ويصا واصف

انتهت حفلة الأربعين، ومضى كل امرئ لشأنه، ولم يبق للأستاذ ويصا واصف إلا الذكرى، فلنقل نحن هذه الكلمة قبل أن تنتهي المناسبات.

وكلمة (المناسبات) هنا لها معناها، فإن الشعوب تَنسى كما ينسى الأفراد، ولا حظَّ لامرئ إلا ما قدَّم من العمل الصالح. والويلُ لمن يكتفي من المجد بما يبقى على ألسنة الناس.

فإن كان القارئ في شك من ملال الشعوب فلنذكر له المرحوم سعد باشا، أفيظن أن الصحف ترحب مثلًا بمقال يكتب اليوم عن ذلك الزعيم؟ ومع هذا فلنترك سعد باشا؛ لأنه قريب العهد، أفيظن أن الصحف ترحب بمقال يُكتب عن محمد فريد أو مصطفى كامل؟

إن الناس يُشغَلون بساعتهم الحاضرة، فمن العبث أن نطلب منهم ما لا يستطيعون، وجدير بكل مجاهد أن يروض نفسه على العمل في سبيل الله والواجب دون أن يفكر في جزاء الناس، فإن الجزاء منهم قليل.

•••

ويصا واصف معروف من أمد بعيد، ولكن أول مرة تنبهت فيها إلى خطره كانت حين وقف في مجلس النواب يدعو إلى الحياة الحرة. وهي الخطبة التي طلب لأجلها صدقي باشا أن يُنص على تقدير النواب لذلك الرأي النبيل، يوم كان صدقي باشا تحت راية الائتلاف.

ثم أذاعت الجامعة الأمريكية أنه سيخطب في حفلتها السنوية في نفس الموضوع «الدعوة إلى الأعمال الحرة»؛ فسارعت إلى استماع خطبته، ولكنه لم يرضني كخطيب؛ لأن اللحن كان يسبق إليه في بعض التعابير، مع أنه كان من كبار المفكرين.

ثم مضت الأيام والرجل يزداد شهرة ونباهة، وكنت أحب أن أراه، ثم تقع حوائل، إلى أن تلاقينا في الليسيه فرانسيه في ربيع سنة ١٩٢٩ عند زيارة الوزير بوتفو لمصر، ويومذاك تعارفنا وتصادقنا في سرعة؛ لأن نفوسنا كانت مُعَدَّة للصداقة، وكان — رحمه الله — من أوفى الأصدقاء.

ثم كان الحادث العظيم حادث تحطيم سلاسل البرلمان، فبلغ الرجل من الشهرة مبلغًا ما كان يخطر له ببال. وقد اتفق أن رأيته بعد ذلك بأيام فوق ظهر الباخرة مرييت باشا، وكانت الساعة الرابعة بعد ظهر أول يوليه سنة ٣٠، وأمام شواطئ كورس، وكان معي صديقي الأستاذ عزيز ميرهم. وأذكر أني رأيته يوم ذاك في صحة جيدة، فلم أكتمه أن حادث تحطيم السلاسل زاد في قوته وجدد في شبابه. وقد لاحظتُ أن نظراته أمعنت في التعقيد وصار من الصعب أن يدرك محدثه من هو؟ وماذا يريد؟ وكذلك كان الرجل توغل في انتهاب محاسن أبي الهول؛ فهو يتكلم ويفصح، ولكنه يظل مكتوم السريرة مجهول الأعماق.

قلت: أنا أريد أن أرسل باسمك حديثًا للبلاغ.

وإذ ذاك انتفض الرجل وقال: وماذا تُغني الأحاديث؟

– تُحطِّم بها سلسلة جديدة، يا سعادة الرئيس.

– سلسلة جديدة؟

– نعم سلسلة جديدة، فإن ميدان الجهاد لا يزال ينتظر الأبطال، وليس بعد سلاسل يونيه إلا سلاسل يوليه.

ولم أكد أُتم هذه العبارة حتى خرج الرجل عن وقاره وقال: ليس المهم أن تُحطِّم سلسلة وضعتها الحكومة. إنما المهم أن تقوى الأمة حتى يكون لها من الرهبة ما يمنع الحكومات اللاعبة من التفكه بمثل تلك الألاعيب! لقد آن الأوان لأن نرهف عزائمنا ونسهر على تربية الأمة وتكوينها تكوينًا صحيحًا من الوجهة العلمية والأخلاقية والسياسية، ولا يليق بنا أن نظل هكذا عرضة لتقلبات الظروف، ولا ينبغي لساستنا وذوي الرأي فينا أن يطمئنوا إلى أن الجمهور أصبح يتابع الحركة الوطنية، فإن هذا وحده لا يكفي، وليس للوطني أن يطمئنَّ إلا في اليوم الذي تصبح فيه الأمة على يقين لا يشوبه أدنى شك بأن الاستقلال ضرورة من ضرورات الحياة، وأن من العار والصَّغار أن يرضَى الرجل بأن تكون أمته أمةً محكومة مُستعبَدة ولو أغرقها مستعبدوها في الترف والنعيم. ولقد مضى الزمن الذي كنا نعدِّد فيه مزايا الحرية ومساوئ الاسترقاق، ولم يبق إلا أن نفكر جِديًّا في قطع دابر ذلك التواكل الممقوت الذي جعل منا أمة مبددة الشمل مفككة الأواصر، لا تفكر في حقوقها إلا في فترات متقطعة، ثم تعود للخمول.

قلت: يظهر أن سعادة الرئيس متشائم، مع أن الظواهر كلها تدل على أن الأمة حية، وأنها حريصة على حريتها أشد الحرص.

فأجاب: آسف لأن أصارحك بأن الأمة لا تزال مقصرة، ولو أنها عرفت حق المعرفة أنه لا قيمة للحياة بغير الاستقلال لتغير الموقف، ولما كان التغيير والتبديل يأتي من مصادر أجنبية بعيدة عن إرادتها كل البعد، ولَمَا وُجد فيها من يسخر منها كلما بدا له أن يعبث أو أن يسخِّر غيره للعبث بكرامتها وسلطانها وهي مصدر ما يملك مدَّعو حبها من كرامة وسلطان.

عندئذ قال الأستاذ عزيز ميرهم: لا ينبغي أن نبتئس ما دمنا نرى الظروف تخدم الحرية وتأخذ بيد الشعب إلى صفوف العزة والكرامة. ألم تغير نهضة سنة ١٩١٩ معالم الحياة المصرية في وقت ظن فيه الغاضبون أنه لم يبق في الأمة رجل رشيد، ولم تُبق فيها المظالم المتتابعة نزعة من نزعات الإباء؟

وحادث تحطيم السلاسل، من الذي فكر فيه؟ ألم يظهر لوقته ولحظته بدون روية وكأنه في وجه المستبدين أجلٌ مفاجئ أو طاعونٌ مبيد؟

قلت: يسرني أن يكون هذا رأي رئيس مجلس النواب، فأنا لا أحب لمثله أن يرضى بما ليس فيه الرضا، فكيف والأمة لا تزال في يد غيرها، وهي سليلة من أقاموا دعائم الملك المنظم يوم كانت الأمم الأخرى غارقة في بحار الهمجية.

ولكن حدِّثْني، يا سعادة الرئيس، عن شعورك يوم تحطيم السلاسل.

فأجاب: أنا عمري ما خِفت ولا جَبُنت، ولقد صدر الأمر باعتقالي وأنا أترافع في قضية والبوليس ينتظرني، فما ترددت ولا تلعثمت، ولا ندَّ مني غرض أرمي إليه، ولا شردت مني كلمة أطلبها، ولا لاحظ جمهور الحاضرين أنني تغيرت أو تلفتُّ، ولكني يوم حادث البرلمان وُجِدْتُ في مأزِق ضيق حين سألني بوليس البرلمان: ماذا يكون الحال لو أرسلت لنا الحكومة قوة مسلحة؟ فأجبته بدون تردد: «ادفع القوة بالقوة» وأنا أعلم أنني أُشير بأمر خطير.

ومع هذا ما قيمة تحطيم السلاسل ما دمنا لا نطمئن إلى أن للأمة من الرهبة والسلطان ما يزعزع أمل الرجعيين ويقوض أحلام الطامعين.

فعدتُ أنا والأستاذ عزيز ميرهم نطمئنه فقال: لا تحسبوا أني يائس، فأنا أعلم أن الأمة لها وجود قويٌّ متين، وسنرى يوم الشدة أنها عند ظننا، وأنها ستُرِي الحكومة أن كلمة الشعب هي العليا، وأن الحكومة التي لا تخضع لإرادة الأمة مقضيٌّ عليها بالخذلان. غير أني مع هذا أرتاب في أن يفهم كل مصري أن الموت خير من العبودية، وأن الشرف هو الرزق الأعظم، ولا رزق لرجل رضي بأن يكون من العبيد، ولو كانت قُيوده من ذهب وأغلاله من حرير.

قال هذه الكلمات ثم مضى لا يلوي على شيء.

وعدت أنا والأستاذ عزيز ميرهم نتجاذب أطراف الحديث ونتطلع إلى شواطئ كورس، وبعد لحظة عاد إلينا الأستاذ ويصا واصف وقال: أصحيحٌ أنك سترسل ما سمعته مني إلى البلاغ؟

قلت: نعم!

فقال: اكتبه ملطَّفًا جدًّا، وإلا فإنك ستضطرني إلى تكذيبه.

قلت: سأكتب ما سمعت، ولك أن تكذِّب حين تشاء!

فقال: أنت رجلٌ لا يُحتمَل!

قلت: ومع ذلك حملتني السفينة!

ثم تركَنَا مرة ثانية، وعاد الأستاذ عزيز ميرهم يرجوني أن أكتب الحديث، وأن أطلعه عليه قبل أن نفترق، ولكنني أجبته بأني لا أستطيع أن أدوِّن شيئًا فوق ظهر الباخرة؛ لأن صحتي تعاني بعض الانحراف.

ثم دونت الحديث بدون أن أطلعه عليه وأرسلته للبلاغ، وظللت أنتظر وصول الجريدة لأقدم إليه نسخة منه، ولكنها لم تصل؛ لأن الوزير صدقي كان عطلها إشفاقًا على المحررين من العمل في الصيف، وكان قد سمع أن الأستاذ عبد القادر حمزة يكلف زملاءه في التحرير ما لا يطيقون!

ولكن اتفق أني لقيت الأستاذ ويصا واصف مصادفةً في باريس، فأخبرني أنه اطلع على الحديث مترجمًا في الليبرتيه.

فقلت: وهل أرسلت التكذيب؟

فأجاب: وكيف أكذبك وأنت لم تُرِدْ إلا إذكاء نار العزيمة في صدور المصريين؟

وكانت آخر مرة لقيت فيها ذلك الرجل النبيل.

ويمرّ الآن بالبال العنوان الذي وضعه الشاعر خليل مطران لقصيدته في رثاء أم المحسنين، وهو: «آخر تحية لآخر عودة».

ويعزّ عليَّ أن أُحرَم مودة ذلك الرجل؛ فعهدي به — رحمه الله — كان يذهب إلى الليسيه فرانسيه ليتعرف أخبار أبنائه هناك، ثم كان لا ينصرف حتى يفكر في مقابلتي.

ففي ذمة الله تلك الصداقة القصيرة التي عصفت بها الأيام، ورحمة الله على أول قبطيٍّ قال: أنا مصريٌّ فقط، ثم انضم إلى الحركة الوطنية في عهد مصطفى كامل.

ولأجل ذلك كان أيضًا أول قبطي مشى الشعب كله في جنازته. أليس ذلك برهانًا على أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا؟

٩ يوليه سنة ١٩٣١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤