماسك وأجاب.
أبجد أفندي : أنا على كل حال لا أخشى هذا؛ لأني واثق من امتلاك قلب زوجتي.
مبارك : وكيف تمتلك قلب زوجتك وقد ودعت عهد الشباب؟ أم كيف تطمئن إلى قلب عروس تخاطبك بمثل هذه العبارة: «يا عم أبجد، خذ القهوة وارقُدْ»؟
أبجد أفندي : على كل حال سأظل شابًّا.
المسيو (د) : لنفرض أنْ سيكون الفرق بين عمريكما عشرين سنة وأنْ ستكون هي في سن الأربعين وأنت في سن الستين، ثم قدم لزيارتكما شابُّ أنيق في سن الثلاثين …
أبجد أفندي : في مثل هذه الحال أؤكد لكم أني سأغمض عيني!
مبارك : تغمض عينيك؟ إذن غضبةُ الله عليك وعلى جميع الأبجدين؟
المسيو دي كومنين : خوضوا، إن شئتم، في غير هذا الحديث.
١٨ سبتمبر سنة ١٩٣١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤